القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية ظننتك قلبي الفصل السادس عشر حتى الفصل العشرون بقلم الكاتبه رشا روميه قوت القلوب حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج للروايات والمعلومات

 رواية ظننتك قلبي الفصل السادس عشر حتى الفصل العشرون بقلم الكاتبه رشا روميه قوت القلوب حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج للروايات والمعلومات 



رواية ظننتك قلبي الفصل السادس عشر حتى الفصل العشرون بقلم الكاتبه رشا روميه قوت القلوب حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج للروايات والمعلومات 


لم نعيشُ بمنتصف الأحداث ، يُكتَب علينا العيش معلقين دون راحة ، لا نحب ما يحدث ولا يحدث ما نحب ...!!!

حياة مفروضة على الجميع وعلينا تقبلها أو إظهار ذلك كذبًا ، لكن متى ينقشع الضباب وتظهر حقيقة النفوس وتقبل الأمر الواقع ..

بتلك الأمسيه إلتف الجميع حول منضدة الطعام ببيت "فخري النجار" لتناول طعام العشاء المميز والذى تحضره "صباح" على الدوام...

موعد تقليدي لتناول الطعام لكن زائرين متطفلين أصبح وجودهم أمرًا واقعً ، قلوب مزيفة متصنعى المودة التي ليس لها وجود بقلوبهم ...

بصخب شديد تناول "فريد" و"حنين" وأبنائهم بالطبع طعام العشاء برفقة "فخري" و"صباح" و"راويه" دون سابق دعوة لوجودهم ..

إمتعاض وإستنكار لوجودهم وتطفلهم ، لكن ذلك لم يكن ليثينيهم عن فرض تواجدهم المتكرر لما يرونهم حق مكتسب لا يمكنهم التنازل عنه ..

بعد إنتهاء تلك الوجبة الشهية بأصنافها الدسمة عاد "فريد" و"حنين" لشقتهم بالدور الأرضي ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

دلفت "حنين" للداخل وهي تدب الأرض بقدميها بإنفعال و سخط شديد لتلقي بعبائتها وطرحتها فوق أحد المقاعد بإهمال ثم هتفت بحدة فجأة فور أن أصبحا بمفرديهما ، كما لو أن وجودهم بشقتهم هي إشارة لإخراج حقيقة ما بقلبها ، لم يكن "فريد" كذلك سوى الجانب المهترئ الذى تسقط عليه غضبها والسبب بالطبع أخته "راويه" ... 

- أختك دي بلوه ، محسساني إننا بنشحت منهم ، فيها ايه لما بنطلع نتعشى مع أبوك وأمك ، ما فيش مرة إلا لما تقول كلام زي السم ، ما تتلم بقى وتحط لسانها في بوقها ... !!!

ضعف وإستكانه وتردد ذلك رد فعل "فريد" الدائم والمتوقع منه أمام غضب "حنين" العاصف كرياح أعاصير الشتاء ، غضب متكرر إعتاده "فريد" ليردف محاولًا تهدئتها قليلًا ...

- بالراحة يا "نونه" ، هي أكيد ما تقصدش ، إنتِ عارفه ظروفها وحكاية إنها بقت عانس دي مخلياها مش طايقة نفسها ...

حديثه المستفز كان إشارة لها لهياج وغضب أكبر زاده شعورها بالتقزز والنفور من "فريد" ، فلم تعد تطيق حديثه الخانع لترمقه شذرًا بنظراتها الحادة كمن وضع الحطب ليزداد لهيب النيران التى تسعر بداخل عيناها السوداء الساخطة عليه وعلى كل ما يخصه ، شهقت بقوه لتحتد نبرتها المستهزئة ...

- ظروفها ، قال ظروفها قال ، ظروفها دي على نفسها مش عليا ، ده أنا "حنين السيد خلف" إللي وقفت الحارة دي كلها على رجل ، عايزاني أنا أشتغل بلقمتي ..!!!! طب إيه رأيك أنا حطلع كل يوم على العَشا ومش حاحط إيدي في أي حاجة وأقعد هانم ، وهي تيجي تِخَدم عليا كمان ، فااااااهم ...

بمحاولة إسترضاء فاشلة أخرى أجابها "فريد" ... 

- طبعًا يا حبيبتي ، ولا تزعلي نفسك ، أنا بكره حكلملك ماما تظبُطها لك وتمشيها على العجين ما تلخبطوش ...

عقصت انفها بقوة وهي ترج جسدها بإهتزاز غاضب مستهزئة بحديثه ، طالعته بدونية قبل أن تشيح وجهها عنه قائله ...

- لا يا أخويا ، سيب الحكاية دي عليا أنا ، هو إنت بتعمل حاجة !!! 

لها القدرة بثوانٍ قليلة بأن تقلب الدفة عليه ويظهر هو المخطئ من جديد ، فها هى سحابة من التأنيب والتوبيخ تخصه تبوح بأفق "حنين" يستطيع إدراكها جيدًا ، إمتعض وجهه بإستياء لكنه كان أجبن من إظهار ذلك ليردف بخنوع ...

- وهو أنا عملت إيه بس ..؟!! ما أنا بعمل إللي إنتِ بتقوليلي عليه بالحرف الواحد .. 

مالت "حنين" برأسها للأمام وهي تجحظ بعينيها بصورة مفزعة لنفس "فريد" الضعيفة ، رجفة من داخله دفعته للرضوخ منصاعًا لما تطلبه على الفور حين قالت ...

- عشان كده عايزاك تسمعني كويس ، الظاهر الناعم مش نافع مع أبوك ، إنت لازم تاخد حقك غصب عن الكل ...

أعجبته تلك النبرة فليس عليه البحث عن رضا والده و آن الأوان للتحرك بمفرده وما عليه إلا الإنصياع لأفكار "حنين" اللامعة ...

- إزاي .... أعمل إيه ...؟!!

جلست "حنين" وهي ترفع أنفها بغرور تظن أن أفكارها لا مثيل لها مطلقًا لتبدأ بالإيضاح لـ"فريد" لما يتوجب عليه فعله ...

- طالما العِدل مش نافع ... خلينا في الملفوف ...

رفع "فريد" طرف شَفته العُليا وأنفه ببلاهة ليحرك رأسه بدون فهم متسائلًا ...

- يعني أعمل إيه يعني ... مش فاهم ...؟؟؟

عبارة كانت كفيلة بإثارة حنقها لتضطر للشرح التفصيلي بما يتوجب عليه فعله من الآن فصاعدًا ...

- شوف يا "فريد" طالما مش عارف تمسك تجاره أبوك يبقى لازم تعمل شغل من وراه ... وإنت عارف السكك والتجار ... ساعتها يبقى لك إسمك في السوق وتشتغل لحسابك وتعمل بيزنس يطلعنا من القمقم إللي ساكنين فيه ده ...

لاحت بعيناه بريق متوهج فقد أثار الأمر إعجابه بقوة ...

- لأ .. فهميني أكتر ... يعني أعمل إيه بالضبط ...؟؟!

مالت بفمها بغرور لتبدأ بالشرح المفصل فربما يفهم هذه المرة ..

- تعمل شغل من ورا أبوك بس بإسمه ... يا إما يِنالك الهنا كله ... يا إما يناله هو الأذى ... وإنت تبقى بعيد عن كل ده ...

إتسعت ابتسامة "فريد" إعجابًا بذكاء "حنين" ليشيد بها ، مما جعلها تزداد غرورًا وخيلاء ...

- ده إنتِ ما فيش في دماغك اتنين .. تعالي بقى نفكر تيجي إزاي و أشتغل من ورا إزاى ...؟!!

رفعت "حنين" كتفيها وأهدلتهما وقد زادت ثقتها بنفسها بعد تملق "فريد" لها ...

بسيطة خالص "مأمون" أخوك كلها أسبوع ويسافر ... إنت بقى تبدأ تعمل شغل بين التجار بحاجات صغيرة ... لما تسلك نكبرها ولا من شاف ولا من دري ... أنا كمان في دماغي فكرة حبقى أقولك عليها ... دي لو نفعت حتودينا في حته تانيه وإبقى قول "حنين" قالت ...

- وأنا من إيدك دي لإيدك دي يا "نونه" ...


❈-❈-❈


شقة فخري النجار ...

إنسحب "فخري" تجاه غرفته للنوم بعد تناول العشاء كالعادة لتبقى "صباح" و"راويه" بمفردهما فهو لم يعد يطيق بقائه لأكثر من ذلك معهما ...

شحن للنفس مُعتاد عليه بهذا المكان لكن تلك المرة لم تكن "صباح" صاحبة إثارة الحنق ، بتذمر شديد وقفت "راويه" تحث والدتها على التصدي لـ"حنين" التي تستغل كل الفرص لتسيطر على تلك العائلة ...

- يعني يا ماما ما شفتيش طريقتها ... لازمن تقف عند حدها ... خدامين أهلها إحنا ...!!!

لم تكترث "صباح" بكل تلك المناوشات التي لن تفيدها بشيء رفعت ذراعها الثقيل لتمسح جبهتها مُصدرة صوت ضجيج أساورها المحبب المبهج لنفسها ثم أجابت "راويه" بإمتعاض لتفكيرها المحدود ..

- بقول لك إيه ....!!! بطلي خيابه يا بنت "فخري" شيلي "حنين" من دماغك دلوقتِ ... أنا مش عارفه إنتِ حاطاها في دماغك ليه ...!! خلينا في إللي أهم من "حنين" .... 

مالت "راويه" برقبتها للأمام قليلًا وهي تعقد أنفها بضجر من تعليق أمها على غضبها من فرض سيطرة "حنين" ..

- أهم من "حنين" ...!!!! هو في حاجة أهم من "حنين" ...؟!!! 

تجلت بعينيها السوداوتين نظرات ماكرة ليزداد وجهها إقتضابًا و سواد ، ليزيد قبحها النابع من داخلها وليس من سوء ملامحها ... 

مالت "صباح" بجذعها للأمام وهي ترفع عينيها تجاه السقف كما لو كانت تشير إليه مردفة بصوتٍ خفيض للغاية حتى لا ينتبه لها "فخري" ... 

- بنات الخدامة ..

مطت "راويه" شفتيها من ذِكر سيرتهم التي تُعكر صفوها قائله بحنق ...

- مالهم تاني ...؟!!!!!!!

نظرت "صباح" بداية نحو الممر المؤدي إلى الغرف لتتيقن بأن "فخري" ليس بالجوار لتعيد وجهها تجاه "راويه" قائله بهمس خبيث للغاية كالأفعى التي تسعى للإنقضاض على فريستها ....

- ما هو مش كل يوم والتاني يجي لهم عرسان ... وبالعافيه أطفشهم مرة تصيب ومرة تخيب ... أنا لازم أشوف حل نهائي للموضوع ده ...

- أيوه إنتِ عايزة تعملي إيه يعني ...؟!

- هو أنا جايباكِ عشان تسأليني أعمل إيه ... ؟؟! هو إنتِ مُخك ده ما بيشتغلش خالص ...!!!!!! قال على رأى المثل (دقت الطبلة وبانت الهبلة ) ...

ضغطت "راويه" بعينيها تذمرًا من توبيخها المستمر ...

- وبعدين معاكِ بقى ... متقولي إنتِ عايزة إيه وخلاص .... أنا إيش عرفني ...؟!!!

لم تشعر "رواية" بيوم من الأيام أن "صباح" تحبها وتسعى لمصلحتها بل كانت دائمًا تسبب لها الحيرة ، فهل ما تفعله نابع من محبة لها ؟؟ ، أم أنها لا تبالي بها ؟؟؟ ، هل تفعل ذلك مساعدة لها ؟!! أم أنها تنفذ رغبة داخلية إنتقامية تجاه "زكيه" وبناتها ..!!! ، سحبت "راويه" نفسًا عميقًا ثم زفرته ببطء قبل أن تردف بتملل ...

- إنتِ في دماغك إيه بالظبط ..؟!!! 

دارت "صباح" بعينيها السوداوتين دون الوصول لحل جذري يريح قلبها تجاه "زكيه" وبناتها ...

- وهو أنا لو أعرف كنت سألتك يا آخر بختي ...!!! 

نهضت "راويه" من جلستها تشيح بكفها وهي تاركة أمها بمفردها مردفه بلا مبالاة ...

- خلاص لما تعرفي إبقي قولي ... أنا طالعه أقف فى البلكونه ...

أخذت "صباح" تتذمر من إبنتها بليدة الإحساس فهي لن تنفعها بشيء الآن ، وأن عليها التفكير بمفردها بحل يريحها من شغل تفكيرها ببنات "زكيه" اللاتي يسببن لها هما ثقيلًا طيلة الوقت ...

- أهو ده إللي فالحه فيه ..!!!!!!


❈-❈-❈


شقة زكيه ... 

أمسية شاقة على النفوس بعد يوم قاسٍ طويل ، وضعت "زكيه" الطعام بصمت لم تعتاده "نغم" و"شجن" فملامحها المقتضبة توحي بأن هناك أمر حل الضيق بقلبها 

ربما لم تتفوه به "زكيه" لكن قلوبهن تشعر بأوجاع بعضهن البعض ...

قلبتا نظراتهما نحو أمهم لتبدأ "نغم" بحسها المرهف تحاول حث "زكيه" على إخراج ما بقلبها .. 

- مالك يا ماما مين مزعلك ...؟!!

لحقها سؤال "شجن" بينما تجلت بعينيها وميض فراستها لتسألها بشك .. 

- مين زعلك يا زوزو ..؟!! 

تبسمت "زكيه" ببسمة حزينة رسمت فوق شفتيها ثم تنهدت ببطء ..

- ولا حاجة يا حبايبي ... ولا حاجة ...

مالت "شجن" برأسها قليلًا وهي تطالع والدتها بسوداوتيها المتوهجتان متسائله ...

- وهو إحنا تايهين عنك يا زوزو ... إيه إللي حصل ..؟!!

حيرة طلت من بين عينيها اللطيفتان وهي تطالع بناتها أتخبرهم بما فعلته "صباح" التي أصبحت أفعالها تطالهم بالأذى أم تكتفي بالصمت لتومئ رأسها بخفه قائله ...

- طالما إنتوا بخير .. أنا بخير ..

هنا تأكد شك "شجن" بيقين تام أن الأمر له علاقه بهذا الطبيب الذي تقدم لخطبتها فلابد أن شيئا ما حدث وتراجع عن الأمر مثل كل مرة فيبدو أن "صباح" لن تكف عن أذيتهم ...

أسرعت "نغم" ببراءتها المعهودة تظن أن الأمر لا يخرج عن ضيقة مالية أخرى تمر بها والدتها ...

- لو على الفلوس يا ماما إحنا الإتنين بنشتغل دلوقتِ ... بس نصبر لأول الشهر حنقبض ويبقى معانا فلوس كويسة أوي ...

رغم إدراك "شجن" الأمر إلا أنها إبتسمت بسمة متضايقة تخفي بداخلها حنقها على "صباح" وأفعالها لكنها نظرت نحو والدتها بإشفاق فيكفيها ما يملأ قلبها من حزن الآن لتلتزم الصمت دون تعقيب أو عتاب لتشبث والدتها بالبقاء بهذا البيت ...

رفعت "زكيه" بصرها تجاه "شجن" التي أخبرتها عيناها دون حديث بفهمها لما حدث لتزوغ بعينيها عنها تهربًا من ملامتها ، أجابت تساؤلهم بحديثها الكاذب مختلقة سبب واهي لحزنها الظاهر على ملامح الطيبة ..

- أه يا حبايبي هي الفلوس .. ربنا حيفرجها إن شاء الله ...

عقبت "نغم" ببساطة لتخرج والدتها من همومها ..

- و إيه يعني يا ماما .. واحنا من إمتى بيهمنا الفلوس ... إحنا طول عمرنا أغنياء ولا بيفرق معانا ولا ذهب ولا فلوس ...

إبتسمت "زكيه" وهي تنظر إلى وجهيهما مردفه بفخر ...

- إنتوا جواهر وأغلى من الذهب وأغلى من فلوس الدنيا كلها ...

سحبتها "شجن" من ذراعيها قائله ...

- يعني مش ناوية تعشينا النهاردة ولا إيه ... أنا موت من الجوع ... طول النهار ما بين المستوصف والمستشفى ...

إلتفتت "زكيه" نحوها بتساؤل وفضول ...

- صحيح إيه حكاية المستشفى دي ...؟!! إيه إللي حصل ...؟!! 

جلس ثلاثتهم حول المنضدة لتناول الطعام وسرد أحداث يومهم ببساطة وحميمية ككل يوم لتخبرها "شجن" عن "أيوب" والحادث وتشبثه بها وبقائها معه لطمأنة قلبه الوحيد ...

عقبت "زكيه" بتفاخر لمساندة شجن لهذا الرجل ...

- طول عمرك طيبة وبتدوري على الخير وتعمليه ... ربنا يوقف لك ولاد الحلال دايمًا في طريقك ...

طالت "شجن" بنظرتها تجاه والدتها بنظرة قوية متمردة لتردف قائله بذكاء تخفي خلف كلماتها عتاب لوالدتها ...

- الخير والطيبة مش في السكون والإستسلام بس يا ماما ... ساعات الخير لما بيكون معاه القوة بيكون أكبر وأعظم ...

بتهرب سألت "زكيه" إبنتها "نغم" حتى تتهرب من حديث "شجن" الذي تدري نهايته جيدًا ...

- وإنتِ يا "نغم" مبسوطة في المكتبة ...

ملأت "نغم" فمها بالطعام دون الإنتباه أنها ستشارك بهذا الحوار بينهم لترفع وجهها الممتلئ ببراءة مجيبة والدتها أثناء إبتلاعها للطعام ...

- حلو جدًا ... وأستاذ "بحر" متفهم أوى ... والشغل هناك سهل ولذيذ .. 

ضحكت "شجن" على طريقة "نغم" و وجنتيها الممتلئتان بالطعام .. 

- هو إيه إللي لذيذ ...!!!  إرحمي بطنك شويه ... الشغل إللي لذيذ ولا الأكل ...

- فيه إيه يا "شجن" ... جعانه .. الله ...

إبتسمت "شجن" لتنظر تجاه والدتها قائله ...

- إعملي حسابك يا ماما بكره هاخد معايا أكل لعم "أيوب" في المستشفى لما أروح أزوره ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

بكرمها الزائد أجابتها "زكيه" ...

- أكيد يا بنتي ... واجب برده ححضر لك علبة أكل كويسه تاخديها معاكِ وإنتِ رايحه له  ..أهو كله بثوابه ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈


سويسرا ...

منذ متى تصبح الحقيقة موجعة إلى هذا الحد ، أليست تلك التى تسعى إليها منذ تفتق ذهنها وعقلها على الحياة ، أليست هي من كانت تضرب بالأكاذيب عرض الحائط ولا تهتم سوى للحقيقة ، والحقيقة فقط ...

لِمَ تتمنى الآن أن تكون مغفلة ، تغفل عن واقع يقسو فوق قلبها الوليد ، هل كان يجب عليها ألا تكون بهذا الذكاء ، هل الغباء الآن أصبح هو الميزة والمكافأة ...

لو كان للمرء نقطة ضعف فهي تكمن بالأشياء التى يحبها ، ربما بوقت آخر وزمن آخر .. وشخص آخر ، لكان تقبلها لما حدث أهون بكثير ، لكنه موجع منه ، هو الذى ظنت أنه له بقلبها مكان لم يتمكن غيره من إقتحام حصونه أو حتى أن يدنو قربه ...

