الطريق الي النور
الحلقه 55/56/5758
( الحلقة/ 55 ) ما بين الأوس والخزرج من طحان !!
وظل الرسول صلوات ربى وسلامه عليه يقتفي أثر أشراف قبائل العرب، في إصرار واستماتة، عساه يجدُ حليفاً ونصيرًا، يحميه وأصحابه من جور قريش ويمنع عنه التطاول والأذى والاضهاد، وفي تلك الفترة جاء إلى مكة سيد قبيلة ( دوس ) - الطفيل بن عمرو - وقبل أن يذهب إليه الرسول سبقته قريش، فمثله لو دخل الإسلام لهدد مكة كلها، فقبيلته رجال حرب أشداء تخافهم العرب ويهابهم العادون، والرجل مسموع الكلمة في قومه، فقال بعضهم له : يا طفيل إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل يسعى بين الوافدين من الحجيج قد أعضل بنا، وقد فرق جماعتنا وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يُفرق بين الرجل وبين أبيه وأخيه، وبين الرجل وزوجه، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمه ولا تسمعن منه شيئاً - وظلوا به حتى استبد به الخوف من السماع لمحمد، وراح يحشو أذنيه بالقطن لئلا يسمع ما يسحر عقله، كما أوعز له شياطين قريش .
وسعى الطفيل بن عمرو ناحية المسجد والقطن في أذنيه , وكان النبي صلى الله عليه وسلم وقتئذ يصلي عند المسجد، وقد عرفه الطفيل لمَّا أشاروا له نحوه، وأطال النظر إلى النبي وهو يصلي وإذا به يحدث نفسه قائلاً : ما هذا الذي فعلته يا طفيل ؟ . نفر من جهلة قريش يُشاغل رأسك هكذا، حتى يصل بك الأمر لسد أذنيك عن السماع ؟ كيف يحدث هذا وأنا رجل لبيب شاعر ما يخفي علىِّ الحسن والقبيح، فما يمنعني من سماعه، فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته ؟
فلما فرغ الرسول من صلاته قدم الطفيل نحوه بعد أن نزع الكرسف - القطن - من أذنيه وقال : يا محمد إن قومك قد قالوا ... وسرد قولهم . ثم قال : فوالله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرفس لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يُسمعني قولك، فاعرض عليِّ ما عندك ؟
ويتلو عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من آيات التنزيل، والطفيل يسمع في خشوع وإعجاب، ويتحرك قلب الطفيل مع كل آية تقع فيه، حتى فرغ الرسول من تلاوته ليرى الطفيل أمامه وقد تبدَّى من وجهه استقرار الإيمان في قلبه . فقال الطفيل للنبي : والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه، ولا أمرًا أعدل منه، ثم نطق شهادة الحق . أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله .
وخرج به النبي فرحاً مسروراً فقد أصابت سهام الدعوة هدفاً ثميناً، فهذا فتح عظيم، سيد قبيلة دوس التي تهابها العرب - الطفيل بن عمرو - يدخل الإسلام دون شروط، طواعية، وانتشر الخبر في مكة، وهاجت قريش وأقبل نفر منها نحوه وقالوا له : هذا ما حذرناك منه، أصبأت ياابن عمرو ؟ . قال الطفيل : لا والله بل أسلمت . وانهال رجال مكة عليه بالشتائم والتهديد، لكن مع مثل هذا لا يصلح التهديد، فانبرى لهم وصاح : يا معشر قريش أنتم تعلمون من أنا، ومن أي القبائل، ومن أنا فيهم، فلو مسستُموني بسوء لن تنجوا من قبيلتى دوس، فتجارتكم تمر بمضاربنا .
وخشيت قريش بأس قومه، وتركته وشأنه، ثم التفت إلى ناحية النبي وقال : إني امرؤ مُطاع في قومي، وأنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله لي أن يجعل لي آية، تكون لي عوناً عليهم فيما أدعوهم إليه . فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال : اللهم اجعل له آية . ولم يلبث أن غادر مكة متجهاً إلى قومه، في الطريق جاءته الآية، وأي آية . جعل الله له بين عينيه نوراً كأنه المصباح، ينير طريقه، فاطمأن الطفيل وقرت عينه بعدما استبان له من تلك الإشارة أنه من المقبولين عند ربه، ولكنه خشي أن يعود إلى دوس وهذا النور المُعلق بين عينيه فيظنوا أنها لعنة أصابته لتركه دين الآباء، فتوجه بالدعاء إلى الله : اللهم في غير وجهي، فإني أخشى أن يظنوا أنها مُثلة وقعت في وجهي لفراقي دينهم . فاستجاب الله له، وتحول النور فوقع على رأس سوطه، ولما دنا من قومه نظروا إليه مشدودين قالوا : ما هذا النور الذي في سوط طفيل ؟ . انظروا إنه كالقنديل المعلق في طرف السوط، ما الذي أصاب طفيل، واللات إن وراءه أمر عظيم .
وحط الطفيل بن عمرو رحاله وكان في استقباله والده، وكان شيخاً كبيراً . قال له الطفيل : إليك عني يا أبت، فلست منك ولست مني حتى تترك ذلك الصنم الذي تعبدونه - ذو الشرى - قال أبوه : أو تركت ديننا يا بني ؟
قال الطفيل : نعم ولن أسجد بعد اليوم لذي الشرى صنمكم هذا الذي لا يضر ولا ينفع، ولست بمقيم بينكم إن لم تتركوا ما تعبدون وتتبعون ما أتبعه من دين الحق . قال أبوه في استغراب : وما ذاك هذا الدين يا ولدي ؟
قال طفيل : دين أنزله الله على نبيه محمد .
قال أبوه : أي نبي هذا ؟ . قال طفيل : ألم تحدثنا يهود ونصارى أنه قد أطل أوان نبي يخرج من مكة ؟ . ها قد خرج، وسمعت قوله الذي يوافق ما قاله أهل الكتاب عنه، وإنه والله يا أبت لدين الحق .
قال أبوه وقد راق له سماع قول الحق ولان له قلبه : أي بني فدينك ديني وقومنا يأتمرون بأمرك لن يخالفوك فيما ذهبت .
وفتح الله على قبيلة دوس بالإسلام، وتبع أكثرهم طفيلاً، وتحول النور الذي في سوطه إلى نور أضاء ظلمة هذا الحي من العرب، الذي كان يرزح في نير الجهل والوثنية والرذيلة .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تكملة ( الحلقة/ 55 ) ما بين الأوس والخزرج من طحان !!
انصرم موسم الحج في هذا العام الذي طوّف فيه الرسول بقبائل العرب، وإن لم تكن النتائج كما توقع لها، إلا أنها وضعت حجر الأساس ليتم البناء عليه، ذلك أن ثمار الجولة الأولى كمن في إعلان قبائل العرب خارج مكة، أن هناك دعوة جديدة، يبشر بها رجل يُدعى – محمد - قرشي الموطن، يقول إنه رسول من الله .
