الطريق الي النور
الحلقه 51/52
من أهم حلقات السيرة العطرة ( الحلقة/ 51)
ثلاث سنوات مع المرض والجوع في شْعِب أبى طالب، تمر على زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم ـ خديجة ـ وقد ارتفع بها السن إلى الثانية والستين، كأعنف ما تمر السنون . فما إن خرجت رضى الله عنها من الشْعِب إلى دارها، حتى تسقط مريضة، وتحف بها قلوب بناتها وزوجها في وجل وخوف . ويخرج أبو طالب أيضاً من هذه المحنة، وليس حاله بأفضل من خديجة، ينتابه المرض، وتلازمه العلة، ويزداد قلق الرسول عليهما .. وتضع حادثة الحصار أبا طالب في مكانه الأول من قريش، بعد أن خاب مسعى أبى جهل الذي أدار الصراع وأشعل فتيله طمعاً في علو مكانته، وانتهز فرصة تمرد القلة من قريش على دين الآباء، ليتخذها ذريعة يتسلق من خلالها سور السيادة، كي يزاحم كبارها في مقاعدهم، ولكن خاب مسعاه وضاع أمله، ورجعت في النهاية الكلمة الأخيرة لسيد قريش قاطبة، عم النبي أبى طالب الذي حمى الدعوة بدافع الحفاظ على الكرامة والعشيرة والرحم، فكان جديراً باحترام حتى الذين اختلفوا معه . لم يكن أكثرهم مالاً، بل هو أقلهم، ولكن نسبه الحسيب وما ورثه عن أبيه شيخ مكة الكبير - عبد المطلب - وما خُص به عن سائر إخوته، بوأه مكانة مرموقة، فقد ورث عن أبيه حكمته.. وخبرته في فض المنازعات بين القبائل والمتخاصمين جعلت من كلمته القول والفصل إذا حزبت الأمور بالناس .
وتمر به الأيام، ويسلك أبو طالب نهج التهدئة، ويحاول قدر طاقته رأب الصدع وتضميض الجراح بينه وبين من عاداه في الحصار، بعد أن أحس بدنو الأجل واعتلت صحته، وبدا هذا واضحاً جلياً في العام العاشر للبعثة، فيه يطل شهر على أبى طالب وهو رقيد الفراش، يصارع المرض، وما كان يشغله في مرضه، خوفه على ابن أخيه محمد، فمن يحميه من بعده، ويسعى وهو في فراش المرض إلى تضيق الهوة بين محمد وقريش، ولكن يستعصى عليه ذلك، فالأمر أمر عقيدة ورسالة لا تبديل فيها، ولا تفريط .
وتهرع قريش ذات يوم إلى دار أبى طالب بعد سماع نبأ احتضاره، ويجتمع على عجل وهم سائرون إليه، نفر من سادات قريش أرادوا أن ينتزعوا من أبى طالب وهو في النزع الأخير،ينتزعوا إقراراً بالتهدئة بينهم وبين محمد يأمنوا فيه جانبه ولا يتعرض لدينهم ومكانتهم . فقال أبو سفيان وهو يعدو مسرعاً برفقة عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل، وأمية بن خلف، قال : الرجل يحفظ الود، وهو من هو بيننا، وإنا رأيناه في أيامه الأخيرة قد نسي ما بدر منا، فلنعطه عهداً يريحه قبل موته . أن لا نمس ابن أخيه على ألا يتعرض لديننا . ما أظنه يرفض ذلك .
ودخلوا على أبى طالب وهو طريح الفراش يحتضر، قال أبو سفيان : يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعوه فخذ لنا منه، وخذ له منا ليكف عنا ولنكف عنه، وليدعنا وديننا ولندعه ودينه . فقال أبو طالب : نِعَم ما قلتم يا معشر قريش، ابعثوا لي محمداً . فبعثوا إلى النبي صلوات ربى وسلامه عليه الذي لم يحتمل النبأ .
انطلق مسرعاً يعدو حتى دخل على عمه وهو يحتضر، فاقترب النبي في حنو من رأس عمه فقال له عمه : يا ابن أخي هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليعطوك وليأخذوا منك . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يا عمَ كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب وتدين لكم العجم . فرد عليه أبو جهل مُغضباً والحقد يأكل قلبه : نعم وأبيك وعشر كلمات !! . قال النبي : تقولون لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه . فنظر بعضهم إلى بعض في حال سخرية واستهزاء، لم يرق لهم الكلام، وصفقوا بأيديهم .
