الحلقة الثامنة
قصة أصحاب الأخدود
من كتاب الطريق الي النور للكاتب الكبير ا/ محمد مصطفي
ويسأم الملك ذو نواس ويملّ من تعذيب الغلام "عبد الله بن الثامر " فيأمر بقتله ـ بإلقائه من أعلى سفح جبل ـ ويسوقونه إلى قمة شاهقة لإلقائه، وتتجلى القدرة الإلهية فى الظرف العصيب بأسمى آيات النجاة ،يهتز الجبل اهتزازاً مروّعاً إثر زلزال قوى يُلقى بممسكيه الحرس أسفل الجبل صرعى، وينجو الغلام بقدرة ربانية .. ويصل الخبر إلى الملك ـ ذو نواس ـ الذى أرسل فى أثر الغلام من يقتله بوسيلة أخرى، حملوه فى قارب صغير، وأوثقوه وخاضوا به أمواج البحر حتى إذا أوغلوا الإبحار، قذفوا الغلام وعادوا،وما إن هموا بذلك إلا وعلت الأمواج وهاج البحر وانقلب القارب بمن على متنه، والتهم الماء زبانية الملك، وقذف الموج بالغلام على اليم بمعجزة من الله .
ويمسك به الملك ثانية، وكلما أراد قتله حال دون ذلك سبباً لا يعرفه سوى الغلام الذى اهتدى إلى طريق النور، فأتى الملك بالغلام وسأله: ما وراء هذه القوة الخفية التى تعجزنا عن قتلك ؟ لعلك أيها الغلام أتيت فنا فى السحر لم يصبه سحرة اليمن ؟ قال الغلام : إنك والله لن تقدر على قتلى، فإذا أردت ذلك فلا مناص إلا من سبيل واحد، به تقتلنى ، قال الملك : وما ذاك ؟
قال الغلام : تجمع أهالى اليمن كلهم، وتعلقنى على جذع شجرة فى مكان يرانى الملأ من قومنا، ثم تأخذ قوسى وسهمى، وبيدك لا بيد رجالك تصوب السهم ناحيتى وأنت تقول ( باسم رب الغلام ) وتُطلق السهم ، عندها يتم لك ما أردت .
ويفعل الملك ذلك، وتجتمع أهالى مأرب وصنعاء وسحرة البلاد وأشرافها، وجند الملك ليروا أعجب منظر فى حياتهم، الغلام موثوق فى جذع شجرة، والملك أمامه يصوب سهمه، ويشد قوسه ويصيح : باسم رب الغلام – وينطلق السهم فى صدر الغلام لينهى حياته الطاهرة ويصيبه فى مقتل، ويعجب الحضور ويقول الناس : لم يستطع الملك قتله بكل ما لديه من قوة، لم يقتله إلا بعد أن نطق بكلمة الحق التى أشار عليه الغلام بها، إنها والله لهى الحقيقة التى غفلنا عنها وغابت عنا .
وانطلقت الأصوات من كل مكان، ورويداً رويداً توحدت فى جملة واحدة رجت أرجاء الساحة المكتظة بالناس : آمنا برب هذا الغلام ، ولم يتمالك الملك ذو نواس نفسه، وأمر رجاله أن يحاصروا المكان فلا يخرج أحد .
فى لحظة خاطفة عصته اليمن، وانشمرت عنه، وها هو الشعب يثور على مليكه الظالم الذى ساق البلاد وراء اليهود . يثور عليه الناس بتضحية الغلام بنفسه ـ إذ قدم حياته رخيصة فداءاً لدين الله ـ فكانت شهادته الشرر الذى أشعل الحماس فى نفوس المقهورين، وكانت شهادته النور الذى حرر عقول وقلوب قومه من الضلال .
وتتعالى أصوات من حوصروا بهتاف التوحيد إلا إله سوى رب الغلام ـ وفى ثورة وهياج يقول الملك لمعاونيه من اليهود الذين أضاعوه وأضاعوا بلاده ـ ! :كيف بى أفعل ذلك ؟ قد أردت والله قتل الغلام لعصيانه فإذا بى بعصانى الجميع، لن أدع هذا الدين يسرى فى بلادى ما دمت فيها .
وبصدر أوامره بإحكام الطوق، ويلتف فى دائرة كبيرة جيش الملك فى عدة الحرب كاملة، لا يسمحون لأحد بمغادرة المكان حتى يأذن الملك ذو نواس، ويأمر الملك بإعداد ساحة إعدام مناسبة لهذا الحشد الكبير من قومه، وطريقة ملائمة تستوعبهم، فيأمر جنوده بشق الحفر الضخمة فى الأرض ـ وتُشق الأخاديد ـ وتوضع الأخشاب فيها وقد بللت بالزيت، وأمر الملك ذو نواس بإشعالها، وتحولت إلى أفران ضخمة، يستعر لهيبها، وغطى الدخان الكثيف المكان كله، ولما علت أصوات النيران، وحمت حرارتها، صاح الملك فى جنده : من أصر على البقاء على دين الغلام فمصيره داخل الأخاديد حرقاً، ومن عدل عن ذلك فله النجاة، من أراد منكم أيها الناس الحياة فليصطف خلف هذا الوادى، ويعلن لنا أنه على اليهودية، ومن ظل مكانه جعلناه وقوداً للنار .
