الطريق الي النور
اللي مش متابع حلقات السيره فايته كتير
ناقصنا ناس كتيره مفتقدين كتاباتها يا جماعه والله
مش عارف هما نايمين ليه
او حد مزعلهم واحنا اللي نايمين
ان شاء الله نرجع نشوف الناس الي كانت متألقه زي الاول
كلهم عارفين نفسهم وكلنا عارفينهم🌹🌹🌹الحلقه العاشره والحاديه عشر
* **الحلقة العاشرة: قُصَىّ (400 ـ 480م ) ينتزع مكة من يد خُزاعة
من كتاب الطريق الي النور للكاتب الكبير ا/ محمد مصطفي
استبدت خزاعة بأمر مكة، واستأثرت بشؤون بيت الله عنوة، ودانت لها أم القرى، فعثت فيها فساداً وإفساداً وشوهت معالم ما تبقى من دين إبراهيم الحنيف، وانزوى بنو إسماعيل أشتاتا متفرقة بين أحياء مكة وشعابها . هم وأخوالهم الجراهمة الذين آثر بعضهم المكوث حول البيت الحرام، مستخفين بعد هزيمتهم الماحقة من خزاعة .
ظلت خزاعة كاتمة على أنفاس الجميع خمسمائة عام أو يزيد، لا تسمح ببروز أحد من أصل غير خزاعى ، حتى ساق القدر لهذا المكان الطاهر، من يرفع عنه الكرب، ويزيح غمته التى لحقت بأهل البيت العتيق على مر السنين (قُصَىّ بن كِلاب) من نسل بنى إسماعيل حماة البيت وسدنته، وأصل بطون هذه البقعة الطاهرة .
شب قُصَىّ لأم عربية سليلة نسبٍ عريق فى قريش ـ فاطمة بنت سعد بن سهل ـ تزوجت من (كِلاب) فأنجبت له ولدان ( زُهْر ، وقُصَيّاً ) وداهم المرض ـ كلاباً ـ فما لبث طويلاً، وافته المنية وكان قُصَىّ طفلاً فى المهد، فتزوجت أم قُصَىّ ( فاطمة بنت سعد ) من (ربيعة بن حرام ) فرحل بها للشام، وهناك أنجبت أم قصى طفلاً أسمته ( درّاجاً ) ترعرع بجوار أخيه قصى، وكبر قصى وهو لا يعرف أباً غير ربيعة، فإذا ما وقع من قصىّ ما يزعج أهل أبيه عيَّروه بيتمه وبحمله اسم ( ربيعة ) وهو ليس من صلبه، حتى إذا كانت مرة من تلك المرات ، شكا فيها قُصَىّ ما يلاقيه من تعيير الناس له، قالت له أمه : يا بنىّ إنك والله لأكرم منهم أباً، أنت ابن ( كِلاب بن مُرَّة ) وقومك بمكة سادة العرب وسدنة البيت الحرام .
فأثرت تلك الكلمات عليه، وكانت هى مَنْ دفعت ( قصياً ) للرحيل مع خاله إلى مكة، وفيها يشتد عود قصى، ويكبر وتكبر معه خصال الشرف والمروءة، فصارت له مكانة عظيمة فى المجتمع المكى، ارتقى إليها عبر التجارة والربح الوفير، وذاع صيته بين الناس، وبوأته مكانته العالية مصاهرة سيد مكة (حُلَيْل بن حُبْشِيَّة ـ وزعيم خزاعة ) فرفع هذا من شأنه فوق القدر الذى هو عليه، وكان مفتاح البيت مع حليل سيد خزاعة .
وتمر الأعوام ولا يفرق الناس فى المكانة بين حليل وبين قصى بن كلاب، حتى إذا بدأ السن يتقدم
(بحليل بن حبشية ) ويحس دنو أجله ، ترك مفتاح البيت لابنته ( حُبّى ) زوج قصى، وبدوره كان قصى يقوم بمهام فتح البيت واستقبال الحجيج، ومع الأيام صار مفتاح البيت بيد ـ قصى بن كلاب ـ .
