القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية جاريه في ثياب ملكيه الفصل السادس عشر حتى الفصل العشرون بقلم الكاتبه نرمين نحمد الله على مدونة النجم المتوهج

 رواية جاريه في ثياب ملكيه الفصل السادس عشر حتى الفصل العشرون بقلم الكاتبه نرمين نحمد الله على مدونة النجم المتوهج 



 رواية جاريه في ثياب ملكيه الفصل السادس عشر حتى الفصل العشرون بقلم الكاتبه نرمين نحمد الله على مدونة النجم المتوهج 


خرجت آسيا باكراً عند شروق الشمس من غرفتها التي عاشت فيها طوال الشهور السابقة...

تحمل حقيبتها الصغيرة التي قدمت بها هنا أول مرة...

أغلقت الباب خلفها برفق وهي تنظر للمنزل الكبير...

ليتها تستطيع توديع العم كساب...

الرجل الذي أحبته كوالدها وعوضها بحنانه طوال هذه الفترة!!!


ليتها تستطيع توديع ياسين الصغير...

ليتها تستطيع إخباره أنه عوضها عن كل المشاعر التي افتقدتها ...

ليتها تخبره أن رحيلها عن هنا ليس بيدها...

لكنه لصالحه ولصالح والده!!!


والده!!

تنهدت في حرارة وهي تتذكر بدر...

لابد أنه الآن يظن بها سوءاً بعد كل ما عرفه منها...

بل وسمعه من ذاك الحقير...

لابد أنه يشعر بالقلق من أن ينفذ ذاك الوغد تهديده ويخبر عائلتها...

لن تلومه لو تمني رحيلها عن عالمه الذي حافظ عليه طيلة هذه السنوات...

قلعته الحصينة التي احتمي خلفها مع سمية بحبهما...

وتوشك فتاة -مثلها-علي تدميره!!!


لكنها سترد له دينه الذي يطوقها...

سترحل عن هذا المكان حتي لا تسبب له المزيد من المشاكل...

صحيح أنها لا تدري أين يمكنها الذهاب...

لكن...لا يهم...

المهم أن ترحل من هنا بأي طريقة...

وبعدها ستتدبر أمرها...


ستتعلم كيف تكون قوية وتنفض عنها ضعفها هذا...

ستعلمها الحياة أن تكون أشرس وأقوي...

ومن يدري؟!

ربما عادت إليهم يوماً عندما تتحسن الظروف...

لتطمئن علي أحوالهم...


هذا ما كانت تواسي به نفسها وهي في طريقها للباب الخارجي للمزرعة...

وهي تتذكر أول مرة جاءت فيها إلي هنا مع بدر ونغم...

وسمية الغالية...

تذكرت سمية ففاضت عيناها بالدمع وهي تهمس في نفسها:

_كم أفتقدك الآن يا صديقتي...كم أفتقدك...!!


توقفت مكانها للحظات...

لتأخذ نفساً عميقاً تكتم به دموعها...

عندما سمعت صوته خلفها:

_كنت أعرف أنك ستفعلين هذا!


التفتت إليه مصدومة...

فاقترب بدر منها ليقول بهدوء عاتب:

_إلي أين ستهربين هذه المرة أيضاً؟!

أطرقت برأسها لحظات تبتلع صدمتها ثم قالت بحزن:

_لا يهم...المهم أن أغادر هذا المكان.


أخذ نفساً عميقاً ثم قال بعتاب:

_هل تعلمين أنني لم أنم الليلة الماضية كلها بسببك...كنت أعلم أنكِ ستختارين الهروب ...دوماً تصدقين توقعاتي في ضعفك يا آسيا...


هزت رأسها لتقول دون أن تنظر إليه:

_ليس ضعفاً هذه المرة يا بدر...لكنه تصحيح لوضعي هنا...عالمك الذي تعبت لأجل أن تخفيه طيلة هذه الأعوام يوشك أن يتأثر بسبب الغريبة التي سمحت لها بالدخول إليه....


عقد حاجبيه بشدة وهو يسألها بحذر:

_من أخبركِ هذا؟!

همست بحزن:

_سمية رحمها الله أخبرتني باقتضاب عن هروبكما سوياً إلي هنا...

ضيق عينيه وهو يسألها:

_ألم تخبركِ عن شئ آخر؟!

هزت رأسها نفياً وهي تهمس:

_لا.


أومأ برأسه وهو يسألها بهدوء:

_أواثقة أنتِ من أنكِ تريدين الرحيل؟!

أومأت برأسها إيجاباً...

ففرد ذراعه علي طوله وهو يشير بيده للحارس من بعيد كي يفتح الباب الخارجي...

ثم قال لها ببرود:

_ارحلي يا آسيا.


أغمضت عينيها بقوة وهي تشعر بكلمته كصفعة علي صفحة روحها...

لم تتوقع أن يقولها لها بهذه البساطة...

لكن...ماذا كانت تنتظر  إذن؟!

أن يرجوها البقاء حتي ينهدم المعبد علي رؤوس الجميع؟!!!!


أعطته ظهرها لتتوجه نحو الباب الخارجي عندما سمعته يقول خلفها بنفس البرود:

_ارحلي وشاهدي بنفسك قسوة هذا العالم وحدك...ارحلي وقابلي ألفاً من "مصطفي" يطمعون بفتاة في ظروفك...أو من يدري...ربما أدركتكِ عائلتكِ قبل ذلك لتنالي عقاب هروبك...


تجمدت مكانها مصدومة للحظات...

ثم التفتت إليه لتقول بحيرة تمتزج باللوم:

_لم أعد أفهمك يا بدر!


نظر إليها طويلاً نظرات لم تفهمها...

ثم قال بهدوء:

_هل تعلمين أنني لم أفشل في ترويض أي فرس حتي الآن؟!

عقدت حاجبيها بشدة وهي لا تفهم مغزي عبارته...

فابتسم بضعف وهو يقول:

_ألم أخبركِ قبلاً أن ترويض ضعفك سيكون أصعب عليّ من ترويض أشرس فرس عرفته؟!


هزت رأسها وهي لا تزال غير مدركة لمعني كلامه...

فتنهد ليقول بعد صمت قصير:

_سترحلين يا آسيا...لكن ليس الآن...ليس قبل أن أطمئن أنك قوية بما يكفي لمواجهة هذا العالم...ليس قبل أن أمحو مخاوفك كلها...

هتفت بعجز:

_ليس هناك وقت لهذا...أنا لا أضمن كيف سيتصرف ذاك الوغد بعدما حدث...ولا أريد التسبب لك في مشاكل...

نظر إليها طويلاً ثم حسم أمره ليقول بحزم:

_سنتزوج يا آسيا.


تراجعت خطوة للخلف وهي تهمس في ذهول :

_ماذا؟!

بسط كفه أمام وجهها وهو يقول بهدوء حازم:

_ليس زواجاً كما هو متعارف...لكنها مجرد ورقة لتحميكِ من بطش عائلتك لو وشي بكِ مصطفي هذا...كما أنها ستحفظ لكِ كرامتك في البقاء هنا منعاً للأقاويل خاصة بعد وفاة سمية...

ازدردت ريقها ببطء وهي تهمس:

_إلي متي؟!

أجابها بهدوء:

_كما تشائين...كما أخبرتكِ هو ليس زواجاً حقيقياً...لن يتغير وضعك بالنسبة إلي...أنتِ شقيقتي الصغري..وعندما تريدين فض هذا الاتفاق سأمنحك حريتك بلا مناقشة...


أطرقت برأسها تفكر في عرضه الغريب هذا...

عندما أردف بشرود:

_لقد قضيت الليلة كلها أفكر...لم أجد حلاً يخرجك من هذه الورطة إلا هذا...


نظرت إليه بتردد عندما سمعت صوت العم كساب خلفها يقول بهدوء:

_أنا أيضاً أري هذا.


التفتت إليه آسيا بترقب فابتسم بحنان أبوي خالص وهو يقول:

_سامحاني لو استمعت لحديثكما رغماً عني...

ثم التفت لبدر قائلاً في مرح:

_لكن لا أحد يعرض الزواج علي آنسة جميلة علي الملأ هكذا.!!


تضرج وجه آسيا بحمرة الخجل وهي تشعر بغرابة الوضع...


فيما أطرق بدر برأسه وهو،يشعر بالضيق...

هو ليس راضياً عن هذا الموقف الذي وضعته فيه الظروف...

لكنه اضطر إليه...

آسيا الصغيرة تحتاجه...

وهو لن يفرط في وصية سمية بها...

ولن يتخلي عنها كما وعدها...


سيمنحها اسمه مؤقتاً حتي تهدأ هذه العاصفة...

لو نفذ هذا الوغد تهديده فسيحميها من بطش عائلتها...

ولو مرت الأمور بسلام فهو علي الأقل سيضمن بقاءها هنا محفوظة الكرامة بعيداً عن أقاويل الناس التي لم يكن ينتبه إليها حتي ذكرها مصطفي بالأمس...

وعندما تريد هي الرحيل بإرادتها سيمنحها حريتها بعد أن يطمئن علي أنها صارت قادرة علي مواجهة الحياة وحدها....


هدأت خواطره عند هذه النقطة فالتفت لآسيا ليقول بهدوء:

_عودي الآن لغرفتك وفكري فيما عرضته عليكِ.

نظرت إليه بتردد ...

فابتسم في حنان شعرت به يربت علي جروح روحها كلها وهو يقول:

_لا تفكري أبداً أنني قد أتخلي عنكِ....مهما حدث...


ابتسمت وهي تشعر برغبة عارمة في البكاء...

عندما قال العم كساب بطيبة فطرية:

_وافقي يابنتي...صدقيني هذا هو الحل الأمثل...


نظرت للعم كساب بخجل عندما قال بدر :

_لا تضغط عليها يا عمي...دعها تقرر بنفسها...

ثم التفت لآسيا قائلاً بحنان:

_عودي لغرفتك واخلدي للنوم ...أنتِ لم تنامي ليلة الأمس...


ابتسمت له بامتنان لتتحرك خطوة واحدة نحو غرفتها ثم وقفت مكانها للحظات وسط دهشته هو والعم كساب.....

لتلتفت إليه وتقول بتردد:

_أنا أوافق...دعنا ننهِ هذا الأمر بسرعة...أنا أخاف ذاك الرجل.


تنهد العم كساب في ارتياح فيما نظر إليها بدر في إشفاق يمتزج بالضيق...

كم يود لو تتغير...

لو تتخلص من ضعفها وخوفها الزائد هذا...

لو تكون قوية بنفسها ...

ليس به ولا بأي أحد...!!!


نظرات الخوف والقلق في عينيها تثير ضيقه...

لكنه يلتمس لها بعض العذر...

هي فتاة صغيرة وحيدة وجدت نفسها فجأة في بحر الحياة الهائج دون معين...

لكنه لن يتخلي عنها...

سيمنحها كل الدعم الذي تحتاجه...

حتي تقف علي قدميها لتواجه مستقبلها القادم...

حتي لو اضطر لتغليف مساعدته بزواج علي الورق!!!

==========================================================================

نظر بدر لدبلة سمية في إصبعه ودمعت عيناه في اشتياق وهو يهمس وكأنه يراها:

_كم يشق عليّ يا حبيبة عمري أن تدخل امرأة غيرك لحياتي ولو علي الورق ...لكنها وصيتك وأمانتي التي تعهدت بالحفاظ عليها...أنا علي عهدي معكِ يا سمية...أنتِ أول وآخر حب سيعرفه قلبي...

أخذ نفساً عميقاً عندما سمع طرقاً علي الباب الذي فتح ليدخل منه ياسين الصغير كقذيفة مدفع هاتفاً بفرح:

_هل صحيح أنك ستتزوج آسيا هذه الليلة؟!

ابتسم بدر في حنان وهو يحتضنه ليسأله :

_هل أنت سعيد يا ياسين؟!

أومأ الصغير برأسه في إيجاب وهو يقول :

_بالطبع يا أبي...الآن يمكنني الاحتفاظ بآسيا معي في منزل واحد...حيث يمكنني رؤيتها في أي وقت...كما أنني سأطلب منها أن تنام معي حتي تحكي لي حكاياتها المثيرة...

ثم سأله ببراءة:

_أم أنها ستنام هنا كأمي؟!

عقد بدر حاجبيه بشدة وهو يهتف بحدة:

_لا.

أجفل الصغير فضمه بدر لصدره وهو يقول بحزن:

_هذه غرفة أمك يا صغيري...لن تدخلها امرأة غيرها...


دخل كساب في هذه اللحظة ليستمع لعبارة بدر الأخيرة...

فتنهد في ضيق وهو يفكر...

بدر اضطر لهذه الزيجة لكن من يدري...

ربما قربت الأيام بين قلبي آسيا وبدر...

لتطمس حبه القديم...

بدر يستحق أن يعيش السعادة التي حرم منها بعد وفاة سمية...

فقط لو يعطي نفسه فرصة لحب جديد...!!!


اقترب من بدر ليقول بحنان:

_مبارك زواجك يابني...المأذون جاء وينتظركما أنت وآسيا...اذهب وأئتِ بها...

عقد بدر حاجبيه وهو يقول بضيق:

_لا داعي للمباركات يا عمي...هو ليس زواجاً حقيقياً...


أومأ كساب برأسه في تفهم...

فيما زفر بدر بضيق ليغادر غرفته والمنزل الكبير...

ثم ذهب لغرفة آسيا الخارجية...

طرق بابها ففتحته لتنظر إليه بترقب...


أغمض عينيه لحظات عن جمالها الذي أغشي عينيه بفتنتها الزائدة هذه الليلة....

بثوبها الذي -مع بساطته-جعلها تبدو كالأميرات...

بوجهها الذي ينافس ضوء القمر...

بعينيها اللتين تحملان مع ضعفهما قوة غزو آسرة...

تسحق مقاومة أي رجل!!!

ثم تجاهل كل هذا ليسألها بتفحص:

_مستعدة يا آسيا؟!


أومأت برأسها إيجاباً...فسألها باهتمام:

_هل أحضرتِ بطاقتك الشخصية؟!


أومأت برأسها إيجاباً وهي تبتسم لتقول بمرح مصطنع تداري به اضطرابها:

_الحمد لله أنني انتشلتها من حقيبتي قبل أن أرميها مع بقية حاجياتي في الماء.


هز رأسه بلا معني...

ثم قال لها باضطراب:

_تعالي اذن...المأذون ينتظرنا...


سارت جواره وهي تشعر بالارتباك...

قلبها يخفق باضطراب...

لكنه اضطراب لذيذ!!!

شعور يختلف تماماً عن شعورها بياسين...

شعور بأنها محميةٌ معه من كل سوء!!!


قلبها الذي طالما أنكر شعوره ببدر....

الآن لا ينكر...

لا ينكر الأمان الذي يشعر به برفقة هذا الرجل...

لا ينكر تعلقه بخيوط الحنان في عينيه...

لا ينكر إعجابه بهذه الشخصية الفريدة...

بل إنها لا تبالغ لو قالت أنها تتمني...

لو كان هذا زواجاً حقيقياً!!!


احمرت وجنتاها بقوة عندما جاءها هذا الخاطر لينهرها عقلها بقوله:

_أفيقي يا آسيا...أنتِ لستِ سوي صنيع خيرٍ يؤديه بتثاقل...بدر لن يعشق سوي سمية صديقتك الغالية...

هنا كان الأوان ليتدخل ضميرها في المعادلة...

فيخرس صوت العقل والقلب معاً...


لتهدأ أفكارها كلها...!!!!


دخلا إلي صالة المنزل...

حيث جلس المأذون مع شاهد يعرفه ...

وجلس العم كساب جوارهما...

تقدم بدر ليجلس جوار آسيا...

ثم فتح المأذون دفتره ليقول لها بلهجة رسمية:

_هل تقبلين جسار كامل القاصم زوجاً لك؟!


اتسعت عينا آسيا في ارتياع وهي تهتف برعب:

_جسار القاصم؟! أين هو؟!


نظر بدر لرعبها في شك...

ثم قال بتردد:

_اسمي الحقيقي هو جسار يا آسيا...بدر هذا مجرد اسم حركيّ...

شهقت بعنف وهي تضع كفها علي،شفتيها لتهتف بخوف:

_أنت جسار القاصم؟! أنا لا أصدق !!!


تبادل بدر مع كساب نظرات متوترة...

فنقلت آسيا بصرها بينهما برعب....

ثم ناولته بطاقتها الشخصية بتردد لينظر في اسمها ثم تتسع عيناه بذهول...

هاتفاً بصدمة:

_أنتِ حفيدة قاسم النجدي؟!


نظرت إليه وهي لا تكاد تصدق...

طوال هذه المدة وهي تقيم مع الرجل الذي يهدد عائلتها كلها؟!!!!

الرجل الذي كان سبباً في إقصاء حمزة بعيداً طوال هذا الوقت؟!

الرجل الذي أثار فيهم كل هذا الرعب حتي دفع جدها لتزويج ياسين من رقية طمعاً في حماية والدها؟!!


بدر!!

بدر الحنون المتفهم الذي احتوي ضعفها وخوفها...!!

بدر الذي تعلق به قلبها كطفل صغير ورأي فيه أطياف عشقه القادم...!!

بدر  والد ياسين وزوج سمية...

هو جسار!!!!!

جسار الذي عاشت عمرها ترتجف رعباً من مجرد اسمه!!!


فيما نظر إليها جسار بصدمة تمتزج بغضب هادر...

تلك الغريبة التي آواها في بيته هي حفيدة قاسم النجدي...

قاسم النجدي الذي هرب جسار من ثأره معه...

نعم...جسار لم يشأ أن يدخل نفسه في عجلة الثأر التي كانت تحصد أرواح الجميع بلا رحمة...

خاصة مع عشقه لسمية...

سمية التي أيدت موقفه بالهرب من هذا المستنقع الآسن كله!!!

ليهرب بها معه من قريتهما...

ويأتي بها إلي هنا...

في هذا العالم المنعزل...

حيث لا ثأر ولا عداوة!!!!

حيث لا خطر علي ياسين الصغير!!!


لقد ترك بلدته وأهله وعالمه كله وراءه...

وكاد ينساه...

فتأتي هذه الصغيرة لتقلب له دنياه رأساً علي عقب؟!!!!!


فيما قام كساب ليتقدم منها ببطء وهو يرمقها بحنان فائض ليهمس باشتياق لم يستطع إخفاءه:

_أنتِ ابنة فريدة؟!


نظرت إليه آسيا وهي تومئ برأسها شاعرة بالضياع....ثم همست بقلق:

_هل تعرف أمي؟!

ابتسم رغم الدمع الذي،ظهر في عينيه ليقول بعاطفة صادقة:

_أنا الآن أحبك أضعاف ما كنت أحبكِ قبل الآن....أنتِ الآن ابنتي بحق يا آسيا...


نظرت إليه آسيا.ولازالت تحت تأثير،صدمتها....

لا تعرف ماذا تفعل...


نظر المأذون إليهم بدهشة تمتزج بالحنق...

ألم يخطر لهم التعارف قبل عقد القران؟!!!

عائلة غريبة!!!


هكذا تمتم في نفسه بسخط قبل أن يهتف بضيق:

_هل سنتم هذا الزواج أم ماذا؟!!!


كان جسار أول من تمالك صدمته ليسأل آسيا ببرود يداري غضبه الهادر:

_هل نتم الزواج يا ابنة النجدي؟!


نظرت إليه آسيا وصدرها يعلو ويهبط في انفعال...

لا تدري بماذا ترد عليه!!!!

ترفض....أم تقبل؟!!!!

تشعر كأنها فأر وقع في مصيدة...

شعر بها العم كساب فمال علي أذنها وهو يهمس بحنان:

_لا تخافي يا بنتي...أنتِ الآن في حمايتي أنا وجسار...بدر هو جسار يا آسيا...لم يتغير في الأمر شئ!!!!


نقلت بصرها بين جسار الذي بدا وكأن وجهه قُدّ من صخر...

وبين العم كساب الذي بدا بسعادته بها وكأنه قد هبط عليه كنز من السماء!!!

ثم قالت أخيراً في استسلام:

_أجل...أوافق علي الزواج.

==========================================================================

خرجت ساري من شقتها لتجده واقفاً أمام شقته ...

أطرقت برأسها وهي تمر من جواره لتهمس باقتضاب:

_السلام عليكم.

أمسك ذراعها لينظر لعينيها هاتفاً:

_هل هذه تحية زوجة لزوجها في أول يوم من رمضان؟!

قالت بنفاد صبر:

_أنا لدي الكثير من الأعمال اليوم ولا طاقة لي بجدالك يا حذيفة!

نظر إليها طويلاً دون أن يفلت ذراعها فرفعت عينيها إليه مضطرة لتقول بضيق:

_اللهم إني صائمة!!

ابتسم بهدوء وهو يقول :

_كل عام وأنت بخير.


أشاحت بوجهها ولم ترد...

الوقح الذي يعود كل ليلة قرب الفجر بعد سهرة يعلم الله وحده محتواها....

ولا يكاد يحدثها منذ تلك الليلة العصيبة التي ذبحها فيها بخيانته...

يأتي اليوم ليهنئها بالشهر الفضيل...

ياللتقوي والورع!!!


أدار وجهها الذي أشاحت به نحوه وهو يقول بحزم:

_الجو حار وأنتِ صائمة...لا تقودي سيارتك..دعيني أنا أوصلكِ أينما تريدين...

زفرت بقوة فقال هو بتحفز:

_هذا ليس اقتراحاً...إنه أمر!


أطرقت برأسها وهي تتقدمه ليسير خلفها وهو يتنهد في حرارة...

ركبت جواره سيارته بعدما ساعدها في نقل بعض صناديق المساعدات والأدوية من سيارتها لحقيبة سيارته.....

 ثم قالت باقتضاب:

_أريد الذهاب لقرية (.......)!

أومأ برأسه إيجاباً ثم سألها بتردد وهو يقود السيارة:

_ما الدور الذي كان يقوم به بلال الهاشمي معكم؟!

قالت بهدوء وهي تنظر أمامها:

_كان يساعدنا مادياً بمبلغ كبير شهرياً...كما كان يساعدنا في إيصال المساعدات للأماكن البعيدة...

هز كتفيه وهو يقول :

_هذا عمل بسيط.

قالت بشرود:

_كل عمل في سبيل الله يبدو بسيطاً...لكنه سبحانه وتعالي يرزقه لمن يحب...

تأملها متفحصاً بإعجاب ثم قال بجدية:

_أنا أريد أن أقوم بهذا الدور.


هزت رأسها في موافقة دون أن ترد...

ظلت صامتة طوال الطريق بينما كان هو يتميز غيظاً من برودها الظاهر...

لقد افتقد هذه الحمقاء المكابرة بشدة...

افتقدها حد الجنون!!!


وصلا القرية أخيراً فسار معها حتي وصلت لمنزل معين طرقت بابه برفق...

فتحت لها امرأة طاعنة في السن تبدو عليها علامات طيبة ظاهرة...

أشرق وجه المرأة عندما رأتها لتهتف بفرح:

_مرحباً يابنتي...تفضلا...


دخلت معها ساري وحذيفة الذي تأمل المكان بفضول...

عندما رأي في جانب الغرفة سريراً به شاب في مثل سنه لكنه يبدو مختلفاً...

تركتهما المرأة قليلاً فمال علي أذن ساري يسألها:

_ما باله هذا الشاب يبدو غريباً؟!

همست ساري في أذنه:

_إنه مصاب بمرض عقلي ويحتاج لعلاج مكثف لهذا أعطيه عناية خاصة.


أومأ برأسه في تفهم...

ثم حمد الله سراً وهو،يستشعر أنها رسالة من السماء...

هذا شاب في مثل سنه لكنه حرم من أشياء كثيرة...

وهو الذي منحه الله المال والصحة والعقل فاستخدمها كلها في معصية الله ...

استغفر الله سراً وهو يشعر بالخزي...


عندما عادت المرأة لتعطي لها ساري صندوق المساعدات قائلة بحنان:

_كل عام وأنت بخير يا عمتي...أعتذر منكِ سأنصرف حالاً فلا زال أمامي الكثير من المنازل هنا.


قالتها وهي تقف فوقف حذيفة بدوره ...

ابتسمت لها المرأة وهي تقول بحرارة:

_رزقك الله الفرحة والزوج الصالح يابنتي.


ابتسم حذيفة وهو يضع ذراعه علي كتفها بتملك ليقول بفخر حقيقي:

_أنا زوجها يا حاجة!

رفعت المرأة حاجبيها بدهشة ثم قالت بسعادة:

_حقاً؟!!! هنأكما الله يا بني...ساري هذه ملاك...حافظ عليها .

نظر إلي جانب وجهها الذي كان الآن محمراً حرجاً ثم قال:

_بقلبي وروحي يا حاجة.


ابتسمت المرأة بحنان فيما سارت معه ساري حتي خرجا من المنزل ...

ليكررا الزيارة لمنازل عديدة لأهل هذه القرية الفقيرة...

حتي أنهيا مهمتهما علي خير وجه ...


وقبيل العصر...

كانا في طريقهما عائدين للبيت الكبير...

ظلت علي صمتها الشارد طوال الطريق فناداها هامساً:

_ساري!

لم تلتفت إليه وهي تهمس باقتضاب:

_نعم.

نظر لجانب وجهها وهو يسألها:

_لماذا لا تنظرين إلي؟!

تنهدت في حرارة وهي تقول بضيق:

_ماذا تريد بالضبط يا حذيفة؟! تسلية صيامك؟!!


أوقف السيارة علي جانب الطريق ثم أسند رأسه لظهر المقعد وهو يقول بشرود:

_لن أنسي هذا اليوم أبداً...لقد كان يوماً خاصاً...شعرت أنه رسالة من السماء لأدرك دوري الحقيقي في الحياة بعيداً عن حياة اللهو واللعب التي أعيشها...

ثم التفت إليها ليهمس بصدق:

_أشكرك يا ساري...


أطرقت برأسها وهي لا تعرف بم تجيبه...

هي تستشعر صدق حديثه...

لكنها لا تقوي علي مسامحته أو العودة للشعور بالأمان معه...

لقد خذلها...

خذلها تلك الليلة كما خذلها طوال عمرها كله!!!


أمسك كفها ثم رفعه إلي شفتيه يقبله وهو ينظر إلي جانب وجهها المطرق هامساً:

_لا تتصوري شعوري اليوم بالفخر وأنا أقول للناس أنني زوجك...


نزعت كفها من كفه برفق...

دون أن تنظر إليه ...

ثم قالت بشرود:

_أتمني لو يأتي يوم أكون أنا فيه فخورة بنفسي ...

سألها بتفحص:

_ولماذا لا تفعلين...أنا أراكِ امرأة مثالية...كاملة...


أخذت نفساً عميقاً ثم قالت بحزن:

_دعنا نعد للبيت يا حذيفة...أنا أشعر بالصداع...

نظر لحزنها الواضح في إشفاق...

ثم قال برجاء:

_انظري لعينيّ يا ساري.


أغمضت عينيها بقوة للحظات تعانده...

وكأنها تستمد من نفسها بعض القوة...

ثم سألته دون أن تنظر إليه:

_لماذا لم تعد تخبرني عن رفيقاتك كتلك الليلة؟!

أشاح بوجهه وهو يزفر في ضيق ثم قال :

_هل هذا حديث يليق بنهار رمضان؟!

هزت رأسها لتقول بسخرية مريرة:

_معك حق...الحديث لا يليق بنهار رمضان ...لكن الفعل يليق بليله؟!!

خبط بكفه علي مقود السيارة وهو،يهتف بحنق:

_لا فائدة فيكِ...لن تتغيري أبداً...


قالها وهو يعيد تشغيل السيارة...

ليعود بها إلي البيت الكبير يلفهما الصمت طوال الطريق...

حتي وصلا إلي باب البيت فقالت باقتضاب:

_شكراً يا حذيفة...

همت بالنزول عندما أمسك كفها بقوة لتلتفت إليه ...

نظر إليها طويلاً قبل أن يقول :

_أنا الذي أشكرك ...لقد كان يوماً رائعاً...


تعلقت عيناها بعينيه طويلاً دون أن تشعر...

لتشعر بقلبها الخائن يغافلها ويعلن تمرده وعصيانه...

زادت خفقاته حتي هيئ إليها أنه سيسمعها....

عضت علي شفتيها وهي تشعر بضعف غريب...


فيما شعر هو بما تعانيه تلك المكابرة العنيدة فقال لها بحزم يمتزج بحنانه الفريد:

_هل تعدينني بشئ؟!

نظرت إليه في تساؤل...فقال برجاء:

_لا تبكي بسببي ثانية.


تنهدت في حرارة وهي تود لو تخبره أنها لا تبكي إلا بسببه...

هو وجع قلبها الأزلي كما تدعوه دوماً... !!!!


فسألها بترقب:

_ماذا فعلتِ بالقميص الذي أخذتِه مني؟!

ابتسمت في برود ساخر لتقول:

_تذكارك الخاص؟! اطمئن ...لقد احتفظت به جوار دميتك القديمة...

عقد حاجبيه بشدة فأردفت بكبرياء ذبيح:

_حتي إذا ما نظرتُ إليها و فكر قلبي أن يلين لك عاد فتعلم درسه القاسي...حذيفة النجدي لن يتغير!


أشاح بوجهه عنها للحظات....ثم عاد يواجهها قائلاً:

_لقد حدد جدي موعد زفافنا ثالث أيام العيد...


اتسعت عيناها في ارتياع ...

لم تتصور الأمر قريباً إلي هذه الدرجة...

تماماً كما لم تتصور يوماً أن يكون هذا إحساسها به الآن!!!!

إحساس السجين الذي تلقي -لتوه-حكماً بإعدامه!!!

هزت رأسها ثم أغمضت عينيها بألم...


ليقول لها بعتاب:

_هل يضايقك الخبر إلي هذا الحد؟!


فتحت عينيها لتنظر إليه نظرات طويلة...

تتأرجح بين اللوم والرجاء...


قبل أن تهمس بألم...ونبرات صوتها الجريح تذبحه ذبحاً:

_سامحك الله يا حذيفة...لقد جعلتني أكره اليوم الذي تمنيته طوال عمري.


قالتها وهي تغادره لتترجل من السيارة...

وتندفع نحو شقتها ومنها إلي غرفتها لتجلس علي مكتبها مسندة رأسها علي مرفقيها...

أين دموعها؟!!!

لماذا لا تبكي الآن؟!!

ربما يطفئ الدمع لهيب الجرح في أعماقها...

لماذا خاصمتها دموعها وهي تحتاجها الآن أكثر مما مضي؟!!!

ألأنها وعدته ألا تبكي من أجله؟!!!

أم أن دموعها قد ملّت هي الأخري؟!!!

حتي الدمع سأم من جرحك يا حذيفة!!!!!!!


شعرت بكفه علي كتفها...

فرفعت رأسها إليه في صمت...

ثم استدارت إليه بجسدها دون أن تقوي علي الوقوف...

جثا علي ركبتيه جوارها ليكون وجهه مقابلاً لوجهها...

نظر إليها طويلاً وكأنه لا يجد ما يقول...


ثم وضع كفه علي مصحفها الموضوع أمامها علي المكتب ليهمس بصدق:

_أقسم أنني لم أمس امرأة منذ اعترفت لنفسي بحبكِ يا ساري!


اتسعت عيناها بصدمة وهي تنقل بصرها بينه وبين كفه علي المصحف...

ثم قالت بذهول:

_لم تخُنني؟!

ابتسم بضعف وهو ينظر لعينيها هامساً بحرارة:

_قد لا تصدقينني...لكن حذيفة النجدي تغير لأجلك...لم أستطع خيانتك ولن أستطيع حتي لو أردت ....

ثم تهدج صوته ليهمس بصدق:

_من الصعب علي رجل عشق امرأة مثلك أن يخون!!

همست بتشتت:

_وذاك القميص ال...

قاطعها وهو يخرج ورقة مطوية من قميصه ليهمس:

_هذه قسيمة شرائه...أنا اشتريته فقط لأعاقبك.

همست بعتاب:

_تعاقبني؟!

أومأ برأسه إيجاباً وهو يهمس لها بلهجة عاتبة:

_يجب أن تغيري أسلوبك هذا معي يا ساري...كُفّي عن إشعاري دوماً أنني مذنب مدان...امنحيني ثقتك كاملة...اجعليني أشعر أنني عظيم بعينيك...اجعليني...


قاطعت عبارته عندما مدت ذراعيها فجأة لتضمه لصدرها بكل قوتها وهي تضربه بكلتي قبضتيها علي ظهره برفق...

هامسة في أذنه:

_اسكت...اسكت...


ابتسم في حنان وهو يحيط خصرها بكفيه ليرفعها من علي المقعد ويقف قبالتها ليقول أمام عينيها:

_هذه هي أول مرة تضمينني فيها هكذا!

شددت ضغط ذراعيها علي عنقه وهي تهمس:

_لأنها أول مرة أشعر أنك حقاً....تحبني!!!


