( 45 )
_ مزاج حاد ! _
جالسًا فوق كرسي الصالون الصغير، يسند جبينه إلى يده المرتكزة إلى ساقه المرفوعة فوق ركبة قدمه الأخرى، كان الضجيج من حوله يزداد بمرور الثوانِ و اللحظات.. الجميع تقريبًا فوق رأسه، و كلّ و مطالبه و مشكلاته
أحس و كأن دماغه تنتفخ كبلون... مع استمرار حديثهم و مناقشاتهم بين بعضهم.. ليجد نفسه و قد فقد السيطرة على أعصابه فجأة، فيصيح منفعلًا بشدة و هو يرفع وجهه إليهم :
-بــــس !!!
أطبق الصمت فورًا و جمد جميع أفراد العائلة الماثلين أمام "عثمان البحيري".. أمه و أخته و رضيعتها النائمة على صدر والدتها...
عمل على تهدئة نفسه أسرع من المعتاد، ثم تطلع إليهم قائلًا بخشونةٍ :
-بالدور لو سمحتوا.. واحد واحد. ممكن ؟!
و تنفس بعمقٍ مكملًا بلطف و هو يشير بيده نحو أمه أولًا :
-اتفضلي يا فريال هانم.. سامعك !
بللت "فريال" شفتها السفلى بطرف لسانها، ثم قالت برقتها المعهودة :
-سمر يا عثمان.. مش هاينفع خالص تروح و تنقل عشان تعيش في بيتها القديم. و كمان يحيى و ملك يروحوا معاها. أنا شايفة إن حالتها النفسية مش مظبوطة أبدًا. مافيش سبب يخيلها تروح هناك بعد ما فادي سافر و مش راجع زي ما فهمتني.. أنا متعلقة بيها و بالولاد. مش هقدر أستحمل حاجة زي دي !!
زفر "عثمان" بحرارة، لكنه رد عليها بصوتٍ فاتر :
-أنا عارف سمر بتقول إيه من ليلة إمبارح يا ماما. و عارف بردو إنها لسا مصدومة و ليها عذرها.. سبيها تتكلم و تقول كل إللي هي عايزاه و ماتقلقيش إنتي خالص. موضوع إنها تنقل لبيتها القديم و تاخد الولاد ده مش هايحصل. أنا هاتصرف معاها اطمني
تنفست "فريال" الصعداء و قد شعرت براحة فائقة الآن، ليومئ "عثمان" برأسه ناقلًا ناظريه إلى شقيقته التي تقف إلى جوارها ...
-ها غيره يا صفية ! .. تساءل متذرعًا بمزيدٍ من الصبر
تقدمت "صفية" خطوة للأمام و قالت بنزعةٍ عصبية :
-بص يا عثمان. أنا عارفة إن كلكوا واخدين موقف من هالة.. بس I'm Sorry في الوضع إللي هي فيه ده أنا إللي فيكو هافضل واقفة جمبها. و لو محدش كلف نفسه ياخد باله منها هاعمل أنا ده يا عثمان عشان تكون عارف. مهما حصل هالة من دمي و تخصني لو عملت إيه
سحب "عثمان" شهيقًا نزِقًا و هو يفرك وجهه بكفيه بقوةٍ، ثم عاود النظر إلى شقيقته قائلًا باقتضابٍ حاد :
-تحت أمرك يا صافي هانم انتي كمان.. اتفضلي قوليلي. إيه إللي ممكن تكون بتعاني منه الست هالة هانم بعد إللي عملته فينا عشان نفرش كرامتنا لمعاليها مداس. اتكلمي يا حبيبتي خير ؟!!
ضمت "صفية" حاجبيها بعبسة غاضبة، لكنها تجاهلت سخريته الواضحة و ردت بغلظةٍ :
-هالة محتاجة دكتور. صحتها بقالها فترة في النازل. و إمبارح بالذات بعد إللي عملته فيها.. تشوفها دلوقتي كأنها مع الأموات
-يعني مطلوب مني إيه مش فاهم !! .. قالها باستهجانٍ بيّن، و أردف برعونةٍ فجّة :
-ألبس سماعات و أكشف عليها و لا أجيب Thermometer و أقيسلها الحرارة ؟ .. ماتكلمي دكتور يجي يشوفها و لا وديها مستشفى. أنا ماااالي. هو أنا هاشغل دماغي بامراضها و تمثيلياتها كمان ؟ أنا فيا إللي مكفيني و كفاية هاتصدر للكارثة إللي هاتحل على راسنا كمان شوية بسببها ..
