( الحلقة/ 26) رغم حداثته إلا أنه ضمن وجهاء مكة !!
من كتاب الطريق الي النور للكاتب ا/محمد مصطفي **
وتنتقل حياة محمد الصغير من طور إلى آخر وهو فى كنف عمه أبو طالب، وفى كل طور منها يستوقفه درس قدرى ينطق برعاية السماء له، وإعداده أيما إعداد لما هو آت، فلما جاوز الخامسة عشر وجدناه فى صفوف المدافعين عن مكة من غارات الأعداء، ليكون الدرس الإلهى فى بدايته على خوص القتال، والذود عن المقدسات .. فقد بغت قبائل قيس عيلان ـ هوزان ـ على قريش فى الأشهر الحرم، واستنفر بنو هاشم قريشا ومن حالفهم من كنانة، استنفروهم لرد العدوان، وكانت العرب لا تقاتل فى تلك الأشهر، ولكن هوزان فجرت وطغت واضطرت قريش للدفاع فسميت ـ حرب الفُجار ـ فيها خرج الرسول صلى الله عليه وسلم مع أعمامه، يعاونهم فى صد السهام المتراشقة، ويناولهم النبل على حداثة سنه ، وقال صلوات ربى وسلامه عليه عن يوم الفجار ( كنت أنبِّل على أعمامى ) ومن من يومها تاقت نفسه لتعلم فنون الحرب من الكبار، وشرع فى تعلمها، وأولى هذا الجانب فى حياته اهتماماً كبيراً .
ولما بلغ سن العشرين، انتقل إلى درس لا يقل أهمية عن الدروس التى سبقته، والتى تعلمها فى مراحله المختلفة، والتى اختزن من ورائها عبراً عظيمة، فقد كان على رأس مؤسسى حلف النجدة والغوث، حلف نصرة الضعفاء ـ حلف الفضول ـ ذلك الذى قال عنه بعد البعثة ( لقد شهدت فى دار عبد الله بن جدعان، حلفا ما أحب أن لى به حُمر النعم، ولو دُعى به فى الإسلام لأجبت ) فكان من حسن إعداد الله له أن تحلى بالمروئة، والشجاعة، فكان لا يجالس إلا من تحلَّوا بالرأى والقول السديدين، ودأب على حضور مجالس التخاصم وفض النزاع بين الناس، وفى مرات عديدة أسدى برأيه وأصاب كبد الحقيقة ،وكيف لا، وقد تربى على بُسط جده عبد المطلب، تلك التى كانت ملاذاً للمتخاصمين والمتنازعين –
فكان أن حدث فى مكة حدثا، لو لم تتضافر قوى الخير للبت فيه لضاعت هيبة قريش ولحقها العار، ذلك أن رجلاً يمنيا يُدعى ـ الزبيدى ـ وكان تاجراً .. حمل بضائع من اليمن وابتاعها فى مكة ـ للعاص بن وائل ـ شريف من أشرافها، وانتظر الزبير يوما ويومين وثلاثة، أن يأتيه العاص بثمن ما أخذ من بضاعة – لم يأته العاص فذهب إليه، وكان فى العاص جشعا وحبا للمال، باع بضاعة الزبيدى وأخذ ثمنها وتلكأ فى إعطاء صاحب الحق حقه، فقال الزبيدى : يا ابن وائل أنا ضيفكم فى بلدكم هذا الآمن، ولا أحب أن يطول بى المقام فيها، وقد نفذ ما معى من مال، ردا عليّ أموالى التى عندك – قال العاص : أمهلنى أياماً أخرى أدبرها لك – قال الزبير : قد تركتك واللات أياما ثلاثة، وأخبرنى من لا يكذبنى أنك بعتها وأخذت ثمنها من هذا الرجل اليثربى الذى كان عندك بالأمس – قال العاص : ويحك يا رجل ؟ أتفتش ورائي وأنا من أنا ؟ إنك تحدث سيد من سادات مكة !! أغرب عن وجهى الساعة، وائتنى فى يوم آخر كى أدبر لك مالك – وغضب الزبيدى، واشتم رائحة التلاعب فقال : أراك تتوارى مني كلما دنوت من دارك لسؤالك عما هو عندك لى، ألا تريد أن تعطينى مالى ؟ ويثور العاص على الزبيدى ويصيح فيه : ويحك أيها اليمنى !! كيف باللات تجروء على محادثتى بمثل هذا ؟ أراك تدفعنى إلى مالا أحب ، أغرب عنى الساعة ، وافعل ما شئت ، ليس لك عندى شئ –
