رواية يحدث ليلافي الغرفه
كاملهرجل في أواخر الثلاثينيات من عمره ، يميل لونه إلى السمرة النادرة الرؤى ، له عينان واسعتان ، ثاقبتان ، حالمتان ، سوادهما متفحم ساحر يدعوك للإبحار بحرية داخلها ، قلعتان تحميهما أهداب كثيفة وطويلة ، ذو أنف مستقيم ، شفتاه متوسطة السمك ، أسنانه بيضاء متساوية متراصة ، شعره بين أملس ومجعد يلامس كتفيه ، يكسوه السواد الفاحم كما عينيه ، مرصع بخصال بيضاء تضيف وقارًا وتزيده جاذبية ، كث اللحية والشارب طويل القامة ، ممشوق القد ، أصابع يديه طويلة رشيقة كعازف موسيقى .
نهض من جلسته في تواضع وابتسم الشيخ {القنائى} ابتسامة هادئة ، فلمحت على إحدى خديه فجوة زادت من جمال اشراقه ، جعلتني أحلق في سمائه وأنا مازلت واقفة مكاني أحدق فيه ، ألقى تحيته في خجل وأدب
— أهلا بكم جميعا وسهلاً.
وقف بجانبنا شيخ جليل يتحدث إليه في توضيح.
— لقد حضر جعفر يا سيدي ومعه ضيفته كما أخبرتك
— اشكرك يا شيخ {قرشى}
التفت إلينا وأكمل :- قد حدثنى الشيخ القرشى عنك يا جعفر وعن ضيفتك الكريمة وطلبكما رؤيتى .
ربما أحلم ، فأنا من أشد محبيه ومريديه ، ومع ذلك لم اجرؤ يومًا على تمنى مقابلته ، تبسم جعفر وقال فى فخر .
— لقد أسعدتنى رؤيتك يا شيخنا العزيز ، وإنى أتشرف بحضور درسك كل أربعاء بعد صلاة العصر كما تفعل دائما ، لكن ضيفتنا مريم من أشد المعجبين بمدرستك وتريد ان تنهل من بعض علمك.
تبادل نظراته وابتسامته بيني وبين جعفر.
— أهلا بك يا جعفر وبضيفتك ، قيل لى يا مريم أنك قد أتيت من السودان ، أليس كذلك ؟
كنت أنظر إليه فى إعجاب شديد ، غير مصدقة أنه هو بحق الشيخ العالم العارف بالله «عبد الرحيم القنائى» فقد تخيلته مثل الشيخ القرشى ، شيخ كبير أو على قدر قليل من الوسامة ، تنبهت ألى ما قاله .. »السودان« ، لم أستطيع الكذب عليه ،
فكان الجواب أن هززت رأسى إلى الأمام محيية إياه فقط إلى أن يرحل الباقون ، لكنني رأيته ينتظر جوابى ، فأجبت بما أشعر تجاهه بصدق إلى أن يحين وقت أعترافى .
— فى الحقيقة يا سيدى أنا لا أصدق أنى آراك رؤى العين حقاً ، لابد أنه حلم ، بل إنها رؤية تبشرنى بخير آت إن شاء الله.
ضحك الجميع وخجل القنائى مبتسماً ، ثم نظر إلى نظرة متقدة الذكاء ، وكأنه قد فهم ما دار بذهنى وقال بيقين.
— الخير قادم قادم لا محالة.
بعد برهة صغيرة استأذن جعفر بعد أن حياني مشيرًا إلى أنه ذاهب في قضاء حوائجه ، وسوف يأتى لاصطحابى للبيت حين أنتهى ، أوصله الشيخ القرشى الى خارج الساحة ، ثم نظر إلى الشيخ القنائى فى أدب وأشار إلى وسادة على الأرض.
— تفضلى بالجلوس يا مريم.
جلست وملت برأسى إلى الأسفل فى خجل ، فقد كان فى عينى شديد الوسامة ، جلس هو مستنداً على حائط وراءه فى مقابلتى ، وضحت ملامحه وازداد جاذبية ، مرت لحظات سكون إلى أن لمحت رأسه تنحنى للأسفل وللأمام قليلا ، ليرى عينى التى اختفت من أمامه وقد أدرك خجلي منه ، فنفذت رائحته وكأنها عود معتق إلى أنفى ومنها إلى قلبى ، ثم أردف مبتسماً.