ثم سالت دموعها أخيراً علي وجنتيها وهي تبتسم لتهمس في سعادة:

_أنت تحبني يا حذيفة!


اتسعت ابتسامته وهو يمسح دموعها ليهمس بصدق:

_الحب كله قليل لأجلك يا أروع من عرفت !!


دخلت فريدة في هذه اللحظة لتفاجأ بعناقهما هذا...

فتنحنحت في حرج ثم قالت بمرح يخالط حنانها المعهود:

_تحشم يابن النجدي و عُد لبيتك.

ضحك حذيفة بمرح وهو يلتفت إليها ليقول بخبث:

_هذا أقصي ما أملكه من حشمة والله يا عمتي.!!!


ضحكت ساري بخجل وهي تبتعد عنه فيما نقلت فريدة بصرها بينهما بحب...

وهي تقول بفرحة ظاهرة:

_أسعدكما الله يا بني.

==========================================================================

جلست مارية علي مائدة الإفطار تتأمل محتوياتها في انبهار...

ضحك رياض وهو يقول لها بمرح:

_تبدين كطفلة وجدت نفسها فجأة في الملاهي بانطباعك هذا.

ضحكت بمرح وهي تقول بسعادة:

_لم أتخيل أن تكون طقوس رمضان بهذه الروعة في مصر.

لم تكد تتم عبارتها حتي سمعت صوت مدفع الإفطار...

فانتفضت من مكانها لتهتف دون وعي  بالانجليزية:

_ماهذا؟!

انطلق كل من رياض وصفية ومروة في الضحك للحظات....

ثم قالت لها مروة بمرح:

_ها قد عدتِ لأصلك الانجليزي عند أول ورطة...اجلسي أيتها الشقراء...إنه مدفع الإفطار.

جلست مارية وهي تضع كفها علي صدرها لتقول:

_ماذا يفعلون بهذا المدفع؟!

قالت صفية ببساطة:

_إنه تقليد قديم...يضرب المدفع في رمضان عند الإفطار والسحور لتذكير الناس.

هزت مارية رأسها بتفهم ....

ثم سمت الله كما يفعلون ...

وقالت دعاء الإفطار...

لتبدأ في تناول إفطارها...

عندما أعلن هاتفها عن وصول رسالة علي بريدها الاليكتروني....


ارتسمت ابتسامة حالمة علي شفتيها وهي تتوقع مرسلها....

حمزة الذي لا يمر يوم دون أن يراسلها رغم أنها لا ترد عليه!!!


فتحت الرسالة لتقرأها:

_عزيزتي مارية...لو كنتِ صائمة اليوم كما وعدتني...فهذا موعد إفطاركم في مصر...تقبل الله منكِ عزيزتي...وأتمني أن أراكِ قريباً....


ظلت تقرأ الرسالة عدة مرات...

تطارد طيفه الحنون بين كلماتها القصيرة...

آه لو يعلم...

كم تتمني لو تراه قريباً هي الأخري!!!

بل إنها فقط تتمني لو تتمكن من الرد علي رسائله...

لكن أشياء كثيرة تمنعها!!!

ليس كبرياؤها أولها ولا آخرها!!!!


قطع رياض شرودها وهو يتبادل نظرة ذات مغزي مع صفية ثم يقول بخبث:

_تري ماذا يشغلك عن الإفطار يا مارية؟!

ابتسمت في خجل وهي تقول:

_لا شئ يا عمي.

نظرت إليها صفية طويلاً ثم قالت:

_كم تمنيت لو يكون زياد معنا الآن...

ابتسمت مارية وهي تقول بلطف:

_وأنا أيضاً افتقدته كثيراً يا عمتي.

التمعت عينا صفية بسعادة وقد أخطأت تأويل عبارتها....

فلكزت رياض في جنبه لكزة ذات مغزي....

فقد كانت تحدثه الليلة الماضية برغبتها في تزويج زياد من مارية...

وقد كانت تظن أن زياد هو من أرسل لها تلك الرسالة علي هاتفها...

ابتسم رياض وهو يقول بحنان:

_ليتكِ تبقين معنا يا مارية...ليتك تبقين معنا دائماً....

==========================================================================

اجتمعت العائلة كلها علي الإفطار كعادتها كل عام...

لكن المائدة هذا العام قد خلت من آسيا وياسين الذي يقيم الآن مع رقية في بيت عاصم الهاشمي ...

فهي تصر علي البقاء هناك بل لا تكاد تغادر غرفته...

وياسين لم يتركها لحظة منذ ذاك الحادث...


دق مدفع الإفطار ثم سمع صوت الآذان فردده الجميع ثم قال الحاج قاسم بحزن يليق بقوته:

_اجعلوا دعاءكم الأول لآسيا بالرحمة...ثم لجويرية بالشفاء.


أغمضت فريدة عينيها بألم...

وذكري آسيا الحبيبة تكاد تمزق صدرها...

لن تصدق أنها ماتت...

بل إنها دوماً تفكر أنها في مكان بعيد أجمل من هذا...

تعيش سعيدة هانئة...

هذا ما يمنحها الصبر الذي تبدو عليه...

ربما لو فكرت في غير هذا لأصيبت بالجنون!!!


نظرت فريدة نحو جويرية التي تشعر أن مشاعرها تغيرت نحو عمار...

تشعر أن قلبها بدأ يميل إليه...

ومن يدري ربما كان دافعاً لتعجيل شفائها...

هي تظن في الله خيراً أن عجزها هذا لن يطول!!


لكن عمار نفسه لا يبدو بخير...

يبدو أنه يحمل هم قاسم النجدي...

قاسم النجدي الذي أمره بتطليق جورية عندما تسترد عافيتها بل وترك بيت العائلة كله عقاباً له علي فعلته!!!

هزت رأسها بإشفاق وهي لا تدري علي أيهما حزنها أكبر...

علي جوري أم عمار؟!!!!


وعلي كرسيها كانت راجية تتطلع لمكان ياسين الخالي...

لقد افتقدت وجوده لكنها تعذره في مقامه جوار زوجته...

ثم وجدت نفسها تدعو الله لهما أن يرزقهما الذرية الصالحة!!


وعلي كرسيه كان حذيفة يجلس جوار ساري هامساً في أذنها:

_العام القادم تكونين في بيتي .

ابتسمت في خجل وهي تشعر بكفه يداعب كفها تحت المائدة...


بينما كانت جوري تنظر لعمار الصامت في إشفاق...

شارد غافل عنهم كأنه في وادٍ آخر...

منذ عادا من الاسكندرية وهو علي هذا الحال...

لا يكاد يكلمها ولا ينظر إليها...

لا تدري هل يعاقبها أم يعاقب نفسه علي استسلامه لعاطفة جسده نحوها من جديد...؟!!!!


مدت كفها تحت المائدة  تربت علي ركبته...

فالتفت إليها بحدة من شروده...

ثم قام من مكانه بعنف وهو يقول بغلظته المعهودة:

_لقد شبعت...


رمقته جويرية بنظرة حزينة لكنه لم يرها....

فقالت له راجية بلطف:

_لو كنت شبعت يابني...فأحضر لي السكين من المطبخ لقد نسيت إحضاره...وأريد تقطيع قالب الحلوي.

ذهب عمار ليحضره ...

تراقبه جوري بشرود...

حتي عاد حاملاً السكين في يده فارتدت جوري لظهر مقعدها في صدمة...!!!!!

وذكري مشابهة تغزو،مخيلتها....

عمار والسكين في يده!!!!


نظر إليها عمار نظرة عابرة لكن التعبير المرتسم علي وجهها جعله يدرك بحدسه ما تفكر فيه الآن...

نقل بصره بتوتر بين عينيها المتجمدتين برعب علي يده والسكين الذي يحمله...

وهو لا يدري ماذا يفعل...

ظل واقفاً مكانه يراقبها بقلق بالغ!!!!


فيما كانت الذكريات تنهشها هي نهشاً...

وقد عادت إليها ذاكرتها التي فقدتها جزئياً عن أحداث ليلة زفافهما...

مختلطة بصورته المخيفة والسكين في يده...

منذ تلك اللحظة التي مزق فيها عمار طوق ثوبها...

كل ضربة من يده...!!!!

كل لمسة...!!!!

وكل...!!!!

دارت بها الدنيا وهي تسترجع أحداث تلك الليلة الرهيبة...

وبصرها معلق بعمار والسكين...

حتي وجدت نفسها تصرخ بقوة لتفقد الوعي بعدها!!!!

==========================================================================

استعادت جوري وعيها بسرعة لتجد نفسها في حضن فريدة التي هتفت بجزع:

_ماذا بكِ يا جوري؟!

فتحت فمها لتجيبها ببطء:

_أنا...أنا بخير!

صرخت فريدة في فرح :

_أنتِ تتكلمين يا جوري!!!! حمداً لله علي سلامتكِ يابنتي....


دمعت عينا عمار وهو يراقب شفتيها تتحركان ليخرج صوتها العذب من بينهما من جديد....

خفق قلبه وهو يترقب اللحظة التي طالما تمناها...

وطالما خافها!!!

لم يكذبه شعوره بها عندما ظن أن يوم فراقهما قد اقترب...

لكنه لم يكن يظنه قد اقترب إلي هذا الحد...

الآن تتركه جوريته...

بل يتركها هو!!


الآن يسحبون منه روحه ببطء...

يسحقون قلبه تحت أقدامهم...

ينزعون من أنفاسه الهواء...

الآن...يأخذون جوريته بعيداً عنه!!!


لكنه يستحق...

لن يسامح نفسه يوماً علي ما فعله بها...

ربما حرمانه منها هو العقاب الوحيد الذي يستحقه!!!


اندفع الجميع نحو جويرية يهنئونها بسعادة...

وبعدما انتهت عاصفة التهاني....

بحثت بعينيها عنه وسط الوجوه....

لتجده واقفاً في زاوية الغرفة مغمضاً عينيه في سكون...


كاد قلبها يذوب من أجله وهي تشعر به في هذه اللحظة...

رغم كل الأحداث المؤلمة التي عادت لذاكرتها عن ليلة زفافها المشئومة...

لكنها وجدت له ألف عذر وألف شفيع من مشاعره التي عايشتها معه في الأيام السابقة...!!


ودت لو تختلي به الآن لتتكلم معه...

لتخبره عن هذه الأحاديث الطويلة التي ادخرتها لأجله...

لتخبره عن أحاسيس قلبها الجديدة نحوه...

لتناجيه بهمسها هي هذه المرة لكن في صحوه وليس في منامها كما كان يفعل!!!


لكن قاسم النجدي قطع أفكارها وهو،يقول بصوته المهيب:

_حمداً لله علي سلامتك يابنتي.

ازدردت ريقها بصعوبة وهي تهمس:

_سلمك الله يا جدي.


قال قاسم بلهجة صارمة:

_اخرجوا جميعاً ودعوا لي عمار وجويرية فقط.


تبادل الجميع نظرات الشفقة الممتزجة بالترقب...

ثم نفذوا أمره صاغرين....


وعندما خرج الجميع ...

قال قاسم لعمار بحزم:

_لقد أخبرتك بعقابي جزاءً لك علي فعلتِك بابنة عمك....الآن تطلقها وترحل من هنا...


أطرق عمار برأسه فيما نظرت إليه جويرية في رجاء....

تناجيه بقلبها لعله يشعر بها....

لا تفعلها يا عمار...

لا تتركني...

لا تتخلّ عن حبك لي!!

أنا لن أقوي علي الوقوف بوجه قاسم النجدي فافعل أنت...

أرجوك يا عمار ...أرجوك....


لكن عمار كان في وادٍ آخر...

الأمر لا يتعلق فقط بأوامر قاسم النجدي التي لا ترد...

لكن بعلمه بأنها تحب رجلاً آخر غيره وكادت تهرب معه...

وبخوفه عليها من نفسه أن يؤذيها من جديد....

لقد وعدها أن يثأر لها من نفسه....

وأي ثأرٍ أقوي من أن يذبح قلبه فداءً لها؟!!!!!

لهذا رفع رأسه إليها أخيراً ليقول بصوت متقطع:

_أنتِ طالق!

==========================================================================

تمدد ياسين جوارها علي السرير وهو يضم رأسها لصدره هامساً:

_ألم يحن الوقت لنعود لبيتنا يا رقية؟!

رفعت رأسها إليه لتقول بما يشبه الاعتذار:

_دعنا هنا قليلاً يا ياسين...

ثم تلفتت حولها هامسة:

_هنا أتلمس سلواي من ذكراه التي تملأ المكان...لو رحلت عن هنا سيزداد شعوري أنه مات حقاً كما يزعمون...وأنا لا أريد أن أصدق...عاصم الهاشمي لن يموت...لن يموت أبداً...


قبل رأسها بحنان ثم همس برفق:

_كما تشائين يا غاليتي...أنا معكِ أينما تريدين...


قالها وهو يقوم من الفراش ...

فقامت بدورها لتقف قبالته وهي تهمس في امتنان:

_شكراً يا ياسين...لقد منحتني كل الدعم الذي كنت أحتاجه.

ربت علي وجنتها برفق وهو يهمس بأسف:

_ليتني أستطيع منحك ما تستحقينه يا غاليتي.


تنهدت في حرارة وهي تفهم مغزي كلماته...

عندما سمعا طرقاً علي الباب لتدخل الخادمة قائلة لرقية بأدب:

_هناك رجل بالأسفل يريد تعزيتك والسيد ياسين.


سألتها رقية بترقب:

_ألم يقل اسمه؟!

هزت الخادمة رأسها نفياً...ثم انصرفت...

فأمسك ياسين كفها وهو يقول بهدوء:

_تعالي نقابله سوياً...


نزلا معاً إلي بهو المنزل حيث كان هذا الرجل ينتظرهما...

والذي قام من مكانه عندما لمحهما ليصافح ياسين قائلاً بهدوء:

_تعازيّ الحارة سيد ياسين.

ثم التفت لرقية قائلاً:

_تعازيّ يا سيدتي...البقاء لله.


جلست رقية جوار ياسين الذي سأله بهدوء:

_لم نتشرف بمعرفة سيادتك.


ابتسم الرجل ابتسامة صفراء وهو يقول:

_اسمي مصطفي...دكتور مصطفي الشيمي...أعرف أن الوقت غير مناسب لكنني أردتك أن تدرك الفضيحة التي ألمت بعائلتكم.


عقد ياسين حاجبيه وهو يسأله:

_فضيحة؟!

سكت مصطفي للحظات ليعطي كلماته التأثير المطلوب....ثم قال بأسف مصطنع:

_آسيا ابنة عمك.

هب ياسين من مقعده ليقول بلهفة:

_ماذا عنها؟!

ابتسم مصطفي ابتسامته الصفراء وهو يقول :

_لم تمت كما تظنون.

ابتسم ياسين رغماً عنه ثم صمت لحظات مصدوماً.....

قبل أن يسأله بتلهف شديد:

_هل رأيتها؟!

هز مصطفي رأسه بإيجاب وهو يقول بأسف مصطنع:

_للأسف الموضوع مخجل لكنني مضطر لقول الحقيقة حتي تنقذوا الوضع.


نظر ياسين لرقية التي كانت مصدومة بدورها ثم قال له بقلق:

_ماذا تعني ب"مخجل" هذه؟!

أطرق مصطفي برأسه وهو،يقول :

_لقد هربت لتقيم مع رجل يدعي بدر في مزرعته في (..........).

تقدم ياسين نحوه ليجذبه من ياقة قميصه صارخاً بغضب:

_اخرس أيها الحقير...


هتف مصطفي بخوف واضح:

_اهدأ يا سيد ياسين ياسين...صدقني إنها الحقيقة.

قامت رقية لتقول لياسين بتوتر:

_اسمع منه يا ياسين...

ثم قالت لمصطفي بصرامة:

_أنت في فيللا عاصم الهاشمي...هل تدرك معني هذا؟!!!!يمكنني أن أزجك في السجن بإشارة واحدة مني...قل الحقيقة كلها.

نقل مصطفي بصره بينهما بقلق...

وهو يلعن غباءه وتهوره الذي دفعه للانتقام من آسيا وبدر بهذه الطريقة...

لكن...لم يعد هناك مجال للتراجع...

لهذا قال لياسين بتوتر:

_سأخبرك بكل ما أعرفه

===================================


الفصل السابع عشر:


غادرهم المأذون وشاهده...

ليسند جسار  رأسه المطرق بين كفيه ...

لا...لا يستطيع التخلي عن آسيا !!!

لكن حقيقتها التي ظهرت ستفتح عليه أبواب الجحيم من جديد!!!

ماذا سيفعل قاسم النجدي لو علم أن حفيدته الهاربة تقيم هنا معه منذ تركتهم؟!!!!

ماذا سيظن؟!

سيظنه أغواها استجابة لثأره القديم!!!

وربما يؤجج هذا العداوة من جديد...

ليعود منجل الثأر يحصد الرؤوس بلا رحمة!!!


ربت كساب علي كتفه وهو يقول بحكمة:

_هون عليك يابني...من يدري لعل الله يحدث أمراً!

نظرت إليهما آسيا بقلق ثم قالت بتردد:

_ماذا سنفعل الآن يا بدر؟!

رفع جسار رأسه إليها لينظر إليها طويلاً ثم قال ببطء:

_جسار يا آسيا...وليس بدر...لقد مضي عهد التخفي...


شعرت بحسرته في كلماته تجلد ضميرها بالسياط...

هذا الرجل سواء كان بدر او جسار لم يقدم لها سوي كل خير...

بينما هي أفسدت له حياته كلها...


هتفت بأسف:

_أنا كنت لعنة علي هذه العائلة...ليتك تركتني أرحل !!

تنهد جسار وهو يقول بحزم:

_فات أوان هذا الكلام الآن يا آسيا...الآن مصيرنا واحد وطريقنا واحد.

قالها وهو يقوم من مكانه ليقول بضيق:

_سأعود لغرفتي...وأنتِ ستبيتين في غرفة ياسين...منعاً للأقاويل...


نظرت إليه وهو ينصرف عنها عائداً لغرفته في حسرة...

كم تمنت لو يبقي معها ولو قليلاً...

حتي يطمئن قلبها الذي يكاد يتوقف الآن ذعراً!!!

كم تتمني لو يغمرها الآن بحنانه الذي تعرفه...

لعلها تتصبر به علي قلقها من غدها...


لكن عقلها نهرها!!!

كفاكِ ضعفاً يا آسيا...

كفاكِ ضعفاً وأنانية...

هو الذي يحتاج للدعم الآن وليس أنت!!


لكنها للأسف لا تملك ما تفعله له...

حتي مجرد البقاء جواره..

لقد لفظها من حياته من أول ليلة...

ليشعرها أنها ليست سوي واجب ثقيل!!!


اقترب منها العم كساب متأملاً ملامحها باشتياق كاسح وهو يقول بحنان:

_كيف لم أنتبه للشبه بينكما؟! أنتِ تشبهين فريدة إلي حد كبير.

التفتت إليه آسيا وهي تقول بابتسامة شاحبة:

_يبدو أنك تعرف أمي جيداً!

ابتسم كساب في شرود وهو يقول بمرارة:

_أعرفها؟! فريدة هي عمري كله!

اتسعت عينا آسيا بصدمة وهي تسأله:

_عمرك كله؟!!!

تنهد في حرارة وهو يقول لها :

_تعالي معي يابنتي...سأريكِ شيئاً...


سارت معه آسيا حتي غرفته الكائنة خارج المنزل الكبير...

دخلها لبضع دقائق ثم خرج حاملاً قلادة مميزة منحها لها قائلاً بشرود:

_هذه هي الذكري الوحيدة التي حملتها منها...سقطت منها يوماً وهي تسير في الطريق...كنت أتبعها خلسة كعادتي...ولم أكد أراها حتي التقطتها لتبقي تذكرني بها...

هزت آسيا رأسها بحيرة وهي تسأله:

_ما حكايتك مع أمي بالضبط؟!

جلس العم كساب علي أحد المقاعد خارج غرفته...

ثم تنهد وهو يقول بعمق:

_الحكاية طويلة...لكن لا بأس...ليس شيئٌ أحَبُ عندي من الكلام عنها!!!

ابتسمت آسيا في حنان وهي تجلس جواره لتقول برفق:

_أخبرني يا عمي.


أسند كساب رأسه علي ظهر مقعده مغمضاً عينيه وهو يقول:

_فريدة كانت جارتي في البلدة...أحببتها منذ كانت صغيرة تتمايل بضفائرها علي الطريق...لا أذكر أن امرأة سواها تملكت دقات قلبي كما فعلت هي...ولما لم أستطع مصارحتها بشعوري...كنت أحاول لفت انتباهها بأي صورة...كنت أتتبعها في كل مكان تذهب إليه...أنظر إليها لعل عينيّ تفضحان ما عجزت عن البوح به...ظللت علي هذا لسنوات...حتي هيئ إليّ أنني نجحت عندما لمحتها مرة تبتسم لي...


ابتسمت آسيا في حنان ثم همست :

_وماذا حدث بعدها؟!

تنهد كساب قائلاً:

_لقد سبقني والدك رحمه الله وتقدم إليها...وافق والدها بالطبع لأن نسب النجدي لا يرد...التقيتها بعدها في السوق لتنظر إلي نظرة لن أنساها ما حييت...وكأنها تخبرني أنها لا ذنب لها وأنني هو من تأخر...

هزت آسيا رأسها وهي تسأله بدهشة:

_أنت لم تحدثها أبداً؟!

ابتسم كساب وهو يقول:

_ليس كل الحديث بالشفاه يا صغيرة...حديث العيون أصدق وأمتع..

ثم أردف بشرود:

_تزوجت فريدة من سعد النجدي...ولم أكد أبتلع حسرتي عليها حتي قُتل ابن عمي وذهبت ظنون الجميع لعائلة النجدي نظراً للعداوة القديمة بين العائلتين...ليبدأ بعدها مسلسل الدم الذي قطعه جسار بشجاعة وأنا ساعدته...

عقدت حاجبيها لتسأله :

_ماذا تعني؟!

قال بحزن واضح:

_عندما قُتل ابن عمي طلبوا مني أنا أن آخذ ثأره...ولما كان سعد هو الابن الأكبر لقاسم النجدي بعد وفاة عمك حبيب بمرض شديد...فقد طلبوا مني أنا أن أقتله...

شهقت آسيا بعنف وهي تسأله بارتياع:

_أنت الذي قتلت أبي؟!


نظر إليها كساب طويلاً ثم قال بأسي:

_هذا ما ظنته فريدة أيضاً...ظنتني قتلت زوجها...لكنني أقسم لكِ يابنتي أنني لم أفعل...لقد وجدوه مقتولاً علي الطريق...لكنني لا أعرف من قتله...

أومأت آسيا برأسها وهي تهمس:

_وماذا حدث بعدها؟ 


قال كساب بشرود:

_وقتها تشابكت كل الخيوط...اشتعلت العداوة أكثر بين العائلتين...وسقط القتلي من الجانبين ...ووسط دائرة الانتقام هذه وجد جسار نفسه مطالباً بثأر جديد...لكن سمية الغالية التي عشقته من كل قلبها أقنعته بالهروب من هذا كله....هي التي اقترحت عليه أن يهربا معاً من كل هذا حتي يتوقف نزيف الدم...وهذا فعلاً ما حدث بعد هروب جسار ووفاة والده كامل القاصم وسفر جدك للمدينة مع أحفاده.....


صمتت آسيا طويلاً ثم هزت رأسها بحزن وهي تهمس:

_طوال هذه السنوات ونحن نعيش في رعب...حمزة ابن عمي الذي حُرم من البقاء بيننا وأبعده جدي خوفاً عليه...أنت لا تتصور الرعب الذي كنت أشعر به لمجرد سماع اسم جسار القاصم...لقد تربيت علي الخوف منه...وحتي الآن لا أصدق أنه هو بدر الرقيق الحنون الذي قابلته هنا....

قال كساب بحكمة:

_من يدري يا بنتي...لعل زواجكما يكون نهاية العداوة بين العائلتين.

هزت رأسها نفياً وهي تقول:

_ليس في هذه الظروف يا عمي...زواجنا سيبدو وكأنه تستر علي خطيئة وليس زواجاً حقيقياً...سيظنون أن جسار أغواني ليحقق انتقامه بخسة...ليعود نزيف الدم الذي لن يتوقف هذه المرة.

ثم أردفت بألم:

_ليتهم يقتلونني أنا ويدعونه هو وياسين الصغير!


نظر إليها كساب وهو يلمح صدقها في عينيها فسألها بحنان:

_تحبين جسار يا بنتي؟!

نظرت إليه في تردد أظهر مشاعرها الدفينة...

ثم قالت بشرود حزين:

_وماذا يفيده حبي يا عمي؟! حبي لن يزيده ولن ينقصه...أنا لست سوي واجب ثقيل أداه مضطراً...لعنة أصابت عالمه الذي ضحي بعمره لأجله ...ليتني لم آتِ إلي هنا...ليتني متّ فعلاً كما حاولت أن أوهمهم...


قالتها وهي تندفع نحو غرفتها الخارجية باكية بانهيار...

فتنهد العم كساب في حزن وهو يتأمل السماء بنجومها في شرود....


غافلاً عن عيني جسار اللتين كانتا تراقبانهما من خلف جدار قريب...

بعدما استمع للجزء الأخير من الحوار للأسف...

لم يكن يقصد التصنت عليهما...

لكنه شعر بالقلق عندما تفقد آسيا ولم يجدها مع ياسين الصغير...

ولا في المنزل كله...

ذهب ليسأل العم كساب عنها ليستمع مصادفة لحديثهما...


أطرق برأسه وهو يفكر أن الأمور تعقدت كثيراً...

مشاعر آسيا نحوه لابد أن تختفي...

يجب أن تتخلص من حبها اليائس له...

بل يجب أن تكرهه !!!


لن يسمح لها أن تضيع عمرها بحب لا طائل منه...

هو لن يكون سوي لسمية...

هو رجل غير قابل للقسمة كما قالت عنه يوماً!!!


لابد أن يتوقف عن معاملتها بحنانه السابق...

سيتجاهلها ...بل سيقسو عليها...

حتي ينتزع حبها هذا من قلبها...

لتعود حرة وترحل من هنا متي شاءت!!!


التفت نحو غرفتها الخارجية المضاءة ليحسم قراره الأخير...

جسار لن يكون كبدر يا آسيا...

لن يكون!!!

==========================================================================

صعدت ساري إلي سطح المنزل تحمل دميتها الحبيبة ....

فتحت الباب برفق لتجد النور مضاءً...

ابتسمت في سعادة وهي تراه جالساً علي الأرجوحة الكبيرة هناك...


تقدمت نحوه فابتسم لها فارداً ذراعه جواره ليهمس بحب:

_تعالي.

جلست جواره ليضمها إليه بأحد ذراعيه ويربت علي وجنتها بالآخر هامساً:

_لماذا أنتِ مستيقظة إلي الآن؟!

رفعت وجهها إليه وهي تهمس:

_لقد كان يوماً طويلاً...لكنه انتهي نهاية سعيدة...جوري استعادت قدرتها علي النطق...

تنهد قائلاً:

_لكن عمار سيطلقها...أنا أدرك شعوره الحارق الآن...

دفنت رأسها في كتفه وهي تشعر بالأمان لتهمس :

_لو أرادها حقاً سيعرف كيف يستعيدها...

ثم عادت ترفع رأسها إليه لتهمس في عاطفة:

_كما فعلت أنت!


نظر إليها طويلاً...

ثم همس بصوت يحمل زخات من الندم:

_هل تذكرين ليلة زفاف جوري وعمار...لقد قلتِ لي يومها أنكِ ستكرهينني طوال عمرك...

تنهدت في حرارة وهي تشيح بوجهها لتقول بشرود:

_رغم أن فعلتك يومها ذبحتني...لكنني أحسست أنك تغيرت حقاً منذ تلك الليلة...

ثم التفتت إليه لتهمس:

_أحسست أن نبتة من حبي بدأت تنمو ببطء في صدرك...تجاهد كي تري طريق النور...لتزهر براعمها بقلبك وتمنحني عشقاً لم أتخيله يوماً...

ثم أسندت رأسها علي صدره لتهمس:

_حذيفة الذي أحببته طوال عمري وضل عني في تيه غفلته وعبثه...عاد إلي من جديد....

رفع ذقنها إليه وهو يهمس برجاء:

_سامحتني؟!


أومأت برأسها وهي تهمس:

_من كل قلبي يا حبيبي.


تأوه بقوة وهو يسمعها منها لأول مرة...

حلوة...

نقية..

صادقة...

تماماً مثلها!!!


أخفي وجهها في صدره هامساً بهيام:

_قوليها دوماً يا ساري...اجعليني اسمعها منكِ في كل وقت...اجعليها ترياقاً لي من سموم الماضي...احميني بها من شر نفسي...

رفعت رأسها إليه لتهمس بحب:

_حبيبي...حبيبي...حبيبي...


كاد يشعر بروحه تذوب منه مع حروفها التي ليست كأي حروف!!!

هذا حب لا يلقاه المرء إلا مرة واحدة في عمره...

محظوظ هو بملاك مثلها أحبه رغم زلاته...


رغم كل النساء اللاتي سارت خُطاهنّ علي دربه...

وحدها ساري استطاعت طمس آثارهن جميعاً...

لتصل وحدها لعرش قلبه...

متربعة في تملك !!!


ابتسم وهو يقبل جبينها بعمق ثم همس بشرود:

_أشعر اليوم بشعور غريب...وكأنني ولدت من جديد...وكأن عمري السابق كله في كفة...وعمري من اليوم في كفة أخري!!!

همست بسعادة:

_لا تتخيل سعادتي بك يا حذيفة...كم حلمت بهذا اليوم!


نظر لعينيها بعمق وهو يسألها بدهشة تمتزج بالاعتذار:

_كيف تحملتِ حبي طوال تلك السنوات...كيف استطعتِ التعايش مع قسوتي وتجاهلي لكِ؟!

أخذت نفساً عميقاً ثم همست ببطء:

_لم يكن اختياراً يا حذيفة...الحب الذي يولد وينمو معنا صغاراً يمتزج بدمنا وخلايانا...يصير جزءاً منا...لا يمكنني تذكر لحظة واحدة من أيامي السابقة ولا أذكرك معها...حبك كبصمة يدي مميزة لا تتغير...وتخصني وحدي...لا أشارك أحداً فيها...

رفع إبهامها إليه يقبل باطنه هو يهمس أمام عينيها:

_ولن يشاركك فيها أحد...

ابتسمت وهي تهمس:

_أنا أصدقك يا حذيفة...الآن أصدقك...قلبي يخبرني أنك تغيرت...

ثم مدت أناملها تداعب شعره لتهمس بحب:

_أنا أراهن نفسي عليك...وسأربح رهاني.

قرص وجنتها مداعباً وهو يهز رأسه هامساً بهيام:

_لا أصدق أنني أسمع هذا منكِ...لقد كاد شعري يشيب لنيل رضاكِ ...

نظرت إليه بعتاب وهي تهمس:

_لم يكن الأمر بهذه الصعوبة...أنا لم أطلب سوي نظرة صادقة كهذي التي أراها في عينيك الآن...


نظر إليها طويلاً...

يتأمل ملامحها بعشق جارف....

ثم مال بعدها  علي شفتيها بتردد...

يخاف أن تخذله ككل مرة....

لكنه لم يلبث أن حسم تردده  سريعاً وهو يبثها عبر قبلاته حبه وندمه واعتذاره ....

وكثيراً جداً من وعوده...

أنه لن يكون من اليوم إلا لها!!


ويبدو أن قبلاته الصادقة حملت رسالته ببراعة...

ليشعر بها -ولأول مرة -تستجيب له بعاطفتها...

ساري التي سيجاهد نفسه الآن كي يستحقها...

وليته ينجح في اختباره الأيام القادمة!!

==========================================================================

كان واقفاً في غرفتهما يجمع أغراضه ...

عندما تقدمت نحوه ببطء...

تتأمله بأسف واضح...

همست باسمه بكل ما أوتي قلبها من عاطفة :

_عمار.

لم يلتفت إليها وهو منهمك في جمع أغراضه لكنه هتف بخشونته المعهودة:

_ماذا تريدين؟!

وقفت أمامه تمنعه من الاستمرار فيما يفعله فنظر إليها كارهاً وهو يقول:

_انزلي عند والدتك حتي أنتهي من عملي...وأرحل عنكم للأبد...


امتلأت عيناها بالدموع وهي تمسك كفه الذي طالما كتبت عليه لتهمس:

_لماذا طلقتني يا عمار؟!

نزع كفه منها بعنف وهو يهتف:

_لتعودي لذاك الرجل الذي كنت ستهربين معه...اليوم لا حاجة لكِ في الهرب...انطلقي في الطريق الذي اخترتِه لنفسك.


سالت دموعها علي وجنتيها وهي تهمس :

_أنت لا تفهم!