ربما كان يتخذ الإهانة في الحديث كأسهل تعبيرٍ، لكن الجميع يدرك جيدًا بأنه لا يفعل ذلك إلا تفاديًا لغضب عظيم إذا أطلق له العنان فستكون الخسائر وخيمة لكل الأطراف، إن هو إلا شرًا بداخله يحاول السيطرة عليه بتلك التصرفات و هذه الكلمات الجارحة.. لأجل هذا عليهم الاستماع إليه، الاستماع فقط ...
-و إنتي يا آنسة !
انتفض الفرد الثالث الذي وقف خلف سيدة المنزل و إبنتها لمجرد سماع صوت كبير العائلة شديد اللهجة.. لم تكن سوى إحدى المستخدمات المخصصين للقسم السفلي بالقصر
تطلعت الفتاة اليافعة في وجلٍ إلى سيدها مغمغمة :
-إحم. عثمان بيه.. هو كان في ضيف. ضيف مستني حضرتك برا على البوابة !
تحفزت ملامحه و هو يسألها بصوتٍ أجش :
-ضيف مين ؟ قصدك نبيل الألفي ؟ هو وصل ؟؟
-لأ يا باشا.. ده ضيف كان جه مرة قبل كده. دكتور أدهم عمران !
-و سايبينه واقف كل ده ؟!!! .. صاح "عثمان" و هو يهب واقفًا بعنفٍ مفاجئ
وثبت الفتاة خطوة للخلف و هي ترد بذعرٍ :
-أنا كنت واقفة مستنية أما حضرتك تأذنلي بالكلام آ ا ..
-هشششش خلاص ! .. هكذا أخرسها بحزمٍ
ثم مضى متجاوزًا الجميع إلى الخارج، أعطى أمرًا بالسماح للدكتور "ادهم" بالدخول فورًا... و كان يقف بانتظاره عند مدخل باب المنزل
استقبله "عثمان" راسمًا ابتسامة كبيرة على محياه، ما إن وصل عنده حتى تصافحا بحرارةٍ، ثم تعانقا للحظة و عقّب "أدهم" قائلًا :
-البقاء لله يا عثمان.. عظّم الله أجركم في عمك و ألهمكم الصبر
عثمان بامتنانٍ شديد :
-و نعم بالله.. متشكر يا دكتور أدهم. إتفضل لو سمحت. إتفضل !
و سار به إلى الداخل.. حتى أجلسه بالصالون الذي كان فارغًا الآن ...
-أنا كنت عايز أجي من إمبارح و الله ! .. قالها "أدهم" و هو يجلس مقابل "عثمان" فاتحًا زر معطفه الثقيل
-بس كان عندي شغل في الجامعة و ارتباطات للأسف ماعرفتش آجلها. سامحني بالله عليك يا عثمان
عثمان بلطفٍ : ماتقولش كده يا أدهم.. كفاية مجيتك بس. في أي وقت. إنت بقيت حاجة كبيرة عندي. مش هبالغ لو قولتلك غلاوتك من غلاوة مراد و صالح . ما هو أنا ماليش أخوات رجالة. و هنا أخواتي. و إنت كمان زيهم دلوقتي
-الله يبارك فيك و يحفظك يا سيدي. نفس الشيء و الله بالنسبة لي. أنا كمان زي حالاتك وحداني ! .. و ضحك مكملًا ليغطي على حرجه منه :
-و أحب أكرر أسفي على تصرف مراتي. و الله أنا إتكلمت معاها و خلاص هي عمرها ما هتحاول تتواصل حتى مع مدام سمر. إطمن خالص. و بعتذر للمرة الأخيرة
ابتسم "عثمان" ليبدد هذا الحرج المتبادل بينهما و النادر الحدوث بالنسبة إليه، ثم قال برفقٍ :
-و الله ما تقول كده و لا تعتذر. أنا إللي بعتذرلك.. أنا كنت عصبي بس عشان الوفاة جت فجأة و لما كلمتك و قولتلي أجي بنفسي أعزيك ماكنتش عاوز أتعبك فقلت الكلام ده و أنا ماعرفش طلع مني إزاي.. أنا إللي آسف. مدام سلاف على راسي و الله مهما حصل
-الله يخليك.. كلك ذوق !