— أخبرينى عن السودان يا مريم ، كيف وجدتها ؟
فى شتاء ٢٠١٠ ميلادية وصلت لأخر سنه دراسية بكلية الحقوق بجامعة جنوب الوادي وبدأت في البحث كما أعتدت كل سنة عن بيت للطالبات مع صديقتي ياسمين، فبعد خوض تجربة السكن الجامعي في الشهر الأول فقط من السنة الدراسية الأول بالجامعة قررت عدم طرح الموضوع للنقاش مرة أخرى، كلفنا بعض سماسرة العقارات بالبحث عن شقة سكنية، بالطبع يوجد الكثير منها، ولكن الأهم أن تصلح لسكن فتيات مغتربات للدراسة في وجه قبلى، عندما تاخر ردهم قررنا أن نبحث بأنفسنا علنا نكون الأسرع.
في هذه المرحلة، تذكرت أبى وبكيته كثيراً، فقد انتقل إلى رحمة الله حديثاً، كان أبى أحد أشهر الشخصيات النوبية، عمل بمجال السياحة لسنوات طويلة، وكان رائداً بافكاره، أريد أن أرسل إليه نجاحي في نهاية العام كهدية كان يتمناها، اعطاني وإخوته قسطاً وفيراً من الحنان والدلال، ربما يكفيني ما تبقى من عمري، كنت أفتقده بشدة، فأوجه عقلي إلى ما يجب على فعله كلما ضللت طريقي، يجب أن انجح، يجب ان استحق التقدير الذي كان يتمناه فيفرح، لا أدري هل تقبلت فقدانه ؟ ام اننى أعبث بمشاعري التى لابد وأن أختبرها يوماً ما.
وفي إحدى المرات، وبعد أن بحثت وياسمين كثيراً وأنهكنا التعب، مررنا على أحد المينى ماركت المنتشر في الطرقات كما يطلقون عليه، لكنه أقرب إلى دكان، وقفنا لنشتري فطوراً، كان الجوع والعطش قد سيطرا على ياسمين بقسوة فقالت :
- مريم تعالى نشوف أي حاجة ناكلها الأول، أنا هموت من الجوع، وبعدين ندور على الشقة أنا تعبت مش قادرة.
لكننا رأينا الدكان خاليا من أي بضاعة، فوقفنا أمامه لنرى أقرب مكان نبتاع منه طعاماً، فاجبتها في يأس :
- أنا تعبت فعلاً بقالنا كتير قوى بندور على شقة، مش معقول مفيش واحدة مناسبة !
سمع بائع الدكان حديثنا، رجل قصير القامة، نحيف حد الهزال، نظراته حادة، توسمت فيه الشهامة وقد كان، ابتسامته غير حاضرة وفي عجلة من امره، جاء إلينا البائع مستفسراً :
- أنتم بتدورو على سكن ؟ أنا غصب عنى سامعكم، صوتكم عالى.
لم تهتم ياسمين بسؤاله وقد غلبها العطش.
- هو مفيش عندك حتى عصير ؟
- أصلى كنت قافل فترة طويلة.
أحسست أنه يستطيع مساعدتنا فقصصت عليه بإيجاز، وعرفنا أنه على معرفه بمحامى يمتلك شقة ويريد أن يؤجرها لمن يؤتمن، وانتهى حديثنا بعرضه توصيلنا إلى المحامي.
- تعالى معايا أوصلك للمحامي بس مش هقدر أسيب المحل وحده.
- أوصفلنا يا حاج
- الطريق قريب بس يتوه، ممكن صاحبتك تقف هنا ١٠ دقائق بس على بال ما أوصلك وأجيبك ؟ المكان قريب جداً
- استنى هنا يا ياسمين وأنا مش هتأخر
- ماشى خلي بالك من نفسك.
- وأنتى كمان
اصطحبني البائع إلى مكتب المحامي دون أن يثرثر في طريقنا مثل باقي السماسرة، عرفته بنفسى وسألته عن اسمه فأجاب "أمين عامر" يقع المكتب على بعد امتار من دكان الحج أمين، رأيت شابا خارجاً من شقة بالدور الأرضى من البناية، كان واضحاً أنه مغادر فوقف البائع على الدرج وقدمني اليه.