ولم يدم هذا الأمر طويلاً حتى مات حليل بن حبشية سيد خزاعة، وترك خلفه نزاعاً حول من يلى بعده شئون البيت من ـ رفادة وسقاية وحجامة ـ فكانت تلك هى فرصة قصى ليعيد مكانة أجداده .
برز قصى بن كلاب على الناس ونادى بأعلى صوته : يا معشر العرب من اليوم عاد كل شيء إلى ما كان لنا فى الماضى، وانتهز قصى انشغال خزاعة بتشرذمها وتشتت أمرها، ونزاعها فيما بينها فى الوقت الذى استطاع هو أن يلملم بيوتات بنى إسماعيل ويوحد صفهم، فزاد هذا من قدره ونزلت الناس فى مكة لرأيه على ما هو عليه من ثراء جمعه من قوافله التى تجوب الشمال والجنوب، فجمع بين يديه المال والسلطان، ولم يبق أمامه إلا تتويج ذلك بشرعية ينتزعها من خزاعة، ويقرها المكيون .
لكن خزاعة أبت ذلك ولم تقر له بأمر السيادة، ولن يكون الأمر سهلاً كما ظن ـ قصى ـ فهم مكثوا خمسمائة عام يحكمون مكة، فهل يقبل القوم التنازل عن سيادتهم لمن كانوا تابعين لهم بهذه السهولة ؟ فحشدت خزاعة رجالها واستنفرتهم بعد أن فضوا نزاعات ما بينهم أو أرجأوها .
وتنقض خزاعة على أتباع قصى بن كلاب ومن وقف خلفه، آملة فى أخذ مفتاح البيت وطرده خارج مكة كلها، ولم يمهلهم (قصى) الذى كان قد أعد للأمر عدته، حين أرسل إلى أخٍ ثان له من أمه ( رازح بن ربيعة ) سيد بنى كنانة طالبا منه النصرة والعون، وما إن وصل الخبر ( لرازح ) إلا واستنفر أخوته من غير أمه (حن بن ربيعة، ومحمود بن ربيعة ) أسياد قضاعة، جاءوا وأخوالهم من حول مكة، والتفوا حول قصى فى محنته تلك أمام خزاعة .
ودارت الحرب حامية الوطيس بين الحيين، وتساقطت قتلى لا حصر لها فى الجانبين ،واستعرت رحى الحرب حامية، وعلت وتيرة خسائرها حدا فاق تصور المتصارعين فى ساحة الوغى، وما زالوا هكذا حتى صاح حكيم مكة وشيخها المسن (يعمر بن عوف) ذلك الرجل الذى يوقره الجميع حول البيت، وينزل لرأيه ، لرجاحة عقله وحيدته ونزاهته المعهودة فى فض المنازعات بين الناس، بالإنصاف والتآخى، صاح (يعمر بن عوف) : يا أهل مكة يا من ينتظر الناس منكم حماية البيت وصيانة حرمته، كفوا عن الاقتتال وإراقة الدماء فيما لا طائل من ورائه سوى هلاك الجميع ـ وراح يرددها أكثر من مرة ـ حتى تسامع المتقاتلون بها ، وخلف الشيخ يردد مرافقوه كلمات التهدئة تلك : أوقفوا القتال ، ها هو شيخكم يدعوكم للاحتكام . فما إن بدأت تلك الصيحات الخافتة تشق طريقها عبر أصوات قرع السيوف، ورشق الرماح، إلا وراحت وتيرة القتال فى الانخفاض رويداً رويدا، وبدا واضحا أن الحرب أنهكت الطرفين، وصارا على قناعة بعدم جدواها وبالاحتكام حقناً للدماء .
وقبل الفريقان الاحتكام، وأخذا العهود والأيمان المغلّظة، على أن ما يحكم به شيخ مكة ـ يعمر بن عوف ـ يسرى على الجميع، وجلس الطرفان فى ساعة احتكام للعقل، وتكلم قصى وقال : هذا ملك آبائى وأجدادى .. إسماعيل جدى، وهو أول من سكن مكة، وبئر زمزم حفرت له، وخزاعة مغتصبون، وهذه الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل .
ولما تكلمت خزاعة لم تجد عندها حجة، سوى أنها تتولى شئون البيت، وتقوم عليه منذ أمد، حجتها الأمر الواقع ـ ولما انتهيا من حديثهما ـ قال حكيم مكة يعمر بن عوف : كل شئ لقصى بن كلاب ـ الرفادة ، والسقاية ، والحجابة ، والكسوة ، والندوة والملك ـ كل شئ لقصى بن كلاب . وينزل الخصمان لحكم يعمر، فهما قد أقسما أمام البيت الحرام، وحلفا الأيمان المغلّظة، ورجعت السيادة على مكة بعد طول غياب إلى أبناء إسماعيل، وتجمع شرف العرب فى يد قصى، وصار سيد مكة بلا منازع، فحث قريشا على إكرام زائر البيت، وإطعام ذوى الحاجة منهم فيما يعرف ـ بالرفادة ـ وكانت الرفادة خرجاً تخرجه قريش فى كل موسم من أموالها إلى قصى بن كلاب، فيصنع به طعاما للحاج، فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد، وذلك أن قصياً فرضه على قريش بيته ، وأهل الحرم ، وإن الحجيج ضيف الله وزوار بيته ، وهم أحق الضيف بالإكرام، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج ، حتى يصدروا عنكم .
وفعلت قريش ما أمر به قصى، فكانوا يُخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجاً، فيدفعونه إليه، فيصنعه طعاما للناس أيام الحج . ثم أقام قصى بن كلاب دار الندوة ، وجعلها مقراً للتشاور ، ومركزاً لأخذ القرارات الهامة ، تلك التى أسمتها قريش – مجمعاً – لما جمع من أمرها ، وتيمنت الناس وتبركت بكل أمر يتم فى هذا المجمع – دار الندوة – فما تنكح امرأة، ولا يتزوج رجل من قريش، وما يتشاورون فى أمر نزل بهم ، ولا يعقد لواء لحرب قوم من غيرهم إلا فى هذا الدار ـ وجعل قصى بن كلاب بابها إلى مسجد الكعبة ـ
أصبح جماع أمر مكة فى يد قصى، فكان يقوم على سقاية الحجيج بنفسه، وذلك من أشق مهام البيت ، فكانوا يأتون بالماء من خارج مكة، ويلحون فى الدعاء أمام البيت ـ أن يهديهم الله إلى مكان بئر زمزم الذى طمره الجراهمة، واخفوا معالمه ـ وكان قصى يشرف بنفسه على أطعام الحجيج حول البيت .
لقد هيأ الله لهذا الحرم الآمن تلك الأسباب، التى جعلت العرب تتقاتل لنيل شرف خدمته، والإنفاق عليه ، فتبارى العرب على هذا الشرف، هكذا ألقى الله فى روعهم أيام جاهليتهم، تقديس بيته، وصيانة حرمته، وإكرام ضيفه، حتى يتحقق وعده فى بعث خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم ليعيد للحرم الآمن مكانته الحقة ، ليست فقط فى نفوس أهل مكة ومن حولها، بل فى نفوس البشر جميعاً ،وإلى قيام الساعة .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
الحلقة ( 11 ) : العثور على بئر زمزم بعد طمره 400 عام !!
