رواية أرض الدوم الفصل الثالث بقلم الكاتبه رحمه نبيل حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج
رواية أرض الدوم الفصل الثالث بقلم الكاتبه رحمه نبيل حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج
الفصل الثالث [ وجهًا لوجهٍ]
وَحُبّي إِذا أَحبَبتُ لا يُشبِهُ الحُبَّا!
- قيس.
صلوا على نبي الرحمة .
في انتظار آرائكم ......
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
نقرات سريعة على لوحة المفاتيح، وعيونه تتحرك بسرعة كبيرة على الكلمات التي تمر أمامه بسرعة كبيرة، وبسمة صغيرة ممتدة على فمه، والضوء ينعكس في عدسات نظراته التي تركز على الحاسوب أمامه.
والجميع حوله يشاهدون بعدم فهم، عدا حاتم والذي كان يدرك أن رفيقه الآن في خضم احتلال ذلك المكان بنقرة زر، وقد تميز العزيز مسلم في الأمن السيبراني حيث يمكنه احتلال العالم في بضعة ساعات وكلما تقدمت التكنولوجيا وتمكنت من حياة البعض تمكن هو أكثر من السيطرة على كل ما يحيطه، وكل هذا بفضل خبرة عشرة سنوات في هذا المجال وإتاحة أعلى الإمكانيات بين قبضته.
بدأت العديد من النوافذ الإلكترونية تعرض على الحاسوب أمام الجميع، ولا أحد يفهم ما يفعل .
بينما مسلم بدأ يحرك رقبته يمينًا ويسارًا وملامح الضيق اتضحت أكثر على وجهه:
_ اللي خايف منه حصل للأسف.
نظر الجميع له بعدم فهم وترقب، ليس وكأنهم يدركون بالفعل ما يبصرون في هذا الحاسوب .
بينما بادر عيسى يتحدث بانبهار وهو ما يزال ينظر للشاشة المضاءة أمامه والبسمة مرتسمة على فمه وقد التمعت فكرة داخل رأسه يتوسم بأخيه خيرًا وهو يقترح :
_ بقولك ايه يا حبيب اخوك، تعرف تهكرلي لعبة كده لو طلبت منك ؟؟
رفع مسلم عيونه صوب عيسى وتحركت جميع العيون نحوه، وهو فقط تراجع لا يفهم ما حدث، لكنه ابتسم بغباء :
_ لو مش هتعرف خلاص يعني أنا بس قولت اوفر فلوس السايبر و...
_ ولا، مش نقصاك الله يكرمك الواحد على آخره، فعدي يومك ماشي ؟؟ عدي يومك .
كانت تلك كلمات يحيي وهو يدفع يضرب على رقبة عيسى، ومن ثم نظر صوب الحاسوب يهتف بجدية :
_ حصل ايه يا بشمهندس طمني ؟!
ابتسم مسلم بسمة صغيرة وقد اشتاق لهذه الكلمة والتي لم يناديه بها أحدهم منذ سنوات طويلة، لكنه رغم ذلك أجاب بصوت شارد في الشاشة أمامه:
_ القرية دي برة دايرتي للاسف .
نظر له الجميع بعدم فهم حتى تحدث أحمد بتخمين وقد كان حديث مسلم المشفر اصعب من استيعاب الجميع :
_ أنت مترشح لمجلس النواب ولا ايه ؟؟
ضرب يحيى كتفه بضيق يصرخ وقد نفذ صبره :
- بقولك ايه خد عيسى وروح خد لفة معاه بالتوكتوك، يلا لغاية ما نخلص وهننادي ليكم .
_ الله ما أنا مش فاهم يعني ايه برة دايرتي دي ؟!
صرخ يحيى في وجهه بصرامة وضيق ونفاذ صبر وقد كان كل شيء يضغط على أعصابه :
_ مش فاهم يبقى تخرس لغاية ما نتنيل نفهم كلنا .
التوى وجه احمد بضيق وغضب من يحيى والذي كان طوال الوقت متجبرًا على الجميع ليس وكأنه أكبرهم، بينما الأخير زفر يستدير صوب مسلم يصرخ بحنق :
_ وأنت التاني ما تنطق يعني ايه برة دايرتك دي ؟؟ اتكلم كلام نفهمه الله يكرمك أظن مستويات الذكاء هنا مش محتاجة تلميح .
رفع مسلم رأسه ببطء وبشكل خطير صوب يحيى الذي توتر من نظراته وقد كانت غريية مخيفة، يبتسم بتردد :
_ معلش يعني فهمنا، اعتبرنا حمير سارحة في الغيط .
اعترض أحمد كلماته بضيق :
_ أنا مش حمار.
فتح يحيى فمه وكاد يجيبه لولا مسلم الذي اوقفهم بيده يخرج سيجارة يشعلها :
_ خلصنا يا يحيى، ركزوا معايا عشان نخلص من الحوار ده في اسرع وقت و....
_ أنت من امتى بتدخن بالشكل ده يا مسلم ؟؟
كانت جملة استوقفه بها أحمد بحزن على ما حدث لابن خالته والذي كان يمكن أن يقضي ليلته بالمشفى إن مر به دخان سيجار بالخطأ، والآن يجلس بينهم أنهى سيجارتين في أقل من ثلاث ساعات وكأنه في سباق لقتل نفسه .
نظر له مسلم ثواني وقد خُيل لأحمد أنه أبصر لحظة ضعف وحسرة سرعان ما تلاشت خلف غيمات اللامبالاة التي ملئت عيونه، يبعد عيونه عنهم يحركها بملل على الحاسوب أمامه:
_ قولتلكم كويس أنها جات على قد التدخين يا أحمد.
ولم يدرك أحد مقدار الوجع داخل نبرته الغير مهتمة، سوى حاتم، حاتم والذي كان يدرك كل ما يدور داخل نفس مسلم، يبصر العصبية التي يخفيها خلف نقرات حادة على لوحة المفاتيح، الغضب الذي يدفنه خلف بسمات ساخرة .
أما عن مسلم فارتجف جسده ومرت لمحة قديمة لحياة أُجبر عليها.
جسد هزيل يجلس في ظلام سجن ضيق مع العشرات من أمثاله وصوت الصراخ يعلو والقتال يشتد حول قطع خبز جافة.
حينما كان الحصول على الخمر أسهل من الماء، والوصول للسجائر والمخدرات أيسر من كسرة خبز، فإما أن تحيا بكامل وعيك داخل هذا القبر وتجن، أو تغيّب عقلك بمخدارت وسيجارة، وهو أختار أهونهما .
خرج من شروده على ضغطة يد جذبته من ظلمه حاول الخروج منها، لكن ربما لم تخرج هي منه .
_ مسلم، يحيي بيكلمك .
كان مسلم ينظر صوب حاتم الذي مده بالدعم مبتسمًا بمؤازرة بينما هو نظر صوب يحيى الذي كان يحدق فيه بعيون مصدومة من مقدار الوجع الذي أبصره فجأة في عيون شقيقه .
يحدق في عيونه بوجع كبير وكأنه يستجوبه بصمت، استجواب لم يكن مسلم مستعد ليخوضه في هذه اللحظة، وقد هرب من والدته والجميع بمجرد أن حل الليل كي لا يرى نظراتهم نحوه.
تنحنح مسلم وهو يلقي السيجارة ارضًا بضيق:
_ خارج دايرتي، يعني ملهاش نظام اخترقه، ملهاش مركز معلومات أخد منه اللي عايزه، القرية شكل اللي فيها عايشين في القرن اللي فات، مفيش حاجات كتير عنها، بس عنوانها واخبار قديمة عن الصراع عليها والقضايا اللي عملها جدي واخواته زمان .
هز أحمد رأسه بهدوء شديد :
_ جدي قال كتير أنهم حاولوا اكتر من مرة يوصلوا ولو لحل وسط، لكن دايما كانوا بيرفضوا النقاش أو الحوار .
شعر يحيى أن الأمر يزداد سوءًا، كان الأمل كله في إمكانية مسلم مساعدتهم بأي معلومات من شأنها إنقاذهم من هذه الورطة .