ويغرب عنه ولا يجد الزبيدى سبيلا أمامه إلا التوجه إلى ـ دار الندوة ـ ملتقى سادات قريش، يدخل عليهم والشر ملؤ عينيه، حانقاً ساخطاً على رجالات مكة مما وقع عليه من ظلم، وقص عليهم قصته، قال فى حدة : إن لم تنصرون فأنتم على رأيه، وتشاركونه البغى، واللات لأعيّرنكم فى العرب كلها، وأنشد قائلا فى صوت جهورى :
يا آلَ فهُرٍ لمظـــــــلومٍ بضاعتُه ببطنِ مكة نائى الــــدارِ والنفر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته يا للرجل وبين الحِجر والحجَر
إنّ الحرام لمن ماتتْ كرامـــته ولا حرامَ لثوبِ الفاجر الـــغدر
خافت قريش على سمعتها، أن تضيع بين الناس، وخافت على هيبتها، أن تزول بين العرب، وكيف يحدث هذا فى مكة، وهى بلد آمن، وأهله شرفاء سادة العرب ؟ وماذا لو تناثرت الأخبار عنها، أن قريشا جارت على غريب بيت الله الحرام ؟
فاجتمع نفر من ذوى الحلم والمروءة فى دار سيد من سادات مكة ـ عبد الله بن جدعان ـ وتحالفوا على رد المظالم، بدأ الأمر بثلاثة ( الفضل بن فضالة ، والفضل بن وداعة ، والفضل بن الحارث ) وإنها لمن عجائب الأقدار، أن ينطلق الحلف على أيدى هؤلاء الثلاثة الذين بدأت أسماءهم ـ بفضل ـ فسمى حلف الفضول، أقسم الثلاثة فضول على نصرة المظلوم، سواءً أكان من أم القرى أو ضيفا عليها أو غريبا نزلها ، وأخذوا العقود والعهود والأيمان المُغلّظة على ذلك، ثم دعوا أهل مكة للمشاركة فى الحلف –
فطاف صائح فى طرقات مكة ينادى : هلمُ إلى حلف عقده الفضول فى دار عبد الله بن جدعان، يا أهل مكة ضعوا أيديكم فى أيدى الفضول حتى لا تضيع هيبتكم بين العرب – وسمع الفتى الأمين محمد صلوات ربى وسلامه عليه ابن العشرين عاما داعى الصائح فهب ملبياً نداء النخوة والشرف والمروءة، وصار على طليعة المؤسسين، وانضوى أشراف قريش ووجهائها تحت لوائه، واجتمعوا فى أول تنفيذ لبنوده، فحملوا السيوف، وتوجهوا فى جمهرة غاضبة إلى دار العاص بن وائل الذى أثار بفعلته مع الزبيدى حفيظة قريش، ويرى العاص سادة قريش وقد احتشدوا أمام داره، وعلى رأسهم عبد الله بن جدعان والفضول الثلاثة ومحمد الأمين وبرفقتهم صاحب الحق المسلوب ( الزبيدى) قالوا : قد تحالفنا على رد المظالم ، وهذا أول العهد بحلفنا، فرد يا ابن وائل مظلمة الزبيدى وإلا قتلناك، فما نحب أن تُعيّرنا العرب أن شريفا منا جار على مال غريب فى مكة وناصرته قريش – ولم ير العاص بن وائل بداً من إعادة الحق إلى نصابه، فأدبر موليا ثم عاد إلى القوم ومعه أموال الزبيدى –