و ساد الصمت بينهما لبرهةٍ، إستشف "أدهم" خلاله وجود خطبًا ما بمضيفه و صديقه الجديد.. و كعادته تعامل بجديته و شفافيته المعهودة و توجه إليه بالسؤال مباشرةً :
-خير يا عثمان ! فيك حاجة مضايقاك ؟!
نظر "عثمان" له و لم يتكلم على الفور.. بل غزت الابتسامة ثغره من جديد و هو يقول مثنيًا عليه :
-يعني بجد مش عارف أقول فيك إيه يا دكتور.. هاتخليني أشك إن ليك كرامات بجد و لا إيه ؟
ضحك "أدهم" بتفكهٍ و قال :
-لا و الله و لا كرامات و لا حاجة. ده تقدر تقول عليه احساس بس.. أنا حاسس إنك مش تمام. في قلبك حاجة. أو مخنوق من حاجة.. على فكرة أنا مستمع جيد جدًا. ممكن تفضفض و انت مطمن كمان
عثمان بجدية : أنا فعلًا محتاج أتكلم معاك !
أدهم بسماحة و رحابة صدر كبيرة :
-و أنا سامعك.. معاك للصبح ماتقلقش
سحب "عثمان" نفسًا عميقًا.. لكنه لم يكد حتى يزفره، فبرز صوت الوافد المنتظر فجأة ...
-مساء الخير !
ارتفعت نظرات كلًا من "عثمان" و "أدهم" لتقابلا نظرات "نبيل الألفي" الذي وصل لتوّه ..
كان ماثلًا أمامهما مبتسمًا بسماجةٍ لا يخطئها النظر، في المقابل لم يتكلف "عثمان" عناء الرد عليه في الحال.. فتمكن "أدهم" ببصيرته النفّاذة أن يدرك بأنه سببًا في سوء مزاج مضيفه ...
-و عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ! .. قالها "أدهم" ببشاشة نائبًا عن "عثمان" في الرد
لم تمر لحظة أخرى، و قال "عثمان" في إثره و هو يقوم واقفًا و قد تبدّل حاله مئة و ثمانون درجة فصار يبتسم له أيضًا :
-أهلًا أهلًا.. أهلًا يا نبيل ..
و صافحه الأخير قائلًا :
-أهلًا بيك يا عثمان.. أخبارك إيه إنهاردة ؟
عثمان بثباتٍ متقن :
-زي الفل.. إنت عامل إيه ؟!
-تمام و الله الحمدلله. لو عدينا حالتي النفسية السيئة بس.. لسا مش قادر أصدق إللي حصل. مش قادر أصدق إن رفعت الله يرحمه يعني ...
-كلنا لها يا بيلي ! .. قالها "عثمان" بقصد الترويح عنه
ربت على كتفه و هو يدعوه للجلوس :
-أقعد يا نبيل.. أنا كنت مستنيك
نبيل مبتسمًا بخبث :
-و أنا كنت جايلك !
و ما لبث لبّى دعوته و جلس بوسط الأريكة المواجهة ...
-طيب إيه !! .. تمتم "عثمان" رامقًا إياها بنظراتٍ أقرب إلى الزجر رغم ابتسامته
-أنا شايف بدل المقدمات و التزويق إللي مالوش لازمة.. ندخل قي الموضوع علطول أحسن. و لا إيه رأيك ؟!
وافقه "نبيل" بايماءة صغيرة :
-عين العقل يا أبو يحيى.. طبعًا ندخل في المفيد عدل
تنهد "عثمان" متظاهرًا بالاسترخاء و قال :
-طيب مبدئيًا الدكتور أدهم مش غريب.. ف هانتكلم في وجوده عادي
نبيل بهدوء : مافيش مشكلة !
-تمام ! .. ثم تنحنح "عثمان" و قال بجمودٍ :
-بلغني إللي هالة عملته يا نبيل. و عارف إنت جاي ليه إنهاردة.. بس إديني بقصر المسافات عشان مانفرهدش من بعض منغير داعي
نبيل ضاحكًا ببرودٍ مستفز :
-ربنا ما يجيب فرهدة يا عثمان.. إحنا في الأول و في الأخر أهل
عثمان بحدة : لأ.. مش أهل. تاخد كام يا نبيل و تكنسل إتفاقك مع هالة ؟؟
رفع "نبيل" حاجبه و لم يعلّق.. فتابع "عثمان" بنفس الاسلوب :
-أنا مش مسؤول عن تصرفات ولاد عمي آه. لكن لما توصل المسألة لخصوصيات العيلة و الشكل العام لإسمنا إللي حافظنا عليه سنين.. ف أنا طبعًا يحق لي أتكلم و تطلع من تحت إيدي أفعال كمان ..
