الطريق الي النور
( الحلقة 53/54)
قريش والعناد والجحود !!
وقف وهو في غاية الثبات والسكينة والوقار، ولما فرغ من الصلاة ودع الجميع، وركب النبي صلوات ربى وسلامه عليه البراق، وعاد مرة أخرى في رحلة خارقة لنواميس الأرض، انطلق فيها البراق بسرعة هائلة تفوق تصور البشر، وبينما هو منطلق في صحراء الجزيرة، لمح بعيرًا كان في قافلة لبدو رُحَّل، وهو في سرعته تلك، ففزع البعير وفر من أصحابه في اتجاه الشمال، وفي لحظات خاطفة، فيها القدرة الإلهية تخفي وراء الأقدار حدثاً ما، سمع النبي صلوات ربى وسلامه عليه صياح أصحاب البعير ذاك الذي شرد من الفزع وأعياهم البحث عنه، فقال بصوت وصلهم بقدرة الله " البعير في اتجاه الشمال " فأدركوا بعيرهم، ثم عاد النبي إلى مكة بعد أن أمضى جزءً من الليل في هذه الرحلة، التي رأى فيها من آيات ربه الكبرى ما رأى، عاد وقد عاين من الخوارق الربانية والمعجزات الإلهية، ما لم يتحقق لغيره من الأنبياء ولا لغيرهم .
يأتي الصباح على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد انتابه وجوم وسكون، يفكر فيما دار في هذه الليلة وما رأى من العجائب، ولا تفارقه حلو تلك اللحظات، حتى في وجومه وصمته، فهو يخشى إخبار قومه بما رأى، فيبادرون في تكذيبه، ولكن منطق التبليغ يدفعه لقص أجزاء من القصة عليهم . ويراه أبو جهل ناحية المسجد وقد بدا على وجهه ما بدا، فقال له : يا محمد هل من خبر ؟ . قال النبي : نعم . قال أبو جهل : وما هو ؟ . قال النبي صلوات ربي وسلامه عليه : إني أُسرى بي الليلة إلى بيت المقدس، ويتلطف النبي معه في سرد أجزاء متقطعة مما رآه في تلك الليلة، فاكتفى بذكر الإسراء ولم يتعرض للعروج فهو أمر لا تستوعبه عقول المشركين . قال أبو جهل في ذهول : إلى بيت المقدس ؟ . قال النبي : نعم .
قال أبو جهل وقد سره أن يمسك بكذبة على الرسول صلى الله عليه وسلم وحاشاه أن يكذب أو يتقول، أو يمسك بقول ينم عن فقدانه لعقله، فكيف يعقل في هذا الزمان أن يذهب المرء بيت المقدس ويعود في ليلة . قال أبو جهل : أرأيت إن دعوت قومك لك لتخبرهم، أتخبرهم بما أخبرتني به ؟ . قال النبي : نعم .
وانطلق أبو جهل كمن وجد بغيته في هذا، وصاح : هيا معشر قريش هيا .
واجتمع إليه من كانوا في أندية قريش، ووقفوا أمامه . قال أبو جهل للنبي : أخبر قومك بما أخبرتني به . فقام إليهم الرسول وذكر لهم خبر الإسراء إلى بيت المقدس ليلاً، ولما فرغ حدث هرج ومرج، هاج الجمع وماج، فمن يصفق استهزاءً ومن يصفر سخرية، ومن يكذب ويستبعد القول، فانتهزها أبو جهل فرصة، وبرز إليهم وقال : يا معشر قريش قد ظهر كذب محمد، انصتوا واسمعوا بأنفسكم، يقول إنه ذهب وصلى البارحة في بيت المقدس، نحن نقطع أكباد الإبل شهراً كاملاً إلى بيت المقدس، ولا نصله إلا بشق الأنفس، ونرجع في شهر آخر، وهو يذهب ويعود في ليلة واحدة، ويقترب بعضهم من النبي غير مصدقين يسألونه : يا محمد أحقاً ما تقول ؟ . قال صلى الله عليه وسلم : أجل .