من كتاب الطريق الي النور للكاتب الكبير ا/ محمد مصطفي
ويمر الزمن بقُصَىّ، وينال منه الدهر، ويستشعر دنو الأجل، وينظر إلى أولاده من حوله، وأيهم هو من يكون الأصلح لاستخلافه ؟ ، فيرى قُصَىّ أن أبناءه (عبد مناف ، وعبد العزى، وعبد) الثلاثة شرفوا أمامه، وصاروا كبراء قوم بحزمهم ووقارهم داخل مكة، وكلما نظر قصى إلى أكبر أبنائه ويرى حاله من التردى والسوء، ازداد حزنه عليه، ويحز أمره المتردي فى نفسه، فلم يشرف ( عبد الدار ) كما هو حال إخوته فى قومه، فقد كان خشن الطبع، جاف اللسان، غير عابيء بمشاكل الناس وأمورهم، يعيش وحده ولا يجالس حكماء مكة، ولا يملك من حلو الحديث ما يجارى به حتى عوام الناس .. فصار فى درب من التخلف أحزن والده أشد الحزن، خاصة وأنه أكبر أبنائه، وكلما رأى قصى فى أيامه الأخيرة الناس تطرق باب ولده ـ عبد مناف ـ قال فى نفسه : أما كان عبد الدار أولي بتلك المكانه فهو الأكبر ؟
فما زال أمر قصى فى هذا الألم على ابنه الأكبر، حتى إذا كان يوم عزم فيه أن يرفع مكانته بين إخوته، ويجعل كلمته على قومه تعلو ما سواها، فإذا أعطاه مفتاح الكعبة وترك السقاية والرفادة فى يده، ليلزمن هذا الأمر الناس على إكباره، وتوقيره فيصير كإخوته فى الشرف .
فاستدعاه قصى وقال له : يا عبد الدار . أما والله يا بني لألحقنك بالقوم، وإن كانوا قد شرفوا عليك، لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له، ولا يعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت بيدك، ولا يشرب أحد بمكة إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاما إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمراً من أمورها إلا فى دارك . فأعطاه ( دار الندوة ) وأعطاه الحجابة، واللواء، والسقاية، والرفادة ـ ونزل باقى الإخوة على ما أقر به والدهم ـ قصى ـ وقبلوا الأمر عن رضا، ما دام هو فى النهاية لم يخرج من أبناء قصى ـ
وتمر الأيام، ويموت قصى، ويستمر جماع الأمر فى يد عبد الدار، الأخ الأكبر، ولا يمر عام على موت الأب ويلحق به ( عبد الدار ) ويترك أبناءه خلفه بعد وفاته فى نزاع مع أعمامهم، ويتدخل الوسطاء لإعادة الحق لأصحابه، ويرفض ( أبناء عبد الدار ) ترك السيادة التى تركها لهم أبوهم، ويذهب إليهم عمهم الأكبر عبد مناف ويقول لهم : إنكم والله تخلطون الحق بالباطل، وما تدرون مقصد جدكم قصى حين جعل أمر البيت لأبيكم عبد الدار، فو الله لولا أنه تخلف عنا وقد أحزن أبانا ترديه بين القوم، ما جعل له من هذا الأمر شيئاً، لقد أراد جدكم ـ قصى ـ أن يرفعه بذلك حتى يتساوى معنا فى الشرف، وها قد مات أبوكم، فليرجعن هذا الأمر إلى نصابه، فليس هناك من هو أولى منى مقاماً فى ذلك ـ وركب العناد أبناء عبد الدار، وتحالفت معهم ( بنو مخزوم ، وبنو سهم ، وبنو جمح ، وبنو عدى ) وأصر عبد مناف وتحالفت معه من قبائل قريش (بنو أسد ، وبنو زهرة ، وبنو تميم ، وبنو الحارث بن فهر ) حتى إذا بلغ الأمر حد الاقتتال ـ اقتتال على الشرف، اقتتال على من يكرم ضيف الله، دخل المصلحون وحقنوا الدماء على أن يتقاسم المتخاصمان المهام ـ
قبلا الطرفان ذلك، فأخذ عبد مناف ( السقاية ، والرفادة ) وأخذ أبناء عبد الدار (الحجابة ، واللواء ، والندوة)
رضى عبد مناف بهذا الشرف العظيم ( السقاية، والرفادة ـ أى إطعام الحجيج ) وأى شرف هذا، وتمر الأعوام، ويؤل الأمر بعد وفاة عبد مناف إلى أبنائه ( هاشم ، وعبد شمس ، والمطلب ، ونوفل ) وتمضى السنون وتنتقل سقاية الحجيج ورفادتهم إلى ( شيبة ) الذى أطلق عليه (عبد المطلب) ابن هاشم أكبر أبناء عبد مناف .