قال أبو سفيان : يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلهًا واحدًا ؟ . إن أمرك لعجب . وقال أمية بن خلف : إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون، فامضوا على ما أنتم عليه حتى يحكم الله بينكم وبينه .
ولما رأى أبو طالب إصرارهم على موقفهم قال : والله يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شططاً . وسر وجه النبي صلوات ربى عليه وسلم، وظن الهداية في عمه، وإنه في لحظاته تلك أقرب من أي وقت مضى للدخول في الإسلام، فطمع النبي في إسلامه، ولم يرد أن يُفوِّت تلك الفرصة التي تتبدى فيها كلمات اللين من عمه، قال عليه الصلاة والسلام : أي عمَ فأنت فقلها استحل لك بها الشفاعة يوم القيامة .
ويرقب أبو جهل تهامس الشيخ مع ابن أخيه، وخشي أن يتبعه فيموت على دين محمد فتتسامع العرب، فيؤثر ذلك على مسيرة محمد تأثيراً يدفعها بقوة إلى الأمام، قال أبو جهل متداركاً الموقف : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ . فوجه أبو طالب نظره إلى ابن أخيه وقد أعياه الكلام وقال له : يا ابن أخي والله لولا مخافة السُبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريشٌ أني إنما قلتها جزعاً من الموت لقلتها .. وتخرج الكلمات ثقيلة متقطعة، وجاهد أبو طالب نفسه ليقول آخر كلماته قال : على ملة عبد المطلب .
وحزن عليه الرسول صلوات ربى وسلامه عليه أشد الحزن، كان يتمنى أن يموت على لا إله إلا الله، لكنه لم يقلها، ونزلت فيه الآيات تواسى الرسول، وتصوب مسيرته، وتصرفه عن التعاطف في أمرٍ كان الله به خبيرًا ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) .. وجاء قول الله يحاكي استهزاء الرهط من قريش بدعوة الرسول لهم بالتوحيد ( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ ) .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تكملة الحلقة : ( 51 )
ويلقى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عمه منهم أشد الأذى وأقساه، فقد مات من كان يصد الناس عنه، وتحوَّل المساس به بعد عمه إلى شيء لا يتحمله بشر، الأذى الذي رآه في حياة عمه أمر هين أمام الأذى الذي رآه بعده، في حياة عمه كان يتجرأ عليه نفر من سادة قريش وأشرافها، أما بعد رحيله فنالت منه الأيدي السفيهة، وسبه أراذل الناس، ولم يعد هناك من يردهم أو يردعهم، ولم يمر شهرين على وفاة أبى طالب حتى توفيت خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين، وصار هذا العام - العاشر للبعثة - عام حزن على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فقد فيه ركنين رئيسيين في حياته، ركن الحماية الخارجية والمنعة اللذان توفرا له بوجود عمه أبى طالب، وركن الحماية الداخلية والمؤازرة وتهيئة الأسباب والسهر على راحته، ودعمه بالصبر ليتفرغ لدعوة السماء، وفرت له كل هذا خديجة الطاهرة .
حزن عليها النبي أشد الحزن، أعانته بمالها وسدت حاجته منه، وصدَّقته وآمنت به دون تردد، كانت القلب الواسع الرحب الحنون، وهي التي جاءت فيها بشارة السماء يحملها جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين قال له " إن الله يُقرءك السلام، بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب - اللؤلؤ المجوف - لا صخب فيه ولا نصب " .
ومرت به الأيام ثقيلة عصية، حزيناً لفقده أهم ركنين في حياته، ولم ترحمه قريش أسرفت في إيذائه، فكان لا يمر في طريق إلا ويعترضه عارض بسب أو أذى، وكان السفهاء والصبية يلقون على رأسه الشريفة التراب، وعاد ذات يوم حزيناً إلى داره وعلى رأسه أثر من التراب، ورأته إحدى بناته فبكت وهي تزيله عن رأسه، فلما رآها تبكي قال لها : لا تبكي يا بنية، فإن الله مانع أباكِ . وتنهد النبي صلوات ربى وسلامه عليه وسحب أنفاسه وقال : ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب .
ويختلي النبي صلى الله عليه وسلم ساعة من مساء بجوار الركن، يقلب الفكر في رأسه، يستعرض نتاج عشر سنوات مريرة في الدعوة إلى الله، وينظر في عدد من اتبعوه، فيراهم لا يزيدون عن سبعين رجلاً وامرأة غير الذين في الحبشة، فيتملك صدره الضيق .
تحرك بطئ للدعوة فضلاً على المشقة البالغة والمعاناة التي يلقاها وأتباعه، وضيق السبل به بعد فقدان حماية عمه، وزاد الأمر صعوبة على النبي اشتداد الوحشة وطول الأيام التي أحسها بعد رحيل خديجة، ويتأمل النبي في خلوته تلك الظروف المحيطة من حوله . مكة أحب بلاد الله إليه تتحول إلى سجن له ولأصحابه، ويتحول أهلها إلى جلادين وزبانية يلاحقونه أينما حل، ويعود إلى داره ويصرف كل الأحزان عن نفسه، لإفساح المجال للتدبر وإطالة الفكر، عله يعثر على مخرج لما هو فيه .
ولا يفارقه الفكر لحظة في هذه الأيام، وظل هكذا حتى اهتدى إلى مخرج لذلك . البحث عن أرض جديدة يدعو فيها إلى الله، عساها تبعده عما يلاقي من عنت هو وأصحابه على أيدي صناديد قريش، فطرق في ذهنه التوجه إلى الطائف أقرب مدن الجزيرة العربية إلى مكة، فلعل أهلها يتبعونه ويناصرونه ويمنعونه من قريش، فقصدها مشياً على الأقدام، وبلغ به التعب أقصاه، ولم يفت هذا من عزمه واصل السير حتى أدرك مشارف الطائف، فلما دنا من ديارها وجد ثلاثة من فتيانها وقد وجهوا الأبصار ناحية القادم الغريب، كان هؤلاء أبناء - عمرو بن عمير بن عوف - سيد من سادات ثقيف - والفتية هم - عبد ياليل بن عمرو، ومسعود بن عمرو، وحبيب ابن عمرو - .. حيّاهم النبي وجلس إليهم يدعوهم إلى الله، وطلب إليهم نصرته ومؤازرته وإيواء الدين وأتباعه . فرد عليه عبد ياليل : أمزق أستار الكعبة إن كان الله أرسلك وقال أخوه مسعود : أما وجد الله أحداً أرسله غيرك ؟ . وقال الأخ الثالث حبيب : والله لا أكلمك أبداً لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك .
فقام عن مجلسهم الرسول لما رأى الإعراض والاستهزاء بكلامه، ويئس من مدينتهم في محاولته الأولى، فهذا هو عنوان القوم، ثلاثة من أشرافهم سخروا من دعوته، فما بال السفهاء بالداخل ؟ .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
لازلنا مع تكملة الحلقة : ( 51 ) العودة من الطائف !!
فأيقن الرسول صلي الله عليه وسلم أن لا خير في تلك البلدة، " الطائف" وقد ظهر له سوء أهلها على مشارفها، فقال للإخوة الثلاثة ممن استقبلوه علي مشارفها بالسخرية والإعراض : إن فعلتم ما فعلتم فاكتموا عليّ، وكره الرسول صلوات ربي وسلامه عليه أن يبلغوا قومهم عنه فيتربصوا به .
ولم يكتموا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، حتى اجتمع عليه الصبية من أنحاء الطائف واصطفوا أمام طريق عودته ، فلما مر بينهما أخذوا يلقونه بالحجارة، فما استطاع النبى صلى الله عليه وسلم الوقوف على قدميه الشريفتين من رضخ الحجارة، يضع واحدة ويرفع الأخرى وهو يتألم أشد الألم، ولم يخلص منهم إلا بعد أن أعياهم القذف، ودميت قدماه الشريفتان .. وغادر صلى الله عليه وسلم ساحة تلك المدينة البائسة مهمومًا حزيناً على ما حدث له فيها، حزيناً على ضياع أمل النجاة خارج مكة وجحيمها .