وطار الخبر إلى يثرب، تلك المدينة التي حفظها الله وهيأها لاستقبال الدين الجديد، يخرج منها ستة نفر من قبيلة الخزرج – أسعد بن زرارة : أبو أمامة، جابر بن عبد الله بن رئاب، رافع بن مالك بن العجلان، عوف بن الحارث بن رفاعة، عقبة بن عامر بن نابي، قطبة بن عامر بن حديدة – خرجوا في العام التالي قاصدين مكة في موسم الحج، خرجوا وهم يحملون على صدورهم هموم أهل يثرب، وكانوا قد سمعوا بما دار في موسم حج العام الماضي عن القبائل التي التقت الرسول صلى الله عليه وسلم، وعرض عليها الرسول دعوته، ففطن هؤلاء النفر من بين قومهم لهذا الأمر الذي لم يستهو الكثير من أهل يثرب، فما فتأ اليهود في المدينة يحدثونهم ليل نهار « أنه قد أظل أوان نبى يُبعث فيهم ويقتلون به العرب قتل عاد و إرم ».
وقد وعى هؤلاء النفر من الخزرج بعض العلامات، مما خبروه من يهود يثرب ما تجعلهم يميزون أمر النبي بلا لبس، خرج الرهط الخزرجي على أصداء ما سمعوه ممن التقوا بمحمد وصحبه في مكة، وفى الطريق يستعرض أسعد بن زرارة وصديقه جابر بن عبد الله ذكريات الماضي الأليم، حين كانت الحرب بين الحيين – الأوس و الخزرج – مستعرة الأوار، فيقول أسعد : يا ابن عبد الله، لولا مكر يهود في شقهم الصف بيننا وبين أبناء العمومة من الأوس، ما كان لهذا الدم أن ينزف .
قال جابر : يا أبا أمامة، سفهاء الفريقين هم وراء ذلك كله ولكم تمنيت أن يعود الهدوء بيننا وتقف الثارات عند حد لا تقوم بعده، كما كان حال آبائنا حين قدموا يثرب نازحين إليها، كانوا يداً واحدة وعلينا أن نعيد وحدتنا، فجذورنا واحدة ومصالحنا مشتركة .
قال أسعد بن زرارة : وهذا ما أمَّلت فيه، ولعل في رحلتنا تلك يا ابن عبد الله يتحقق ما نصبوا إليه .
قال جابر: رحلتنا تلك ؟ أراك تخفي عنى شيئا !! . قال أسعد : لعلك سمعت بما سمعته وسمعه غيري من اليثربيين، من أنه ظهر رجل في مكة يزعم أنه نبي، وأتى بكلام من السماء سمعه الذين التـقوه العام المنصرم، فإنى والله يا بن عبد الله أسعد الناس إذا صادفت الرجل الحق . قال جابر : دعك من هذا يا أبا أمامة، فذاك أمر لا نعرف أوله من آخره وعد بحديثك معي إلى الذي أرقك وأرقني مما فيه قومنا، قال أسعد : وأمر هذا الرجل الذي يزعم ذلك لو صدق فهو مخرجنا مما نلاقي، ومن يدري ؟ فقد يتحد الحيين الأوس والخزرج على نصرته .. قال جابر: يا أبا أمامة، لو بعد عنا مكر يهود، لوقف الدم المسال بيننا وأبناء العمومة . أتذكر يوم بُعاث ؟ حين أدرك سعد بن معاذ خبث الدور الذي يقوم به بني قريظة قال لرئيس الأوس حينئذ – حضير الكتائب . " يا أبا عبد الله ما هذا الذي بلغنى عن حلف جديد عقدته مع قريظة و النضير ؟ "
قال أسعد : أذكر يا بن عبد الله ذلك ولا أنسى مقال حضير في تبريره لما فعل قال يومها " تعاهدت الخزرج مع كعب وكلاب فكان لا بد أن أشد العقد مع قريظة، نبقى بلا حليف يا أبا عمرو، و الحرب على الأبواب ؟ "
واسترجعا وهما في طريق الأمل شريط الذكريات الأليمة التي دارت فيها رحى الحرب المهلكة بين أبناء العمومة بسبب كيد يهود، وكيف أن – سعد بن معاذ– الأوسي كان دوما يحذر سيد قومه – حضير الكتائب – خبثهم فيقول له : " قد كان بيننا وبين قريظة عقد وعهد ما رأيناهم حاربوا معنا قط كانوا يكتفون بإعارتنا العدة والسلاح ثم يقفون على أسوار حصونهم ينظرون "
وقال حضير له " هذه المرة عاهدوني على أن يحاربوا معي" فرد عليه سعد [كذبوا يا أبا عبد الله .. رد عليهم حلفهم ] قال حضير الكتائب [ ونحارب الخزرج بلا حليف] قال سعد [ بل نمشى في الصلح بين الناس ] قال حضير وقد أغضبه رأي سعد [ ما هذا الذي تقول يا سعد بن معاذ ؟ فعل بنا الخزرج ما فعلوا يوم حاطب، وقتلوا منا من قتلوا ونسعى إليهم في الصلح ؟ ]
قال سعد [ كأنك يا أبا عبد الله نسيت من حرش بين القوم يوم حاطب ؟ . ألم يكن ذلك بفعل رجل من بني قريظة ؟ ] قال حضير [ لا والله ما أرد على قريظة حلفهم وأنا على رأس جيش الأوس، وإن فعل ذلك واحد من بني الأشهل لقتلته، ماذا جرى لكم يا معشر الأوس، ما سميتم الأوس إلا لأنكم تأسون الأمور واسعة ؟ ] قال سعد في غضب : فإني معتزلكم ولم أحارب أبناء عمومتي من الخزرج بعد اليوم .