هتف بغضب هادر:

_ولا أريد أن أفهم...لقد أديت واجبي نحوك ووقفت جوارك حتي شُفيتِ تماماً  وبهذا أكون قد كفرت عن خطئي معكِ...وهأنذا أغادر حياتك للأبد...كما كنتِ تتمنين...


هزت رأسها بعجز وهي تشعر أن لسانها انعقد...

أين الأحاديث الكثيرة التي ادخرتها لتسمعها له...؟؟!!

أين اعترافاتها واعتذاراتها عن سوء ظنها فيه؟!!!

أين همسات امتنانها وشكرها لكل ما منحه لها طيلة هذه الأيام؟!!!

بل طيلة هذه السنوات...

لسانها يعاندها وكلماتها كلها هربت من علي شفتيها فجأة...!!!


ورغماً عنها ودون أن تشعر...

وجدت نفسها تسحب قلمه من قميصه...

لتجذب كفه من جديد وتكتب:

_لا تتركني...أرجوك...


وكأنها شعرت أن هذا هو أصدق تواصل بينهما...

عندما تمسك كفه في تملك فيتشرب جلده كلماتها لتصل إلي قلبه أسرع!!!


قبض كفه علي كلماتها بقوة مغمضاً عينيه للحظات...

وكأنه يحتفظ بكنز كلماتها الأخيرة كي لا يفقده!!!

يحاول السيطرة علي كل مشاعره الهادرة كبحر هائج الآن...

ويتمني لو يضمها اليه مرة أخيرة يودعها بعدها للأبد....


رفع رأسه لأعلي وكأنه يهرب منها ثم همس ببطء:

_لم تكوني لي من البداية يا جوري...أنا الذي أصررت علي عناد قدري...


فتحت شفتيها تريد أن تخبره أنها ما عادت تشعر نحوه كالسابق...

أنها تريده جوارها...

أنها تتمني لو لم تعد لها قدرتها علي النطق...

لو بقيت خرساء طوال عمرها...

كي لا تفقده!!!!

لكنها لم تستطع...

شئ أقوي منها يشل لسانها وحركتها...!!!!


ظلت تنظر إليه طويلاً في عجز يمتزج بالتوسل...

لكنه انتزع عينيه من سجن عينيها أخيراً ليغلق حقيبته ...

ثم أشاح بوجهه ليقول ببرود تعلم الآن جيداً ما يخفيه:

_وداعاً يا جوري!


قالها وهو يغادر الشقة تاركاً إياها متجمدة خلفه...

لا تصدق هذا الذي يحدث لها...

لا تصدق كل هذا التحول في مشاعرها نحوه...

لا تصدق كيف تحول عمار البغيض الذي كان يثير وجوده كل الرعب في أعماقها....

إلي رجل لم تعد تري أمانها إلا معه...


جلست علي طرف فراشها تنظر للباب الذي خرج منه بصدمة عجزها....

تري...هل تعود يوماً يا عمار...؟!!

هل تعود؟!!!!!

==========================================================================

وقف ياسين في شرفة غرفة عاصم الهاشمي...

حيث يقيم الآن مع رقية...

أخذ نفساً عميقاً يحاول استيعاب ما سمعه من ذلك الرجل مصطفي منذ ساعات...

آسيا لازالت علي قيد الحياة!!!!

إذن لماذا اختفت كل هذه الفترة؟!!!

وما صحة ما قاله ذاك الوغد عن علاقتها بصاحب المزرعة هذا؟!!!


لا لا لا....

هو يعرف آسيا جيداً...

لقد تربي معها....

لا يمكن أن تفعل ما يشين...

لكن....ألا يحتمل أن يكون هذا الرجل هو الذي أغواها؟!!!

ألا يحتمل أنه هو الذي يجبرها علي البقاء معه؟!!


كاد يجن بأفكاره الهائجة عندما عادت إليه رقية تحمل هاتفها لتقول بقلق:

_لقد أجريت اتصالاتي...كلام الرجل صحيح فيما يتعلق بمكان تلك المزرعة لكن مالكها لا يدعي بدر...اسمه الحقيقي جسار القاصم...


اتسعت عينا ياسين في ارتياع وهو يهتف بجزع:

_جسار القاصم!!!! 

ازدردت رقية ريقها ببطء وهي تقول بتوتر:

_من هذا الرجل؟!

هز ياسين رأسه وهو يقول بصدمة:

_إنه الرجل الذي يطاردنا بالثأر منذ سنوات...لكن الثأر يؤخذ من الرجال...هذا الخسيس اعتدي علي حرمة نسائنا...غير اسمه ليغوي آسيا!!!!!

قالت رقية بتعقل:

_كيف يغويها وهي تعشقك أنت يا ياسين؟! ربما كانت فقط تعمل هناك ...

خبط علي سور الشرفة بكفه وهو يهتف بغضب:

_كيف تقيم هناك معه وحدها طيلة هذه الشهور....جسار القاصم لن يضيع هذه الفرصة لينتقم منا....ذاك الوغد انتظر كل هذه السنوات متخفياً...ولم يجد إلا آسيا لينفذ فيها انتقامه....؟!!!!


أخذت رقية نفساً عميقاً تستوعب به مشاعرها تلك اللحظة...

تخمد به لهيب قلبها الذي يشتعل غيرة من خوفه علي معشوقته...

وسعادته الملهوفة التي لم تخفَ عليها عندما علم أنها لازالت علي قيد الحياة...

تسكت به صراخ روحها التي تطالبها بالتمرد علي وضعها الغريب الذي طال...

وتستجيب لصوت العقل الذي يأمرها الآن...


لقد حان وقت الرحيل يا رقية!!

ارفعي رأسك ياابنة أبيك ...

وانفضي عن قلبكِ رداء ضعفه...

وعودي كما كنتِ رقية الهاشمي التي لم ولن يكسرها أحد.....!!!!


تناول ياسين مفاتيحه ليقول لها بسرعة:

_يجب أن نري حلاً لهذه الكارثة...حان الوقت لنعود لبيت العائلة..


تجمدت مكانها لحظات تنظر إليه طويلاً.....

ثم هزت رأسها نفياً وهي تقول بهدوء:

_عد أنت لبيت العائلة...أنا لن أعود معك...


عقد حاجبيه بشدة فأعطت له ظهرها وهي تقول بثبات تحسد عليه:

_لقد مات والدي الذي تزوجتني لأجل نفوذه...وحبيبتك عادت للحياة وتحتاج وجودك جوارها الآن لتنقذها مما هي فيه...الآن لم يعد لزواجنا معني...

سار ليقف قبالتها قائلاً بصدمة:

_ماذا تقولين يا رقية؟!


نظرت لعينيه وهي تقول بقوة:

_لقد وعدتك ألا أتركك طالما تحتاجني...وأنت الآن في غنيً عني...هاقد وفّت رقية الهاشمي بكل وعودها معك...والآن جاء دورك لتفي بوعدك معي...

ازداد انعقاد حاجبيه وهو يسألها بحذر:

_أي وعد؟!

اقتربت منه خطوة وهي تعقد ساعديها علي صدرها رافعة رأسها بكبرياء لتقول:

_وعدتني ألا تفعل إلا ما يرضيني...وأنا الآن أريد .....الطلاق...


تهدج صوتها في عبارتها الأخيرة رغماً عنها...

ليفلت من عقال سيطرتها علي جميع جوارحها الآن...

فيما ظل هو ينظر إليها طويلاً...

لتلتقي عيناهما للحظات واجهته فيها بقوتها التي تميزها...

قبل أن تعطيه هي ظهرها من جديد لتنسحب قبل أن يخذلها تماسكها...


لكنه أمسك ذراعها ليديرها إليه ثم أمسك كتفيها لينظر في عمق عينيها هامساً:

_تريدين أن نفترق يا رقية؟!


هربت من عينيه لتقول بثبات:

_نعم...وبسرعة...

ابتسم في سخرية مريرة هامساً:

_بسرعة؟!!!

زفرت زفرة قصيرة وهي تقول بانفعال:

_زواجنا كان مجرد خطإ كبير...لم ندفع ثمنه وحدنا...بل دفعه معنا غيرنا...وآن الأوان لنصلح هذا الخطأ ويمضي كل منا في طريقه....

اقترب منها أكثر حتي كاد يلاصقها وهو يهمس عاتباً:

_زواجنا خطأً يا رقية؟!

هتفت بنفس الانفعال:

_نعم ...خطأ...ورقية الهاشمي لن تسمح -بعد- بأي نقطة ضعف في حياتها ...حتي لو مات عاصم الهاشمي ...وحتي لو فقدت دعمه وقوته...سأبقي قوية كما عهدني وكما عهدت نفسي...

ثم أردفت بنفس القوة وهي تشير للمكان حولها:

_الحمد لله أن هذا تم هنا...وأنا في بيته وفي غرفته...أشعر بروحه تؤازرني في قراري...


نظر إليها طويلاً في صمت قبل أن يسألها بنبرته اللائمة:

_وقلب رقية الهاشمي؟! هل يوافقك علي قرارك هذا؟!


رفعت رأسها في كبرياء لتقول :

_أخبرتك قبلاً لو تعارض قلبي مع كبريائي سأسحقه تحت قدمي وأرفع كبريائي علي رأسي...

تنهد في حرارة...

ثم أطرق برأسه للحظات...

قبل أن يرفع وجهه إليها لينظر لعينيها طويلاً...

لكنها لم تتأثر...!!


لقد أجادت السيطرة علي جوارحها تماماً هذه المرة...

مد أنامله يتحسس وجنتها برفق للحظات وهو لا يزال غارقاً في بحر عينيها الهائج....

لتشعر بروحها تنسحب منها رويداً رويداً...

وهي تشعر بالسكينة في لمساته...

 فأغمضت عينيها وهي تهمس باعتراض:

_ياسين!!

أحاط وجهها بكفيه وهو يقترب بشفتيه من شفتيها هامساً:

_لقد وعدتكِ ألا يمس رقية الهاشمي إلا رجل يحبها ...

فتحت عينيها بترقب...

وهي تنظر إليه بتساؤل...


فاقترب بشفتيه أكثر وهو يهمس:

_وأنا ..أحبك بجنون ...


تناول شفتيها بقبلة عميقة...

وهو يستشعر صدق كلماته...

هو لم يقلها ليسترضيها...

ولا ليثنيها عن قرارها...

لكنه قالها وهو يعنيها...

من للحب سوي رقية؟!!!

بل لمن خلق الحب إن لم يكن لها؟!!!!


أفاقت لنفسها بعد لحظات غابا فيها عن العالم في دنيا أخري من عاطفتهما الخاصة....

 لتنظر إليه في عدم تصديق...


فرفع كفها إليه يقبل باطنه ليهمس أمام عينيها:

_الآن فقط...أقولها أمام عينيك دون قيود...أقولها وأنا أعنيها بكل حروفها...أنا أحب رقية الهاشمي التي لم ولن أعرف امرأة مثلها...


ثم ضم رأسها لصدره وكأنه يدفنه في ضلوعه هامساً:

_بعيداً عن نفوذ عاصم الهاشمي...وحتي لو عادت آسيا من جديد...قلبي الآن لا يحمل سوي حب واحد...حب أعظم من أن أضحي به مهما كان...حب رقية ...سلطانة العشق التي ملكت جوارحي وداوت جروحي...


شعر بدموعها تبلل قميصه...

فرفع وجهها إليه وهو يمسح دموعها هامساً:

_لا بكاء بعد اليوم يا غاليتي...قلبك لن يعارض كبرياءك بعد اليوم...كلاهما سيرفع علي رأسك ورأسي أنا أيضاً...


ابتسمت وسط دموعها وهي تشعر بصدق حبه الذي طالما انتظرته...

ليأتيها في نفس اللحظة التي كادت تموت فيها يأساً...

ياسين الآن صار لها كاملا....

لكن آسيا!!!!


سألته بتردد:

_وماذا عن آسيا يا ياسين؟!

أطرق برأسه وهو يقول :

_لن أتخلي عن آسيا هي ابنة عمي ولها معزة خاصة عندي...لكنها لم تعد عشقاً يتملكني...ما كان يمنعني عنك طيلة الأيام السابقة لم يكن حبي لآسيا...لكن شعوري بالذنب نحوها...شعوري من الخزي أن أعشق من جديد وقد كنت أنا السبب في موتها...لكنني الآن وبعدما صار أمامي الخيار متاحاً...أدرك أنني لم أعشق امرأة كما عشقتك أنتِ يا رقية....

ثم نظر لعينيها هامساً بعشق جارف:

_الآن يتحرر قلبي من أغلال ماضيه ليرتع في ربوع عشقك الساحرة...الآن تكونين صديقتي وحبيبتي وزوجتي...

دفنت وجهها في صدره وهي تقول:

_اااااااااه يا ياسين...لو تعلم كم اشتقت لسماع هذا منك...


ضم رأسها لصدره بقوة وكأنه يريد غرسها بين ضلوعه....

ثم رفع وجهها إليه وهو يهمس:

_لو تعلمين كم اشتقت أنا لقولها لكِ!!!!


ابتسمت وسط دموعها وهي تهز رأسها ...

لقد صدقت رقية الهاشمي في قسمها لنفسها ليلة زفافها...

وصار ياسين النجدي بقلبه وروحه ملكاً لها...

==========================================================================

صعد ياسين درجات سلم بيت العائلة الكبير ليلتقي عمار الذي كان يستعد للمغادرة...

نظر ياسين لحقيبته في يده هاتفاً:

_إلي أين تذهب يا عمار؟!

قال عمار بغلظة:

_جوري استعادت قدرتها علي النطق...وجدك جعلني أطلقها...وأمرني بترك المنزل...

زفر ياسين بقوة ثم قال له بقلق:

_دع حقيبتك هذه جانباً....وتعال ننظر ماذا سنفعل في هذه الكارثة...

عقد عمار حاجبيه وهو يهتف:

_أي كارثة؟!

سبقه ياسين وهو يقول بتوتر:

_سأنتظرك عند جدي.


دخل ياسين غرفة جده الذي كان جالساً علي كرسيه كعادته فسأله بهدوء:

_هل عدت أخيراً مع زوجتك؟!

قال ياسين بتوتر:

_هناك أمر يجب أن تعرفه يا جدي كي نستطيع التصرف بسرعة.

دق قاسم علي الأرض بعصاه وهو يقول بحذر:

_ماذا عندك؟!


تردد ياسين لحظات ثم قال بحسم:

_آسيا لازالت علي قيد الحياة.


وقف قاسم هاتفاً بصدمة:

_ماذا؟! 

قال ياسين باضطراب:

_لقد تعرف عليها رجل زارني الليلة في منزل عاصم الهاشمي...لقد كان يعمل في المزرعة التي تقيم هي فيها الآن.


هز قاسم رأسه وهو يسأله بغضب هادر:

_أي مزرعة؟!!!

أشاح ياسين بوجهه للحظات ثم عاد يواجهه قائلاً:

_مزرعة في(.......)...لكن المشكلة ليست في هذا...المشكلة في مالك المزرعة...


ضيق قاسم عينيه بتساؤل فقال ياسين بحذر:

_جسار القاصم!


وضع قاسم كفه علي صدره وهو يشعر بألم شديد ...

لكنه تحامل علي نفسه ليقول بانفعال واضح:

_جسار القاصم اعتدي علي حرمة نسائنا؟! الخسيس هرب من ثأره مع الرجال طيلة هذه السنوات ليحقق انتقامه من فتاة!!!


وصل عمار في هذه اللحظة ليستمع للجزء الأخير من الحوار...

فسأل ياسين بقلق:

_ماذا حدث يا ياسين؟!


التفت إليه ياسين ليخبره...

عندما سمع صوت ارتطام خلفه...

لقد سقط قاسم النجدي...

قلبه لم يحتمل الصدمة!!!

==========================================================================

اجتمعت العائلة كلها حول فراش قاسم النجدي بالمشفي يتبادلون النظرات بحيرة تمتزج بالقلق...

قاسم وبرغم قسوته وتسلطه علي الجميع...

لكنه كان الوتد لهذه العائلة...

وجوده فقط كان كفيلاً لإشعارهم بالقوة والأمان...

وعندما سقط هكذا فجأة...

وجدوا أنفسهم يشعرون بالضياع....

عائلة النجدي لن تساوي شيئاً لو رحل هذا الرجل...!!!


قاسم النجدي هو الذي كان يجمع شتات هذه العائلة وخيوطها بكفه...

لو قدر الله له الموت الآن...

فإن هذه العائلة لن تفقد أمانها وقوتها فقط...

لكنها ستفقد روحها كلها!!!


لهذا تنفس الجميع الصعداء عندما استعاد وعيه ليتفحص ملامحهم بترقب...

ثم همس بصعوبة:

_آسيا...أريد آسيا....


توجهت فريدة -الصابرة-نحوه...

والتي كانت أقلهم صدمة -للعجب-من خبر وجود آسيا علي قيد الحياة...

قلبها الصادق أخبرها قبل أن يخبروها...

أن "الكريستالة" الهشة ستعرف كيف تتدبر طريقها عندما تصقلها الظروف ...!!!!


صحيح أنها قلقة مما سيفعله بها قاسم النجدي...

ومما تحمله لها الأيام مع جسار ذاك...

والذي يعلم الله ما الذي فعله وسيفعله بها....

لكن قلبها المؤمن أنبأها أن الذي حفظ لها ابنتها طيلة هذه الشهور لن يضيعها....

ستعود ابنتها لحضنها سالمة...

هذا يقينها بربها الذي لم يخذلها يوماً...!!!


جلست فريدة علي طرف فراشه وهي تبتسم بشحوب لتقول:

_لا تقلق يا عمي...سنعيدها...اهتم بصحتك فحسب....


نظر قاسم للسقف في شرود...

وهم يراقبونه بتفحص...

هم يعرفون شرود قاسم النجدي جيداً...

سيأتي بعده أمر جلل....!!!


وصدق حدسهم عندما التفت نحو أحفاده ليهمس بصعوبة:

_أخبروا حمزة أن يعود.....آن له أن يرجع!!!!

==========================================================================


استيقظت آسيا من نومها علي طرقات قوية علي باب غرفتها الخارجية...

نهضت من سريرها وهي تنتبه أنها نامت بثوبها هنا ...

لقد غلبها النوم بعد ليلة عصيبة من البكاء...

كل الحقائق التي تكشفت لها بالأمس جعلتها في حالة من الصدمة وعدم التصديق...

لكنها للأسف...

مجبورة هي علي المضي في الطريق الذي اختارته بنفسها...

وليتها لم تفعل!!!!


عادت الطرقات بقوة أكبر علي الباب هذه المرة...

فقامت لتفتحه...

وجدت جسار أمامها يبدو العبوس علي وجهه...

فهمست بقلق:

_ماذا بك يا بدر؟! هل جد شئ؟!


تأمل ملامحها المنهكة وهو يشعر نحوها بالشفقة...

لازالت بثوبها من البارحة...

عيناها الذابلتان تفضحان ليلة قاسية من البكاء والسهر...

والخوف!!!

لاريب أنها تشعر بالخوف من مستقبلها هنا...

الخوف من عائلتها...

بل...والخوف منه هو نفسه!!!


كم يود لو يمنحها الأمان الذي يعرف جيداً كم تحتاجه الآن...

لكنه لا يستطيع...

بعدما سمعه بأذنيه بالأمس من كلماتها التي أشعرته بأنها تحبه....

كل همسة حنان منه الآن جريمة في حقها!!!!


كل كلمة رقيقة وكل نظرة عطف ستعمق شعورها نحوه أكثر...

وهو ما لا يريده الآن!!!

آسيا يجب أن تبقي حرة...

قلبها ينبغي أن يتحرر من عشقه الوليد له!!!

حتي يمكنها الرحيل من هنا متي شاءت بكل يسر...


لهذا تجاهل كل شعوره بالشفقة والحنان نحوها ليقول بخشونة:

_قلت لكِ أنني جسار...لا تدعيني بدر ثانية...


أطرقت برأسها وهي تستوعب قسوته الجديدة معها...

والتي لم تختبرها قبلاً...

لاريب أنه يكره وجودها الآن أكثر...

لكنه مضطر لتحمل وزرها للنهاية...

كأي رجل نبيل!!!


ضم قبضته بقوة يداري عنها شعوره وهو يقول بقسوة:

_لماذا قضيتِ ليلتكِ هنا؟! ألم آمركِ أن تبيتي مع ياسين...هل تنقصنا أحاديث العاملين هنا؟!!!!


هزت رأسها وهي عاجزة عن النطق...

تشعر بالإهانة...بالامتهان...

لكنها تستحق!!!

هي التي وضعت نفسها في هذا الموقف !!!


لذا قالت بعد صمت لحظات طويلة دون أن تنظر إليه:

__آسفة يا جسار.


كانت المرة الأولي التي يسمع فيها اسمه الحقيقي منها...

وليته لم يفعل...

هل يمكن أن تحمل الحروف مشاعر صاحبها كما تفعل مع آسيا؟!!!!

عندما كانت تدعوه "بدر" ...

كانت حروفها تتراقص ...!!!!

تحمل له زخّات من امتنانها وحنانها ورقتها الفطرية دون تكلف...

تحمل له شعورها نحوه بالأمان والثقة!!


والآن وهي تدعوه "جسار" هكذا...

يشعر بحروفها ترتعش في خوف يمتزج بالحيرة...

وكأنها تشكو منه وتشكو إليه في نفس الوقت...!!!

نعم....حروفها تأتيه مشبعة بألمها وعُتبها علي قسوته الجديدة...

وكأنها عندما تدعوه"جسار" تذكره بما حملته له طوال عمرها من خوف ورهبة!!!


لكنه عاد يتجاهل كل هذا وهو يقول بجفاف:

_اذهبي الآن لغرفة ياسين...سأنجز بعض الأعمال وآتيكم بعد العصر...


قالها ثم أعطاها ظهره منصرفاً بسرعة...

فتأملت خطواته المنصرفة بحسرة...

لقد ذهب بدر الحنون الرقيق المتفهم...

ولم يبق سوي جسار الذي عاشت عمرها السابق تخشاه...

ويبدو أن عمرها القادم لن يخالف عهدها معه!!!


أغلقت باب غرفتها خلفها بعدما خرجت لتتوجه نحو المنزل الكبير...

توجهت نحو غرفة ياسين التي صارت الآن غرفتهما معاً...

فجسار بالطبع لن يشاركها غرفته!!!

بدلت ملابسها بأخري أكثر راحة...

وخلعت حجابها لتمشط شعرها في شرود...


ما أشد مرارة الخذلان!!!

عندما يخذلك كل من حولك...

حتي من ظننتهم أقرب الناس إليك...


يقولون لي : كوني قوية!!

من أين لي بقوة وسط هذا الحطام الذي يملأ روحي؟!

أنا لست أملك إلا دموعي وحسرتي علي ما كان...

وحدي أقاوم كي أقنع أنفاسي -فقط-بالبقاء في صدري...

فلا تنقطع!!!

وحدي أجاهد خطايا ماضٍ تطوقني بحبال من لهيب...!!

وحدي أربّت علي خوف قلبي من غدٍ يرهبه كالكابوس!!!

وحدي...

وحدي...!!!


هكذا كانت تحدث نفسها عندما دخل عليها ياسين ليقول بمرح طفولي:

_يا إلهي...كم أنت جميلة....أنتِ تبدين ك"سندريللا"!!!

ابتسمت وهي تفيق من خواطرها البائسة...

ثم ضمته لصدرها هامسة بحنان:

_وأنت تبدو كالأمير الشجاع...أنت بطلي يا ياسين...


دخل جسار في هذه اللحظة...

ليراها لأول مرة بهذه الصورة...

شعرها الذي يبدو كخيوط الذهب السائلة ينسدل كستار كثيف علي كتفيها...

لينافس عينيها في بريقهما الأخاذ...

تضم الصغير لصدرها في حنان بصوتها الذي يمزج براءة الأطفال بسحر النساء...

أناملها الرقيقة تداعب شعره برقة فتبدو كأنها حورية خرجت من إحدي حكايا العشق الأسطورية...

لتعزف علي قيثارة من الإحساس...

لقد كان يظنها فاتنة...

والآن يراها....آسرة!!


وقف لحظات يتأملها مأخوذاً دون أن تشعر هي به...

حتي انتبه لعبارتها الأخيرة التي قالتها لطفله...

ياسين!!

أي ياسين كانت تقصد وهي تتفوه بها...؟؟؟!!!!

أي ياسين هو أميرها وبطلها...؟؟؟!!!

أي ياسين كان بقلبها وهي تضمه بهذه الصورة الحانية؟؟!!!

ياسين طفله...أم ياسين عشقها القديم؟؟؟!!!!


عقد حاجبيه بشدة عند هذه النقطة...

وهو يشعر بضيق غريب...

وماله بها هو؟؟؟!!!

إنها ليست سوي غريبة تعهدها بالحماية...

فلتعشق من شاءت...

لا شأن له بمشاعرها...

بل لا شأن له بها علي الإطلاق!!!!


جعله إدراكه الأخير هذا يهتف في خشونة:

_اخرج الآن يا ياسين...أريد الحديث مع آسيا وحدنا.


انتفضت واقفة عندما رأته وهي تشعر بقلبها يكاد يتوقف خجلاً وذعراً...

لماذا عاد الآن...

ألم يقل أنه سيعود قبيل العصر؟!!!!


مدت يدها لحجابها بسرعة تتناوله...

عندما خرج ياسين الصغير من الغرفة بسرعة...

لفت حجابها كما اتفق لكنه انزلق من علي شعرها بسرعة ليسقط علي كتفيها....


ازدردت ريقها بارتباك...ثم أطرقت برأسها هامسة:

_ماذا تريد يا جسار؟!


أشار إلي حجابها المنزلق وهو يقول بجفاف:

_اخلعي هذا عندما تكونين في المنزل...الخادمات هنا يتناقلن الأحاديث بلا تحفظ...يجب أن تتعاملي معي بطريقة طبيعية أمام الجميع ...


أومأت برأسها إيجاباً...

ثم همست في ضعف:

_هل تريد شيئاً آخر؟!

زفر بقوة وهو يقول بخشونة:

_وكفّي عن تدليل الصغير هكذا...لا أريده أن يتعلق بكِ أكثر...حتي لا يشقّ عليه الأمر عندما ترحلين...


دمعت عيناها رغماً عنها وهي تسمعه يتحدث عن رحيلها بهذه البساطة...

وهو يعاملها بهذا الأسلوب الجديد...

رفقاً بي يا جسار...

لا تنقصني قسوتك هذه...

كفاني ما قد لاقيت ...

وما سألاقي!!!!

هكذا حدثت نفسها وهي تعطيه ظهرها كي لا يري عينيها الدامعتين...

وضعت كفها علي شفتيها تمنع انهمار دمعها الذي لم يعد لها سواه في غربة روحها هذه!!!


أساء فهم حركتها فجذب مرفقها نحوه ليهتف بقسوة:

_ولا تعطيني ظهركِ عندما أكلم...


قطع عبارته وهو ينظر لعينيها الدامعتين مأخوذاً...

لم تكن المرة الأولي التي يراها فيها تبكي...

لكنها المرة الأولي التي يراها فيها بهذه الهشاشة وهذا الضعف...

وهذا القرب!!!

أم أن هذا الضعف كان نابعاً منه هو نفسه؟!!!


نظرت إليه ترمقه بسهام من عتبها الممتزج برجائها هامسة:

_لماذا صرت تعاملني هكذا؟!

ثم أردفت بنفس الهمس المتألم الذي يحمل أنّات روحها الكسيرة:

_أنا أعرف أنني أُثقل عليك...لكنني الآن ليس لي أحد غيرك...


قالتها ثم انتفض جسدها كله بنحيبها الذي ما عادت تقوي علي كتمانه...

ليجد نفسه دون وعي يجذبها من مرفقها ليضمها إليه بقوة...

وهو يربت علي ظهرها في صمت....

لامست أنامله خيوط الذهب السائلة والمسماة -ظلماً-شعرها...

فأخذ نفساً عميقاً ليأتيه ممزوجاً بعبير الذهب الساحر....


أغمض عينيه لحظات...

لا يعرف سر هذا الشعور الغريب الذي يملؤه...

لا...إنه ليس مجرد شعور رجل بامرأة...

لكنه شعور بالاحتواء...

أو علي الأدق...بالاكتمال!!!

وكأنها كانت تنقصه حتي إذا ما ضمها...

وجد فيها كماله وتمام نقصانه...!!!!


ظل علي إحساسه-الغادر-بها للحظات...

قبل أن يستفيق فجأة من شعوره...

ليؤنبه ضميره بقسوة...

هل نسيت سمية بهذه السرعة يا جسار؟!!!!


ارتد عنها مصعوقاً فابتعدت عنه بخجل...

وهي تكاد تقسم علي علمها بما يشعر به الآن...

لم تكن تتوقع يوماً أن يضمها هكذا...

كما لم تتوقع أبداً أن يكون شعورها هكذا يوم يفعل!!!

ودت لو تشكره علي هذا الأمان الذي شعرت به بين ذراعيه...

لكن نظرة واحدة لملامحه كانت كافية لتدرك ..

كيف هو الآن شعوره بالندم...!!!!


جسار لا يحبها...

ولا يريد أن يحبها...

هو يريد العيش بين أطلال سمية للأبد...

ووجودها معه يذبحه بشعور الخيانة...!!!!


كانت تدرك كل هذا...

لهذا لم تستطع أن تمنع نفسها من أن تهمس بشرود وكأنها تهذي:

_سأرحل يوماً ما ....وستنتهي القصة بالنهاية السعيدة للجميع...


قالتها وكأنها تطمئن بها نفسها...

قبل أن تطمئنه هو...

وكأنها تقنع نفسها بوجود معجزة قادرة علي حل وضعهما المتشابك...

وفك كل تلك العقد...


نظر لشرودها في حزن يمتزج بالضيق...

وهو لا يجد ما يقوله...

هو يريد الهرب من أمامها الآن فقط بأي صورة...!!!


توجه نحو الباب بخطوات متثاقلة ليسمعها تقول خلفه في رجاء :

_لا تقسُ عليّ ثانية ...لا تدّعِ دوراً ليس لك...لو كنت تفعل هذا لتضمن رحيلي من هنا...فأقسم لك أنني سأفعل يوماً...


أغمض عينيه بقوة دون أن يلتفت إليها...

وهو يشعر بكلماتها كالسهام موجهة لقلبه باحتراف...

كل سهم يعرف مكانه وتأثيره!!!


هز رأسه بعجز وهو يشعر أنه عالق مع هذه الصغيرة التي دخلت عالمه فجأة...

لتقلبه له رأساً علي عقب...

ومن يدري...ماذا تخبئ له أيامه معها؟!!!!!

==========================================================================

الفصل الثامن عشر:


جلس بدر علي كرسيه يراقب غروب الشمس في شرود...

هذا أول مرور للشهر الفضيل عليه دون سمية...

ابتسم في حنين وهو يتذكر طقوسها الخاصة في هذا الشهر من كل عام...

كيف كانت تنتظر الأذان بصبر...

ثم تلتقط حبة تمر تشقها نصفين لتضع شقاً في فمها وشقاً في فمه...

ثم تدعو دعاء الإفطار المعروف...

لتقول له بعدها بحبها الصادق:

_ربما عجزت عن مكافأتك عما فعلته لأجلي...لكنني أدعو الله أن يجزيك هو من فضله عني خيراً...


دمعت عيناه وهو يأخذ نفساً عميقاً...

ليتمتم بعدها :

_رحمك الله يا سمية...لا أظن العمر كله يكفيني حزناً عليك...


انطلق صوت الأذان بعدها...

فدعا الله لها بكل ما أوتي به قلبه من صدق...

ثم نظر نحو المنزل الكبير في تردد...


آسيا!!

لا يريد أن يذهب...

لا يريد أن يراها...

أما يكفيه أنه أول "رمضان"يمر عليه دون سمية...

فيجد أخري مكانها علي المائدة أيضاً؟؟؟!!!!!


زفر في حنق وهو يشعر بالاختناق...

لكنه استغفر الله سراً...

ثم بقي مكانه وقد قرر أن يكتفي بشربة ماء...

ويؤخر ذهابه للمنزل لعلهم يفطرون  دونه!!!!


وبعدها بما يقارب نصف الساعة...

دخل المنزل الكبير ليفاجأ بعمه يجلس وحده مع ياسين الصغير علي المائدة...

اندفع نحوه الصغير ليقول بلهفة:

_لماذا تأخرت يا أبي؟! نحن ننتظرك.


ربت جسار علي رأسه ثم التفت لعمه الذي رمقه بنظرة عاتبة...

تجاهلها مضطراً ليجلس مكانه علي المائدة...

ثم غافلته عيناه لتتجها رغماً عنه لطبق التمر...

الذي لن يجد من يشق له منه تمرة بعد اليوم!!!