ولم يصدقه أحد، وكان بين الجمع نفر من أتباعه من المسلمين، تشككوا في أمره وفُتن منهم من فُتن،وطار الخبر في أرجاء مكة، وصارت المسألة جد خطيرة . قريش تريدها ذريعة تشكك المسلمين في محمد، ويصل الشك إلى ضعاف النفوس من المسلمين، وصدق قول الله تعالى .. {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } وجاء الناس إلى أبى بكر فأخبروه أن محمدًا يقول: إنه أًسرى به، وصلى الليلة في بيت المقدس . قال أبو بكر : إنكم تكذبون عليه . قالوا : والله إنه ليقول ذلك . قال أبو بكر : إن كان قاله فلقد صدق .
وأسرع أبو بكر إلى النبي يستوثق الخبر، وقال له : يا رسول الله . أحقاً ذهبت البارحة إلى بيت المقدس ؟ . قال النبي : نعم . قال أبو بكر : صدقت . فقال النبي : وأنت يا أبا بكر الصديق، ويعلق أبو بكر هذا الوسام الذي منحه النبي على صدره الصديق .. ومن تلك اللحظة أُطلق عليه الصديق، فنظر أبو جهل إلى الصديق شزراً وقال له : أتصدق كل ما يقوله محمد ؟ . نحن نقطع أكباد الإبل في شهر وصولاً لبيت المقدس ونعود في شهر، وهو يقطعها في ليلة وتصدقه ؟
قال أبو بكر بلهجة المؤمن الواثق من رسول الله وسلامة عقله : أنا أصدقه في أكثر من ذلك، أنا أصدقه في خبر يأتي من السماء في لحظة .
وتوجه أبو بكر إلى النبي صلوات ربى وسلامه عليه، مخترقاً جمع المحتشدين أمامه وقد اختمر في رأسه أمرًا، يريد من ورائه إثبات صدق النبي أمام الملأ . قال : يا معشر قريش كلنا يعرف أن محمدًا لم يزر بيت المقدس قط، نعم ذهب إلى الشام، لكنه لم يعرج على بيت المقدس، ومنكم من ذهب ورأى بيت المقدس أكثر من مرة، فسلوه عنه، فإن أجابكم بما تعرفونه من علامات لبيت المقدس فهو صادق . قالوا : نِعمَ ما أشرت يا ابن أبى قحافة .
ويخرج من بين المحتشدين من يسأله : صفه لنا يا محمد . وراح الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام يصف بيت المقدس لهم، فلما أحسوا في قوله سلامةً وصدقاً خشوا أن يظهر صدقه، ويغلب أمره على الناس، فعمدوا إلى المناورة والمحاورة، راحوا يسألونه في التفاصيل التي يصعب على الزائر تذكرها، فتبدو منه وكأنها عثرة فى الإجابة، ومن ثم يمسكونها عليه .
سألوه عن عدد الأعمدة التي بداخل المسجد الأقصى، وعدد نوافذه، وتجلى التثبيت الإلهي في تلك اللحظات الحرجة، وفي هذه المحنة الخطيرة التي فُتن فيها من أتباع محمد من فُتن، وخرج عن الدين من خرج، فأنزل الله بقدرة منه صورة حية للمسجد الأقصى وجعلها أمامه، لا يراها سواه ، مجسم للأقصى من كل جوانبه حتى من داخله، ويسأله القوم، ويجيب عليهم في أدق التفاصيل فتعجبوا، وثارت ثائرتهم، فالذين يسألونه تجار خبروا بيت المقدس جيداً، ويمرون عليه كلما حطت أسفارهم بالشام، وجد هؤلاء في إجابته الصدق كل الصدق .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تكملة ( الحلقة/ 53 ) قريش والعناد والجحود !!