لم تشعر بوخز موجع كما شعرت به الآن وهو يخبرها أن الأمر برمته ما كان إلا مهمة ، وقد أدى مهمته على أكمل وجه ، إنها لم تكن سوى (كبش فداء) لإنجاحها ، إن الأمر لم يتعدى مجرد تمثيلية متقنة للوصول لغايته ...

لوهلة شعرت بضعفها كما لو أنها تقف بالعراء دون حامى أو سند ، شعرت بالدونية وقلة الشأن ، لو كان يدرى ماذا فعلت كلماته بها لصمت دهرًا دون حديث ...

إرتجفت بنفس مهتزة تشعر بغصة شديدة بقلبها وجفاف بحلقها و ... حرقة بمقلتيها ...

(لا ... لا يا عيناي أبدًا لن تضعفى ... لن تنهزمي ... وليس هنا ... وليس أمامه ..)

هكذا أخذت "عهد" تزجر نفسها التى ضعفت و أوشكت على السقوط ، قبضت كفيها بقوة تبث بهما غضبها وضيقها ، أخفت إرتجافها وإهتزازها خلف هذا القناع الذى إعتادت إرتداؤه فلن تسقط ولن تنحنى ولن تقبل الهزيمة ...

حركت رأسها تزيح أفكارها وهى تتشدق بعنقها بشموخ محاولة السيطرة على صدرها الناهج وعيناها المتأرجحتان ...

- تمام يا حضرة الضابط ...

قالتها بحدة ليشعر "معتصم" بهذا التغير بنبرتها ليميل وجهه متفرسًا ملامحها الثابتة بشكل يثير القلق ...

- مالك يا "عهد" ...؟!!

ضغطت بقوة على أسنانها المصكوكة قبل أن تردف بإقتضاب وجدية جديدة للغاية على مسامعه ...

- المهم إن مهمتك كملت يا فندم ... أنا مش مهم ... 

رفع حاجباه قليلًا لتشع عيناه بريق لماح حين فهم بفراسته فهمها الخاطئ ليتحفز بالرد عليها موضحًا الأمر ...

- بلاش تاخدي الأمور بالحساسية دي ... أنا برضه كنت معاكِ لحظة بلحظة ولا يمكن كنت حسيب أى خطر أو حاجة تصيبك ...

أردفت بسخرية وهي مازالت ترفع من رأسها بتعالى ..

- لا والله كتر خيرك ...!!!

نهض "معتصم" يقف قبالتها قائلًا بصرامة حتى لا يدع الشك يتوغل بقلبها ...

- "عهد" ... إنتِ أكبر من إن حد يقل منك ... أنا ...

لم تستطع "عهد" كبح غضبها وثورتها خاصة منه ومن اللعب بها وبمشاعرها حتى بعد إنتهاء المهمة لتضع وجهها بمجابهته وقد إتقدت عيناها بذات الشرر الذى طالما كانت تتحلى به ، هذا الإنفعال الذى لم يراه منها من قبل ، لتردف مقاطعة إياه عن إستطراده بحديثه الكاذب الخالي من الصحة ...

- يقل مني ...؟!! إنت شايف كدة ...؟!! عندك حق ... ما أنا الغبية إللي مليش قيمة ... ترموها فى مهمة من غير ما تعرف عنها حاجة كأني مساويش أى حاجة ..!!! يولعوا فيها ... يضربوها بالنار ... يقتلوها ... فى داهية ... المهم الباشا يبقى بخير ...!!!!!!

هتف "معتصم" بإنفعال لفكرها المحدود وإنفعالها المبالغ فيه ليحاول تبرئة نفسه وتهدئتها بذات الوقت ...

- إنتِ إزاى فاهماها كدة ...؟!!! "عهد" ... فوقي .. ده شغل ... ومتنسيش أنا كنت بحميكي كويس ... أنا عرفت إن إنتِ إللي حتقومي بالمهمة .. بس معرفكيش شخصيًا ... ومكنتش أقدر أوضح لك تفاصيل أنا معنديش أمر بإيضاحها ... المهمة كانت عايزة كدة ...

أغمضت عيناها لوهلة ربما هو محق بهذا الأمر وهي تسقط غضبها من "نظمي" ومجموعة عملها اللذين أخفوا هذه المعلومات الهامة عنها ، لكنه يظل من تصنع الإهتمام والإعجاب بها ما هو إلا إدعاء ، ما ظنته نهاية لليلها الطويل هو مجرد مهمة برع بتأديتها على أكمل وجه ، مهمة ليس للمشاعر دخل بها ...

تمالكت إنفعالها الغير مبرر لكنها لم تسامح ، تلك كلمة لاغية تمامًا من قاموس حياتها ، فالمسامحة وطيبة القلب لا تخصها ، حاولت الرد بمهنية شديدة حتى لا تنساق بدرب خاطئ وتظهر ما لا تريد فضحه وعليها قتل هذا الشعور كما ولد بداخل أسوار قلبها ...

- عندك حق ... المهمة كانت عايزة كدة ... كله عشان خاطر المهمة والشغل ...

زادت طريقتها من حيرته فهل تقبلت الأمر أم مازالت نفسها حنقة على جهلها بالمعلومات ، لكن بكلا الأمرين ليس هذا ذنبه بالمرة فهو مثله مثلها تمامًا ينصاع وفقًا للتعليمات والخطوات تجنبًا للخطأ ، ليردف بعدم فهم ...

- كل إيه ...؟؟؟ قصدك إيه يا "عهد" ...؟؟!!

رفعت عيناها تخصه بنظرة طويلة للغاية ، نظرة غير واضحة لكن بداخلها بعض الألم والمرارة أدركها على الفور لتنتهى نظرتها بعبارتها بنبرة جامدة ...

- ولا حاجة ... المهم إن المهمة كملت .. وكله تمام ... أظن خلاص كدة ... بما إننا رجعنا الكوخ وإنت جبت الجهاز ... يبقى لازم نرجع مصر ... أو بمعنى أدق ... المهمة إنتهت ...

تهدج صدر "معتصم" بتخبط فهل تقصد مهمتهم إنتهت أم ما ولد بينهم من مشاعر إقتحمت المخاطر لتدق قلوبهم ليردف بعبارة تحمل بعض الإستفهام ...

- المهمة إنتهت ... بس إحنا سوا ...

إستقامت "عهد" للغاية تزيح عيناها عن عينيه المدقتتان بتعابير وجهها ثم أردفت بجمود تدعى به البرود التام ...

- مفيش حاجة إسمها إحنا ... دى كانت مهمة وخلصت يا حضرة الضابط ... متضحكش على نفسك ...

أسرع ينهر تفكيرها وعنادها الواضح ...

- لا يا "عهد" .. مش مهمة وخلصت .. إسمعيني كويس .. اااا ...

قاطعته بحدة ونبرة عدوانية للغاية فهى لن تسمح لقلبها بالإنزلاق بهذا المنحدر خلف مشاعر مزيفة ...

- إنتهى يا فندم ... وكل واحد فينا له طريق غير التانى ... ومفيش أى حاجة حتجمعنا تانى سوا ... كانت فرصة عظيمة إني قابلت ضابط مخضرم زيك ... حقيقي أنا إتعلمت منك كتير ... 

إلتفتت بقوة تاركة إياه لتدلف بسرعة لداخل الكوخ حتى أنه لم يلحق بها من سرعتها ليتنهد بضيق فعليه ترك الأمور تهدأ قليلًا فيبدو أن تفاجئها بالأمر لم تتقبله بصدر رحب ...

لكنه ظن أنه عليه أن يترك الأمر للوقت لتهدئة نفسها ، ليصدم حين وجدها تخرج مسرعة من باب الكوخ تحمل حقيبتها فوق ظهرها بسرعة فائقة كسحابة سوداء مرت من أمامه ...

حاول ندائها لكنها لم تلتفت نحوه بالمرة ، ليقف بذهول متطلعًا نحو الفراغ الذى خلفته فيبدو أنه يتعامل مع إمرأة شرسة من نوع آخر ، إمرأة لا يمكن ترويضها بسهولة ...


❈-❈-❈


بيت المستشار خالد دويدار  ...

أعمال تبدأ لتنتهي ويبقى السكن هو المنتظر والملتقى ، البيت هو الحضن الدافئ الذي يلجأ إليه المشتاق ، فهو ليس بجدران وحوائط فقط بل هو طمأنينة الروح والقلب ...

بعودة "خالد" و"عيسى" إطمأنت "منار" بوجودهم فقد إنتظرت عودتهم بعد يوم عمل حافل لكل منهما ..

- اليوم كده طويل أوي عليكم ... لازم تاخدوا راحه ...

أجابها "عيسى" بهدوء رغم إنهاكه طوال اليوم ...

- فعلًا يا ماما الواحد نفسه يرتاح ...

تطلعت "منار" من خلف كتفي "عيسى" متسائله بإهتمام ....

- أمال فين "غدير" ما جتش معاكم ليه ..؟!!

جلس "خالد" يلتمس بعض الهدوء بطبعه الرزين متابعًا حوار "عيسى" مع والدته حينما أجابها "عيسى" ... 

- الظاهر في حاجه عند "موده" .. حتلاقيها دلوقتِ تيجي ... مش حتتأخر أنا متأكد ...

بيقين داخلي لعشقها له وما يملأ قلبه عشقًا لها كانت إجابته ، فحتى إن لم تُخبره بذلك فهي لن تستغرق وقت طويل بعيدة عنه ، خاصة و هي تدرك أنه عاد لعشهم الهادئ ، لم يخب ظنه حين دق جرس الباب بالعديد والعديد من دقاته معلنًا مجيء الصاخبة صاحبة الحياة المفعمة إلى حياتهم الهادئة لتعيد تهيئتها من جديد ...

هذا الحماس الذي أطلق إبتسامة "منار" التي أسرعت نحو الباب لتفتحه بينما تراقص قلب "عيسى" بإدراكه أن يقينه صائب بمحله وأنها لم تتأخر عنه ...

دلفت "غدير" بضحكتها الرنانة وإتساع إبتسامتها المميزة قائله بمرح  ...

- سالخير عليكو يا قطاقيط ...

كانت "منار" أول من تجيبها ...

- الحمد لله على السلامة يا غلباوية ...  إتأخرتِ ليه  ...؟؟؟

كان التساؤل من "منار" بينما تشدق "عيسى" بإهتمام لمعرفة سبب تأخرها ورفضها المجيء بمصاحبته هو ووالده ... طقطقت "غدير" بأسنانها ببعض الحرج وهي تنظر تجاه "عيسى" المنصت لتردف بطريقة طفلة صغيرة ...

- كنت مستنيه الكيكة تطلع من الفرن  .. 

أطلقت "منار" ضحكتها من عفوية "غدير" بينما أطبق "عيسى" شفتيه يتمالك ضحكته الساخرة منها غير مصدقًا لبراءة زوجته وحبها لهذا الكعك قائلًا ...

- يعني إنتِ ما رضيتيش تيجي معايا وركبتي تاكسي لوحدك بالليل علشان كيكة يا "غدير" ...!!!!

فغرت فاها وإتسعت عيناها بقوة وهي تبرر ذلك بجدية تامة ...

- دي كيكه بالبرتقااااااال .... إنت بتتكلم إزاااي ...!!!

- أنا برضه إللي بتكلم إزاي .. !!!

قالها "عيسى" بذهول رغم محاولته لإخفاء ضحكاته ...

لم يكن ينقصهم سوى حضور "رؤوف" الذي دلف بالتو بعدما قام بإيصال "نيره" لبيتها لتكتمل جمعتهم السعيدة ،  هنا دعتهم "منار" جميعًا ...

- سيبكوا بقى من الكلام ده كله  ... أهو "رؤوف" جه هو كمان يلا بينا نتعشى قبل ما الأكل يبرد  ..

قفزت "غدير" مسرعة نحو المقعد الخاص بطاولة الطعام تشتم أصناف الأكل الشهية قائله ...

- ريحه الأكل تجنن ...  أنا جعانه مووووت تسلم إيدك يا "أم مجددددي" ...

ضحكة عيونهم كانت إجابة على رد فعلها الطريف لكن ظل سؤالًا بداخل نفس "رؤوف" وهو يرى هذا التجمع العائلي الرائع ،  شيء ما يحاول إيصاله لـ"نيره" ، أمر لم تستطع هي فهمه قط فلا شيء يعادل لمة العائلة ... 

دعاه "خالد" ولده الغير منتبه لهم لمشاركتهم الطعام ...

- إيه يا دكتور .. مش حتيجي نتعشى ولا إيه  ...؟!!

إنتبه "رؤوف" لحديث والده لتزداد إبتسامته وهو يتخذ مقعده ناظرًا نحو الطعام أولًا قبل أن يثني على والدته بحديثه اللطيف ...

- جاى أهو ... تسلم إيدك يا ست الكل هو فيه زي أكلك في الدنيا ... والله ده أنا لو أكلت أكل الدنيا كله ميجيش زي طبق من إللي بتعمليه بإيديكِ  ...

رفع "خالد" حاجبه بإستنكار قائلا ...

- ما كفاية عسل بقى .. دي أمك مش خطيبتك  ..!!!

رفع "رؤوف" كتفيه ممازحًا لتعليق والده الذي يكرره دومًا لشعوره بأن طريقته اللينة هي ضعف شخصية يحل به .. 

- هو في زي ماما ..  وبعدين الإتنين حبايبي ما أقولهمش يعني كلمة حلوة ...؟!!!!

ضحكت "غدير" بقهقهه حتى إهتز جسدها لتستطرد ممازحة "رؤوف" فهي تعتبره كأخيها الأصغر كـ"موده" تمامًا  ...

- لا وإنت الصادق كل البنات حبايبك يا أبو قلب كبير ... 

ضحكوا جميعًا يشاركون "غدير" مزاحها حتى عقب "رؤوف" ... 

- حتى إنتِ يا "دورا" ... ماشي حعديها لك عشان دمك إللي زي الشربات ده  ..

ضربه "عيسى" بخفة بمؤخرة رأسه فقد إنتابته بعد الغيرة على حبيبته التي تخصه وحده حتى لو بمزاح أخيه الأصغر  ...

- بس يا أخويا  ... إنت فاكرها واحده من إللي بتعاكسهم ... ما لكش دعوة بـ"غدير" خالص .. 

ثم مال "عيسى" بأذنها هامسًا بنبرة عاشقة ...

- على فكرة إنتِ بتاعتي أنا لوحدي ... 

كما لو كان توقف الزمان وخلى المكان ولم ترى سواه فقط أمام أعينها التي أشرقت بسعادة ونشوة ملأت قلبها ، فهمساته تكفي لتُغنيها عن العالم بأسره ...

طأطات رأسها بصمت فقد نالت ما تستحقه اليوم بكلمة عشق من قلب "عيسى" ...

إستكملوا تناول طعامهم فيما بدأت سهرتهم بغرفة المعيشة بتناول أكواب الشاي لتجدها "غدير" فرصة لحديث جاد لما تود طلبه من "رؤوف" ... 

- "رؤوف" ... بقول لك إيه  ... هو ما ينفعش تشوف شغل عندكم في الشركة لـ"موده" ... أحسن تِعبت من شغلها وسابته ... وطبعًا الشركة عندكم أحسن  ... هي كمان كلها كم شهر وتتخرج وإنت عارف الشغل بالنسبة لها مهم إزاي  ... وهي دلوقتِ من غير شغل  ...

بمروءة شديدة أجابها "عيسى" أولًا قبل أن يتفوه "رؤوف" ... 

- و ليه تشتغل يا "دورا" ...؟؟!!  خليها تركز في مذاكرتها وما تشيلش هم أي مصاريف ... إنتِ عارفة أنا ياما قلت لك بلاش أختك تشتغل وتتبهدل كده ...

لحقه "خالد" مؤيد حديثه فيما يكنه بمحبة لتلك الصغيرة أيضًا ...

- خلاص يا "غدير" قفلي على موضوع الشغل ده  ... خلي أختك في البيت وكل إللي تحتاجه يوصل لها .. دي بنتنا برضه ...

حتى قبل إجابتها على كلا منهم لحقتهم "منار" التي تحدثت بقلب أم حنون تقصد كل كلمة تنطقها فهي ليست مجاملة بالمرة  ...

- خليها تيجي تقعد معانا يا "دورا" ... ما ينفعش تقعد لوحدها هناك ... أنا مش عارفه هي ليه مصممة تقعد في شقتكم لوحدها ...؟!!

دارت "غدير" بعينيها الممتنتان بوجوههم جميعًا فهي لم تحظى بزوج محب فقط بل حظيت بأسرة مُحبة كاملة ، لمعت عيناها ببعض التأثر لإهتمامهم ورعايتهم لها ولأختها منذ خطت هذا البيت فهي لم تشعر بأنها زوجة أحد أبنائهم ، بل كانت دومًا تشعر أنها إبنة لهم ، عائلة كاملة عوضتها حرمانها من والديها ...

تهدج صدرها وترقرقت دمعة خفية بمقلتيها وهي تردف بإمتنان بالغ لإهتمامهم وحنانهم ... 

- والله أنا لو ليا عيله ... ما حتكون أحن عليا منكم  ... ربنا ما يحرمنيش منكم أبدًا  ...(ثم إستطردت ترفض طلبهم بلباقة) ... بس "موده" دماغها ناشفة شوية ومش حترضى خالص بكده ..  هي عايزة تشتغل وتعتمد على نفسها في مصاريفها وخالي "منير" جنبها برضه  ...

بتفهم ممتعض لإصرار "غدير" فهي عزيزة النفس كأختها تمامًا ، دائمًا ما كانت ترفض شعور أن يتصدقوا عليهم لكنها ممتنة بإهتمامهم ...

حان وقت إجابه "رؤوف" الذي إنتظر أن ينتهوا جميعًا من عرضهم على "غدير" ، أجابها بثقة لمكانته بالشركة وقدرته على إقناع صاحبة الشركة بهذا الأمر البسيط ...

- ولا تشغلي بالك يا "دورا" ... أنا حكلم المديرة بتاعتنا وهي ممكن تشتغل كمتدربة في الأول لحد ما تخلص كليتها .. وبعدها ممكن تتثبت معايا ... الموضوع ده سهل جدًا ما تشيليش هم فيه خالص  ...

تهلل وجه "غدير" بسعادة فبالتأكيد هذا عمل تتمناه "موده" ويعفيها من الحرج والدونية التي شعرت بهما بعد لقائها الأخير بـ"نيره" ... 

- يا ريت يا "رؤوف" ... ده يبقى ليك جميل في رقبتي والله  ...

أغمض "رؤوف" جفناه بغرور وهو يهز رأسه بخيلاء ثم هتف بروحه المرحة ...

- ما تقوليش كده يا "دورا" ...  أهو كله بثوابه ... 

إلى هنا إنتهى حد الجدية لدى "غدير" للتراجع عن دور التأثر الذي كانت تمر به لتعود إلى شخصيتها الصاخبة مرة أخرى ، لتطلع نحوه بإحتقار ممازحة إياه ...

- إنت صدقت نفسك ولا إيه  ... !!! لاااا ما تاخدش على كده ...

بعيون مرهقة وبسمة لم تفارق شفتيه سحبها "عيسى" من ذراعيها وهو ينهض من جلسته ...

- مش يلا بينا نطلع شقتنا بقى ولا إيه ...؟؟!  أنا حموت و أنام ... شطبت ...

بدون أن تراجعه أو تثني كلمته وقفت "غدير" على الفور وهي تلوح لهم بشقاوتها المحببة  ...

- تصبحوا على خير يا كتاكيت  ...

تقدمت لخطوتين قبل أن تستدير مرة أخرى تجاههم قائله بنبرة خفيضة تعلم جيدًا أن "عيسى" يستطيع سماعها أيضًا  ...