وما أشق السير بقدمين داميتين، لكنه أبى الوقوف قليلاً للراحة، كل همه البعد قدر الإمكان عن تلك الديار الغافلة، ويرمق بعينه بستان من بعيد، يجاهد السير كي يصل إليه ليأوي إلى قسط من الراحة، ويزيح بعضاً من أوجاعه عنده . بستان على الطريق المؤدي إلى الطائف لسيد من سادات مكة، فكانت عادة أشراف مكة اتخاذ البساتين القريبة من الطائف، يستريحون فيها إذا اشتد القيظ، وجد الحر وألهبتهم الهاجرة . وكان هذا البستان لعتبة بن ربيعة وأخيه شيبة بن ربيعة . كانا في هذا الوقت يقيمان فيه .
اقترب الرسول صلوات ربى وسلامه عليه، وصار على بعد خطوات من أطراف البستان، فعمد إلى ظل حائط فاستظل به ليريح قدميه الشريفتين، وفي خلوته تلك لا يجد الرسول بدًا من الشكاة إلى الله ومناجاته، فيتوجه إليه داعيًا ومناجيًا، بـأبلغ العبارات وأقواها تجسيدًا لصدى آلامه وأحزانه، قال صلى الله عليه وسلم : (( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب عليِّ فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو تحل على سخطك، لك العتبى حتى ترضى لا حول ولا قوة إلا بك )) .
وكان عتبة وأخيه شيبة يجلسان على باب دارهما الذي يتوسط البستان أثناء دخول النبي إلى طرف البستان، فقال عتبة لأخيه : ما لك تطاول في جلستك كأنما رابك شيء في البستان يا شيبة ؟
قال شيبة : أحسب أن رجلاً قد دخل البستان منذ لحظات، رمقته مقبلاً من أول الطريق ثم دلف إلى البستان . قال عتبة : وما في هذا، كثيرون جلبهم خادمنا (عداس) يعملوا في البستان . وفي اندهاش كأنما رأى ما لم يتوقع رؤيته قال شيبة : لكأن ذلك الرجل الذي ألجأه الناس إلى بستاننا هو محمد ؟
قال عتبة : محمد ؟ . وما جاء بمحمد إلى الطائف ؟ . قال شيبة : سمعت أنه جاءها خلسة فلم أصدق، حتى أخبرني اليوم من لا يكذبني أنه ذهب إلى بيت أبناء عمير فردّوه ردًا عنيفاً، وأغروا به سفهاءهم، يطردونه من الطائف ويرجمونه بالحجارة . قال عتبة : أتراه من مكانك هذا ؟ قال شيبة : كلا ولكني واثق من أنه هو الذي رأيته يدخل البستان محتميًا به من سفهاء الطائف، لعله جلس في ظل الحائط . تعال ننظر لنستوثق منه .
ويسيران إلى ناحية يرونه ولا يراهم . قال عتبة : إنه هو، جلس متعبًا مرهقاً يتحسس قدميه . قال شيبة : عسى أن يشفيه هذا من عناده ويعرف مغبة مخالفة قريش . قال عتبة : ويحك يا شيبة لا تقل هذا في رجل من بني عبد مناف أساء إليه سفهاء الطائف، فإن ثقيفاً تكره قريش كل الكراهية، وهذا شريف من أشراف قريش يجب علينا حمايته رغم الخصومة .
قال شيبة : دع لينك هذا ساعة يا عتبة، واعلم أن بستاننا هذا يقع في أرض ثقيف، لا نأمن أن يقطعوا شجرنا أو يحرقوه إذا نحن عدنا إلى مكة .
قال عتبة في تحدي : والله لو اقترب أحد منهم من محمد بشر لوقفت دونه بالسيف، ولتفعل ثقيف بالبستان ما تريد، ويحك تريدني أتقاعس عن نصرة قريش هو ابن عمنا وعزه عزنا ؟ . قال شيبة : قد ضرب محمد بهذا كله عرض الحائط يوم سب آلهتنا . قال عتبة في غضب : لبئس ما تدفعك إليه صداقتك لأبي الحكم بن هشام عدو محمد، لا والله ما يجلس رجل من بني عبد مناف في بستاني دون قرى ـ أي كرم منا ـ .