_ ودلوقتي هنعمل ايه ؟؟
كانت تلك جملة عيسى التي كسر بها صمت الجميع، لتتحرك جميع النظرات صوب مسلم الذي نهض يتنفس بصوت مرتفع :
_ برة دايرتي، لكن مش برة ايدي.
ولم يفهم الكل ما يقصده مسلم، ليردد الأخير بجدية كبيرة :
_ بكرة اجهزوا هنتحرك على أرض الدوم ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تجلس بهدوء وهي تداعب خصلات شعر جدتها التي كانت تستريح برأسها على قدم رايانا، تبتسم لها الأخيرة بحب وهي تردد لها ترنيمة قديمة كانت جدتها معتادة على غنائها لها منذ طفولتها، فإلى جانب زوجة والدها كانت جدتها هي اليد الثانية التي اعتنت بها .
_ شَمِرت باللي كان بالحفل يا رايانا . ( سمعت بما حدث في الاحتفال رايانا ).
ابتسمت رايانا بسمة صغيرة وهي تحاول أن تتلاشى نتائج ذلك اليوم، الجميع بالفعل وبخها وليس فقط والدها، ناهيك عن نظرات الازدراء التي كانت تتلقاها كلمة أبصرت نفر في الطريق .
_ لا تِوَجّعي راسِك بيه يا جدة، روحي تهنا… الحفل راح وما يِسوى وجع القلب.
( لا توجعي رأسك بالاحتفال جدتي، ارتاحي فقط فقد مر الأمر بالفعل )
ابتسمت لها الجدة بحنان شديد تقبل كفها التي تداعب خصلاتها البيضاء:
_ كيف ما أوجّعش قلبي، والبَخت فيكِ يا حَبيبِة جدتك؟ يا بْنَيّتي، خَلّيكِ بعيد عن زَعَل أبوكِ، وتهني يا رُوح جدتك.
_ الوحيدة اللي تتمنى الهنا لي يا جدة، الكل يتمنى هلاكي اليوم قبل بكرة .
_ لأنهم ميعرفوش رايانا يا بنيتي .
سقطت دمعة رايانا وهي تشعر بالوجع يسكن قلبها وقد ظنت أنها تجنبت كل ذلك منذ سنوات :
_ بكفاية اللي يعرفوه عني عشان ما يكرهوا ظلي .
_ وأنتِ ما بتتوصي في الأمر يا بنيتي، ما بتتركي مناسبة إلا وتثبتي ليهم ظنهم .
سقطت دمعة رايانا، تمسحها بسرعة قبل أن تتمادى دموعها وتتابع بلا توقف :
_ معتقدش أي شيء ممكن يغير رأيهم، اللي حصل حصل وسوء النية اتفرض من لما كنت طفل في المهد يا جدة، ما بعتقد إن شبابي بيشفع ليا عندهم اللي فشلت طفولتي فيه .
أبصرت جدتها مقدار الوجع الذي اتسم على وجهها، تدرك أن الصغيرة عانت منذ اللحظة الأولى لوالدتها، من نبذ وكره وحقد .
_ إيش تبغي بيهم يا بْنيّتي؟ خَلّيكِ، جدتك تقولك… البَخت ما يِقفّش على باب واحد. بكرة يِجي اللي عينه تشوف نورِك، ويعرف قدرك، ويقول هادي البِنيّة ما في زيّها .
صمتت تربت عليها بحنان وعيونها التي كانت تشبه عيون رايانا مع لون أشد ندرة:
_ رايانا، ما في مِثلِها بين بنات حَوَى كُلّهم…، يِقف قدّام الخَلق، ويقول أنا اللي اتفَتَن بعيون رايانا.
اتسعت بسمة رايانا وتساقطت دموعها أكثر لجمال الحلم البعيد الذي تقصه الجدة، كانت الجدة ومنذ سنوات امرأة حكيمة تدرك من الحياة ما لا يدرك غيرها، الآن هذه الكلمات التي تنطقها على مسامعها تبدو أشد استحالة من تلك القصص الخيالية التي اعتادت أن تقصها عليها في الطفولة .
_ إن شاء الله يا جدة، إن شاء الله ....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الصباح الباكر .
كانت السيارة تتحرك بسرعة مرعبة على الطريق فمنذ فجر اليوم تحرك مسلم بالسيارة يحمل معه رفقته لأجل البدء بالخطوة الاولى في خطتهم للحصول على أرض جده، أو بالأحرى أجداده...
وحديثهم الأخير مع جدهم يتردد في أذنه.
_ أملي في الله ثم فيك يا ولدي، رجعلي ارضي ومش عايز منهم أي حاجة تاني، ربنا يبعدهم عننا .
اقترب منه يحيى وهو يمسك كفه يقبله بسرعة وحب ارعب حليم الذي جذب كفه بسرعة مخافة أن يأكله يحيى، بينما الأخير ابتسم له بسمة صغيرة :
_ ايه يا حُلم خايف ليه ؟؟ ما قولتلك إني رايح معاه ومش راجع غير بحقك أنت واعضاء مجلس جامعة الدول العربية عضو عضو.
رفع حليم عيونه صوب مسلم يجذب ذراعه حتى أجبره أن يميل بالقرب من فمه هامسًا بصوت منخفض ويده ترتعش من أثر الزمان :
_ لو ...حصل يا بني ومقدرتش تعمل حاجة معاهم، سيب ليهم اخوك يعملوا فيه ما بدا ليهم، اهو ميكونش مشوارك راح على الفاضي، لهم حاجة الله يكرمك مترجعش بيه.
وقبل أن يجيب مسلم عليه مال عليهم أحمد بسرعة جعلت حليم يصرخ وهو يتمسك بمرفق مسلم الذي وبخ يحيى بنظراته، بينما الأخير تجاهله وهو ينظر لحليم بجدية :
_ متخلنيش اجي احجر عليك يا حليم، خلينا حلوين، احنا هنرجع باذن الله الـ ١٢٩ فدان بتوعك، أنت ليك البيت بتاعك وتربتك في مدافن العيلة، والباقي بتاعنا احنا، ولو حد من اخواتك اتكلم قوله أننا هنعملهم تربة جنبك، اتفقنا ؟!
هز حليم رأسه وهو يتمسك بمسلم، بينما يحيى يقرب رأسه منه بمزاح خشن، ليدفعه مسلم في رأسه بغضب وهو يضم رأس جده لصدره بحنان :
_ ما تبطل رخامتك بقى يا اخي، سيبك منه يا جدي أنت بس ادعيلنا وباذن الله ربك مش هيرجعنا مكسورين الخاطر .
والآن ها هم في طريقهم لأرض الدوم .
يجلس في الأمام ويقود بجنون وبسرعة كبيرة، جواره حاتم، وفي الخلف أحمد مع عيسى ويحيي .
وصوت صراخ عيسى المرتعب من تحرك السيارة الغير مستقر على تلك الأرض الغير ممهدة بالمرة يعلو في المكان :
_ يا عم أنت براحة، والله كنت جيت وراكم بالتوكتوك بتاعي اكرملي .
رماه يحيى بسخرية وهو يتمسك بالسيارة وكأنه سيخرج من النافذة إن غفل عن التمسك :
_ هتيجي من القاهرة لهنا بالتوكتوك ؟!
_ أي حاجة احسن من الهم اللي أنا فيه ده، بعدين يا عم أنت ما تبطئ شوية امال لو كانت عربيتك، دي إيجار يابا، اقسم بالله الواد حودة لو العربية اتخدشت خدش هيطلع عين اللي خلفوني ده واخد بطاقتي رهن عنده .
لكن مسلم لم يكن يستمع له، بل فقط قاد السيارة على الطريق الغير ممهدة وهو يحدق بالخريطة الإلكترونية أمامه بانتباه شديد :
_ خلاص هانت باقي كيلو حسب الـ GBS.
نظر الجميع لبعضهم البعض وصمتوا خوفًا من التحدث بكلمة تزيد من جنون مسلم .
أحمد يذكر ربه، وعيسى يفكر فيمن سيرث التوكتوك الخاص به إن مات، أما عن يحيى فكان يتحسر على حلمه بالثراء الفاحش وشراء الجامعة وتحويلها لحظيرة ضخمة يربي بها بعض المواشي وينتفع بلحومها والبانها أكثر من انتفاعه بشهادة الجامعة.