وكم كانت هى المعاناة فى أمر السقاية، فقد عانت مكة وقاس حجيجها الأمرين جراء ندرة الماء حول الكعبة، فالآبار التى يقصدها القوم، لا تسد حاجة الناس من الماء، فما تبقى من تلك الآبار نضب ماؤه، أو أوشك على النفاذ، وفى جلب الماء منه مشقة عظيمة لبعده عن الكعبة، وعمق قعره، وبدأت الحاجة تلح لكشف مكان بئر زمزم الذى طمره الجراهمة وأخفوه عن الناس، لم يفكر القرشيون قط من أبناء إسماعيل فى البحث عنه، ولا حتى على سبيل المحاولة، فالبحث عنه فى ذلك الزمان ضرب من الجنون .
فأين هو من تلك الأرض المتسعة حول مكة ؟ وأين هو من تلك الأرض التى يسير عليها الناس وهو تحت أقدامهم ولا يدرون مكانه ؟ بل إن الكثيرين منهم لا يعرفون من أخباره شيئاً، وبعضهم يعتبر الحديث عنه من باب الأساطير التى تُحكى على سبيل التسلية، أكثر من ربعمائة عام مر على طمر الجراهمة له لمّا هزمتهم خزاعة، يوم أرادوا قطع الحياة على خزاعة نكاية وانتقاما، ومن لديه أثر من علم الأولين فلا يخطر على باله أنه حتى ولو عثر عليه، ما يدريه لعل ماءه قد نضب كغيره من الآبار ؟
ولكن إرادة الله تأبى إلا أن يبعث إلى الوجود هذا البئر، الذى حفر لإسماعيل وأمه، وجعله الله ملازمًا لبيته الحرام مدى الدهر .
وتصطفى العناية الإلهية شخصاً بعينه، وتنتدبه دون سواه من بنى هاشم أحفاد إسماعيل لتلك المهمة الجليلة، التى نرى فيها الإعجاز الإلهى فى أجلى صوره .
ذاك الذى حدث لعبد المطلب ـ شيبة ـ جد رسولنا الأمين محمد صلى الله عليه وسلم .. فساق الله لعبد المطلب الإشارات النورانية، ترشده إلى مكان البئر المبارك الذى بظهوره غيَّر حياة العرب فى مكة، وحوَّل السقاية من عسر إلى يسر يسير، بعد أن فاض الماء على الحجيج وعمَّار البيت، فكان رمزاً للرحمة المهداة فى تلك البقعة الطاهرة .
كان عبد المطلب رجلا فى قوة الشباب وعنفوانه، يعابثه وتضاحكه غوانى مكة، وصاحبات الرايات الحمر فيها، وتتمنى أشرف قبائل العرب، وانبّل بطون قريش أن يصهر إليها، ولكنه كان يحب ( سمراء زوجته ) سليلة ـ حليل بن حبشية ـ جد خزاعة، وكان لا يريد أن يفجعها بالضرة رغم شوقه إلى الولد، فلم تنجب له ( سمراء ) سوى ولد واحد هو ( الحارث) وكانت سمراء تكبر فيه هذا، وتحفظه له، وتتفانى فى سبيله .. وفى إحدى الليالى همَّ عبد المطلب من نومه فجأة، فزعاً بعدما رأى فى منامه ما هاله، وأيقظه من سبُاته، ولم يُطق معاودة النوم، ولا المكوث فى الدار، أحس بأن أنفاسه تخرج عصيبة من صدره، وغالبته الرغبة فى الخروج إلى حيث الهواء الطلق، والسير قدر ما يسعه ذلك ليخلص من حالته تلك، وتحركت قدماه تجاه باب الدار متثاقلتين، يتخبط جنباته، ومخلفا ضجيجا وسط السكون المحيط بكل شيء، ووسط العتمة، يُمسك برباط الباب ويجذبه إليه، فاندفع نور القمر الساطع داخل عمق الدار، وخرج عبد المطلب بعد أن أغلق الباب خلفه .