وصاح عتبة ينادي على خادمه النصراني - عدَّاس - الذي جلبه من أقصى شمال بلاد العرب قال عتبة : يا عدَّاس، يا عدَّاس . قال شيبة : وماذا تريد من الخادم ؟ . قال عتبة : أبعثه إلى محمد بطعام . قال شيبة ولم يطب له فعل أخيه : هذا ما أطمع محمد فينا اللين والموادعة . وجاء عدَّاس وقال له عتبة : هذا الرجل الذي دخل بستاننا هل تعرفه ؟ . قال عدَّاس : لا يا سيدي، ولكنهم يقولون إنه من قريش . قال شيبة : من شذاذ قريش يا عداس ! .
ويغضب عتبة لكلمات أخيه تلك ويقول : لا والله يا عدَّاس بل هو من أبناء عمومتنا لولا ما جاءنا به من دين خالف دين الآباء .
قال عدَّاس : أبناء عمومتكم وتدعان ثقيفاً تفعل به ما فعلت ؟ . قال عتبة : اذهب إليه بقطف كبير من أجود أنواع عنب البستان، وما أحسبه تناول شيئاً يرد إليه قوته في هذا اليوم القاسي ؟ . اذهب يا عداس اذهب .
وذهب عدَّاس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حاملاً قطفاً كبيراً من أجود عنب البستان، وأمام الرسول صلوات ربي وسلامه عليه قدَّم إليه طبق العنب وقال : كل هذا . فأمسك النبي من يده الطبق، وارتسمت على ثغره ابتسامة تنم عن شكر الصنيع، وقبل أن يمد يده الشريفة لتناول الطعام قال : " بسم الله " ثم أكل، وينظر عداس إليه في دهشة وتعجب فقال له : إن هذا الكلام الذي قلت - بسم الله - قبل تناولك الطعام ما يقوله أهل هذه البلاد !! . فقال الرسول : ومن أهل أي بلاد أنت ؟
قال : أنا أُدعى عدَّاس وديني النصرانية، وأنا رجلٌ من أهل - نينوي - فقال له الرسول : من قرية الرجل الصالح - يونس بن متى - ويندهش عدَّاس كيف بهذا القرشي أن يعرف بأمر يونس الذي لا يعرفه كثيرٌ من النصارى في بلاد العرب، فقال : وما يدريك ما يونس بن متى . قال صلى الله عليه وسلم : ذلك أخي، كان نبيًا وأنا نبي . ولم يتمالك عدَّاس نفسه من فرط العجب فأكب على رسول الله يقبل رأسه ويديه وقدميه، وعتبة وشيبة ينظران من بعيد ولا يسمعا، يريان عداس ينكب على قدم الرسول ويقبلها بعد أن قبَّل رأسه فقال شيبة لأخيه : لقد أفسد محمد عليك غلامك يا عتبة . ويعود عدَّاس إليهما ويسأله شيبة : يا عدَّاس مالك تقبّل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ؟
قال عدًّاس والسكينة تغمره : يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي . قال شيبة : ويحك يا عدَّاس لا يصرفك عن دينك، فإن دينك خير من دينه .
وغادر النبي البستان بعد أن أمضى قسطاً من الراحة، وعاد سائرًا على قدميه كما خرج، وقطع الطريق إلى مكة ونفسه تحدثه، كيف يدخلها بعد أن غادرها متخفيًا من قريش، وقد وتركهم في حال ريب وشكوك من أن يناصره الغرباء فيعود إليهم وهو في حلف منيع .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
( الحلقة/ 52 ) التمهيد لرحلة الإسراء والمعراج !!
