الطريق الي النور
( الحلقة/ 43) النجاشي ملاذ الفارين من البطش !!
وفي دار بلال بن رباح وضع جعفر بن أبى طالب بموافقة رسول الله، وضع مع كاسام الحبشي الأسلوب الأمثل لأول هجرة للمسلمين الأوائل إلى الحبشة، اتفقا على أن يجعل جعفر من أقرب سواحل شبه الجزيرة إلى أرض الحبشة، مركزاً لتجمع المهاجرين، وكان ذلك قرب قرية ساحلية في اليمن تُدعى ـ المخا ـ على أن يرسل إليهم كاسام الحبشى السفين لتحملهم إلى المهجر .
ويغادر كاسام مكة وفي رأسه خطة محكمة لاستقبال المهاجرين من مكة، وأبلغ المسلمين بمكان التجمع - المخا - وتقاطر عليه بعضهم انتظاراً للآخرين، وفي سرية يخرجون من مكة فرادى، وبدأت بعض الأعين القُرشية تلمس حالات ترحال فردية غادرت مكة، لكنها لم ترع اهتماماً لذلك، ويسير عمر بن الخطاب ذات يوم ويجد نفسه أمام دار - عامر بن ربيعة - عن غير قصد، ويرى امرأته - ليلى - على باب الدار وقد انهمكت في حزم أمتعتها، فقال لها : ما هذا يا أم عبد الله ؟ . قالت : ويحك يا ابن الخطاب مالك لا تكف عن تتبعنا . قال عمر : ياأم عبد الله إنك بنت خالتي، ولا أحب أن يصلكم شر من أحد ولا أحميكم منه .. قالت ليلى في استخفاف من قوله : تحمينا من نفسك، والله إنك لأقطع أهل مكة الرحم يا ابن الخطاب، ألم تتعرض بالأذى لزوجي عامر وتشج رأسه !! . قال عمر : أردت أن أعيده إلى دين آبائه وأجداده . قالت : فدعنا وما نحن فيه، فلا أنتم عابدون ما نعبد ولا نحن عابدون ما تعبد . قال عمر في رفق : صدقت في هذا يا أم عبد الله، ما هذا الذي جمعته أمام باب الدار ؟ . قالت : متاعنا . قال عمر : إذاً فقد صدق من أخبرني . قالت : بماذا ؟ . قال عمر : بأنكم خارجون مع الخارجين . قالت ليلى : أجل لقد آذيتمونا في ديننا، نذهب في أرض حيث لا نُؤذى . قال عمر : إلى الحبشة .
قالت ليلى : وما لك لهذا ؟ . قال عمر : على رسلك يا أم عبد الله فلن أدل عليكم، ولن أكون الساعي في إعادتكم إذا انطلقتم، نعم لا أكون الساعي إلى إعادتكم إذا انطلقتم ناحية البحر، صحبتكم السلامة . قالت ليلى في استغراب من هذا اللين الذي بدا منه : ترجو لنا السلامة يا عمر، ما كان عهدنا بك ؟ . قال عمر في وداعة وود : صحبتكم السلامة يا أم عبد الله صحبتكم السلامة .
ويعود - عامر بن ربيعة - إلى داره، وتقص عليه زوجه ما دار بينها وبين عمر : لو سمعت ما قال، ورأيت من رقته، لقلت أن شيئاً قد خامر قلب عمر يا أبا عبد الله . قال عامر وهو غير مصدق لتغير حال عمر : لم نر في قريش من هو أشد علينا من ابن الخطاب . قالت ليلى : رجوت الله أن يسلم . قال عامر : والله لا يسلم حتى يسلم حمار أبيه الخطاب .
لم يكن عامر بن ربيعة يدري أن عمرًا يتأرجح الآن بين الحق والباطل، وأنه في طريقه إلى الهداية وإن لم يأت أوان ذلك .
وفي جنح الظلام وعلى هيئة من التستر خرج الفوج الأول من المسلمين، ليلحق بمن سبقهم من الأفراد عند الساحل اليمني حيث مركز تجمع المهاجرين - المخا - وكان يضم خيرة أتباع النبي صلى الله عليه وسلم - عثمان بن عفان وزوجه رقية بنت الرسول، وعامر بن ربيعة وزوجه ليلى، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وزوجه سهلة بنت سهيل، وأبو سلمة وزوجه أم سلمة، وعبد الرحمن بن عوف، ومصعب بن عمير، وعثمان بن مظعون بن حبيب وغيرهم .