ظل علي شروده حتي انتبه لصوت عمه يسأله بلوم:

_ألا تفتقد أحداً علي المائدة؟!


أشاح بوجهه في ضيق...

فيما هتف الصغير بحزن:

_آسيا لم تشاركنا الطعام.


عقد حاجبيه بضيق ثم التفت نحو عمه ليسأله بدهشة:

_ألم تتناول إفطارها بعد؟! لقد ظننت أنكم ....


قاطعه عمه ليقول بنفس اللهجة اللائمة:

_آسيا رفضت مشاركتنا الطعام في رمضان...قالت أن هذا سيؤذيك خاصة أنه أول "رمضان"يمر علينا بعد رحيل سمية.


ازداد انعقاد حاجبيه وهو يشعر نحوها بمزيج من الامتنان والذنب...

وبرغم ضيقه من قرارها هذا لأنه سيزيد من إحساسها بالنبذ...

لكنه حمد لها هذا التفكير...

بعدما سمعه بأذنيه عن حبها -الوليد -له....

لا يريدها أن تفرط في أحلامها بالنسبة لهذا الزواج...

تصرفها هذا يعني أنها تدرك قيمة سمية لديه....

كما تدرك مكانها هي عنده علي أي حال!!


قطع العم كساب تفكيره وهو يقول له بحزن:

_أنا قلق علي هذه الفتاة يا جسار...حالها يزداد سوءاً يوماً بعد يوم.


نظر إليه جسار وهو لا يجد ما يقوله...

عمه علي حق...

آسيا تزداد شحوباً وذبولاً كل يوم عن سابقه...

لكنه لا يريد أن يمنحها ما يعلقها به أكثر...

لهذا زفر بضيق وهو عاجز عن الرد...

فوقف عمه ليقول بحزم:

_سأذهب إليها أنا وأشاركها الإفطار في غرفتها.


هنا لم يجد جسار بداً من أن يقف بدوره ليقول مضطراً:

_ابق أنت يا عمي...سأذهب إليها أنا وآتي بها لتفطر معنا.


قالها وابتعد عنهم ليتوجه نحو غرفة ياسين الصغير حيث تقيم هي بطبيعة الحال...

كان الباب موارباً فنظر من خلاله ليجدها جالسة علي الأرض....

تفترش سجادة الصلاة ترفع يديها بالدعاء...

أرهف سمعه عندما وجدها ترفع يديها للسماء لتقول بحزن مزق قلبه:

_اللهم إني أدعوك أن تقبض روحي إليك...لم أعد أريد البقاء في هذه الحياة...فاجعل الموت لي راحة...


انقبض قلبه بشدة وهو يسمعها تدعو علي نفسها بالموت هكذا بكل هذا الصدق والإصرار...

ألم يكتفِ هذا البيت بالموت بعد؟!!!


اقترب منها ببطء وهي غافلة عنه تردد دعاءها بإلحاح ...

فهتف بغضب:

_آسيا!


انتفضت بعنف وعادت بظهرها لتستند بكفيها علي الأرض...

وهي ترمقه بنظرات مذعورة لما رأت الغضب في عينيه...

ظل ينظر إليها للحظات تجمد فيها الدم في عروقها وهي تري اشتعال عينيه....

قبل أن يغمضهما للحظات يستوعب فيها مشاعره المتناقضة...

ثم عاد يفتحهما وقد لانت نظراته نوعاً...

ليمد لها كفه كي تنهض ...


نظرت لكفه الممدود بتردد...

وصدرها يعلو ويهبط ليفضح خوفها الظاهر...

فمنحها نظرة مطمئنة وهو يشير لها برأسه...

ازدردت ريقها ببطء...

ثم مدت كفها لتتشبث بكفه...


رفعها ممسكاً بكفها لتقف قبالته...

فأطرقت برأسها وهي تشعر بالاضطراب...

ليقول هو بعتاب :

_ألا تعلمين أنه لا يجوز أن يدعو المرء علي نفسه بالموت؟!


ظلت علي إطراقها وهي لا تجد ما تقوله...

عندما سمعته يقول بقلق:

_كفك بارد كالثلج...ألم تتناولي شيئاً من الطعام إلي الآن.


لم تستطع رفع عينيها إليه...

وهي تشعر بضعف غريب...

لا تدري لماذا شعرت أن دعاءها قد استجيب...

وأن روحها الآن تغادر جسدها ببطء...!!!!


جذبها من كفها وهو يعود بها لمائدة الطعام...

ثم قال لها بلهجة آمرة:

_اجلسي وتناولي طعامك.


وقفت مكانها مترددة...

وهي تنظر للعم كساب برجاء...

وكأنها تطلب منه أن يجعلها تعود لغرفتها...

هي لا تريد أن تأكل معهم...

لا تريد أن تزيد من حنقه عليها عندما يراها مكان سمية الغالية...

حنقه هذا لا يجلب لها سوي المزيد من قسوته عليها...

وهي اكتفت من كل هذا العذاب!!!!


لكن العم كساب خذلها عندما وقف بنفسه ليجذب لها كرسياً ...

ثم أجلسها بحزم وهو يقول :

_تناولي إفطارك لقد تأخر الوقت.


أمسكت ملعقتها بأنامل مرتجفة...

لا تدري ضعفاً أم خجلاً...

ثم عادت بها الذكري لتجمع عائلتها الكبيرة في أيام رمضان...

دمعت عيناها وهي تتذكر مزاح جوري وساري علي الإفطار...

ونكات حذيفة الساخرة التي كانت تلهب الأجواء بالضحك...

وعمار الذي طالما اشتهر بنهمه للطعام رغم جسده الرياضي وكيف كانت معاناته في الصوم...

ونظرات ياسين الحانية وهو يأمرها بأن تتناول طعامها كله حتي لا يصيبها الدوار كالعادة...

وحتي تعليقات العمة راجية المنتقدة لها علي الدوام....


تذكرت دعاء جدها الذي كان الجميع يؤمّن عليه...

قبل أن يبدأوا جميعاً بالإفطار...

والحلوي المميزة التي كانت تعدها لها فريدة بيديها...


وعند ذكري فريدة الغالية...

لم تستطع منع دموعها فشعرت بغصة في حلقها...

وهي تتمني لو تعود لغرفتها -الآمنة -الآن لتبقي وحدها....

شعر بها العم كساب الذي كان يراقب انفعالاتها بحنان أبوي ليقول برفق:

_هوني عليك يا ابنتي...ستمر الأمور بسلام.


عندها نظر جسار إليها...

ليلمح دموعها علي وجنتيها...

وارتجافة أناملها الشديدة...

لم يعد ضعفها يثير ضيقه...

بقدر ما يثير رغبته في احتواء حزنها هذا...

لكنه لا يعرف كيف يفعل هذا دون أن يزيد تعلقها به...

ولو أنصف لقال أنه يخشي تعلقه هو بها أكثر!!!


تنهد في حرارة ثم مد كفه ليقبض علي كفها البارد لعله يهدئ ارتجافته...

ثم قال لها برفق:

_كلي الآن ولا تفكري في شئ.


نظرت إليه بمزيج من الضعف والرجاء فمنحها نظرة مطمئنة ...

ثم ملأ لها طبقاً كبيراً بالطعام وضعه أمامها...

ليقول بحزم:

_لا أريد أن تبقي منه شيئاً.

==========================================================================

خفق قلبه بعنف عندما تفقد غرفة ياسين الصغير التي تقيم فيها معه كعادته كل ليلة...

لكنه لم يجدها...

اندفع خارجاً من المنزل الكبير يبحث عنها حتي اصطدمت عيناه بمنظرها الغريب...

كانت جالسة أمام اسطبل الخيل شبه مستلقية علي مقعدها...

رأسها يستند علي ظهر المقعد وذراعاها متدليان علي مسنديه في استسلام...!


ظنها نائمة للوهلة الأولي...

لكنه اقترب منها ببطء ليجد عينيها شاخصتين للسماء في شرود...


وضع كفه علي كتفها فانتفضت بذعر...

لكنه عاد يربت علي كتفها بحنان قائلاً:

_لا تخافي يا آسيا...إنه أنا.


أغمضت عينيها في ألم لم يخفَ عليه...

فسحب كرسياً ليجلس جوارها سائلاً إياها:

_لماذا تجلسين وحدك هنا؟!


ظلت مغمضة عينيها في سكون...

دون أن ترد...

فأمسك كفها يضغطه برفق وهو يقول بقلق:

_آسيا...تكلمي...ماذا بكِ؟!


لم ترد عليه للحظات....

وكأنها لم تسمعه....

ثم فتحت عينيها ببطء لتهمس بشرود:

_اليوم انتبهت أنني أشبه الخيل كثيراً...فيما عدا شيئاً واحداً...


ابتسم ابتسامة جانبية وهو يقول بحنان:

_أنت فعلاً تشبهين الخيل...جميلة ...متفردة ...وتعشق الانطلاق...


لم يبدُ عليها التأثر بمديحه ...

عندما عادت تهمس في شرود:

_لكنني لست قوية مثلها...ما أشبهني الآن بحصان مريض ينتظر رصاصة الرحمة.!!!


عقد حاجبيه بشدة وهو يسمعها تتحدث بكل هذا القدر من اليأس والقنوط...

هو يعرف أن وضعها صعب...

ويقدر كل هذا الألم الذي تفيض به روحها...

لكنه لم يتصورها هشة إلي هذا الحد!!!


ضغط كفها بين أنامله وهو يغتصب ابتسامة ليهمس برفق حنون:

_ألم نتفق أنني سأروض ضعفك هذا...سأكون معك حتي تنطلقين كفرس قوية جامحة لا تقف أمامها حواجز ولا قيود...هذا وعدي لكِ أيتها "الكريستالة."


التفتت إليه من شرودها عندما سمعته يناديها بلقب فريدة المميز...

فريدة كانت تلقبها بالكريستالة...لأنها كانت تراها هشة قابلة للكسر بسهولة...

لكنه هو...


أكمل لها فكرتها عندما همس بثقة:

_سأقولها لكِ ثانية...أنتِ كالكريستالة في قيمتها...وليس في هشاشتها...لا تصدقي يوماً سوي هذا.


عادت تغمض عينيها وهي تشعر بوهن عجيب....

وكأن روحها تغادرها ببطء...

لكنها راضية بهذا الاستسلام اليائس...

لعله يخفف من حدة نهايتها المتوقعة!!!


ما الذي تنتظره في أيامها القادمة...؟؟!!!!

لقد أضاع ماضيها حاضرها وغدها...

ولم يبق لها سوي انتظار النهاية!!!


تأمل ملامحها المستكينة بقلق بالغ...

كفها بارد كالثلج تحت أنامله...

وشفتاها شاحبتان علي غير طبيعتهما المتألقة...

وجهها كله صورة من ألم...وعذاب!!!


تنهد في حرارة...

ثم قام واقفاً ليجذبها من كفها...

فوقفت بصعوبة...

تأمل ملامحها المرهقة بإشفاق...ثم همس بحنان يمتزج بقوته:

_لا تحملي هماً يا آسيا...لن يمسكِ سوء ما دمتِ معي...


هزت رأسها وهي تهمس بألم دون أن تنظر إليه:

_لست خائفة علي نفسي....أنا أخاف عليك وعلي ياسين الصغير...وعلي عائلتي كلها....لو عادت نار العداوة تتأجج بين العائلتين...فلن ترحم أحداً...

ثم سالت دموعها علي وجنتيها لتهمس بندم:

_ليتني رضيت بقدري...بدلاً من أكون لعنة علي رؤوس الجميع.


رفع رأسه للسماء بعجز...

يود لو يضمها لصدره يحتوي كل هذا الحزن والألم في روحها الكسيرة...

لكنه لا يستطيع...

كم من الحواجز تقف بينهما...

كم من العقبات!!!!


لكنه ربت علي كتفها برفق...

وهو يقترب منها أكثر ليرفع وجهها إليه هامساً أمام عينيها بصدق:

_امرأة دخلت حياتي لتساعد زوجتي في مرضها...وتتولي أمر ابني وكأنه ابنها...امرأة تعطي قبل أن تفكر في أن تأخذ...امرأة لا تحمل هم نفسها بقدر ما تحمل همّ غيرها...امرأة كهذه ليست لعنة...بل نعمة يتوجب عليّ أن أشكر الله عليها في كل وقت...


نظرت إليه مصدومة...

وكأنها لم تتوقع أن تكون هذه صورتها في عينه...

هل يراها جسار هكذا؟!!!!!


مسح دموعها بأنامله...

فزادت ارتعاشة جسدها....

مما زاد قلقه عليها وهو يشعر أن شيئاً ما ليس علي ما يرام!!!

لكنه ابتسم لها بحنان وهو يهمس:

_الآن تعود الصغيرة لفراشها لتنام قليلاً قبل موعد السحور...


أومأت برأسها ثم خفضته خجلاً...

عندما سار معها يلفهما الصمت ...

حتي وصلا لغرفة الصغير ....

فتح لها باب الغرفة برفق ثم همس بحزم:

_نامي جيداً ولا تشغلي رأسكِ بالتفكير...


كان انهيارها الآن قد بلغ مبلغه...

وهي تشعر أنها ستسقط في أي لحظة...

لهذا أسندت رأسها علي الحائط جوار الغرفة وهي تهمس في وهن:

_سأطلب منك شيئاً...


نظر إليها بقلق وهو يشعر أنها متعَبة حقاً...

فهمس بتوتر:

_ماذا بكِ يا آسيا؟! هل تشعرين بتعب ما؟!


هزت رأسها نفياً كاذبة لتهمس بصعوبة:

_إذا لقيتَ أمي فاطلب منها أن تسامحني...


اقترب منها أكثر وقد ازداد توتراً من عبارتها...

فهمس بضيق:

_لا تزيدي قلقي عليكِ يا آسيا...لماذا تقولين هذا الآن؟ !


ابتسمت بصعوبة وهي بالكاد تتحامل علي نفسها لتقف...

ثم همست برجاء:

_فقط عدني...أرجوك.


أمسك مرفقها ليسندها حتي أوصلها لسريرها الذي استلقت عليه في إعياء...

فدثرها بغطائها...

ثم ربت علي وجنتها برفق هامساً بقلق:

_استريحي الآن...لو بقيتِ متعبة هكذا حتي وقت السحور...فلن تصومي غدا.


أمسكت كفه وهي تشعر بجفنيها يتثاقلان...

ثم همست برجاء:

_أمي!


ربت علي كفها الممسك بكفه وهو يشعر بانقباض صدره...

ثم همس ليسترضيها:

_أعدك أنني سأوصل لها رسالتك لو قابلتها يوماً.


هنا أغمضت هي عينيها في استسلام...

ظل واقفاً يراقبها بقلق وهو يلاحظ خلودها للنوم بهذه السرعة...

انتقل بصره بينها وبين ياسين الصغير بحنان...

ثم غادر الغرفة بخطوات متثاقلة...


ظل ساهراً في غرفته بعدها لأكثر من ساعتين وقد جافاه النوم...

قلقه لأجلها يعتصر قلبه...

ودعاؤها علي نفسها بالموت أمامه يقبض روحه...!!!


آسيا تحتاج لمزيد من الثقة والأمان...

تحتاج لتغيير كل هذا الجو المشحون بالخوف والتوتر...

لابد أن يهتم بها أكثر...

لكن كيف يفعل دون أن تسئ فهمه...؟!!!

ودون أن تغرس قدماه أكثر في بحر رمالها المتحركة التي تجذبه يوماً بعد يوم....؟؟!!!


كانت هذه أفكاره العاصفة...

عندما سمع طرقات عنيفة علي باب غرفته...

فانقبض قلبه أكثر وهو ينتفض من مكانه ليقوم ويفتح الباب...

طالعه وجه ياسين الصغير مصفراً وجسده يرتجف بخوف...

وما إن رآه حتي تشبث بساقه...

 ثم هتف بذعر طفولي:

_آسيا يا أبي!  


=========================================================================


كان قاسم النجدي راقداً علي فراشه في منزل العائلة الكبير بعد عودته من المشفي ...

لكنه كان عازفاً عن الكلام مع الجميع...

لقد أرجأ الحديث عن أي شئ حتي يعود حمزة...!!!


لأول مرة في حياته يشعر أنه عاجز هكذا...

قاسم النجدي الذي كانت -ولازالت-تهتز لكلمته القلوب قبل الأجساد...

يقف الآن حائراً لا يدري أين كان خطؤه بالضبط!!!!


هل أخطأ عندما أراد تأمين حياة حفيداته بتزويجهن من أبناء عمومتهن حتي يبقين تحت رعايته ببيته؟!!!

يشهد الله أنه لم يفعل هذا سوي لأجل الحفاظ عليهن في هذا الزمن !!!


لقد تقبل مرض جويرية بصبر...

لكنه عاقب عمار علي فعلته...

مع أنه يشعر أن في الأمر سراً ما....

فعمار لن يفعل هذا بفتاة يعشقها منذ صغره دون سبب...!!!!!


ووافق علي اختيار ساري لحذيفة ...

رغم أنه لا يثق كثيراً فيه مع سيرته السيئة في كل مكان...

لكنه احترم رغبتها وتمني لو استطاعت تغييره....!!!!


لكن ...آسيا!!!!!


تسارعت أنفاسه اللاهثة عندما عادت الأفكار تلح علي رأسه....

ما فعلته هذه الفتاة سيظل عاراً علي العائلة للأبد!!!!


لكن السؤال كيف وصلت لجسار القاصم....؟؟!!!!

أم أنه هو من وصل إليها...!!!!

وما الذي فعله بها...؟؟!!!

ولماذا تكتم علي هذا الأمر حتي الآن...؟؟!!!!

فيم يفكر...وماذا يدبر؟!!!!


عاد يسند رأسه لظهر سريره وهو يشعر فجأة بأنه حقاً قد هرِم !!!

وبأن الوهن قد بلغ منه مبلغه...

يا ويله من نفسه لو أضاع أمانات أولاده...

يا ويله!!!!


قطعت أفكاره عندما سمع صوت جرس الباب...

لا يدري لماذا دق قلبه بقوة وكأنه استشعر هوية الطارق...

لهذا لم يتعجب عندما وصله صوت فريدة من الخارج تهتف بلهفة:

_حمزة...حمداً لله علي سلامتك!


==================================================================

أنهت فريدة صلاتها ثم افترشت الأرض ترفع يديها بالدعاء كعادتها....

ثم تنهدت في حرارة وهي تضع كفها علي صدرها لعلها تهدئ خفقات قلبها الهادرة....

منذ علمت عن أمر آسيا وهي تشعر بالترقب...

لكنها -للعجب-ليست خائفة...

قلبها العامر بإيمانه والذي أنبأها بأن ابنتها لم تمت وأنها لازالت علي قيد الحياة لازال يبعث إليها بإشارات خفية أن تطمئن...

رغم ما يعلمونه جميعاً عن كارثة الثأر مع جسار القاصم...

لكنها تشعر أن في الأمر سراً...

لماذا اختفي جسار هذا مع عمه طيلة هذه السنوات...؟!!!

قصة إغوائه لآسيا كما يزعمون لا تقنعها!!!


تنهدت في حرارة عندما ورد كساب علي ذهنها...

كساب القاصم ...!!!

حكايتها القديمة التي ظنت أن الزمن قد واراها التراب...

تعود الآن لتنتعش بتملك بين ضلوعها....

حكاية بدأت وردية معطرة بأحلام الحب العذراء...

وانتهت سوداء ملطخة بحمرة الدم !!!!

وليس أي دم...

إنه دم سعد النجدي !!!

زوجها ووالد بناتها!!!!


وليت الأمر يقتصر الآن علي جسار وكساب فحسب...

بل علي النجدي الكبير وأحفاده الذين تعلم جيداً ما سيدور بذهنهم...

آسيا الآن كما يراها الجميع عارٌ علي العائلة...

عارٌ لا يمحوه إلا الدم!!!

ورغم أن هذا الهاجس يذبح روحها ببطء...

لكن عودة حمزة تبعث قليلاً علي الاطمئنان...

حمزة -كما تعرفه-هادئ الطباع شديد التعقل...

كما أنه هو الوحيد القادر علي تغيير كلمة  قاسم النجدي لو أراد...

نعم...حمزة النجدي هو نقطة ضعف جده الذي يشعر نحوه بالذنب منذ سافر وحده طيلة هذه السنوات بعيداً عن حضن العائلة!!!

ولعلّ عودته الآن تقلب كل الموازين...

أو بالأصح ...تضبطها!!!


هزت رأسها ودموعها تسيل علي وجنتيها من جديد...

ثم رفعت بصرها للسماء بدعائها الخاشع كعادتها:

_الصبر يارب!!!

===================================================================


جلس حمزة علي الأريكة في شقة جده ينظر للسقف في شرود...

لا يصدق أنه وصل مصر بهذه السرعة....

فبمجرد ما هاتفه ياسين وأخبره بأن جده مريض ويأمره بالعودة...

وقد سارت معه الأحداث بسرعة غريبة....!!!!


لقد ساعده دكتور آدم في الحصول علي تذكرة سفر بسرعة قياسية....

بعدما أخبره حمزة بمرض جده واضطراره للنزول....

ثم طلب منه بشئ من التردد عنوان عم مارية حتي يمكنه أن يطمئنه عليها....!!!!!


ابتسم في حنين وهو يذكر تلك البريئة الطفولية التي افتقدها بكل جوارحه...

عروس لندن الساحرة...

التي منحته قلبها لكنه خذلها!!

والتي تعانده وتأبي الرد علي رسائله علي بريدها الاليكتروني..

رغم أنه موقن من أنها تتلقاها...!!!


اتسعت ابتسامته وهو يستعيد ذكرياته القصيرة معها...

من كان يتصور أن القدر سيكتب لهما اللقاء أخيراً....

هنا في مصر!!!!


قطعت أفكاره عندما دخل عليه ياسين ليسأله بقلق:

_ماذا قال لك جدي؟!


تنهد حمزة بحرارة وهو يعود لهذه المشكلة التي تنتظره...

والتي لا يبالغ لو قال أنها مأساة...!!!!

وربما نتجت عنها حرب صغيرة بين عائلتين من أكبر عائلات الصعيد...

لو لم تتدارك الأمور بحكمة....!!!


عاد ياسين يسأله بتوتر:

_حمزة...لا تُخفِ عني شيئاً....ماذا قال لك جدي؟!


تفرس حمزة في ملامحه قليلاً....

ثم سأله ببطء:

_لا تُخفِ أنت عني شيئاً وأخبرني....لماذا هربت آسيا من البيت من الأساس؟!


أطرق ياسين برأسه وهويفكر....

هذا ما كان يخشاه منذ عودة حمزة....

آسيا -كما يعرف الجميع_كانت ستكون عروس حمزة المنتظرة....

لولا كل هذه التشابكات....

وحمزة قد لا يسامحه لو علم بما كان بينهما من حب قديم...

والذي دفع آسيا للهرب يأساً عندما تزوج من رقية الهاشمي...

لكنه لن يكذبه...

سيخبره الحقيقة علي أي حال....!!!!


لهذا اندفع ياسين يروي له تفاصيل الأمر باقتضاب...

اتسعت عينا حمزة وهو،يقول بدهشة:

_اذن آسيا هربت لأنها لا تريد الزواج مني؟!


أطرق ياسين برأسه....

عندما أردف حمزة بضيق:

_ولماذا لم تخبرني بهذا؟! كنت سأجد طريقة لإقناع جدي بعدم إتمام هذا الزواج!


رفع ياسين رأسه ليقول له بحزن:

_يبدو أن ابتعادك عن هنا طيلة هذه السنوات أنساك من يكون قاسم النجدي ....كلنا نتعامل مع كلمة جدي علي أنها أمر واجب النفاذ....وآسيا كانت تعتبر زواجها منك من المسلمات...


تفرس حمزة في ملامحه وهو يقول بحذر:

_ويبدو أن زواجك زاد من يأسها ورغبتها في ترك هذا الجحيم كله.


هز ياسين رأسه وهو،يقول له بما يشبه الاعتذار:

_لم يكن بيدي ولا بيدها...لقد نشأنا علي هذه المشاعر بيننا وكبرنا بها...حتي تملكت منا...وأنت لم تكن موجوداً بيننا....كنت...


قاطعه حمزة ليقول بتفهم:

_كنت في حكم الميت.


انتقل ياسين ليجلس جواره مربتاً علي ركبته ليقول بحنان:

_أنت احتملت الكثير يا حمزة...وحرمت من عائلتك ووطنك...

ابتسم له حمزة وهو يضمه إليه بحنان أخوي ليقول:

_وها قد عدت إليكم ...ولن يفرقنا شئ بعد الآن.


ابتسم له ياسين بمودة حقيقية للحظات...

لكن القلق عاد يكسو وجهه وهو يقول:

_لكن...ماذا سنفعل بشأن آسيا؟!


تنهد حمزة قائلاً:

_جدي منحني تفويضاً شاملاً بالتصرف في الأمر،كما أشاء...آسيا كانت في حكم خطيبتي...ولو ثبت أن جسار القصام قد أساء لها...فهو تعدٍ علي عرضي أنا....وأنا الذي سيقرر ماذا سيحدث.


ثم اقترب منه ليقول بحزم حنون:

_اصدقني القول يا ياسين...لو أعدتُ آسيا إلي هنا -وسأفعل إن شاء الله- فهل لا تزال ترغب بها زوجة لك؟!


كاد ياسين يرد عليه عندما اندفع عمار الذي سمع عبارته مصادفة ليهتف بسخط:

_من هذه التي ستعود إلي هنا؟! أنا سأقتلها بيدي مع ذاك ال (......)بمجرد أن أراها.


زفر ياسين بقوة...

بينما وقف حمزة ليقول له بضيق:

_اهدأ يا عمار ....الأمور لا تحل هكذا.


هتف عمار بغضب:

_يبدو أن معيشتك في بلاد الأجانب قد أثرت علي دمائك الصعيدية....هذه الفاجرة تستحق القتل...بل الحرق حية...لقد أضاعت شرف العائلة كلها وأنا لن أتردد لحظة في زهق روحها بيدي جزاء لها علي فعلتها!!!


_عمار!!!

هتفت بها جويرية بجزع وهي تخرج من إحدي الغرف بعدما استمعت لعبارته...

فالتفت نحوها ليقول بغلظة:

_ما الذي أتي بكِ إلي هنا؟! عودي لشقتك.


هتفت بحدة:

_لا...لن أعود...ولن أسمح لك بالتحدث عن شقيقتي هكذا...

اقترب منها ليهتف بحدة:

_تدافعين عن تلك الفاسقة!!


اشتعلت عيناها بالغضب لتهتف بتحدٍ:

_نعم...أدافع عنها لأنني يوماً ما كنت....


وضع كفه علي شفتيها ليمنعها من إتمام عبارتها التي قرأها في عينيها قبل أن تتفوه بها.....

ثم كز علي أسنانه هامساً بنظراته المخيفة:

_اخرسي!


تبادل ياسين وحمزة نظرات الدهشة والتساؤل...

لكنه لم يلتفت إليهما ...

بل سحبها من ذراعها وصعد بها إلي شقتهما...

ثم أغلق الباب خلفه ليلتفت نحوها قائلاً بغضب هادر:

_هل جُننتِ؟! ما الذي كنتِ علي وشك البوح به؟!!!

هتفت بحدة:

_الحقيقة! لماذا تعاقب آسيا بذنب سامحتني أنت عليه؟!!!


أمسك كتفيها يهزها بعنف وهو يهتف:

_اخفضي صوتك...أولاً أنتِ لستِ مثلها...أنا أنقذت الوضع في اللحظة الأخيرة...

فتحت فمها لترد عليه ...

لكنه قاطعها هاتفاً بحدة:

_وثانياً...من أخبركِ أنني سامحتك.؟!!..أنا لم ولن أسامحك علي فعلتك هذه طوال عمري...


دمعت عيناها وهي تقول بقهر:

_أنت كاذب...أنت سامحتني...أنت تحبني وستبقي كذلك.

دفعها بقوة ثم استدار ليعطيها ظهره قائلاً بخشونة:

_عمار الخشن الغليظ لا يعرف الحب...ألم يكن هذا كلامك؟!


سارت لتقف قبالته هامسة بين دموعها:

_كنت أظن ذلك...قبل أن أسمع مناجاتك لي كل ليلة...لأدرك أي قلب كبير تمتلكه.


عقد حاجبيه بشدة وهو يهتف بحنق:

_كنتِ تخدعينني وتتظاهرين بالنوم حتي تستدرجينني؟!!!


أغمضت عينيها بألم وهي تهمس :

_كانت هي الطريقة الوحيدة لأعرف ما بداخل قلبك....أنت لم تدع لي طريقة أخري!

ضم قبضته بغضب وهو يشيح بوجهه هاتفاً:

_كل يوم أكتشف كم كنت مخدوعاً في براءتك!


اقتربت منه أكثر...

لتهمس بخفوت:

_لكنني أنا كل يوم أكتشف كم كنت محظوظة بك!


بذل مجهوداً خرافياً ليتحاشي النظر لعينيها في هذه اللحظة...

لا يريد أن يضعف أمامها أكثر...

هو يعرف جيداً مدي سلطانها عليه...

نظرة واحدة قد تعيده لسجن عشقها الذي يود التحرر منه...

لأنه نقطة ضعفه الوحيدة!!!!


وكأنها شعرت بما يفكر فيه...

فاقتربت منه أكثر لتضع كفها علي صدره هامسة برجاء:

_عمار!


لم يستطع منع عينيه الآن من احتضان عينيها...

ليقرأ فيهما مشاعر لا يريد تصديقها...

لن يستطيع الثقة بها ...

هو سيبتعد علي كل حال...

لقد طلقها وانتهي أمرهما....

ووجوده هنا الآن ليس له سبب سوي مرض جده وعودة حمزة ...

وتلك الظروف العصيبة التي تمر بها العائلة...


لكنه ينتوي الرحيل من هنا للأبد عندما ينتهي كل هذا...

سيعيش في شقة منفصلة كان قد اشتراها منذ زمن...

بعيداً عن هذا الحب الذي دمره تدميراً!!!


بينما ظلت هي تنظر لعينيه في رجاء...

وكأنما تتمني أن يفهمها دون أن تتكلم....

لن تستطيع التصريح بمشاعرها نحوه...

لن تستطيع!!!


ضغطت علي شفتيها ولازالت تضع كفها علي صدره لتهمس أمام عينيه:

_عمار...تكلم أرجوك...قل أنك لن تتركني... أنا جوري حبيبتك التي أقسمت بمن رزقك حبها أنك لن تنساها أبداً...هل نسيت؟!


خفق قلبه بقوة تحت كفها الذي ضغط علي صدره برفق...

فأغمض عينيه كي يهرب من عينيها اللتين كانتا تطوقانه ...

لكن همسها وصل لأذنيه حاراً ليزيد غرقه في بحر عشقها الهائج:

_عمار...أنا أحتاجك...لا تتركني.


قالتها وهي تكاد تبكي من فرط تأثرها ببروده هذا الذي لم تعتده منذ فترة طويلة...

أين عمار الذي كان يذيبها في بحور عاطفته...

أين حنانه وتفهمه ورقته...

أين حبه؟!!!!


ظل علي وقفته الجامدة التي يداري بها بركان مشاعره....

فأمسكت بذراعيه تهزه وهي تبكي هاتفة بعجز:

_لم تعد تحبني يا عمار؟! كل مشاعرك التي أغرقتني بها بعد زواجنا كانت مجرد شفقة وإحساس بالذنب؟!


فتح عينيه أخيراً وقد صدمه ما قالته ....

فهتف بحنق:

_ماذا قلتِ؟! شفقة وذنب؟!!!!! شفقة وذنب يا جوري؟!!!!


ازداد نحيبها وهي ترمقه بنظرات لائمة....

فسحبها ليضمها لصدره بقوة حتي خشي أن يكسر عظامها...

عن أي شفقة وإحساس بالذنب تتحدث هذه الحمقاء؟!!!!!

ألم تعرف -بعد-كم أعشقها؟!!!!!!


أجهشت بالبكاء وهي تدفن وجهها في صدره للحظات طويلة...

ثم رفعت وجهها إليه لتهمس :

_أنا وقفت أمام قاسم النجدي مرة لأطلب منه ألا أتزوجك...ومستعدة أن أقف في وجهه من جديد لكي أعود إليك...


هز رأسه بعجز...

هو لن يتركها بسبب كلمة قاسم النجدي فقط...

ليت الأمر اقتصر علي هذا...

لكن الحب الذي يحمله نحوها قد تعكر...

لم يعد صافياً كما كان...

رواسب كثيرة من فعلتها الشائنة التي أنقذها منها...

وخوفه من أن يكون قلبها معلقاً بغيره...

لكن رجولته تمنعه من سؤالها عن تفاصيل الأمر...

ستذبحه حقاً لو نطقتها...

لو أخبرته أن قلب جوريته دق لسواه!!!


كما أنه لم يعد يثق في قدرته علي إسعادها...