وحاتم في الأمام ينظر لهاتفه وهو يرتشف بعض قطرات العصير الذي يحمله يصور كل شيء يمر به، كل شجرة وكل زرعة وكل زهرة، وفجأة انتفض بحماس يصور بعض الماشية التي مرت جوارهم حينما اقتربوا من منطقة ريفية.
_ بيقولوا الغجر دول بناتهم حلوين صح الكلام ده يا يحيى ؟!
كانت كلمات تلقائية خرجت من عيسى وكأنه يبحث عن شيء يخفي خوفه أسفله، لكن فجأة انتفض الجميع من توقف السيارة المفاجئ لهم، وقد اندفعت الأجساد للأمام بشكل مخيف، وقبل أن يستفسر أحدهم عن شيء تحدث مسلم كلمات بطيئة بلهجة غاضبة وصوت يقطر سوادًا :
_ قبل ما تدب رجليكم في القرية دي، حذاري ألمح حد فيكم قرب من بنت أو رفع عينه في أي ست هناك سامعين ؟!
نظر له الجميع بعدم فهم ليس وكأنهم سينقضون على النساء بمجرد أن يبصروهن، لكن ملامح مسلم السوداوية في هذه اللحظات كانت تخبرهم أن يهزوا رؤوسهم بنعم وفقط وكذلك فعلوا .
_ اطمن يا مسلم اكيد يعني مش هنسيب كل بنات القاهرة ونروح لبنات الغجر، مليش أنا في الغجر .
وكانت جملة ممازحة من أحمد الذي حاول أن يكسر صلابة مسلم، لكن الأخير لم يستجب لهذه المزحة وهو يضرب المقود بجدية وعصبية غير مبررة :
_ ليك ولا ملكش يا أحمد، محدش فينا هيقرب أو يتكلم أو يتعامل مع أي ست، موضوعنا مش مع الستات وقضيتنا مش مع حد غير البارو بتاعهم ورجالته، مش عايز ست تدخل في الحوار كله .
وبالفعل هز الجميع رؤوسهم دون كلمة واحدة، وأكمل مسلم طريقه بهدوء شديد .
بدأت سرعة السيارة تبطئ شيئًا فشيء حتى توقفت بالكامل حينما قابلهم جدول مياه يقطع الطريق، هبط مسلم من السيارة يحدق بالطريق خلف جدول المياه، وصوت حاتم في الخلف يصدح بجدية :
_ لماذا توقفت هنا؟!
_ نهاية الطريق .
_ ماذا تقصد بنهاية الطريق ؟! هل هذه هي أرض جدك ؟!
رفع مسلم الهاتف أمام عيونه يفحصه بجدية، بينما عيسى في الخلف يحاول ترجمة ما يسمع منهما، يمتص شفتيه بتأثر وهو يحرك نظراته بين مسلم وحاتم والبسمة مرتسمة على وجهة باتساع :
_ بسم الله ماشاء الله، اخوك بقى يتكلم خواجاتي يا يحيى .
تشنج احمد بسخرية من كلماته :
_ ده انجليزي يا عيسى عادي .
_ يعني مش خواجاتي ؟؟
كانت كلمات جاهلة تشدق بها عيسى، وقد كاد أحمد يفتح فمه ليوضح له الأمر، لولا يحيى الذي قاطعه بضيق :
_ يا عم احمد أنت بتشرح ايه، ده غبي كان بيغش اسمه من رقم الجلوس اللي على الديسك وبيكتبه غلط في الآخر .
تشنج عيسى وعيونه قد التمعت بالغضب، يبتسم بسمة مغتاظة وقد شعر برغبة في تشويه وجه يحيى ذلك الحقير اللئيم :
_ والحلو بقى عمل ايه بشاهدته ؟! لفتها وحطتها في دولاب جدك جنب شهادة أحمد ومسلم ونورهان، على الأقل أنت بتكلم اسطا قد الدنيا يمتلك من الأملاك عدد واحد توكتوك باسمه، أنت بقى ايه املاكك اللي باسمك غير التليفون القسط اللي معاك؟!
اشتعلت عيون يحيي وهو يصرخ بجنون :
_ ولاا اقسم بالله أنا....
_ بس منك ليه مش ناقص صداع .
كانت جملة مسلم الذي نطق بها وهو مايزال ينظر للهاتف بين يديه يراقبه بأعين ضيقة يحاول أن ينتهي من بحثه، قبل أن يرفع عيونه صوب الجدول يدور حوله بالنظر حتى أبصر وأخيرًا ما يبحث عنه :
_ المفروض بعد الترعة دي على الجنب التاني هنلاقي القرية اللي عايزينها .
تذمر عيسى بضيق من كل ما يحدث معهم وقد سئم، كان يظن أن الثراء سهل، لكن اتضح أن الوصول لأسطول التكاتك الخاصة به ليس بالهين :
_ أنا مش فاهم هو الراجل اللي اختار الأرض دي كان مستخبي من ايه بالضبط، احنا بقالنا ساعات في الطريق بنطلع جبال ونغوص في بحيرات، ده احنا كنا روحنا نقبنا عن الاندلس أسهل يا أخي.
قلب يحيى عيونه وهو يتحرك بعيدًا عنه يشمر اكمامه بجدية يستسلم واخيرًا عن التعليق على تصرفات عيسى التي تستفزه :
_ تمام أنا مش هتكلم معاه تاني، حد غيري يحلّق على البقرة الشاردة دي عشان همسكه ارميه في الترعة .
فتح عيسى فمه للرد، لولا يد أحمد الذي جذب ثوبه من الخلف بعصبية شديد يتحرك معه صوب الجسر الصغير الذي كان يعلو المجرى وقد سبقهم مسلم بالفعل يبتسم على تصرفاتهم والتي كانت تعيد له الحياة قليلًا.
يقف على بداية المجرى يتأكد أن الجميع خلفه وحينما خطى له شعر أنه غير ثابت، لذا تحدث بجدية :
_ خدوا بالكم الجسر ده شكله مش ثابت .
ومن ثم تحرك بسرعة يحاول التوازن وخلفه عيسى من ثم احمد ومن بعدهم حاتم ويحيي، الجميع يسير بحذر شديد حتى لا يسقط بهم الممر داخل مجرى المياه، وبالفعل وحينما كادوا يصلون بخير واخيرًا لنهايته، شعر عيسى فجأة بشيء يتحرك داخل بنطاله، توقف فجأة ينظر حوله وقد اتسعت عيونه بصدمة .
ثواني كانت قبل أن يصرخ وهو ينتفض يحاول أن يبعد ذلك الشعور بشيء يسير على جلده، يقفز على الجسر الغير مستقر من الأساس، ومسلم يصرخ به :
_ أنت يا غبي بتعمل ايه، عيسى أهدى فيه ايه اااا....
ولم يُقدر لباقي كلماته أن تكتمل وقد اندفع له عيسى يصرخ برعب، لدرجة أنه لم يبصر أين يخطو وسقط على مسلم ملقيًا إياه في المياه أسفله، وكاد يلحق به لولا أنه تمسك بأول شيء أبصره ....بنطال أحمد، لينتزعه بالكامل ويسقط به في المجرى يتبعه أحمد الذي وجد نفسه في ثواني بـ( شورت ) فقط، ومن ثم شعر ببرودة المياه تضربه .
كل هذا وحاتم يراقب مع يحيي ما يحدث بأعين متسعة دون القدرة على التدخل، رفع يحيي يده بسرعة يشكل حاجزًا لحماية شعره وهو يهرول على الجسر حتى وصل للطرف الآخر سالمًا، وحاتم ما يزال يقف في المنتصف لا يدري ما يفعل .
يلحق بيحيى وينجو بثياب جافة، أم يحاول إنقاذ عيسى من الغرق على يد مسلم وأحمد ؟؟
وفي المياه كان مسلم يمسك برأس عيسى يقسم أن يغرقها أسفل المياه، وأحمد يحاول مساعدته، وحاتم يصرخ بهم أن يتوقفوا ويخرجوا ...
كل هذا وعيسى كان يستخدم بنطال أحمد كسلاح يلوح به في الهواء يصرخ كما لو كان سلسال حديدي، يهددهم به أن يبتعدوا عنه وإلا خنقهم به .