استيقظت سمراء على صوت الباب، فنظرت بجوارها فلم تجد زوجها، فى هذه الليلة أحست سمراء بأن هناك شيئاً غريباً يحدث لعبد المطلب، رغم أنها اعتادت رؤيته خارج البيت فى مثل هذه الساعة، التى يحب فيها عبد المطلب الطواف بالكعبة وهى خالية من الناس، ولكن فى هذا اليوم بالذات خالجها شعور بأن عبد المطلب لم يخرج لفعل ذلك، إنما الذى أيقظه شيء غير ذلك .
همت مسرعة لتلحق به، وراحت تقتفى أثره حتى أدركته على بعد خطوات، يمشى أمامها ببطء، وكأن شيئاً من فكر وهمٍ قد ألم به، وما إن وصل عبد المطلب إلى جانب الكعبة حتى أحس بوقع أقدام سمراء خلفه فقال لها : لِمَ تتركين الفراش فى هذه الساعة المنكرة ؟ قالت : أيقظنى صوت الباب، ووجدتنى قلقه عليك، فانطلقت لأطمئن عليك، ذلك أننى أحس منك هذه الأيام ما لم أعهده عنك، قال عبد المطلب بعد أن أطال النظر فى الكعبة، وحولها الأصنام تقف وسط هذا السكون، شاهدًا حيًا على تخلف عقول قومه .. قال : نعم يا سمراء، ينتابنى هذه الأيام حالات لم أعهدها فى نفسى، يسبح فيها ذهنى إلى آفاق بعيدة، قالت سمراء : وما سبب ذلك ؟
قال عبد المطلب : تلك الرؤيا التى أراها وتتكرر، اسمع فيها صوتا حانيا هادئا، يُصدر إلىَّ بعبارات لم أسمعها من قبل، وما يحيرنى أنها تترك فى نفسى صدى يلازمنى طوال اليوم !! قالت سمراء : لعل هذا يا عبد المطلب طائف من الجن، وإن للجن علامات لا تخفى على رجل مثلك يبحث فى الأديان . قال عبد المطلب : لا والله يا سمراء، ما هى بالذى تقولين، إنها رؤية ، جاءنى فى المرة الأولى رجل يهمس إلىَّ فى صوت وديع « احفر برة » فإذا سألته « ما برة ؟ » ذهب عنى وتركنى أصول وأجول فيما لا يعيننى على فَهم ذلك القول، حتى إذا أتانى فى نومى مرة أخرى .. هو .. هو .. نفس الصوت الرقيق الحانى فيقول « احفر طيبة » لم أسأله فى تلك المرة ما طيبة، ولكن سألته ـ أين طيبة ؟ فذهب عنى، ويتركنى كما فعلت فى المرة الأولى، ويظل بى الفكر والشرود حتى بدت حالتى كما ترين، ولما جاءنى الليلة لم استطع مواصلة النوم، وما أدهشنى يا سمراء أن الطائف الذى يأتى فى المنام فى هذه الليلة أكمل معى الحوار أثناء يقظتى، سمعته الليلة يهامسنى بعد أن نهضت من نومى ( احفر زمزم ) فسألته المرة وما زمزم ؟ وأين هى ؟ أبئر أم ماذا ؟ قال ( زمزم لا يفرغ ماؤها ، ولا يُلحق قعرُها ، تسقى الحجيج الأعظم ، وهى بين الفرث والدم ، عند نقرة الغراب الأعصم ، عند قرية النمل ) انتاب سمراء وجوم ودهشة بسماع هذه العبارات التى توحى بأنها تحمل بين طياتها أمراً جليلاً ، لكن يقف فهمها عند تحديده ، كما هو حال عبد المطلب الذى وقف عاجزاً عن تفسير ما حدث فى الرؤيا .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تعليقات
إرسال تعليق