ودارت الحرب حامية الوطيس يوم بعاث بين الأوس والخزرج ولم يشترك فيها سعد بن معاذ، وتأكدت مخاوفه حين اكتفت قريظة بإعارة الأوس العدة والسلاح وأبت أن تخرج معهم للقتال، وحين، أوشكت الدائرة أن تدور على الخزرج، برز سعد بين الصفوف وصاح في قومه [ يا معشر الأوس أحسنوا العمل ولا تهلكوا إخوتكم ] فتناهت الأوس وكفت عن الاثخان في أبناء عمومتهم، وحين نزلت قريظة للميدان للسلب والنهب زجرهم سعد زجرا عنيفا وصاح فيهم [ عجبا لكم كأنما لا يرضيكم إلا فضيحة أبناء العرب عودوا الى حصونكم قاتلكم الله ] وحال دون قريظة والسلب وحرق دور الخزرج ونخلها ووقف بجسمه الضخم الفارع الطول يجيرهم وأموالهم ويلومه حضير الكتائب [ ما هذا الذي تفعل يا سعد بن معاذ ؟ ] . قال سعد [ أفعل مالا تنساه لنا الخزرج أبدا، فيعود ما بيننا وبين إخوتنا من السلام والصفاء ]
قال حضير في غضب [ والله لو ظفرت الخزرج بنا يوما ما أقالونا، ولو أطاعني الناس لأتيت الخزرج قصراً قصراً، وداراً وداراً، نقتل ونهزم حتى لا يبقى منهم أحد ] قال سعد بن معاذ [ الله والله ما يطيعك في ذلك أحد يا حضير الكتائب بعد الذي حدث من هؤلاء الذين ركنت إلى حلفهم، ألم تر الى ما فعل بنو قريظة ؟ ]
قال حضير في صوت خافت كأنما يخفي كبرياءه وراء الكلمات، فقد انجلت الأمور وأضحى كلام سعد هو عين الصواب، قال [ لو كانت الدائرة علينا لخرجوا للقتال معنا، ولكنهم رأوا أن اليوم لنا ] قال سعد [ ما كان اليوم لنا في أوله، فما منعهم عندها من الخروج ؟ ] . قال حضير [ أما وقد عصيتني يا سعد وعصاني الناس فإني معتزلكم من اليوم ] .
وبعد أن فرغ جابر بن عبد الله وأسعد بن زرارة من حديث الذكريات عن يوم – بعاث – . قال جابر : والله ما ننساه أبدا لسعد بن معاذ، ولم تنس الخزرج كلها وقفته تلك – قال أسعد : وأنه والله لمن حسن الأقدار أن يلقى حضير الكتائب مصرعه إثر جروحه يوم بعاث، ليفسح المجال لرشيد الأوس – سعد بن معاذ – الذي صار الآن سيد الأوس بلا منازع .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
( الحلقة/ 56 ) وفد الخزرج يدرك طريق النور !!
قال جابر بن عبد الله : وإني قد سمعته في حديث له مع – أسيد بن حضير الكتائب - وكنت يومها في مجلس سعد بن معاذ، وكان نفر من قبيلة - دوس – الذين تابعوا محمدا قد فرغوا من حوار دار معه، فقال سعد لأسيد [اليهود يتكلمون فيما بينهم عن نبي حان وقت ظهوره، ويقولون إنه سيكون منهم، وأنهم سيقتلوننا به قتل عاد وإرم ] . فقال له سعد يومها : [ فلو سبقناهم إلي ذلك النبي يا أسيد ] رد عليه أسيد [ عجبا لك ؟ . كأنك صدقت ما يقول العائدون من مكة بعد موسم الحج !! ] . قال له سعد [ تعنى ذلك القرشي الذي يزعم النبوة ] . قال أسيد [ أجل ] . قال سعد [ ما يتكلم اليهود عن نبي من العرب بل عن نبي منهم ] . فقال أسيد [ لو اجتمعت كلمتنا يا أبا عمرو نحن الأوس وأبناء عمومتنا من الخزرج على أن يكون – أبي بن سلول ملكا على الحيين، لما استفتح علينا اليهود بالنبي الذي يذكرونه ] . قال سعد له : [ ما أخشى من ابن سلول إلا كبره ] . فقال له أسيد : [ أذا ملَّكناه الحكم تطامن لنا ] . فرد عليه سعد : [ بل زاد تيها و عُجبا ] .
وبعد طول إنصات وتأمل لسماع ما حكاه جابر بن عبد الله عن هذا الحديث الهام، الذي دار بين سيدين من الأوس، يبتسم أسعد بن زرارة وكأنه وجد ضالته فيما يرتب له في سفره هذا، فقال لجابر : صدق والله سعد بن معاذ زعيمنا، ابن سلول تيَّاها بنفسه مختالا، لكن ليس هناك من هو أفضل منه على علاته بعد يوم بعاث، فقد هدأت نفوس الأوس والخزرج، واستقر الرأي على أن يملِّكوا عليهم ابن سلول – قال جابر : لا تنسى يا أبا أمامة أنه هدوء مشوب بالحذر والقلق، فلا زالت أسباب الصراع قائمة . وجود اليهود بيثرب .
وأستأنف الرهط الخزرجي الميمون سيره إلى مكة، حطوا رحالهم قبل أيام الحج، باعوا وابتاعوا حتى أدركوا الميقات، فلما انقضت أيام ذي المجاز كما أنقضت المواسم قبلها، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كعادته مع أبى بكر يعرض نفسه على القبائل في – منى – وتقترب اللحظات المباركة التي قدَّرها الله ميقاتا للفرج، وبداية النصر في هذا العام، الذي خرج فيه الرسول ليصيب هدفا لم يصبه في العام الفائت، قادته قدماه الشريفتين إلى ناحية الخزرجيين الستة، الذين تاقت نفوسهم لرؤيته من كثرة السماع عنه، فلما دنا منهم توسم فيهم خيرا فقال، بعد أن حياهم بتحية الإسلام : من أنتم ؟ .
قال أسعد بن زرارة : نفر من الخزرج . قال النبي صلوات ربي وسلامه عليه : أمن من موالي يهود ؟
قال أسعد : نعم، قال النبي لهم : أفلا تجلسون أكلمكم قالوا : بلى - فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وتلي عليهم القرآن، ثم انصرف غير بعيد ليدبروا أمرهم فيما بينهم .
ويدور الحديث بين – أسعد بن زرارة، أبو أمامة، ورافع بن مالك بن العجلان . قال رافع : أراه ما حدثتنا به يهود، وهم من يعنونه بقتالهم لنا .
قال أسعد : هذا والله يا بن العجلان ما يرددونه دائما، ولكن لم يقل يهود إنه نبي عربي وإني والله لواقع كلام محمد في قلبي موقع الصدق، وينضم لحديثهما عوف بن الحارث بن رفاعة فقال : لقد أحسست بشيء عند سماعي لكلام محمد لم أعهده من قبل . قال أسعد : وما ذاك يا ابن الحارث ؟ قال عوف وقد كسى الرضا وجهه : إني الآن أشعر أننا هُدينا إلي الطريق الذي طالما بحثنا عنه، فماذا أنتم فاعلون مع محمد، والله ما أحب أن تفوتني مثل هذه الفرصة ؟
وبعد أن استقر رأي الثلاثة على الدخول في الإسلام، حاوروا الآخرين حتى انتهى المطاف بالستة نفر إلي الإسلام – أسعد بن زرارة، أبو أمامة، جابر بن عبد الله بن رئاب، رافع بن مالك بن العجلان وعوف بن الحارث بن رفاعة، وعقبة بن عامر بن نابي، وقطبة بن عامر بن حديدة – وجلسوا مرة أخرى في نفس اليوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بشر وإشراق، قال أبو أمامة : أنت رسول الله قد عرفناك وآمنا بك وصدقناك، فمرنا فلن نعصيك . قال الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام : أن تكتموا إسلامكم حتى يأتيكم أمري، قال أبو أمامة : يا رسول الله إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك .
وتتكرر خلال فترة إقامتهم في منى اللقاءات السرية، بينهم وبين الرسول وصاحبه، فيها يتعلمون أمور الدين ويتفقهون فيه، ويتلو عليهم الرسول كلام الله، ويحضهم على دعوة قومهم إلى دين الله إذا رجعوا إلى ديارهم .
ويعود النفر المبارك إلى قومهم على غير الهيئة التي جاءوا بها من مكة، عادوا ومعهم طوق النجاة من محمد صلى الله عليه وسلم، إلى سائر الشاردين في الأرض على غير هدى، عادوا بعدما فازوا بهذا السبق الكريم، وبتلك المبادرة الميمونة التي استبقوا فيها الآخرين، وعرض الستة قبل مغادرتهم مكة أن يصطحبهم إلى يثرب، بعدما سمعوا بما فعله مشركو مكة به وبأصحابه، ولكن الرسول أرجأ أمر الهجرة حتى يأذن الله في ذلك، فقالوا له : أبق حيث أنت في سلامة الله وسنبلغ دعوتك إلى قومنا، لعل الله يدخل في قلوبهم السكينة والإيمان، فنعود إليك في العام القادم، وقد فشا الإسلام فينا وكثر، فيكون لنا الرأي في يثرب .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تكملة ( الحلقة/ 56 ) وفد الخزرج يدرك طريق النور !!
وفي يثرب تسير الدعوة في حذر وبطء، فالخوف من يهود ومن حليفهم ابن سلول تقيد حركة المسلمين الأوائل من الخزرج، ولكن أسعد بن زرارة لم يكن من الذين يداخلهم اليأس بسهولة، كان يجمع من أسلم في داره كل يوم جمعة، يتدارسون ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من آيات القرآن الكريم، ويصلون خفية، فإذا علم بأمرهم أحد من الأوس، قال له سعد : إنما آمنا بالنبي الذي يذكره أهل الكتاب، ويستفتحون به علينا، النبي الذي يزعمون أنهم سيُسارعون إلى الإيمان بما جاء به، ويقتلوننا قتل عاد وإرم .
وأخذت الدعوة رغم سريتها يتسع نطاقها داخل الخزرج، على غير ما كان مقدرًا لها، ولم يعد في يثرب بيت ليس فيه ذكر الله ورسوله، ولم يفطن اليهود لذلك، وانطلق شبان الخزرج من المسلمين الجدد في الأسواق والطرقات، يتخيرون من يرون فيه التعقل والحكمة فينصحونه بدعوة الإسلام، وفي أكثر الأحيان تُلبى الدعوة، ويدخل في الدين الجديد عقلاء القوم، ممن كانوا على ريب من أصنامهم، وكثيرا ما كان يجلس أسعد بن زرارة مع أصحابه، ويختار لهم رجلا بعينه يتوجهون إليه، ثم يدعونه إلى الإسلام، كان يتوسم فيه الفلاح والصدق، ويصيب حدسه في أغلب الأحوال، وكلما اقتربوا من دعوة أبناء عمومتهم الأوس، ترددوا كثيرا .
وذات يوم جاء رافع بن مالك بن العجلان إلى أسعد وقال له : إلى متى يا أبا أمامة نترك أشراف الأوس من بنى عمومتنا، دون أن نعرض عليهم الأمر ؟ . قال أسعد : والله يا رافع ما برح ذهني ما تقول، وكلما رأيت استشراء الدين في فتيان الأوس دون وصوله لكبار السن، أرجأت مفاتحة الأوس حتى يدخل في قومنا الشيوخ وذوو المكانة، ليكونوا أدعى في التأثير على كبار الأوس، الوقت يا رافع لم يحن بعد . وكلما ذكرت اللحظة التي سأدعوهم فيها إلى الإسلام، داهمني الخوف، وأنتابني التردد .
قال رافع : ويحك يا أبا أمامة ولِمَ ؟ قال أسعد : ذلك يا بن أخي أننا لو عرضنا الأمر عليهم فلن يلقى آذانا صاغية وستنقلب علينا المدينة، ونحن في بادئ أمرنا وقد يضطرنا ذلك للجهر في غير أوانه، ولن نسلم وقتها من شر يهود، سيشعلون نار الفتنة من جديد بيننا وبين الأوس .
قال رافع : ولم لا تدعو – أسيد بن حضير الكتائب – ابن عمك إلى الإسلام سرا، وهو كما تعلم سيد رجال الأوس، ورجل يعقل الأمور ؟
قال أسعد : دار في رأسي هذا، ولكن أسيداً لن يكتم عن صاحبه – سعد بن معاذ – أمرا كهذا، وأنت تعرف سعدا، حاد الطبع ولن يمرر خبرا كهذا دون أن يحدث حدثا لا نحبه .
قال رافع : يا أبا أمامة ليس هناك رأي فيما حزَّ بنا يقطع بثواب مسيرنا سوى ما يقوله القرآن، أو ما يشير به الرسول، فلو كان لدينا القدر الوافي من كلام الله، أو قول الرسول لأمكننا البت في هذا .
قال أسعد : وكيف لنا وأنت تعلم لقاءنا بالنبي كان قصيرا، لا يكفي لتشرب الكثير من تعاليم الإسلام وإرشادات الرسول .
لم تكن هذه الحالة التي شعر فيها الرجلان بنقص المعلومات، والشوق إلى التزود هي الحالة الوحيدة، بل إن الستة الذين استبقوا الناس بالإسلام في يثرب، دوما ما كانوا يصطدمون بمثل هذه المواقف، تلك التي يعوزها رأي الدين، فهم في مسيس الحاجة للمعرفة، وما فتأ قومهم يسألونهم في مسائل شتى، لا يجدون لها إجابة، ويُطرح الأمر للتداول، فمنهم من يقترح : نرسل إليه ونأتى برقاع فيها ما يغنينا .
لكن هذا فيه خطورة عليهم وعلى النبي، فلو ذهبت سفارة إلى النبي في غير أيام الحج، لعلمت مكة بخبرهم، وأرسلت إلى يهود المدينة وتكون العواقب وخيمة .
ويقترح آخر "أن يخرجوا مع الخارجين الى مكة في موسم الحج، يندسون بينهم، وإذا وصلوا مكة انسلوا في غفلة من القوم والتقوا بالرسول، يستزيدون منه ويكتبون على الرقاع ما يصعب حفظه في الأذهان ".
ويُدلى أسعد بن زرارة برأيه، ليكون القول الفصل : وما فائدة طلب الاستزادة والكتابة على الرقع، وقد رأينا الإسلام يتحرك يسيرا في الخزرج، فنطلب من رسول الله أن يمدنا بصاحب من أصحابه، يقيم بيننا، ويفقهنا في أمر الدين .
قالوا : نِعمَ الرأي ما أشرت به يا أبا أمامة .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
( الحلقة/ 57 ) بيعة العقبة الأولى !!