وذكري ليلة زفافهما الكارثية تؤرقه...

لقد ذبحها ...

وذبحته...

وما من حب يصمد في وجه ظروف كهذه!!!!

أساءت فهم صمته فهمست بخوف:

_أنت ستستمع لكلمته هذه المرة أيضاً...؟؟!!!! أنت ستتركني؟!


رفع رأسه لأعلي وكأنه يهرب منها ليهمس بألم:

_اسكتي يا جوري...اسكتي.


حررت نفسها من بين ذراعيه...

ثم مسحت دموعها بكفيها لتهمس بثبات مصطنع:

_حسناً يا عمار...سأسكت...لقد فهمت رسالتك...وآسفة علي إزعاجك.


قالتها وهي تتوجه نحو باب الشقة...

تتابعها نظراته الممتلئة بحسرته...

حتي فتحته ثم التفتت إليه لتهمس دون أن تنظر إليه:

_إذا كنت تخليتَ عني...فهل ستتخلي عن طفلنا أيضاً؟!


اتسعت عيناه في صدمة...

ثم قطع المسافة بينهما بخطوة واحدة وهو يهتف بذهول:

_طفلنا؟!!!


ازدردت ريقها ببطء...

ثم أطرقت برأسها لتهمس بحزن:

_لو كنت لا تريده فأنا يمكنني...


قاطعها وهو يغلق الباب بعنف ليلصق ظهرها به وهو يمطر وجهها بقبلاته الحارة...

طوقها بذراعيه وهو يعيدها لوطنها الأصلي علي صدره...

ثم نظر لعينيها أخيراً ليهمس بصوت متقطع وكأنه لا يصدق:

_ستكونين أم طفلي...كما حلمت ....طوال عمري.؟؟؟!!!!!!


أغمضت عينيها لتسيل دموعها علي خديها فقبل عينيها هامساً بحنان غريب علي طبعه الخشن:

_لقد رددتك يا جوري...لن أتركك أبداً.


فتحت عينيها لتهمس بعتاب:

_رددتني لأجل الطفل فقط يا عمار؟!!! جوري لم تعد لديك سوي أم طفلك فحسب؟!!!!


عاد يضمها إليه بعنف وهو يتأوه بقوة ثم همس في أذنها:

_جوري تعرف جيداً قيمتها عندي....


مرغت وجهها في صدره وهي تكاد ترجوه أن يقول أكثر....

أن يداعب أذنيها بهمسه العاشق الذي اشتاقته...

وهو موقن من انها تسمعه هذه المرة...

وليس وهو يظنها نائمة كالسابق...


لكنها تعرف أن عمار لن يبوح بها بسهولة...

طبعه الخشن سيغلبه ككل مرة...

لهذا كانت صدمتها بالغة عندما أردف بصوت متهدج:

_جوري تعرف أنها دنياي كلها!!


ابتسمت ابتسامة شاحبة...

فرفع وجهها إليه وهو يهمس:

_أنا لم أرد زوجتي لعصمتي ...أنا رددت روحي لجسدي!


خفق قلبها بقوة لعبارته التي تعلم جيداً أنه يقصدها بكل حروفها....

فاتسعت ابتسامتها وهي تتطاول علي أطراف أصابعها لتقبل وجنته هامسة:

_ورددت لي روحي أنا أيضاً...سامحني يا عمار.


ربت علي رأسها برفق...

فسألته بقلق:

_ماذا سنفعل مع جدي؟!


تنهد قائلاً:

_يبدو أنني سأضطر للوقوف في وجه قاسم النجدي ...سأسترد زوجتي رغماً عن أي أحد...


رغم سعادتها بما قاله لكنها همست برجاء:

_جدي مريض...وصدمة آسيا كانت شديدة جداً عليه...دعنا نؤجل الحديث في هذا الأمر لفترة...لو علم جدي عن حملي فلن يمانع في عودتي إليك...لكن ليس الآن...لن نخبر أحداً عن حملي هذا...سيكون سرنا حتي تهدأ الأمور...


أومأ برأسه موافقاً ثم ضم رأسها لصدره هامساً بحنان:

_لكنك زوجتي أمام الله...لن أفرط بعد فيكِ يا جوريتي.


رفعت رأسها إليه لتهمس بتردد:

_وآسيا يا عمار؟!


قست ملامح وجهه الذي أشاح به بعيداً...

فأعادته مقابلاً لعينيها وهي تهمس برجاء:

_أرجوك يا عمار...لن أستطيع العيش معك لو صار دم آسيا بيننا!!


زفر بسخط وقد عادت إليه طبيعته النارية ليهتف بانفعال:

_ماذا تريدينني أن أفعل بهذه ال...؟!!!!


قطع عبارته عندما لمح النظرة اللائمة في عينيها...

فتنهد بحرارة...

عندما ربتت علي صدره لتهمس بتوسل:

_إنها آسيا يا عمار....اسمع منها أولاً واعرف ماذا حدث...أنا أثق أن آسيا ليست كما تقولون....لن تخطئ هذا الخطأ أبداً.


صمت للحظات يفكر...

ثم أومأ برأسه إيجاباً فضمته إليها بكل قوتها وهي تهمس بامتنان:

_كنت واثقة أن قلب عمار الطيب لن يخذلني أبداً!!!!


هز رأسه وهو يلوح بسبابته هامساً بخشونة:

_سأسمع منها...لكن لو ثبت لي أنها فرطت في شرفها وشرف العائلة فأنتِ تعلمين أنه لا تهاون في هذا الأمر.


ازدردت ريقها ببطء....

وقد عاد إليها خوفها...

تري ما الذي دفعكِ للبقاء مع ذاك الرجل يا آسيا....؟!!!!

كيف وقعتِ في طريقه؟!!!

تري ماذا حدث لك ؟!!!!

بل الأهم....

ماذا سيحدث؟!!!!!!

=====================================================================


وقف يراقبها وهي تسقي الزهور في حديقة منزل والدها...

ابتسم في حنان وهو يفكر...

كم تبدو متألقة نضرة كتلك الزهور التي ترويها ...

بل إنه لا يبالغ لو قال أنها بعينيه أعذب وأحلي!!!


اقترب منها بخفة ثم رفعها من ظهرها بأحد ذراعيه ليلتقط رشاش الماء بذراعه الآخر هامساً بحنان لا يخلو من مرح:

_ألا تسقين قلبي قبل زهورك يا غاليتي؟!


شهقت للمفاجأة ثم ضحكت وهي تلتفت إليه لتهمس بخجل:

_أنزلني يا ياسين قد يرانا أحد!


قبل وجنتها ثم أنزلها برفق وهو يلقي رشاش الماء بعيداً...

ليطوقها بذراعيه هامساً  بعاطفته التي تحررت الآن من كل قيودها:

_افتقدتك يا غاليتي..


اتسعت ابتسامتها الخجلي وهي تهمس:

_وأنا أكثر.


ثم جذبته من كفه وهي تسير بسرعة لتقول بمرح:

_تعال سأريك شيئاً جميلاً.


توقف وأوقفها معه ليقول بحنان:

_كل جميلٍ يُظلَم جواركِ يا رقية...فالعين التي تراكِ لن تتسع لغيرك.


دق قلبها لعبارته فتنهدت في هيام وهي ترمقه بنظرات عاشقة....

ثم ابتسمت بعد لحظات وهي تهمس:

_سأريك شيئاً يخصك...بل يخصنا معاً.


عاد يسير جوارها حتي وصلا لحوض زهور مميزة لم يرَ يوماً مثلها....

فسألها باهتمام:

_ما هذه الزهور الغريبة؟! لم أرَ مثلها من قبل.


أمسكت كفه وهي تنظر لعينيه هامسة:

_اسمها "قلب ياسين".


ارتفع حاجباه بدهشة وهو يقول:

_هل هناك زهور بهذا الاسم؟!

ابتسمت وهي تقول بشرود:

_أبي أحضر لي بذورها خصيصاً عندما عاد من أحد أسفاره من إحدي البلاد الأجنبية...أخبرني يومها أنها زهور مميزة ولا يوجد مثلها هنا في مصر...لكنه أراني صورتها وهي متفتحة علي هاتفه ...شعرت أنها تشبه شكل " القلب"...فاقترح أبي أن نسميها "قلب رقية"!!


ثم التفتت إليه من شرودها لتهمس بحب:

_لكن ذلك اليوم -بالمصادفة-كان نفس اليوم الذي رأيتك فيه لأول مرة...لهذا وجدت نفسي يومها...وبعد أن رأيتك ذاك اليوم....أعود هنا لهذا المكان وأنا أفكر أنني سأغير اسمها لتكون "قلب ياسين"!


اقترب منها أكثر ليحتضن وجهها بكفيه هامساً:

_هذا يعني أنك أحببتني منذ أول لقاء لنا؟!!


دمعت عيناها وهي تهمس أمام عينيه بصدق مس قلبه:

_قلب رقية الهاشمي لم يكن ليخطئ التعرف علي مالكه الأبدي من أول لحظة!!!


أغمض عينيه في تأثر ثم ضمها إليه بقوة وهو يهمس بحب:

_ماذا أفعل فيكِ؟!!! وأنتِ بكل هذه الروعة!!!!


رفعت رأسها إليه لتهمس:

_عدني أن تحبني للأبد...

قبل جبينها هامساً:

_لم يعد للقلب حياة دونك يا غاليتي.


ابتسمت في سعادة ...

ثم تذكرت شيئاً ما فسألته بقلق:

_ماذا قرر جدك بخصوص آسيا؟! ماذا ستفعلون معها؟!

تنهد قائلاً:

_جدي فوض حمزة في التصرف في الأمر كاملاً...أعتقد أن حمزة يتسم بالحكمة وهذا أفضل لحل الأمر دون تهور قد يؤدي لبحور من الدم....لكن عمار وحذيفة يميلان للعنف...ولا أدري كيف سينتهي بنا الأمر...


غمغمت رقية في إشفاق:

_والعمة فريدة؟! كيف هي ردة فعلها علي كل هذا؟!!!


هز ياسين رأسه قائلاً:

_حالها محير جداً...هي صامتة دوماً ولا تتحدث عن الأمر...وكلما فاتحها أحد في الموضوع تقول بثقة "ابنتي ستعود"!!!


همست رقية بإعجاب:

_يعجبني صبر هذه المرأة.

ابتسم ياسين وهو يقبل وجنتها هامساً:

_ألم أقل لكِ أنها تذكرني بكِ؟!


ابتسمت وهي تحيطه بنظراتها العاشقة...

فانحني ليقطف لها زهرة من الزهور المميزة...

فرد كفها ليضع فيه زهرته ثم أطبقه عليها ليقترب بوجهه من وجهها هامساً:

_هكذا يكون دوماً "قلب ياسين"بيد رقية!

===================================================================

وقفت علي باب غرفته مترددة...

ثم طرقتها حتي سمعت إذنه بالدخول...

فتحت الباب لتدخل فظهرت المفاجأة علي وجهه للحظة...

قبل أن يتجه نحوها ليضمها بلهفة هامساً:

_حبيبتي!


استسلمت للأمان الذي يدعوها بين ذراعيه ...

لعله يخفف من قلقها وتوترها...

لكنه شعر بتشنج جسدها فربت علي رأسها وهو يتنهد هامساً:

_اهدئي يا حبيبتي!


رفعت رأسها إليه وهي تهمس بتردد:

_هل ستفعلونها حقاً يا حذيفة؟!

مط شفتيه في استياء وهو يشيح بوجهه....

فأردفت بذعر :

_هل ستقتلونها؟!


زفر بقوة وهو يبتعد عنها ليقول بضيق:

_ماذا تنتظرين منا أن نفعل بها؟!!!لقد مرغت شرفنا في الوحل!


هتفت بقوة:

_هل عرفت ماذا حدث لتحكم عليها بهذا الحكم القاسي؟!!! هل تأكدت أنها فرطت حقاً في شرفها؟!!!

التفت نحوها ليهتف بانفعال:

_ما الذي كانت تفعله وحدها في بيت هذا الرجل طيلة هذه الشهور؟!!!!لا تثيري جنوني يا ساري...أنا أكاد أحترق وأنا أتصور أن ذلك الوغد قد صبر طوال هذا الوقت ليحقق انتقامه بهذه الخسة والدناءة.


هزت رأسها في عدم تصديق وهي تهمس :

_إنها آسيا يا حذيفة....آسيا التي تربت معك منذ صغرها...كيف تصدق فيها هذا؟!!!


أشاح بوجهه وهو يقول بضيق:

_عندما يغلق باب واحد علي رجل وامرأة فلا صوت يعلو فوق رغبة الجسد.


اتسعت عيناها في ارتياع وهي تسمعه يتحدث عن شقيقتها بهذه الطريقة...

فهتفت بحدة وهي تلوح بسبابتها في وجهه:

_أنت تقول هذا لأنك تظن الناس كلها مثلك...أنا أعرف شقيقتي وأثق أنها لن تسمح للخطيئة بتلويثها....


كز علي أسنانه وهو يقول بغضب مكتوم:

_هل ستعودين لهذا الحديث ثانية؟!!


أعماها غضبها وحميتها علي شقيقتها فعادت تهتف بصوت أكثر حدة:

_من أنت لتحاسبها علي أفعالها؟!!! وهل حاسبك أحد علي أفعالك؟!!! ألم تفكر أنه حتي لو كان هذا الرجل أغواها...فإنه ذنبك الذي رُد إليك في أهل بيتك؟!!!


ضم قبضته بقوة وهو يشعر بغضب حارق....

لكنها لم تكن أقل منه غضباً وهي تردف بنفس الحدة:

_ذق عذاب الاعتداء علي الشرف....هذه بضاعتك رُدّت إليك!


كانت عيناه في هذه اللحظة كجمرتين مشتعلتين ....

لكنه اقترب منها وهو يمسك ساعديها بقوة حتي تأوهت ...ثم قال ببرود يخفي براكين صدره:

_لن أسمح لكِ بالتحدث معي بهذا الأسلوب ثانية....هذا هو تحذيري الثاني والأخير!


شعرت بقشعريرة في جسدها ...

وهي تشعر بأن غضبه تجاوز الحد هذه المرة...

جسده كله يرتج انفعالاً وكأنه يبذل مجهوداً خارقاً للسيطرة علي انفعاله...

وعيناه عادتا لقسوتهما القديمة...

وكأنهما ما امتلأتا بحبها يوماً!!!


أغمضت عينيها في ألم...

ثم حررت ساعديها من ذراعيه...

 لتغادر غرفته بخطوات منهزمة...


تابع انصرافها بوجه بارد يكتم غضباً يعصف بكيانه كله...

ساري لن تتغير...

ستبقي دوماً تذكره بتاريخه الأسود وذنوبه التي يشهد الله أنه يجاهد نفسه للتوبة عنها....

سيبقي بعينيها آثماً مخطئاً يستحق العقاب!!!


توجه نحو شرفة غرفته....

لعل الهواء البارد يخفف عنه بعضاً من لهيب صدره...

لكنه لمحها تخرج مندفعة من باب المنزل وهي تمسح دموعها المنهمرة كالسيل!!!


نظر لساعته بحنق...

أين ستذهب هذه الحمقاء في هذه الساعة من الليل؟!!!


تناول هاتفه وميدالية مفاتيحه ليغادر المنزل لاحقاً بها...

لكنها كانت قد انطلقت بسيارتها...

ركب سيارته بسرعة وانطلق خلفها...


كانت تنطلق بسرعة رهيبة وكأنها تهرب...

بل إنها فعلاً كانت كذلك...

كل هذه الأحداث كانت تضغط علي أعصابها...

لا تريد أن تصدق أن حذيفة قد يقتل آسيا...

كيف يمكنها أن تبقي في حياته لو فعلها؟!!!


لكن من سيسمح لها بالاعتراض؟!!!

حتي لو دهست قلبها تحت قدميها وتجاهلت حبه...

سيدفعون بها إليه في النهاية...

فهي ليست في عرفهم سوي جارية...

لا تملك حق تحديد المصير!!!


قطعت أفكارها عندما وجدته يقطع الطريق عليها بسيارته...

فتوقفت مرغمة وهي تنتبه فجأة للطريق المقفر الذي  تسير فيه...


زفرت بقوة وهي تسند رأسها علي مقود السيارة ...

وكأنها تستجمع قوتها أمامه للحظات...

عندما شعرت به يفتح الباب جوارها ....

ثم جذبها من ذراعها بقوة وهو يهتف:

_انزلي!


ترجلت من السيارة فسحبها من ذراعها خلفه حتي فتح باب سيارته ليدفعها بداخلها...

ثم دار ليجلس مكانه وهو يصفق الباب بعنف هاتفاً بجنون:

_ألن تكفي عن أفعالك الطائشة هذه؟!!!! كيف تخرجين وحدك في هذه الساعة من الليل؟!! 


ارتعش جسدها بقوة ...

لا تدري برداً أم انفعالاً....

أغمضت عينيها وهي تشعر بطنين في أذنها....

لا تريد أن تسمعه ولا أن تراه...!!!!

رغم أن كل جوارحها تحتاج إليه الآن...!!!!!

ولولا كبرياؤها...لطلبت منه أن يضمها بقوة ...

حضنه الآن وحده هو ما تحتاجه...

وما تخشاه!!!!

لا فائدة!!!

حذيفة سيبقي وجع قلبها الأزلي...

ولعنة روحها العالقة في مشاعرها المتناقضة معه!!!


بينما كان هو يراقبها بغضب يمتزج بالقلق...

ارتعاشة جسدها والألم الواضح علي ملامحها...

مع هذا الصمت الذي لا يقلقه مثله...

فهو يعرف أن صمتها في هذه الحالة أقوي كثيراً من الصراخ!!!


خبط بقبضته علي مقود السيارة وهو يشعر بالعجز....

ثم ظل يخبط بها عدة مرات لعله يفرغ شحنة غضبه....

لكنها كانت غائبة عنه في عذابها -اللا منقطع- به....


التفت نحوها أخيراً ليجد نفسه دون وعي يجذبها لصدره...

ضمها بقوة وكأنه يحاول تخليص رأسها من كل هذه الهواجس التي تملؤها نحوه...

وكأنه يخبرها دون كلمات أنهما صارا كياناً واحداً...

ثم شدد بقوة من ضمته العنيفة قاصداً حتي تأوهت بضعف فهمس في أذنها بعتاب:

_هذا لتعلمي أن الحضن وطن...لكنه قد يؤلم لو ضغط علينا أكثر!!


رفعت عينيها إليه وهي تفهم مغزي عبارته لتهمس بألم:

_كلما ظننت أن الحواجز بيننا قد زالت...يرتفع بيننا واحد جديد!!


ألصق جبينه بجبينها وهو يهمس :

_لا تعنيني كل هذه الحواجز فأنا قادر عليها جميعاً...لكن تبقين أنتِ أكبر الحواجز التي لن أقوي علي تخطيها...لن أستطيع تحمل لومك وإهاناتك في كل مرة نختلف فيها...

ثم ابتعد برأسه ليهمس بعينين مشتعلتين:

_حذيفة النجدي لن يقبل أن تعامله امرأته بهذه الطريقة.


أغمضت عينيها للحظة...

ثم عادت تفتحهما وهي تهمس بين دموعها:

_أنا آسفة.


اختفي الغضب من عينيه فجأة ...

وكأنها أطفأت ببرد كلمتها نيران غضبه بلحظة...!!!!

لتفيض عيناه حناناً وهو يمسح دموعها بشفتيه....

ثم أعاد رأسها لصدره وهو يضمها لكن برفق هذه المرة...!!


عندما سمعا صوتاً خارج السيارة يهتف بسخرية:

_يا له من عرض مثير!!

انتفضت ساري بعنف وهي تنظر للرجل الغريب الذي كان واقفاً خارج السيارة....

ومعه رجلان آخران يمسكان هراوات ثقيلة....

شهقت بخوف وهي تشعر بالذعر!!!!


فيما كان حذيفة يكز علي أسنانه وهو يتعرف علي هوية الرجل...

إنه الرجل الذي تشاجر معه من قبل ...

لأن حذيفة كان علي علاقة بشقيقته...

وتطور الشجار بينهما حتي ضربه الرجل بزجاجة مكسورة علي وجهه...


هتف حذيفة بحدة:

_ماذا تريد؟!


ابتسم الرجل ابتسامة صفراء وهو يقول بلهجة مقيتة:

_أريد رد معروفك يا "شهريار العصر".....لقد كنت أراقبك حتي تسنح لي الفرصة بالانتقام.

ثم فتح باب السيارة المجاور لساري وسحبها من ذراعها لينزلها قسراً من السيارة هاتفاً:

_المرأة بالمرأة....والبادي أظلم!

================================================================


الفصل التاسع عشر:


_المرأة بالمرأة والبادي أظلم!!


هتف بها الرجل وهو يسحب ساري من ذراعها خارج السيارة...

فدفع حذيفة بابه ليخرج ويتوجه نحوه هاتفاً بغضب مشتعل:

_لا تلمسها أيها الحقير....خذ ثأرك مني أنا!


ابتسم الرجل بسخرية مقيتة وهو يقول بتشفٍ واضح:

_ومن قال أنني لن أفعل؟!!!لكنني سأجعلك تدرك أولاً عذاب أن يعتدي أحد علي عرضك.


قالها ثم جذب ياقة قميص ساري بعنف ممزقاً إياه...

صرخت بفزع وهي تداري جسدها بذراعيها...

فاندفع حذيفة نحوه لكن الرجلين كبلا ذراعيه بقوة بينما تعلق بصره بغضب هادر بجسدها الذي كان يتلوي بعنف وهي تقاوم ذاك الحقير...

غلي الدم في عروقه وهو يشعر بأنه يحترق...

فانثني بجذعه فجأة في حركة سريعة ليضرب أحد الرجلين بكوعه في معدته....

تأوه الرجل بقوة  وهو يبتعد عن حذيفة لتتحرر إحدي قبضتيه فيلكم الآخر في أنفه...

ثم اندفع بسرعة نحو "تابلوه" السيارة ليستخرج مسدسه ويصوبه نحوهم بسرعة خاطفة....

عدة رصاصات كانت كافية ليسقطوا أرضاً...


فاندفع بسرعة نحو ساري التي كانت تنتفض بشدة وهي تراقبهم بملامح مصدومة ....

الهلع يبدو واضحاً علي وجهها الذي شحب تماماً وهي عاجزة عن التنفس...

ضمها إليه بقوة يداري جسدها الذي انكشف بعضه بين ذراعيه وهو يهتف بانفعال:

_أنتِ بخير؟!

كانت عاجزة عن الرد وكل خلاياها تئن ألماً وخوفاً...

فربت علي ظهرها برفق وهو يكاد يعتصرها بين ذراعيه هامساً  بندم:

_أنا آسف...آسف بحق!!

أبعدها عنه قليلاً ليخلع سترته ويضعها عليها...

دون أن ينتبه لأحد الرجال الذي استل مدية من جيبه ليقذفها بعنف نحوه ...

تأوه حذيفة بقوة والمدية تصيب كتفه...

لكنه أدارها هي ليخفيها خلف ظهره ثم صوب مسدسه ثانية نحو الرجل ليبادره بطلقة في كتفه...

صرخت ساري وهي تتلفت حولها بصدمة لا تصدق أن كل هذا حقيقي...

فجذبها حذيفة من ذراعها بسرعة نحو السيارة التي استقلت هي كرسي القيادة فيها...

لتبتعد بسرعة عن هذا المكان المشئوم...

التفتت نحو حذيفة الذي كان يضغط علي أسنانه بألم واضح...

فنظر إليها ليهمس بصعوبة:

_سامحيني يا ساري...سامحيني...


ظل يرددها وسط تأوهاته الخافتة فتمالكت نفسها بصعوبة وهي تحاول التماسك علي الأقل حتي تصل به لأقرب مشفي...

وبعد وصولهما ودخوله إلي غرفة الطوارئ...

وجدت القوة أخيراً لتتصل بفريدة وتخبرها بما حدث كي تطلب من أبناء عمومتها نجدة قريبة....

ثم انهارت جالسة علي كرسيها تضع رأسها بين كفيها وهي عاجزة عن تصديق كل ما حدث....

لقد كانت علي وشك الضياع هذه الليلة....

بسبب حذيفة!!!!


من يدريها أن ما حدث الليلة لن يتكرر...؟!!!!!

من يدريها أنه سيكون متواجداً كل مرة لينقذها...؟!!!!!

بل...من يدريها أنه قد تاب حقاً ولن يعود لعبثه من جديد؟!!!!

التمعت عيناها بتصميم وقرار واحد يملأ رأسها بقوة....

ثم رفعت رأسها نحو باب الغرفة الذي اختفي وراءه ليعود قلقها عليه يغلب عقلها وهي تهمس بتضرع:

_نجّه يارب....واحفظه لي....وليكن بعدها ما يكون....

=========================================================================

_لا أصدق أن جسار تزوج بهذه السرعة!!!

هتفت بها فوزية خالة سمية في ضيق واضح...

لقد علمت عن زواجه من آسيا منذ قليل ولازالت لا تصدق أنه فعلها بهذه السرعة....

أين ذهب إذن حبه لسمية الذي كان الجميع يشهد عليه؟!!!


لكن نغم ربتت علي كتفها وهي تقول بحزن:

_لا تتعجلي الحكم عليه يا أمي....سمية رحمها الله هي التي كانت تدبر لهذا الأمر بنفسها...لقد كانت تخشي عليه انهياره بعدها...وأنا رأيت بنفسي كم كان يحسن معاملتها رحمها الله...

هزت والدتها رأسها وهي تقول بشرود:

_رحمها الله كانت ملاكاً بحق...


أومأت نغم برأسها ثم عادت إلي غرفتها مغلقة بابها خلفها وهي تفكر بشرود...

هل تحطم تمثال الحب الذي كان في خيالها لسمية وجسار؟!!!

هل أخطأ جسار عندما بدأ حياته من جديد بعد وفاتها؟!!!

أم أنها سنة الحياة كما يقولون؟!!!


دمعت عيناها وهي تتذكر وصية سمية لها أن تعتني بجسار والصغير...

بعدما اختارت له آسيا بنفسها ليستكمل معها حياته...

عظيمة كانت سمية...

وأعظم منها كان هذا الحب الذي جمع بينها وبين جسار...

كم تتمني لو تكتب لها الأقدار حباً مثل هذا ...

لا ينتهي حتي آخر نفس من أنفاسها!!!!


ورغماً عنها تسللت صورة جسار لذهنها......

هل تراه أحب آسيا حقاً كي يقدم علي الزواج منها بهذه السرعة؟!!!

هل تراه نسي سمية كما تزعم أمها بهذه البساطة؟!!!

لا...هي لا تظن هذا أبداً...

الأمر يبدو وكأنه هناك لغز ما خلفه...

تري ....ما هو؟!!!

==================================

جذب جسار الصغير من كفه وهو يهرول إلي الغرفة التي تقيم فيها آسيا...

دخل الغرفة بسرعة ليهوله منظرها ...

جسدها كان يرتعش بقوة ووجهها كان شديد الاحمرار...

لكن جسدها كان بارداً كالثلج...

شفتاها لم تكفا عن الارتجاف وهي تهذي بنفس العبارة:

_سأموت يا أمي.


ظلت تردد هذه الجملة بلا انقطاع بصوتها المرتجف...

فسقط قلبه بين قدميه وهو يربت علي وجنتها بقوة هاتفاً:

_آسيا...أفيقي...


لكنها كانت غائبة عن الوعي تقريباً...

لا تفعل شيئاً سوي ترديد جملتها المشئومة...

صرخ الصغير بفزع:

_هل ستموت مثل أمي؟!


التفت إليه جسار بحدة ثم هتف بضيق:

_لا يا ياسين...إنها مريضة فقط.


قالها وهو يتناول هاتفه بسرعة...

لكن أنامله المرتجفة خانته ليسقط الهاتف من يده من فرط توتره...

عاد يتناوله ليتصل بالطبيب...

لكنه لم يرد بالطبع في هذا الوقت من ليل رمضان...


ألقي الهاتف في حركة عصبية وهو يزفر بقوة...

عندما دخل العم كساب ليفاجأ بمظهر آسيا المريع...

فهتف بجزع:

_ما الأمر يا جسار؟!


قام جسار من جوارها وهو يقول بخوف واضح:

_تبدو مريضة للغاية يا عمي...سأذهب لإحضار الطبيب لها.


قالها وهو يندفع نحو باب الغرفة ثم توقف مكانه وقد راوده هاجس مظلم...

ودعاؤها علي نفسها بالموت يعاوده ويكاد يصم أذنه...

ماذا لو تركها الآن ليعود فيجدها قد....؟!!!

أغمض عينيه بقوة يقاطع فكرته المشئومة....

لا لا...!!!!


ثم عاد لعمه قائلاً بضيق:

_لن أتمكن من القيادة ...أعصابي مشدودة .


نظر العم كساب لأنامله المرتجفة فقال بتفهم:

_سأذهب أنا بالسيارة لإحضار الطبيب...ابق أنت معها...


نظر جسار لياسين الصغير الذي كان يراقب آسيا بذعر...

ثم قال له بأقصي ما امتلكه من رفق:

_ياسين سيذهب مع العم كساب في رحلته بالسيارة.


نظر الصغير لآسيا ثم قال بحزن طفولي:

_أخشي أن أذهب فأعود ولا أجدها مثل أمي.


دمعت عينا جسار رغماً عنه وهو يستعيد لحظات وفاة سمية القاسية...

ثم امتلك زمام مشاعره بصعوبة ليقول له :

_ستكون بخير ...أعدك يا صغيري.


نظر لها الصغير بتردد لكن العم كساب توجه نحوه ليجذبه من كفه قائلاً بمرح مصطنع:

_هيا لنذهب بنزهة بالسيارة.


لم ينتبه جسار لرحيلهما وقد تعلقت عيناه بجسدها الذي لم يتوقف عن الانتفاض...

فاندفع ليحضر لها كمادات مثلجة...

جلس جوارها علي طرف الفراش...

ثم بدأ بوضع الكمادات علي جبينها برفق...

وهو يدعو الله بخوف أن تكون مجرد نزلة برد عادية...


لكن الوقت مر...

ولازال جسدها علي انتفاضته المحمومة...

وشفتاها تتمتمان بنفس الجملة التي كانت تقتله ببطء...


لم يدر كم مر من الوقت حتي جاء العم كساب مع الطبيب الذي تفحصها بسرعة...

شعر جسار بالضيق عندما كشف الطبيب عن بعض ملابسها ليتفحصها...

أشاح بوجهه وهو يشعر بحنق غير مبرر...

لم يشأ الاعتراف بأنها غيرة...

لكنها كانت كذلك!!!


أنهي الطبيب فحصه بسرعة ليقول له بقلق واضح:

_هل تتعامل المريضة مع أي نوع من الحيوانات هنا؟!


عقد بدر حاجبيه وهو يقول بتوتر:

_الخيل أحياناً...لكن الحيوانات هنا في المزرعة كلها تخضع للكشف الدوري بانتظام...ولم نتبين أي حالات إصابة غريبة في الحيوانات أو في البشر.

عدل الطبيب نظارته ليقول بحرج:

_أخشي أنها مصابة بفيروس (........)..إنه منتشر جدا هذه الأيام...هذه الأعراض تنطبق علي ما أعرفه عن هذا المرض...لهذا أوصي بنقلها للمشفي...فالمرض خطير وقد...

قاطعه جسار وهو يتذكر ما تتداوله وسائل الاعلام عن هذا الفيروس الخطير ليهتف بحدة:

_لن تغادر هذا البيت...انظر ما تحتاجه من امكانيات وسأحضره لها هنا...لو طلبت تحويل هذا المنزل لمركز طبي فسأفعل.


أجفل الطبيب من حدته فقال بتوتر:

_أنا مقدر لقلقك يا سيد بدر...لكن ...

قاطعه جسار قائلاً:

_لا يوجد لكن...زوجتي لن تغادر المزرعة.


هز الطبيب رأسه بتفهم ثم قال باستسلام:

_حسنا...لكن أولاً لا تدعها في غرفة واحدة مع الصغير لأجل العدوي...وسأخبرك بباقي التعليمات...


ازدرد جسار ريقه ببطء وهو،يقول:

_سأنقلها لغرفة أخري.


قالها وهو يفكر أنه سينقلها إلي غرفته مؤقتاً...

هذه الغرفة صغيرة ولن يتمكن من المبيت فيها معها...

وهو لن يقوي علي تركها لحظة واحدة بعد الآن...

لكن...

هل سيسمح أن تدخل غرفة سمية؟!!!

أن تنام علي فراشها؟!!!

هز رأسه بعنف وهو ينفض عنه هذه الفكرة...

لا وقت لهذا الترف من المشاعر...

حياتها الآن علي المحك...

وهو لن يسامح نفسه للحظة لو أصابها مكروه!!!


قطع الطبيب أفكاره وهو يقول :

_لو انخفضت حرارتها عند الصباح فربما لن نحتاج لنقلها للمشفي...لكنني سأحتاج لبعض التحاليل...