- حبقى آجي لكم الصبح نفطر سوا لما عيسى يخلع ...

ضحك "عيسى" من دهشته بمزاحها ...

- سمعتك على فكرة ... 

قالها بمشاكسة لزوجته التي تعلم أنه إستطاع سماعها ، إلتفتت نحوه بفاه متسع وإشراقة قائله بصوتها العالي  ...

- حبيب قلبي ...

كلماتها المازحة وضحكاتها بقلب هانئ كانت نهاية ليلتهم ببيت "خالد" ليصعدا إلى شقتهما وعشهما الهادئ لقضاء ليلتهما معًا 

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈


لم تكن ليلة هادئة على الجميع بل هناك صخب آخر بقلوب حائرة ، رغم شعوره بأنه لم يخطئ وأن الأمر لا يتعدى كونهُ مهمة تمت على أكمل وجه دون أخطاء ودون خسائر ...

لكن شعوره الذي تعاظم بالخطأ لتسرعه بإخبارها بالأمر بهذه الطريقة ...

أخذ "معتصم" ينظر لخيال "عهد" التي لم يكاد يلحقها عندما خرجت بإنفعال من الكوخ ، أسرع بخطواته يلحقها مناديًا إياها ...

- "عهد" ...  يا "عهد"...  إسمعي بس ...!!

لم تقف ولم تلتفت بل أكملت طريقها ، بالطبع كان يقدر على اللحاق بها لكن رنين هاتفه معلنًا وصول رسالة نصية جعله يثبت بموضعه ليقرأها ...

كانت فحواها بأن عليه البقاء بالكوخ لتسليم الجهاز الذي تَحَصل عليه من المقر الآمن لأحد مسؤولي الأمن لضمان سلامته وأمنه ...

إقتضب وجهه بتجهم فلن يستطيع اللحاق بها وعليه تنفيذ الأمر والبقاء بالكوخ لحين حضور هذا المسؤول الأمنى ...

زفر بقوة ليعود أدراجه لداخل الكوخ وقد تملكه شعور واحد فقط ، أنه مخطئ متسرع ، يا ليته صمت تمامًا وإنتظر عودتهم وترك الأمر يتضح لها بصورة أفضل مما حدث ...

فبالتأكيد ظنت أنه إستغلها لسلامته فقط ، وأن ما أظهره لها من مشاعر لا تتعدى إدعاء لإقناع "كاتينا" لإيصاله للمقر الآمن ..

ليتها تدرك أنها زلزلت كيانه بوجودها وقدرت على ما لم يقدر عليه سواها ، نعم أتمت المهمة وسرقت قلبه معها  ...


❈-❈-❈


شقة عيسى دويدار ...

تَصنعهُ الإرهاق و غلبة النوم كانت حُجة لا أكثر لينفرد بمغردتهِ وقطعة الشوكولاتة خاصته ، كم إشتاق لها تلك صاحبة الحياة ، أراد لو يستمد منها بعض الترياق ليكمل حياته الرتيبة لتجدد طاقته المقبلة على الحياة ...

دلف "عيسى" و"غدير" لداخل الشقة يحاوطها بذراعه بحنان يستمد بقربها روحه لتسكن هي بدورها بإشتياق لقربه ليهمس "عيسى" أولًا ...

- وحشتيني يا شوكولاته ...

إستدارت "غدير" بمقابلته تتطلع نحو ملامحه المحفورة بقلبها قبل عينيها بنظراته الهائمة لكنها كعادتها أردفت ممازحة بإبتسامتها العريضة التي أظهرت أسنانها المميزة ...

- تصدق أنا نفسي أعرف إيه حكاية الشيكولاتة دي ...؟!! 

ضم بسمته وهو يضغط بإصبعيه أسفل ذقنها قائلًا ...

- عشان أنا أكتر حاجة في الدنيا بحبها هي الشيكولاته ... عشان كده بحاول أدور على كلمه أوصفك بيها عندي مش بلاقي غيرها ... عشان هي أكتر حاجة بحبها ... فأنا عايز أقولك إن إنتِ أكتر حاجة بحبها ...

رغم كلماته المتغزلة إلا أنها أوسعت عيناها عن آخرهما معقبة بمزاحها اللطيف وسط ضحكتها المقهقة التي تهتز لها جسدها كاملًا ...

-  طب ده أنا أحمد ربنا بقى إن إنت مش بتحب المكرونة ولا المحشى ... ده أنا كان حيبقى إسمى حاجة مسخرة خالص ... 

ضحكة أخرى أخرجتها تلك المجنونة من قلبه قبل أن يضرب رأسها بخفة فقد أضاعت لحظته الرومانسية بمزاحها المتواصل ...

- أه يا شعنونه ...

مطت شفتيها بدلال ...

- أنا برضه شعنونه ...!!!

إبتسامه عريضة رسمت أخيرًا على محياه ، هو الذي تتوه منه ضحكاته لا تعرف لوجهه طريق إلا بحضورها فقط ، كما لو كانت لديها سحر خاص تجذبه به كالمسحور ، سحر يتمنى أن يظل منساق خلف عمره بأكمله ، نظر لعينيها بإشتياق قبل أن يردف ...

- إنتِ مش بس شعنونه ... إنتِ مجنونة ... مجنونة جنان ما أقدرش أستغنى عنه ... أنا نفسي قربت أتجنن  ...

إلتفتت "غدير" تجاهه بدهشة ...

- تتجنن ليه كده ما إنت عاقل قدامي أهو ...

ضحكة متهكمة أطلقها "عيسى"على حاله الذي أصبح لا يسيطر على نفسه مطلقًا فقد أوشك على الجنون بالفعل ، جنون بمعشوقته التي سرقت فؤاده بلا رحمة ...

- تعرفي إني ببقى ماشي بدور على وشك في وشوش الناس ... بدور على ملامحك فيهم ... لو سمعت كلمة بتقوليها على لسان حد ببقى عامل زي الطفل الصغير إللي لقى أمه وأحس بالروح دبت فيا من تاني ... أنا بضحك على كلامك لما بقعد لوحدي إنتِ في خيالي مش بتسيبيني يا "غدير" ...

لم تقوى على تحمل عباراته المتغزلة وتظل بشقاوتها وخفة ظلها لتلتبسها روح الأنثى التى تسبح ببحور العشق والهيام تاركة العنان لتلك اللحظة التى لا تعوض برفقة حبيبها وزوجها ...

هدأت ضحكاتها الصاخبة لتعلو ضربات قلبها وتصاعد أنفاسها بتلك السعادة التى تملكتها بقربه وكلماته التى تشدو بأذنيها كالألحان تعزف على أوتار قلبها الضعيف ...

هامت بعيناه المثيرتان فهل يدرك أن ما يخبرها به لا يقرب من قطرة واحدة ببحور عشقها له ، تنهدت ببطء وهي تلملم شتات نفسها التى تبعثرت أمامه لتنفرج شفتيها عن كلماتها التى تأسر قلبه المتلهف لها ...

- لو إنت بتدور عليا فى وشوش الناس ... أنا أصلًا مش شايفه غيرك قدامي ، أنا بحب كل حاجة إنت فيها ، بحب أهلك عشانك ، بحب شكلك وملامحك ، بحب ريحتك ، هدومك ، كتبك ، أنا حتى بقيت بحب الأفلام إللي إنت بتحبها عشان إنت بتحبها ، بقيت بشوف الدنيا بعنيك إنت ، أنا يا "عيسى" بقيت إنت من غير ما أحس ، "غدير" خلاص بتروح منى ، وأنا راضية ومبسوطة ومش زعلانة ، متتصورش أنا مبسوطة قد إيه وأنا بتحول وأبقى نسخة منك إنت ...

نفذت كلماتها العاشقة بقلبه المتيم ، فكم هو سعيد محظوظ بعشقها له ، فهي خير متاع الدنيا ...

لكن على الرغم من لحظتهما الرومانسية تلك والتى من المفترض أن تكون سعيدة حالمة إلا أنه لاحظ بنهاية حديثها نظرة حزينة منكسرة حتى نبرة صوتها المرتجفة جعلته يقابل تهدل ملامحها ببعض الإقتضاب ليردف متسائلًا بنبرته الحنونة ...

- مالك يا حبيبتي ، زعلانه ليه كدة ... ؟؟؟

لم تكن تنتظر أكثر من سؤاله لتترك العنان لإحساسها الحقيقي الذى لا يُخفَى على قلب "عيسى" مطلقًا ، تلك "غدير" التى لا يعرفها سواه ، ضمت بأسنانها فوق شفتها السفلية تمنع نفسها من الإنسياق لداخل دوامتها الحزينة تمسك عيونها الواسعة عن الإنفلات بالبكاء ...

سحبت نفسًا قويًا متهدجًا لداخل رئتيها المتعبتان لتحاول إخراج الكلمات بهدوء لأنها حزينة بالفعل ، أجابته ومازالت عيناها متشدقتان بوجهه الوسيم ...

- نفسي يا "عيسى" أجيب بيبي ، نفسي يبقى ليا طفل منك ، بقالنا أكتر من عشر شهور متجوزين ومفيش حتى بوادر أى حمل ، أنا قلبي حاسس إن أنا فيا حاجة غلط ، حاسة إني مش حبقى أم ...!!!

سحبت نفسًا متهدج آخر لتستكمل بنبرتها التى تذوب به عشقًا لكنها منكسرة للغاية ...

- أنا مش عايزة غير إن أنا وإنت يبقى عندنا بيبي صغير ، مش عايزة أكون أم إلا لو منك إنت ، أنا بحبك أوى يا "عيسى" ...

ضمها "عيسى" لصدره بحنو يملس فوق رأسها الصغير الذى إستكان فوق كتفه يتلقى به نفسها المهتزة ، إجابة أوقع و أحن من مجرد كلمات ، لكنه لم يكتفى بذلك ليجيبها بنبرته الهادئة ...

- لسه بدرى أوى يا "دورا" ، لسه العمر جاى ، متزعليش كدة ، بكرة نجيب بيبي وإتنين وعشرة كمان لو حبيتي ، إحنا لسه فى أول حياتنا سوا ...

إستطرد بصدق يهدئ به نفسها المضطربة بلا داعى ...

- وحتى يا حبيبتي لو ربنا مرزقناش بأطفال ، إنتِ أصلًا كفاية عليا ، إنتِ حبيبتي ومراتي وبنتي ، أنا حاسس إني أخدت رزقي من الدنيا كلها فيكِ إنتِ ، ولو خيروني بين الدنيا بحالها وإنتِ ، حختارك إنتِ وبس ..

ضغطت بقوة تحيط خصره بذراعيها تتشبث بأحضانه بقوة فهو محق ، هو فقط يكفيها ولا تريد من الدنيا سواه ..

- حبيبى يا "إيسوووو" ... أنا بحبك أوى ..

أغمض عيناه ليحاوطها بذراعيه دون حديث فحقًا يكفيه قربها ووجودها بحياته ، دغدغت أنفاسه رائحة اللافندر خاصتها ، تلك الرائحة الدافئة التى يشعر أنها لا تخص غيرها ، تنهد برفق وراحة لتلك السكينة التى تخصه وحده مع مالكة قلبه وحياته صاحبة أجمل قلب وأعذب إبتسامة ...


❈-❈-❈


سويسرا (عهد)  ..

كيف أرسم صورة بالألوان ولا أملك سوى قلم أسود ، كيف أصدق أنني للحظة كنت أستطيع ..

توقفت عجلات الزمان وهي تنظر لـ"معتصم" مدركة ما فعله ، مدركة لكونها لا شيء ، لم يتوجب عليها سوى أمر واحد فقط ، أن تنأى بكرامتها وعِزتها ..

حملت حقيبتها دون أدنى تفكير مُغادرة الكوخ بكل سرعة أوتيت لها ، لم تشعر بساقيها المتبادلتان وهما تقطعان الطريق دون تفكير ، لم تسمح لقلبها المرتجف من أن تقف أو تستدير ملبية ندائه إليها بصوته الشجى الذى خطف دقات قلبها ...

إستكملت ركضها وإنزلاقها فوق الطريق الوحل بعتمة ليل قاس كقلبها تمامًا ..

هناك شئ محبوس داخل أضلاعها تمنعه من التحرر وعليها فقط الركض ...

لا تدرى كم من الوقت ركضت لكنها شعرت بالإنهاك والتعب بعد أن وصلت أخيرًا للفندق الذى نزلت به فور وصولها ...

صعدت مباشرة لغرفتها بحالتها الرثة غير عابئة بنظرات النزلاء لها حين أتت ...

دلفت لخطوة واحدة إلى داخل الغرفة وأوصدت الباب ، بذات اللحظة والتى كانت تنتظرها منذ ساعات تحاملت بها على نفسها ، إنتظرت لحظة خلائها بنفسها والتى أعلنها صوت إغلاق الباب لتتهاوى قوى تحملها و تسقط فوق ركبتيها قاذفة حقيبتها عن كتفها لتنحنى تسمح لنفسها الأذن بالإنهيار ...

تهدلت ملامحها القاتمة المتجهمة تاركة العنان لحزنها ليطفو فوق وجهها الناعم ، تحررت دموعها الحبيسة وصرخ قلبها المكتوم معلنه بإستسلام أنها حزينة ...

إحساس قاهر لنفسها غير معتادة عليه ...

دموع وشهقات وألم ، مزيج لم يمر عابرًا بها بسلام ، شعرت بالخيانة والحزن ، لماذا ... لماذا فعل ذلك بها ..؟؟!

ليت قلبها لم ينبض من جديد ، لم تكن تدرى أن الآلام الروح مؤلمة لهذا الحد ..

بعد مرور بعض الوقت لم تدرى "عهد" كم مر على ذلك لكنها إنتهت ...

دفعت جسدها الطويل لتقف بإستقامة فقد أفرغت شحنة حزنها التى إجتاحتها وعليها العودة ..

إنه مجرد عمل ، وعلى الأمر ألا يتخطى كونه كذلك ، وإن كانت بموضعه لفعلت مثل ما فعل تمامًا ... هكذا قالت "عهد" لنفسها ...

إبتلعت غصتها وإشرأبت بعنقها لتنمحى تلك النظرة المنكسرة وتعود لنفسها ونظراتها القديمة ، قوية شامخة لا تهتز ، صارمة لا تتأثر ، بل ... ومتوحشة إذا لزم الأمر ...

عليها من الآن فصاعدًا ترتيب أولوياتها وألا تكترث سوى لنفسها والعمل فقط ...

عليها أن تعود لرتابة حياتها القاتمة السوداء مرة أخرى ...

لكن كيف ..؟؟ كيف وقد شعرت بأن للحياة متعة أخرى ، كيف ستعود للموت الحي بعدما تيقنت أن لقلبها نبضات ودقات ...

حركت رأسها بقوة تنفض عنها تلك الأفكار حتى لو أجبرت نفسها على ذلك ، فلن تُشعِر أحد بضعفها فهى القوية وستظل كذلك ...

رفعت هاتفها ترسل رسالة نصية للقيادة ...

[ تمت المهمة ... سأعود ] ..

دقائق قليلة ودق هاتفها برسالة نصية ...

[ في إنتظار عودتك ... تم حجز موعد الطيران الخاص بكِ .. تلك صورة مرفقة لتذكرة العودة ... ] ..

ألقت بهاتفها فوق الفراش بعدما إتطلعت على موعد إقلاع طيارتها بصباح الغد لتتجه نحو المرحاض لتغتسل من أثر إنهاكها وإسقاط كل ما حل بها من الخارج والداخل أيضًا ...


❈-❈-❈


خطوات رزينة للغاية تتخذ مسارها بذلك الممر الطويل ، تصدر أصوات مقتربة رنانة فوق الأرضية الملساء بهذا الليل الساكن ...

إقترب صوب الباب ليقبض بكفه السميك مقبضه ليفتحه مباشرة دون الإستئذان أولًا ..

ظهر بجسده الطويل الممتلئ أمام أعين "طه" الذى إنتفض فور رؤيته له لينهض واقفًا على الفور ...

- سيادة اللواء ... !!!

دلف "نظمى" لداخل المكتب قائلًا بصوته الخشن ...

- سهران يعنى النهاردة يا "طه" ..؟؟؟

إبتلع "طه" ريقه بتوتر من مهابة هذا الرجل و تفاجئه بحضوره ..

- يعنى .. بتابع شوية شغل كدة ...

مال ثغر "نظمى" بإبتسامة جانبية يشوبها بعض الخيلاء ....

- أحب أبشرك ... المهمة إنتهت و"عهد" راجعه بكرة ...

إتسعت عينا "طه" بقوة وهو يوارى إحساسه من الظهور جليًا على محياه ...

- حضرتك بتتكلم جد ...؟!!

إقتضب "نظمى" بقوة ليردف ناهرًا إياه ...

- وهو أنا حهزر ولا إيه ... ؟؟! أيوة طبعًا راجعه بكره ... 

طأطأ "طه" رأسه للأمام قليلًا قبل أن يستوضح بتوجس ...

- والمهمة ...؟؟؟ وهي ... ؟؟! كله تمام ...؟؟!

دفع "نظمى" بكتفيه للخلف بحركة يشوبها الثقة والغرور من إختياره الموفق لـ"عهد" للقيام بتلك المهمة ...

- كله تمام ... أنا مبعتش أى حد ... أنا عارف كنت بعمل إيه ...؟؟؟

رغم إمتعاضه لإختياره لـ"عهد" لتلك المهمة الإنتحارية دون حتى توضيح لها بطبيعة تلك المهمة إلا أن "طه" أظهر سعادته بعودتها قائلًا ...

- الحمد لله ... يا ريت تكون مقدر ضيقتي يا ريس ... أنا كنت قلقان عليها تسافر فى الخطر ده .. خصوصًا وهي كمان متعرفش حاجة عن طبيعة المهمة أو الخطر اللي حتكون فيه ...

نظرة غليظة حلت ملامح "نظمى" بلا شفقة ..

- وأهى خلصت ... ومجرلهاش حاجة ... أظن نقفل بقى على الحكاية دى ... وبعدين إحنا مش فى روضة أطفال ... إحنا أخطر جهاز فى الدولة ... ولو هي عايزة شغل حنين .. تسيب شغلنا للناس إللي قدها ...

كتم "طه" غيظه من هذا المتعجرف فهو بالنهاية رئيسه بالعمل كما أنه لا يود أن يطالها أذى بسببه ولن يتنازل عن لحظة سعادته بعودتها ...

- طبعًا يا ريس .. هو فيه زى أفكارك .. وأكيد زمايلنا كانوا مأمنينها تمام ...

- المفروض تكون واثق من كدة ...

ثم أزاح "نظمي" رأسه قليلًا بلا إكتراث مستأنفًا ...

- وحتى لو مش مأمنينها ... مين يعنى إللي حيهتم بـ"عهد" ... هي لها حد ... ولا حتى بتخاف من حاجة ...!!!

إلتزم "طه" الصمت يود لو يصرخ بوجهه القاسي يخبره بما يكنه لها من مشاعر وعشق يخفيه بقلبه ...

- تمام يا ريس ...

خرج "نظمى" من مكتب "طه" الذى كاد يقفز فرحًا من فرط سعادته بمعرفته بموعد عودتها وسلامتها محدثًا نفسه ...

- المرة دى مش حسيبك إلا ودبلتك فى إيدى ... ده أنا كان قلبي حيقف يا شيخه من قلقى عليكِ ...

أسرع "طه" يرفع سماعة الهاتف قائلًا ...

- أيوة يا إبنى ... أمن لى المطار لحد ما "عهد" توصل البيت بالسلامة ...