و أضاف بصراحة يغلّفها تحذيرٍ واضح :
-طول ما أنا عايش لا يمكن أسمح لحد يهز إسم عيلتي و لو بأبسط حاجة.. إنت مش قليل يا نبيل. عندك كتير و مش محتاج مننا و لا من غيرنا حاجة. لكن مع ذلك بقدملك عرض. تاخد كام و ترجع نصيب هالة في البيت و تِركة العيلة ؟ أتمنى مايوصلش الأمر بينا لطرق مسدودة و نلجأ للمحاكم و كده. أنا مابحبش الشوشرة الفارغة. و بردو أحب أنوّرك و أقولك. لو حصل و وقفنا قصاد بعض في محاكم إحنا إللي هانخرج كسبانين.. كسبانين في كل الأحوال. فكر فيها صح يا نبيل
مرّت لحظات صمتٍ مطوّلة، قبل أن يضع "نبيل" ساقًا فوق الأخرى و هو يقول بفتورٍ :
-خلصت يا عثمان ؟!
رمقه بنظرة عدوانية محضة، فابتسم مكملًا :
-أولًا إنت غلط معايا في نقطة. هي أصلًا أساس القاعدة اللي إنت عاملها دي كلها و مفتاحها.. أحنا أهل فعلًا يا عثمان. مش لازم أكون قصدت في كلامي عيلة البحيري. لكن هالة و صالح.. هالة و صالح من أهلي. و بناء على كده بالذات لا إنت و لا أشطر محامي ممكن تجيبه يقدر يبطل اتفاقي مع هالة.. أنا مش هاكنسل حاجة. أنا جاي أعيش وسط ولاد أختي إللي ماليش غيرهم و مالهمش غيري في الوقت الحالي في مقام أبوهم. مين يقدر يمنعني دلوقتي ؟
-أنا يا نبيل !!! .. هتف "عثمان" بثقة، لو بمعنى أدق بعنجهيةٍ مستنكرة ترفض قبول فكرة حلول ذاك الرجل بمنزله بصفة المالك
يظل "نبيل" محافظًا على ابتسامته و هو يقول :
-ماتقدرش يا عثمان.. صدقني !
و كاد "عثمان" يناطحه الرد بأعنف منه، لولا تدخل "أدهم" في هذه اللحظة :
-أنا آسف بس هقاطع كلامكو دقيقة واحدة !
نظر "عثمان" له و قال باقتضابٍ و هو يقطب وجهه بشدة :
-إتفضل يا دكتور.. قول إللي إنت عايزه !!
توجه "أدهم" سبؤاله إلى كلاهما ...
-على حسب ما فهمت النقاش بيدور حوالين بيع نصيب فرد من أفراد عيلتك يا عثمان للأستاذ نبيل.. صح ؟
عثمان / نبيل : صح !
تابع "أدهم" تساؤلاته :
-عثمان حابب يبطل البيع. و هو يقدر يعمل كده فعلًا بحق الشفعة.. إلا إذا !
-إلا إذا إيه ؟؟؟ .. سأله "عثمان" مستنكرًا بشدة
أجفل "أدهم" بتوتر و هو يسأل "نبيل" :
-حضرتك قلت تقرب للعيلة. أو للبعض منها.. إيه صفة القرابة بالظبط ؟
أجابه "نبيل" برزانة :
-أنا أبقى خال صالح و هالة. ولاد المرحوم رفعت البحيري. إللي يبقى عم عثمان
نقل "أدهم" بصره إلى "عثمان" الذي بقى يرمقه بترقبٍ، ثم قال :
-بص يا عثمان.. أنا عندي فكرة عن أحكام الشفعة. عارف إن لو حد من عيلتك حابب يبيع نصيبه في حاجة أو حتى باع و إنت رافض. القانون بيسمحلك تلغي البيع و تشتريه لنفسك لو حابب. لكن الحد ده باع لحد تاني من عيلتك بردو. أو من عيلته هو.. ف القانون بيعترف بالبيعة
عثمان بخشونة خطيرة :
-إزاي ده ؟ لأ طبعًا !!