ولكن قريشاً كابرت وعاندت، وأخذت تشوش عليه الحديث بالمقاطعة . فقال لهم الرسول : عندي خبر يقطع بصدق قولي - هنا صمت الجميع، وقالوا : وما ذاك . قال عليه الصلاة والسلام : في الطريق وجدت بعيرًا فر من أصحابه، فناديتهم وأشرت إليهم بمكانه . قالوا : وما لنا بهذه القافلة التي فر بعيرها ؟
قال النبي : إنها متجهة إلى مكة، سلوهم عما قلت . والتقطتها قريش من فمه وسيلة للتمحيص، وعلقوا على ما قال آمالاً عريضة، علهم يفلحون هذه المرة ؟
قالوا : كم بيننا وبينها ؟ . قال النبي : هي مسيرة ثلاثة أيام منا، إذا حضروا سلوهم عن البعير الذي فر منهم وعلاماته . وأخذ يصف لهم حمولة البعير حتى لون رباطه الأحمر ذكره، وخاض في أكثر من ذلك . تفاصيل ما على البعير .
وانتظرت قريش حتى جاءت القافلة، وحجزوا النبي صلى الله عليه وسلم بعيدًا عنها، وراح نفر من قريش يسألونهم : أفر بعير منكم وأنتم في الطريق ؟
قالوا : نعم وسمعنا صوتاً يقول " إنه في ناحية الشمال " وأدركنا بعيرنا .
قال القرشيون : وأين البعير ؟ . وأتوا بالبعير أمامهم، ووجدوا على متنه كل الأوصاف والعلامات التي قالها النبي صلوات ربى وسلامه عليه، وهنا قال صاحب البعير : والله إن لصوت المنادي لي وأنا أبحث عن ضالتي لم يفارق أذني بعد . قال القرشيون : أسمع من هذا أهو نفس الصوت الذي ناداك . فاقترب الرجل من النبي ولما تكلم صاح الرجل وقال : هذا هو والله هو الصوت الذي دلني على ضالتي .
ومرة أخرى يثبت صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وتنصرف قريش عنه وتنفض غاضبة، لم تجد سبيلاً لإمساك عثرة له، وخاب سعي قريش التي ما فتأت تنكر وتجحد بالآيات البينات، ولم تكد تنهي فصلاً في العناد حتى تبدأ فصلاً آخر .
ومرت حادثة الإسراء عليهم وقد أظهرتهم لذوي العقول والألباب أنهم يحاربون محمداً، لا لأنه يزعم أو يدعي، وإنما لخشيتهم من ظهور أمره عليهم، وما ينجم عن ذلك من ذهاب سلطانهم وسيادتهم بين العرب، فالمسألة إذن خوف على المصير ليس إلا، وانتهز النبي في هذه الآونة إنصات الكثيرين، وطلبهم البراهين فدعا ربه أن يمده بالآيات التي تدعمه، وتأتيه الإشارة من السماء بإجابة طلبه . ويأمل النبي أن تقع تلك الآيات موقع التصديق والإذعان في نفوسهم، فتصرفهم عن العناد، وهم قد طلبوا في السابق معجزة ولم تلب لهم، لكنه رأى الحاجة الآن ملحة لذلك، خشية أن يتقولوا عليه، فقال لهم النبي : أرأيتم إن شققت لكم القمر أتؤمنون ؟ . قالوا : لو فعلت لآمنا بك .
فتواعد معهم النبي صلوات ربى وسلامه عليه في ليلة كان القمر فيها تام الاكتمال، واجتمعت قريش كلها، ثم أمر النبي القمر أن ينفلق شطرين، فرأى الناس جميعاً القمر وقد صار نصفين والجبل يتوسطه . ليس في مكة وحدها الناس رأوا ذلك، بل إن العالم الخارجي يومها رأى انشقاق القمر في هذه الليلة، وأرّخت بهذا الحادث العظيم أمم في العالم القديم تاريخها . قالت قريش الغافلة لما رأت الإعجاز يتجلى : والله إنك لساحر . ولو كان سحراً كما قالوا لما رأته الناس خارج بلاد العرب وأنزل الله تعالى في شأن هذه الآية العظيمة قوله ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) ويثبت الله فؤاد نبيه، ويعلمه من حكمة الرسالات السابقة ما يهون به عليه فيقول تعالى ( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ) فتلك سنة تلازم دعوة الأنبياء . الإعراض ورميهم بالسفه والجنون والسحر، إذا أتوا بما هو مُعجز .. وعلى درب المواساة يذكر الله لنبيه ما كان يحدث للأنبياء من قبله ( كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ )، ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ )، ( كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ )، ( وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ) صدق الله العظيم .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
( الحلقة/ 54 ) الوافدون إلى مكة والدعوة الجديدة !!