خفايا القلوب تدفعنا للظن بما لا نعلمه لتموج بنا الظنون بغير محلها ، لكن بعض الظن إثم ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈


بنهاية ليل طويل نظن أنه لن ينتهى ، لكن لكل ليل نهاية ولكل ظلام نهار يقشعه ليبدأ نهار جديد وطريق جديد ..


سويسرا ( الكوخ) ...

بأعصاب تالفة إضطر "معتصم" البقاء حتى الصباح لتسليم الجهاز لمسؤول الأمن الذى تلقى أمرًا بتسليمه إياه ، أمر إستغرق عدة ساعات لم تكن بظاهرها بالفترة الطويلة ، لكنها بنفسه دهور عديدة ...

تسلم المسؤول الجهاز لينطلق "معتصم" بطريقة نحو البلدة فعليه لقائها والتحدث إليها ...

ركض مسرعًا بإتجاه الفندق آملًا أن تسمح له بفرصة لإيضاح الأمر لها خاصة عندما علم بموعد طائرتها صباح اليوم ...


( الفصل السابع عشر )

يتنفس الصباح أنفاسه المبهجة للروح ، بداية جديدة لكل طريق ، فعلى كل منا إتخاذ طريق الصواب ، لكن أولًا علينا إدراك ما هو الصواب وما الخطأ ، علينا تحديد طريق المصير ، علينا تعلم الإتجاهات فالبوصلة أخترعت قبل الساعة لمعرفة الطريق أولًا ...

لم تستيقظ "عهد" فالإستيقاظ لمن غفى ونال من الراحة نصيب ، فلا عيناها غفت ولا عقلها سكن ولا قلبها إرتاح ...

وقفت بصمت تستكمل إرتداء ملابسها السوداء وقد حلت تلك النظرة الخاوية مرة أخرى على عيونها الناعسة ، لملمت شعرها الأسود بغلظة لتعقصه بقوة للخلف ، زاد من مظهرها المتجهم وصرامة ملامحها و تعبيراتها ...

ألقت نظرة على إنعكاس صورتها بالمرآة لكن تلك المرة لم تكن خاطفة كما إعتادت بل طالت النظر كمن تؤنس نفسها بوجود نفسها ، تتحقق من عودتها لما كانت عليه ، لكنها الوحيدة التى تدرك أنها بها شئ تحطم ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

إبتلعت ريقها لتشيح بعينيها مبتعدة عن التطلع بصورتها فهي لا تود رؤية هذا الإنكسار ، عليها بالظهور بصورة أقوى مما كانت عليه ، عليها أن تزيد غلافها صلابة لتحمى داخلها الهش ...

تمامًا كحبة الجوز ذات قشرة صلبة قاسية لا يمكن تحطيمها بسهولة لتحمي ما بداخل قلبها من التفتت ، وإذا توجب عليها التحطم فيجب أن تُضلع قُوىٰ من يحاول كسرها أولًا ...

سحبت نفسًا قويًا قبل أن تزفره ببطء ثم حملت حقيبتها فالآن عليها مغادرة الفندق للتوجه للمطار للحاق بموعد طائرتها المحدد ، فها قد حانت العودة ...


❈-❈-❈


نمر إستوائي شرس قوى ، يركض بين جنبات الأشجار والطرق الزلقة وسط الوحل والعثرات من جانبه ، هكذا كان "معتصم" بعدما سَلَمَ الجهاز لرفيقه وإتجه للحاق بـ"عهد" قبل أن تستقل طائرتها فلم تحدد لهم سفرة واحدة ، بل تم حجز لكل منهما بموعد مختلف منعًا لإثارة أى إنتباه لو كانا مازلا تحت المراقبة ...

بالكاد وصل للمدينة بعد حلول الصباح لكنه لم يكن لديه دراية كافية عن موضع الفندق الذى كانت تقيم به قبل مجيئها للكوخ ..

وقف "معتصم" يلتقط أنفاسه وقد أثنى جذعه تمامًا مستندًا بكفيه فوق ركبتيه يلتمس هدوء أنفاسه المتلاحقة ، رفع جسده بإستقامة مُخرجًا هاتفه ليضغط بعض اللمسات باعثًا برسالة لأحد زملائه بالجهاز ...

[ عاوز عنوان الفندق إللي "عهد" نازله فيه ...] 

[ مينفعش تتقابلوا دلوقت .. لأمانك وأمانها ]

[ متقلقش ... أنا مركز كويس ... إبعتلي بس العنوان ضروري] 

[ تمام .. حبعتلك رسالة باللوكيشن ] 

أرفقت الرسالة الأخيرة بموضع الفندق وإسمه ليتحرك "معتصم" مسرعًا تجاهه متأهبًا للقائها قبل تحركها من الفندق ...


❈-❈-❈


مكتبة بحر ...

للصمت حكايات وللعين سراديب تخفى عاصفة القلوب ، سعادة تكمن فقط من نظرة ، فقط حين أُطيل النظر إليكِ أُدرك أن النعيم والحياة يكمنان فقط بنظرة ، شمس تتجلي لتشرق بسماء حياته القاحلة لتبقى كيقين بأن هناك بعض البشر كصفو السماء خلقوا للتأمل ...

أضواء ملأت أرجاء المكتبة لحظة حضور "نغم" ، هكذا رآها "بحر" ، لؤلؤة تتألق لتنير حياته ببريقها حين تظهر ، مجرد متابعتها بعيناه أمل بحد ذاته ، لكن ياليتها تشعر بهذا العاصف الذى تزلزل من موضعه بداخل صدره ، ياليته يستطيع النطق بها ...

ألقت "نغم" تحيتها بهدوء لتبدأ عملها بترتيب بعض الكتب قبل أن تجلس تقرأ إحداهم لحين ظهور عمل آخر لتقوم به ..

مجرد مشاهدته لها هى حلم حقيقي بالنسبة لـ"بحر" ، لكنه أخيرًا لم يكتفي بالمشاهدة ليقتحم جلستها متحدثًا إليها ...

- على فكرة ... الكتاب ده من الكتب المفضلة ليا ...

إنتبهت له "نغم" لترفع رأسها ببسمة مجاملة ...

- بجد ... أنا أول مرة أقراه ...

سحب "بحر" مقعدًا ليجلس عليه متابعًا حديثه معها ، يود رؤية ملامحها العفوية وهي تتحدث ، يثير حديث يستمع به لصوتها الرقيق بأى حديث كان ، يريد فقط قُربها الذى ينعش الهواء برئتيه وحياة بداخل قلبه ...

- بس عارفه لو كنتِ بدأتي بكتاب أدبي أو رواية كنتِ حتتسلي أكتر ...

بتهكم من حالها أجابته "نغم" ...

- الصراحة أنا مش بقرا غير روايات بس .. عشان كدة قلت لنفسي طالما بشتغل فى مكتبة لازم أكون عميقة شوية وأقرأ كتاب .. بس بصراحة .. أنا مش فاهمة حاجة أبدًا ...

ضحك "بحر" لتلقائيتها لتظهر وسامته الهادئة فكم هي عفوية ولطيفة ...

- طب بتعملي فى نفسك ليه كدة ... !!! واحدة واحدة حتحبي كل الكتب دي وتفهميها كويس .. كمان فيه كتب أبسط من كدة ممكن تبدأي بيها وحتعجبك جدًا ... أنا بعمل كدة ...

بفضول شديد سألته عن كتاب من هذه الكتب التى يتحدث عنها ...

- زي إيه يعني ...؟!!

وقف "بحر" بزهو ليختار لها أحد الكتب قائلًا ...

- لو عايزة رأيي ... إبدأي بالكتاب ده ...

همست "نغم" تقرأ إسم الكتاب ...

- (لأنك الله) .. الدكتور مصطفى محمود .. شكله حلو ..

- الكتاب ده حقيقي حياخدِك فى حته تانيه ...

أومأت "نغم" بوداعة وهى تتطلع نحو غلاف الكتاب البسيط للغاية فيما شرد "بحر" بعذوبتها وبساطتها التى سلبت قلبه ، عاد لمقعده ليسترسل بحديث وراء آخر متطرقًا لعدة موضوعات يود لو أن حديثهم لا ينتهى ...

حاول معرفة المزيد عنها والتحدث عن نفسه أيضًا ليمر الوقت دون الشعور به لكلاهما ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈


سويسرا ...

رسائل وكلمات مؤجلة ، بإرادتنا أو بدونها لكن النتيجة واحدة ، فقد تأجلت الكلمات وعز علينا الإيضاح لكننا لم ندرك أنه ربما تتغير العناوين ولا يمكننا إرسال الرسائل ...

بالكاد وصل "معتصم" للفندق يشعر بالإجهاد والتعرق رغم برودة الأجواء من حوله ، وقف يتطلع بالمحيط من حوله باحثًا بعينيه الكاشفتين كرادار قوى عن وجهته ، دارت مقلتيه السوداء بالوجوه والأشخاص من حوله باحثًا عن هدف واحد فقط ...

هدف كاد يُفقدهُ صَوابه منذ رؤيته ، وقف يلتقط أنفاسه المتصاعدة إثر ركضه السريع لوقت طويل ليصل لنتيجة واحدة بالأخير ... إنها ليست هنا ...

تقدم بهدوء خطواته الواثقة نحو مكتب الإستقبال متسائلًا ..

- من فضلك .. أريد الآنسة "عهد مسعود" .. 

أجابة عامل الإستقبال بعملية ..

- لحظة واحدة ...

طرق العامل بأصابعه فوق لوحة المفاتيح الخاصة بجهاز الحاسوب ليردف ببسمة لزجة للغاية ..

- عذرًا يا سيدي ... لقد تركت الفندق منذ قليل ...

توقف الزمن لتتجمد ملامحه للحظات ، لقد تأخر ولم يلحق بها ، وجد نفسه يشعر بشعور غريب للغاية ، إنه الإحباط .. ذلك الشعور الذى لم يحل به من قبل ، لكنه مُزج بشعور آخر مغاير تمامًا ، إنه متضايق منزعج بشكل قبض روحه ليبتلع ريقه ثم أردف متسائلًا ببعض الثبات ..

- منذ متى رحلت من فضلك ...؟!!

أعاد العامل إجابته بذات الإبتسامة الدبلوماسية اللزجة ...

- منذ ما يقرب من النصف ساعة ...

تهدلت ملامح "معتصم" لوهلة بذهول فهو لم يتوقع أن ترحل بمثل تلك السرعة حتى أنه لم يتسنى له شرح موقفه لها ..

أومأ بخفة قبل أن يبتعد بخطواته لخارج الفندق متجهًا نحو المطار فربما يستطيع اللحاق بها هذه المرة رغم صعوبة ذلك لكنه لن ييأس من محاولة أخيرة قبل رحيلها فليس من طبعه الإستسلام بسهولة ...


❈-❈-❈


مطار لوغانو "سويسرا" ...

حُلة رسمية سوداء ، شعر معقود ملامح متجهمة وصمت تام ، وقفت "عهد" أمام أحد موظفي التأشيرات بالمطار تنهى إجراءات سفرها بوضع أحد الأختام بجواز سفرها إستعدادًا للمغادرة ..

سحبت نفسًا طويلًا باردًا للغاية ، ترى هل تلك البرودة من برد الشتاء العاصف بهذه المدينة أم هو حياتها التى لا تقترن بالدفء والراحة ...

ختم وضع بصفحة جواز سفرها أعلن نهاية مهمتها وبقائها هنا ، البلدة التى شهدت على ميلاد قلبها ونهايته بذات الوقت ...

رفعت رأسها بشموخ كما إعتادت وإتخذت خطواتها الجادة تجاه قاعة الإنتظار فلم يعد يتبقى على موعد إقلاع الطائرة سوى النصف ساعة ...

جلست بمقعد الإنتظار تسترجع ومضات من زيارتها ومهمتها ، تسترجع مشاكسته لها وإبتسامته التى سرقت دقات قلبها الخائنة ، عيناه القاتمتان التى تتحدث بغموض ، ضمت شفاهها بتأثر لتنظر نحو الفراغ فعليها أن تنسى كل هذا ، يجب أن تُجبر قلبها وعقلها على النسيان وإعتبار تلك الأيام مجرد مُهمة وإنتهت منذ هذه اللحظة ولن يجمعهما أى زمان ومكان بعد الآن كما كانت من قبل ...

دقائق ودقائق مرت متلاحقة ليعلن النداء عن التوجه إلى الطائرة فحان موعد الرحيل ، وقفت تستقيم بطولها المميز حاملة حقيبة يدها الخفيفة متجهة نحو البوابة لصعود الطائرة ليسدل الستار عن كل شئ خلف ظهرها ...


وقفت إحدى سيارات الأجرة أمام المطار قبل أن يترجل منها "معتصم" بخطواته المتعجلة الأقرب للركض ليدلف إلى داخل المطار باحثًا بعيناه الكاشفتان عنها ، دار حول نفسه بإستدارة متعجلة يبحث عن طيفها الأسود لكنه فشل بإيجادها ...

أسرع نحو أحد المكاتب يسأل عن موعد الطائرة المتجهة للقاهرة ...

- معذرة ... متى ستقلع الطائرة المتجهة للقاهرة من فضلك ...؟!!

بدون حتى أن يتحقق الموظف أشار بكفه نحو السماء بيقين مجيبًا إياه ...

- لقد حلقت بالفعل يا سيدى ....

تعلقت عينا "معتصم" المدهوشتان بالسماء الواضحة من النافذة الزجاجية حيث أشار الموظف بإحباط شديد وهو يملس جبهته بعنف لفشله مرة أخرى باللحاق بها ...

أغمض عيناه لوهلة بضيق بالغ تَفَهمَهُ الموظف بأنه لم يلحق بالتأكيد بأحد الركاب بها ليلتف "معتصم" مغادرًا المطار ليعاود لمسكنه لتلقى آخر التعليمات وموعد عودته القريبة قائلًا لنفسه ببعض التحدى ...

- ولو ... حتى لو فلتى منى النهاردة ... مسيري حرجع مصر ... وأكيد الوشوش حتتقابل .. ويا أنا يا إنتِ يا "عهد مسعود" ...

❈-❈-❈


بيت فخري النجار ...

ماكر .. خائن كائن العنكبوت فهو يسقط فريسته ويصطادها داخل بيته اللزج لكنه هو فقط من يدرك أين يضع خطواته حتى لا يقع بالشرك الذى ينصبه ، كذلك كانت "حنين" فهي لا تختلف عن كونها أنثى للعنكبوت تنصب الشراك ببيتها تنتظر وقوع فريستها بالشباك بمكر ودهاء ...

إنتظرت بداخل شقتها ذات الباب المفتوح منذ ساعات الصباح الباكر لخروج والد زوجها متجهًا لمحل العطارة خاصته لتنتهز فرصة بقاء "صباح" و "راويه" بمفردهن بالأعلى ...

أعدلت من وضع عبائتها الحمراء المزركشة بخيلاء أمام المرآة قبل أن تصعد الدرج نحو شقة والدا زوجها لإتمام أمر تفكرت به جيدًا للتخلص من "راويه" التى تفسد عليها كل خططها للسيطرة على عقل "صباح" والاستفادة منها قدر الإمكان ...

دقت جرس الباب بوجهها المقتضب وشفتيها المزمومتان لكنها فور أن فُتح الباب وإرتخت ملامح وجهها بإبتسامة مزيفة حين تلاقت عيناها مع بغيضتها "راويه" ...

- صباح الخير يا عروسة ....

إطلاق هذا اللقب عليها لم يكن سعيدًا بالمرة بل هو مفاجئ مقلق خاصة من تلك الحرباء المتلونة ...

ظنت لوهلة أن "حنين" تسخر منها وتقلل من شأنها كالعادة لتردف "راويه" بعدائية مهاجمة ...

- ما تلمى نفسك يا "حنين" ... ناقصة مسخرتك على الصبح ...!!!

دفعت "حنين" بكفها كتف "راويه" تزيحها عن طريقها وهي تخطو نحو الداخل بتغنج وغرور وهى تُعلى من صوتها حتى تسمعها "صباح" ...

- يا أختى بقى أنا الحق عليا إني جايه أبشرك بالعريس ....!!!

إخترقت كلمة (عريس) أُذن "صباح" التى خرجت للتو لتشهق بسعادة وعدم تصديق لما سمعته أذناها للتو ...

- عريس ...!!! إنتِ بتقولي عريس يا "حنين" ...؟!!

ها قد نالت مرادها لتقف "حنين" بمواجهة والدة زوجها بغرور ممتعض من عدائية "راويه" معها قائله ..

- أيوة يا ماما "صباح" ... بس الظاهر "راويه" عمرها ما حتعدل لسانها معايا ...؟؟؟

قالتها لتثير حنق "صباح" على "راويه" وتوبخها لطريقتها الجافة معها ، هتفت "صباح" تعنف "راويه" بشراسة ...

- إخرسي يا بت ... ولمى لسانك مع مرات أخوكِ ...

إتسعت عينا "راويه" بغيظ فتلك القميئة لا تنفك بأفعالها وكلماتها التى تبث السموم أينما وجدت لتهتف بغضب تجلى بملامحها وصوتها ..

- مش تشوفي هي بتقول إيه الأول ... ولا على طول تطلعي فيا كدة ... ما هي إللي بتتمسخر عليا .. !!!!

إستكانت "حنين" بوداعة لا تليق بها لتردف مرققة من صوتها ...

- بقى كدة ... كتر خيرك ... ده أنا مستنيه من صباحية ربنا عمى "فخري" يروح الوكالة وآجى أبشركم .. 

سحبتها "صباح" خلفها بحماس متجهة نحو غرفة الصالون الأحمر خاصتها وهى تدب الأرض بقدميها الممتلئتان قائله ..

- سيبك منها ... تعالي قوليلى إيه حكاية العريس ده ..!!

جلست "حنين" غير عابئة بنظرات "راويه" المتقدة بغضب من خلفها لتزداد غرورًا وتفاخرًا بخبر الساعة " عريس لـ راويه" ...

- عريس إنما إيه ... ما إنتِ عارفاه يا ماما "صباح" .. 

إرتعشت عينا "صباح" بسعادة و حماس متسائلة بفضول كاد يحطم أعصابها بينما أنصتت "راويه" لما ستقوله "حنين" فيبدو أن الأمر جديًا ..

- ما تقولي على طول يا "نونه" ... مين ده اللي أعرفه ...؟!!

زمت "حنين" شفتيها المبتسمتان قبل أن تلقى بقنبلتها بوجهيهما ...

- "حمو" إبن عمتي "عديلة" ... 

شهقت "راويه" بصدمة وهي تضرب صدرها بكفها بعدم تصديق ليتوهج وجهها الأسمر إنفعالًا من عرض "حنين" المُخزي لتصرخ بها بغضب ...

- إنتِ إتجننتي ولا إيه ... ؟؟! مش ناقص إلا "حمو" ده كمان ...؟!! إنتِ الظاهر إتهلبتي فى دماغك ... !!!!!

تلجمت "صباح" عن الحديث فبم ستجيبها ، هل بالنهاية يكون عرض الزواج الوحيد لأبنتها من هذا المعاق ذهنيًا إبن عمة "حنين" والذى يعيش بكنف والديه لا يفقه أى مسؤولية لذاته على الأقل ...

أترضى به زوج لإبنتها وتتخلص من همها أم ترفض تلك الحياة المُهينة مع زوج لا يصلح لكونه زوجًا من الأساس ...

طرفت "حنين" بعيناها لتبرر طلبها دون الإهتمام بصراخ "راويه" ...