وبدخوله صلوات ربى وسلامه عليه حلف الفضول، ومشاركته أعيان قريش قضاياهم، تألقت مكانته فى قومه، وبرز على أقرائه بما اتسم به من صدق وأمانة وشجاعة وإقدام، وصار اسمه لصيق بمكارم الأخلاف، ولكنه مع ذلك كان يعتزل ما يعبده قومه، وعزف عن عادتهم السيئة، فلم يشرب الخمر، ولم يلعب الميسر، فلما أتم الخامسة والعشرين، وكان قد استوفى خصال الرجولة والحكمة، سمعت به ثرية من أثرياء قريش، ذات حسب ونسب، خبرت من أقاصيص القوم مدى أمانته وصدقه فتمنت أن تستعمله على مالها ( خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى ) فهى تشترك مع النبى فى الجد – قصى – ولم تكن أحوال محمد بعيدة عنها، فخديجة تدخل بيت أبى طالب وتسمع عن الفتى الكثير من (فاطمة بنت أسد) زوج أبى طالب وبنت عمها المقربة إلى قلبها، وكانت خديجة تعانى سوء معاملة التجار الذين يتحركون بمالها، ولاقت منهم الكثير، من هدر للأموال وعبث بها –
فقد وضعت خديجة نفسها فى هذا المعترك الصعب، حين عزفت عن الزواج، بعد وفاة زوجها، وأعرضت عن وجهاء مكة وأشرافها ممن كانوا يتمنونها زيجة لهم، فكان فيها ما هو للطمع، من مال وجمال، ونسب حسيب، بيد أنها صرفت همتها للتجارة ولم يعد فى ذهنها سوى البيع والشراء، فعمدت إلى تقسيم أموالها لتجار مكة، ولم تضع البيض فى سلة واحدة، فإذا كانت الخيانة من أحدهم نجت بقية مالها، ومع هذا الحرص كان يحدث مالا بد له أن يحدث من التجار، الذين لا همّ لهم سوى جلب المال ولو كان ذلك بالسرقة والتلاعب والخديعة أحياناً، هكذا كان الحال بين خديجة ومن تستعملهم على مالها، ولما استمر الأمر بها طويلا، تكابد أصحاب الذمم الخربة، ومسها الضر فى المال، راحت تبحث عمن تستأمنه، فوقع بصرها على الشاب الأمين محمد، وتمنت أن يقوم على مالها وتجارتها .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
**تكملة ( الحلقة/ 26) زواجه صلى الله عيه وسلم من خديجة !! **
أرسلت خديجة عبدها (ميسرة) يتقصى أخبار محمد صلوات ربي وسلامه عليه، وإن هى إلا جولة وعاد ميسرة، قال لخديجة : وجدته أءمن شباب بنى هاشم، وأرفعهم قدرا فى قومه، وليس بيده عمل من ماله إنما يستعمله بعضهم على عيره التى ترعى ببطحاء مكة – قالت خديجة : انظر لى أمره يا ميسرة فإن رأيت قبولا منه إذا جعلناه على مالنا ، فادعوه يحادثنى .
ويأتى الشاب محمد الأمين صلوات ربى وسلامه عليه ويقبل العرض، ذلك العرض الذى حوّله من تابع يعمل عند الناس، إلى تاجر يأخذ نصيباً على جهده، ويحزم محمد تجارته، ويصطحب ميسرة فى أول رحلة له إلى الشام متاجرا، وعادا هو وميسرة بربح وفير، لم تعهده خديجة قط من التجار الآخرين، أخذت ميسرة جانباً وسألته : ما هذا الربح الوفير خبرنى ماذا فعلتما لتأتيا لى بهذا الكسب العظيم الذى لم يأت به أحد قبله ؟ قال ميسرة : والله إنى رأيت العجب العجاب فى رحلتى تلك !! لا فى التجارة وحدها، وإنما فى أمور أخرى تبدت لى منه على طول الطريق !!