ويعود الرسول صلوات ربى وسلامه عليه بعد إعراضهم، ويجلس إلى أصحابه من المستضعفين أمثال ـ خباب، وعمار، وأبو فكيهة، ويسار مولى صفوان بن أمية، وصهيب، وأشباههم من المسلمين ـ يجلس إليهم في خلسة من قريش وبعيدًا عنهم، يذكرهم ويثبت فؤادهم على الإيمان، فهو يأنس صلى الله عليه وسلم لجوارهم، حتى إذا لمحته الأعين المتربصة بخطاه، أشاعت خبر مجلسه، وقال بعضهم لبعض : هؤلاء أصحابه كما ترون، وتتعالى الضحكات ساخرة من حاله قائلين : لو كان ما جاء به محمد خيرًا ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصهم الله به دوننا .
وتواصلت مسيرة الصبر والمثابرة في الدعوة , وعادت تلك الفكرة التي راودته كثيرًا إليه، ولكن جاءت هذه المرة بإلحاح شديد .. أن يعرض الإسلام على من هم خارج مكة، وعساه أن يجد من إحدى قبائل العرب النصرة والمنعة، ولكنه في نفس الوقت يخشى تكرار مأساة الطائف .
ويأتيه الرأي من الله إلهامًا . انتظر حتى حلول موسم الحج، وفيه يفد إلى مكة قبائل شتى من العرب، لعل الفرصة تواتيه ويصيب بعضها . وجاء موسم الحج وبدأت وفود القبائل ترد إلى مكة، انتظر النبي صلى الله عليه وسلم حتى يضع الناس رحالهم، وينصبوا خيامهم، ثم تحين فسحة من الوقت رآها مناسبة، فيها يدور الحديث بين الأغراب وأهل مكة للتعارف والمؤانسة .
ويخرج الحجيج ضيوف مكة من خيامهم ذات صباح على صوت ينادي : يا أيها الناس، يا أيها الناس . ويسير خلف المنادي نفر من هؤلاء، حتى إذا بلغ المنادي سوق - ذي المجاز - حيث أكبر تجمع لضيوف بيت الله صاح " قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " ويندهش الناس، لا من قول النبي ذاك، وإنما من الذي يسعى خلفه زلفة وهو يُلقي عليه التراب، ويصيح من ورائه : يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم، نحن أعلم بأمره منكم - إنه عمه أبو لهب، لا يدع الرسول يخطو في سوق ذي المجاز، ولا بين الخيام، إلا ويسير خلفه، وكلما تكلم الرسول، ألقى عليه حفنة من التراب، ويدعه الرسول صلوات ربى وسلامه عليه الذي أدبه ربُه فأحسن تأديبه، ويكتفي بعدم الرد ومواصلة الدعوة .
ومشى حتى أتى منازل قبيلة ـ كندة ـ فقال لهم وكان معه أبو بكر الصديق : يا بني كندة إني رسول الله إليكم يأمركم الله أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي، وتمنعوني، حتى أبين عن الله ما بعثني به - ويقطع حديثه عمه أبو لهب الذي يرصده ليعطل مسعاه ويفسد مرماه . قال أبو لهب : يا بني كندة إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه، ولا تسمعوا منه ونحن قومه وأعلم الناس به، فإن نزلتم لما يريده منكم، صار أمركم ما صار لنا من فرقة وتنافر . ولا يرد الرسول عليه ولا يكلمه، لكن صمته دفع كبير بني كندة إلى سؤال عمه قال له : وما شأنك بما يدعو له ؟
قال أبو لهب : أنا عمه، وبسحر لسانه هذا أفسد علينا في مكة معاشنا . ونظر القوم بعضهم إلى بعض ولسان حالهم يقول : إذا كان عمه ساخطاً عليه هكذا فما جدوى استجلاب ود الغريب والبعيد، دعوه وشأنه .