- عمتي "عديلة" ست قادرة ومعاها قرشين ونفسها تجوز إبنها ومش حتخلي "راويه" محتاجة حاجة ... تؤمر بس ... وأهي يبقى ليها عيشتها وبيتها وتطلع من بيت أبوها بدل ما هي عنست كدة يا ماما "صباح" ... وأنا قلت "راويه" أولى بالعيشة الحلوة دي ... كل حاجة حتبقى تحت رجليها من كافة شئ .. أبقى غلطانة عشان بدور على مصلحتها ...

ضاقت نفس "صباح" لكنها لم ترفض الأمر نهائيًا لتردف بحيرة ...

- بس متأخذنيش يعني ... مفيش غير "حمو" ... ده دماغه على قده ...!!!

شعرت "حنين" بأن "صباح" قد تميل للموافقة إذا ضغطت عليها للتخلص من حمل "راويه" الذى أثقل قلبها لتردف بتزيين الأمر بعينيها ...

- وهو ماله "حمو" ... ده طيب وغلبان ... ومعاهم فلوس زى الرز ... يعيشوها ملكة ... هي حتعوز إيه أكتر من كدة ...؟؟! 

دارت عينا "راويه" بحيرة بين كلاهما فهي لا تصدق أن هناك حوار يقام من الأساس لتهتف بغضب ...

- إنتوا بتفكروا إزاى ... وربنا ما يحصل ... ده أنا أمُوت أرحم من الجوازه الهباب دي ... ( ثم نظرت تجاه "حنين" بأعين ساخطة فهي سبب كل المشاكل ) ... إنتِ المصيبة اللي بتحدف بلاويها علينا ... إنتِ مالك ومالي ... قاعدة فى مال أبوكِ ... !!! مالكيش دعوة بيا ... أنا حرة ... أعنس معنسش أنا حرة ... إطلعي إنتِ منها يا سوسة ...!!

وقفت "حنين" تتصنع الإنفعال ..

- شايفة يا حماتي ... شايفة بنتك بتقول إيه ...؟؟! بقى أنا سوسة ...؟!! يعنى الغلط بقى عندى أنا دلوقتِ ... أنا إللي غلطانة إني بدور على مصلحتها ...

قضمت صباح شفتيها بإمتعاض لا تدري أتوافق أم ترفض ، لكنها ترى إنفعال "راويه" بشكل مبالغ فيه لتهتف بها لتهدأ قليلًا ...

- أصبري يا بت أما نشوف ...

رفعت "راويه" كفيها تنهر والدتها لمجرد التفكير بالأمر ...

-إنتِ بتفكري ...!!!! الموضوع ده ما ينفعش أصلًا ... يعني على آخرة صبري أخد العبيط إبن عمتها ..؟؟؟! 

لم تطيق "حنين" أسلوب "راويه" المنفعل لتجدها فرصة لتصطنع الضيق قائله ...

- لا ده مش إسلوب كلام أنا غلطانه من الأول إن أنا أجيب المصلحه دي ليكِ أنا نازله شقتي يا ماما "صباح" ... 

لم تلبث القليل إلا وخرجت من شقة والدى زوجها تاركة الأمر لتفكير "صباح" التي ربما توافق على زواج "راويه" والتخلص من مسؤوليتها وتكون هي الرابحة بغيابها عن البيت حتى تستطيع الوصول لمبتغاها من "صباح" و"فخري" ... 

شعرت "صباح" بالتخبط بين الموافقة والرفض لكن وجه "راويه" الغاضب جعلها تبتلع كلماتها تنتظر التفكر بالأمر جيدًا ، بينما أخذت "راويه" تدور بهياج لا تصدق أن "حنين" تجرأت بعرض مثل هذا الأمر عليها ، فكيف تُدني من نفسها لمجرد التفكير به ..

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈


(نيره ستور) لمستحضرات التجميل ..

بجلسة ثنائية بين "نيره" وصديقتها "إسراء" بأحد أركان المتجر ، مطت "نيره" شفتيها وهي تستطرد حديثها قائله ...

- وبعدين أصريت إن إحنا نرجع البيت وما نشوفش الموبيليا ...

هزت "إسراء" رأسها إيجابًا لتصرف "نيره" السليم قائله ...

- برافو عليكِ ... صح كده عشان ما يفتكرش إن زعلك يعدي بالساهل ... لازم يحس بقيمتك ويعمل لك ألف حساب .. إنتِ كمان لازم تكون عينك عليه أكتر من كده ...

أوسعت "نيره" من عينيها متسائله ..

- يعني أعمل إيه ...؟!!

لفت "إسراء" خصله شعرها حول إصبعها متفكره قبل أن تجيبها ...

- إنتِ دلوقتِ في مرحلة كويسغ جدًا .. أي طلب حتطلبيه لازم يتنفذ فورًا ... إنتِ كده بقيتي الأقوى .. بس لازم تكون سيطرتك عليه في الشغل كمان ..

- في الشغل طب أعملها إزاي ...؟!!

حركت "إسراء" رأسها وهي تقلب شفتيها بتفكر بالأمر ثم أردفت ...

- لازم من وقت للتاني تطبي عليه في الشغل .. عشان يعرف إن إنتِ عينك عليه على طول .. ما ينفعش تسيبيه لنفسه .. خطيبك ده بالذات ما لهوش أمان .. كل شويه يحب يقعد مع البنات ويتكلم معاهم .. إنتِ لازم تبقى عينك عليه في الشغل وفي البيت ...

أومأت "نيره" رأسها منصاعة لأفكار "إسراء" التي تنير بصيرتها ...

- صح معاكِ حق .. أنا لازم أطب عليه كل شويه في الشغل علشان أشوفه بيعمل إيه من ورايا ...

- إنتِ كده صح ...

دارت عينا "نيره" بتفكر كيف تمر بـ"رؤوف" من دون إخباره بذلك لترى ماذا يفعل من خلف ظهرها ..


❈-❈-❈


بيت محفوظ الأسمر ( وعد) ...

لم يكن الأمر عاديًا ، فما تظنه يسيرًا قد حل بي بعد ألف معركة برأسي وألف ألف كسر بقلبي ، وإكتفيت بقول كلمة لا بأس ...

حَملت بقلبي كل البأس لأجل صغيري فقط ، هو ما أتحمل لأجله فلا تظن أنه لسبب آخر ...

تطلعت "وعد" بالجدران الكئيبة من حولها تدور بأفكارها الأحداث والذكريات بعد إصابة والد زوجها بالذبحة الصدرية ونقله إلى المستشفى ...

فبعد تلك الليلة التى إنتهت بالمشادة القاسية بين "عاطف" و"عتاب" أمام أعين الجميع و إنسحاب "عاطف" منفعلًا بسبب إتهام "عتاب" له بأنه السبب بما حدث لوالدهم وأنها لا دخل لها بما حل به ...

تلقوا باليوم التالي خبر مفزع بوفاة "محفوظ" فلم يتحمل قلبه كل هذا العناء ...

كانت وفاة مرتقبة فحالته كانت سيئة للغاية إثر تلك الأزمة التى من الصعب تجاوزها ...

تذكرت "وعد" تلك الأيام الكئيبة التى عمت البيت بأكمله حزنًا على فقدانهم لأبيهم ، لكن سرعان ما تحول هذا الحزن لصدام من نوع آخر ...

تبدلت أحوال "عاطف" ليصبح أكثر عدوانية وتملكًا فقد إتخذ محل والده بكل شئ وأصبح هو فقط الآمر الناهي بالبيت والعمل ...

ذلك الأمر الذى لم تتقبله "عتاب" بسهولة لتكثر مصادماتهم وشجارهم المتوالي فـ"عتاب" لم تكن بالراضخة لتملُك "عاطف" وسيطرته على كل شئ ...

وما أثار حفيظتها هو تجنب "محب" لكل تلك الصدامات والوقوف كمتفرج لما سينتهي الأمر بين أخته وأخيه ...

إستطاعت "عتاب" شحن نفس والدتها على أخيها لتشترك دومًا معها بالصدام مع "عاطف" الذى لم يكترث لهم بالمرة ، بل تمادى بكونه صاحب السلطة والتحكم فى المال ...

كل ذلك أثار تساؤل "وعد" بقوة ، فلماذا يتحكم "عاطف" فقط بالمال والتجارة ؟!! لماذا يصرُ على بقائها بالشقة ولا تختلط بوالدته وأخته كما كانت بالسابق ؟؟ لماذا يهددها دومًا بأنه سيلحق بها الأذى أو يطلقها إذا لم تنتبه بشدة لولدهم الوحيد "زين" كما لو أن خطرًا ما سيحل به ...

يومًا بعد يوم شعر "عاطف" بكونه الوسيم صاحب الثروة لتتفاجئ "وعد" بمعرفتها بأنه على علاقة بسيدات سيئات الخُلق يقضى معهن ليالٍ مشبوهة كروحه القميئة ، لم تكترث "وعد" بتلك الرسائل الوقحة التى تصلها منهن بوصف منحل لخيانته لها معهن فقد فقدت كل أحاسيسها تجاه هذا الرجل ، بل أوصلها بنفسه لحافة الكراهية والبغض ..

ما كانت تنظر إلا لولدها فقط ، فهي لن تستطيع الخروج به من هذا البيت لهذا عليها التقبل والبقاء معه فهو يستحق تلك التضحية ...

أيام تتوالي وما عاد يربطها بهذا الخائن سوى طفلهما حتى الحديث بينهم قد إنقطع فبعد إغلاق المعرض يتجه لإحدى هؤلاء المنحلات لقضاء ليلته معهن ويأتى مع بزوغ الفجر سكيرًا مترنحًا بحالة يرثى لها كمن يتفاخر بكونه مرتكب تلك الكبائر دون أن تتفوه هي بكلمة معاتبة ، ربما يفعل ذلك بها كنوع من العقاب لها لتجنبها له ونفورها منه بالآونة الأخيرة ...

❈-❈-❈


الطائرة ...

كما لو كانت حلقت فوق السحاب تاركة قلبها يسير بالأرض ، كمن إنتزع قلبها تاركًا خلفه فراغ أجوف ، لكن العجيب أنه مازال يتألم ...

إتخذت "عهد" مقعدها بالطائرة تتذكر رحلة قدومها كيف كانت ، قويه غير مبالية ، شرسة .. حادة بعكس جلستها اليوم هادئة مستكينة ، كمن تبدلت نظراتها للعالم من جديد وأصبحت ترى الدنيا من منظور مختلف ...

هل بتلك الأيام الماضية فقط أزيلت الغشاوة عن أعينها ، أم أنها كانت تبصر واليوم غُم عليها ...

بهدوء عكس طبعها جلست تنتظر نهاية رحلتها وعودتها إلى أرض الوطن ...


❈-❈-❈

سويسرا ( الفندق) ...

عاد "معتصم" إلى الفندق لينهي ما تبقى من مهمته إستعدادًا لإستقلال الطائرة مساء اليوم كما حُدد له ...

جلس بطرف الفراش وهو يستند بمرفقيه فوق ركبتيه منكسًا رأسه بضيق بالغ متعجبًا من حاله ، فقد ظن أنه بمجرد الإنتهاء من المهمة سيكون سعيدًا بقدرته على الإنتهاء منها ، لكنه الآن يشعر بأن هناك شيء عظيم ينقصه ، لماذا ليس سعيدًا بنجاحه هذه المرة ؟؟! 

هل يمكن أن تكون قد إستطاعت "عهد" أن تترك هذا الفراغ المهول بداخل نفسه حتى انه لا يستمتع بنجاحه ككل مهمة يقوم بها ، لقد أصبح نجاحه أمرًا عاديًا وسعادته منقوصة ...

رفع وجهه قليلًا محدثا نفسه ...

- لو فاكره إنك كده أنهيتي المهمة ... تبقي لسه ما عرفتيش أنا مين ... راجع لِك ... وساعتها نشوف مين فينا حيغلب التاني يا "عهد" ....


❈-❈-❈


المستشفى ...

كما وعدت يجب أن توفي بوعدها ، هكذا هي "شجن" ، إتجهت نحو المستشفى للمرور بـ"أيوب" للإطمئنان عليه فقد شعرت بالمسؤولية تجاه هذا الرجل الوحيد ...

مرت أولًا بالطبيب المتابع لحالة "أيوب" لسؤاله عن حالته اليوم ....

- صباح الخير يا دكتور أنا "شجن" قريبة عم "أيوب" بتاع حادثة العربية ...

نظر إليها الطبيب بتفهم قائلًا ...

- أه أهلًا وسهلًا ... كويس إن حد من أهله جه علشان كنت عاوز أوضح حالة عم "أيوب" لحد من قرايبه ...

ضيقت "شجن" حاجيبها بتوجس لتردف متسائلة ...

- ماله عم "أيوب" ...؟؟ هو في مشكله ولا إيه ...؟!!!!

أشار إليها الطبيب بالجلوس أولًا ليشرح لها حالته الصحية ...

- شوفي يا آنسه عم "أيوب" بسبب الحادثة حصل له كسر مضاعف في عظم الحوض وده أثر على بعض الفقرات في العمود الفقري .. للأسف حيبقى صعب جدًا إنه يقف ويمشي على رجليه من تاني ... مش عاوز اقولك إن الأمل إنه يرجع لحالته الطبيعية يكاد يكون معدوم ... وحاليًا هو محتاج رعاية وإهتمام كبير جدًا ....

صدمة غير متوقعة لتتهدل ملامحها بذهول وتتشدق عيناها لتتسعا عن آخرهما ، فهل بهذه السهولة يتحول الإنسان من قادر إلى عاجز عن الحركة ، سبحان من يغير ولا يتغير ، أشفقت بتأثر لحال هذا الرجل الطيب فكيف ستخبره بالأمر ... وكيف سيتقبله ، بل وكيف سيتعامل معه بوحدته التي يعيش بها ...؟!! 

هزت "شجن" رأسها بتفهم قبل أن تغادر مكتب الطبيب متجهة لغرفه "أيوب" وقد شعرت بثقلًا يجثم فوق قلبها ...

طرقت الباب بخفة تستأذن للدخول حين طلت برأسها المستدير وإبتسامتها العذبة ليتفاجأ "أيوب" بزيارة "شجن" ، لقد أتت من أجله مره أخرى ...

تهللت أساريره بسعادة وهو يتابع دخولها غرفته بوجهها البشوش وملامحها الرقيقة قائله بإبتسامة ...

- صباح الخير يا عم "أيوب" ...

حاولت "شجن" ألا تُظهر ما أخبرها به الطبيب ، فبالتأكيد نفس هذا الرجل المهترئة لا تتحمل خبر مثل هذا ...

قابلها "أيوب" بإبتسامة ونظرة ممتنة لعودتها ...

- صباح الخير يا "شجن" يا بنتي ...

جلست "شجن" على المقعد المجاور لفراشه لتضع عُلبة الطعام الكبيرة التى حضرتها والدتها بالصباح ...

- جايبه لك بقى فطار إنما إيه ... ملوكي ... كُل بقى و إدعي لي ...

تطلع "أيوب" بالعُلبة البلاستيكية الكبيرة التي من الواضح أنها صنعت بالمنزل ليتفاجئ برائحة الطعام الشهية تدغدغ أنفه ، فيبدو أن تلك البسيطة تكلفت الكثير لإعداد هذا الطعام ...

- إيه ده كله يا بنتي ... مكلفه نفسك أوي كده ليه ...؟؟!!

- لقمة بسيطة يا عم "أيوب" ... يلا كُل إنت بالهنا والشفا الأكل ده كله علشان تقوم لنا بالسلامة ...

إبتسم "أيوب" بوهن وحلت نظراته الحزينة بملامح وجهه المجعد حين أدرك بفراسة أكسبها له الزمن قائلًا ...

- شكلك طيبه و إللي في قلبك بيبان على وشك على طول ... شكلك عرفتِ يا بنتي الدكتور قال إيه ...!!!

إبتلعت "شجن" ريقها الذي جف بحلقها لتجيبه بأمل ويقين ...

- بس إحنا لسه قدامنا علاج وإن شاء الله حتبقى أحسن من الأول .. مش عايزاك تفكر خالص في الحكاية دي ...

بتقبل تام ورضا بما قسمه الله له أجابها "أيوب" ...

- إنتِ فاكره إني زعلان يا بنتي ... ؟؟! لا والله ده نصيب وقدر وأنا راضي بقسمتي إللي ربنا كتبها لي ...

شعرت بقلة الحيلة ، فماذا ستفعل لهذا الرجل الذى لابد من وجود رعاية كافية له ...

- طب وإنت حتعمل إيه يا عم "أيوب" و إنت لوحدك كده ....؟؟!!!

أجابها "أيوب" بإستكانة ...

- ربنا هو المستعان ... أكيد ليها حل بإذن الله ...

هزت "شجن" رأسها بعدم إدراك ...

- طب إنت ليه لوحدك ...؟!! فين أهلك فين ولادك .. فين الناس إللي بتحبهم ...؟!!!

تنهد "أيوب" بضيق رغم تقبله لحاله ...

- أنا مش من هنا يا بنتي ... أنا كنت جاي القاهره أخلص شوية ورق ... لكن أنا مش من هنا ... أنا ما ليش حد في الدنيا يقعد معايا بس أكيد حرجع بلدنا ... مش هينفع أقعد هنا على طول ...

حاولت إظهار تفهمها لكنها كانت مشفقة جدًا على حاله ووحدته ، إنتبهت لتأخرها عن العمل لتنظر لساعة يدها الصغيرة لتردف بتعجل ...

- إحنا لسه حنتكلم كتير ... المهم دلوقتِ تخلص أكلك ده كله و أنا لازم أروح المستوصف أحسن أنا إتأخرت أوي ... أنا حعدي عليك تاني عشان أعرف إيه حكايتك بقى بالتفصيل .. وتقول لي فين قرايبك دول عشان نتصل بيهم وترجع بلدك ...

أومأ "أيوب" برفق فيكفيه وجودها إلى جواره ..

- ما تشغليش نفسك بحكايتي ... كفاية إنك هنا و بتسألي عني ...

ضحكت "شجن" بخفه قائله بشقاوة ...

- لا أنا فضولية وعايزة أعرف إيه حكايتك بالتفصيل الممل ...

- وأنا حقول لك كل حاجة لما تبقي تيجي تاني ...

- ماشي يا عم "أيوب" أنا حروح الشغل وآجي لك بكره ... إستناني ...

- حاضر يا بنتي حستناكِ .... 

أسرعت "شجن" بطريقها إلى المستوصف حتى لا تتأخر عن عملها الذى إستأذنت منه قليلًا للذهاب للمستشفى والعودة لإستئناف عملها مرة أخرى ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈


بيت النجار (زكيه) ...

تحضرت "زكيه" وهي تنظر لآخر مرة بمحفظتها الخاوية ، لتتنهد بضيق فمتى ستنتهي الهموم التي تلازمها ولا تتركها للحظة ، ماذا فعلت لتنال كل هذا الحظ العسر ...!!! لكنها تُدرك أن المؤمن مصاب ليتقرب إلى الله ويثقل ميزانه بالحسنات عوضًا عن حزنه وكربه بالدنيا ...

جرجرت ساقيها لهذا الطريق فليس لديها حل آخر فما زال الشهر بمنتصفه والنقود بنهايته .. 

تحركت صوب إحدى جارتهم بالحي التي إعتادت على الإقتراض منها لحين قدرتها على السداد ، وعليها إنتظار أن تحصل إبنتيها على راتبهم ببداية الشهر الجديد لسداد الدين ...

مُجبرة وليست مُخيرة ، فمن أين تأتي بالمال لتعيش هي وبناتها ، تقدمت نحو بيت السيدة "خيريه" وهي كما تسمى تمامًا لا تتقاعس عن المساعدة ، لكنها تحب الإلتزام ...