- يا أستاذ عماد، آنسة مريم عايزة الشقة هي وصاحباتها
يبدو أننى كنت من ضمن قائمة سبقتني، هز رأسه محيياً بأبتسامة هادئة، ثم اصطحبنا بدوره إلى مكان الشقة المذكورة والذى كان على بعد أمتار قليلة من مكتبه، أحسست بألفة تجاهه بمجرد رؤيته وكأنه أحد اقربائى، شاب وسيم يقترب من عمرى على ما أظن، عيناه بها حزن أو يهيأ لى ذلك، يرتدي بدلة موديل قديم، من الواضح أنه لا يهتم كثيراً للموضة لكنه جذاب ووسيم، احب هذا النوع من الرجال الواثق من نفسه بلا تكلف، تكفي نبرة صوته الهادئة لسماع ما يقول، والتى تعلن عن كاريزما خاصة، مشيت معهما حتى أصبحنا في وسط البلد، حي من الأحياء التي لم أر مثيلها من قبل، حي نظيف رغم بساطته، أغلب سكانه من الطبقة المتوسطة التى أوشكت على الأنقراض لابد وأن تمر على الشارع الرئيسى أولا لتدخل شارع أصغر ثم حارة داخل حارة أخرى، كل شئ متاح حولنا من سلع وخدمات، توقف عماد وأشار الى المبنى، كان العقار طابقين فقط، متوسط العمر بلا حارسه البوابة حديدية طليت باللون الآزرق، ألتفت إلى عماد وقال.
- هنا المكان، الشقة من جوه هتعجبك انا واثق، للأسف مش معايا المفتاح دلوقتى، أكيد مع أمي، اطلعى خبطى وقوليلها أنك شفتي اليافطة اللى على أول الشارع بتاعة الشقة وهي هتفرجك، على فكرة الشقة أربع أوض عشان أنا فهمت انك مش لوحدك.
- هو أنت مش طالع معايا ؟
- للأسف أنا على خلاف بسيط مع أمى الأيام دي، أحسن قوليلها إنك شفتي اليافطة اللى على الشارع الرئيسى.
- طيب وانت يا حاج أمين ؟
- سامحينى علاقتى بها ضعيفة، أنا بساعد أبنها بس
- ممممممممممم
دخلت العقار وصعدت إلى الدور الثانى حيث تسكن سيدة على اعتاب العقد السابع من عمرها، مسح عليها الزمن بقليل من الحزن، واعطاها الكثير من القوة والصلابة، تطلان من عينيها فى تحد، نظرت لى وكان عينيها ماسحة الكترونية، من رأسى لأخر قدمى، أستاذنت لتحضر مفتاح الشقة المذكورة بعد ان عرفتها بنفسى وطلبت منها أيجار الشقة، غابت لحظات ثم عادت لننزل سويا إلى الدور الأرضى، فتحت الباب ودعتني لأرى المكان،
غرفة الإستقبال طليت باللون السيمون وتتكون من جزأين، الجزء الأول والأقرب إلى الباب به كنبه كبيرة وأخرى صغيرة صالون قيم قديم جهة اليمين، تصحبهم مرآة طويلة وكبيرة، أما الجزء الثاني في العمق والقريب من الطرقة يتكون من منضدة حديدية متوسطة الحجم تحمل بشجاعة تليفزيوناً متوسط العمر، تصلح للمذاكرة أيضاً، على جانبى المنضدة كرسيان من البلاستيك، يقع المطبخ في الجانب الأيسر من غرفة الإستقبال، به ثلاجة كبيرة على الجانب الأيمن وبجانبها الحوض، فى اليسار مطبخ خشبي كامل به جميع أجهزة المطبخ الحديث لا ينقصه سوى إحضار الطعام فقط، تقع الطرقة تقريباً بجانبه بحيث يسهل على من فى الغرف أن يسمع من فى المطبخ إذا تحدث بصوت عالي، الطرقة بها ثلاث غرف على اليمين متوسطة الحجم، أما الغرفة الرابعة والأخيرة مغلقة، تقابلك في آخر الطرقة، يقع الحمام على يسارها، جميع الغرف مطلية باللون الآبيض، أرضية الشقة كلها موحدة بسيراميك سيئ الذوق، أخضر اللون يتداخل فيه ألوان أخرى لا تجانس بينها، الحمام والمطبخ أيضاً لا علاقة لهما بذوق الشقة العام، مع ذلك أحسست بشئ يجذبني إلى المكان، فصدقت إحساسى ويا ليتني ما فعلت، نظرت إلى السيدة فى ثقة وقالت.