وفي ميناء - المخا - يرسل عثمان بن مظعون بن حبيب بصفته أميراً لهذا الفوج، يرسل كتاباً إلى كاسام الحبشى يخبره باكتمال التجمع، وهم في انتظار السفين الذي سيقلهم إلى أرض الحبشة، ويصدق كاسام الوعد، ويرسل إلى - المخا - السفين، ويحمل السفين على متنه خيرة الناس على الأرض، أتباع النبي صلوات ربى وسلامه عليه المخلصين الذين ضاقت بهم بلادهم، وطال الطريق، وغلب عليهم الشوق لرؤية الأرض الجديدة التي أشار عليهم النبي بها، وحبب إليهم معرفة الكثير عن هذه البلاد التي بها ملك لا يُظلم عنده أحد، فبينما هم في السفين اقترب أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، من عثمان بن مظعون بن حبيب أمير الرهط المهاجر وقال له : يا ابن مظعون لقد قال رسولنا على النجاشي إنه لا يُظلم عنده أحد، فهل عندك شيئاً من أخباره ؟ . تطلعنا به فيمضي وقتنا دون أن نشعر به ؟ .
قال عثمان بن مظعون : عندي يا أبا حذيفة، وهنا قال الجميع في شوق ولهفة : فحدثنا إذن يا ابن مظعون عما تعلمه من أخبار الحبشة والنجاشي .
قال عثمان وقد استدار إليهم ليقص ما غلب شوقهم عليه : كان ـ أبجر سيلينوس ـ ملكاً عظيماً مهاب الجانب، استقرت أمور الأحباش على طول البلاد وعرضها على يديه، ودانت له بلاد الجوار، ولم يكن عنده من الأبناء سوى غلام في السابعة من عمره يُدعى - أصحمة -، وكان للملك - أبجر - أخ أصغر منه يُدعى - أرهاط سيلينوس - له من الأبناء اثنا عشرة .. فالتف المتآمرون حول الملك ممن بيدهم تسيير الأمور، وراحوا يحيكون له الدسائس من خلفه، فقال بعضهم لبعض " إن هذا الملك - أبجر - القائم على عرش الحبشة ليس له سوى ولد واحد، فإذا انتقل الحكم إليه انتهى عرش ملوك الأحباش بموت ولده، وأخو الملك له من الأولاد الكثيرين، لو ملكنا أخاه على الحبشة ذهب خوفنا على ضياع الحكم، فإذا مات أحدهم قام الذي بعده " فترصدوا للملك، واقتنصوا غفلة منه في رحلة صيد له فقتلوه .
قال أبو حذيفة : وهل تركهم أخوه دون عقاب ؟ . قال عثمان بن مظعون : كان أخوه وراء ما دبروا، وجلس - أرهاط بن سيلينوس - الأخ الأصغر لأبجر على كرسي الملك . قال أبو حذيفة : وماذا فعل بالغلام، هل قتله أيضاً ؟ .
قال عثمان : لا لم يقتله، بل قرَّبه إليه، وأحسن معاملته، وأنزله في قصره، وقام على تنشئته، ودفعه الشعور بالذنب إلى العطف عليه، فميَّزه عن سائر أبنائه، ورصد له من مستشاريه من يُعلمه دِربة الحكم منذ نعومة أظفاره، وشب الغلام يافعاً نافعاً، ولما اشتد عوده وتجاوز العاشرة، رأت حاشية الملك منه ما لم تحسبه ؟ . قال أبو حذيفة : وماذا رأت الحاشية ؟ . صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تكملة ( الحلقة/ 43) النجاشي ملاذ الفارين من البطش !!
قال عثمان بن مظعون : رأت في الغلام - أصحمة - رجاحة رأي، وذهن متقد وبدا منه التطلع للحكم، فأحس من دبر لقتل أبيه أن بقاءه ينطوي على مخاطر لا تُحمد عقباها، فقالوا فيما بينهم : " والله لقد غلب هذا الفتى على أمر عمه، وإنا لنتخوف أن يُملكه علينا، وإن ملَّكه علينا ليقتلنا جميعاً، لقد عرف أنا نحن قتلنا أباه " فمشوا إلى عمه - أرهاط - وقالوا له : " أيها الملك . ماذا أنت فاعل في أمر - أصحمة بن أخيك أبجر - فقد ظهر رأيه على رأيك، وتفتق ذهنه لأمور كثيرة وعلم بما دبرنا لأبيه " . قال لهم أرهاط : " وماذا أفعل به وقد صار من خاصتي وبلغ ما بلغ من مكانه عندي ؟ " . قالوا : " لن يسكت هذا الغلام أبداً، ولن يرده أحد عن الانتقام إذا تمكن أكثر من هذا، عاجله أيها الملك واقتله " .
وغضب الملك أرهاط وقال لهم : " لا والله لا أفعل، أقتله اليوم وقد قتلت أباه بالأمس ؟ . لن أفعل هذا " . قالوا : " لو لم تقتله لقتلك وقتلنا جميعاً، الصبي ذو همة وعزم وبدت من خصاله المثابرة والترصد، افعل ما نقول لك أيها الملك فالخطر سيدهم الجميع " . قال الملك أرهاط : " انظروا لي أمراً غير القتل . قالوا : " إذن نبعده عن الحبشة كلها " .