ويدعهم النبي صلى الله عليه وسلم دون أن ييأس، ويذهب إلى ـ بني كَلِب ـ ويكرر ما قاله في خيام بني كندة، ويعاود عمه فعل الأذى به، فهو يتعقبه أينما حلَّ ليحول بينه وبين النصرة الخارجية، ويصر الرسول على مسلكه فيتوجه إلى منازل ـ بني حنيفة ـ ويقول لهم مثلما قال لبني كندة وبني كلب، ويعاود عمه فعل ما فعل، كل ذلك يحدث والناس ترقب هذا المشهد المتحرك . رجل ومعه صاحب له يخطب ود ضيوف الكعبة، وخلفه عمه يحذر الناس منه، فيرتاب الغريب منه، ونظرات الناس تقول : لو كان في كلامه خير لاتبعه أهله فهم أولى به.
ويلمح - بيحرة بن فراس - سيد قبيلة بني صعصعة تجوال الرسول بين القبائل وسعي عمه خلفه لإفساد جولاته، ويقرأ بيحرة بن فراس الإصرار والمثابرة والثبات في وجه الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام فيقول لقومه : والله لو أخذت هذا الرجل من قريش لأكلت به العرب، وظهرت عليهم، فابعثوا لي به أسمع أمره .
فذهب نفر منهم إلى النبي يدعوه لمجالسة سيد قبيلة - بني صعصعة - ورحب بمبعوثه وقبل الدعوة، وأمام بيحرة بن فراس عرض النبي دعوة الإسلام .
وأخذ يتلوا من كتاب الله ما شاء الله له . فقال بيحرة : ما أحسن هذا الكلام، لم أسمع به من قبل . وتشاور بيحرة مع قومه . وفوضوا إليه الأمر في النهاية، فقال للنبي : يا محمد ندخل في دينك، وننصرك بسيوفنا ونمنعك بشرط. قال النبي : وما ذاك ؟ . قال بيحرة : أن يكون الأمر لي من بعدك، تكتب لي بذلك . قال النبي : إن الأمر لله يضعه حيث يشاء من عباده والعاقبة للمتقين . ورفض النبي شرطه، وانصرف عنه فهذا لا يريد إسلاماً، وإنما يسعى هو وقومه إلى الزعامة والرياسة . .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تكملة ( الحلقة/ 54 ) الوافدون إلى مكة والدعوة الجديدة !!
واستمر النبي صلى الله عليه وسلم في سيره مرورًا على القبائل، وتركه عمه يتعقبه خلفه بالتشهير، بعدما رأى إعراض الناس عنه، اطمأن أن ما يفعله غير ذي جدوى .
ولا تفتر للنبي صلوات ربى وسلامه عليه همة في الدعوة، سمع بقدوم شاعر من بلغاء العرب - سويد بن الصامت - جاء إلى مكة حاجاً، وكعادة قريش إذا نزل الوجهاء بأرضها تحسن استقبالهم وتكرم وفادتهم، وطمع الرسول في إسلامه، فمثله لو أسلم لتبعه قومه والكثيرون من الأعراب . فقدم النبي نحوه يكلمه في الإسلام، وإذا بسويد بن الصامت يقاطعه ويقول له : عندي خيرُ من كلامك . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : وما الذي عندك ؟
قال سويد : مجلة لقمان - يعني بذلك حكمة لقمان - فقال له الرسول : أعرضها علىِّ .