ومسلم يحاول جذب البنطل منه ليطعمه إياه، وأحمد فقط كل ما يريده هو أن يأخذه ليستر به عري جزئه السفلي .
بينما حاتم يميل على مجرى المياه يمد يده وهو يصرخ بهم أن يخرجوا وينتهوا من كل هذا.
_اطلعوا أول إشي من المي، وبعدين بتقدر تتخلّص منه… مشان ما يموت مبلول.
ويحيى يتمتم بغيظ وهو ينفض ثوبه بضيق :
_ سيبه يربيه .
_مو هذا أخوك الصغير؟! شو هالبرود اللي عندك؟!
ابتسم له يحيى بسمة صغيرة مستفزة ولم يهتم بالرد يراقب ما يحدث وصوت صراخ مسلم يرن في المكان بشكل مرعب وأحمد يحاول النجاة ببنطاله.
فجأة سمع الجميع صوت اصطدام قوي لتتوقف الحركة فجأة وتتحرك الأعين ببطء صوب الخلف حيث مصدر الصوت، ليكتشفوا باسوء الطرق الممكنة أن كل هذا كان يحدث على مرأى ومسمع من شخص آخر، شخص يقف بعيدًا يحمل بين يديه كتاب ضخم يراقب ما يحدث بملامح مصدومة وأعين متسعة.
نظر الجميع لبعضهم البعض ثواني، ومسلم فقط رفع عيونه صوب الزائر الغريب الذي قاطع جلسته قبل تقطيع جسد أخيه الأصغر، ليبصر في هذه اللحظة ظل امرأة....فاتنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قبل ساعة واحدة من كل ذلك :
حملت كتاب جدها العزيز وقد قررت الخروج لرحلة تأملها المعتاد، تزفر بضيق من ثقل الكتاب، ليس وكأنها تحب قراءة تاريخ قبيلتها العزيزة، هي فقط أرادت أخذ شيء تدافع به عن نفسها تحسبًا لحدوث شيء كآخر مرة، سلاح لا يثير الإنتباه، أوليست الكتب أسلحة كذلك ؟!
كادت تخطو خارج المنزل حتى سمعت صوت ينادي باسمها يوقفها :
_ راي، على فين ؟
قلبت عيونها بضيق تبتلع دلاله بصعوبة، لكنه للأسف لم يتحرك من حلقها، لذا استدارت وبصقت كلماتها في وجه المتحدث :
_ أي داهية بعيد عن وشك هتكون كافية .
ابتسم عز الدين بسخرية يقترب منها يرفع يده على وشك لمسها :
_ بس ده مكانش رأيك زمان يا راي...
_ يانا ...رايانا، مش راي، مش بحب حد يناديني بالاسم ده خاصة لو كان الحد ده سمج وسخيف واسمه عز الدين، ومن ثم زمان ده كان في خيالك المريض أنا والله مش طيقاك من وقت ما كنت بتف عليك وأنا صغيرة، بس أنت اللي موهوم .
وكادت ترحل لولا أنه توقف أمامها يمنعها الرحيل ينظر لعيونها بجدية وقد شعر بالغضب من كلماتها وطريقتها الفجة في التعامل :
_ هتبطلي امتى طريقتك دي ؟! راي أنا لسه عند طلبي، هسامحك وانسى اللي عملتيه لو موافقة أنا ممكن انسى كل اللي حصل و......
لكن رايانا قررت أنها اكتفت من سماع نفس الجملة التي يقررها على مسامعها منذ يوم عقد القرآن غير المكتمل، حتى بعدما تزوج أخرى.
رحلت تاركة إياه يراقبها بصدمة من وقاحتها وكأنه ليس موجود .
أما عنها فهي لم تفعل سوى أنها تصرفت معه التصرف ذاته الذي يعاملها به أبناء عشيرتها .
ضمت الكتاب بقوة تتحرك صوب مكانها المفضل تتحدى أحدهم أن يقطع عليها رحلتها التأملية التي تحيا لأجلها، وبعد سير عشرين دقيقة تقريبًا وصلت أخيرًا تتنفس الصعداء وهي تغمض عيونها براحة، لكن سرعان ما فتحت عين واحدة حين تناهى لمسامعها صوت غريب، بل أصوات إن تحرت الدقة .
فتحت عيونها لتبصر مشهدًا غريبًا وبشدة، تشنجت ملامحها أسفل الغطاء الذي يخفي نصف وجهها، تخفي نفسها عن أعين القوم .
فجأة هدأ الضجيج وتحولت خمسة أزواج من الأعين نحوها، والجميع يراقب بصمت وصدمة وتحفز غريب، وهي تراقبهم بتوتر تتراجع للخلف بريبة تضم الكتاب " سلاحها الفتاك " لصدرها تستعد لإشهاره أمام أيٍ كان من يتجرأ على تخطي منطقتها الآمنة.
وبعد صمت ظنت أنه سيمتد للأبد سمعت صوت رجولي هادئ يخرج من رجل بشعر كثيف وهو يبتسم لها بلطف يلوح بيده :
_ صباح الخير يا قمر، أنتِ من هنا ؟!
ونعم كانت أكثر جملة غبية قد يبدأ بها يحيى حديث مع امرأة ابصرتهم في هذه اللحظة على أطراف قرية يقطنها الغجر والتي تبدو واحدة منهم بالنظر لثوبها وشعرها .
مال حاتم على يحيى يهمس بصوت منخفض وهو يدور بعينيه بفضول على رايانا التي بدأت تضيق عيونها بسبب نظراته :
_ ما بظن هاي جملة تنحكى لبنت لساتك شايفها هسه .
ختم حديثه يقترب من رايانا بهدوء يحاول أن يبدأ الحديث بشكل لائق أكثر لربما ساعدتهم في هذه الرحلة المريبة كذلك واوصلتهم لهدفهم :
_ الله يعطيكِ العافية يا آنسة، بدي عذبك معي و....
وقبل إكمال جملته شعر حاتم بصخرة ترطم بوجهه تسقطه ارضًا بعنف شديد لترن صرخاته في الإرجاء وتتسع الأعين بصدمة من سرعة ردة الفعل التي بذلتها تلك الفتاة .
بينما رايانا والتي لم تتردد في استخدام سلاحها " الكتاب " كانت تقف متحفزة تراقبه بشر بعد تلك النظرات المتفحصة التي وجهها لها، ولم تكد تتخذ ردة فعل للخلف حتى أبصرت الثاني يقترب بسرعة من الاول وهو يصرخ بصدمة وكأنه على وشك ضربها :
_ أنتِ مجنونة يا بت أنتِ، مالـــك كده، هو عملك ايـــ....
ويبدو أن يحيى لم يحسن اختيار كلماته للمرة الثانية وكان مصيره أن يسقط بنفس الضربة جوار حاتم والذي كان ما يزال يمسك رأسه يصرخ من الوجع.
كل ذلك تحت أعين مسلم الذي راقب ما تفعل الفتاة بهم، تسقطهم واحدًا تلو الآخر ارضًا بكتاب ؟؟؟
وهو اشتد غضبه في هذه اللحظة، ليس من الفتاة وما فعلته بهم، بل من أخيه وحاتم لإخافتهم الفتاة، وزاد الطين بلة صرخات يحيى بها، ردد بغضب وصوت لم يتحكم به :
_ يحيـــــــــــى...
رفعت رايانا عيونها بسرعة صوب مسلم والذي سبح بمهارة صوب حافة الجسر يتمسك به ونظرات ممتلئة بالتوعد وصراخه ما يزال يصدح في المكان بلغة أجنبية :
_ هل من المفترض أن أكرر حديثي عليكم؟! ماذا اخبرتكم عن التعامل مع نساء هذا المكان ؟!
رفع عيونه صوب تلك الفتاة التي كانت تتابعه وهو يقترب من الجسر بتحفز لا تفهم كلماته، القليل ربما فهي لم تتلقى تعليم كافي يكفيها لتفهم كامل جملته، لكنها خمنت أنه غاضب ...منها ربما .