- عجبتك الشقة ؟
- حلوة، أربع أوض على قدنا.
- عفش البيت كله محدش استعمله قبل كده، يعنى شبه جديد، هو موضته قدمت بس، لكن زي ما أنتى شايفة نضيف، حتى المطبخ أدواته كلها بحالها مش محتاجين تجيبوا حاجة، بس حافظوا عليها بس.
- لا بصراحة البيت نضيف ومن ناحية نحافظ عليه متقلقيش خالص.
- أنتم كام واحدة ؟
- دلوقتى أتنين وفى أتنين هييجوا بعدنا إن شاء الله.
- يبقى في أتنين لازم يشتركوا في أوضة لأني مش بفتح الأوضة الرابعة، فيها كراكيب وحاجات غالية، عندكم ثلاث أوض وزعوها بمعرفتكم، في مشكلة ؟
رأيت المكان نظيفاً وسعره مناسب لنا جميعاً، لأننى أعرف جيداً المستوى المادي لزميلاتى، ولا أعتقد أن ثلاث غرف سوف تكون مشكلة مع باقي البنات فتصرف على هذا الأساس.
- طيب خلاص مفيش مشكلة، دى فلوس عربون لحد مانيجي
- تمام، أنا مسافرة عمرة وراجعة على قرايبى فى الأقصر لما أرجع أخد الباقى، وأمنتك أمانة بقى إنتى المسئولة قدامى عن الحاجات اللي في الشقة كلها والعفش والأجهزة الكهربائية.
- متخافيش يا طنط، كأنك موجودة معانا.
تم الأتفاق وودعت الحجة سعاد وغادرت، عند مدخل المبنى وجدت الحج أمين مازال ينتظرنى، أبلغني أن عماد اضطر إلى الذهاب لقضاء بعض أموره.
- متشكرة جداً تعبتك معايا يا حج.
- الخير ما يضيعش يا بنتى.
أردت أن أعطيه نقوداً كما تعودت مع اى سمسار، لكنه رفض بشدة وقال إن ما يفعله معي لوجه الله تعالى، فقد رآنى أبحث عن مكان ملائم وتوسم خيراً فى، اصطحبنى لأقرب مكان من دكانه، حيث تنتظر ياسمين، لأنه تذكر شيئاً لابد أن يبتاعه، ما إن وصلت حتى بشرت صديقتى، اتفقنا على ميعاد الإنتقال لقنا أخيراً لمتابعة المحاضرات فى بداية العام الدراسى.
إنتقلنا ومرت الأشهر الأولى من دراسة السنة الأخيرة بالجامعة سريعة وهادئة، وها أنا في أواخر مدة إقامتى "ببيت الطالبات المغتربين" كما اطلقت عليه لاحقا مالكته "الحجة سعاد"، لأننا أول من استأجر الشقة، فهو بيت عائلى لا يسكن به غرباء، وكنا أول من يكسر القاعدة على حد قولها، لكنها رأت اننا لن نتسبب بأية مشكلة على الإطلاق، فقد تعودت السفر لآقاربها والرجوع وهى مطمئنة على بيتها، فنحن فقط من يشاركها السكن.
رأيت "عماد" بعدئذ مرة أو مرتين على سلم العمارة فحيانى، بات واضحاً أن خلافه مع امه قد أنتهى، ذات مرة رأيته مسرعاً باتجاه مدخل العمارة فسألنى عن أحوالى.
- إزيك يا مريم كله تمام ؟ الشقة عجبتكم ؟
- كله حلو الحمد لله.
- أحسن من باقى السكنات، كل واحدة فى أوضة أكيد حلو.
- دلوقتى إحنا أتنين بس، كل واحدة في أوضة فعلا، لكن في أتنين جايين وهيشتركوا في أوضة واحدة، بس مفيش مشكلة.
- لو الشقة ضيقة عليكم افتحوا الأوضة الرابعه، هي بس فيها شوية كراكيب حطنهم على جنب، وخلو بالكم عليها لأن ماما بتخاف على حاجتها قوى.
- حاضر لو اضطررنا هنعمل كده.
- طيب أشوفك بخير .. سلام.
- سلام.