لطالما وقفت إلى جوار "زكيه" بأوقاتها الصعبة ، دقت "زكيه" باب "خيريه" لتستقبلها الأخيرة بترحاب وحفاوة ...

- يا أهلًا يا أهلًا بالست "أم شجن" ...

- صباح الخير يا "خيريه" ... معلش أعذريني مقصرة معاكِ ...

قالتها "زكيه" وهي تدلف نحو الداخل وتقصد ما قالته حقيقة فـ"خيريه" سيدة وحيدة ليس لها زوج ولا أولاد تنتظر مرور أحبائها بها لقضاء وقتها معهم فوحدتها قاسية على من هم بعمرها فقد فاتت كل القطارات لتتركها وحيدو بمحطة الكِبَر ...

- أنا عتبانه عليكِ ... كده برضه تغيبي ولا تسألي عليا ...؟؟؟!

- حقك عليا يا "خيريه"... ما إنتِ عارفه دوخة البنات وعمايل "صباح" الله يسامحها ... 

ذمت "خيريه" فمها بإستياء من سلبية "زكيه" حتى بدعائها ...

- هو إيه إللي ربنا يسامحها ... يا أختي الله لا يسامحها على عمايلها فيكِ وفي عيالك ... أنا عارفه بس إنتِ ساكته ومستحمله كده ليه ...؟! تغور السُكنه إللي مبهدلاكِ إنتِ وبناتك دي ...!!!! 

تنهدت "زكيه" بقلة حيلة تجيبها بنفسها المتحشرج ...

- يعني نترمي في الشارع وبيت أبوهم موجود ...!!! أسيب لهم كل إللي حيلتي ...!!! ما إنتِ عارفه إنهم نفسهم يطفشونا من البيت عشان ياخدوا الشقة ...

ضربت "خيريه" بكفها فوق فخذ "زكيه" ببعض الملامة لتردف بقوة مستهزئة بحديث "زكيه" ...

- لاااا ... خليكِ في البهدله وقلة قيمتك وقيمة بناتك ..!!!! هو ده ينفع يا "زكيه" 

.. دول عرايس بقوا واعين وفاهمين كل حاجة ... بقى علشان ورثكم تتبهدلوا كده مع الوليه أم لسان طويل دي ...!!!!

وكعادة الإستسلام لدى "زكيه" طأطأت رأسها بيأس وهي تجيبها مبررة إستسلامها الشديد ....

- الأمر لله حعمل إيه ...!! ده حتى فلوس العِيشة مش مكفيه ... ده أنا جايه لك و وشي منك في الأرض تسلفيني لحد أول الشهر ... قوليلي طيب لو سكنت في شقة إيجار أقل إيجار بكام !!! ... أهو في الأول وفي الآخر إسمه بيتنا ... وحقهم وحق أبوهم ووصيته إننا ما نسيبش الشقة ....

زفرت "خيريه" بغيظ من إستسلام "زكيه" المعهود ....

- طب حتى دوروا على عقد الشقة عشان تبيعوها ...!!

ضربت "زكيه" كفيها بعضهم البعض بتحسر ...

- يا أختي كله إلا موضوع العقد ده ... ده فص ملح وداب دورت في كل حته في البيت مش لاقياه أبدًا ... البنات كل يوم والتاني عايزيني أبيع الشقة ... طب إزاي ... ؟!! هو أنا معايا عقدها ...!!

بإندهاش هزت "خيريه" رأسها متسائله ...

- يكون راح فين يا أختي ..؟؟! ما يكونش "فخري" ولا مراته سرقوه ...؟!!!

مالت "زكيه" بفمها بسخريه قائله ...

- دول ولا بيخطوا عتبة شقتي ... عمرهم ما دخلوا عندي أبدًا ... حيكونوا أخدوه إزاي بس .. ده أنا من بعد جوزي الله يرحمه ما مات دورت عليه لما دُوخت ما لقيتلهوش أثر ..مع انه موصيني ما أفرطش في حق البنات ... 

- عجيبة والله ..!!! ربنا يعترك فيه .. (مطت "خيريه" فمها بإمتعاض ثم أردفت مشفقة على حال جارتها)... خلاص يا أختي يبقى تكلمي "فخري" يلم مراته وعياله عنكم شويه ... ولا هو خلاص حط إيده في المياه الباردة وسايبهم عليكم ..!!!

رفضت "زكيه" بشكل قاطع أي تعامل بينها وبين "فخري" ... 

- وعلى إيه يا أختي ... أنا ناقصة مشاكل مع "صباح" ... دي لو عرفت إني كلمته حتبقى ولا على حامي ولا على بارد ... دي ما بتستحملش أقول له كلمة ...

نهضت "خيريه" بضيق من حال "زكيه" الخانع ....

- والله غلبتيني يا "زكيه".... المهم يا أختي تشربي إيه ...؟!!

تشبثت "زكيه" بذراعها تدفعها للجلوس مرة أخرى ...

- لا والله ما إنتِ عامله حاجة ... أنا أصلي مستعجلة وجايه لك في قرشين أكمل بيهم الشهر ... قلت أشوف ظروفك تسمح ولا إيه ... لحد بس أول الشهر لما البنات تقبض ... وإنتِ عارفاني ما بتأخرش عشان أسدهم ...

بعتاب المحب نظرت "خيريه" لصديقتها ببعض الملامة ...

- ولو يا "زكيه" ... ده كلام ...!!! براحتك يا أختي ... حالًا أجيب لك الفلوس ...

بكرمها الطائي دلفت "خيريه" لغرفتها لتأتي لها بالمال الذي تحتاجه فهي ميسورة الحال وتساعد الجميع بكرمها وجودها ، عادت "خيريه" لتمد يدها ببضعة أوراق نقدية اتجاه "زكيه" ... 

- خدي يا حبيبتي ... وعلى راحتك خالص ما تشيليش همهم ...

- كثر خيرك يا حبيبتي ... إن شاء الله ما أتأخرش عليكِ ... هو بس لحد أول الشهر ...

إستقامت "زكيه" تستأذن من "خيريه" بالمغادرة حين تمسكت بها "خيريه" تلتمس بعد الوناسة بوجودها ...

- خليكي معايا شويه ... أديكِ شايفه لوحدي ليل ونهار ...

إبتسمت "زكيه" بطيبه قلب لتعاود جلستها ومرافقتها لـ"خيريه" لبعض الوقت فهذا أقل ما يمكنها تقديمه لتلك السيدة الخيرة المُحبة ...


❈-❈-❈

مكتبة بحر ...

طريق السعادة يكمن في صوتك ثم حديثك ثم أنتِ ، هكذا رآها "بحر" لساعات حديثهم المختلف ، تلك الساعات التي لم يشعر بمرورها فقط بصحبتها ، تمنى لو أن حديثهم لم ينتهي ...

لكن وقع خطوات دبت بأرضية المكتبة معلنة قدوم زائر إنتبه إليه كلاهما ، حين تقدمت إحدى الفتيات نحوهم ...

إتخذت الطريق صوبهم كما لو كانت قد حددت من قبل ما تريد ، فهي لم تتطلع بأي إتجاه نحو الكتب المصفوفة أمامها بأعينها الناعسة النصف مفتوحة ليظهر وجهها الصغير وشفتيها اللاتي تمطتهما إلى الأمام بتغنج غريب وهي تعبث بشعيراتها الثائرة ، كما لو كانت بإحدى جلسات التصوير وليست لشراء كتاب بالمكتبة ..

- مساء الخير ...

بلحظة لاحظت نغم تغير ملامح "بحر" المبتسمة لأخرى جادة تمامًا بعكس ما كان عليه منذ قليل معها ، وقف من مقعده ملبيًا طلب الفتاة ليظهر طوله وقوته لكنه كان مقتضب تمامًا بحديثه ...

- مساء الخير يا فندم ... أي خدمة ...؟!؟

بللت الفتاة شفتيها بدلال قبل أن تستطرد متسائله ...

- لو سمحت كنت عايزة كتاب عن تعليم الرسم ..

أشار "بحر" بذات الجدية التي أثارت تساؤل "نغم" لتبدُل أسلوبه المرح لهذا الجاد المقتضب الغريب تمامًا عن تعامله معها ...

- في الركن ده مجموعة كتب ممكن تختاري منها إللي تحبيه ...

زادت الفتاة من تمطط شفتيها بإمتعاض مستكملة بدلال مغثي للنفس .. 

- ممكن تختار لي إنت واحد ... أنا أصلي مش عارفه إيه يكون كويس ...

رمقها "بحر" بضيق وهو يخبرها بنبرة حادة نوعًا...

- ما أعرفش ذوق سعادتك ... الرفوف إللي هناك دي عليها الكُتب  .. شوفي إللي يناسبك...  أنا مش برشح كتب لحد ..!!!

إتسعت عينا "نغم" بتعجب فهو منذ قليل رشح لها كتاب لقراءته فلما يتعامل بخشونة مع تلك الفتاة ، لكنها تابعت حديثهم حين إستطردت الفتاة قائله ...

- طب حضرتك زعلان ليه ...!!! هو إنت إسمك إيه  ...؟!!

بإدراك تام لغايتها منذ البداية ، أجابها "بحر" بحدة ...

- أفندم ... !!! هو حضرتك عايزة إيه بالظبط ...؟!! 

نظرت الفتاة نحو "نغم" قبل أن تردف بحنق من طريقة "بحر" الجافة معها ...

- مفيش ... عادي يعني ... إحنا جيران هنا قلت أسألك عن إسمك ...!!

زفر "بحر" ببطء ويحاول التحدث بهدوء فلا داعي للإنفعال ...

- لا طبعًا ... عادي ... بس مش متعود أنا الأستاذ "بحر" ...

تعمد نطقها بهذه الطريقة لفرض التعامل معه برسمية ، لكنها أجابته بهيام مثيرًا للتقزز ...

- إسمك حلو أوي ... أنا "صِبا"  ...

رفع "بحر" حاجبيه و أهدلهما بتملل حين إستكملت "صبا" ناعسة العينين بدلالها الذي لا يتماشى مع إختيارها للكتب مطلقًا ...

- ممكن تساعدني يا أستاذ "بحر" عشان أختار كتاب مناسب ..؟!!

غثت نفس "نغم" من طريقتها وميوعتها خاصة وهي ترى "بحر" يعاملها بضيق نفس متحملًا دلالها الزائد عن الحد بداعي اللياقة لا أكثر ، لتنهض بإبتسامة مزيفة قائله ...

- بس كده تعالي يا آنسه "صبا" ...  أنا حجيب لك كتاب إنما إيه .. حيعجبك جدًا  ...

تطلعت "صبا" نحو "نغم" بإندهاش فلم تتوقع أن تطوع هي لمساعدتها لتردف برفض ...

- لا لا يا حبيبتي  ... خلاص ما تتعبيش نفسك ...

فاهت "نغم" فيها بتعجب فهي كانت تلح بصورة غريبة طلبًا للمساعدة ، والتي تلاشت فور عرضها لتتيقن أن هذه الفتاة لم تأتي سوى للتقرب من "بحر" فقط ، لتجيبها بتهكم ..

- على راحتك ...!!!

هزت "صبا" رأسها بحركة سريعة بنفور منها ثم إتجهت نحو الأرفف وهي تزفر بقوة ، تدب خطواتها بإنفعال تكاد تترك أثرها بالأرضية ، إبتسم "بحر" من هيئة "نغم" المتعجبة وهي تتوسع بعينها السوداء ، تقلب شفتها السفلية بشكل طفولي لذيذ ، حين تحدث بنبرة منخفضة حتى لا تستطيع "صبا" سماعه ...

- شكرًا إنك أنقذتيني ...

حركت "نغم" رأسها قائله بتحدي ...

- ما تقلقش هطفشها لك ...

إتسعت ابتسامته الجذابه لخفة ظلها ، حين عادت "صبا" ترمقهم بنظرات يتطاير منها الشرر لضيقها الشديد ، خاصة وهي ترى إبتسامة "بحر" الواسعة تجاه تلك القصيرة ، وضعت الكتاب بقوة فوق الفاصل الخشبي بينها وبينهم ...

- بكام الكتاب ده ...؟!!

أجابتها "نغم" على الفور ببعض السخرية ...

- سلامة نظرك ... ما هو مكتوب عليها أهو ...!!!

ضمت "صبا" شفتيها بغيظ لما تفسده تلك الفتاة ، لتخرج بعض العملات النقدية واضعة إياهم فوق الكتاب لتتلقاهم "نغم" مستكملة بيع الكتاب لها دون تدخل "بحر" ...

إلتفتت مغادرة بتأفف شديد ضحكت له "نغم" قائله ببراءة ... 

- هو في كده ...؟!!!

أجابها "بحر" مشمئزًا من طريقة تلك الفتاة  ...

- البنات بقت غريبة أوي يا "نغم" ... 

- إنت بتقول فيها ... ده لولا إن أنا هنا مش عارفه كانت عملت إيه ... شكلك غلبان أوي في حتة البنات دي ...

لاحت بعيناه نظرات هائمه لم تفهمها "نغم" وهو يجيبها بوله عاشق لم تنتبه له هي بالمرة ...

- بنات إيه بس ... هي واحدة بس ... لكن هي ولا هي هنا ...!!!!

توسعت عيناها بإندهاش سعيد لتصريحه لها بمشاعره تجاه إحداهن ...

- إيه ده إنت بتحب بقى ...!!!  طب مين سعيدة الحظ دي .... حد  أنا أعرفه ...؟؟؟؟

صدمته كانت قوية للغاية ، كمن يقف بطريق وهي تبعده بطريق مختلف ، كما لو أن بينهم مفترق طرق ،  فقد قدرته على إيصال مشاعره لها لتتسع شفتيه بإستياء رغم صمته ليردف بإحباط ...

- يعني ...!!!!!!

تمنى لو يصرح لها بأنها هي المقصودة من حديثه ، لكن يبدو أنه بعيد تمامًا عن تفكيرها ، خاصة عندما أجابته ... 

- إنت إنسان محترم  ... وتستاهل كل خير  ... وأكيد هي محظوظة بيك أوي ... 

مال فمه جانبيًا لما سببته له من خيبة رجاء لينطق بحروفه المثقلة بتنهد ...

- بس هي ما تعرفش ...

ضحكة "نغم" مستكملة دون فهم لمقصده ... 

- إيه ده حب من طرف واحد كمان ...!!!  الله يكون في عونك ... على فكرة أنا ممكن أساعدك لو أنا كنت أعرفها  ...

تهدلت ملامحه بتألم فيبدو أنها لا تشعر به مطلقًا ...

- أكيد حطلب مساعدتك  ... بس لما هي تحس بيا الأول ...

- وأنا معاك في أي وقت ... إحنا أخوات  ...

أومأ لها بضيق فوقع الكلمة على قلبه كان مرهق للغاية ، فهو لا يتعدى مجرد أخ بحياتها ، إنسحب بهدوء و لاذ بالصمت بقية اليوم ليبقى داخل المكتبة مُلملمًا قلبه المبعثر دون أن تشعر هي بما حطمته للتو ...


❈-❈-❈


مؤلم الفراق حتى لو كان بإختيارك ، فهو مفترق الطرق الذي يجب عليك أن تسلكه بالبقاء أو الرحيل ...

نداء أخير أعلن وصول الطائرة لمطار القاهرة معلنًا عودتها لحياتها القديمة ...

بآلية تامة خرجت "عهد" من المطار متجهة صوب شقتها ...

هل عادت تلك السحابة السوداء القاتمة مرة أخرى لحياتها ...

دلفت إلى داخل البناية التي تقطن بها لتمر بخطوتها السريعة من أمام حارس العقار الجديد الذي فور أن رآها توارى عن مقابلتها حتى لا تعنفه بشراسة كما فعلت بالمرة السابقة ...

لم يهمها هذا الرجل بل كانت تتمنى أن تخلو كل الطرق من جميع البشر ،  لتبقى بمفردها فقط كما إعتادت وكما عليها أن تتعود ، هي وحيدة فريدة ليست مِثل الجميع بل هي مَثَل للجميع ...

تنفست براحة فور أن دلفت إلى شقتها القاتمة وأغلقت بابها من خلفها ، الآن فقط عادت إلى وطنها ، ألقت حقيبتها و مفاتيحها جانبًا للتهوى بجسدها المنهك فوق أحد المقاعد ، دارت بحدقتيها بالسكون المحيط حولها ، ها هي قد عادت من جديد ...


بذات وقت العودة هو وقت الرحيل ، كلاهما يسلك إحساس مختلف ، إتجه "معتصم" لمطار (لوغانو) لإستقلال طائرته لكن بنفس مختلفة  تمامًا عن الساعات الماضية ..

فهو سعيد لتلك العودة ، فالآن لن تستطيع الهروب منه ، بل هو من سيذهب إليها ، إنه لا يخسر معركة قد بدأها مطلقًا ، واليوم تبدأ معركته مع المتوحشة ...


❈-❈-❈


شركة بيكو للأدوية  ...

بنبرة صوته السارقة للقلوب ، إنه الحنون لطيف المعشر معسول الحديث ...

تقابل "رؤوف" مع مديرته بمكتبها ، والتي تكن له بعض الإعجاب بشخصيته المرحة الطيفه لا أكثر ، خاصة وهى تقرب من عمر والدته ...

بدأ حديثه معها بلطافته المعتادة ، ذلك الأسلوب الذى لو إستمع إليه شخصًا غريب لا يعرف طبع "رؤوف" لظن أنه يتملقها أو يغازلها ..

- ما شاء الله عليكِ النهاردة  ... واضح إن مزاجك رايق ...

رفعت السيدة "هناء" حاجبها بإعجاب لطريقته التى بدأ بها حديثه والذى تدرى تمامًا أن هناك طلب ما يكمن خلف تلك المقدمة اللطيفة لتجيبه بفراسة  .. 

- ما تدخل في الموضوع على طول ...

أشار نحوها بسبابته بطريقته المرحة لتظهر إبتسامته المميزة بفمه الصغير ...

- أه يا فهماني إنتِ ... 

جلس "رؤوف" بأريحية وهو يضع ساقيه فوق بعضهم بعض بغرور مازح كما لو كان هو صاحب الأمر والنهي  ...

- فيه موظفة جديدة عايزين نجيبوها معانا ... هي بنوته شاطرة .. حتشتغل أثناء الدراسة  .. وإن شاء الله تثبت جداره وتتثبت معانا بعد ما تتخرج بإذن الله  ...

بنظرة مندهشة أجابته "هناء" ...

- لاااا ... ده إنت أخدت القرار بقى ...!!!  والمطلوب مني إيه  ...؟؟!

ضحكه مقهقهة خرجت من "رؤوف" حين نهض من مقعده  ...

- لا ... ولا أي حاجة  ... هي حاجة شكلية كده وخلاص ... تمضي على ورق التعيين بتاعها ...

لم ينتظر حتى سماع القبول أو الرفض منها  فوجه "هناء" كان إجابه لذلك دون التصريح به ...

طريقته العفوية واللطيفة جعلتها تضحك بصوت مسموع ، لكن فجأة وبدون إستئذان فُتح باب المكتب ليتفاجئ كلاهما بإقتحام "نيره" ثائرة الأعصاب ...

- الله .. الله ... ده إيه بقى إللي بيحصل هنا ده ...؟؟!!!!!

نظر إليها "رؤوف" بصدمة متفاجئًا من حضورها وإقتحامها مكتب المديرة ، حتى أن "هناء" تجهم وجهها بقوة لتطاول تلك الفتاة وإقتحامها مكتبها بدون إذن لتهتف بها بحدة  ...

- إنتِ مين ... ؟!! وعايزة إيه  ...؟!!!