وتنزل رحمات الله من السماء على عباده المؤمنين، وتحف الملائكة حفاً أولئك المعسرين، وكأن وحيا من السماء هبط على الجميع، فألقى فى روعهم أن اثبتوا على دين الغلام، ولن تشعروا بحر النار ولا بشيء من هذا العذاب، ولا يهوّلنكم وعيد الظالم، ولسوف أجعل لكم من تلك الأخاديد الملتهبة معبراً إلى الجنة ، هكذا أحس الجميع وكل من عايش تلك اللحظات الرهيبة .
دب الصمت بعد كلام الملك، وثبت الجميع على دين الله ثباتاً قوياً، فيه كان الفيض كل الفيض، فرأى الملك منهم إصراراً، فأمهلهم فسحة من الوقت، ولكن الجميع آثر الحياة الآخرة، وتركوا خلفهم دنياهم، ويهمس فى أذن المؤمنين هامس : الله أرادكم عنده فى العز والمنعة، ليريحكم من عسف الملك واليهود ، ويشتد غضب الملك ويقول لأعوانه من اليهود : ما هذا الإصرار والعناد ؟ ماذا حدث لقومى ؟ لقد أصابهم الشر من هذا الغلام المقتول، أيها الحراس زجوا بالجميع نساءً وأطفالاً وشيوخاً ورجالاً فى الأتون الملتهب، أريدها (يمن) لا دين فيها سوى اليهودية –
وتتحرك الجنود وفى أيديهم الرماح المدببة الطويلة، يدفعون بها الناس دفعاً إلى الأخاديد، ويُساق الجميع إلى حتفهم، وأى حتف ، وسط صراخ الأطفال وعويل النساء وبكاء الرجال، ويدخل هؤلاء البسطاء التاريخ فى أبشع مجازر البشرية قاطبة، ورغم اقترابهم من الجحيم إلا أنهم لم يتراجعوا عن دين الحق، فقد دفعهم الله لأمر فيه النجاة لأجيال قادمة على طول الزمان، تحول هؤلاء بقدرة الله إلى آية فى الأرض ومعجزة خلد ذكرها القرآن الكريم، ويُقذف الناس قذفاً إلى الأخاديد التى تلتهم كل من نزل بها، وتتردد أم لرضيع وهى على شفير الأخدود ـ أتنطق بكلمة الباطل لتُنجى رضيعها من هذا الحريق، أم تهوى به إلي السعير ـ وتحدث المعجزة، ينطق الرضيع ليثبت فؤاد أمه وهو على كتفيها قائلا : ألقى نفسك فإنك مقبلة على الجنة يا أمى .
وأمام هذا الإصرار يزداد غضب الملك، والناسُ تُقذف فى النيران أفواجا أفواجا، لا يهزهم وعيد الملك ولهيبها الحارق، ويقول وقد استشاط غضباً لمن حوله : كيف يُصر هؤلاء على نصرانية نجران ويعدلون بها عن يهودية اليمن، ادفعوا بهم إلى الجحيم حتى لا ترتفع هذه الراية على أرضي .
ويتواصل المشهد الرهيب طوال النهار، لهيب مستعر تُلقى فيه الناس ورائحة شواء أجساد البشر تفوح فى جنبات ساحة العذاب، وعلى مسافات بعيدة، مشهد مروَع ينطق بأبشع عبارات الوحشية والقسوة، وسجل لنا القرآن تلك الواقعة فى أجلى العبارات وأعظمها بسم الله الرحمن الرحيم { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }
ونجا من هذه المحرقة، رجلٌ يُدعى (دوس ذو ثُعْلبان ) فرَّ على فرس هداه الله إليه واخترق طوق الحراسة الشديدة ، وكأنما أراد الله ـ لدوس ذو ثُعْلبان ـ أن ينبيء العالم بما حدث فى اليمن، فيستصرخ مَنْ هم على دين النصارى فى أرض الله، وينطلق فى أثره جنود ذى نُواس فى مطاردة مثيرة حتى لا يفلت من أيديهم فيفشو الخبر إلى من ينتقم لهؤلاء، ويكتب الله (لدوس) النجاة بعد رحلة شاقة اخترق خلالها الربع الخالى من جزيرة العرب، ذاك الذى لا ينجو من عبوره أحد، ويئس جنود الملك من اللحاق به، وخشوا على أنفسهم الهلكة فى فلاة قاحلة لا نهاية لها .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
Comments
Post a Comment