وغادر النبي صلوات ربى وسلامه عليه البستان، بستان شيبة وعتبة بن ربيعة، بعد أن أمضى قسطاً من راحة، وعاد سائرًا على قدميه الشريفتين، خرج وقطع الطريق إلى مكة ونفسه تحدثه، كيف يدخلها بعد أن غادرها متخفيًا من قريش، وقد تركهم في حال ريب وشكوك من أن يناصره الغرباء، فيعود إليهم وهو في حلف منيع ؟ فخشي على نفسه الدخول إلي مكة من دون جوار ومنعة، فلن يأمن جانب الصبيان والسفهاء والعبيد، أولئك الذين ينتظرون عودته بتلهف ليفعلوا به الأفاعيل، كل هذا دار بخلده طوال الطريق، ولما تبدت مشارف مكة له صلوات ربي وسلامه عليه، جلس ينتظر مارًا من العائدين إليها، فلعل الأقدار تقيض له من يثق في أمره، فيطلب منه سؤال من يرى فيه المروءة والشهامة ليجيره ويمنعه الناس، وطال انتظار الرسول صلوات ربى وسلامه عليه، يرقب القادمين من أسفارهم إلى مكة، وعلى مبعدة يلمح جماعة من الرجال كانت في حاجة لها خارج مكة، وها هي عائدة، ويقع بصره على - أريقط - وكان في مؤخر السير، فدعاه الرسول وطلب منه أن يذهب إلى - الأخنس بن شريق - ليجيره بمكة . فقال الأخنس لأريقط : قل له إن حليف قريش لا يجير على صميمها، ويرسل النبي أريقط مرة ثانية إلى - سهيل بن عمرو - ويقول سهيل لأريقط : أبلغه أن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب بن لؤي، ويرسل الرسول مرة ثالثة أريقط إلى - المطعم بن عدي - طالبًا منه الإجارة والمنعة . وينطلق أريقط إليه، فيقول له المطعم بن عدي : قل له فليأت . ويدخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة في حمى - المُطعم بن عدي - ويبيت في داره، ويحسن المطعم مضيفه، وفي الصباح خرج النبي صلى الله عليه وسلم، خلف المطعم بن عدي وكان قد جمع أولاده الستة متقلدي السيوف، خلف أبيهم والنبي، ومشوا حتى وصلوا الكعبة، وطافوا بها سبعاً، فهم يريدون بذلك إيصال رسالة إلى قريش مؤداها . أن محمدًا صار في جوارنا، ويرى أبو سفيان فعلة المطعم فيقول له : يا ابن عدي أمجير أم تابع ؟ . فهو يخشى أن يكون المطعم دخل في دين محمد، ويطمئنه المطعم بقوله : بل مجير يا أبا سفيان . قال أبو سفيان : أما والله لو قلت تابع لقاتلناك، أما وقد أجرته فذاك وشأنك .
ومكث النبي صلى الله عليه وسلم في جوار المطعم بن عدي، لا يقربه أحد كما هي سنة أهل مكة .
ورغم ما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم في الطائف، ورغم فشل فكرة البحث عن مكان آخر للدعوة خارج مكة، إلا أنه لم ييأس، ولم يفقد الأمل، فأرض الله واسعة . عادت الفكرة ثانية تراوح مكانها في رأسه، فمن يدري لعل نصرة الدين تأتي من خارج مكة التي ضيَّقت عليهم السبل، فكلما انتابته حالات الضيق والشدة، أطلت فكرة البحث عن موطن آخر برأسها عليه، فالدعوة تتحرك في مكة بطيئة، عسيرة السير، ولا يثبت في ذهنه مكان محدد يجعله هدفاً يسعى نحوه، فيُسلِّم أمره إلى الله ويتوجه إليه بالدعاء وكله أمل، أن يأتي ذلك اليوم الذي يرى فيه الناس، وقد دخلوا في دين الله أفواجاً، لا فرادي كما هو حال الداخلين في الإسلام في تلك الفترة الصعبة الشديدة .
يتمنى صلى الله عليه وسلم أن يأتي هذا اليوم سريعاً، لتقوى شوكة المسلمين، فتسقط حينئذ هيمنة صناديد قريش،ويتحرر أمر العباد، فلا يلقى المسلم عنتاً ولا اضطهاداً من أحد، وكلما اختلى بنفسه صلى الله عليه وسلم، وتقلبت تلك الأمور أمامه، انصرف إلى الصلاة، وألقى بهمه في التعبد، كيلا يستبد به اليأس ويقع فريسته .
وخطت به الأيام صعبة في هذه الآونة الحرجة، وأراد الله أن يخفف عنه، ويزيح ما ثقل على صدره، فصرف إليه نفر من الجن، يُدخلون البهجة عليه بدخولهم الإسلام، فدفعه إلى هذه المحطة العظيمة لتسكن نفسه، ويستقر فؤاده حين يرى هذه المخلوقات التي جعل الله لها نصيبٌ في الإسلام، كنصيب بني البشر، وجاء التوقيت من الله محكمًا، جاء في الوقت الذي عزَّ فيه دخول البشر أفواحا، فيأتي يوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج فيه إلى الخلاء خارج مكة وبرفقته عبد الله بن مسعود . قال له النبي يومها : اجلس هنا ولا تأتيني حتى أناديك .