أبصرت رايانا في اللحظة التي ارتفع بها نصف جسد مسلم أكثر جسد رجولي مرعب ابصرته منذ ولادتها، شعرت بجفاف فمها من الخوف تتخيل ضربة واحدة منه والتي قد تصيبها بعمى في أفضل الأحوال، حتى كتاب جدها المسكين لن يصمد أمامه.
ابتلعت ريقها وهي تراه يستقر واخيرًا على الجسر يتحرك صوبها بشر واضح في عيونه، كان الرجل يبدو ....مرعبًا حتى أنها ارتجفت وشعرت بالدموع تلسع عيونها مما يمكن أن يفعل بها، وكردة فعل وقائية من جسدها ركضت بسرعة ليس هربًا منه، بل ركضًا صوب الجسر تجذب خطاف الامان بسرعة تسقط الجسر في ثواني مجددًا ومعه مسلم الذي اتسعت عيونه حينما شعر بجسده يصطدم مجددًا بالمياه، ولم يدرك ما يحدث إلا حينما وجدها تركض بسرعة بعيدًا عنه وكان آخر ما ابصره هو عيون كحيلة تنظر له بشر وتشفي، وخصلات شعر ترفرف خلفها وكأنها تخرج لها لسانها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يجلس على طاولة صغيرة في ركن المقهى الصغير الذي يتوسط ساحة القرية، المقهى الذي كان سابقًا كل وسائل الترفيه في المكان، حيث كانت تقام به عروض خفة يد، ورقص وغيرها .
ورغم أن الكثير تغير في القرية منذ عقود، إلا أن ورثة هذا المكان أبوا إلا أن يحيوا ذكراه الأولى، واستمرت العروض نفسها، صباحًا ومساءً بلا توقف، ورغم أن الكثير من النساء توقفن عن امتهان الرقص منذ عقود كذلك، كما توقفن عن زيارة القرى في قوافل لامتاع المشاهدين، إلا أن القليل كان يعتز بنفسه وبتراثه ورقصاتهم التقليدية .
وكانت " سافا" واحدة منهن، بل أفضلهن، المرأة التي يرتص رجال القبيلة بأكملها أسفل أقدامها طمعًا في نظرة منها، وهي فقط تلقيهم ببسمة مزدرية وترحل .
الآن على المسرح الذي يتوسط المقهى تتحرك بخفة ويتحرك حولها شعرها الأحمر وثوبها الذي يماثل لون شعرها، تبتسم لهذا وتغمز لهذا فتنال صيحة وتنهيدة متحمسة من الرجال الذين تركوا نصف أعمالهم وجاءوا فقط لمراقبة عرضها الصباحي .
غناء ورقص هكذا قضى ربع رجال عشيرته صباحهم، بينما الباقيين من المتعففين يقضونه في العمل، وإن سألتموه أي الطريقتين يفضل سيخبركم الأولى ...
ابتسم وهو يبصر غمزة سافا له، تتحرك صوبه وهي تميل عليه هامسة :
_ مش بعادتك تحضر الصباح يا بارو ...
اتسعت بسمة عز الدين وهو يخرج بعض النقود يدسها في ثوبها:
_ مش بفوت نظرة من عيونك يا سافا.
اتسعت بسمة سافا وهي تنظر صوب الأموال التي دسها لها، لتخرجها بسرعة تدسها في ثوبه مجددًا بهدوء :
_ خلي ليك الفلوس يا بارو ممكن تحتاجهم في علاجك ربنا يشفيك .
احمر وجه عز الدين يحاول أن يحتفظ بابتسامته، كي لا يكسبها نقطة في مرماه :
_ ست بمكانتك يا سافا تستحي ترفع عيونها في أسيادها .
_ وايه اللي هيجيب أسيادي في المكان الزبالة ده بس يا بارو؟!
ختمت حديثها بغمزة وهي تعود لتكمل عرضها باستمتاع بعدما أفسدت صباح عز الدين وابصرت احمرار وجهه الذي كاد يوصله للأنفجار، لكن هل تهتم ؟؟
لا ....
أكملت عرضها وهي تبصره يتحرك من مكانه بوجه مشتعل ونظرات حانقة، لتنفخ بعدم اهتمام، تستكمل عرضها بهدوء شديد وراحة بعدما أبعدته عن المكان .
وحينما انتهت على التصفيق، لكنها لم تهتم وهي تتحرك بسرعة تنزع معطف طويل من يد أحد الرجال العاملين بالمقهى :
_ شكرا ..
_ رايحة فين لسه فيه عرض كمان و...
_ ابقى اعمله أنت يا جود أنا خلصت انهاردة، هبعتلك حد ياخد اتعابي، سلام .
ختمت كلماتها تخرج من المقهى تتنفس واخيرًا هواء نقي بعيدًا عن الأنفاس القذرة التي كانت تحيطها، تضم المعطف لها تتحرك بين الطرقات بسرعة وهي تدعو ألا تكون قد تأخرت على موعدها و....
توقفت أفكارها وهي تشعر بجسد يصطدم بها بقوة، رفعت رأسها كي تصرخ، لكنها توقفت وهي تبتسم بصدمة :
_ راي كنت لسه جيالك عند الترعة و....
ولم تكد تكمل كلماتها حتى وجدت راي تجذب يدها بسرعة بعيدًا عن الطريق تبحث عن ركن لا يبصرهم به أحد وقد بدت شاحبة بشكل مريب جعل أعين سافا تتحفز بشر :
_ راي مالك، حد مسك بسوء ؟! الحيوان عز الدين عمل ليكِ حاجة تاني ؟!
نظرت راي خلفها بتوتر أن يكون ذلك الضخم قد لحق بها، تبتلع ريقها، قبل أن تنظر صوب رفيقتها العزيزة والوحيدة تقريبًا، الفتاة التي لم تخش على نفسها قرب المشعوذة راي، المرأة الأكثر رغبة من رجال القرية، صديقة للمرأة الأشد نبذًا منهم .
_ أنا ... أنا....ساف أنا فيه غريب في القرية وأنا..غلطت ووقعته في الترعة و....
كانت تتحدث بكلمات متقطعة يصعب على سافا أن تفهم لها من غرض، لذا زفرت الأخيرة وهي تجذب يدها بجدية كبيرة :
_ خلينا نروح بيتي نتكلم احسن من الكلام هنا وتحكي ليا اللي حصل مع الغريب بالضبط يا رايان.
ومن ثم تحركت بها من الطرق الخلفية للقرية، كي لا يبصر أحدهم ابنة البارو وهي ترافق راقصة القبيلة، شيء لا تريده لها سافا، يكفي رايانا نبذًا لتحمل على عاتقها أمر يراه والدها حقيرًا منحطًا...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد ساعات قليلة، كان يجلس متبجحًا في الغرفة أمام عمه ينتظر رده، على ما القاه ووالده منذ ثواني .
_ قصدك ايه يا عز الدين ؟؟
_ قصدي اللي سمعته يا عمي، ليا حق عندك يا بارو والحق مردود وأنت سيد العالمين .
رفع البارو حاجبه يراقب عز الدين بترقب، بينما الأخير يستند بوجود والده جواره والكثير من حلفائه في القرية وقد تشدق أحدهم بجدية كبيرة وكلمات حادة يساند بها موقف عز الدين :
_ بنتك مش بس خربت زواجها من عز الدين يا بارو لا افترت عليه وفهمت زوجته السابقة أنه العيب منه لأجل ما تلاقي حجة تهرب بيها من الزواج، والله وحده يعلم ليه مرضتش تتم زواجها منه .
انتفض البارو بغضب شديد وقد اشتد الغضب في عيونه صارخًا بجنون :
_ جابـــــــــــر، عرض بنتي خط أحمر ليك ولكل الرجال في المجلس، ولو طلبتوا تتجمعوا معايا عشان تتكلموا في عرضي وشرفي فاتفضلوا فضوا المجلس .
كانت كلماته حادة قوية غاضبة وقد فاض به الكيل من كل ما يلتصق بابنته منذ طفولتها، حتى أنه كاد يصدق ما يقال عنها من كثرة ترديد الجميع الأمر.
_ بنتي أشرف بنت بالعشيرة كلها، وكل الرجال تتمنى ضفرها ما بتطوله و...