كانت الحجة "سعاد" قبل أن تسافر لأداء العمرة من ألطف الناس معنا، تحن علينا وترسل لنا الطعام عندما ترانا متعبين من المذاكرة ليلاً ومن الدراسة في الجامعة صباحاً، أعطت كل منا مفتاحاً لغلق البوابة الحديدية ليلاً لمزيد من الأمان، ما إن نغلق الباب الحديدى من الداخل حتى تستطيع دخول شقتنا دون إذن، فقط بتحريك مقبض باب الشقة من الخارج وكأنك تفتح باب غرفة داخل الشقة لذلك كان لابد أن نغلق ونفتح الباب بمفتاح ونحكم إغلاقه ليلاً بترباس.
أول غرفة على يمين الطرقة تسكنها ياسمين، فتاة أسوانية، تدرس بالسنة الثالثة بكلية تجارة، قصيرة، ممتلئة القوام، مرحة، متفائلة تمنح الأمل والتفاؤل لكثير ممن حولها وتضيف البهجة فى كثير من المواقف.
هذه الغرفة أوسع غرفة بالشقة، تتكون من سريرين بحجم كبير ودولاب متوسط الحجم موضوع بينهما بعناية ومقاييس محسوبة، بها شباك صغير يطل على الشارع.
الغرفة الثانية اخترتها لى لأنها ثاني أوسع غرفة، قررت منذ البداية أن أسكن فى غرفة خاصة بى وحدى، أحب الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من الخصوصية، لا أحب أن يميز أحد شكل ولون ملابسى الداخلية على سبيل المثال، مهما بلغت درجة تقاربنا، أو أن يسمع محادثاتى التليفونية مع أهلى وأقربائى، كثير من الأمور خاصة جداً وإن كنت أعلن عن بعضها كيفما أريد، لكنى أفضل أن أحتفظ بتفاصيل حياتى وكأنها سر كبير غامض، هكذا أكون في راحة، تتكون غرفتى من سريرين صغيرين، ما بينهما من مساحة لا يسمح بوضع أي خزانة صغيرة، يقع الدولاب الصغير الحجم في الجهة المقابلة من السرير، أخترت السرير الذى يوجد بظهره مكتبة صغيرة ورف للنوم، لأنني سوف أحتاج المكتبة بديلاً عن الخزانة الصغيرة. الغرفة بها شباك يطل مباشرة على الشارع، أن يطل شباك غرفتك على الشارع الرئيسى بالدور الأرضى فإنه يجعل معيشتك سهلة وصعبة في آن واحد، الأصوات الخارجية تجلب الونس والدفء، لكنها تصعب الأمور عندما نريد القليل من الهدوء خاصة أثناء الامتحانات، أتذكر أول يوم لى أنا وياسمين في السكن، ذهبنا إلى محل لوصلات الدش في اول الشارع لعمل وصلة لنا، لكنه عندما علم أين نسكن رفض بشدة.
- أنتم ساكنين عند الزعنان ... صح ؟ معلش مفيش وصلات !
- ليه بس كده؟ هو مين الزعنان ده؟ إحنا عند الحجة سعاد.
- انتو منين ؟
أجابته ياسمين : من أسوان بس ساكنين هنا فى بيت طالبات عشان الجامعة.
أخذ صاحب المحل ينظر إلى فى حيرة وتمعن ثم قال وكأنه يتفحصنى.
- إزيك يا أبلة.
- الحمد لله كويسة !
- سبحان الله شكلك كويسة فعلا !
- مش فاهمة فى حاجة ولا إيه ؟
- سلامتك يا أبلة، طيب عموماً هعملكوا الوصلة بس مش عاوز وجع دماغ فى الفلوس الله يكرمكوا ؟ أنا راجل على باب الله.
- لا من الناحية دى ما تقلقش خالص.
أحضرنا بعض الطعام وذهبنا إلى البيت وفى إغفاءة قصيرة من تعب السفر، سمعنا صوتاً مدوياً لأمرأة تهين زوجها بأقبح الألفاظ، من هي؟ إنها زوجة شقيق «زعنان»، أكبر بلطجى وتاجر مخدرات فى قنا، القزم الذى لن تتخيل أنه المعلم الذى يفعل كل هذه الأفعال، إنه حقاً حى محترم كما رشحه صاحب الدكان، لكنى تجاهلت هذا الأحترام لسعادتى بما رأيته من حب ورعاية أصدقائى المشاركين سكنهن وحياتهن معى، عندما تتقاسم الحياة فى الغربة بعيداً عن بيتك وأهلك، فلابد أن تمنح نفسك شيئاً من الأمان وبعض الثقة فيمن حولك، لا يأتى هذا الإحساس عبثاً وإنما من تجارب ومواقف مختلفة لتثبت معدن الأشخاص كما كان يقول أبى رحمه الله.