هز "أدهم" رأسه آسفًا و هو يدلي إليه :
-إذا وقع البيع بين الأصول و الفروع أو بين الزوجين أو الأقارب حتى الدرجة الرابعة أو بين الأصهار حتى الدرجة الثانية.. فلا يجوز الأخذ بالشفعة. دي مادة في القانون أنا فاكرها كويس. لأني حضرت حكم شفعة قبل كده !
جف حلق "عثمان" و هو يواصل التحديق بعيني "أدهم".. يناشده تغيير كلامه... أو حتى إيجاد حلًا ما.. و لكن بدا أن هذا كل ما يستطيع تيمه و المساعدة به
أيّ مساعدة ؟ لقد فاز خصمه و ها هو يرنو إليه مبتسمًا بهدوء لم يخدعه ...
غرز "عثمان" نظراته بعيني "نبيل" الماكرتين، لم يتكلم... لكن في صدره أقوالًا كثيرة، أقوال لا يمكن التعبير عنها سوى بالأفعال فقط !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! ......................................................... !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبع ...
ده كان تسخين للعودة و آسفة على التأخير.. بكرة في #بارت جديد إن شاء الله تعويض عن الليلة و الفترة إللي فاتت ♥️
صباح الخير و الورد 🤭.. #بارت جديد مكمّل لأحداث أمس ♥️
( 46 )
_ آسرًا ! _
خرجت عربة الطعام على نفس الحالة التي دخلت عليها إلى غرفة "هالة"... لليوم الثالث على التوالي لم تضع لقمة واحدة بفمها و الجميع _باستثناء "عثمان"_ جربوا معها كل وسائل الاستجداء و الرجاء.. لكن دون جدوى
كانت الخادمة تجر العربة أمام عتبة الغرفة، و قبل أن تغلق الباب تمامًا أتاها صوت "نبيل" من الخلف :
-هي هالة هانم مش جوا و لا إيه يا آنسة ؟
تشهق الفتاة على إثر حضوره المباغت و تلتفت إليه بسرعة.. أجابت بشحوبٍ لا يخلو من الارتباك :
-لأ يا بيه. هالة هانم جوا.. جوا و معاها صفية هانم
أخفض "نبيل" بصره إلى الطعام الذي لم يلمسه أحد، ثم نظر لها ثانيةً و قال :
-و الأكل إيه نظامه يعني !!
-ده المفروض غدا هالة هانم. بس هي لا فطرت و لا تغديت. حتى امبارح بردو لما وصلت ما أكلتش أي حاجة
عبس "نبيل" معلّقًا :
-ماكلتش كل ده ؟ ليه يعني ؟.. استني ماتاخديش الأكل ده. إرجعي بيه تاني. ورايا !
و تجاوزها ماضيًا إلى داخل الغرفة ...
بدايةً شاهدها و هي ترقد بمنتصف سريرها العريض، بدا عليها الهزل بالفعل، ربما بعض السقم أيضًا.. و كان جلدها مصفرًا و باهت بشكلٍ يبعث على القلق.. كان قد لمح "صفية" تجلس إلى جوارها كما أخبرته الفتاة
كانت تمسك بكأسٍ من العصير الطازج، و بيّد بأنها تحاول أن تجعلها تشربه عبثًا ...
-مساء الفل على أحلى هوانم ! .. هتف "نبيل" ملقيًا بتحيته الطيبة على إبنتيّ العم و هو يقبل نحوهما وئيدًا
إنتبهتا كلتاهما إلى حضوره، و لكن "صفية" فقط التي تمكنت من الرد عليه بصوتٍ خلا من التعابير :
-مساء الخير يا أنكل نبيل.. أهلًا و سهلًا بيك !
-مالك يا حبيبتي ؟!! .. غمغم "نبيل" و هو يدنو من "هالة" ماسحًا على شعرها ثم جبينها ليتحسس من درجة حرارتها
وجدها طبيعية، بينما كانت ترد عليه بلهجة متعبة :
-خالو نبيل ! .. إنت جيت ؟ أنا كويسة. ماتقلقش
يجلس "نبيل" مقابل "صفية" من الجهة الأخرى، فبقيت "هالة" بينهما... قطب جبينه، و خفض يده ممسدًا على خدها بأنامله الغليظة و هو يقول بحنانٍ :
-أظنك شايفاني مش أعمى يا ست هالة.. شكلك مش بيقول إنك كويسة خالص. قوليلي يا حبيبتي مالك ؟ و ليه مابتكليش ؟؟
و إلتفت خلفه موليًا سمعه إليها، ليجد عربة الطعام و قد تركتها الخادمة و عادت أدراجها ...