ويُمهد أسعد بن زرارة لرحلة الحج القادمة، ويخرج عن بعض حذره مع الأوس، ويستثنى منهم ثلاثة، توسم فيهم الخير كل الخير – مالك بن التيهان، وأبو الهيثم، وعويم بن ساعدة – وخصهم بدعوة الإسلام، وكان ظنه بهم في مكانه، لبوا نداء الله في بش وترحاب، واستكتمهم الأمر، ويستشير أسعد بن زرارة عبد الله بن أُبي بن سلول لمفاتحة والده في الإسلام فيقول : يا عبد الله ما رأيك في أن نحدث أباك عن الإسلام، والله يا عبد الله لو دخل والدك - أُبي بن سلول - في هذا الدين لأراحنا عناء ما نلاقي .. قال عبد الله : يا عماه ما أحسب أبي بداخل في دين الله، إنه من موالي يهود، وقد سمعته يقول لأمي [ لو منعني أحد من أهلي تاج يثرب، لنحرته ولا أبالي ] مثل هذا لا يُسلم، إنه لا ينظر إلا إلى عرض الدنيا وتاج يثرب .
وقع هذا الكلام في رأس أسعد موقع التحذير من أُبي بن سلول، فهذا أبنه وأدرى الناس به، بل إن أسعدا التفت إلى نقطة هامة، أثارها عبد الله، أن أباه لن يدع أمرا كهذا يسري في يثرب وهو يتهيأ لوضع التاج على رأسه .
وجاءت الأشهر الحرم، وتوجه اليثربيون إلى مكة، وأتفق عشرة ممن أسلموا من الخزرج، ومعهم اثنان من الأوس، أسلما دون علم قومهما، اتفقوا على الالتقاء بالرسول صلي الله عليه وسلم خفية وفي تكتم – أسعد بن زرارة . أبو أمامة، وعوف ومعاذ أبنا الحارث بن رفاعة، ورافع بن مالك بن العجلان، وذكوان بن عبد قيس وعبادة بن الصامت بن قيس، ويزيد بن ثعلبة بن جزيمة، والعباس بن نضلة بن مالك، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابي، ومن الأوس عويم بن ساعدة وأبو الهيثم ومالك بن التيهان – اثنا عشر رجلا كانوا مقدمة الإسلام، وصفه الأول في مدينة المهجر .
وفي مكة يدنو الوفد القادم من المدينة ناحية الرسول صلوات ربى وسلامه عليه، رآوه وهو يتعرض للقبائل يدعوهم إلى الدين، وخلفه أناس من قومه، على رأسهم عمه أبى لهب، يُشوشون عليه ومن معه، ويعكرون صفو حديثه مع الغرباء أمامه، ويرى وفد يثرب الإصرار العجيب والمثابرة، وهو يكرر المحاولة من خيمة الى أخرى، وتمتلئ قلوبهم شغفا به، و يصلهم الدرس دون كلام، فيقول عوف بن الحارث لرئيس وفدهم أسعد بن زرارة : انظر يا أبا أمامة، قومه خلفه يعطلون مسعاه. ماذا عليهم لو أنصتوا لأمره واتبعوه ؟ قال أسعد : إنهم قوم طمس الله على قلوبهم، وأعماهم عن الحق الذي أمامهم، ولو فعلوا لكان الأمر أيسر عليهم منا، وما بلغوا تلك المشقة التي بلغنا في أسفارنا لنلقى رسول الله !! إنهم أناس غابت عقولهم، وحجبت غشاوة القلوب عنهم رؤية الحق .
وينظر وفد يثرب بإجلال وتوقير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلهم شوق للالتقاء به، بيد أنهم يخشون الاتصال جهارا ، كى لا يفسد ذلك سفارتهم، فلابد للأمر أن يتم في حيطة وحذر .
ويدبرُ أسعد كبيرهم شئونه، فيأمر رافع بن مالك بالتوجه إلى صاحب رسول الله أبي بكر الصديق، ليشاوره في كيفية اللقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيقول الصديق : أحسنتم صنعا بعدم اتصالكم بالرسول، فأنتم كما ترون الرسول، يتحرك بين القبائل داعيا، وخلفه لا يفارقه أبو لهب، وأبو جهل، وعقبة بن أبي مُعيط، ليحولوا بينه وبين وفود القبائل . قال رافع : فمتى نلقى رسول الله ؟
قال أبو بكر : تمهلوا حتى يطوف الناس بالبيت، ويخرجون إلى عرفات، أنتم تعرفون أن أهل مكة لا يخرجوا إلى عرفات أيام الحج، تكريما للحرم وتعظيما .
قال رافع : وأين سيكون الرسول يا أبا بكر، أفي مكة ؟ قال أبو بكر : كلا .. إنه عليه الصلاة والسلام يخرج مع الخارجين، ليعرض دين الله على الحجيج، فإذا خرجنا فموعدنا عند العقبة . قال أبو بكر : اليوم الثاني لخروجنا سنأمن عندها الرقيب فتجلسون إلى رسول الله، فإنه عليه الصلاة و السلام فى شوق إليكم كما أنتم في شوقٍ أليه .
ويأتي صباح ذلك اليوم، الذي تشرق فيه شمس الهداية على الربوة التي اجتمع فيها الرسول مع وفد المؤمنين – العقبة – لحظات مباركة تحفها الإشارات الربانية، يقول أسعد بن زرارة وقد تملكه الخشوع وهيبة اللقاء : يا رسول الله لم يبق بيت من الخزرج ليس فيه ذكر الله وذكرك، ويرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بصوته الحاني : لم يؤذن لي في الهجرة بعد .
وأخذ يُسمعهم و طال الشوق إليه، آيات بينات، وفي لهفة وفرح، راحوا يكتبون على رقاعهم ما سمعوه، وبعد أن فرغ الرسول صلوات ربى وسلامه عليه من تلاوته، أخفوا الرقاع في ملابسهم، كي لا يراها الحجيج من يثرب، الذين أتوا معهم، وبعد صمت دام للحظات، أنتظر خلالها الرسول منهم المبادأة في الحديث .
قال أسعد : يا رسول الله قد اجتمعنا على أن نبايعك عن أنفسنا، وعن كل من دخل في دين الإسلام من أهلنا وأبناء عمومتنا من يثرب . قال الرسول : كم عدد من جاء منكم مُسلما ؟ قال أسعد : لم يأت سوى اثنى عشر رجلا – عشرة من الخزرج واثنان من الأوس، ونحن كُفلاء على من تركناهم في يثرب، فاشترط لنفسك ولربك يا رسول الله نعاهدك على ما اشترطت .
ونظر إليهم الرسول نظرة إعجاب وتقدير وقال:بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترينه من بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأمركم إلى الله،إن شاء عذب وإن شاء غفر .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تكملة ( الحلقة/ 57 ) بيعة العقبة الأولى !!