فعرض سويد على الرسول نصائح لقمان في الأخلق والأدب، وكانت الناس تتوارث نصائحه، ولكن سويدًا خُص بأنه كان يحتفظ بنسخة خطية من نصائح لقمان في الأخلاق، وأما نصائحه في الإيمان والتوحيد فهذا ما أهملته العرب، بل أنكرته .
فلما تلا نصائح لقمان في الأخلاق والآداب بالصيغة التي صاغها العرب، قال له الرسول : إن هذا لكلام حسن، والذي معي هو أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى عليِّ، هو هدى ونور، فاسمع يا ابن الصامت . وراح النبي يتلو بصوته العذب الندي، وبالصيغة الربانية، نصائح لقمان الأدبية والإيمانية، في أعلى بيان يمكن أن يتصوره عقل المتلقي قال {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } إلى آخر الآيات التي سحبت لب سويد وأبقته ساهماً واجماً حتى فرغ الرسول، فقال وقد أغضبه ظهور قول النبي على قوله : هذا كلام حسن - ولكنه كابر ولم يسلم وانصرف عنه النبي ولم يركن النبى صلوات ربى وسلامه عليه لليأس، بل إنه كلما عنَّ عليه الأمر وأعرض غرباء مكة عن دعوته، ازداد إلحاحاً في هذا الباب، لقناعته الثابتة أن مكة لن تكون حاضنة للدين الجديد الذي يُبشر به، لذا لم تبق قبيلة عربية تأتي إلى مكة في موسم الحج إلا وعرض نفسه عليها، يطلب عندها النصرة ويلتمس العون، ولكنهم جميعاً خشوا نصرته حتى لا يغضبوا قريشاً ذات الصولة والدولة، والتي يحجون إلى أرضها كل عام . ويرى أبو بكر الصديق إناساً من بعيد يتوقع الخير منهم فيقول للنبي : يا رسول الله هؤلاء الذين يطوفون حول الكعبة من - شيبان بن ثعلبة - وهم غرر في قومهم فلو كلمتهم .
وينظر عليه الصلاة والسلام حتى ينطلق الحجيج إلى منى، ويبقى أهل مكة فيها لا يغادرونها، ويذهب مع صاحبه ليكلم بني شيبة . ويبدأهم أبو بكر بالحديث فيقول أبو بكر : ممن القوم ؟ . يرد عليه كبيرهم : من شيبان بن ثعلبة . قال أبو بكر : خير الناس .
ثم أخذ كبيرهم يعرف أبا بكر والنبي بأشراف بني شيبة وساداتها الذين أتوا في الحج هذا العام فقال : هذا مفروق بن عمرو، وهذا المثني بن حارثة , وهذا النعمان بن شريك وأنا هانئ بن قبيسة . قال أبو بكر : كم العدد فيكم يا بني شيبة ؟ . قال هانئ بن قبيسة : إنا لنزيد على الألف، ولن تغلب الألف من قلة.
قال أبو بكر : وكيف المنعة فيكم ؟ . قال هانئ : علينا الجهد والباقي للحظ . قال أبو بكر : فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم ؟ . قال هانئ بن قبيسة : إنا لأشد ما نكون غضباً حينما نلقى العدو، وأشد ما نكون لقاءً حين نغضب، النصرة لنا مرة ولعدونا مرة .
قال أبو بكر : ومن هو أقوى عدو عليكم ؟ . قال هانئ : كسرى وجنده، لهذا نصالحه فإن جنده بعدد الرمل والحصى . قال أبو بكر : ولكنكم هزمتم ذلك الجند عند ذي قار . قال هانئ : وإنه ليجمع لنا لهذا مالآناه إلى حين .
قال أبو بكر : فلو جاءكم من يهزم الفرس والروم معاً . قال هانئ : عجباً لك أيها القرشي من ذا الذي يزعم أنه قادر على أن يفعل ذلك، إن هذا أشبه بما سمعنا أن رجلاً منكم يقوله ؟ . قال أبو بكر : صدقت وهذا هو صاحبي الذي يقول ذلك ولعله بلغكم أيضاً أنه رسول الله . ويقول المثني بن حارثة : بلغنا أنه يذكر ذلك . فإلام تدعو يا أخا قريش.