قالت خديجة والشوق يغمرها لسماع كل ما هو خير عن الفتى محمد : خبرنى ماذا رأيت ؟ إنى تواقة للسماع عنه ؟ قال ميسرة : منذ خرجنا من مكة وعلى طول سفرنا، تظلنا غمامة وقتنا الهاجرة، وإذا أناخ للراحة أخرج طعاما من جرابه ودعاني إليه، فكنت لا آكل إلا معه، على غير ما كان يفعل الآخرون بعبد مثلي، يجنبونه طعامهم، ولم ينهرني قط، ولم يدعني إلا باسمى ـ ميسرة ـ حتى أحسست فى صحبتى معه أننى لست عبداً، إنه لكريم الخلق، وديع النفس، هادئ الطبع، وما أدهشنى فى رحلتى تلك، ذلك اليوم الذى أنخنا فيه للراحة عند دير ـ بحيرى الراهب ـ الكائن فى طريق بُصرى الذى تمر منه القوافل المتجهة إلى الشام – وفى دهشة ولهفة معاً قالت خديجة : هل رأيت ما يريب هناك ؟ قال ميسرة متلهفا الكلام : رأيت ما ينبئ بأمر عظيم لمحمد هذا . قالت خديحة : وما ذاك ؟
قال ميسرة : هناك على مقربة من الدير شجرة، ما إن دنونا منها إلا واسترخى تحت ظلها محمد، وسرت أنا بعيدا عنه، أُنزل رحالنا، وأُعد طعامنا ، فرآنى راهب الدير وأشار إلىِّ بيده، فذهبت نحوه وسألنى : من أى البلاد أنتما ؟ قلت : من مكة . قال : وهذا الذى معك يجلس إلى الشجرة، عمه أبو طالب فتعجبت وقلت له : أو تعرفه ؟ قال الراهب : نعم أعرفه جيداً . ثم أشار إلي أن أنظر لمحمد وهو جالس وقال لي : انظر إليه وأطل النظر حتى يحدث ما سوف ترى . فنظرت إلى محمد ، وإذا بالشجره التى تظله تنحنى أغصانها عليه، وكأنها الستائر تسدل عليه إسدالا – قالت خديجة وقد مسها السهوم : انحنت أغصان الشجرة وأظلته ؟ قال ميسرة : قال لى الراهب : هذه الشجرة مر بها محمد وكان ابن الثانية عشرة مع عمه أبى طالب، وفعلت به كما فعلت اليوم، ويومها كان سلفى الراحل الراهب – بحيرى – راهبا على هذا الدير، وحدث أن كان نفر من اليهود أرادوا خطفه، فصرفهم بحيرى عنه وقال لعمه أبا طالب : عد بابن أخيك إلى مكة قبل أن يخطفه ، أو يقتله يهود .. ويستطرد ميسرة لخديجة، فقلت له : أيها الراهب لِمَ يقتلونه ؟ قال فى خشوع : هذا الذى صحبته نبى آخر الزمان، أما وجدت علامة فى سيرك معه تنبئك بذلك ؟ قلت له : وجدت واللات على طول مسيرنا غمامة تظلنا، وعجبت كثيراً لأمرها – قال لى الراهب : فاسهر على سيدك وكن على صراطه، فو الله إنه قادم لنا بأمر السماء .. فقلت له : من أنت أيها الراهب حتى تعلم ما تعلم – قال فى هدوء : أنا نسطورا الراهب، وما انتظارنا هنا، إلا لمبعث سيدك هذا ، ولئن أدركنا وحى السماء الهابط إليه، لنكونن من أتباعه .. وتلتقط خديجة أنفاسها، فما أعجب هذا الحديث الذى حكاه ميسرة وتقول فى صوت خافت : وحى السماء وراء محمد فتى بنى هاشم ، كل هذا ؟ ما أوقره وما أعظمه !!