تناول منه جسار الورقة التي كتب فيها التحاليل والدواء...

ثم شكره مودعاً علي لقاء قريب في الصباح...

ذهب العم كساب ليوصل الطبيب ويحضر الدواء...


فيما وقف جسار يراقب ملامحها بخوف شديد...

لم يعرف أنها تحمل هذه المكانة في قلبه إلا الآن...

إنه يشعر بروحه تكاد تتمزق من أجلها..

توجه نحوها ليحملها برفق...

ثم سار بها حتي أرقدها علي فراشه...

دثرها بالغطاء وهو يتحسس وجنتها بأنامله في حنان يمتزج بالقلق..


ثم جلس جوارها علي طرف الفراش...

ظل يضع لها الكمادات الباردة حتي عاد عمه بالدواء فأعطاه لها...

ربت العم كساب علي كتفه وهو يلاحظ خوفه الواضح ليقول مطمئناً:

_لا تقلق يا جسار...ستكون بخير.

ثم أردف بخشوع:

_دعنا نصل الفجر وندعو الله لها...


أدي جسار صلاته ثم عاد إليها ليجلس جوارها علي طرف الفراش...

وهو يلاحظ هدوء جسدها أخيراً من انتفاضته...

لكن حرارتها ظلت علي عدم استقرارها....

و شفتاها كانتا ترتجفان ولازالت تهذي بنفس العبارة:

_سأموت يا أمي!


ربت علي وجنتها برفق وقد بدت له كطفلة بائسة تنادي أمها بخوف...

مد أنامله ببطء ليشبك أصابعه بأصابعها الباردة كالثلج...

ثم اقترب من وجهها ليهمس بحنان يغلفه خوفه الواضح:

_لا تخافي يا آسيا...سأكون دوماً معك...

ثم دمعت عيناه وهو يعاود همسه بتوتر:

_قاومي مرضك لأننا كلنا نحتاجك...ياسين يحتاجك...ووالدتك تحتاجك...


ثم اقترب من أذنها وهو يهمس بما كان دوماً يخشي الاعتراف به:

_وأنا .....أحتاجك !!!


قالها ثم ابتعد بوجهه ليعاود التطلع لملامحها الشاحبة...

هز رأسه في يأس وهو يراها لا تزال علي حالها ...

فمال علي وجهها ليلصق جبينه بجبينها هامساً بألم:

_لا تتركيني أنتِ الأخري يا آسيا...

=======================================================================


جلس حمزة علي حاسوبه متردداً أمام بريدها الاليكتروني...

هي لا ترد علي رسائله رغم أنه موقنٌ أنها تقرؤها...

ومع هذا يجد نفسه ضعيفاً أمام نداء قلبه في كل مرة...

قلبه الذي يلومه بحق علي تفريطه فيها....

خاصة بعدما تصالح مع عقله أخيراً بشأنها...

مارية الآن هي حلم قلبه الذي طالما تمناه ...

لكن يبدو أنه سيتعب كثيراً كي يصالح كبرياءها الذي خدشه دون قصد...

لكنه مستعد لأي ترضية...

فقط لو تمنحه فرصة جديدة...

وهو ما يشعر أنها ستفعله...

قلب مارية الطفولية البريئة لن يتلوث بحقد عليه بعدما امتلأ بحبه....!!!!


لهذا تغلب علي تردده...

وامتدت أنامله تكتب لها علي بريدها الاليكتروني:

_عزيزتي مارية...لو تعلمين كم افتقدتك...افتقدت مشاكساتنا معاً...اتساع عينيكِ انبهاراً بما أقول....ضحكة عينيكِ التي تفضح قلباً لم يعرف لؤماً ولا غدراً...روحكِ التي تشبه طفلة لا تزال تعدو حافية في حقول الورد...وكلامكِ الذي يعرف طريقه لقلبي دون استئذان...أعرف أنكِ غاضبة مني...لكنني واثقٌ أنكِ ستفهمينني لو شرحت لكِ...فهل تمنحينني فرصة...أم تكون هذه آخر رسائلي لكِ؟!!!

لو منحتِني فرصتي فسأخبركِ بمفاجأة قد تكون سارة بالنسبة إليكِ...ولو اخترتِ أن تكون هذه هي رسالتي الأخيرة فلن أزعجك ِ بعد سأبتعد متمنياً لكِ كل الخير...

ضغط زر الإرسال ثم جلس مترقباً وهو يشعر أنها ستجيبه هذه المرة....

لكنه عاد يشعر بالخيبة والدقائق تمضي ببطء دون أن يصله ردها....!!!!


وعلي سريرها كانت مارية تقرأ رسالته ودموعها علي خديها....

قلبها يتوسلها أن تجيبه....

أن تسمع منه...

أن تعرف مفاجأته التي يحكي عنها...

لكن كبرياءها يمنعها...

هو تخلي عنها...

هو جرحها في أنوثتها يوم رفض حبها...

وبينهما كان عقلها حائراً لا يدري هل كان حمزة مخطئاً حقاً عندما رفض حبها بهذه الطريقة....؟!!!!

أم أنه فعلها لكي يكون دافعها نحو التغيير نابعاً من نفسها هي...

وليس من أجل عاطفة أو شخص؟!!!!


تنهدت في حرارة ثم ضغطت علي شفتيها لتهمس بعدها بشوق:

_افتقدتك يا حمزة...افتقدتك جداً...

ورغماً عنها استجابت أناملها لنداء قلبها لتجد نفسها تكتب له :

_حمزة!


ابتسم في حنين جارف وهو يقرأ كلمتها اليتيمة....!!!!

حمزة ...هكذا فقط؟!!!!

كلمة واحدة لكنها جعلت قلبه يتقافز بين ضلوعه بجنون...

وهو يتخيل كيف كانت تهمس بها بطريقتها المميزة فتكاد تذيبه من فرط حلاوتها من بين شفتيها....

اتسعت ابتسامته وهو يشعر بكلمتها تفضح شعورها الآن...

نعم...ماريته غاضبة...لكنها لا تريد أن تفقده...

لا تريد أن تحدثه...فاكتفت بكلمة تفتح له الطريق دون وعود...!!!!

كلمة واحدة...لكنها تكفيه...!!!


لهذا كتب لها بسرعة:

_شكراً يا ماريتي...هي كلمة واحدة لكنها تكفيني...مفاجأتي لن أخبركِ بها بل سأجعلكِ ترينها بنفسكِ...لكن أخبريني أولاً...هل عمكِ متواجدٌ غداً في المنزل؟!! سأرسل إليه شيئاً في الثامنة مساء بالضبط...


اتسعت عيناها في ترقب وهي تقرأ ما يكتبه....

أي مفاجأة سيرسلها لعمها في الثامنة...؟!!!

التمعت عيناها بفرح وهي تهتف بالانجليزية دون وعي:

_أووووه!!! حمزة سيبقي مشاكساً كعهده!


لكنها كلماتها ناقضت شعورها المشتعل وهي تكتب له باقتضاب:

_سأنتظر مفاجأتك.

اتسعت ابتسامته وهو يقرأ ردها المقتضب يتخيلها تزم شفتيها كطفلة غاضبة...ثم كتب أخيراً:

_تصبحين علي خير يا ماريتي.


رفعت هاتفها المحمول لشفتيها تقبله بعنف عدة مرات متتابعة...

ثم ألقت ظهرها علي الفراش تتطلع للسقف هامسة بهيام:

_أحبك يا حمزة....أحبك...أحبك....


بينما عاد هو بظهره للوراء يتأمل كلماتها المقتضبة وهو يشعر بسعادة لا متناهية...

برغم أنها لم تبح بشئ لكنه يكاد يتنفس عبير اشتياقها عبر حروفها القصيرة...

لكنه مشبعٌ برحيق كبريائها هذه المرة...

وما أروعه من مزيج...!!!!

مزيج خاص بطفلة تعرف متي وكيف تحمل سحر أنوثة امرأة....!!!!


طرقات عنيفة علي باب غرفته قطعت أفكاره...

فانتفض من مكانه ليفتح الباب فتواجهه فريدة هاتفة بجزع:

_أدرك حذيفة يا بنيّ!

====================================================================

تململت جوري في نومها وهي تشعر بالأرق...

كم اشتاقت نومتها جواره...

وهمساته العاشقة التي تدغدغ كيانها كله....

لكنها -للأسف-مضطرة للابتعاد عنه حتي تتحسن صحة النجدي الكبير...

ساعتها سيفاتحه عمار في أن تعود إليه لأجل الطفل....

تنهدت في حرارة وهي تتطلع لسرير ساري الخالي...

تري أين ذهبت حتي  هذه الساعة...؟!!!

لاريب أنها مع حذيفة...

فقد رأته يخرج خلفها بسيارته....

ساري وحذيفة عاشقان كما هي وعمار!!!


ابتسمت ابتسامة حالمة عندما وصلت أفكارها إلي هذه النقطة...

ثم اتسعت ابتسامتها لتحمل شقاوة لذيذة وهي تنفض غطاءها...

ثم تسللت من غرفتها ببطء لتخرج إلي صالة المنزل...

فتحت الباب بحذر لتعيد إغلاقه ببطء شديد...

ثم صعدت السلالم بخفة نحو شقتهما التي يقيم فيها وحده الآن...

رنت الجرس رنة قصيرة وهي تدعو الله أن يكون مستيقظاً مثلها في هذه الساعة...


وعلي فراشهما كان عمار غارقاً في شروده فيها....

رغم سعادته بمشاعرها الجديدة نحوه وبطفلهما المنتظر...

لكنه يشعر أن ثمة شئ ما خطأ...

ربما فعلتها القديمة والتي لا يعلم حتي الآن مع من كانت ستنفذها....

وربما عدم ثقته في صحة شعورها المستحدث نحوه....

وربما هو خوفه من تداعيات الأمور لو رفض قاسم النجدي عودته إليها..

قام من فراشه وهو يزفر بقوة ثم ضم قبضته قائلاً بغلظته المعهودة:

_أنتِ لي يا جوري ولو حاربت الدنيا كلها لآخر نفس!


سمع صوت الرنة القصيرة للجرس فقام يفتح الباب مترقباً ليجدها أمامه...

ابتسم رغماً عنه وهو يري ارتباكها اللذيذ وكأنها فتاة مراهقة خرجت للقاء عشيقها...

خاصة عندما همست بصوت خفيض:

_هل كنت نائماً...هل أزعجت.....؟!!!

قطع عبارتها وهو يسحبها من ذراعها بقوة ليعتصرها بين ذراعيه مغلقاً الباب خلفها...

أخفت وجهها في صدره بينما زاد هو من قوة ضمه لها وهو يدفن أنفه في شعرها...

فهمست بدلال:

_عمار...أنت توجعني!


رفع ذقنها إليه لينظر لعينيها حبيبتي صباه وشبابه ...

بل حبيبتي عمره كله ...

نظراته حملت عاطفة بكراً نقية لم ولن يعرفها إلا لها...

ولأنها كانت كذلك اخترقت قلبها بقوة قاهرة مثله ليدق بعنف داخل صدرها...

خاصة عندما همس هو بعتاب خشن:

_طالما أوجعتني يا جوريتي.!!!


مدت أناملها ببطء تتلمس شفتيه وهي تهمس برقتها الفطرية:

_اشتقت لهمسات العشق من شفتيك هاتين تحملني لدنيا أخري...

رفع أنامله تحتضن كفها الملامس لشفتيه ...

ثم قبل أطراف أناملها بهيام....

وعيناه في عينيها تأبيان مغادرة سجنهما القديم فيهما....

لا يصدق أنها هنا معه...

هي التي جاءته بقدميها....

تقول أنها اشتاقته بهذه الطريقة وبهذا الإحساس....!!!!

اقترب بوجهه من وجهها ليهمس أمام عينيها بصوت متهدج:

_جوري أنتِ حقاً هنا؟!! جئتني وحدكِ دون ضغط ودون قيد....جئتني لأنكِ....


عجز عن إتمام عبارته مع كل هذا الطوفان من المشاعر الذي كان يكتسحه وقتها....

والذي شعرت هي به فأحاطت وجهه بكفيها وهي تهمس بحنان:

_نعم...يا عمار...بإرادتي ودون ضغوط...أتيتك لأني....


صمتت لحظة شعرت فيها أن قلبه يكاد يرجوها أن تكملها...

قلبه الذي تكاد تسمع صوت دقاته الهادرة الآن...

ولم تكن لتخيب رجاءه أبداً...

ابتسمت في خجل وهي تردف بدلال يمتزج بعاطفتها:

_أحبك يا عمار.


اتسعت عيناه للحظة قبل أن يغمضهما بقوة...

وقدكان هذا آخر ما وعته هي...

قبل أن يميل بشفتيه علي شفتيها فيغرقها في طوفان عاطفته المجنون الذي افتقدته...

لتتواري كل أفكارها ويغيب عنها الإدراك....

 مأخوذة بدفء لمساته التي حملتها للعالم الوردي الذي طالما تخيلته في أحلامها....

والآن تجده معه أجمل وأجمل!!!


وبعدها بدقائق طويلة كان هو جوارها علي فراشهما يتطلع لوجهها الذي كان يصلح الآن كصورة مجسدة للسعادة والخجل...

اتكأ علي جانبه ليشرف علي وجهها من علوّ...

ثم داعبت أنامله شعرها وهو يهمس بخفوت:

_شعر جوري الذي يشبه لونه ليل أيامي دونها...

انتقلت أنامله لعينيها اللتين أسبلتهما في خجل فلامسهما بخفة مروراً برموشها الكثيفة ليردف بنفس النبرة:

_وعيناها اللتان أجادتا احتلالي حتي ما عدت أطمع في حريتي بعيداً عنهما....

فتحت عينيها ببطء وابتسامة هانئة ترتسم علي شفتيها اللتين انتقلت إليهما أنامله وهو يردف:

_وشفتاها اللتان أقرأ عليهما أقدار عذابي...وأقدار فرحي....

مدت كفها تتناول أنامله لتضعها علي وجنتها هامسة :

_هل تدري قيمة أن تقول -أنت-لي هذا الكلام؟!!!! عمار الغليظ تغير لأجلي...عمار صار يجيد الغزل لأجل جوريته...

دمعت عيناها في عبارتها الأخيرة...

فمال بوجهه يلصق جبينه بجبينها وهو يتأوه قائلاً:

_ولمن سواكِ أفعلها أنا؟!!!


اتسعت ابتسامتها الهانئة وهي تشعر بزغاريد قلبها تدغدغ ضلوعها برقة...

أين كنت أنا غافلة عن فيض حبك هذا يا عماري؟!!!

أين كنت؟!!!!


قطعت أفكارها عندما سمعت صوت الجرس فشهقت بقوة وهي تهمس بخوف:

_من ؟!!!

ربت علي وجنتها برفق ثم قام بسرعة ليقول بصوت عادت إليه خشونته:

_لماذا خفتِ هكذا؟!!! أنتِ هنا مع زوجك.

تشبثت بغطائها وهي تهمس بارتباك:

_لكن...ألم نتفق أن نخفي الأمر حتي يتحسن جدي؟!!! أرجوك يا عمار...

أشاح بوجهه في ضيق ثم قال لها بغلظة:

_ابقي هنا حتي أري من الطارق.


توجه نحو الباب يفتحه ليطالعه وجه حمزة القلق:

_حذيفة وساري في المشفي....هيا لنذهب إليهما...

====================================================================


فتح حذيفة عينيه أخيراً ليراقب الوجوه المجتمعة حوله بنظرات زائغة.....

فهتفت فريدة بلهفة:

_حمداً لله علي سلامتك يا بني.

دار بعينيه باحثاً عنها لكنها لم تكن هناك....

كل العائلة كانت حوله عداها هي !!!

حتي قاسم النجدي تحامل علي نفسه ليقوم من رقدته ويطمئن عليه...!!!!!

وهي لم تفعل!!!

ازدرد ريقه الجاف بصعوبة وهو يهمس:

_أين ساري؟!

ربتت فريدة علي كفه وهي تقول بحنانها المعهود:

_ساري بخير يا بني ....لا تقلق...هي فقط ...قلبها لم يطاوعها أن تراك في هذه الحالة....

تلعثمت في عبارتها الأخيرة فأدرك حذيفة أن في الأمر سراً....

التفت نحو جده الذي تقدم نحوه ليقول بصوته المسيطر:

_استرد عافيتك وبعدها سيكون لنا حديث طويل عما حدث هذه الليلة....


أغمض حذيفة عينيه وهو يشعر بالاختناق...

كل أحداث الليلة الفائتة لم تغادر مخيلته ...

ساري كادت تضيع بسببه...

بسبب خطايا ماضيه الأسود...

فكيف ستكون ردة فعلها تجاه الأمر؟!!!!

قد يتحمل غضب جده وقسوة لومه...

وقد يتحمل عتاب العمة فريدة الصامت...

لكن كيف سيحتمل النظر في عيني ساري بعد....؟؟!!!

ساري التي يبدو أنها لن تمرر الأمر بسهولة كعادتها...

ويحق لها أن تفعل!!!


لكن كيف استطاعت تركه في هذه الظروف؟!!!

هل غلب كبرياؤها قلبها هذه المرة حتي قويت علي التخلي عنه في هذا الوقت؟!!!!

لن يلومها لو فعلت...

أي امرأة مكانها كانت ستطرده من حياتها بعد هذه الحادثة!!!!


لكن...ساري ليست كأي امرأة...

ساري تحبه...بل تعشقه...

فهل يشفع حبه لديها كي تتجاوز عن الأمر هذه المرة؟!!!!

هو لا يدري...

لكن قلبه يوشك علي الاحتراق بذنبه وترقبه ولوعته!!!!


وعلي أرجوحتها القديمة علي السطح كانت هي تجلس شاردة...

تضم دميته إلي صدرها وهي تسترجع كل ذكرياتهما...

قلبها يستحلفها أن تذهب وتطمئن عليه...

نظرة واحدة من خلف الباب وبعدها تعود دون أي كلمة.....

لكن عقلها كان يعنفها بهيمنة مسيطرة في هذه اللحظات...

كفاكِ تعلقاً بحبال واهية أيتها الغافلة...!!!!!

هذا هو حذيفة....وهذه هي حياته....

عالم أسود من الخطايا لم يكتفِ فيه بنفسه...

بل وجدتِ نفسكِ عالقة معه...

ولولا ستر الله بالأمس لكنتِ الآن في أسوأ حال يمكنكِ تخيله...!!!


حذيفة النجدي لا يصلح لكِ...

حتي لو امتلك قلبكِ بقبضة من حديد...

لكنه سيبقي القطب المضاد لمبادئك وأخلاقك وعقلك....

حمقاء أنتِ لو ظننتِ الحب يكفي...

لا يا صغيرة...

إنه حقاً لا يكفي وحده دون رصيد كافٍ من احترام واهتمام وثقة...

وقبلهما غطاء من اقتناع عقلكِ بدقات قلبك العاشق!!!!


عذراً يا حذيفة...!!!

ما عاد لي طاقة في إكمال هذا الطريق معك...

لن أنسي هذه الليلة أبداً...

ليلة بدأتها تتوعد شقيقتي بالقتل تزعم أنك تحافظ عن شرفك...

وأنهيتها تدافع عن شرفي الذي كاد ينتهك بسببك...

فيالظلمك يا حذيفة!!!!!

لقد تآمر عليك ماضيك ليفضح ازدواجية فكرك...

ويريني أنك لن تتغير...

وأن صورتي عنك ستبقي كما كانت...

أنت وجع قلبي وعقلي يا حذيفة...

لكنني لن أسمح لك أن توجع كبريائي بعد!!!!!

==================================================================

غادر ياسين المشفي بعد زيارته لحذيفة متجهاً لفيللا عاصم الهاشمي حيث لازال يقيم مع رقية...

استقبلته رقية بلهفة وهي تسأله بقلق:

_ما الأخبار يا ياسين؟!!!

ضمها إليه بقوة وقد عجز عن الحديث...

الأحداث اشتعلت فجأة والعائلة كلها علي صفيح ساخن...

رفعت رأسها إليه تتأمل ملامحه المنهكة...

هي تشعر الآن بما يدور برأسه...

الحرب أعلنت في جميع الجبهات ولن يستطيع أحد سد كل تلك الثغرات...

في البداية كانت كارثة جوري وعمار الذي طلقها بعدما عادت إليها الذاكرة والنطق...

ثم فضيحة آسيا التي استوجبت عودة حمزة ليفصل بنفسه في الأمر الذي رآه قاسم النجدي حقاً شخصياً له...

ثم حادثة ساري التي كادت تتعرض للاغتصاب بسبب عبث حذيفة ومجونه وهو ما لن يمرره قاسم النجدي بسهولة...

ومن يدري ما الذي تخبئه لهم الأيام بعد؟!!!!

جذبته من كفه لتجلس علي الأريكة وتضم رأسه إلي صدرها بذراعيها هامسة بحنانها الممتزج بقوتها:

_لا بأس يا يا سين...صدقني ستمر الأمور بخير...قليل من الحكمة فقط هو ما تحتاجه العائلة لتجاوز هذه الأزمة...لقد أحسن جدك عندما أوكل الأمور لحمزة...عقلية قاسم النجدي بتسلطها لن تصلح لحل الأمور....


رفع ياسين رأسه إليها وهو يقول بصوت متعب:

_كل الأمور الآن متشابكة...هل تعلمين أنها المرة الأولي التي أشفق فيها علي جدي؟!!!!

ربتت علي رأسه وهي تقول بأسف:

_لقد فعل كل هذا للحفاظ علي أحفاده....والآن يجد حبات العقد كلها انفرطت من يده....


أومأ برأسه إيجاباً ثم قال لها بحزم لا يخلو من رجاء:

_حان وقت عودتنا لبيت العائلة....لم أعد قادراً علي تركهم في هذه الظروف....

أومأت برأسها إيجاباً وهي تقول بحنان:

_معك حق...هيا لنذهب معاً...


وبعدها بقليل كان يفتح باب شقتهما ليدخل ويده في يدها...

أغلق الباب برفق ثم استوقفها لينظر في عينيها هامساً بعاطفة صادقة:

_اليوم تدخلين لبيتي عروساً بحق...عروساً امتلكت قلبي بعدما احتلت حصون روحي كلها...


ابتسمت في خجل وهي تطرق برأسها ...

فانحني ليحملها بين ذراعيه وعيناه معلقتان بعينيها وكأن بينهما رباط لن ينفصم أبداً...

سار بها حتي وصل إلي خزانة ملابسها فأنزلها برفق...

ثم فتح الخزانة ليستخرج ثوب زفافها أمام عينيها المترقبتين...

فضه من غلافه ثم قال لها برجاء:

_أعرف أن التوقيت ليس مناسباً...لكنني أحتاج أن أراكِ اليوم عروساً بحق...


ابتسمت في خجل وهي تومئ برأسها إيجاباً...

ربما في ظروف أخري ما كانت لتخلع الأسود حداداً علي والدها أبداً ...

لكنها تشفق علي ياسين...

ياسين الذي تدرك الآن حجم الضغوط عليه...

تدرك أنه يحتاج إليها الآن لتكون فرحة قلبه التي تسنده في مواجهة كل هذا...

وهي أبداً لن تخذله!!!


خرجت إليه بعد دقائق لتجده ينتظرها في صالة الشقة ...

تلقاها بين ذراعيه يتأملها بثوبها الأبيض الذي بدت فيه كنجمة ماسية ....

وضع كفيه علي خصرها فتعلقت بعنقه وتلك الأنغام الخافتة تنبعث من مكان ما ...

فهمست بدهشة:

_أليست هذه...؟!!!!

أومأ برأسه إيجاباً وهو يهمس أمام عينيها:

_نفس الأنغام التي رقصنا عليها أول مرة....عندما وعدتكِ أن أعترف لك بحبي  اعترافاً يليق بكِ...


ابتسمت وهي تشعر بقلبها يكاد يتوقف ....

عندما جثا علي أحد ركبتيه أمامها ليهمس بحب:

_هل تقبلين حبي يا سيدتي؟!!


اتسعت عيناها في دهشة للحظة...

ثم جذبته من كفه ليقف أمامها من جديد وهي تهمس بانفعال يمتزج بعاطفتها:

_لا تفعلها ثانية يا ياسين...ياسين النجدي لا يليق به هذا...

ابتسم في حنان وهو يضمها إليه ليهمس أمام شفتيها بعشق جارف:

_لأجل رقية الهاشمي فقط أفعلها....رقية التي تستحق أن تنحني لها الجبال وتتوقف من أجلها مدارات النجوم...رقية التي يوزن قلبها بمثاقيل الذهب والألماس...رقية التي سحرتني بقوتها قبل حنانها...وبروحها التي تشبه الملائكة في رقتها...ويغار من نعومتها الورد....

عضت علي شفتيها في خجل...

فاقترب بشفتيه من وجهها يتلمس بشرتها بقبلات خفيفة هامساً بين كل قبلة وأخري:

_رقية حبيبتي...

أغمضت عينيها بقوة وهي تشعر بنفسها تكاد تذوب بين ذراعيه...

ثم رفعت كفها لتضعه علي صدره هامسة بحنان:

_ياسين...حبيبي.

ابتسم في سعادة وهو يرفعها من خصرها ليدور بها هاتفاً بفرحة عاشق:

_أخيراً يا رقية....أخيراً سمعتها منكِ بأذني!!


ضحكت في خجل وهي تتشبث به هامسة باعتراضٍ واه:

_أنزلني يا يا سين.

ظل يدور بها وهو يهمس في أذنها برقة:

_أبداً حتي تقوليها ثانية.


ألصقت خدها بخده مغمضة عينيها وهي تكاد تقسم أنها لم تشعر بهذه السعادة من قبل ....

لتهمس بقلب غارق في نشوة حبه:

_حبيبي يا ياسين!!

=====================================================================

لم يدر كم مر من الوقت عليه وهو جالس جوارها علي الفراش...

يشبك أنامله بأناملها وكأنه يتشبث بها خوفاً من أن تتركه وترحل...

ورغماً عنه وجد نفسه يغوص في بحر ذكرياته معها...

منذ رآها أول مرة خائفة وحيدة في الطريق...!!!


وكيف دخلت حياته بمحض صدفة لتكون هدية القدر له ولسمية...

فخبرتها الطبية رغم أنها محدودة ...

لكنها كانت أكثر من كافية في تلك الأيام التي كانت تحتاجها فيها سمية...

كما أنها رفعت عن كاهلهما حمل ياسين الصغير الذي تعلق بها ....

فكانت تشده لدنياها بعيداً عن الجو الكئيب للمنزل ...!!


وحتي بعد وفاة سمية...

كانت تستمع لشكواه بصبر ....

وتشاركه حزنه علي تلك التي اعتبرتها شقيقتها وليست مجرد صديقة عابرة!!

وازدادت عنايتها بالصغير وكأنها استشعرت أن دورها معه قد تعاظم لتكون هي له أماً بعد أمه!!


دمعت عيناه وهو يشعر لأول مرة بعظم الدور الذي قامت به لأجله ولأجل صغيره..

لكنه -هو-لم يرد لها شيئاً من معروفها بعد!!!


حتي عندما تزوجها لأجل أن يحميها...

فوجئ باعترافها بحبه لعمه فجعله هذا يعاملها بقسوة وجفاء...

وهي التي كانت أحوج ما تكون لعطفه وتفهمه في وحدة روحها هنا!!!


ضغط علي أناملها أكثر وهو يهمس بحزن:

_كم تحملتِ الكثير يا صغيرة...اعذريني لأنني تركتك تعانين وحدك طوال هذا الوقت...

ثم رفع أناملها المشتبكة بأصابعه ليقبلها هامساً بصدق:

_لن أتركك وحدك بعد يا صغيرتي...


ربت علي جبينها بكفه الحر...

ثم تنفس الصعداء ...

لقد استقرت حرارتها أخيراً لعل هذا يعني خطأ تشخيص الطبيب...


لم يكد يتم فكرته حتي سمع طرقات خفيفة علي الباب...

ثم دخل العم كساب ومعه الطبيب الذي تفحص آسيا باهتمام...

ثم قال بارتياح:

_لقد كذب ظني...لكنني لن أتأكد تماماً إلا بعد رؤية تحاليلها كلها....لكن الوضع الآن تقريباً مطمئن.


تنهد العم كساب في ارتياح وهو يحمد الله بصوت مسموع....

فيما ظل جسار عاقداً حاجبيه بقلق...

لن يطمئن حتي تفتح عينيها وتفيق من هذيانها هذا...

لن يطمئن حتي يعود صوتها العذب يداعب أذنه برقته الآسرة...


لهذا سأل الطبيب بتوتر:

_لماذا لم تفق إذن؟!


هز الطبيب رأسه برفق وهو يقول بهدوء:

_مسألة وقت...لا تقلق.


ظل جالساً جوارها حتي أذان الظهر...

قام ليؤدي صلاته ثم عاد إليها ليشبك أنامله بأناملها من جديد...

شعر بألم حاد في ظهره فهو لم ينم ليلته السابقة كلها....

لكنه نسي ألمه كله عندما رآها تفتح عينيها ببطء ثم تتأوه بضعف....

فهتف بلهفة:

_آسيا...أنتِ بخير؟!


عادت تتأوه بقوة أكثر...

وهي تهمس بألم:

_رأسي يؤلمني...جسدي كله يؤلمني.


ربت علي وجنتها برفق وهو يهمس بإشفاق:

_لا بأس...ستكونين بخير.


نظرت حولها في دهشة ثم همست بخفوت:

_أين أنا؟!


عاد يربت علي وجنتها بكفه الحر وهو يهمس بحنان:

_أنتِ في غرفتي.


عقدت حاجبيها وهي ترفع كفها الذي اشتبك بكفه ...

ثم نظرت إليه طويلاً...

وكأنها تطالبه بتفسير...!!!!

لكنه ظل علي احتضانه لأناملها بأنامله وهو يملأ عينيه من ملامحها بعدما كاد يقتله خوفه عليها...

ثم همس برفق:

_استريحي ولا تفكري بشئ...أنتِ متعبة وتحتاجين للراحة.


أغمضت عينيها من جديد وكأنها كانت تنتظر كلمته...

لتهمس بخفوت:

_شكراً.


قالتها وعادت لسباتها العميق....

فابتسم في حنان وهو يشعر أنه قد اطمأن عليها...

لكن آلام ظهره عادت تزعجه بشدة...

فقام من جوارها ليترك كفها مجبوراً...

ثم سحب الأريكة الجانبية برفق ليضعها جوار سريرها...

تمدد علي الأريكة وهو يتأوه بضعف...

لكنه عاد يبتسم في ارتياح وهو يشعر أن هماً كبيراً قد أزيح من علي ظهره...

مد كفه ليمسك كفها المستلقي علي السرير...

ثم أغمض عينيه أخيراً ليسقط في نوم عميق...

كانت هي فيه بطلة أحلامه دون منازع!!

=======================================================================

جلست مارية في صالة منزل عمها تترقب الباب ...

عقارب الساعة تعاندها وتسير ببطء شديد منذ ليلة الأمس...

وهي تترقب مفاجأته التي سيرسلها لها...

تري ماذا ستكون؟!!!!

قلبها يكاد يتوقف قلقاً وترقباً...

لكنها لا تنكر سعادتها بكل هذا...

حمزة عاد لحياتها ومعه كل الألوان التي افتقدتها أيامها الباهتة دونه.....

ورغم غضبها منه...

وتوعدها الدائم له...

لكنها لا تنكر اشتياقاً يكتسحها بقوة....

وحباً يتملكها بجنون!!!!


رن الجرس أخيراً فانتفضت من مكانها وهي تعدل حجاب رأسها لتفتح الباب...

شهقت بعنف وهي تراه أمامها مبتسماً...

تجمدت مكانها بعدها للحظة...

لا تصدق أنه هنا حقاً....

حمزة الحبيب...هنا؟!!!!

معها؟!!!!


همست باسمه دون صوت تقريباً.... 

ثم لم تتمالك نفسها وهي تندفع دون أي تفكير لتلقي نفسها علي صدره....

وهي تضمه بذراعيها بقوة....!!!!!


ضم كفيه جواره مقاوماً رغبته في احتضانها هو الآخر...

ورغم مفاجأته السعيدة  بما فعلته ابتسم في حنان وهو يبعدها عنه هامساً بصوته الآسر:

_ليس بعد يا ماريتي...عندما يكون من حقي أن أزرعك في ضلوعي فلن أتركك أبداً!!


انتبهت بدهشة لما فعلته بعدما تراجعت صدمتها...

لتتخضب وجنتاها بحمرة قانية وهي تتمتم بارتباك:

_عفواً ....كيف جئت؟!! أعني لماذا؟!....أنا....


كادت تهمس باشتياق أنها افتقدته...

لكنها تراجعت وهي تشعر بالخجل من اندفاعها الأحمق هذا....

