قصة قصيرة - مقابلة زواج
آتاها خاطبًا، استقبله والدها بتهليل وصدر رحب، جلس معه جلسة كأنه علق أمام بابها "للرجال فقط"، ليس فيها غيره وشقيقها الأصغر، تبادلوا الكلمات، سؤال تقليدي عن الأحوال تحول إلى العمل والراتب والشقة والأشغال.
وقفت تحاول تمالك أعصابها التي سالت من فرط الخجل والخوف، إنها المرة الأولى التي يتقدم إليها أحدهم، فتى كما تقول أمها زينة الشباب وأشدهم جمالًا وأناقة، دق قلبها بشدة حتى خالت صوته وصل إلى مسامع أمها، وإن كان.. فأمها تهيم في دنيا النصائح والوصايا، يجب أن تقدم المشروب إليه ثم والدها وليس العكس؛ فهو ضيف، ثم تنتقل إلى مشيتها وتمهلها في السير، صاحت بها:
-"أبوس إيدك، إنسي ماشية الشويش بتاعتك دي"
وما يجب أن تقوله.
انتهت من استخارتها على دخول والدتها تستعجلها القدوم وتقديم العصير، لحقت بها تقدم قدمًا وتؤخر الأخرى، تعصر أصابعها من فرط القلق، تحرك لسانها بأذكار لا تدري ما هي، فقط تحاول بث الإطمئنان داخلها بذكر الله.
دخلت عليهم مطأطأة الرأس، تتعثر في خطاها، قدمت العصير لأخيها ثم أبيها وتركت له الكأس الأخيرة، لم تنتبه للغضب الحائم على وجه والدها مما اقترفته من قلة ذوق، وأخيها الكاتم لضحكاته حيث وقفت أمها تقبض يدها بعنف كي لا تنهال فوق رأسها الناسي المرتبك فتهشمه.
لم تشعر بالعالم حولها، استغرقتها مشاعرها، لم ترى سوى حذائه الأكسفوردي اللامع بمزيج عجيب بين الأسود والأحمر القاني، والأدهى ذلك الكعب الضئيل في الخلفية، ازدردت ريقها، منذ البداية وذوقه سيء، فلتمر هذه الليلة على خير.
مرت دقائق، تعرفت فيها على عائلتها من جديد، أب يخبره عن طاعتها للكلمة وأدبها فيما وبخها أمس واتهمها بقلة التربية، وأمٌ مَدَحت في لذة الطعام الخارج من تحت أناملها، وقد قلبت المطبخ رأسًا على عقب حين أعدت بيضة مقلية للمرة الأولى منذ أسبوع، حتى أخيها المشاكس قال عن كرمها وعطفها عليه قصائد طوال، حدقت به تتأكد أن ضوء لم يتسلط فوقه ويسحبه ثم يضع محله شخصًا آخر، يبدو أن رأسه اصطدمت بالكرة بشدة حتى أفقدته الذاكرة، فلم يمضِ على اشتباكهم بالأيدي والألسنة.. والأرجل كذلك سوى ساعات من الزمن.
حركت رأسها تحاول رؤية وجهها في شاشة التلفاز المطفأة، إن كانوا هما نفسهم أهلها يمكن أن تكون هي من تبدلت، لمحها العريس وكتم ضحكة أوشكت على الفكاك من بين أسنانه اللؤلؤية، اكتفى بمتابعة جانبية لحركاتها دون أن يظهر ذلك لوالديها، ابتسامة مجاملة وجهها إلى والدها ردًا على جملة ما تمتم بها.
أخيرًا حان الوقت ليختلي بها قليلًا، دون ثرثرة من سواها، لم يهتم أنهما على مرمى البصر من الأهل، يكفيه أنه لن يسمع صوتًا إلا من أحبالها، ابتسم لسكوتها، يعلم أنها تحترق من فرط التوتر، بدى ذلك واضحًا للعين من حركاتها العصبية الممسكة بأحد أطراف أكمامها.