وجلس ابن مسعود، وتوجه النبي بعيدًا عنه، ووقف يصلي ثم أخذ يتلو القرآن في صلاته بصوت عال، فبينما هو كذلك إذ سمعه سبعة من الجن، فتعجبوا لهذا الذي يسمعونه !! . كلام عظيم، حلو التلاوة، لم يسمعوه من قبل، فالتفوا حول النبي صلى الله عليه وسلم، ورأى ابن مسعود هذا المنظر الغريب، فهمَّ بالقيام ناحية الرسول، خشي عليه أن يصيبه شيء، فأشار له الرسول صلوات ربي وسلامه عليه إشارة بيده وهو يصلي، فهم ابن مسعود أن الرسول يريده مكانه، فليس هناك ما يريب .
رأى ابن مسعود بعينه وفد جن - نصيبين - رجال ليس كالرجال، وهيئة ليست كهيئة البشر، كأن على رؤوسهم الأربايق، ظلوا طوال صلاة الرسول يستمعون لتلاوة القرآن، ولما فرغ الرسول صلى الله عليه وسلم من صلاته، انطلقوا إلى بني جنسهم يدعونهم إلى الإسلام، ودخلت الجن في الإسلام أفواجا بعد أن أعياهم البحث في عالم بني الإنسان عن هذا الحدث الغريب الذي حدث في الأرض . والذي بسببه مُنعوا من استراق السمع والإطلاع على أنباء البشر وهم في السماء الدنيا، فبعثته منعت هذا الخرق العلوي، الذي كانت تفعله مرقة الجن، ونزل الوحي إلى النبي يُطلعه على ما دار حوله أثناء صلاته تلك، ويقص عليه خبرهم وما كان منهم، لتقر عينه وتهدأ نفسه، ويصبر على إعراض بني البشر، فلن يكونوا أعصى على الإسلام من الجن، إن هي إلا مسألة وقت وينتشر أمر الله تعالى بين الناس، بسم الله الرحمن الرحيم ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) .
وجعل أمام النبي حوارهم فيما بينهم ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا * .. ) إلى آخر الآيات التي حكت حديث الجن فيما بينهم، وما كان من خبرهم، حين كانوا يسترقون السمع، وجاءت البعثة النبوية لتضع حدًا لهذا الخرق الجني، فمن يسترق السمع بعدها يجد له شهابًا رصدًا كما بيَّنت الآيات .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تكملة ( الحلقة/ 52 ) الإسراء والمعراج !!
وعلى درب التكريم والتقدير يتواصل فيض السماء، ليس فقط في التنزيل، وإنما فيما هو لا يقل روعة وعظمة عنه، مواساة له صلي الله عليه وسلم وتشريفاً لخير من أرسله الله للعالمين كافة . فاختار الله له التوقيت المناسب ليرفعه منزلة ويرتقي به مرتبة لم يبلغها نبي قط، بل إنه سبحانه وتعالى خصه بها عن سائر الأنبياء والمرسلين، حين قُدّر له الانتقال إلى أعظم رحلة عرفتها المخلوقات كلها - الإسراء والمعراج - ليخلد ذكره في الخالدين، وليعوضه في هذا الوقت بالذات عما فعله أراذل الناس من قومه، فيشعره بمكانته العظيمة في الملأ الأعلى، حيث لا يعلوها مكانة مهما قال الناس فيه، رحلة فيها التكريم كل التكريم، لغسل قلبه من الهموم، وإزاحة الضيق الجاثم على صدره، ولتثبيته على أمر الدعوة، ليخرج الإسلام من مأزقه، وينطلق بعدها في طريق رحب . فكان في مسراه من البلاء والتمحيص الأمر الكثير، عبرة لأولي الألباب وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق . فأسرى به كيف شاء، وكما شاء، ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد . ففي هذه الليلة المباركة، جهد الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه بالصلاة عند الكعبة، فغالبه النعاس، فتوسد مكانه وغط في نوم عميق، ولم يفق منه إلا على صوت يوقظه : يا محمد، أنا جبريل . فاستيقظ فرأى جبريل أمامه ومعه البراق - دابة بيضاء بين البغل والحمار في الحجم - وفي فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه - خلق عجيب من مخلوقات الله - إنه البراق .