_ بتكدب على نفسك يا بارو ولا علينا ؟؟
كانت كلمات قاطعه بها أخيه والذي كانت نيران حسرته على ولده تحركه وتعميه عن كل ما يحيطه .
كل هذا حدث في اللحظة التي توقفت بها رايانا أمام باب المجلس بعدما قررت أخبار والدها بوجود غرباء في القرية، كي يأخذ حذره، لكن توقفت على بداية المجلس تسمع ما يدور بالعقول عنها .
تنظر لعز الدين بملامح باردة وعيون معذبة، والحقد يشتعل داخل صدرها، ومازال عمها لا يتوانى عن تحطيم ما تبقى بها .
_ بنتك يا بارو ما في راجل واحد يتمناها زوجة، ولا يجرأ يفكر فيها زوجة، الكل خايف على عمره، والوحيد اللي فكر في كده غير ولدي، تحت التراب حاليا، اصحى وبص حواليك واستوعب إن رايانا مجرد ذنب، ذنب هتفضل شايلة العمر كله .
_ ذنب احسن من عار يا عمي .
وكانت هذه الكلمات تخرج من فم رايانا، وهي تراقب الجميع بأعين خيل لهم أنها تحولت للاسود من شدة الغضب الذي تنبض به كل خلية من جسدها، ابتسمت وهي تتحرك داخل المجلس تتجاهل جميع الرجال في المكان وقد ارتجف جسدها بحقد على الجميع ولولا وجود والدها في المكان لكانت احرقته بهم .
_ الذنب حله التوبه، لكن العار حله الدفن يا عمي .
نظر لها عز الدين بغضب، وهي فقط ابتسمت تكمل بجدية :
_ صدقني أنا ممتنة لكل جاهل متخلف نشر فكرة إني أذى لكل الرجالة، الشكر لله ثم ليه إنه كفاني شر الرجال امثالك أنت وابنك.
_ رايــــــانــــــا .
ولم تكن الصرخة صادرة سوى من والدها الذي أبصر نظرات الازدراء التي وجهت له من الجميع في هذه اللحظة بسبب تصرفاتها :
_ أعتذري من عمك ومن الرجال كلهم وانصرفي لغرفتك لغاية ما نخلص، وليا حساب معاكِ .
نظرت له رايانا ثواني بملامح جامدة، ولم تتحدث بكلمة وهي تحرك عيونها على الجميع وقد بدا أنها حقًا فقدت كل ذرة إحساس يمكن أن تمتلكها يومًا، لا حزن، لا حسرة، فقط غضب وحقد وكره .
_ الحساب يجمع يا بارو، بالاذن.
وكان هذا إعلان غير مباشر منها بعدم رغبتها في الاعتذار لا من عمها أو من الرجال، رحلت وخلفت خلفها حرب وهدوء قاتل بين الجميع وقد أدرك البارو في هذه اللحظة أن ابنته ستكون سبب نهايته في هذه العشيرة، وهذا ما لن يسمح به .
التفت صوب عز الدين الذي كان يتابع خروج رايانا بأعين خبيثة ونظرات غريبة من الجميع، جعلت البارو يتنهد بصوت مرتفع :
_ ايه يرضيك يا عز الدين لأجل ما نقفل الموضوع كله .
رفع عز الدين عيونه ببطء صوب البارو، ينظر لوالده نظرة صغيرة، ومن ثم ابتسم بسمة صغيرة يتحدث بكل جدية يوجه نظرة متحدية لعمه :
_ نكمل من مكان ما وقفنا يا بارو، وزفافي ببنتك يتم ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان يجلس أسفل الشجرة وهو يراقب الثياب التي نثرها مع الجميع كي تجف قبل أن يكملوا رحلتهم، يرفع عيونه صوب أحمد الذي يعصر ثيابه بقوة وهو يرتدي فقط ( شورت ) قصير مع ثوب ابيض علوي كان يرتديه أسفل سترته، ومن ثم أخذ ينفض الثياب بقوة :
_ لو حد عنده غسيل تاني قبل ما اخلص .
ختم حديثه يلقي السترة على بعض الفروع تجف، ومن ثم شرع يفعل المثل بالبنطال الخاص به، ويحيى يراقبه بسخرية :
_ متدخلش بس الابيض في الألوان الله يكرمك .
_ ياض أنت حد قبل كده قالك أن دمك سم، والله اسمع مني بجد أنت مش لايق عليك كوميدي، مش سكتك، عيسى دمه خفيف اكتر والله .
ابتسم عيسى بفخر وكأنه للتو نال وسامًا، وفي الواقع كانت هذه حقيقة، فمن ناحية كان يحيى أقلهم مزاحًا واشدهم ضيقًا من كل شيء، واستفزازًا لأي شخص .
بينما عيسى العزيز صاحب التاسعة عشر عامًا، كان فقط يحيا لأجل الضحك والطعام والنوم والتوكتوك بالطبع، وكان من المفترض أن ثالثهما مسلم أكثرهم هدوءًا وتعقلًا سابقًا .
وأحمد كان منطقيًا أغلب الوقت هادئًا حالمًا بعض الشيء .
كان مسلم يتابع ما يحدث وهو يبتسم لهم جميعًا، قبل أن يبصر بطرف عيونه شيئًا ساقطًا ارضًا لينهض ويتحرك ناحيته يميل ببطء يلتقط ذلك الشيء والذي أدرك في اللحظة التي رفعه أمام عيونه أنه..
_ شو هاد خلخال ؟؟ لمين هاد؟!
استدار صوب حاتم الذي كان فوق بالمعنى الحرفي يميل على يده بقوة، دفع مسلم رأسه بسخرية لاذعة وهو يدس الخلخال في جيب بنطاله :
_ بتاعي يا حاتم وقع مني .
أنهى حديثه يتحرك صوب الشجرة يرى إن جفت سترته يتحسسها وحينما شعر أنها أصبحت مناسبة بالفعل للأرتداء نزع ثوبه الاسود والذي كان مايزال رطبًا يلقيه على الشجرة ولم يكد يرتدي قميصه الاسود حتى سمع شهقة من خلفه وصوت يصدح مصدومًا :
_ مسلم ايه اللي في ضهرك ده ؟؟
توقفت يده في الهواء واسودت نظراته بشكل غريب يغمض عيونه، وقد أخذ صدره يرتفع بسرعة كبيرة يرتدي القميص دون كلمة واحدة يخفي بها ظهره بسرعة .
_ خلينا نكمل طريقنا قبل ما الدنيا تليل .
ومن ثم مال بسرعة يرتدي حذاءه يشير لهم ليتبعوه، والجميع نظر صوب حاتم الذي هز رأسه بضيق ويأس يتحرك خلف مسلم ولا أحد يفهم ما يحدث هنا .
وفي هذه اللحظة أدرك الجميع أن مسلم لم يتغير فقط، بل أُستبدل برجل آخر....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بدأت الشمس تغرب بالفعل والساحة التي تتوسط القرية تمتلئ ببعض الأفراد الذين يحبون الجلوس مساء والسهر على ضوء القمر ويقيمون احتفالات بلا مناسبة معينة .
ومن بين التجمعات هذه ظهر تجمع لبعض الغرباء الذي تغلغلوا للقرية مثيرين أنظار الجميع حولهم، خاصة النساء اللواتي كن متعجبات مظهر الرجال وطريقة ثيابهم، ويبدو الأمر كما لو أنهن لم يبصرن رجالًا من قبل .
توقفت الأحاديث والضحكات وعم صمت طويل في الساحة حتى أن سقوط قشة كان ليحدث دوي عنيف في المكان، وهذا الصمت والانتباه لهم جعل الريبة والخوف من القادم يصيب بعضهم كأحمد وعيسى .
لكن يحيى لم يكن يهتم، بل فقط دار في المكان يقدر حجم ثروتهم القادمة يشمر أكمام سترته وكأنه يستعد لمعركة، وحاتم جواره يتحسس سلاحه والذي حصل عليه بشكل غير قانوني بالطبع كخاصة مسلم، أما عن مسلم فلم يهتم أو يلتفت لأحد، بل اكمل سيره دون أن يهتز وكل خطوة منه بدت كما لو أنها تهز الأرض من تحت اقدام الجميع .