حاول "رؤوف" تدارك الأمر ليشير نحو "نيره" بوجه مندهش ...

- دي "نيره" خطيبتي ... (ثم إستدار نحو نيره متسائلًا ) ...في إيه يا "نيره" ...؟!!!!؟ 

توسطت "نيره" خصرها بكفيها وهي تضرب الأرض بقدمها بتوتر و إنفعال

- إيه الضحك والمسخرة دي ... !!! هو إنت مش حتبطل أبدًا يا "رؤوف" ... أنا زهقت منك يا أخي ...!!!

فهمت "هناء" مقصد تلك الفتاة التي يبدو عليها الغباء فكيف تظن ذلك وهي تقرب من سن والدته لتنظر هناء نحو "رؤوف" بصرامة ثم طلبت منه المغادرة وإنهاء هذا الوضع الغير مقبول ...

- روح شوف الدنيا دي إيه  ... ويا ريت الموضوع ده ما يتكررش تاني يا "رؤوف" ...!!!!

شعر "رؤوف" بالغضب  من تصرف "نيره" المتهور ليشير نحو الخارج بحدة قائلًا ...

- إتفضلي قدامي وأنا حفهمك .. (إستدار نحو "هناء" مؤكدًا على عمل "مودة" ) ... أنا حكلم الناس .. خلاص إتفقنا ...

هزت "هناء" رأسها بخفه لكن ظهر على ملامحها الضيق لتصرف خطيبته الغير مسؤول ... 

خرج "رؤوف" من المكتب لكنه قابل "نيره" بوجه مقتضب على غير العادة ...

- لو سمحتِ يا "نيره" إنت كده حتبوظي لي شغلي ... إيه إللي إنتِ عملتيه ده ..!!!  حد يدخل مكتب المديرة كده ...؟؟! 

عقصت ذراعيها أمام صدرها بإستهزاء قائله ...

- لا والله  ... خايف على إحساساتها أوي ...!!!! 

حاول "رؤوف" كبح غضبه قدر المستطاع  حتى لا يثور على تصرفها الأهوج  ، لكنه ولأول مرة أجابها بإقتضاب بنبرة حادة للغاية ...

- لو سمحتِ يا "نيره" ... إللي إنتِ بتعمليه ده أنا مسمحش بيه ... أنا ما بعملش حاجه غلط ... يا ريت تمسكي نفسك شويه وتعرفي إنتِ بتكلمي مين وإزاي ... مش كل حاجه حعديها وخلاص ... أنا يمكن بتكلم كويس مع الناس ... لكن أنا عمري ما عملت حاجة غلط ... وبعدين إنتِ جايه هنا ليه ... وكمان من غير ما تقوليلي إنك جايه الشركة ... إيه ... بتراقبيني هنا كمان ...؟؟!!

شعرت "نيره" ببعض الإرتباك من حدة "رؤوف" التى يظهرها لأول مرة ، خاصة وهو محق بهذا الأمر فهي لم ترى منه أي خيانه قط أو تصرف أرعن ، لكنه فقط مع معسول الحديث  ...

هدأت نبرة صوتها لتردف بإضطراب لشعورها بخطأها وتهورها ...

- خلاص تمام .. أنا ... أنا كنت جايه علشان نكمل مشوارنا وندور على العفش  ...

وجدها "رؤوف" فرصة مناسبة لتناسي خلافهما السابق ، ليجيبها ومازال الضيق يسيطر عليه حتى وجهه اللطيف إقتضب بشدة بصورة غير مسبوقة بينهما ...

- خلاص تمام ... إستنيني حعمل مكالمة ونتحرك سوا ...

أشارت "نيره" بتوتر نحو الخارج قائله ...

- تمام حستناك بره ....

فور أن خرجت "نيره" من الشركة لتلملم بقايا إضطراب نفسها لشعورها بخطئها الجسيم هذه المرة ، أخرجت هاتفها تتصل بـ"إسراء" تخبرها بما حدث وماذا عليها فعله لإصلاح الأمر ، لكن "إسراء" كان لها رأي آخر بأن على "نيره" إيقاعه بأي خطأ حتى تخرج من لومه لها لتهورها حتى لا تكون هي المخطئة ...


أخرج "رؤوف" هاتفه ليتصل برقم "غدير" ليخبرها بموافقة رئيسته بالعمل على تعيين "موده" وأن عليها الحضور للشركة غدًا لترتيب بدأ العمل معهم ..

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈


شقة موده ...

تهللت "غدير" بفرحة حين أنهت مكالمتها مع "رؤوف" قبل أن تعود لأختها التي إنشغلت بترتيب جلستهما معًا لمشاهدة أحد الأفلام ..

قفزت "غدير" أمام "موده" وقد إتسعت إبتسامتها المميزة بإبتهاج قائله ...

- إنتِ بتعملي إيه ... يلا يلا قومي معايا ... أنا مش عارفه إيه البيت إللي ما فيهوش حاجة حلوة ده .. !!!!

قلبت "موده" شفتيها بتفاجئ من تصرف أختها الطفولي قبل أن تعقب على حماسها المفرط ... 

- "دورا" انتِ اللي لسه قايله تعالي نقعد نتفرج على فيلم ..!!!!!!

حركت حاجبيها بشقاوة وهي تجيبها مطلقة ضحكتها قائله ...

- أيوه من شويه مكناش حنحتفل ... دلوقتي لازم نحتفل ...

- نحتفل بأيه ...؟!!!

قالتها "موده" ببعض التحفظ حينما سحبتها "غدير" من ذراعها قائله ...

- نحتفل بشغلك الجديد يا بطوطه ...

عقدت "موده" أنفها بإستهجان دون فهم ما تقصده "غدير" ...

- شغل إيه ..؟؟!!

دفعتها "غدير" من ظهرها نحو الباب لتغادر المنزل قائله ...

- أنا كلمت لك "رؤوف" ... ومن بكره حتشتغلي معاه في شركة الأدوية ... يلا بينا  ... تعالي إعزميني على حاجة حلوة ... عايزة أكل حجازية ...

تيبست "موده" بمكانها هل يمكن أن تلعب الصدفة دورًا ليسعد قلبها ؟؟ هل يمكن أن تصدق ما تسمعه بأن هناك طريق يقدم لها مقابلة معه بشكل رسمي دون جهد منها ؟؟؟ هل يمكنها أن تراه دون عناء أو تفكير .. هل يمكن أن يكون لحظها موجة سعيدة بعد عواصف حياتها الباهتة ...؟؟!

قطع تشتت أفكارها دفعة أخرى من "غدير" وهي تقهقه بصوتها الرنان ...

- يلا يا بخيله مش حسكت إلا لما تجيبي لي حجازية دلوقتي ...  دلوقتي ....

تهلل وجه "موده" بإبتسامة سعيدة فيكفيها قُربه فقط لتردف بإبتهاج يماثل حماس "غدير" وجنانها ...

- حجازية بس  ... طب والله لأجيب لك جاتوه ...

بهيام مزيف وضعت "غدير" كفها على صدرها متصنعه الإمتنان ...

- قلبي مش قادر يستحمل أخيرًا حناكل جاتوه ....

تشبثت "موده" بذراع "غدير" ليغادرا البيت للشراء بعض الحلويات قبل عوده "غدير" لبيتها ...

قطع كلاهما الطريق يتضاحكان بخفة إحتفالًا بهذا الخبر السعيد بعمل "موده" بشركة الأدوية مع "رؤوف" ... 

❈-❈-❈


شجن ونغم ...

يوم جديد ينتهي به عملهما لتمر "شجن" بأختها لمرافقتها إلى البيت ، بتلقائية وحنو تأبطت "نغم" ذراع "شجن" تخبرها بتفاصيل يومها وعملها بالمكتبة وما حدث بينها وبين "صبا" و"بحر" اليوم ...

كانت "شجن" أيضًا تفيض بحديثها مع أختها وصديقتها بتفاصيل يومها بالمستشفى والمستوصف ...

هكذا إعتادتا ألا تخفي أحدهما عن الأخرى شيئًا ، بل لقربهما صلابة قوية ، 

كنجمتين متلالئتين دلفا لداخل الحي يتوهجان بحُسنهما يخطفان الأبصار من حولهم ... 

لم يخطفا عيون المارة فقط بل تطلعت عيون "راويه" تجاهما بتحسر فهي لم تحظى يومًا بهذا القرب من أخت أو صديقة ...

❈-❈-❈


هل يمكن ان ينقلب الحظ التعيس لضربة حظ وإحساس بالسعادة ، فبعد أن غابت عن عيناه ها هي تتألق أمامه لتسرق قلبه من جديد ... 

كان يظن أنه لن يراها بعد الآن ، لكن شاءت الصدف أن تقع عيناه عليها اليوم ... 

جلس "رشيد" بمقعد المقهى برفقة أقرانه  ، لكن ذهنه وقلبه حلقا بعيدًا عنهم حينما رأى طيفها أمامه ، فها هو قلبه يدق من جديد ...

كم إشتاق لإحساس السعادة برؤيتها فهل ستسمح له الفرصة بتقابل طريقهما بعد أن ظن أنه وصل لمفترق الطرق ...


( الفصل الثامن عشر )

عندما يثقل القلب والفكر بالخبايا والأسرار يأتي الوقت الذى تنفذ عنده طاقة التحمل ويبقى حل واحد أخير ... الإنفجار ...

لقد خبأت كل أسراري بداخل بئر عميق لم أدرى أنا نفسي نهايته ، لكن هذا البئر قد إمتلأ ولم يعد بالإمكان الكتمان لأكثر من ذلك ..

فلابد من الإعتراف ، لكن من يتحمل مشقة هذا الحِمل المُنهك معي ؟!! ، من أستطيع أن أثق به لأسكب إليه كل ما خبأته بداخلي ؟!! ، ليس سوى أشقاء القمر ، من يحمل همي وحزني و ...دمي ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈


أُهدل ستار الليل لكن مازالت العيون مستيقظة و القلوب حائرة ..


بيت النجار ...

إنتفضت "راويه" من وقفتها بصوت أمها الخشن يناديها من داخل الشقة عندما كانت تقف بالشرفة تتطلع نحو بنات عمها أثناء عودتهم من عملهم ...

لوت فمها بنفور ثم أجابتها بأعين ساخطة ..

- أيوه حاضر ...

دلفت "راويه" نحو الداخل تطالع والدتها بضيق ثم سألتها ...

- خير .... عاوزه إيه ؟!! .. هو إنتِ يعني جايه على الحبة إللي بقف فيهم أخذ شويه نَفَس في البلكونة و لازم تناديلي وتعكنني عليا !!!!!

رفعت "صباح" ساقيها بصعوبة وهي تثنيهما أسفلها قائله ....

- بتهببي إيه يا آخر صبري ...؟؟! ... تعالي أقعدي هنا أهو قدامي عايزه أقولك حاجة ..

جلست "راويه" بتأفف تنتظر أن تَغدق والدتها عليها بالحديث الذي لا تطيقه الآن ...

- أهو .. قعدت ...

لم تعطي "صباح" بالًا بتأفف "راويه" ، فهي تفكر بما هو أبعد من ذلك ، لقد أحضرتها الآن لأمر آخر ....

- مش راضية برضه بالعريس إللي جابته "حنين" ..؟!!! 

زمجرت "راويه" بغضب وإتسعت عيناها ببريق مخيف ألجم والدتها بموضعها لتهتف برفض تام ...

- وربنا لو فتحتي السيرة دي تاني ما حيحصل كويس ... آخر مرة تجيبي لي سيرة المخفي ده هو والست "حنين" بتاعته .... 

إضطرت "صباح" للرضوخ لرفضها لتردف قائله ...

- طيب ... بس برضة ما ينفعش بنات الخدامة يتجوزوا وإنتِ تفضلي قاعده لي كده !!!

- يعني أنا حعمل إيه .. !!! هو بإيدي ..؟!!

زفرت "صباح" بقوة فلم يعد لديها سوى حلها الأخير والذي سينهي هذا الأمر تمامًا ...

- بصي بقى ... أنا لقيت حل للخدامة وبناتها ...

- حل ... حل إيه ؟!!! حنعمل لهم إيه يعنى !!!

إستكملت "صباح" بزهو لفكرتها التي ستنهي أمر "زكيه" وبناتها تمامًا ولن تفكر بهم مرة أخرى ...

- نعمل لهم إيه ... نعمل لهم عَمَل .... أنا أعرف واحد شيخ حيجيب من الآخر ...

بذهول شديد نظرت "راويه" وقد فغرت فاها بلا تصديق لما تتفوه به والدتها لتشهق بصوت مرتفع ...

- عَمَل !!!!!!!!

زجرتها "صباح" وهي تلكزها بقوة في ساعدها لتخفض من صوتها حتى لا ينتبه إليها زوجها الذى دلف للنوم منذ قليل ....

- اششش وطي صوتك إنتِ عايزة تفضحينا ...!!!

زاغت عينا "راويه" بصدمة وقد إتسعت عن آخرهما لتحاول إجابتها بنبرة خفيضة ...

- إنتِ بتقولي إيه يا ماما ...؟!! على آخر الزمن حنعمل لهم عَمَل ..!!!

بإستهزاء شديد وهي تقلب نظراتها تجاه إبنتها من أعلى لأسفل ....

- أيوه يا أختي عَمَل ... أمال نسيبهم لحد ما الفاس تقع في الراس ... لازم من دلوقتِ نوقف كل حاجة ...

ضمت "راويه" شفتيها بإمتعاض وهي تنصت لما سوف تقوم به والدتها ...

- إنتِ عايزه تعملي إيه بالظبط ...؟؟!

إستطردت "صباح" قائله بذات النبرة الخفيضة .....

- إحنا لازم نشوف حل نهائي في القصة دي ... إنتِ حتطلعي لـ"زكيه" تجيبي قطرهم .. وأنا حوديه "للشيخ كرامه" ...

شهقت "راويه" مرة أخرى بفزع فهي ذات طبيعة متخوفة لا تقوى على تلك الأفعال ...

- أنا ... ؟!!!!!!! وأنا مالي ... !!! إطلعي إنتِ هاتيه ...

لكزتها أمها بقسوة وهي ترمقها بنظرة غاضبة نكست لها "راويه" عيناها بتخوف ....

- بس يا بت ...!! ما هو لو ما جبتيش القطر بتاعهم حسابك عندي أنا ... هو أنا بعمل كده عشان مين .. ؟!! ما عشانك يا بوز الفقر ... يعني عايزاهم يتجوزوا وتعنسي إنتِ ..!!!!

ضمت "راويه" شفتيها المرتجفتان بغضب تكظم غيظها من نهر والدتها القاسي لها لتردف بإنصياع ...

- ماشي ...

عادت تكرر "صباح" الأمر على مسامعها بتأكيد حتى لا تتغاضى عنه بتخوفها ...

- بكرة الصبح أول ما تصحي من النوم تطلعي تجيبيه على طول ...

حركت "راويه" رأسها إيجابًا رغم إستهجانها للأمر ، لكن من هذا الذي يرفض لـ"صباح" أمر ...


❈-❈-❈


بيت المستشار خالد دويدار ...

حينما يأتي المساء يكون وقعِه ببيت دويدار لأمر مختلف تمامًا فهذا وقت تجمع العائلة بدفئها وترابطها ، وقت يتمناه الجميع ...

ككل بيت يحمل أوجاعه و مشاكله و أوقاته السارة ، كان كذلك بيت هذه العائلة لكن ما يخفف وطأة العقبات بحياتهم هو ترابطهم ووحدتهم وبالأخص صراحتهم فما يميزهم جميعًا أنهم بغاية الوضوح حتى بمشاعرهم ...

دارت "منار" بعيونها نحو أصناف الطعام التي أعدت لمساء اليوم مع مساعدتها "أم مجدي" ...

تلك السيدة النحيلة الهادئة والتي تشبه طباعهم بشكل كبير ، كم توافد عليها مساعدات كُثر لم تتفق معهم "منار" بمثل ما إتفقت مع تلك السيدة التي إعتادت على طباعهم و إعتادوا على وجودها منذ ما يقرب من العام ... 

تسائلت "منار" بنبرة مازحة ...

- إوعي تكوني لسه ما خلصتيش الأكل ... شكلهم حياكلوني بره ...

أجابتها "أم مجدي" بإبتسامة لمُزاحها ...

- وده كلام ... كله جاهز وآخر تمام ..

بتقدير لمجهود تلك السيدة معهم ..

- والله أنا مش عارفه من غيرك كنت عملت إيه يا "أم مجدي" .. إنتِ طالعه نازله طول النهار ... شويه عندنا وشويه عند "غدير" كتر خيرك تعبينك معانا ...

بإمتنان شديد أجابتها "أم مجدي" ....

- وده إسمه كلام ... ده الواحد يخدمكم بعنيه والله ...

ربتت "منار" برفق بكتف تلك السيدة ثم انتبهت قائله ...

- إيه ده ... مش ده صوت الباب ..؟! الظاهر "رؤوف" راجع بدري النهارده .. أما أروح أشوفه وأسالهم لو عايزين يتعشوا ...

خرجت "منار" من المطبخ ظنًا منها أن "رؤوف" هو من عاد من الخارج فزوجها و"عيسى" و"غدير" يجلسون بغرفة المعيشة منذ بعض الوقت ...

مفاجأة سارة دبت بقلبها حينما وقعت عيناها على ولدها الغائب "معتصم" لم يكن عليها سوى نطق إسمه فقط بهذا الحماس ليخرج الجميع لمقابلته بعد غياب دام لشهور طويلة ...

- "معتصم" ...!!!

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

لم يشعر "معتصم" بطول الطريق بقدر إشتياقه لأسرته ووالديه ، تلك العائلة التى كان لها الأولوية القصوى لرؤيتهم عند عودته بعد غياب بمهماته التى أبعدته عن الوطن لعدة شهور ...

رؤيته لوالدته كان كفيلًا بإشعارِه بأنه أخيرًا عاد لأرض الوطن ...

على الفور ترك "معتصم" حقيبته عن يده ليخطو خطوات متعجلة نحو والدته وقد رُسمت بسمة شقت ملامحه بسعادة لإشتياقه لها ...

- وحشتيني يا ماما .. 

مهما علا شأنه وقوته إلا أنه يظل ولدها الصغير بعينيها مما كَبُر وزاد طولًا وقوة ، سيظل بقلب أمه لن يتغير أبدًا ، تلقته بين ذراعيها بحنان تلتمس الراحة والسكينة التي غابت عنها لشهور عدة لغيابه .. 

- حمد لله على السلامة يا حبيبي ..

إثر ندائها فقط خرج "خالد" و"عيسى" بينما تشدقت "غدير" من خلفهم فهم يفوقونها طولًا ليحجبوا رؤية "معتصم" عنها ...

رغم إشتياق "خالد" لولده إلا أنه وقف برزانة ينتظر قدومه إليه فهو ليس معتادًا بإظهار مشاعره خاصة تلك اللينة التي تُظهر ضعف قلوبهم ...

لم يخب ظنه حينما تقدم "معتصم" بإبتسامته الخفيفة نحو والده ينظر له بترقب فتلك المشاعر الفياضة لا تليق بكلاهما ، فهما أقوى و أَحَد من لين المشاعر والقلوب ، لكن لكل قاعدة إستثناء فبلحظة غلب الحنين القوة ليسمح "خالد" بعناق خفيف بينه وبين "معتصم" الذى سعد به قلبه ...

- حمد الله على السلامة يا حضره الظابط ...

بينما كان تقابل الأخوة كان أقل حِدة وتفكيرًا لم يلبث "عيسى" إلا ورفع ذراعه يصافح أخيه بقوة ليرد "معتصم" بالقوة نفسها قبل أن يسحبه بعناق أخوي تظهر به جسارتهم وعنفوانهم ...