أستقبلنا الصديقتان قرب فترة الأمتحانات، فقد انضما إلينا "هند" و "ليلى" فى الغرفة الثالثة الشاغرة متشاركين اياها، وهى الغرفة المجاورة لى.
"هند" من الأقصر، طويلة، سمراء، ممشوقة القوام، وعلى قدر كبير من الجمال، مزدوجة الشخصية مع أمور لا تحتمل الأزدواجية، مثل أمور الدين مثلاً، فهى تحرم وتحلل حسب أهوائها الشخصية. لهجتها الصعيدية الحادة جميلة، تتحدث بها معظم الوقت، إلا فى وجود أى كائن مذكر، يتلوى لسانها ناطقاً لهجة أخرى مصطنعة في ثوان معدودة، تفضل أرتداء العبايات أغلب الوقت. أما "ليلى" فهى من إدفو، سمراء، طويلة، عيناها واسعة تنظر إليك بحذر وغيرة متوارية، احيانا صارخة، تدرس بكلية تجارة، تتميز بخفة الدم ورجاحة العقل، بعيدة كل البعد عن التهور فى تصرفاتها، تظنها بخيلة ولكنها غالباً تقدر قيمة النقود وتحرص على صرفها في مكانها الصحيح.
ظلت الغرفة الرابعة مغلقة ولم نهتم للأمر، فلسنا فى حاجة إليها، يسود أوقاتنا سلام وود ومرح ومحبة حقيقية كأخوات أشقاء، إلى أن بدأت ليلى في الشكوى المتكررة من هند فى أيام متلاحقة متقاربة، وبات التوتر زائراً دائما، تظل هند مستيقظة طوال الليل تقرأ أو تصلى، ومؤخراً غلبت مكالمات الحب في الليل على القراءة والصلاة، فى حين تريد ليلى أن تنام، كانت تشكو فقدان السكينة والنوم العميق.
أرادت ليلى الإنتقال إلى غرفة ياسمين في البداية، لكن الأخيرة اعتذرت بلطف، حيث إنها أيضاً تستقبل العديد من المكالمات الخاصة، وأنه من الصعب عليها أن تجيب خارج غرفتها خاصة في برد الشتاء القارس.
بعدها جاءت ليلى آملة أن أوافق على طلبها بالنقل إلى غرفتى، فأعتذرت ايضاً، وخطرت لى فكرة تتيح الفرصة لحل مشكلة ليلى وهند، بل أى مشكلة أخرى سببها مشاركة الغرف، وتذكرت ما قاله "عماد" عن الغرفة الرابعة.
جمعتهن على الغداء وكان حديثي أشبه بالخطاب.
- شوفوا يا جماعة، دلوقتى طبيعى تكون كل واحدة فينا ليها طقوسها الخاصة، وإحنا لازم نفض أى خلاف مهما كان صغير فى بدايته علشان الموقف ميكبرش حفاظاً على اللى بيننا، ليلى مضايقة من هند عشان المواضيع اللى كلنا عارفينها بما فيهم إنتى يا هند.
نظرت هند في عدم اكتراث.
- عارفة يا مريم بس أنا مش شايفاها خلافات جامدة قوى يعنى، نقدر نحلها يا ليلى.
نظرت إليها ليلى وبدا أن رد هند قد استفزها، فأردفت بعصبية.
- لأ يا هند أنا قلتلك عاوزة أنام في مواقف كثير قوى، إنتى مش بتقدرى، أنا بشوف بصراحة إن ده عدم أحترام ليا.
أرادت ياسمين أن تهدى من ليلى فقاطعتها.
- بلاش نكبر المواضيع كده وكل حاجة ليها حل، قولى يا مريم بقى كان عندك حل أو فكرة، إيه بقى ؟
- هو إحنا ليه حابسين نفسنا في ثلاث أوض وهما أربعة؟
لمعت عين ليلى للحظات لكنها انطفأت من جديد وقالت.