ويقول لهم رسول الله : أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله وإلى أن تأتوني وتنصروني، فإن قريشاً قد تظاهرت على أمر الله وكذَّبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق والله هو الغني الحميد .
فقال هانئ بن قبيسة : وإلامَ تدعو أيضاً يا أخا العرب . وتلا الرسول { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ويلقى روع الكلمات في نفوسهم الاندهاش والتوقير، فيقول هانئ بن قبيسة كبيرهم : ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه . وقال مفروق بن عمرو : دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك .
وقرأ أبو بكر في وجوههم القبول، فقال : فهل أنتم عندما قلتم من نصرته ؟ . ونظر مفروق بن عمرو إلى هانئ بن قبيسة وقال : ما تقول في هذا يا شيخنا ؟ . ثم نظر إلى أبى بكر وقال : لا نبرم أمراً إلا برأي هانئ بن قبيسة، شيخنا وصاحب ديننا . فقال أبو بكر : فما تقول يا سيد القوم فيما سمعت، ما تقول لرسول الله ؟
ونظر هانئ بن قبيسة إلى رسول الله وكله تبجيل له واحترام وقال : قد سمعنا مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى إن تركنا ديننا واتبعناك على دينك بمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لزلة في الرأي وقلة النظر في العاقبة .
ولم يشف هذا الكلام رهط بني شيبة، فقال مفروق بن عمرو : رأيت أن ما سمعت قد أعجبك ففيم التردد يا ابن قبيسة .
قال هانئ بن قبيسة : إنما تكون الزلة في العجلة، وإن من ورائنا قومنا نكره أن نعقد عليهم عقداً، ولكن أرى أن نتريث، نرجع وترجعان وننظر وتنظران . ثم نظر إلى صاحبه المعهود عنه الحكمة وقال : ما تقول في هذا يا مثنى ؟
قال المثنى بن حارثة : صدقت يا ابن قبيسة، ولكني أود أن أوضح نقطة لا أحسبها غابت عن فطنة شيخنا . فقال أبو بكر : وما ذاك ؟
قال المثنى : إن أراد صاحبك أن نأويه وننصره على العرب دون كسرى فعلنا فإنما نحن نلتزم عهداً عقدناه مع كسرى ألا نحدث حدثاً، وألا نأوي محدثاً، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه أنت، هو مما تكرهه الملوك . ويرد عليهم الصادق المصدوق الرسول : ما أساءتم في الرد إذا أفصحتم بالصدق، ولكن دين الله لن ينصره إلا من أحاط به من جميع جوانبه . تخشون كسرى . أرأيتم أن تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وأموالهم .
واندهش هانئ بن قبيسة وتعجب لقول الرسول فقال : نرث أرض فارس يا أخا العرب ؟ . قال الرسول : وأرض الروم أيضاً . ونظر المثنى بن حارثة إلى أبى بكر وهو غير مصدق وقال : أتصدق هذا الذي يقوله صاحبك ؟
قال أبو بكر : ولِمَ لا، ألم تُنصروا على كسرى يوم - ذي قار - وفرت جحافله أمام رجالكم . قال المثنى : صدقت ثم نظر إلى كبير بني شيبة وقال : ما تقول يا ابن قبيسة ؟ . قال هانئ بن قبيسة : أقول ما قلت آنفا نتريث نرجع إلى قومنا، ونحدثهم بما سمعنا وبما قلنا، ثم نعود في العام القادم بما يستقر عليه العزم .
لم يحزن عليه الصلاة والسلام لتردد بني شيبة، بل لقد أُعجب بهم أشد الإعجاب وإن تأكد له أنهم لا يصلحون أنصاراً للدين الجديد .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تعليقات
إرسال تعليق