لكنه قرأها في عينيها الصادقتين....

فنظر إليها هامساً بحب تراه في عينيه لأول مرة:

_وأنا افتقدتكِ أكثر !!

ثم أردف بسعادة واضحة وقد أدرك الأمر -لتوه-:

_لقد صرتِ تتحدثين العربية كأهلها....


أطرقت برأسها في خجل فعاد يهمس بافتتان وعيناه تدوران علي ملامحها التي يحتضنها حجابها برقة:

_ماريتي تبدو ملكة بحجابها...لا تتصوري سعادتي وأنا أراكِ به لأول مرة...

لم تستطع رفع وجهها إليه وهي تشعر بقلبها يكاد يسبقها إليه...

تأمل شكلها -الجديد-عليه بإعجاب واضح...

مارية اختارت طريقها وحدها...

ليس كي تسترضي عاطفته...

ولا كي تجرب شيئاً جديداً بدافع المغامرة....

بل فعلتها اقتناعاً به ...

وهذا ما رفعها بعينيه أكثر...

الآن يتصالح قلبه وعقله بشأنها...

فما عاد من صراع بينهما....

الآن يحارب الدنيا من أجلها....

نعم...معركته لأجل الشقراء الأجنبية لن تكون سهلة مع قاسم النجدي الذي لازال يطمح في زواجه بآسيا عندما يعيدها....

هذا الأمر الذي تأجل بسبب حادث ساري وحذيفة...

لكنه لن يحتمل التأجيل أكثر....

يجب أن يذهب بنفسه لجسار القاصم...

ليسترد ابنة عمه بأقل خسائر ممكنة....

هو يعلم أن المواجهة قد تكون دامية...

لكنه سيحاول أن يجنح للسلم قدر المستطاع!!!!


نفض أفكاره البائسة عن آسيا وصراعها مؤقتاً...

ثم اتسعت ابتسامته الحنون وهو يهمس لها بمرحه المشاكس كعادته:

_هل ستتركينني هكذا واقفاً علي الباب؟!!! أريد مقابلة عمك فلديّ حديث معه....


رفعت إليه عينين خجلتين ثم فردت له ذراعها لتغمغم بارتباك:

_تفضل...سأخبر عمي...

دلف إلي الداخل بخطوات ثابتة حتي جلس علي أحد الأرائك منتظراً رياض.....

صافحه رياض بحرارة عندما علم من مارية أنه كان زميلها في لندن مع الدكتور آدم...

وبعد عبارات الترحيب المعتادة...

دخل حمزة في الموضوع مباشرة ليقول بتهذيب واضح:

_أنا تقدمت لخطبة مارية من والدها....لكنه أرجع الأمر كله إليها...لهذا جئت إلي هنا لكي أطلب يدها من جديد ...


شهقت مارية للمفاجأة وهي تضع كفها علي شفتيها ....

بينما عقد رياض حاجبيه بضيق....

لقد كان يخطط لزواج مارية من زياد عندما يعود....

وظهور حمزة يربك مخططه هذا....


لكن حمزة لم ينتبه لضيقه وهو يقول بأسف:

_لدي بعض الأمور العائلية المرتبكة تجعلني غير قادر علي إتمام الأمر الآن....لهذا فسأضطر لتأجيل زيارة عائلتي....أنا فقط أردت إبلاغكم برغبتي .

ازداد انعقاد حاجبي رياض وهو يشعر بعدم الارتياح...

الشاب يبدو طيباً ويبعث علي الارتياح...

لكنه كان يريدها لزياد...

صفية ستجنّ لو علمت أنها ستضيع من يده....

وفوق كل هذا حديث حمزة عن عائلته لا يبشر بخير...

لكن مارية قطعت حيرته وهي تهتف بقوة:

_أنا لا أوافق!


نظر إليها حمزة مصدوماً...

بينما نقل رياض بصره بينهما بحيرة وهو لا يفهم ما الذي يجري بالضبط...

فقالت مارية لرياض برجاء:

_دعني مع الدكتور  قليلاً يا عمي من فضلك.


تركهما رياض وحدهما مستسلماً لرغبتها...

فالتفت لها حمزة قائلاً بعتاب:

_لماذا يا مارية؟!!


سالت دموعها علي خديها وهي تهمس بانفعال:

_لأنني لست لعبة في يدك...أنت تخليت عني...ورفضت حبي...أنت...


قاطعها قائلاً بحزم يمتزج بحنانه المعهود:

_افهميني يا مارية...أنا لست الرجل الذي يسير خلف قلبه بعيداً عن نداء واجبه وعقله....أما عن عقلي فأنتِ تعلمين أنني قابلتكِ في حالة كنتِ فيها أنتِ نفسكِ مشتتة....تائهة...أنا أشرت لكِ علي الطريق لكنني لم أشأ أن أكون المكافأة الوحيدة التي تنتظركِ في آخره...بل أردت أن تختاريه باقتناع بعيداً عن أي ضغوط...وأما عن نداء واجبي فأنا التقيتكِ في أسوأ ظروفي...ربما لا تتفهمين ما أقول لكن واجب العائلة في عرفنا يعلو علي كل شئ...


عقدت حاجبيها في تساؤل...

فاندفع يحكي لها كل شئ...

بداية من الثأر الذي هرب لأجله...

ومروراً برغبة جده في تزويجه من آسيا...

ثم قصة انتحارها المزعوم بعدها...

وانتهاء باكتشافهم لوجودها في منزل غريمهم والذي هو كارثة وحدها يعلم الله كيف ستنتهي...


هزت رأسها بذهول وهي تهمس :

_هل تعني أنك ستستعيدها من بيت هذا الرجل لتتزوجها كي ترضي عائلتك؟!!!


نظر إليها طويلاً ثم قال بحزم:

_ربما لو لم تكوني أنتِ لكنت استجبت لرغبة جدي وفعلت هذا....لكنني الآن لن أتخلي عنكِ مهما حدث...حتي لو وقفت ضد رغبة جدي...

أطرقت برأسها وهي عاجزة عن الرد...

تتابع الأحداث السريع هذا صدمها...

رغم سعادتها بعودة حمزة وطلبه لخطبتها...

لكنها ممزقة الآن بين قلقها عليه بسبب موضوع الثأر هذا....

وخوفها من أن يجبره جده علي الزواج بابنة عمه...


وأمامها كان هو صامتاً مراعياً حيرتها...

ينتظر قرارها الذي يترقبه قلبه بلهفة...

حتي رفعت رأسها إليه تسأله بحيرة عاتبة:

_لماذا عدت إليّ يا حمزة؟!!

كانت تنطق اسمه بهذه الطريقة التي يعرفها عندما تبدل الحاء هاء.....

فرفع أحد حاجبيه وهو يقول بمشاكسته المعهودة كما كان يقولها لها دوماً:

_لو نطقتِها صحيحة فسأخبرك...


وقفت لتتوجه نحوه فقام واقفاً ليقابلها بوجه يمتلئ بعاطفة صادقة...

نظرت لعينيه طويلاً ثم ضغطت علي حروفها وهي تعيد سؤالها ناطقة اسمه بطريقة صحيحة...

صحيحة تماماً...!!!!!

ارتفع حاجباه في دهشة للحظة...

ثم ابتسم هامساً في تأثر:

_أنتِ نطقتِها صحيحة يا ماريتي؟!!!


ابتسمت وسط دموعها لتهمس برقتها الآسرة:

_لأجلك تعلمتها يا حمزة....والآن أخبرني لماذا عدت؟!


رفع ذراعيه نحوها بلهفة وكأنه سيهم باحتضانها...

ثم جمدهما مكانهما في آخر لحظة...

ليهز رأسه بانفعال واضح هامساً بعشق فياض :

_لأني أحبك يا ماريتي...لأني أحبك...!!!!


الفصل العشرون:


استيقظت من نومها لتجده ينظر إليها في هيام...

عيناه ترويان حكايا طويلة من غرامٍ صادق...

فابتسمت برقة وهي تهمس بصوت ناعس:

_حبيبي ياسين!!

مال علي وجهها يغمرها بقبلات ناعمة ...

فضحكت بخجل ثم ضمته إليه بذراعيها هامسة :

_هل استيقظت قبلي بكثير؟!


ضمها إليه هو الآخر وهو يتخلل شعرها بأنامله هامساً جوار أذنها:

_هذا هو سري الصغير معك...أنا أحب مراقبتكِ نائمة...ليس اليوم فقط...بل في كل يوم كنت تنامين فيه جواري وأنا عاجز حتي عن ملامستكِ...سلطانتي رقية جعلتني أقع في أسر حبها دون أن تحتاج سلاحاً....فقط قلبها الملكيّ كان يكفي كي أسقط أمامه كأسير حرب...


انطلقت منها ضحكة عالية حملت إليه سعادتها كاملة....

فاقترب بوجهه من وجهها يكاد يلاصقه وهو يهمس بحنانه المعهود:

_السلطانة رقية راضية عني؟!!


داعبت أنفه بأنفها وهي تهمس بسعادة خالصة لم تعرفها منذ زمن بعيد:

_تمام الرضا أيها السلطان ياسين!!!


ضحك بمرح هو الآخر ...

ليضمها إليه أكثر وهو يغرقها في طوفان عاطفة خاصة جرفتهما معاً....

ليزداد شعور كل منهما بأنه حقاً يعشق صاحبه...

عشقاً جارفاً بلا أول ولا آخر...

بلا قيود ولا سدود...

عشق لن يذوي ولن يموت...

لأنه بدأ بتصديق العقل قبل أن تنصاع له الروح...

ويذوب في نيرانه القلب....!!!


وبعدها بقليل...

قامت من جواره لتقول بلهفة:

_لقد سرقنا الوقت...لم يتبق سوي القليل علي آذان الفجر...


قام بدوره ليقول بمرح :

_لا تقلقي يا سلطانتي...السحور جاهز علي التسخين...أنا أعددته ...


أمسكت كفه وهي تتوجه معه نحو المطبخ حيث تعاونا في نقل الأطباق...

كادت تجلس علي كرسيها لكنه جذبها ليجلسها علي ساقيه هامساً بحنان أمام عينيها:

_حتي تأتينني بطفلة جميلة مثلك...سيكون هذا مكانكِ دوماً...


ابتسمت بخجل وهي تهمس باعتراض:

_لن تتمكن من الأكل هكذا....اتركني يا ياسين...


ضمها إليه أكثر...

ثم تأوه بقوة ليهمس بعدها بعاطفة أشعلتها:

_أتركك؟!!! ومن ذا يقوي علي ترككِ بعدما صرتِ بكل هذا القرب؟!!! أبداً لن أترككِ يا سلطانتي...


لا تدري لماذا دمعت عيناها وهي تسمع هذا منه....

رغم أنها تصدقه...

بكل جوارحها توقن بحبه...

لكن شيئاً ما يقبض قلبها...

ينزع منها سعادتها -الكاملة -بعاطفته...

ربما هو خوفها من عودة آسيا....

وربما هو شعورها بمرارة الفقد التي ذاقتها بعد رحيل عاصم الهاشمي...

وربما سبب آخر لا تعلمه...

لكنه يخدش روحها بقسوة ويحرمها تلذذها بقربه....


لمح الدموع في عينيها...

مع سؤالها الذي همست به في رجاء يتعارض وقوتها المعهودة:

_هل هذا وعدٌ  يا ياسين؟!!!


أحاط وجهها براحتيه ثم قبل جبينها بعمق...

ففتحت عينيها ثم عادت تسأله بنفس النبرة...

نظر إليها طويلاً...

ثم هز رأسه نفياً...

فاتسعت عيناها بصدمة...

ليهمس هو بعدها في حزم حنون:

_ليس وعداً يا رقية...ولا ميثاقاً...بل ولا حتي قسماً...الوعد يُخلَف...والميثاق يُكسر..والقسم يحنثون أحياناً به...لكنه هذا...


قالها وهو يضع كفها علي صدره...

ليردف بعدها بيقين وكأنه ينقش كلماته علي جدران معابدها....

:

_هذا القلب الذي لن تكذبكِ دقاته...ولن يخدعكِ نبضه...هذا القلب الذي صرتِ أنتِ حياته...ودونكِ يموت وأموت أنا معه...

أسندت رأسها علي صدره تضع أذنها علي قلبه وكأنها تجرب كلامه....

قلب ياسين صادقٌ مثله...

طالما وعدها فلن يخلف وعده....

ستكون حياته....كما هو حياتها....!!!!

ظلت هكذا علي صدره وهو يربت علي رأسها...

حتي سمعا صوت الأذان....

فانتفضت لتهز رأسها هامسة بأسف لا يخلو من مرح:

_ضاع السحور يا ياسين!!!

=======================================================================


فتح حذيفة عينيه فربتت راجية علي كتفه وهي تقول بحنان:

_أنت اليوم أفضل يا بني؟!!

أشاح حذيفة بوجهه وهو يشعر بالاختناق...

هذا هو يومه الثاني هنا وساري لم تقم بزيارته...

بل إنها حتي لم تهاتفه...

قلبه يخبره أن صمتها هذا وراؤه كارثة...

لهذا التفت نحو فريدة التي كانت جالسة بعيداً ترمقه بشفقة واضحة...

ثم همس بصوت متعب:

_أريد ساري يا عمتي.


تنهدت فريدة وهي تتبادل مع راجية نظرات غامضة...

فعاد يهمس بألم:

_هي غاضبة مني؟!!! صدقيني ما حدث كان رغماً عني...


قالت فريدة بحنانها المعتاد:

_أنا أعرف ذلك يا بني...لكن ساري لازالت في مرحلة صدمة...

تأوه بخفوت ثم عاد يهمس برجاء:

_دعيني أكلمها فقط ...أريد أن أسمع صوتها...


هزت فريدة رأسها في استسلام...

ثم تناولت هاتفها لتتصل بساري ...

أعطته الهاتف فتناوله بأنامل مرتجفة...

فتحت ساري الاتصال لتقول بلهفة:

_نعم يا أمي...حذيفة بخير؟!!


لم يصلها رد للحظات...

فعادت تهمس بقلق وقلبها يخفق بين ضلوعها بقوة :

_أرجوكِ يا أمي قولي أنه بخير...


صمت للحظات أخري وهو يستشعر قلقها الصادق عليه ليهمس بصوت ضعيف:

_مادمتِ قلقةً هكذا...فلماذا لم تأتِ لتطمئني بنفسك؟!!

وضعت كفها علي صدرها ودموعها تملأ عينيها بينما عجز لسانها عن الرد...

من كان يخبرها أنه سيأتي يوم يكون هو فيه في المشفي بينما هي ترفض رؤيته....؟!!!

من كان يخبرها أنها ستكون بكل هذه القسوة معه؟!!!

وبكل هذا التجاهل؟!!!

من كان يخبرها أن قلبها الذي فاض بحبه منذ وعت علي هذه الدنيا سيخذله في صراعه مع عقلها وكبريائها؟!!!!


تمالكت نفسها لتقول بصوت تصنعت بروده:

_لقد اطمأننتُ عليك ...الجميع يقولون أن جرحك سطحي وأنك ستعود للمنزل غداً...


أغمض عينيه في ألم...

صوتها رغم برودته يكوي صدره بسهام حارقة...!!!!

ساري لن تسامحه...

ستظل تجلده بهذا الذنب وربما أعدمت حبهما لأجله...!!!


همس بعد لحظات من الصمت والعتاب يحتوي همساته المختنقة:

_الجميع ؟! الجميع حولي عداكِ أنتِ !!!

سالت دموعها الحبيسة علي خديها وعبارته تصيب قلبها في الصميم...

لكنها تشبثت بآخر أسوار مقاومتها وهي تقول بنفس البرود:

_حمداً لله علي سلامتك ...اعتنِ بنفسك...


قالتها وأغلقت الاتصال بسرعة...

وقرارها الأخير الذي اتخذته يتملك رأسها أكثر...

غداً...عندما يعود لمنزل العائلة ستبلغه به...


وعلي سريره أغمض هو عينيه بحسرة...

لن يلومها رغم كل شئ ....

هو دوماً يخذلها...

إن لم يكن بإرادته فرغماً عنه...

حتي بعدما قرر أن يتغير ويرمي تاريخه الأسود كله خلف ظهره ليبدأ معها من جديد....

عادت ذنوب ماضيه تطارده لتقف حائلاً بينه وبينها...

وكأن القدر يعاقبه بقلبه...!!!

قلبه الذي طالما كفر بالحب والإخلاص...

والذي تغير بين يديها ليصير ناسكاً في محراب حبها...

الآن ...تطرده هي خارج أسوار مدينتها !!!!

==========================================================================

فتحت آسيا عينيها لتجده جوارها مشبكاً أنامله بأناملها...

ابتسمت بشحوب وهي تتأمل ملامحه المرهقة...

منذ سقطت ضحية هذا المرض وهي تجده هكذا كلما أفاقت من نومها ...

يحتضن أناملها بكفه وكأنه يخشي أن تضيع منه...

وصلها صوته الحنون يغازل أذنها بعاطفته:

_كيف حالكِ الآن؟!


اتسعت ابتسامتها وهي تومئ برأسها هامسة:

_الحمد لله.

قالتها وهي تحاول النهوض لكنه وضع كفه الحر علي كتفها هامساً:

_ابقيْ مستريحة!!


دارت بعينيها في الغرفة وهي تهمس بدهشة:

_لماذا أنا هنا؟!


ربت علي وجنتها برفق وهو يملأ عينيه من ملامحها هامساً بحنان:

_حتي أستطيع العناية بكِ ...

خفق قلبها بقوة لعبارته...

مضي وقت طويل...طويل جداً...

منذ شعرت بأن أحداً ما يهتم لأجلها...

وكم تحتاج هذا الشعور الآن...

وبالتحديد منه هو...

هو الذي تشعر أنها ...!!!!

هزت رأسها تحاول نفض هذه الفكرة عنها....

ثم همست بخجل وهي تسبل جفنيها بعيداً عن عينيه المتفحصتين:

_هل كنت مريضة إلي هذا الحد؟!!


عاد يربت علي وجنتها ثم أغمض عينيه ليقول بصوت متهدج:

_الحمد لله!


اتسعت عيناها بدهشة للحظة وهي تنتبه لنبرة صوته المتهدجة...

ثم توجهت ببصرها لكفه الذي يحتضن كفها بقوة...

ما باله جسار؟!!!

لماذا تشعر أنه تغير معها؟!!!

لا...ليس الأمر مجرد شفقة...

شئ ما في نظرة عينيه قد تغير...

شئ ما يتواري خلف ستار حنانه المعهود...

شئ يشبه ال....!!!!


عادت تهز رأسها وهي تؤنب نفسها بقوة...

حمقاء يا آسيا...

حمقاء كعادتك!!!

جسار لن يراكِ سوي مجرد واجب ثقيل...

وبقاؤكِ هنا لن يزيد عن كونه صنيع معروف...

بل...من يدري...؟!!!

ربما عندما تتعافين من مرضك وينتبه أنكِ قد دخلتِ غرفة سمية يعود لسابق عهده من القسوة معك...


قطعت أفكارها عندما سمعت صوت طرقات خافتة علي الباب...

بعدها دخل العم كساب مبتسماً يقول لها بأبوته الصادقة:

_إذن فقد أفاقت الغالية......حمداً لله علي سلامتكِ يا ابنتي.


ابتسمت آسيا في خجل وهي تحاول سحب كفها من كف جسار حياءً من عمه...

لكنه تشبث به وهو يومئ لها برأسه في إشارة موحية...

نظرت إليه في حيرة وهي عاجزة عن الفهم...

بينما نقل العم كساب بصره بينهما في رضا...

وهو يشعر بشرارات جديدة من المشاعر بينهما...

ثم قال لآسيا بمرح:

_لقد كتب لكِ عمر جديد كما قال الطبيب...استغليه إذن في بداية جديدة...وكفاكِ خوفاً وحزناً..


التفتت إليه آسيا تتفكر في كلماته...

إنها تشعر فعلاً أنها قد كتب لها عمر جديد...

شئ ما بنفسها قد تغير فجأة ولا تدري ما السبب...

لم تعد تشعر بنفس الحزن والألم الذي كان يخنق روحها قبل سقوطها تحت سطوة مرضها هذا...

بل -للعجب-تشعر برغبة هائلة في الحياة...

في المواجهة...

في الدفاع عن حقوقها ضد ظلم أي أحد...!!!!!


ما الذي غيرها هكذا؟!!!

لا تدري...

هل هو شعورها بأنها كان من الممكن أن تموت وأن الحياة أهدتها فرصة أخري لتغير مسارها...؟!!!

أم أنها ملت من طول ضعفها وانكسارها أمام صفعات القدر...؟!!!

أم هو إحساسها -الجديد-بالأمان مع جسار...

جسار الذي تشعر أنه سيكون سندها حقاً في كل معاركها القادمة؟!!!

أم هو قلبها الذي عاد ينبض بحب جديد يختلف تماماً عن حبها القديم لياسين...

حب يستحق أن تقوم من عثرتها لتدافع عنه؟!!!!


لا تعرف...

هي حقاً لا تعرف...

لكنها موقنة فقط من أنها تغيرت...

ستكون (آسيا)  جديدة أقوي كثيراً مما كانت...!!!!


لهذا ابتسمت ابتسامة جديدة عليها...

مزجت قوتها برقتها وهي تهمس بصلابة:

_معك حق يا عمي.

ثم التفتت لجسار لتهمس بنفس النبرة:

_يبدو أن فرسك الذي أرهقك ترويض ضعفها ستبدأ في الاستجابة ....

================================================================

وقف قاسم النجدي أمام صور أبنائه يتأملها بحزن قصم ظهره...

لقد تقطعت خيوط العائلة وانفلت الزمام من يده...

لم يعد يستطيع السيطرة علي الأمور التي خرجت من يده....

آسيا التي هربت بفعلتها ومن يدري ما الذي فعله بها جسار القاصم...

جوري التي آذاها عمار الذي اختاره لها بنفسه فكان بئس الاختيار...

وأخيراً ساري التي كادت تضيع وينتهك شرفها بسبب عبث حذيفة...!!!


لقد ظن أنه يمنحهن السعادة والأمان جوار أبناء عمومتهن...

لكنه الآن يشعر أنه -ربما-كان مخطئاً!!!

وشعوره بالذنب يتخلل أعماقه رغماً عنه!!!

ولعل هذا ما دفعه لإعادة حمزة من غربته...

ليفصل في شأن آسيا...

لو كان قد عالج الأمر بعقليته القديمة فربما كان ذهب إلي جسار هذا بقوة من عائلته وأشعلها حرباً جديدة بين العائلتين...

لكنه أمسك لجام غضبه هذه المرة خوفاً علي آسيا....

لعل حمزة يتمكن بفكره -المختلف-من حل الأمر بصورة أخري تضمن سلامتها...


قطعت أفكاره عندما سمع طرقات خافتة علي باب غرفته..

فتح الباب ليبدو وجه راجية تقول له بخفوت:

_لقد عاد حذيفة من المشفي...هو الآن بغرفته...


أومأ برأسه إيجاباً...

ثم ذهب إلي غرفة حذيفة بخطوات بطيئة...

جلس علي كرسيه أمام فراشه...

فرمقه حذيفة بنظرات مترقبة...

قبل أن يقول بألم:

_صدقني يا جدي أنا نادم حقاً علي كل الماضي...أنا تغيرت...ساري جعلتني أتغير...أنا أعرف أنها كادت تضيع بسببي...لكنني...


قاطعه قاسم بإشارة من كفه وهو يتفحص ملامحه بدقة...

هو يعرف أحفاده جيداً...

يحفظ تعابير وجوههم كخطوط كفه...

وهذا الرجل أمامه ليس كاذباً ولا مدّعياً...

بل إنه صادق!!!

نعم...حذيفة نادم حقاً...

بل إنه يكاد يقسم أنه تغير...

يبدو أنه كان يحتاج ل"قرصة أذنٍ" كهذه كي يفيق من غفلته....

كي يدرك قيمة جوهرة ك"ساري" لن يجد مثلها كثيراً...

لهذا سيمنحه فرصة جديدة معها...

هذا الألم الممزوج بندمه في عينيه يستحق أن يمنحه محاولة جديدة!!!!


طرقات رقيقة علي الباب جعلته يلتفت...

ثم يقول بصوته المسيطر والذي شابه الآن مسحة من حنان:

_تعالي يا ساري.


التفت حذيفة نحوها وهو يكاد يقوم من مكانه ليضمها لصدره...

فلا يسمح لها بالإفلات أبداً...

لو يعوضها بكل ما تطلب وما لا تطلب عن قسوة اللحظات التي عاشتها بسببه...

لو يظل يصرخ باعتذاراته وتوسلاته أن تسامحه...

لو يقسم لها بأغلظ الأيمان أنه تغير...

فقط لأجلها...

نعم...هي صنعت المعجزة...

هي جلت الصدأ عن معدنه...

وغسلت الوحل عن قلبه...

ليولد في حبها من جديد...

طاهراً نقياً كما يليق بها!!!


لكنها حتي لم تنظر إليه وهي تتوجه نحو جدها فتقبل يده كما العادة...

ثم تقول بحسم :

_أرجوك يا جدي...لي لديك مسألةٌ فلا تردني.

أومأ قاسم برأسه وهو يتأمل ملامحها بترقب...

فأخذت نفساً عميقاً ثم قالت بصلابة تدعيها ببراعة كعادتها:

_لا أريد هذه الزيجة....هذا رجل لا أئتمنه علي نفسي.


أغمض حذيفة عينيه بألم وعبارتها تخترق صدره كطلقة غادرة....

لن يكترث لجرحها لكرامته بهذه العبارة...

لكن ماذا عساه يفعل بقلبه الذي تفتت من قسوتها...؟!!!

لا تأتمنه علي نفسها؟!!!!

هل هذا حقاً ما تشعر به؟!!!!

لكن لماذا يتعجب وهي التي طالما أشعرته بهذا...

ساري تحبه لكنها لا تحترمه...

هو هينٌ في عينيها...

تراه مجرد رجل ضعيف...

هذه ليست أول إهاناتها...

لكنه سيجعلها الأخيرة!!!


أفاق من بركان أفكاره علي صوت قاسم النجدي الذي قال بجفاء:

_ماذا تعنين بهذا؟!!! ألم يكن هذا اختيارك؟!!! أنتِ الوحيدة التي منحتها حق الاختيار والآن تتراجعين ؟!!!


ضغطت علي شفتيها تقاوم رغبتها العارمة في البكاء ...

لا تصدق أنها هي تقف الآن في وجه النجدي الكبير تعارضه في زواجها من حذيفة...

حب قلبها الذي لن يعرف قبله ولا بعده...

لكن ما حيلتها...

لقد نفد صبرها كله...

لم تعد تحتمل زلاته وخطايا ماضيه....

لقد امتلأ الكأس عن آخره حتي فاض ليغرق روحها بطوفانٍ من الألم...

لهذا عادت تقول بتماسك مصطنع:

_أخطأتُ الاختيار يا جدي...كدتُ أضيع بسببه...فهل ترضاها لي؟!!


كان حذيفة لازال مغمضاً عينيه وكلماتها تجلده جلداً...

هل هذه التي كانت تقول أنها تراهن نفسها عليه وستربح رهانها؟!!!

هل هذه التي كانت تزعم أنها أحبته قبل أن تعرف حتي ما هو الحب؟!!!

هل هذه التي كانت تقول أنها أبداً ستكون له وليس لأي رجل آخر؟!!!

هل هذه حقاً ساري؟!!!!!


وصله صوت جده يهتف بحدة:

_انزعي من رأسكِ هذا الكلام الفارغ...حذيفة تغير...لن نجلده بخطايا ماضيه طوال عمره...هو يستحق فرصة أخيرة...


انتحبت ساري بقوة وهي تهتف برجاء:

_لا أريده يا جدي...أرجوك لا تجبرني...

قام النجدي الكبير من مكانه ليهتف بسخط:

_أنا الذي كنت أظنكِ أكثر أخواتكِ عقلاً...ماذا جري لكنّ يا بنات فريدة؟!!!


_ساري محقة يا جدي!

هتف بها حذيفة بصوته المنهك...

فالتفت إليه قاسم النجدي بغضب...فيما أطرقت ساري برأسها تخفي دموعها....

لكن حذيفة نظر إليها ثم قال بحزم :

_أنتِ طالق يا ساري!!


أغمضت عينيها بقوة لا تصدق أنه نطقها هكذا ببساطة....

لكن...ألم تكن هذه رغبتها؟!!!

ألم يكن هذا قرارها؟!!!

حسناً...هي ليست نادمة...

طالما استمعت لصوت قلبها معه فخذلها...

والآن حان الوقت لتستمع لصوت عقلها...

لعله لا يخذلها هو الآخر!!!!


بينما كان قاسم النجدي جوارها ينتفض غضباً وهو يهتف بحدة :

_هل تتحداني يا ولد؟!!! كيف تطلقها دون أن ترجع إليّ؟!!!! هل جننت؟!!! 


أطرق حذيفة برأسه وهو يقول بصوت ذبيح:

_حاشا لله يا جدي...لكنها حياتي أنا...وأنا أيضاً لم أعد...أريدها!!

تهدج صوته في كلمته الأخيرة وكأنه ينطقها خارج سلطان قلبه...

وقد كان هذا صحيحاً...

الآن هو يسبح ضد تيار قلبه الذي يعشقها...

وعقله الذي لم يتمنَ امرأة كما تمناها...

لكنه يفعلها ليس فقط لأجل كبريائه الذي طالما حذرها من أن تخدشه....

ولكن لأجلها هي أيضاً...

هي التي لا تستحق أن تعيش تجربة أخري كالتي عاشتها معه...

تقول أنها لم تعد تأتمنه علي نفسها...

والواقع أنها لم يعد يأتمن نفسه عليها أيضاً...!!!


هتف قاسم بوعيد صارم وهو يلوح بسبابته في وجهه:

_لم يجرؤ أحد قبلك علي مخالفة أمري علانية كما فعلت أنت...لهذا سيكون عقابك صارماً...عندما تستعيد عافيتك ستخرج من هذا البيت مع شقيقك البائس ولن تعود إليه أبداً ما دمتُ أنا علي قيد الحياة...وسأحرمك من كل قرش من مالي....ستبدأ من الصفر....هل تفهم؟!!!


قالها ثم أزاح ساري من طريقه بعنف...

فنظرت إلي ظهره المنصرف بذهول...

حذيفة تحدي قاسم النجدي علانية لأول مرة في تاريخ العائلة...

وخسر كل ما امتلكه يوماً...

قاسم النجدي سيطرده من بيته وتجارته...

حذيفة سيفقد كل شئ!!!


التفتت نحو وجهه الذي كان مطرقاً لتهمس بصدمة:

_لماذا فعلت هذا؟!

رفع وجهه لسقف الغرفة للحظات...

ثم قال ببرود يخفي جرحه:

_لقد حررتكِ من لعنة عمركِ كما كنتِ تقولين عني...الآن أرضيتُ كبرياءكِ وكبريائي معاً...غداً أغادر هذا المنزل للأبد ...

ثم التفت إليها ليقول بصوت خانه ليخرج مهزوزاً متألماً:

_غداً تصلكِ ورقة طلاقكِ يا ابنة عمي!!

======================================

كانت جالسة علي فراشها تعقد ساعديها علي صدرها وهي تشعر بالاستسلام...

لكنه ليس استسلام ضعف...

بل استسلام من علم أنه لا مفر من المواجهة ليسترد حقه المسلوب....

فإما عاد به ...وإما هلك دونه!!!!

فتح الباب فابتسمت برقة عندما تقدم نحوها ليشبك أنامله بأناملها كعادته مؤخراً قبل أن يقبل جبينها هامساً بحنان طاغٍ:

_كيف حالكِ الآن؟!!!


أسبلت جفنيها في حياء واضح وهي تومئ برأسها في إشارة مقتضبة....

فابتسم وهو يتناول صينية الطعام الموضوعة جوارها علي المائدة ليسألها برفق:

_لماذا لم تتناولي طعامكِ حتي الآن؟!!


مطت شفتيها بدلال لا تتكلفه وهي تهمس برقتها الفطرية:

_لا شهية لديّ يا جسار...أرجوك.

رمقها بنظرة عاتبة وهو يهمّ بإطعامها بنفسه....

لكنها أمسكت كفه تمنعه وهي تقول بقوة غريبة علي طبعها:


_لا يا جسار...من الآن فصاعداً أريد الاعتماد علي نفسي في كل شئ...سأكون قوية بما يكفي لتدبر أموري كلها...

ارتفع حاجباه في دهشة للحظة من التغير الذي استشعر أنه قد طرأ عليها...

لتمتزج بعدها بإعجابه الواضح في عينيه ....

ثم رفع كفها الممسك بكفه يقبله هامساً بإعجاب:

_رغم سعادتي بما تقولين....لكن اعتمادك علي نفسك شئ...وتدليلي لكِ شئٌ آخر...