يقف أمام النبي ويمسك برباطه جبريل قائد الملائكة، والرسول صلوات ربي وسلامه عليه ينظر مندهشاً . ثم يحمل النبي عليه وجبريل إلى جواره لا يفوته، وينطلق البراق، وفي لمحات يحط أمام بيت المقدس، وذهل الرسول صلوات ربى وسلامه عليه لسرعته الخاطفة، وأمام بيت المقدس يربط جبريل البراق، بعد أن نزل منه النبي بحلقة عند باب المسجد الأقصى، ودخل النبي المسجد، وصلى في قبلته تحية المسجد، وبعد فراغه من الصلاة، قدَّم له جبريل إناء به خمر والآخر لبن، فأخذ النبي إناء اللبن، فقال جبريل : هُديت إلى الفطرة . وأوتي بالمعراج، وسيلة الصعود إلى الملأ الأعلى، فنظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم مشدوها، خلقٌ عجيب لم يترك لنا النبي وصفه من غرابته، فليس في الأشياء شبيه يُشبّهه به .
نُصب المعراجُ، سلم الصعود، فصعد فيه إلى السماء، صعد من سماء إلى سماء على المعراج، وكلما جاء سماء تلقته مقربوها ومن فيها من أكابر الملائكة والأنبياء بالتحية ، حتى ظهر لمستوى يسمع فيه صريف الأقلام، ورفعت لرسول الله سِدرة المنتهى - شجرة كبيرة ليست كشجر الدنيا - وإذا ورقها كآذان الفيلة، ونبقها كقلال هجر، وغشيها من نور الرب جل جلاله . ورأى هناك جبريل علي هيئته الحقيقية التي يستعصي وصفها من شدتها وضخامتها وغرابتها، وقد ذكر الله رؤية الرسول له في هذا المكان بقوله ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى )، فما زاغ ببصره يميناً وشمالاً، ولا ارتفع عن المكان الذي حد له النظر إليه، ثبات عظيم وأدب كريم . وفي هذا المكان العلوي أذن لمحمد صلى الله عليه وسلم الاقتراب والدنو دون جبريل، فوصل إلى حضرة لم يصلها أي مخلوق من مخلوقات الله قاطبة، ليتلقى عن ربه في مكرمة سخية، أمر هام لأمته، ومن فرط أهميته تم استدعاؤه للملأ الأعلى، فرض الصلاة على المسلمين، كل فروض الإسلام جاءت عن طريق الوحي، إلا الصلاة تلقاها النبي لعظم أمرها في استدعاء شخصي يكلمه الله مباشرة بعد أن خرق له الله قوانين التكوين البشري، وأعدَّه بقدرة منه للمثول أمامه في هذا المكان، الذي رأى فيه الرسول جبريل حينما اقترب قليلاً بحجمه الضخم هذا صار كالحصير البالي، تتساقط أجنحته في مشهد مروّع .
تلقى أمر الصلاة في هذا المكان العلوي، لتكون هذه الفريضة عند المسلمين معلماً بارزاً وعماداً للدين، بل هي أصله، وفُرضت منذ هذه اللحظة الصلاة خمسة فروض في اليوم والليلة، وانتهت المهمة الجليلة، ثم هبط إلى بيت المقدس وهبطت معه الأنبياء تكريماً واحتفاءً به وتعظيماً لأمره، بعد رجوعه من تلك الحضرة الإلهية العظيمة، يقول له جبريل : هذا فلان . فيسلم عليه . سماهم له، فرأى من الأنبياء الكثير، غير الذي رآهم في صعوده، تجمع أكثرهم لما علموا بنزوله من السدرة، ورافقوه إلى حيث وجهته في الهبوط . المسجد الأقصى . وتم له التعارف في لحظات خاطفة مباركة عليهم جميعاً، وفي المسجد تجمع هذا الحشد الهائل من الأنبياء والرسول، وكان قد حان وقت صلاة الفجر، أمره جبريل أن يؤم الجميع للصلاة، ووقف النبي صلوات ربى وسلامه عليه إماماً، يصلي خلفه حشد كبير من الأنبياء، لا يعلم عدتهم إلا الله .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تعليقات
إرسال تعليق