وتمت بيعة العقبة الأولى، بايع اليثربيون فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوفاء بما قطعوه معه، وعزم كل من حضرها أن يظل عليها، ويموت مستمسكا بنصوصها، فهي أعلى وسام يمكن أن يُعلق على صدر مسلم. وبعد أن فرغ الوفد من بيعتهم، وانفض مجلسهم، أمضوا باقي أيامهم وسط حجيج يثرب كأن لم يحدث شيئا، ثم تواعدوا سراً للقاء الرسول مرة أخرى قبل عودتهم إلى يثرب، ليعرضوا طلبهم أمامه، فهم في حاجه إلى من يعلمهم من صحابة رسول الله ويفقههم فى الدين، وتسللوا مرة ثانيه ويلتقون بالنبي ، ويتحدث عنهم رافع بن مالك: يا رسول الله قد ذكرنا لك أن الإسلام قد فشا فينا وإنا لفي حاجة إلى من يفقهنا في ديننا ويقرأ علينا القرآن ويعلمنا الإسلام ويؤمنا في الصلاة – قال رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه : أو لو أرسلت لكم رجلا من أصحابي فهو آمن على حياته بينكم ؟ .
أجاب عوف بن الحارس: إنه لرسول رسول الله، فهو في حمايتنا حتى يعود إلى مكة، نمنعه مما اشترطنا على أنفسنا في بيعتنا لك يا رسول الله .
قال رسول الله : سأرسل إليكم فتى من خيرة أصحابي، يتلو عليكم كتاب الله، ويفقهكم في الإسلام ويؤمكم في الصلاة.
وعاد الوفد إلى يثرب،ولم يلبث بعد عودته إلا شهرا حتى لحق بهم (مصعب بن عمير من بنى عبد الدار ) ومن مهاجري الحبشة الذين عادوا إلى مكة، وهو أتقى شباب أهلها وأحبهم إلى قلب النبي الذي سماه – مصعب الخير – ونزل مصعب في دار أسعد بن زرارة، وأخذ على عاتقه عبء توضيح تعاليم الإسلام، ولكنه لا يخرج كما يفعل الآخرون للدعوة في الأسواق، فقد حرص مسلمو المدينة على ألا يجعلوه يتصدر الدعوة في بادئ الأمر خارج الدار، حتى لا يفشو أمره بين الناس، وبعقلية المتطلع الواله لمعرفة ما حوله، يسأل مصعب أصحابه من مسلمي يثرب عن طبيعة المدينة وأمر السيادة، وعلاقة اليهود بالعرب .
ولا يجد مصعب أفضل من (رافع بن مالك بن العجلان) ليُجيبه عما يدور في ذهنه من تساؤلات، فأبوه مالك بن العجلان أول من وحد كلمة المدينة كلها تحت إمرته، عرب ويهود، وكثيرا ما كان مصعب يتسامر مع أصحابه، ويسمع منهم حكايات يثرب القديمة، وقصة العلاقة المريبة بين العرب واليهود، وفي إحدى تلك الجلسات يسأله مصعب : أحقا يا رافع ما يردده اليثربيون، من أن أباك كان أول من كسر شوكة اليهود في المدينة ؟ . قال رافع : لعلك تعجب يا مصعب، فأنت ترى كبيرنا - أُبي بن سلول – الذي يطلقون عليه – أبو الحباب – ظهيرا لليهود وحليفا لهم، ولعل نفسك حدثتك أن ليس في العرب من يتصدى لهم ؟
قال مصعب : أراك وقد دنوت مما في رأسي، فأنا أرى الأسواق كلها في أيديهم، وأمور المدينة هم ممسكون بزمامها، فكيف فعل والدك ما يقوله الناس وهم بهذه المنعة التي نراها ؟
قال رافع : هذه المنعة والسيادة ليست يا مصعب لأنهم أقوياء، وإنهم والله كانوا أهون الناس وأضعفهم بعد ضربة أبى، ولم تشتد شوكتهم إلا بضعفنا نحن العرب، وتشتت أمرنا، وقتالنا فيما بيننا، فما تكاد حرب تنتهي إلا وتبدأ أخرى، وأمثال أُبي بن سلول هم الذين يُسلمون رقابنا لليهود .
قال مصعب في تعجب : كيف يا رافع وهو من الخزرج ؟ . قال رافع : يا مصعب ..أُبي بن سلول يبيع قومه من أجل تاج يثرب، يُفرط في حقوق قومه لاسترضائهم، أما أبي – مالك بن العجلان – لم يفعل ذلك، لذا عزَّ وعزت العرب خلفه .
قال مصعب حدثني يا رافع ماذا فعل بهم؟ قال رافع : كنت صغيرًا ولا أدري ما يحيط بي، ولكني نشأت ورأيت أبي زعيما على يثرب كلها . قال مصعب : ولِمَ لم تتوجوه ملكا كما تزمعون الآن تتويج أُبي بن سلول زعيما على يثرب . قال رافع : والدي لم يكن في حاجة للتتويج، فكانت كلمته نافذة على الجميع، واستطاع أن يوحد الأوس والخزرج وينبذ الفرقة، ويقي قومه شر يهود، فرآه الناس مناسبا لحكمهم، وكان يعدل بينهم ويسير فيهم بالسوية، أما أُبي بن سلول فهو ينتزع الحكم عنوة، شاهرًا سيف الفتنة علينا .. قال مصعب : كيف ذلك وأراكم ترشحونه طواعية ؟
قال رافع : لا يغرنك التأييد الظاهري من الناس، فهو يهددهم في أرزاقهم وأمنهم ؟ ! قال مصعب متعجبًا !! : في أرزاقهم وأمنهم ؟
قال رافع : أنت قلت الآن أنك رأيت اليهود يحتكرون التجارة في يثرب، يا أخي مصعب من رضوا عنه عاش في سلام، ومن أغضبهم ذاق الذل والهوان، وابن سلول اختاروه علينا ليتحكموا فينا من خلاله، فالرجل لا يتورع عن فعل شيء كي يرضيهم، فلما رأوه وفيًا مخلصا لهم، أتوا بحكاية التاج والمُلك التي لا تعرفها يثرب .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
( الحلقة/ 58 ) الصراع بين العرب واليهود فى يثرب !!
قال مصعب : دعك يا رافع من أُبي بن سلول هذا، فالمسلمون لو نشطوا في بلدكم فهم قادرون على إنهاء دوره الشائن ومن يقف خلفه ويستقوي بهم من اليهود، والآن قص لي حكاية أبيك ـ مالك بن العجلان ـ .