-أنا ماليش نفس ! .. تمتمت "هالة" عندما رأته يحمل صحن الحساء و يعتزم إطعامها إياه
برز صوت "صفية" في المنتصف موبخًا :
-بطلي دلع بقى يا هالة. إنتي مش شايفة حالتك ؟ هايجرالك حاجة !!
هالة بتضرعٍ وهن :
-ياريت !
امتقع وجه "نبيل".. أما "صفية" فقد اتسعت عيناها ذهولًا و لم يسعها الكلام بعد ذلك ...
أدار "نبيل" وجهه و نظر إلى "صفية" قائلًا بهدوء :
-صفية.. لو سمحتي ممكن تسبيني مع هالة لوحدنا !
أومأت له "صفية" دون أن تزيد بكلمة، قامت و هي تضع كأس العصير فوق الكومود المحاذي للسرير، ثم غادرت معطية لهما مساحة من الخصوصية ...
-إيه الحالة إللي إنتي فيها دي ؟ .. تساءل "نبيل" بجفافٍ و قد أعاد صحن الحساء إلى مكانه
أشاحت "هالة" بوجهها للجهة الأخرى و قالت بصوتٍ أقرب إلى الهمس :
-قولتلك أنا كويسة يا خالو !
يمد "نبيل" يده و يمسك ذقنها ليدير وجهها نحوه و يجبرها على النظر إلبه من جديد ...
-عشان طلقك ؟ .. طرح عليها السؤال مباشرةً و بمنتهى البساطة
-عاملة كل ده عشان طلقك يا هالة ؟!!
ما كانت لتقدم له ردًا بالايجاب أبدًا.. و لكن تلك الدموع الواشية التي سرعان ما تجمعت و ملأت عيناها لتفيض على خديها.. أخبرته الحقيقة و أكدت صدق كلماته ...
يتركها "نبيل" و هو يطرق برأسه مطلقًا زفرة عميقة، و يدمدم لنفسه :
-أستغفر الله. ده إللي كنت عامل حسابه بجد ! .. و تطلع إليها مرةً أخرى
-إنتي بتحبيه يا هالة ؟
نطق لسانها دون ذرة من التردد :
-بحبه.. بحبه يا خالو
ضايقه كثيرًا الاهتزاز و الضعف الذي لمسه بصوتها، فضلًا عن رؤية دموعها.. فكر للحظاتٍ، ثم قال باسلوبه الموضوعي المقنع :
-طيب بصي يا حبيبتي.. أوعدك. أوعدك هارجعهولك.. بس قبل ما أنفذ الوعد ده لازم نصلح الأساس الأول. عشان يفضل كل إللي بنيناه متصان. مش يقع مرة واحدة مع أول هزة في المستقبل
إبتسمت "هالة" بسخرية قائلة :
-هاترجعه ! إزاي ؟ هو حد يعرف هو راح فين ؟ دي أخته نفسها ماتعرفش.. فادي قرر يهرب مننا كلنا !!
نبيل بثقة : قولتلك هارجعه. يبقى هارجعه.. أنا مابقولش كلام و خلاص يا هالة و إنتي عارفة
أراحته "هالة" و تظاهرت بتصديقه، ليستطرد بجديةٍ :
-هاعملك كل إللي إنتي عاوزاه. بس قبل أي حاجة محتاجك. محتاجك تقفي جمبي الفترة الجاية عشان أعرف أجبلك حقك و حق أبوكي من عثمان البحيري
-حاضر ! .. قالتها أيضًا لتريحه
في الحقيقة لم تكن تدرك معناها، أو لعلها فقدت تركيزها من شدة الارهاق و التعب، لتغمض عينيها مستسلمة لأيّ ما كان الذي يتربّص بها ...
لكن "نبيل" لم يكتفي بهذا القدر، فقال بلهجة آمرة و هو يقبض على كفها المُلقى فوق بطنها :
-حاجة كمان.. قومي إلبسي عشان نروح لدكتور يشوفك. و بسبب إللي إنتي فيه و تعبك و رميتك دي حسابي مع العيلة دي هايكون له شكل تاني خالص. إنما بعدين لما أطمن عليكي بس.. يلا يا حبيبتي قومي و أهو نتفسح سوا بالمرة ..