وانتقل ميسرة فى حديثه مع خديجة على محطة أخرى، رأى فيها من شيم الرجال ما رأى فقال : ولما نزلنا الشام، باع كل ما حملناه من مكة، واجتمع إليه الناس بعد إعراضهم عن غيره، لطيب خلقه، وسماحته فى البيع، وتساهله مع فقيرهم، بل إنهم واعدوه بحمل كل ما يأتى به فى المرات القادمة من بضاعة، ولما تجمع له المال، اشترى من أسواق الشام ما يصلح بيعه فى مكة، فلما وصلنا مشارفها ابتاع بضائع الشام التى قفلنا بها، فربحنا مرتين، فى تجارتنا التى خرجنا بها من مكة، وفى تجارة الشام التى ابتعناها لقومنا –
قالت خديجة : قد أرحتنى يا ميسرة بحديثك هذا، وأنزلت على قلبى سكينة بما قلت إنك رأيته، وإنه ليس ببعيد ولا بمستغرب على محمد ما حدَّثت وما رأيته حدث –
ولم تحتمل نفس خديجة كتمان ما سمعت من ميسرة، انطلقت إلى ابن عمها ( ورقة بن نوفل ) وكان قد تنصر على دين المسيح، وعنده علم بتلك الأمور التى تجهلها خديجة كما يجهلها عبدها ميسرة، وذكرت له ما دار بين ـ نسطورا ـ الراهب وغلامها ميسرة، كما لم تنس ذكر الغمامة التى أظلتهما فى الرحلة، قال لها ورقة بن نوفل : لئن كان هذا حقا يا بنت خويلد، فإن محمدا لنبى هذه الأمة، فقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبى منتظر هذا زمانه –
ومرت الأيام ومحمد يتاجر بأموال خديجة كلها، بعد أن كانت تستعمله على بعضها، ويوما بعد يوم يزداد إعجابها بمحمد، وأكنت فى نفسها رغبة ألحت عليها، فلم تصمد طويلا أمامها ، بعد أن كبتت تلك المشاعر فى قلبها، لكن القدر يجدد لخديجة بنت الأربعين التى مات لها زوجين الحاجة لزوج يعينها على مشاق الحياة، ويبعث الأمل فيها، وتمنت أن تحيا فى ظل رجل يتسم بجميل الصفات وأعلاها، ويفجر مجيء محمد فى نفسها بركانا لم تستطع إخماد جذوته، ويدفعها الأمل مع التمنى إلى اللجوء لصديقة حميمة لها تطلعها على كوامن سرها – نفيسة بنت مُنية – قالت لها : استعلمت محمدا فى تجارتى ليس فقط لأمانته وصدقه ويُمن طالعه وبراعته فى التجارة، ولكن لأنى كنت أرصده على أمل أن ألفت أنظاره إلىِّ، ولكنه كما عرفت الدنيا، كان أبداً الشريف العفيف الذى لا يثبت بصره فى وجه امرأة إلا ليعرف محدثته، ثم لا يعيد النظرة إلى وجهها حتى تنتهى المقابلة .
وكانت نفيسة تلحظ على خديجة ما تفشيه لأول مرة، كانت فى داخلها تدرك بحس المرأة ما يخالج خديجة من شعور تجاه محمد، فهى صديقتها الحميمة، ومنذ أن استعملت محمداً على مالها ولا تكف عن ذكره، والحديث عنه أمام نفيسة، فقالت نفيسة بنت مُنية : حتى متى ؟ إن حامل الحب يابنت خويلد كحامل المسك، وإنك لتميلي لابن الذبيح ميلاً يعرفه خدمك، ومن يعملون فى تجارتك معه – قالت خديجة : لا أعرف كيف أخفى ما بى، كلما جاء محمد يكلمنى فى أمر التجارة يا نفيسة – وتقطّع الكلام منها ولم تقو على البوح بأكثر من هذا، وبرح الخفاء لصديقتها نفيسة التى قالت لها : فما يمنعك من أن تعرضى نفسك عليه ؟ قالت خديجة : وددت أنى أسطيع، ولكن الحياء يصدنى عن ذلك – قالت نفيسة : فأنا أكفيكِ إن شئت – قالت خديجة : لك ذلك – ولولا مكانة نفيسة وقربها من خديجة ما فوضتها فى ذلك –
وذهبت نفيسة بنت مُنية إلى محمد، وساقت إليه الدعوة بشيء من اللين، كى تعرف قدر ميله إلى خديجة، وظلت تحاوره وتدور به فى كلام لا يخرج عما جاءت من أجله، وبذكائه المعهود عنه أدرك مسعاها، وعلت ثغره ابتسامة وادعة –
فقالت نفيسة : يا محمد لم لا تتزوج ؟ قال : من قلة ذات اليد، لو عندى مال لتزوجت – قالت نفيسة : وإن دُعيت يا محمد إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة والحسب – قال : مَنْ ؟ - قالت : خديجة بنت خويلد – قال : ومن ليّ بخديجة قالت : أنا لك بها – قال : نعم .