قال رافع : لما رآني أبي قد بلغت من السن، ما يمكنني من تعقل الأمور فى الوقت الذى ضرب به السن مبلغا، قص علىّ قصته مع اليهود .. قال لي : [ حين أتت قبائل الأوس والخزرج يثرب في خروجهم الكبير من اليمن، أيام سيل العرم، نزلوا على طرف يثرب ولم يجرؤ أحدٌ أن يدخل المدينة، فكان بداخلها اليهود تجاورهم بعض القبائل العربية ] ويقطع مصعب حديث رافع بسؤال كى يستقيم فهم القصة في ذهنه قال مصعب : ومن أين جاء اليهود قبل ذلك إلى بلادكم ؟ . قال رافع : جاءوا فارين من الشام، بعد أن طردهم الرومان منها، وأمعنوا في تعذيبهم وقتلهم .
قال مصعب : ولِمَ فعل الرومان بهم هذا ؟ . قال رافع : كانوا يعيثون فساداً، فامتدت إليهم يد الملوك، فاستأصلت شأفتهم من جذورها، ولم يجدوا مهربا سوى في الجزيرة، فكانوا يعيشون في جماعات متفرقة، في ـ تيماء، وخيبر، ويثرب ـ وأحيانا تخالطهم أحياء من العرب، وكان طابعهم العزلة، فهم يخشون الناس جميعا، وكانت حلقات الصراع بينهم متصلة، فتعدوا قريظة على بني النضير، وتعدوا النضير على بني قريظة، فهم دائما متنافرون، ودائما يلجؤون إلي الحصون والآطام، ولذلك كان جل همهم في يثرب، بعد أن صاروا أغنياء من التجارة والربا، أن ابتنوا الحصون وأقاموا البيوت العالية الشديدة الأسوار، ليحاربوا من خلفها، ويتمترسون خلفها إذا ما داهمهم داهم، أو إذا عدا بعضهم على بعض . قال مصعب : وأين نزل أجدادكم من الأوس والخزرح أول ما نزلوا ؟ . قال رافع : نزل أجدادنا على أطراف يثرب بعد أن تآمر اليهود مع بعض أحياء العرب، داخل المدينة، للحيلولة دون تمكننا من شراء الأراضي الخصبة داخل يثرب .. قال مصعب : وكيف حالوا بينكم وبين ذلك ؟
قال رافع : رفعوا سعر هذه الأراضي أضعافا مضاعفة، وكان أجدادنا لا يملكون من المال ما يمكنهم من شرائها، ومرت الأيام وصارت للأوس والخزرج أموال، ربحوها من التجارة خارج الجزيرة، واشتروا من اليهود وحلفائهم العرب الأراضي الخصبة، المزروعة بأفحش الأثمان، فلما رأى اليهود ما للأوس والخزرج من أموال وأراضٍ، طلبوا التحالف معهم وقبلتا الحلف .
قال مصعب : ولِمَ قبل أجدادك الحلف معهم وهم كما تعلم ؟ . قال رافع : لم يكن الزمن حينها دار بالتجارب، فيخبرهم ويعلمهم من هم اليهود، زعموا لهم أن ما فعلوه من رفع أسعار الأراضي، إنما هو طمعا في المال فحسب . لذا لم ير الحيان – الأوس والخزرج – بأسا في التحالف معهم، لكنهم كانوا يدبرون أمرا في الخفاء، سعت إليه يهود للسيطرة على يثرب بأكملها . ومرت السنون وكل عام يزحفون على المدينة من خلال الربا والتجارة، وصار لهم النفوذ على الدور والأسواق، إلا من رحم ربي، وجاءوا ذات يوم وأعلنوا أنهم اجتمعوا وبعض قبائل العرب، واتفقوا على تتويج أحد رجالاتهم وكان يُدعى – الفيطوان – ملكا على يثرب، قال مصعب في ذهول : وقبل أجدادكم من الأوس والخزرج هذا التتويج دون مشورتهم ؟
قال رافع : لم يقبلوه ولكن لم يكن في استطاعتهم منعه، فقد وصلت الأمور إلى حد يصعب معها مقاومة ذلك : فقد غافلوا الأوس والخزرج، وأعدوا الحصون والسلاح تحسباً لأي خلاف، أو نزاع وصارت القوة معهم بين عشية وضحاها . وتحرك العرب من الأوس والخزرج على طريق الأمر الواقع والمفروض، حتى شب أبي وأخذ يخطط ويعد في الخفاء كما يصنعون، ورأيت وأنا صغير كيف أمكنه تغيير دفة الأمور، حتى إني كنت أرى الفيطوان الذي طال به الزمن في حكم يهود يثرب، رأيته يهاب أبي، وعاصرت وقعة القضاء عليه، ولكني كنت صغيرا لا أدرى ما يدور حولي .
قال مصعب : وكيف تم ذلك ؟ . قال رافع : الفيطوان ملك اليهود طغى واستبد حتى على أبناء قومه من اليهود، ولم يرع حرمة أو اعتباراً لأحد .
فسن لليهود قانونا جديدا ألزمهم بموجبه، أن الرجل إذا أراد الزواج قدم عروسه في ليلة زفافها هدية له، يقضي معها أول ليلة ثم تعود لبيت زوجها . قال مصعب وقد تغير لون وجهه : يا إلهى، ما هذا الفحش؟ . وكيف تقبل يهود وهم أهل كتاب بأن يفسق في محارمهم هكذا، كيف قبلوا ذلك ؟! . قال رافع : لا تعجب يا مصعب بعد أن خلعوا التوراة عن أعناقهم، انتظر منهم ما هو أكثر، فهم قوم جبناء خشوا بأس من ولوه عليهم، وهكذا يفعل الله بهم .
ويكمل رافع قصته التي راقت لمصعب : ومضت الأيام والفيطوان يعبث بيهود يثرب وعربها، ويسن من التشريعات ما توافق هواه،وكان يضمر لزعيم الأوس والخزرج أبى- مالك بن العجلان -كل عداوة وإن لم يكن يعلن ذلك في بادئ الأمر، ولما أحس أنه أقوى من العرب عدةً وسلاحاً، بدأ يسفر عن عداوته، فأخذ يستدرج أبى إلى صراع معه، ويؤلب عليه القبائل العربية الموالية له، سعيا منه للقضاء على نفوذه إن أمكن، ولكن حال دون تحقيق مآربه، مكانة أبى في قومه، وتربص بأبي حتى جاء موعد زفاف عمتي - عفراء - ويعلم أنها أخت زعيم الأوس والخزرج، وأصدر مرسوما باغيا، هدف من ورائه جر أبى إلى حبائل الصراع، وتنكيس هامته بين القوم، وحوى هذا المرسوم على بند أعد خصيصا لأبى، وهو أن شريعة الفيطوان التي تطبق على اليهود، من اليوم يشمل تطبيقها كل من يقطن المدينة، بما فيهم الأوس والخزرج، ولا فرق في ذلك بين سيد وعبد . .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تكملة ( الحلقة/ 58 ) الصراع بين العرب واليهود فى يثرب !!