واخيرًا توقفت في منتصف الساحة ينظر حوله للجميع بعيون باردة كالصقيع مبتسمًا بسمة كبيرة غريبة :
_ فين البارو بتاعكم ؟!
عند البارو ..
كان يجلس مع زوجته في البهو الكبير الخاص بمنزله الذي كان مبنيًا على مساحة واسعة والذي كان في الأساس منزل عمدة القرية قديمًا .
انتفضت المرأة مما سمعت للتو ترفض كل ما قيل :
_ أنت بتقول ايه يا بارو ؟! زواج ايه اللي تكمله، الراجل معيوب و....
_ اخرسي يا شيما، ابن اختي مش معيوب، رايانا وزوجته اللي عملوا كل الحوارات دي عشان يوقفوا الجواز .
_ وأنت مصدق كلام اخوك وابنه ؟!
_ ومصدقوش ليه ؟!
_ عشان هما مش بيحبوا بنتك وهيظلموها يا بارو، بلاش ترمي البنت ليهم، مرات اخوك واخوك وابن اخوك شخصيا محدش فيهم طايق البنت واكيد بعد اللي حصل مش هيمرروه على خير وأنت بنفسك شوفت اللي عملته زوجة اخوك ليها .
نظر لها البارو يرفض لكل تلك التكهنات التي تستبقها، لكنه لم يهتم هو أعطى لهم كلمته، لكنه فقط ينتظر الوقت المناسب حتى يتناسى الجميع ما حدث سابقًا، ومن ثم يعلن زفاف ابنته بعز الدين .
في اللحظة التي انتهى بها الحوار أو أنهاه هو بشكل مستبد، اقتحم أحد رجاله المنزل بسرعة يصيح بنبرة مرتفعة :
_ بارو ...ناس غريبة في القرية بيسألوا عنك .
انتفض جسد البارو بريبة فآخر مرة اقتحم بها غريب قريتهم لم يأت بخير، كان مجرد صحفي جاء بالشر والسوء ولم تنتهي زيارته على خير وكانت كارثة في ذلك الوقت .
ركض البارو بسرعة خلف الرجل وهو يأمر زوجته بحدة :
_ الزمي البيت واياكِ تتحركي، وانتبهي رايانا تخرج من البيت .
في اللحظة ذاتها التي كان يلقي على زوجته أوامره بالانتباه إلى ابنته وعدم السماح لها بالخروج، كانت رايانا بالفعل تسير في القرية تخفي نصف وجهها بغطاء اسود تتحرك بالسر صوب منزل سافا كي تكمل معها حديثهما لهذا الصباح حول الغرباء ..
لكن يبدو أنهم خرجوا من أفكارها وتجسدوا في الواقع، إذ أنها تبصر الآن أمام عيونها الغرباء في منتصف الساحة وقد تجمع حولهم العديد من أهالي القرية، أخذت تخفي وجهها بريبة وهي تدور حول الجميع تختفي خلف بعض النسوة ترمقهم بفضول، تمرر عيونها بينهم حتى توقفت عليه .
ذلك الرجل المرعب من الصباح، بهيئته الـ ...مخيفة .
كانت عيون مسلم تتحرك بين الجميع ينتظر أن تصل رسالته للبارو، يدرك أن لا طريقة سلمية ستؤتي ثمارها مع هؤلاء القوم وقد سبق وحاول جده لعقود طويلة، قضايا ونقاشات ومؤتمرات، ولا شيء نفعهم.
إذن الحل هو الهجوم وبقذارة .
أخذ يحرك عيونه بين الجميع يراقب ملامحهم بلا اهتمام حتى توقفت فجأة على عيون جعلته يوليها كامل اهتمامه ويميل برأسه ويطيل النظر فيها أكثر من غيرها، كانت عيون مألوفة له وبشدة .
ولم تكن العيون سوى لرايانا التي وبمجرد أن توقفت عيونه عليها شعرت بتوقف ضربات قلبها كذلك وتجمدت في مكانها رعبًا أن يرد لها ما فعلته صباحًا، لذا بسرعة أخفت جسدها خلف امرأة ممتلئة الجسد بشكل ملحوظ جعله يبتسم يكبت ضحكة لم تكن لتلائم ما يحدث بأي شكل من الأشكال .
أما عنها فقد كانت تراقب رأسه التي مالت ببطء وهو يحدق فيها باهتمام لتشعر يخدودها تشتعل من الخجل رغم أنها لا تظهر لأحد، تحركت من مكانها بسرعة تختفي من أمامه..
وهو فقط أخذ يحرك عيونه معها ولم يعلم في الواقع سبب ذلك، لكنه فقط أخذ يتابعها دون القدرة على رفع عيونه عنها، كل ذلك وهو لم يبصر منها سوى عيونها، ولم يسمع حتى صوتها .
وبعد ثواني من التحديق تذكرها جيدًا، وقد رفع حاجبها واشتدت نظراته بشكل أظهر لها ما وصل له في أفكاره، فابتعدت بسرعة من أمامه وقد سقط قلبها رعبًا من نظرته .
ابتلع ريقه وهو ما يزال يتابعها وكأنه نسي للحظات سبب وجوده في المكان هنا، حتى اقترب منه حاتم يهمس له بصوت منخفض لا يلحظه أحدهم:
_ أخبرني ما شعورك وأنت أول من خرق قواعدك عزيزي مسلم ؟؟
رفع مسلم عيونه بسرعة صوب حاتم ليبتسم له الأخير يردد عليه جملته السابقة :
_ لا نظرة ولا كلمة مع امرأة، وأنت يا اخي تضم المرأة بعيونك .
انتفض مسلم من تعبير رفيقه وابعد عيونه بسرعة عن الفتاة وهو ينتبه لمن حوله يعود وجهه للجمود من جديد، يحاول أن يبعد أفكاره عن الفتاة وقد عزى انشغاله ذلك بأنه فضول حولها فقط ...
وقد كان في الواقع.
دقائق قليلة وعمت صيحات وهمسات ارتفعت في الإرجاء باسم البارو، ليدرك مسلم أن من ينتظره جاء واخيرًا .
البارو ...
_ مين أنتم وبتعملوا ايه في ارضنا ؟!
أطلق يحيى ضحكة مرتفعة على كلمته لم يستطع كبتها، ضحكة جعلت جميع الرؤوس تلتفت له، ليوقفها يحيى بسرعة وهو ينظر له بسخرية :
_ الحرامي لما يصدق أنه باشا .
صمت ثم ألقى له بكلمته دون أن يستطيع كبت كلماته :
_ أما أنت بجح ابن....
لكن يد أحمد والذي يدرك أفعال وكلام يحيى حالوا ما دون إكمال كلماته، وصوت الشهقات يعلو حولهم .
نظر له البارو بعدم فهم يدور بعيونه بينهم وقد بدأ يستشعر ذبذبات غير مريحة في الأجواء لذا هتف بصوت مرتفع يتلقى الدعم من رجاله خلفه والذين اقتربوا يحملون عصي وبعض الأسلحة البيضاء يخفونها بأجسادهم، والقليل من الأسلحة النارية .
_ أنتم مين وطالبين ايه ؟؟
والكلمة التي خرجت من بعد كلمات البارو كانت كرصاصة استقرت في صدر البارو، إذ فتح مسلم فمه يتحدث بكلمة واحدة لم يتبعها بأخرى:
_ أرضنــــا .
ومن ثم الصمت .
صمت لم يتبعه إلا بعض الهمسات المتوارية وكأنها كانت تخشى الإعلان عن نفسها مرتعبة فتكسر حالة الترقب التي اشتعلت في الأجواء .
ورايانا تتابع ما يحدث بأعين شغوفة متسعة، مثلها مثل الجميع تترقب وتنتظر لتفهم ما يقال، بدأت تدفع الصفوف وتتقدم ولم تهتم بالكلمات الحانقة أو الاعتراضات التي تواجهها في طريقها للصفوف الأولى، واخيرًا وصلت ونالت صورة أوضح للمشهد، وللدخيل الغريب .
والذي اتضح أنه ليس مرعبًا، بل فقط كان ...شجاعًا، شجاعًا جدًا ليواجه والدها في أرضه وبين رجاله.