- تقصدى نفتح الأوضة الرابعة ؟ هي فكرة، طب وافرضى صاحبة البيت عرفت ؟ وبعدين هقعد في أوضة لوحدى وأدفعلها نص أجرة إزاي ؟
- لأ، خلى الأوضة دى تحل المشكلة مؤقتاً لحد ما نشوف بس، يعنى اللى عايزة تعمل تليفون أو أى حاجة باليل تروح فيها علشان التانية تنام وطنط سعاد مش هاتقول حاجة يا بنات، حتى أبنها اللى قابلنى أول مرة قالى الشقة أربع أوض وقالى عادى ممكن نفتحها، إحنا هنضفها ونستخدمها بدل قفلتها دى والتراب، بالعكس دى هتنبسط، هى دى أول مرة نفتح فيها اوض مقفولة يا ياسمين ؟ فاكرة السنة اللى فاتت عملنا كده وأصحاب البيت انبسطوا قوى مننا.
- ايوه صحيح دي مش أول مرة، وممكن تكون الحجة سعاد مكسوفة مننا عشان الأوضة مش نضيفة ومكركبة، بس إحنا ننضفها وبعد كده نبقى نقولها لما ترجع من عند قرايبها اللى في الأقصر.
قالت هند في رفض واضح.
- وأفرضى الحاجات اللى بتقول عليها لقيتها ناقصة ؟ تقول إحنا اللي أخدناهم ؟ الأحسن هى تفتحها.
دافعت عن فكرتى قائلة.
- إحنا هنبقى نقولها فتحناها، وبعدين يا هند هو إحنا حرامية يعنى ؟ هشيلها الحاجات دى فى كرتونة على جنب ونحافظ عليها، ولما تيجى نقولها أو نديهالها.
- خلاص يبقى إنتى تعاملى فى الموضوع ده.
- تمام كده، فى حد عنده مانع ؟
بموافقة هند جاءت الموافقة بالإجماع من البنات.
- خلاص تمام، نفتحها بكرة إن شاء الله.
كانت ليلة هادئة، لم تشكو فيها ليلى أو تتذمر من هند، فما هى إلا ليلة واحدة تتحملها ثم تحل مشكلتها، مارست هند جميع طقوسها الليلية، مكالمات حب، صلاة، قراءة بصوت عالى دون مراعاة لليلى كالعادة.
جاء الصباح محملاً بالأمل في إنهاء أى خلاف حتى وإن بدا صغيراً، تناولنا الفطور بنهم وسط جو مرح مبهج، كنت على استعداد تام لحل مشكلة ليلى فقمت فى حماس.
- يالللا يا بنات نفتح الأوضة، هاتى سكينة يا هند.
قامت هند إلى المطبخ وقد علا صوتها.
- أكبر سكينة من المطبخ عدل إلى الأوضة المقفولة.
أستمرت محاولاتى العنيدة في فتح اللسان المعدنى المعشق داخل الحائط دون فائدة، مرت أكثر من ساعة، لابد أنه مغلق منذ فترة كبيرة، بعد محاولات عدة استنفذت طاقتى، نظرت إليهن مرهقة.
- أنا تعبت يا جماعة قوى، هدنة كده وأحاول تانى.
نظرت ليلى فى تحد.
- هاتى كده السكينة دى أنا هاحاول.
لم أستطع إعادة المحاولة لضيق الوقت، يجب أن أستعد للذهاب إلى الجامعة، أما ليلى فقد رفعت راية العند، قررت تجاهلهن لأسرق الوقت، دخلت غرفتى لأتجمل كعادتى قبل أختيار ملابسى، دائماً ما أهتم بالعيون وأحددها، العيون المكحلة جزء لا يتجزأ من موروثى الشعبى، أحب رسمة عين الجدات، اتقنها واتفنن فيها، كما أن الكحل الأسود يناسب لون عيناي العسلية، بل يعطينى الكثير من الجاذبية دون أن أطلبها، فتحت خزانتى لأرى ما سأرتديه وحدى، دون إبداء الآراء كطقس يومى معتاد، فجميعهم منشغلون بفتح الباب، دائماً ما أرى خزانتى فارغة وهي المملؤة عن آخرها بالملابس لهوسى بالموضة، من يجزم أن المحجبة لا ترتدى أخر صيحات الموضة؟ انا أفعل، حتى عندما يهمس شيطانى بأذنى "لا ترتدى هذا فأنت ممتلئة القوام" فإنى أطرده على الفور قائلة "قد أكون ممتلئة لكننى طويلة وهذا يعطينى ثقة"، أو حينما يريد أن يتسلى بى "لا ترتدى هذا فأنت خمرية اللون ولست بيضاء" ، فيكون ردى الأمثل "أحب لونى أكثر من أى شئ فى دنياى، وهكذاً أحب الموضة وأثق بنفسى.