أزاحت جفنيها لتنظر إليه، و جاءت لتعترض، فأسكتها واضعًا اصبعه فوق شفاهها قائلًا بصلابةٍ :
-ملعون أبو أي حد يزعلك. من إنهاردة مافيش أي حاجة ممكن تضايقك يا هالة.. خلاص. خالك جه !
*****
أمام باحة المنزل، يصافح "عثمان" الدكتور "أدهم" متبادلًا و إياه عبارات الوداع الأخيرة ...
-الزيارة دي ماتتحسبش يا دكتور خلي بالك ! .. قالها "عثمان" ملوحًا بسبابته كتعبيرٍ شرطي
-المرة الجاية هاتجيب مدام سلاف و الأولاد. و أوعدك هاوصي الأمن برا يستقبلوكم بالملح و البخور
يطلق "أدهم" ضحكة مجلجلة، عندما فهم على الفور إشارته لحادثة زوجته السابقة و المحرجة... رد عليه بفكاهةٍ تحاكي اسلوبه :
-لأ إطمن.. ما أنا علمتها خلاص. مابقتش تخاف أوي عليهم من الحسد. و بعدين ما قولنا عينك باردة بقى يا أبو يحيى عيب بقى
و ضحكا معًا... ثم يقول "أدهم" بطريقةٍ أكثر جدية :
-عثمان.. مش عايز أمشي و تكون مضايق أو زعلان مني
عثمان بدهشة : أزعل منك ليه الله لا يجيب زعل يا دكتور !!
-يعني عشان موضوع ولاد عمك و خالهم. أنا بس حبيت أفيدك إنت.. رغم إني كنت مقرر اقولك الكلمتين دول بيني و بينك مش قدامه. لكن لما شوفتك بدأت تتعصب على الراجل خوفت الوضع يتطور و الشيطان يدخل بينكو. كانت هاتبقى حاجة صعبة أوي
ابتسم "عثمان" و قال :
-لأ إطمن.. حتى لو ماكنتش اتكلمت. حتى لو كان نبيل قل أدبه كمان.. ماكنتش هامسك فيه. أنا قليل جدًا لما بستخدم العنف بإيدي. لازم أجرب كل حاجة الأول و بعدين أشوف هاضطر أعمل إيه !
-ربنا يلهمك صواب الفعل دايمًا. أتمنى تثبت على موقفك و ماتتهورش. و لو احتجت أي حاجة ماتتردش و كلمني علطول
-أكيد يا أدهم. نورت و شرفت أوي و الله !
و تصافحا للمرة الأخيرة، ثم ذهب "أدهم" منطلقًا بسيارته التي خلّفت سحابة بيضاء من الدخان ...
استدار "عثمان" عائدًا إلى الداخل.. ليصطدم بزوجته الجديدة التي ظهرت فجأة من العدم !!!!
-آااااااه ! .. أصدرت "نانسي" آهة متألمة و هي ترتد بجسمها للخلف بقوة إثر تصادم بـ"بعثمان"
لولا أنه كان سريعًا و لفّ ذراعه حول خصرها و شدها بلا تفكير صوبه ليقيها السقوط.. حبست هذه المرة آهةٍ، من نوعًا آخر حين ارتطمت بصدره و تلاصقا بهذه الطريقة الساخنة ...
من كان ليصدق أن تصير معهما لقطة كهذه ؟ .. و لا حتى بالحلم أخذًا بالاعتبار موقف "عثمان" الصارم منها و النفور الدائم الذي يبديه في وجودها
إنما.. ألا يقول المثل "رب صدفةٍ خيرٌ من ألفِ ميعاد !" ...
و لكن هذه تعتبر صدفة بالنسبة له هو، أما بالنسبة لها فلا شيء يحدث بالصدفة.. كل خطوة بتخطيط مسبقٍ و مدروس بإتقانٍ !
في المقابل، ما كان يشغل "عثمان" أيّ شيء من كل الذي يدور برأس "نانسي".. فقط صب جام تركيزه، و غضبه وليد اللحظة على زوجته و على المظهر الذي يراها عليه الآن ...