_ أرضك ؟! أي أرض، أنت في أرض الدوم معتقدش إن ليك ارض هنا .
تقدم أحمد وهو يتحدث بقوة وغضب يلوح بيده :
_ قصدك أرض أجدادي اللي سرقتوها منه بوضع اليد .
اتسعت عيون البارو وبدأت الشهقات تعلو أكثر وأكثر، والعصي التي كانت منخفضة منذ ثواني بدأت ترتفع في الهواء أمامهم وصوت الأسلحة البيضاء يرن في صمت الليل .
والغضب يملئ النفوس وقد بدأت رائحة الموت تعبق بالمكان .
_ أنتم أحفاد المريدي ؟؟
اتسعت بسمة مسلم وهو ينظر له بهدوء :
_ الله ينور عليك، واضح أنك لسه فاكر ايدك اتمدت ونهبت من مين بالضبط .
في هذه اللحظة تقدم رجل للساحة وهو يشهر سكين ضخم يلوح به في الهواء صارخًا :
_ اخرس، أنت في حضرة البارو، احترم نفسك وخد اللي معاك وامشي من هنا .
نظر البارو صوب عز الدين والذي كان في هذه اللحظة يستعرض أمام الجميع ما يبرع فيه، قوته وسلطته .
والحق يقال أن عز الدين على مدار سنوات كان خط دفاع القبيلة الأول.
بينما مسلم رفع حاجبه ينظر لعز الدين ومن ثم مال ينظر للبارو يتحدث بجدية :
_ أنا جيت اتكلم مع البارو، معتقدش إن حد غيره يتدخل في الكلام هيكون كويس، عايزين نحل الموضوع بالحسنى .
_ وايه هي الحسنى بتاعتك بقى ؟؟
كانت جملة البارو وهو يناقشه بهدوء، ليرد عليه مسلم بجدية :
_ أرض جدي ترجع كاملة من غير ما تنقص شبر، ورأفة مني بيك وبعشيرتك، هسيب ليكم كام فدان تستقروا فيه أنا برضو مرضاش ابهدل الاطفال والشيوخ والنساء، بس كله بتمنه طبعًا .
انطلقت ضحكة عز الدين في المكان وهو يلوح بالسلاح الخاص به في وجه مسلم :
_ طب خد شوية العيال اللي معاك وأخرج من هنا على رجليك بدل ما تخرجوا جثث .
تحرك يحيى صوب عز الدين وكاد يتحدث لولا يد حاتم التي جذبته للخلف بسرعة وهو يهمس له :
_ دع الأمر لمسلم وتذكر طلب منا عدم التدخل حتى يطلب ذلك .
وبالفعل تراجع يحيى وهو يكبت شياطينه يترك الأمور لشقيقه، لكن يبدو أن عز الدين لم يكن ينتوي الخير، إذ بدأ يحرك السكين الخاص به في اتجاه مسلم بتهديد :
_ جدودك سبق وعرضوا الموضوع وقولنا لا، مش بنشارك أرضنا مع حد .
تمتم حاتم بسخرية وغضب من تلك الوقاحة التي يشاهدها :
_ مصدّق حاله ووجهه قدّ الشمس.
تحدث مسلم وهو يبعد السكين عن وجهه متجاهلًا عز الدين ويوجه حديثه صوب البارو :
- صدقني أنا جاي اكلمك بالحسنى ومش حابب أن الأمور تمشي بالطريقة التانية.
اغتاظ عز الدين من تجاهل مسلم له، يتحرك صوبه يرفع السكين في وجهه بقوة ولم يكد يقربها من صدره وهو يردد :
- ويا ترى ايه هي الطريقة التانيـ.... اه دراعــــــــــي.
كانت صرخة أطلقها عز الدين في الوقت الذي رفع بها مسلم يده ينتزع السكين بسهولة في نفس اللحظة التي ثنى بها ذراع عز الدين بقوة يضغط عليها بقوة وهو ينظر له بهدوء :
_ افضّل منوصلش ليها .
ختم حديثه وصرخات عز الدين تعلو أكثر وأكثر مع كل ضغطة والجميع يراقب بصدمة مما حدث منذ ثواني ورايانا التي سقط غطاء وجهها بالفعل بعدما تركته بإهمال تراقب بانبهار وسعادة واضحة وقد ارتسمت بسمة واسعة على فمها ..
هي تحب ما يحدث، و كثيرًا .
وفي اللحظة التي ترك بها مسلم عز الدين تهاوى الأخير ارضًا بقوة وهو يتقلب صارخًا بوجع حتى كاد يبكي كالأطفال وقد هرولت والدته صوبه، وصوت الاعتراضات والصيحات يعلو والأسلحة ارتفعت والجميع بدأ يقترب منهم، في اللحظة التي اخرج بها مسلم وحاتم سلاحيهما يوجهانهما صوب الجميع .
_ صدقوني أنا مش حابب نوصل للمرحلة دي، تاخدوا حتة من التورتة واحنا راضيين، ولا اطفحها ليكم كلها ؟؟
اعترض البارو بصوت قوي أمام الجميع :
_ الأرض اللي أنت واقف عليها دي أرض أجدادنا احنا اللي بنينا عليها كل بيت وعمرناها ومفيش ولا بيت هنا اتبنى بايد غير ايد القبيلة، مفيش غير بيت جدك في أول البلد ومحدش لمسه، عايزه خده، هو بس مش اكتر .
أبصر مسلم الازدراء في عيون البارو وكأنه يلقي لهم بفتات خيراتهم، يمن عليهم بأرضهم، يتصدق عليهم بحقهم .
أطلق ضحكة صاخبة وهو يهز رأسه برفض :
_ اختيار غلط، للأسف هضطر اطفحك التورتة، قدامك بالضبط اسبوع تفكر في كلامي، وبعدها مش هنتكلم، وهتتمنى لو كنت قنوع ووافقت بكلامي .
ختم حديثه وهو يتحرك لكن قبل التحرك خطوة توقف واستدار :
_ لو فكرت في كلامي وعرفت مصلحتك هتلاقيني في بيت جدي، لأني مش هتحرك من هنا غير باللي أنا عايزه.
ومن ثم استدار يتحرك بين الجميع ليغادر بعدما ترك كلماته، لكن قبل الخروج من دائرتهم ابصرها، وهذه المرة لم تكن مجرد عيون كحيلة، كانت فاتنة تراقبه بأعين متسعة و...بسمة سعيدة؟؟؟
تحرك مع الجميع بعيدًا عنهم دون نظرة أخرى ومازالت بسمتها تثير صدمته وتعجبه في الواقع، لكنه حاول أن يتجاهل الأمر ويفكر فيما جاء لأجله.
يتحرك مع الجميع صوب جهة يدركها جيدًا ومستقر يعلمه ...منزل جده والذي كان يقع على اطراف القرية أمام الشجرة العملاقة التي تغطي المنزل بالكامل وخلفها تقبع ترعة صغيرة جافة بها بعض القمامة ربما.
توقف الجميع أمام المنزل ينظرون له بترقب، يفكرون في القادم وسؤال واحد يدور بعقولهم، ما الخطوة القادمة وما الذي قصده مسلم هناك ؟!
وقبل أن يبادر أحدهم بكلمة لمسلم تفاجئوا به يتحرك بهدوء وبطء صوب الشجرة يخرج سلاحه بحذر،
وصوت اقدام يرن في الأجواء، فورًا علم ما حدث .
البارو أرسل رجال خلفهم .
لذا ودون تفكير كان صوت رصاصته يصدح في المكان تبعه صرخة مجفلة على إثر دوي الرصاصة .....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كل الأحاديث تبدأ بكلمة، عداهم فهي تبدأ برصاصة وتنتهي بـ.....
دمتم سالمين .
رحمة نبيل
لاتلهكم القراءه عن الصلاه وذكر الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
جميع الروايات كامله من هنا 👇 ❤️ 👇
اعلموا متابعه لصفحتي عليها الروايات الجديده كامله بدون روابط ولينكات من هنا 👇 ❤️ 👇
❤️🌺💙🌹❤️🌺💙🌹❤️🌺💙🌹❤️🌺💙🌹❤️🌺💙🌹❤️🌺


تعليقات
إرسال تعليق