أثناء أستعدادى ودخولى الحمام وخروجى منه عشرات المرات كالمعتاد، رأيتهن، يحاربون الباب فى شراسة، سيطر العند عليهن جميعاً، حتى أنهن لم يشعرن بمغادرتى.
هذه هى حواء منذ أن خلقها الله، إذا أرادت شيئاً بشدة فسوف تناضل من أجل الحصول عليه مهما كانت العواقب.
وأخيراً أرتديت ما أحب وذهبت إلى الجامعة، ونسيت الغرفة والباب إلى أن أنتهيت من جميع المحاضرات وعدت إلى المنزل.
وجدت البنات في إستقبالى، واقفات أمامى فى زهو مبتسمات، تملأ أرواحهن نشوة غريبة، يمسح ملامحهن بعض الإجهاد.
- فتحنا الباب.
قلنها وكأنهن فتحن عكة، غلبنى الفضول لأرى الغرفة المغلقة، سرت نحو الغرفة كى استطلع ما بها؟ لا شئ يبدو مختلفاً بها، الجدران بيضاء مثلها مثل باقى الشقة، شباك متوسط الحجم، كنبة مشابهة تماماً للكنبة التى فى غرفة الإستقبال، كرتونة احذية رجالى قديمة متهالكة، غسالة ملابس تحتضر منذ سنوات، كرتونة قديمة محكمة الإغلاق عليها بعض كتب القانون "يبدو انها كانت ملكاً لأبنها المحامى أثناء دراسته الجامعية"، وأخيراً صندوق خشبى متوسط الحجم قديم، أشبه بقطعة آثار مهملة، يحكم إغلاقه قفل كبير من الفضة، يحتاج مجهوداً ليعاد إلى صيغته الأولى، نقشت عليه جمل بخط قديم متداخل يصعب قراءته، من المؤكد أن هذا هو الشئ الثمين الخاص بالحجة سعاد التى تخشى فقدانه، أردفت مبتسمة.
- بجد .. برافو عليكم، فتحتوها أزاى ؟
- جبنا شاكوش ومسمار كبير وفضلنا ندقدق شوية، وبالسكينة شويتين.
هكذا شرحت ياسمين وأكملت هند بعدها.
- تعبنا قوى مش هتتخيلى، باب صعب قوى، تقولى حد مقرى عليه.
- طب الحمد لله إنه اتفتح فى الأخر، شكلكم كأنكم كنتوا في حرب يا بنات وأنتصرتم، نحتفل بقى.
شاركت البنات فى نضافة الغرفة بمساحيق النظافة ذات الرائحة النفاذة ، بعد أن أزلنا الكثير من الأتربة ، نظفت الصندوق الخشبى قدر الاستطاعة ، وأعطيته ركناً يصعب المرور به ، ثم نبهت البنات إلى عدم التعرض له، فبالإضافة إلى أنه من ممتلكات الحجة سعاد إلا أنه يبدو أثرياً وأنا أعرف قيمة كل ما هو قديم كما كان يعلمنى أبى، بلا شك قطعة ثمينة جداً، جلبنا الكنبة التوأم من غرفة الإستقبال حتى تأنس بأختها هنا ، فهذه الغرفة أدفأ كثيراً من باقى البيت، عندما نخبر الحجة سعاد بما فعلنا تستطيع أن تستفيد منها مثل باقى الغرف، سوف تكون مفاجأة رائعة، وسوف تسعد بنا بلا أدنى شك، لكنى أتمنى ألا تزيد الإيجار على هند أو ليلى ؟
مرت الأيام هادئة لطيفة وأطلقنا على الغرفة أسم "السنترال"، أصبحت هند وليلى وياسمين أيضاً يستقبلون فيها جميع مكالمتهم على حده، ثم أصبحناً جميعا نستقبل فيها صديقاتنا من الجامعة للمذاكرة أو الثرثرة أحياناً، هذه الغرفة لها روح مختلفة عن باقى الغرف، تدخلها فتستريح نفسك وتستجم، أم أنها لذة الممنوع مرغوب !
اختفت المشاكل وصمتت ليلى عن الشكوى، وعاد الهدوء من جديد إلينا جميعاً مستمتعين بأيام جميلة لن تنسى .
تعليقات
إرسال تعليق