ارتعش جسدها كله بتأثير قبلته لتحمر وجنتاها بشكل زادها فتنة...

أطرقت برأسها وهي تشعر باضطراب لذيذ...

فاتسعت ابتسامته وهو يقول لها بمرح لم يعرفه منذ زمن طويل:

_هيا تناولي طعامكِ بنفسكِ كما زعمتِ وإلا سأكرر عرضي السخي بإطعامك...


بدأت في تناول طعامها بخجل تحت نظراته التي كانت تحتضن ملامحها كلها...

لا يدري متي ولا كيف تعلق بها كل هذا القدر...

ولا يعرف مسمي لشعوره هذا نحوها...

لكن ما هو واثق به تماماً أنه كاد يجن عندما أحس أنه قد يفقدها...

وقد عادت إليه روحه حقاً عندما بدأت تستعيد عافيتها...


أنهت طعامها لتتناول دواءها بنفسها ...

ثم غمغمت بشرود:

_مللتُ دور المريضة هذا....اشتقت لممارسة الطب...

ضغط علي كفها بين راحتيه وهو يقول بحزم:

_عندما تنتهي هذه الأزمة وأطمئن عليكِ ....أعدكِ أن أكون معكِ علي هذا الطريق حتي تحققي حلمكِ كاملاً...

ابتسمت في امتنان ...

فاقترب بوجهه من وجهها يهمس بثقة :

_آسيا الطبيبة ستكون أشهر من نارٍ علي علم...

هزت رأسها وهي تسأله بشك يختلط بالرجاء:

_هل تظن هذا حقاً؟!!!


ربت علي رأسها بحنان ثم نظر لعينيها هامساً بيقين:

_ومن أكثر قدرة علي مداواة الألم ممن عاشه ؟!!!لقد تعذبتِ كثيراً يا صغيرتي...لكن لعل هذا يصقل قلبكِ أكثر ليجعلكِ أكثر رحمة ...


أومأت برأسها إيجاباً ولازالت تحتجز عينيه بنظرات امتنانها....

ثم شردت ببصرها لتهمس بعاطفة:

_افتقدت ياسين!


عقد حاجبيه بغضب وقد تشنجت عضلة فكه...

ألازالت تفكر فيه...؟!!!

وكيف تجرؤ علي قولها هكذا ببساطة أمامه دون اعتبار لأنه الآن زوجها؟!!!

حتي لو كان زواجاً علي الورق...

لكن يحق له أن تحترمه علي الأقل...


التفتت إليه من شرودها ليروعها الغضب البادي علي وجهه...

فهتفت بجزع:

_ما الأمر يا جسار؟!!! ياسين بخير؟!!! أنا لم أرهُ منذ أفقت من مرضي...


اتسعت عيناه في إدراك للحظة وهو يشعر ببعض الحرج...

لقد كانت تقصد ياسين الصغير وليس ابن عمها هذا...

يالله!!!!

ألم تجد الحياة لابن عمها هذا سوي اسم كاسم ابنه...؟!!!

فيجد نفسه في كل مرة تنطق به يحترق غيرة ...

غيرة؟!!!

هل اعترف أخيراً أنها كذلك؟!!!


قطعت أفكاره عندما نفضت غطاءها لتقوم واقفة وهي تهتف بقلق:

_سأذهب لأطمئن عليه بنفسي.

التفت إليها من شروده ليجدها تضع كفها علي رأسها وهي تترنح مكانها...

فقام بدوره ليضمها إليه قائلاً بحنان:

_لا تخافي يا صغيرتي ..ياسين بخير...

رفعت رأسها إليه في تشكك وهي تهمس برجاء:

_حقاً؟!!!لماذا إذن كنت غاضباً هكذا عندما سألتك عنه؟!!


ضم رأسها إلي صدره  ليهمس جوار أذنها:

_كفاكِ قلقاً يا صغيرتي...أما اكتفيتِ من الترقب والخوف؟!!!

دفنت وجهها في صدره للحظات تتنعم بهذا الحنان الذي افتقدته منذ زمن بعيد...

هذا رجلٌ حضنه يحتكر حنان العالم وأمانه معاً...!!!

رفعت رأسها إليه وهي تهمس بصوتها العذب:

_لا تتصور كيف أشعر بالأمان عندما تدعوني "صغيرتي " هكذا...لم ينادِني بها أحد طوال عمري...أبي توفي وأنا صغيرة...وجدي كان يعتقد دوماً أن التدليل سيفسدنا...


خفق قلبه بقوة وهو يشعر بها الآن شعوراً مختلفاً...

بعيداً عن كونها أنثي فاتنة...أو امرأة حنون...

نعم...الآن يراها مجرد طفلة يتيمة فقدت الحنان عمرها كله...

وتشتاقه أرضها الظمأي إليه كي تنبت زروع الأمل بروحها من جديد...

ما أحوجها إليه...

وما أحوجه إليها!!!!

قبل جبينها بعمق ثم همس أمام عينيها:

_من الآن فصاعداً لن أدعوكِ إلا هكذا!!


اتسعت ابتسامتها مع حمرة خفيفة كست وجنتيها وهي تشعر أنها لم تكن يوماً أقرب إليه من الآن...

ليس فقط لجسدها الذي يختبئ بين ذراعيه...

ولكن لقلبها الذي تشعر أنه الآن يجاور قلبه...

شعور فريد بأنها صارت تحمل مكاناً خاصاً لديه...

رفعت عينيها إلي عينيه اللتين طوقتا ملامحها بحنان ثم همست بشرود:

_من كان يقول أن جسار القاصم الذي عشت عمري كله أخشي مجرد اسمه...سيكون يوماً هو أمان دنياي كلها؟!!


ارتفع حاجباه في تأثر للحظة...

ثم ضمها إليه أكثر وهو يربت علي ظهرها قائلاً :

_لا تخافي يا صغيرتي...جسار سيكون دوماً معك...حتي تصلي لبر الأمان...هذا هو وعدي لكِ!


====================================================================

_غداً تصلكِ ورقة طلاقكِ يا ابنة عمي!!


ظلت عبارته تدوي في أذنها وهي جالسة في غرفتها التي لا تدري كيف حملتها قدماها إليها...

لقد انتهي الأمر هكذا بسرعة لم تتخيلها...

الآن لم يعد حذيفة لها...

ولم تعد له!!!

لقد منحها حريتها من سجنه ....

لكنه دفع ثمن هذا غالياً!!!


هزت رأسها بصدمة وهي تسترجع كل ذكرياتها معه...

دميته الحبيبة...ولعبه معها صغاراً علي السطح...

لقطات سريعة من تاريخ طفولتهما المشترك...

كيف كان دوماً يغضبها ثم لا يقوي علي خصامها فيعود ويسترضيها...

كيف كبر وكبرت معه معاناتها بسببه...

ليبتعد عن الصورة التي رسمتها له...

ثم يعود ليقتحم حياتها بقناع جديد من سيطرته وقسوته...

حتي شعرت أنه حقاً تغير...

ابتسمت وسط دموعها وهي تتذكر تصريحه لها بحبه أول مرة...

قبلاته التي زرعت الورد علي بشرة وجهها وهو يبثها عاطفته...

كلمة "حبيبتي" التي كانت تذيب روحها عندما ينطقها...

ثوبه الوردي...

وحديثه الطويل معها في تلك الليلة في ذاك المطعم علي ضوء الشموع...

ضمته الحنون لها وهي تجلس جواره علي الأرجوحة....

وأخيراً جملته القاتلة التي جعلها القدر آخر جملة لهما قبل ذلك الحادث في تلك الليلة...

عندما ضمها إليه بقوة حتي تأوهت ثم قال:

_هذا لتعلمي أن الحضن وطن...لكنه يؤلمنا لو ضغط علينا أكثر!!


هل ضغطت عليه هي؟!!!

أم أن الظروف هي التي ضغطت عليهما معاً؟!!!!

هل ظلمته وجرحت كبرياءه كما يدعي؟!!!

أم أنها ذبحت نفسها قبل أن تذبحه؟!!!


اقتربت منها فريدة ببطء ثم وضعت كفها علي كتفها...

فارتمت في حضنها وهي تجهش بالبكاء...

ضمتها فريدة بحنان ...

ثم ربتت علي ظهرها وهي تهمس في عجز:

_تسرعتِ يا ساري هذه المرة...لم يكن هذا ظني في عقلك...


زاد نحيبها بين ذراعيها وهي تهتف بصوتها الباكي:

_لا تعاتبيني يا أمي أرجوكِ...كفاني ما أنا فيه!!!


تنهدت فريدة في حرارة وهي تشعر بجروح قلبها تزداد يوماً بعد يوم...

آسيا التي لا تعرف حتي الآن ماذا سيكون مصيرها...

تكاد ترجوهم أن يعيدوها لحضنها بأي طريقة...

لكن ما يطمئنها -نوعاً-أن حمزة بعقله الكبير سينقذ الوضع دون عنف!!!

وجويرية التي طلقها عمار حسب أوامر النجدي الكبير...

والآن ساري التي سعت لطلاقها بنفسها لتحدث هذه الفتنة في العائلة...

ويقف حذيفة في وجه قاسم النجدي هكذا علانية دون خوف!!!!


شعرت بقلبها يكاد يتمزق من هول ما يحمله من هموم...

فرفعت رأسها إلي السماء وهي تهمس بخشوع كعادتها:

_بناتي يا رب!!!

================================================================


خرجت جويرية من الشرفة في شقة جدها حيث كانت واقفة مع حمزة....

 لتلتقي عيناها بعيني عمار المشتعلتين بغضب....

ازدردت ريقها ببطء فاقترب منها هامساً بصوت جمدها رعباً:

_الحقي بي في شقتنا حالاً ...


أومأت برأسها إيجاباً فرمقها بنظرة حادة قبل أن يغادر شقة جده متجهاً لشقتهما...

تلفتت حولها في حذر تطمئن أن لا أحد يراها ثم تبعته إلي شقتهما حيث فتح لها الباب ليسحبها من ذراعها بقوة هاتفاً بسخط:

_ماذا كنتِ تفعلين مع حمزة في الشرفة؟!!!


تأوهت بضعف ثم اقتربت منه لتضع كفها علي صدره هامسة بخوف:

_أرجوك يا عمار اهدأ...أنت تكاد تقتلني رعباً عندما تحدثني هكذا...

ضم قبضته بقوة محاولاً تمالك غضبه وهو يرفع رأسه لأعلي للحظات...

ثم عاد ينظر لوجهها الذي اصطبغ بخوفها فزفر بقوة ...

ليضمها بعدها لصدره قائلاً بغضب مكتوم:

_اتكلمي.


ابتسمت رغم خوفها وهي تثبت عينيها في عينيه هامسة برقة:

_هكذا دوماً أجد أماني في حضنك يا عمار...مهما كنت غاضباً مني فلن تؤذيني مادمت بين ذراعيك...

ذاب غضبه كله بلحظة وهو يشعر بعينيها حبيبتيه تروضان كل وحوش غلظته...

فألصق وجنته بوجنتها وهو يهمس بصدق:

_حتي لو لم تكوني بين ذراعيّ يا جوريتي...لا تظني أني قد أؤذيكِ يوماً...


مدت أناملها تداعب خصلات شعره من الخلف لتلصق وجهه بوجهها أكثر ....

ثم همست بحب:

_أحبك عندما تدعوني "جوريتي"....أشعر ساعتها أنني لك ...ملكك...وكم أحب أن أكون ملكك...

أغمض عينيه بقوة وهو يبتعد بوجهه عنها يحاول السيطرة علي مشاعره في هذه اللحظة...

فتطاولت علي أطراف أصابعها لتطبع قبلة علي وجنته...

لكنه تراجع برأسه ثم وضع سبابته علي شفتيها هامساً بحزم:

_أخبريني أولاً ماذا كنتِ تفعلين مع حمزة؟!!!


عضت علي شفتيها بارتباك ثم همست بتوتر:

_كنت أريد أن أعرف ماذا سيفعل بشأن آسيا.....كما أنني كنت أطلب منه أن يحدث جدي بشأننا...

عقد حاجبيه بغضب فأردفت باضطراب:

_لقد تأزمت الأمور كثيراً بعد أمر حذيفة وساري...جدي لم يحتمل صدمة أن يعارضه حذيفة...ظل يردد أن أحفاده يظنونه قد هرم ولم يعودوا طوع أمره حتي ارتفع ضغط دمه وسقط مغشياً عليه....لن يستطيع أحد أن يعارضه بعد ذلك خوفاً علي صحته...لهذا ذهبت إلي حمزة...أنا أعلم أن جدي يحمل له معزة خاصة وطلبت منه أن يتحدث معه بشأننا ....


هتف في وجهها بحدة:

_ماذا؟!!!هل فعلتِ هذا حقاً؟!!! هل عدمتِ زوجاً يدافع عنكِ حتي تذهبي لغيره كي يحل لك مشكلتك؟!!!


ارتجف جسدها بين ذراعيه وهي تهمس بندم:

_لم أفكر في الأمر هكذا صدقني...لقد أردت فقط أن تمر الأمور بسلام دون مشاكل...العائلة لا تحتمل المزيد من الأحزان...

أشاح بوجهه في غضب ...

فدفنت وجهها في صدره وهي تهمس بألم:

_سامحني يا عمار...أنا لم أقصد التقليل من شأنك...لكنني لا أريد أن يعاقبك جدي كحذيفة ويحرمك من كل شئ...

رفع ذقنها إليه ليقول بانفعال:

_لا أريد شيئاً إلا أنتِ...لا تعنيني كل أموال النجدي...

أومأت برأسها وهي تهمس بحزن:

_وأنا أيضاً...لكن المسألة لم تعد أموالاً فحسب...إنها صحة جدي أيضاً...لن أسامح نفسي لو كنت سبباً في أن يمسه سوء.


أطرق برأسه وقد هزمه منطقها...

ثم رفعه ليقول لها بيأس:

_جدي طلب مني توثيق الطلاق غداً مع حذيفة...

شهقت بعنف وهي تضع كفها علي شفتيها...

فربت علي وجنتها قائلاً برفق:

_لا تخافي...سأسافر غداً باكراً كي أتهرب من أمر توثيق الطلاق هذا ....سأدعي أنه سفر طارئ لأجل العمل...شهر علي الأكثر...وأعود بعدها لأفاتح جدي في الأمر بعدما يكون قد هدأ غضبه نوعاً...

أغمضت عينيها بألم وهي تهمس:

_شهر يا عمار؟!!! شهر بأكمله بدونك؟!!!


ضمها إليه بقوة وهو يدفن وجهه في تجويف رقبتها هامساً:

_لا تزيدي عذابي يا جوري...أنتِ تعلمين أنه لن يكون يسيراً عليّ.


دمعت عيناها وهي تضمه بكلي ذراعيها...

إنها الآن تدفع ثمن غبائها وتعنتها...

لو لم تكن أقدمت علي فعلتها الشنيعة بالهرب ما كان كل هذا حدث...

لكن من كان يخبرها وقتها أن عمار،سيكون يوماً هو نبض قلبها وحياته؟!!!!


أبعدها عنه أخيراً ليرفع وجهها إليه فيصدمه منظر الدموع في عينيها...

تنهد في حرارة ثم أحاط وجهها بكفيه ليقبل عينيها هامساً:

_لا تبكي يا جوري.....سأهاتفكِ كل يوم ...بل كل ساعة...لن أجعلكِ تشعري بغيابي أبداً...لكن لا تبكي...

أومأت برأسها إيجاباً وهي تحاول كتم دموعها...

فوضع سبابته علي شفتيها هامساً بسيطرة رجولية:

_والآن موعد هديتك المؤجلة!!


ابتسمت في خجل ثم تطاولت علي أطراف أصابعها من جديد لتقبل وجنته بعمق...

فضمها إليه أكثر ليرد لها هديتها أضعافاً مضاعفة....

================================================================

_ماذا تقول يا رياض؟!!!

هتفت بها صفية في سخط عندما علمت عن طلب حمزة الغريب لخطبة مارية....

لقد كانت تهيئ نفسها لأن تكون زوجة ابنها...

بل إنها بالفعل كانت تعتبرها كذلك!!!!

ولعل هذا أكثر ما كان يصبرها علي فراق العزيز زياد...

والآن تشعر أن كل آمالها قد ذهبت أدراج الرياح!!!!


قام رياض من علي كرسيه ليربت علي كتفها قائلاً بتعقل:

_مارية لم توافق بعد...صحيح أنني شعرت بميلها نحو حمزة هذا...لكنني لم أمنحه كلمة أخيرة...

تشبثت بكفه علي كتفها وهي تقول برجاء:

_لا تفعلها يا رياض...لن نجد عروساً لزياد أفضل من مارية...المسكين سافر بعد صدمته في تلك الفتاة التي كان يريد الهرب معها دون علم أهلها...ومن يدري ما الذي حدث بينهما كي تورثه كل هذا الحزن...زياد يستحق أن يفرح ونفرح معه....


عاد رياض يربت علي كتفها وهو يقول باستسلام:

_الكلمة الآن لمارية...ليس في أيدينا شئ...سأنام الآن حتي لا أتأخر علي عملي صباحاً...


قالها ثم توجه نحو فراشهما لينام تاركاً إياها غارقة في قلقها وشرودها....

وخارج غرفتهما استمعت مروة مصادفة لحديثهما....

فابتسمت بعبثها المعتاد...

ثم اندفعت كالصاروخ نحو مارية في غرفتهما تحتضنها قائلة بمرح صاخب:

_خاطبان في يوم واحد يا ست الحسن والجمال!!!! من حمزة هذا الذي يشاغلكِ أيتها الشقراء؟!!!


قرصتها مارية في وجنتها ثم قالت بخجل لتصرفها عن الحديث عن حمزة:

_من هذا الخاطب الثاني؟!!!

هزت مروة رأسها بمرح لتقول بنبرة ممطوطة كمن يقول سراً خطيراً:

_الخاطب الثاني منتدبٌ في بعثة الآن....يقولون أنه ابن عمك!!


شهقت مارية بعنف وهي تضع كفها علي شفتيها هاتفة بالانجليزية:

_أه!! يا إلهي!! زياد يريد الزواج مني؟!!!!


ضحكت مروة بمرح وهي تصفق بكفيها في جذل لتقول:

_أحبكِ عندما تنفعلين فتعودين لأصلكِ أيتها الأجنبية!!!


خبطتها مارية علي كتفها ثم قالت بعتاب حقيقي:

_هذه الأشياء ليست للمزاح يا مروة...من أين جئتِ بحديثكِ هذا عن رغبة زياد في الزواج مني؟!!!

هزت مروة كتفيها ثم حكت لها تفاصيل ما دار بين رياض وصفية منذ قليل...

فزفرت مارية في ضيق وهي تقول لها بأسي:

_لم أكن أريد أن يسبب حبي لحمزة ضيقاً لأي أحد!!!


التمعت عينا مروة وهي تسألها بخبث:

_حبكِ لحمزة؟!!! ...ها قد اعترفتِ بالسر الذي كان يؤرقك طيلة هذه الأيام يا شقراء!!!


ابتسمت مارية رغماً عنها...

ثم احتضنت مروة وهي تتوجه معها نحو فراشهما...

لتروي لها قصتها مع حمزة منذ البداية...

لا تدري لماذا فعلتها...

لكنها كانت تحتاج لهذا الآن....

إنها تحتاج الآن  لأن تسترجع كل ذكري لها مع حمزة ...

لعلها تهدئ من قلقها نحو الغد الذي لا تعرف -بعد-كيف سيكون...

قصة الثأر هذه تكاد تقتلها رعباً...

وابنة عمه المفقودة التي يريدون تزويجها له تميتها غيرة....

وبينهما يكاد قلبها -العاشق-يميتها اشتياقاً....

اشتياق لهذا الرجل الذي يتغلغل حبه داخل مسام روحها يوماً بعد يوم....

وساعة بعد ساعة...

خاصة بعدما اعترف لها الليلة بحبه...

لتشعر أنها فجأة قد صارت ملكة هذا الكون...

وكيف لا...

وحمزة النجدي نفسه قد جاءها بقدميه يطلب يدها مصرحاً بحبٍ طالما حلمت به!!!!!


وفي غرفتها كانت صفية تنظر لجسد رياض الذي انتظمت أنفاسه في شرود...

وهي تشعر بضيق حقيقي...

لقد أحبت مارية حقاً...

وتمنتها عروساً لابنها من كل قلبها...

والآن يختفي كل هذا في غمضة عين!!!


جاءها خاطر مفاجئ جعلها تقوم من مكانها لتخرج بعيداً عن رياض...

لا....لم ينتهِ الأمر بعد....

لازال الأوان سانحاً للتغيير....

تناولت هاتفها لتتصل برقم دوليّ هو كل شاغلها الآن...

حتي وصلها صوت زياد الحبيب يهتف بلهفة:

_كيف حالكِ يا أمي؟!!!


صبغت صوتها بنبرة منهكة تعرف جيداً تأثيرها علي ابنها الوحيد....

ثم قالت بضعف مصطنع:

_مريضة للغاية يا زياد...عد في أول طائرة إلي هنا.!!!

===============================================================

طرق حمزة علي باب غرفة جده حتي سمع إذنه بالدخول....

توجه نحوه بسرعة ليجلس جواره علي طرف الفراش يرمقه بنظرات آسفة....

ثم تناول كفه مقبلاً له باحترام يمتزج بعاطفته....

عاطفة حارة حقيقية....

حمزة كان أكثر أحفاد النجدي حباً له...

ربما لأنه كان كذلك أكثر من فَهِمَه!!!!

ولهذا كان النجدي الكبير يكنّ له معزة خاصة....

وربما أيضاً لأنه قد حرم منه لسنوات طويلة...

هذا بالطبع بعيداً عن خوفه الدائم عليه بسبب قصة الثأر هذه!!!!


لهذا نظر إليه قاسم نظرة طويلة حملت النذر اليسير من الضعف الذي يشعر به الآن ثم قال ببطء:

_اصدقني القول يا حمزة...هل ضيعتُ أنا الأمانة؟!!


ربت حمزة علي كفه وهو يقول بحنانه المختلط بحزمه:

_أنت فعلتَ ما رأيتَه صواباً يا جدي...لكنك أغفلت جانباً هاماً...

قالها وهو يرمقه بنظرة استئذان وكأنه يخشي ما سيقوله بعدها...

فأومأ له قاسم برأسه في إشارة لأن يكمل حديثه...

فتنهد مردفاً:

_أغفلتَ الإرادة الحرة لكلٍ منا في أن يختار ويتحمل نتيجة اختياره...أنتَ أردتَ أن تمنحنا الأمان في كنف العائلة...أن تعطي لكل منا طوق النجاة الذي ينقذه من الغرق في هذه الحياة...لكن البعض نظر لطوق نجاته علي أنه حبل إعدامه...مجرد شعوره بالإجبار جعله كارهاً لحياته....لهذا حدث ما حدث...


أغمض قاسم عينيه بقوة فأردف حمزة بشرود:

_آسيا كرهت فرضي عليها كزوج فهربت كي تفر من أسرها...وجوري كرهت قيدها كذلك فسجنت،نفسها داخل فكرة واحدة...عمار الشبح المخيف...فكرة جعلتها تسئ إليه ويسئ إليها حتي انتهي بهما الأمر هكذا...وأخيراً ساري...ساري هي الأخري محبوسة في فكرة أنها مرغمةٌ علي الزواج من حذيفة...ورغم أنكم تقولون أنه تغير من أجلها...لكنها لازالت سجينة لفكرة مغروسة في عقلها ..أنه أبداً لن يتغير وأنه سيبقي سيئاً طوال عمره...لهذا لم تستطع تجاوز الأمر هذه المرة...اتخذتها ذريعة لتصدق أنه لا يليق بها وأنها ستضيع معه كي تهرب من فكرة أنها مجرد جارية تم تسليمها لسيدٍ فاسد...


فتح قاسم عينيه وهو يعيد التفكر في كلام حمزة الذي يشعر أنه مختلف...

رغم أنه لا يقتنع به تماماً...

لكن من يدري...

ربما كان حمزة مصيباً...

ربما يكون قد أخطأ عندما ربي أحفاده كما تربي هو...

ونسي أنهم خُلقوا لزمانٍ غير زمانه!!!


تنهد قاسم في حرارة وهو يقول بحسرة لم يعد يستطع إخفاءها:

_هل هرم جدك يا حمزة؟!!! هل صار عاجزاً عن حماية عائلته واتخاذ القرار الصحيح؟!!!


عاد حمزة يربت علي كفه وهو يقول بنفس الحنان الحازم:

_أبداً يا جدي...كل يوم يزيد في عمرك هو مكسب حقيقي لهذه العائلة...هذه العائلة التي أنت وتدها وسندها...لكنني فقط أرجوك أن ترخي اللجام قليلاً حول خيولك الجامحة...هل تفهمني يا جدي؟!!


أشاح قاسم بوجهه للحظات...

يتفكر في كلمات حمزة ...

ثم عاد يتوجه ببصره نحوه وقد عاد إليه حزمه مع سيطرة نبراته:

_ماذا ستفعل مع آسيا؟!!! لماذا تتلكأ في هذا الأمر؟!!! أريدها هنا اليوم قبل غد!


هز حمزة رأسه قائلاً بحيرة حقيقية:

_أنا لا أتلكأ يا جدي لكن حادث حذيفة وساري شغلنا جميعاً....ومع هذا أنا  لا أريد المزيد من العنف والدماء...قلبي يخبرني أن الأمر لن يُحل بهذه الطريقة...لو كان جسار هذا يريد انتقاماً رخيصاً لكان واجهنا بعد فعلته معها ...ما الذي جعله يصبر طيلة هذه الشهور؟!!!


عقد قاسم حاجبيه بغضب ثم هتف بانفعال:

_كفاك هراءً!!!! أمامك يومان فقط لتصطحب أبناء عمومتك مع بعض الرجال الثقات لتذهب لذاك الوغد في مزرعته وتنتزعها من هناك....


نظر إليه حمزة نظرة طويلة...

ثم قال بهدوء:

_اسمح لي يا جدي...أنت وكلتني في التصرف في هذا الأمر كما أري...آسيا هي عرضي أنا لأنها كان من المفترض أن تكون زوجتي الآن...فدعني -بعد إذنك- أدير الأمر كما أري...


أشاح قاسم بوجهه في غضب...

فصمت حمزة محترماً لغضبته التي يقدر أسبابها...

ليلتفت إليه النجدي الكبير بعد دقائق صمت طويلة ...

ثم يقول بصرامة:

_افعل ما تراه...عساك تثبت لي أن ثقتي فيك كانت في محلها!!!!

==============================================================

وقفت آسيا في نافذة غرفة بدر ترقب الغروب بشرود...

حتي أنها لم تنتبه لدخوله الغرفة...

وضع كفيه علي كتفيها فالتفتت إليه بابتسامة ما عادت تفارق وجهها...

أحاط وجنتها براحته ثم قال بحنان:

_أدام الله لكِ هذه الابتسامة...

اتسعت ابتسامتها الخجول ثم همست بشرود:

_لا أدري سر شعوري بهذه القوة الغريبة التي تملؤني...أنا الآن علي استعداد لمواجهة الجميع ...

عقد حاجبيه وهو يسألها بتوجس:

_ماذا تعنين؟!!

التفتت إليه لتقول بثبات أدهشه:

_أنا أفكر في العودة لعائلتي...سأواجههم جميعاً...وأعترف لهم بالحقيقة...

ضمها إليه بلا وعي وهو يقول بغضب مكتوم:

_إياكِ أن تفكري حتي في مغادرة هذه المزرعة الآن....لن أخاطر بأن أفقدك تحت أي ظروف...

رفعت رأسها إليه لتقول برجاء:

_افهمني يا جسار...أنا أريد إبعاد الخطر عنك وعن ياسين ...سأعود إليهم ولن يعرف أحد أنني كنت هنا...

هز رأسه وهو يقول بحدة:

_وزواجنا؟!!

أطرقت برأسها وهي تهمس بخفوت:

_سأحلك من هذا القيد الثقيل...

أشاح بوجهه وهو يزفر بضيق...

فأردفت بضراعة:

_لم أعد خائفة يا جسار...أنا هزمت خوفي وضعفي...سأواجه قدري وأدافع عن اختياري...وسأتقبل النتيجة مهمت كانت...ألم يكن هذا كلامك...

هز كتفيها وهو يقول بقوة:

_افعلي هذا وأنتِ معي...لن أسمح أن تغيبي عن عيني لحظة واحدة...

دمعت عيناها وهي تهمس بخفوت:

_أنا كنت فقط أريد...


قاطعها هاتفاً بعنف :

_لن أترككِ يا آسيا...علي الأقل حتي أصل بكِ لبر الأمان...


أطرقت برأسها وقد علمت أن النقاش في الأمر قد انتهي...

هو لن يسمح لها بالمغادرة...

جسار لا يقول الكلمة مرتين...!!!

بينما تنهد هو في حرارة...

ثم ضم رأسها لصدره قائلاً ليغير الموضوع:

_ألم تفتقدي جسار؟!!


كانت تعلم أنه يقصد حصانه...

ومع هذا شعرت بأن وجنتيها تحترقان خجلاً وهو يسألها هذا السؤال ورأسها علي صدره...

فابتعدت بوجهها قليلاً لتهمس بخفوت:

_بالطبع...لكن هل ستسمح لي بامتطائه...أنت لا تزال تمنعني حتي من الخروج لياسين...

مد أنامله ببطء يتلمس وجنتيها المشتعلتين بابتسامة حانية...

ثم قال بحنان:

_ليس بعد يا صغيرتي...بضعة أيام فقط حتي أطمئن عليكِ  تماماً...


رفعت إليه عينين راجيتين ثم همست بتردد:

_علي الأقل دعني أعد إلي غرفتي...أنا أشفق عليك من النوم علي الأريكة كل ليلة...صدقني أنا أصبحت بخير ...


تنهد في حرارة وهو يملأ عينيه من ملامحها الخلابة...

ماذا عساه يخبرها...؟!!!

أنه اعتاد وجودها هنا تحت عينيه...

أن يكون وجهها الفاتن أول ما تقع عليه عيناه عندما يصحو...

أن يشبك أنامله بأناملها -كعادته مؤخراً فيهدأ ضجيج قلبه الذي لازال يخشي أن يفقدها ...

بعدما عاش تلك اللحظات القاسية عندما سقطت مريضة بين ذراعيه....

أن يستيقظ من نومه بضع مرات في الليلة فقط كي يطمئن عليها ...

ويتأمل ملامحها النائمة المستكينة في سلام يتمني لو يدوم بعالمها...

نعم...هذا ما يؤرقه الآن بحق...

أن يضمن لها السلام في أيامها القادمة ...

وأن يحميها من سواد ماضيها المؤلم...


طال شروده في ملامحها فهمست بخجل:

_أرجوك يا جسار...أنا أثقلتُ عليك كثيراً في الفترة ال...


وضع أنامله علي شفتيها يقاطعها برفق هامساً بحزمه الحنون:

_مجرد وجودكِ في حياتي كان نعمة من القدر...والنعم لا تثقل سوي صدورنا من عظم الامتنان...

أطرقت برأسها للحظات تستجمع قوتها...

ثم قالت له بصلابة تتعارض مع ما يعرفه عن ضعفها المعهود:

_أنا أعرف أنه لولا ظروف مرضي لما سمحت لي أو لأي امرأة أخري بدخول غرفة سمية الغالية...وأنا أقدر هذا وأحترمه كثيراً...لكنني الآن صرت أفضل...ما عاد لبقائي هنا داعٍ...

ابتسم في إعجاب واضح وهو يتأمل ملامحها قوية الشكيمة بشكلها الجديد عليه...

لم تتلعثم أو ترتبك كعادتها...

بل كانت تتحدث بمنتهي القوة والصلابة...

امرأة تفهم من أمامها جيداً...

وتجيد التعبير عما تشعر به...

هذه هي آسيا الجديدة...

التي هو فخور بها ...فخور بقوتها التي بدأت تنجلي تحت قناع ضعفها المتشقق...

وبصلابتها التي تجعله مطمئناً علي غدها قبل حاضرها!!!


لهذا ربت علي وجنتها برفق وهو يهمس بحنان:

_تغيرتِ كثيراً يا صغيرتي...صرتِ تشبهين الخيل في كل شئ...قوتها...وجمالها...تفردها...وانطلاقها...

ابتسمت في سعادة لإطرائه...

وهي تشعر بحديثه يقوي عزيمتها أكثر...

نظرت إلي عينيه بامتنان يمتزج بعاطفتها...

فتنهد في حرارة ثم قال بحزمه الحنون:

_هذه الليلة فقط حتي تنتهي فترة تعاطيكِ للدواء...وبعدما أطمئن عليكِ يمكنكِ العودة لغرفتكِ...

===================



الفصل الحادي والعشرون من هنا



لاتلهكم القراءه عن الصلاه وذكر الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم 



بداية الروايه من هنا


تعليقات

التنقل السريع
    close