-ده إنتي لابسة كده و رايحة على فين إن شاء الله ؟؟؟
وجَّه "عثمان" سؤاله ذي اللهجة الحادة ليصيب مسامع "نانسي" جيدًا ...
هبطت "نانسي" بناظريها لتفحص لباسها متصنعة البلاهة، لكنها لم تتمكن من النظر أبعد مِمّ بعد قفصها الصدري، بسبب اطباقه الشديد عليها و تطويقه إياها بذراعيه باحكامٍ شديد
إلا أنها مع ذلك كانت ترتدي ثوبًا قصيرًا من الجلد القاتم، تعلوه نصف سترة من نفس الخامة لكنها مزركشة بعدة ألوانٍ فاتحة ...
-ده Half dress يا حبيبي. إيه ماشوفتش زيه قبل كده ؟!
عثمان برعونةٍ فجّة :
-لأ شوفت يا نجمة النجوم.. بس عليكي إنتي محدش هايشوف المسخرة دي طول ما إنني على ذمتي
ابتسمت "نانسي" بغوايةٍ، رفعت كفها الناعم و أحاطت خده البرونزي المكسو بلحيته الخفيفة و هي تقول بميوعة :
-بتغير عليا يا بيبي !!
قست ملامحه أكثر و هو يهزها يضغط عليها بين ذراعيه قاصدًا إيلامها بينما يغمغم بغضب :
-نانس.. لأخر مرة. بطلي حركاتك دي معايا ! .. و سألها بحدة :
-ثم إنتي أساسًا رايحة فين و منغير ما تقوليلي ؟؟؟
-معزومة على Party في بيت لينا صاحبتي
-أنا مش منبه عليكي مافيش خروج من البيت ده قبل شهر ؟ مش قادرة تستحملي كام يوم لحد ما كل واحد يروح لحاله ؟!!!
إلتوى ثغرها للجانب و هي تسأله بخبثٍ :
-و إنت ليه واثق أوي إننا هانتفارق بعد شهر ؟ إيه عثمان.. نسيت الرهان ؟ الـDeal إللي عملناه ؟!
عثمان بغلظةٍ : لأ مانستش.. بس إنتي كمان ماتنسيش نفسك. أنا لو عاوزك هاجيلك بمزاجي. منغير حركات الرخص دي
ضحكت بدلال و هي تميل عليه مغمغمة :
-إللي أعرفه إن طول عمرك ذوقك بيميل للرخيص. أومال.. ما إنت إبن ذوات. متعود على الحلو كله من صغرك. نفسك بتجزع. ف بتغير علطول.. بس مش آن الأوان تغير عليا أنا بقى. شوية بس يا عثمان.. خليك معايا شوية ب آ ا ..
بترت كلمتها و هي تطلق صرخة قصيرة حين دوى صوت تحطم زجاج قريب جدًا منهما ...
إلتفتا الإثنان معًا.. فإذا بها "سمر" تقف متسمرة عند مقدمة الدرج و قد سالت الدماء من يدها، كان هناك جرحًا طفيفًا نوعًا ما بكفها.. ربما تسبب به الكأس الفارغ الذي كانت تحمله و على ما يبدو أنها أرادت التوجه ناحية المطبخ
لكنها لم توّفق.. بسبب هذا المشهد الذي صعقها كليًا ...
-سمر ! .. خرج إسمها بهمسٍ من بين شفتي "عثمان"
لكنها استطاعت سماعه، و عندما استشفت نيته لم تود أن تمنحه الفرصة، سيكون فوق جثتها... إلتفتت "سمر" بلحظةٍ للوراء و أخذت تتسلّق الدرج بأقصى ما لديها من سرعة
ليفك "عثمان" أسره عن "نانسي" فورًا و يلحق بها هاتفًا :
-سمر... سمر.. سمر إستني !!!
و من خلفه بقيت "نانسي" بمكانها، تنتشي بأول إنتصار مزدوج لم تكن تحلم بتحقيقه بهذا التوقيت.. فهي كانت تطمح في التقرب من "عثمان" و إثارته بأيّ طريقة
الآن فقد أثارته بالفعل، و لكنها أيضًا أضرمت نيران لا تنطفئ بصدر زوجته... نيران الغيرة و الغيرة هي كل ما تحتاجه "نانسي" للقضاء على هذا الحب و اقتلاعه من جذوره !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! ................................................ !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبع ...
تعليقات
إرسال تعليق