قال أبو حذيفة لعثمان : كيف يا عثمان ؟ . قال عثمان : أشاروا على الملك بحيلة، أنهم إذا ابتاعوه لتاجر، وشرطوا عليه بيعه خارج الحبشة، صاروا في أمان مما يتخوفون حدوثه من الصبي إذا كبر، فعرضوا ذلك على الملك الذي قال لهم : " انتظروا حتى أخرج للصيد، فإذا غادرت القصر افعلوا ما أشرتم به، فأنا لا أحب أن أرى بكاء الصبي وتشبثه بي إذا ما أحس بالخطر " .
ويكمل عثمان بن مظعون قصته : وأخذوه إلى تاجر على أطراف العاصمة الحبشية - أكشوم - وقبلوا فيه ثمناً زهيداً . ستمائة درهم، واشترطوا على التاجر إخراجه من الحبشة، لكن التاجر أحس أن في الأمر ما يخفونه، فأخذ الغلام إلى حيث يقيم في منطقة جبلية وعرة، نائية بعيداً عن العاصمة، لكنها ليست خارج حدود المملكة .
قال أبو حذيفة : ولم يبعه التاجر كما تعهد يا ابن مظعون ؟ .
قال عثمان : تعلق به التاجر، بعد أن أخبره الغلام أنه من سلالة الملوك، غير أن الغلام لم يخض في التفاصيل فأيقن التاجر أن وراءه أمر جلل، فآثره لنفسه وزهد في بيعه وأكرم نزله، فلعل الأيام قد خبأت له خيراً . أقام الصبي - أصحمة - في رعاية التاجر ومرت الأيام، حتى إذا كان يوم من أيام الخريف، اجتاحت فيه رياح ساخنة أرض الحبشة كلها، أحرقت زرعها، وحولت أخضرها يابساً، وطالت صواعق هذا اليوم الرعدية مقر القصر فأحرقته بمن فيه من الملك والحاشية . قال أبو حذيفة : إنها المجاعة إذن يا ابن مظعون . قال عثمان : مرت على الحبشة أيام أكلت فيها الناس الشجر والميتة .
قال أبو حذيفة : وماذا فعلوا إزاء هذا الخراب ؟ . قال عثمان : اجتمع ذو الرأي والحكمة، وأحضروا قادة الجيش، وأساقفة الكنيسة وقالوا : " إن ما حدث للبلاد إنما ذلك لقتلنا الملك أبجر وتشريدنا لابنه أصحمة، ولن تخرج الحبشة من تلك اللعنة إلا بإعادة أصحمة وتنصيبه مالكاً على البلاد " .
وصار الجميع على قناعة أن ما حدث هو ذنب الغلام، فانطلق قادة الجيش ورجال البلاط يبحثون عن الفتى في كل البلاد المجاورة، ولم يعثروا عليه، فتتبعوا أثر التاجر الذى غيَّر مكانه، حتى أدركوا الفتى عنده، فأخذوه غصبا، بعد أن هددوا التاجر، ثم أعادوه إلى - أكشوم - العاصمة، ودقت أجراس الكنائس، وألبسوا أصحمة تاج المُلك، وصار ملكاً على الحبشة .
قال أبو حذيفة : فذلك هو الملك القائم الآن ؟ .
قال عثمان بن مظعون : نعم من يومها وهو يحكم الحبشة - أصحمة بن أبجر - .
قال أبو حذيفة : وماذا فعل بقتلة أبيه ؟ . قال عثمان : أصدر عفواً عاماً عنهم حتى تنعم البلاد بالأمن في عهده . قال أبو حذيفة : لقد قال عنه الرسول (إنه لا يُظلم عنده أحد ) .
قال عثمان : وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي قصة التاجر أصدق دليل على عدله فقد جاء التاجر بعد أن اعتلى الحكم، وعرض مظلمته على النجاشي أصحمة، قال التاجر : " أيها الملك قد اشتريتك وكنت صبياً، ودفعت فيك ستمائة درهم، ثم أخذوك مني ولم يردوا إلي ما دفعت " . قال أحدهم : " لم يعطنا إلا ثمناً قليلاً، دعه أيها الملك وشأنه " . وغضب النجاشي أصحمة غضباً شديداً وقال للقائل : " إن هذا الرجل أكرم بقائي عنده، ولما كنت نزيل مملكته أحسن رعايتي، وقام عليِّ خير قيام، ولم يبعن لأحد، وهو الآن في مملكتي، وجاء دوري لأرد إليه شيئاً من كرمه، فلو طلب مني تاج ملكي لمنحته إياه وله أن يأخذ ما يريد " . قال التاجر وقد ارتاحت نفسه : " لقد ادخرتك عندي لأمر كهذا، تحكم البلاد بالعدل، وأنا لا أريد سوى ما دفعته فيك . ستمائة درهم " . قال أبو حذيفة : وأعطاه الملك ما دفع ؟ .
قال عثمان : وزيادة، منحه من العطايا والحظوة، وجعله من المقربين لديه وبعد أن قص عثمان عليهم قصة ملك الحبشة - النجاشي أصحمة - أيقن المؤمنون أنهم نازلون بأرض يحكمها ملك عادل كما قال عنه الرسول الكريم .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تعليقات
إرسال تعليق