طالبها رافعًا أحد حاجبيه:
-"مش عايزه تسأليني على حاجه؟"
لم ترد، الصمت رفرف فوق رؤوسهم بأجنحته المنبسطة، حاول استفزازها لكنه بالغ دون شعور:
-"يبقى السكوت علامة الرضا، للدرجة دي موافقة عليا فما عادش في داعي للأسئلة؟"
ارتبكت لكلماته ومعانيها التي اخترقت جهازها السمعي عبورًا إلى عقلها، هتفت بغتة تسأله:
-"هي سورة الطلاق بتتسمى إيه؟"
سقط فكه السفلي حتى أوشك على ملامسة الأرض، حدق بها كأنها جُنت أو أصبها خبل في عقلها بينما ازداد إحمرار خديها، عاتبت نفسها ولامتها، كيف لها بهكذا سؤال، من أين جاء، كيف وصل إلى لسانها مخرج عبر فمها، كيف لم تمنعه أو تكبح جماح جنانه، لكن الأوان قد فات، تمسكت به وتصرفت كأنها أخرجته قصدًا، رفعت ذقنها وطلعت إلى وجهه لأمر مرة منذ دلفت إلى الحجرة، جمع شتات نفسه وتنحنح، ابتلع ريقه بصعوبة:
-"مش عارف"
فجأة كأن سكينة العالم هبطت فوق رأسها، أثلجت قلبها، أعادت إليها أعصابها المنفلتة، تحدثت معه بسلاسة، تسأله مثلما يخطر ببالها، أسئلة لم تعدها من قبل، لم تفكر فيها أبدًا لكنها خرجت عبر شفتيها بتلقائية شديدة.
انتهت الزيارة، وأوقفت حث والديها على الإدلاء برأيها ولو مبدأيًا، هزت رأسها معلنة رفضها، لم تفلح تبريراتها معهما شيئًا فأدارت جسدها وانصرفت إلى غرفتها تاركة مناوشة تدور بين والديها عن مدى غبائها، عريس كامل كما يقولون، جاهز في كل شيء ورفضته بسهولة.
ارتسمت ابتسامة راضية هادئة فوق شفتيها، الأسئلة أعلمتها بداية جهله بشئون دينه، ثم سذاجته، ليس لديه طموح، يرغب في زوجة؛ لأن الوقت قد حان ليس أكثر، لا يضع لها شروطًا، بياض أسنانه اللؤلؤية خدعة كبرى، اتسعت ابتسامتها عندما تذكرت مباغتتها له بالسؤال:
-"بطلت سجاير إمتى؟"
أصفر وجهها وشحب، حدق بها كأنها ساحرة، همهم كطفل أخطأ يرد على والدته:
-"من قريب بس ساعات بأضعف وأشرب سجارة ع الماشي"
هزت رأسها تفيق من ذكرى أصبحت ماضيًا، رغبت أن تلفت إنتباهه إلى حركته اللا إرادية، أصبعيه في لمس شفتيه كما يفعل حين يدس السجائر بينهما، يبدو أنه أدمن السجائر لفترة طويلة وعندما تركها لازمته تلك كأثر على وجودها سابقًا، حتى تبييض أسنانه لم يفلح في نزع هذه الخصلة منه، لغة جسده فضحته. أمتنعت عن إطلاعه على تلك الملاحظة التي تتساءل من أين أتتها، رغبت أن تبقي حاجز الرهبة والقلق بينهما، وظلت تطرح الأسئلة ويجيب بصدق كأنه مرغم وليس رغبة نابعة من دواخله بذلك؛ يخشى أن تواجهه بإدعائه لشيء ما.
لقد مر الأمر بسلام وأنتهى على خير ما يرام، اتخذت عهدًا على نفسها بالاهتمام بلغة الجسد وعلم الفراسة من باب الإحتياط؛ فهي تعلم حظها وأن العجائب تترك أقرانها لتلتصق بها كالعلقة، ليس من المستبعد أن يتقدم لها قاتل أو مريض نفسي المرة القادمة، فدائمًا تصرخ بها والدتها:
-"إنتي مافيش بني آدم طبيعي يقبلك أبدًا، آخرك معتوه أو متخلف عقليًا، دا مش بعيد هما نفسهم يراجعوا نفسهم، يا عيني، هيعالجوا نفسهم ولا يتبلوا بيكي إنتي كمان".
تمت بحمد الله
تعليقات
إرسال تعليق