**ووفقت نفيسة بنت منية فيما نُدبت له، وتقرر يوم العرس، وجاء محمد وأعمامه ( أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، والزبير ، وصديقاه أبو بكر ، وعمار بن ياسر ) ودخلوا على عم خديجة ( عمرو بن أسد ) وكان معه ابن عم خديجة ( ورقة بن نوفل وابن اختها حكيم بن حزام ) وكعادة القرشيين، أخذ أكبر أفراد أسرة العريس فى الكلام، وقف أبو طالب والبش يتفصد من جبينه وقال : الحمد الله الذى جعلنا من ذرية إبراهيم ، وزرع إسماعيل ، وعنصر معد ومُضر ، وجعلنا حضنة بيته ، وسواس حرمه – **
ثم إن ابن أخى هذا ومحمد بن عبد الله لا يوزن به رجل إلا رجح به شرفا ، ونبلا ، وفضلا ، وعقلا . ولئن كان فى المال قل ، فإن المال ظل زائل ، وأمر حائل ، وعارية مسترجعة ، وقد خطب إليكم رغبة فى كريمتكم خديجة ، وقد بذل لها من الصداق ما عاجله وآجله اثنتا عشرة أوقية –
وجاء دور أكبر أفراد أسرة العروس ( عمرو بن أسد ) عم خديجة قال : لا فض فوك يا أبا طالب ، إن محمدا والله كما ذكرت ، ثم وجه الحديث لمن هو أفصح منه بيانا ، فأشار إلى ابن أخيه ( ورقة بن نوفل ) وقال : تكلم يا ورقة عن بنى أسد ، فإنك تُحسن الكلام – فقال ورقة : الحمد لله الذى جعلنا كما ذكرت يا أبا طالب ، وفضلنا على ما عددت ، فنحن سادة العرب وقادتها ، وأنتم أهل ذلك كله ، لا ينكر العرب فضلكم ، ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم ورغبتنا فى الاتصال بحبكم وشرفكم ، فاشهدوا يا معشر قريش أني زوجت ابنة عمى خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله – وقام عمرو بن أسد وقال : يا نساء بنى أسد ، اضربن الدفوف لعرس خير رجال العرب وخير نسائها –
وقام أبو طالب وقال : يا محمد قم فانحر ما جئت به من جزور ، واطعم الناس ثم قال : الحمد لله الذى أذهب عنا الكرب ، ودفع عنا الغيوم .
وبزواجه هذا انتقلت حياته نقلة نوعية فى العمل، فبعد أن كان يتاجر بأموالها مقابل نسبة من الربح، صار القرار فيها له، واستثمر كل خبرته فى التجارة وإدارة المال من مكانه، فما عاد يسافر كما كان يفعل، وقيضت له الأقدار تلك المحطة فى حياته لينتقل من حياة الفقر إلى حياة اليسر التى مهدتها له خديجة ، بعد أن أخضعت كل ما تملك لتصرفه، وكان جديرا بهذا .
وشرفت خديجة بزواجها من محمد، وساقت العناية الإلهية خديجة لمحمد لحكمة تعددت جوانبها – ففى كبرها عنه تعويضا لحنان الأم الذى افتقده صغيرا، وفى مالها عوضته معونة الأب لابنه فى مواجهة أعباء الحياة، وفى حسبها زادته شرفا على شرفه – وفى حبها له كانت أول من آمن به وصدقه. وفى وفائها وإخلاصها كان الملاذ الآمن حين الخطوب والنوازل .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تعليقات
إرسال تعليق