وقال مصعب ذاهلا !! : صدر هذا الأمر في يوم زفاف عمتك، يا له من فاسق، يريد أن تسرى شريعته حتى على غير اليهود، وماذا فعل والدك ؟ . قال رافع : جاءته عفراء عمتي في صباح يوم الزفاف، وقد علمت أن المرسوم الذي أصدره الفيطوان يعنيها بالذات، وأخبرت أبى، فقام على فوره وتوجه ناحية الدار، وأعد سلاحه على عجل لقتله، ولكن جدتي منعته وقالت له : [ هدئ من نفسك يا ولدى فلن يصل إلى عفراء هذا الفاسق أبدا ] قال أبى [ وكيف وقد أرسل إلينا هذا الفاسق يستعجلها ؟، لابد لي من قتله] . قالت له جدتي : [ إن تعجلت وفعلت ما عزمت لتسببن بذلك في هلاك قومك من الأوس والخرزج، فخلفه اليهود ومعهم السلاح وعندهم الحصون والآطام، وليس لنا طاقة بهم، إنهم يا بنى يستدرجونك لهذه المعركة التي فيها نهايتنا ] . قال أبى لها : [ وهل أسكت يا أمي وأرى عرضى يُنتهك، والله ما تُسمى هذه حياه، الموت أفضل من ذلك ] . قالت له جدتي : [ بل نحتال في قتله وبالطريقة التي لاتجر علينا الويلات ] .
فهدأ أبى وراح ينصت لما تقوله جدتي، وكانت مسنة حكيمة في قومها، ولها رأى سديد، فأشارت إليه بخدعة تناسب طريقة اليهود في الرد . قالت لأبى : [ارتدى ثياب النساء، واخف سيفك في داخل الثياب، وترقق في صوتك، وتصطحبك أختك معها على أنك صاحبة زينتها ] . قال مصعب وهو يصغى مندهشا : أما والله جدتك صاحبة رأي كما أشرت . قال رافع : وذهبت عمتي عفراء ورافقها أبى متخفيا في زى النساء، وما إن انصرفت النسوة من حولها، واستعدت لدخول خلوة الملك الفيطوان، أراد الحارث حجز المرافقة، فقالت عمتي عفراء للملك : [هذه صاحبة زينتي حتى أبدو لك أكثر جمالا ] . قال الملك لحراسه : [ دعوها ] .
فلما دخل الملك وأغلق خلفه الباب، في ليلة كانت شديدة الظلام . وما أن أطمأن أبى إلى حال السكون، وبدأ الملك يهم بالاقتراب من عمتي، نفذ أبي ما عزم عليه . استل سيفه وانقض به على عنق الطاغية، فإذا به ينهار كالجدار يتخبط في دمه، واحتال أبى حتى غادر بيت الطاغية مستترا بالظلام، في الصباح ولول اليهود على ملكهم، وأدركوا أنهم وقعوا فريسة مكيدة دبرها لفاسقهم مالك بن العجلان سيد الأوس والخزرج، ولكنهم لم ينقضوا على دور الأوس والخزرج لينتقموا من أبي .
قال مصعب : ولِمَ لم يفعلوا ؟ .قال رافع : إنهم لا يجسرون على البدء في حرب ليست لها أسباب شرعية ووجيهة، فماذا يقولون للعرب من القبائل الأخرى إذا علموا بقصة عفراء والاختلاء بها ؟ . لن تساندهم العرب حينها في حرب بغي، لذا هم صمتوا وأخذوا يدبرون أسبابا أخرى وجيهة، من شأنها جعل العرب تدعمهم في حربهم للأوس والخزرج . قال مصعب : ولم ينتظرون دعم الآخرين في الحرب ولا يقومون هم بها ؟ . قال رافع : اليهود يخشون الموت، ويفضلون أن يقاتل عنهم الآخرون، فيحققون أهدافهم بدماء الآخرين، هم يكتفون بإشعال الحرب، ثم يمكثون في الحصون ريثما تأتى الحرب بنتائجها المرجوة، وأحس والدي أن الأمر لم ينته بعد، وهم يعدون للإنتقام، فاستشار جدتي فيما هو أصوب في التصرف، فقالت له : [ الغساسنة يا ولدي في الشام أبناء عمومة لنا، خرج أجدادهم معنا من اليمن أيام تحطم سد مأرب، فلو أرسلت إلى – جبلة الغسانى – ملك الغساسنة، وأوضحت له ما دار هنا ليلتفتن إلى هذا الجيب من الجزيرة، ويقضى على اليهود قضاءاً مبرما، فعنده الجيش وعنده السلاح، ولو علم جبلة الغسانى أن اليهود سنوا في العرب هذه السنة الفاسقة لينتقمن منهم ] . قال لها أبى : [ إذن أذهب إليه بنفسي ] . قالت جدتي : [ لا تفعل فلو غادرت يثرب والأجواء مشحونة، لأحسوا أنك تدبر شيئاً .
نرسل إليه بأبلغ شعراء يثرب، فالغساسنة شعراء وخطباء ويقدرون القول البليغ وينصتون له ] . قال أبي : [ ومن ذاك الذي نرسل يا أماه ؟ ] .
قالت له جدتي : [ الرمق بن زيد بن أمرئ القيس – عذب اللسان فصيح البيان يُحسن أمام الملك عرض ما فعله اليهود بنا وما سيفعلونه، ولا تفعل شيئا حتى يأتيك الرمق سوى إنامة الفتنة وتهدئة الأجواء، تحسبا لقدوم جيش الغساسنة ليباغتوا اليهود على حين غرة ] .
وانطلق في سرية تامة – الرمق بن زيد بن أمرؤ القيس - ومعه وفد من أشراف الحيين، حتى وصل إلى العاهل الغسانى –جبلة – وأحسن الرمق طرح القضية، وأسمع الملك وحاشيته من بديع قوله ما لانت له الأفئدة واسترهفته الآذان، ولما فرغ الرمق من كلامه قال الملك جبلة [ إن الغساسنة من جفنة بن عامر، وإن الأوس والخزرج من جفنه أيضا، فعلى ذلك فجدنا الأعلى واحد، والله لأنصرنكم بما أنصر به أبنائي ونسائي ] . قال مصعب : وهل أنجز جبلة وعده . قال رافع : أغار جيش جبلة الغساني على حصون و آطام اليهود في يثرب، وقتل من أشرافهم ما أذلهم، وجعل السيادة في يثرب للأوس والخزرج، وتفرقت يهود إلى ثلاثة بيوت – قريظة، والنضير، وبني قينقاع – وظل اليهود يلعنون سراً "مالك بن العجلان " في بيوتهم ومجالسهم الخاصة، فإذا سمع مالك بذلك قال :
تحامى اليهود بقلعانها كحامي الحمير بأبولها ...... وماذا عليِّ بأن يلعنوا وتأتي المنايا بإذلالها .
قال مصعب : حقا أنكم لقوم نصرة يعِزون من أراد الطغاة إذلالهم من الضعفاء، وليس غريب عليكم تلبية دعوة الرسول، فأنتم أحق الناس بالإسلام .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تعليقات
إرسال تعليق