- لك وحشه يا "عيسى" .. 

بالكاد ظهرت "غدير" وهي تقفز من خلفهم قفزات مستمرة بمزاحها اللطيف ليُستَمع لصوتها فقط من خلف "عيسى" ... 

- إنتوا يا جماعة وسعوا شوية ... إعملوا حساب القصيرين عايزة أتفرج ...

ضحكوا جميعًا لخفة ظلها فحتى بتلك اللحظات المؤثرة إستطاعت وضع بصمتها الطريفة بينهم ليجيبها "معتصم" ... 

- والله وحشتني شقاوتك يا "غدير" ... 

أعلت من صوتها وهي تضع كفها خلف أذنها كمن صَعِبَ عليها الإستماع لبُعدها عنه ..

- بتقول حاجة يا "معتصم" ... معلش أصل الصوت مش واصل عندي ...

ضحكات أخرى ملأت أرجاء البيت لطرافتها وحيويتها ، وها هم قد إكتمل شملهم أخيرًا لم يبقى سوى حضور "رؤوف" لتغلق دائرة العائلة أخيرًا ..

تلك اللحظات الحميمة لم تُغفِله عما حدث بمهمته الأخيرة ، لكن الإعتراف هنا بأن شيء ما تحرك بداخله هو إعتراف يكمن بداخل نفسه فقط ...


❈-❈-❈

رؤوف ونيره ... 

الإعتراف بالخطأ ليس خطيئة ، لكن التهرب منه هو جريمة بحد ذاتها ، الصادق هو من يعترف بخطئه دون إلقاء باللوم على الطرف الآخر فسياسة قلب الأمور لا تجدي نفعًا ولا تُقيم حياة ...

لاذت "نيره" بالصمت خلال الطريق بمرافقة "رؤوف" بعد تهجمها مكتب رئيسته بالعمل ..

إدراكها لخطأها الجسيم جعلها تتفكر بصمت بأن عليها أن تتهرب من اللوم الذى بالتأكيد سيلقيه عليها الآن وعليها إستباق ذلك بوضعه هو بخانة المخطئ حتى تتساوى الرؤوس او على الأقل تتهرب من إلقائه اللوم عليها ...

بطبعه الودود بدأ "رؤوف" يكسر الجمود بينه وبين "نيره" قائلًا ...

- حنروح على فين ...؟!!

أدارت "نيره" كتفها معترضه طريقته بالحديث كما لو أن شيئًا لم يكن وفضلت الصمت ...

خطف "رؤوف" نظرة بجانب عيناه تجاه "نيره" التى لم تبالى بحديثه أثناء قيادته للسيارة ليكملها بإلتفاته كاملة وهو يتعجب من ضيقها الواضح والذى من المفترض أن يكون هو صاحب هذا الضيق وليس هى ..

- فيه إيه يا "نيره" ...؟!!

رفعت "نيره" حاجبها بإستنكار وهى تناظره بإستعلاء وتحقير قبل أن تجيبه ...

- إنت بتتكلم بجد ولا بتستعبط .. ؟!!

بعدم فهم لمقصدها قضب "رؤوف" بين حاجبيه بقوة ..

- جد إيه .. وبستعبط إيه ... هو مين إللي المفروض يزعل ... إنتِ بتقلبي الآية ...!!!!!

إستدارت نحوه بجذعها كاملًا وهي تردف بحدة وإنفعال لتأكيد خطأه ...

- أنا ...!! ولا إنت إللي غاوى تحرجني مع أصحابي ... ؟؟؟

- مش فاهم ...!!

سحبت نفسًا طويلًا قبل أن تستكمل تأنيبها له ...

- والله ...!!! إنت غريب جدًا ... !! مش أنا قلت لك على الأدوية إللي "إسراء" عاوزاها ... فين بقى ... مجبتهاش ليه ... إنت كدة عاوز تحرجني مع أصحابي ...!!!

إتسعت عينا "رؤوف" للغاية بإندهاش ليردف موضحًا ...

- أحرجك ...!!! إنتِ بتقولي إيه .. ؟؟! أولًا الأدوية إللي هي عاوزاها مش تبع الشركة عندنا ومش عارف أجيبهالك منين ... ثانيًا بقى .. إحنا ناس مستورين يا "نيره" ... أنا وأهلي نعتبر عايشين بمرتباتنا ...لا إحنا وارثين ولا أغنياء ... وأنا بعمل جُهدي عشان أكوّن نفسي وأتجوز ... أنا بجتهد عشان أجيبلك كل إللي إنتِ بتحلمي بيه ... مقدرش كل وقت والتانى أتكلف هدايا ومجاملات لأصحابك بالشكل المُكلف أوى ده ...

ها قد وصلت لما يوقعه بالخطأ الذى تترقبه لتشهق بقوة قائله بإستنكار شديد ...

- إيه ده ... أنا مكنتش أعرف إنك بخيل أوى كدة ..!!! مش بتحب تاكل فى المطاعم ولا بتحب تجيب هدايا بسيطة زى دى لأصحابي وبتحرجني معاهم ... إنت أكيد مش طبيعي ... أيوة ... البخل ده مرض ... إنت محتاج دكتور نفسي .. مش معقول كدة ...!!!

بذهول تام ردد "رؤوف" مستنكرًا ...

- دكتور نفسي ...!!!! للدرجة دى ... كل ده عشان بقولك كفاية تكلفة وهدايا ... أنا بحاول أرضيكِ بأى شكل ... وبرضه مش بيعجبك ...؟!!

رفعت "نيره" رأسها بخيلاء وهي تطرف بعينيها بإستعلاء فقد وصلت لمبتغاها وها هو سيحاول إرضائها ...

- أنا كدة أخاف يا "رؤوف" من حياتنا مع بعض ... أخاف تكون بخيل وأتعب معاك ...

زفر "رؤوف" بقوة محاولًا إسترجاع هدوئه النفسي ليصلح هذه العقبة أيضًا من طريق حياتهما معًا ..

- خلاص يا قلبي ... أنا محبش زعلك ... حجيب لك الأدوية بتاعة صاحبتك ... وكمان حناكل بره ... مبسوطة ...؟!!

بضحكة جانبية خفيفة لشعورها بالإنتصار أجابته "نيره" ...

- أيوة مبسوطة ...

أكملا جولتهما بالبحث عن الأثاث وهي تشعر بالزهو لسيطرتها ، أما هو فيتكلف السعادة التى تغيب تمامًا عن حياته لكنه يحاول جاهدًا الوصول إليها لكنه يبدو أنه يضل طريقها ولم يصل إليها بعد ...


❈-❈-❈


بيت المستشار خالد دويدار ...

يتمتع رجال هذا البيت بقوة ورزانة حتى بحديثهم ومزاحهم ، منبع للجاذبية والغموض بذات الوقت ..

قضى "معتصم" ساعات برفقة أبيه وأخيه دون الإفصاح عن طبيعة مهماته الخطرة كما أن "عيسى" لم يتطرق لقضاياه ودواخلها ، إنصات "غدير" و"منار" لحديثهم الشيق وتجمعهم المسائى كان مبهج للغاية ...

تمت راحتهم بقدوم "رؤوف" بعد تأخر دام لبعض الوقت لإنشغاله مع "نيره" ...

تفاجئ "رؤوف" بعودة أخيه ليتلهف مظهرًا مشاعره صريحة دون إخفاء مهللًا حين وقعت عيناه عليه ...

- مش معقول .... "عصووووم" ... حبيبي ... حمد الله على السلامة ...

أسرع بخطواته يعانق أخيه بمحبة بادلها له "معتصم" على الفور ...

- "رؤوف" ... عامل إيه ..؟!!

إبتعد "رؤوف" قليلًا عن "معتصم" قائلًا بلطافته ...

- من غيرك البيت ولا يسوي يا "عصوووم" ... شايف ... شايف الدنيا نورت إزاى لما جيت ...

إبتسم "معتصم" لليونة أخيه وطريقة حديثه اللطيفة ...

- لسه نحنوح زى ما إنت ... أخبارك إيه ... وخطيبتك عاملة إيه ...؟!!

- حلوين أوى يا "عصوم" ... كلنا حلوين ...

طرف "معتصم" عيناه بثقل تجاه "عيسى" مستنكرًا بمزاح لين "رؤوف" المختلف تمامًا عن طريقتهم الجافة ...

- شايف أخوك ... مش عارف بيتكلم كدة إزاى ده ... !!! الواحد بيضرب طوب فى كلامه ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

ضحك "عيسى" بخفة تعقيبًا على "معتصم" بينما قفزت "غدير" بخطواتها بخفة قائله بحماس وهي توسع من حدقتيها بطرافة ...

- فيه كيك برتقال فى المطبخ ... أجيبلكوا معايا ...؟!!

بقهقة خفيفة أجابوا جميعًا ...

- يا ريت ... 

لحقتها "منار" قائله ...

- خديني معاكِ أحضر الشاى ...

مدت "غدير" كفها تتأبط ذراع "منار" مردفة بخفة ومزاح ...

- أحسن برضه ... يلا بينا من القاعدة الناشفة دى .. 

إستأذنهم "خالد" فقد حان موعد نومه المعتاد .. 

- خليكوا على راحتكم ... أنا داخل أنام ... تصبحوا على خير ...

كانت جملته إعلانًا لحديث أكثر أريحية بين الأخوة ...

- وحضرتك من أهل الخير ...

كان تفكير "معتصم" الشاغل هو كيف يتعامل مع الجنس الآخر ، فعليه مُهمة غاية في الصعوبة بإرضاء متوحشته بالغد ليسأل "عيسى" بغموضه المعتاد ...

- ظريفة "غدير" ... إلا قولي يا "عيسى" ... إنتوا مش بتزعلوا سوا ... يعنى أنا شايف إنكم ما شاء الله متفاهمين أوى ...؟!؟

أجابه "عيسى" بهدوء ...

- هو فيه بيت بيخلى ... بس الحمد لله الأمور بينا بسيطة أوى ... ومسافة ما بزعل أو هي تزعل بيكون التراضى بينا سهل أوى ... هُم كدة ... تبقى حنين معاهم يبقوا لطاف أوى ...

تذكر "رؤوف" خلافه اليوم مع "نيره" والتى قلبت الأمور معه تمامًا ليلتزم الصمت المستنكر فياليت "نيره" بقلب صاف مثل "غدير" لكانت حياته معها أسهل بكثير ...

بينما كان بعقل "معتصم" طيف آخر ظنًا منه أنه بسهولة ترضى النساء وأن خِلافه مع "عهد" سينتهي بسهولة كما ينتهي خِلاف "عيسى" و "غدير" ، لقد لعب بعقله الظن والتفاؤل ، لكنه نسي أن بعض الظن إثم وأن ليس العقول والقلوب مشابهة لبعضها البعض ...


❈-❈-❈


عطارة النجار ....

نهاية يوم إعتيادي بتجارتهم ليتم إغلاق المحل بحلول الليل وذهاب كل عامل لمنزله ، كذلك "فخري" وأبنائه كلٍ إتجه صوب منزله لكن "مأمون" كان آخرهم ليتأخر عنهم قليلًا قبل ذهابه ...

لم تكن شقته بالبعيدة عن تجارتهم لهذا يتخذ طريقه سيرًا على الأقدام كل ليلة مارًا من أمام بيت العائلة بطريقه المعتاد ...

صدح هاتفه برنين ليقف بالزاوية مخرجًا إياه من جيب سترته ليجيب المتصل ، إسم تكرر لعدة مرات متخذًا قراره بالنهاية بالإجابة ...

- ألو ... أيوة يا "ريهام" ...

الكثير والكثير من الحديث والإيماءات لم ينتبه "مأمون" لتلك العيون التى تتابعه بشغف أثناء توقفه لتحدثه بالهاتف ، فقد إستغرق للغاية بحديثه مع من كانت زوجته ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

بيت النجار ...

عيون واسعه كدائرة القمر تدور بمحجريها كسواد الليل الصافي ، تطلعت نحو "مأمون" بأعينها التى ملأت بالشوق والعشق الذى أنساها من يكون وأين تكون ...

هامت ببحور قلبها الولِه بهذا الرجل الذي لم ترى بمثل جسارته ومروءته ، إنه إبن عمها الذى نزع قلبها بين يديه دون إرادتها فقد فتحت عيناها على عشق يخلل قلبها تجاهه ...

وقفت "نغم" بشرفة شقتهم تهيم بـ"مأمون" متناسية كل ما يحيط لها فقد رأته أخيرًا لتُملأ عيونها برؤيته فقلبها مشتاق إليه بقوة ...

هو فقط من إستطاع رسم تلك البسمة فوق شفاهها عند رؤيته ، هو من أضاء عَتمة ليلها ، لكن حظها العسر أوقعها بحب إبن عمها المتزوج ...

وليس ذلك فقط بل لا يمكن أن تجمعهما بريق عشق متبادل فلا عمها وزوجته سيرتضوا بها ولا والدتها ستقبل بذلك بخلاف زواجه ، لم هي بالخصوص من تقع بهذا المأزق ، لِمَ كُتب على عشقها بالموت من قبل أن تُكتب له الحياة ، ستكتفي به حلمًا قواقعه ليس لها ...


عيون تراقب عيون ، وعيون تغفل عمن تلاحظ ، إتسعت عينا "شجن" بإندهاش لرؤيتها لتلك الحالة المسيطرة على أختها بالشرفة ، حالة من الهيام والضياع لا تنطبق إلا على حالة واحدة فقط ... العشق ....

فغرت فاها لهذا الإستنتاج الكريه ، نعم تتمنى لأختها السعادة وأن يُحلق قلبها بالغرام ويجمعها رباط المحبة مع من يستحقها لكن ليس بهذا الشخص خاصة ، فكل ما به يحُول دون ذلك ...

همست "شجن" وهي تنظر تجاه الزاوية بصدمة وذهول ...

- "مأمون" ....!!!!!

كيف وقعت "نغم" بشباك الهوى مع إبن عمها ، إبن "فخري" و "صباح" ..!! كيف يعقل أن تندرج لتلك الهاوية مع شخص متزوج وله أطفال ، حتى لو كان زواجه يحتضر على المحك إلا أنه مهما كان لا يستحق قلبها البرئ الطيب ...

وقفت "شجن" خِلسة تحاول السيطرة على رد فعلها الذى كاد يكون عنيفًا مع تلك السطحية التى تتعامل بتلقائية رغم ما يعيشون به من مهانة بسبب عائلة هذا الشخص ...

لم سمحت لمشاعرها بالإنسياق خلف سراب ...؟!!

تداركت "شجن" نفسها قبل أن تنقض كقطة برية على أختها فيجب أن تتعامل مع الأمر بحنكة وذكاء ...

زفرت ببطء لتهدئ من نفسها قبل أن تَرسُم بسمتها العريضة على شفاهها قائله ...

- بتعملي إيه يا "نغم" لوحدك فى البلكونة ...؟!!

تداركت "نغم" وقفتها الهائمة بحبيبها لتعتدل بإرتباك ...

- "شجن" ...!!! إنتِ هنا من إمتى ...؟؟!

نظرت لها "شجن" بعينان كاشفتان لأمرها لكنها أخفت ما فهمته قائله ..

- لسه جايه ... واقفه لوحدك ليه ... مش تناديني أقف معاكِ ...؟؟؟

تطلعت "نغم" سريعًا نحو "مأمون" الذى أنهى مكالمته وإلتف للمغادرة لتهدر فرصتها لرؤيته برحيله ، ثم أجابت أختها ببعض الإرتباك ...

- لا .. ده أنا بشوف "عشري" السمكري قفل ولا لأ ... أصله كان عامل دوشة ...

قلبت "شجن" عيناها الكاشفة بأختها الكاذبة تتمنى لو أن ما فهمته يكون خاطئًا ولا تقع بتلك الهاوية ثم أردفت ببعض الحزم ..

- طيب سيبك لا سمكري ولا غيره ... يلا ننام ... عندنا شغل الصبح ...

أومأت "نغم" عدة مرات كطفلة أمسكت بجرم ما لتلحق بأختها للداخل لينتهى هذا اليوم الطويل ...


عاد "مأمون" لشقته ليأتي بحقيبة سفره الصغيرة فعليه اللحاق بقطار الحادية عشرة للسفر لبورسعيد لإنهاء معاملات وصول شحنة العطارة والبخور بالميناء والتى تأخرت لأيام عن موعدها ...


❈-❈-❈


سكون يليه سكون ربما هذا الصمت هو الصديق الوفي الذى يصاحبها طيلة الوقت ، صديق لا يتغير ولا يجرح ولا يخون ...

قضت "عهد" ليلتها بنوم متقطع ونفس ضائقة ، تتمنى لو ترجع "عهد" القديمة التى لا تمتلك قلبًا ينبض ويتألم ، إدراكها لوجوده مؤلمًا للغاية ، لكنها يجب أن تكون غير ذلك ، فحتى إعترافها لنفسها عليها أن تنساه ، عليها إكمال حياتها كما تعرفها وليس كما إكتشفتها مؤخرًا ...


حل الصباح بعد ساعات طويلة ليبدأ يوم غير إعتيادي ، يوم ستتجلى به لقاءات يتجنبها الجميع ...


تجهزت "نغم" و "شجن" للذهاب لعملهم دون تغيير يذكر بإرتدائهم نفس ملابس الأمس فليس لديهم رفاهية التبديل العديدة لخياراتهم المحدودة ...

مرت الفتاتان ببطء من أمام شقة عمهما نزولًا نحو أسفل الدرج ليمرا بـ"حنين" التى مازالت تفتح باب شقتها تتابع المغادر والوارد على البيت بطبيعتها المتلصصة ...


تابعت أيضًا "صباح" خروجهن بهدوء تلك المرة ، فقد كانت تترقب خروجهن فإثارة المشاكل معهما الآن ليس بذات الأهمية لما تُخطط له ...

فور إدراكها برحيل بنات "زكيه" إتجهت على الفور بخطوات متعجلة لم تدنو من كونها سريعة بالمرة بل كانت كـ دُب يتحرك بثنياته الثقيلة بين أرجاء الأثاث الضخم منعدم الذوق والوجاهة ...

أسرعت نحو إبنتها تسحبها من ساعدها قبل أن تهمس بتشدق ...

- يلا يلا ... بنات الخدامة نزلوا ...

قضمت "راويه" شفتيها بإستياء لما هى مجبرة عليه لتردف بتساؤل تدرك جيدًا الإجابة عنه مسبقًا ...

- إنتِ لسه مصممة ...؟!!

توسطت "صباح" خصرها بكفوفها الغليظة لتصدر أساروها صوت ضجيجها المحبب لتتحدث بصوتها الخشن ...

- نعم يا أختى ...؟!!!!! إنتِ لسه بتسألي ... غوري يلا على فوق ... وعلى الله ترجعي من غير القَطر بتاعهم كلهم ... يا ويلك مني يا بت "فخري" لو مجيبتيهوش ...

لوت "راويه" فمها جانبيًا قبل أن تدب الأرض بقدميها الثقيلتان ...

- حاضر حغير هدومي وأطلع لهم ..


❈-❈-❈


سكون يليه سكون ربما هذا الصمت هو الصديق الوفي الذى يصاحبها طيلة الوقت ، صديق لا يتغير ولا يجرح ولا يخون ...

قضت "عهد" ليلتها بنوم متقطع ونفس ضائقة ، تتمنى لو ترجع "عهد" القديمة التى لا تمتلك قلبًا ينبض ويتألم ، إدراكها لوجوده مؤلمًا للغاية ، لكنها يجب أن تكون غير ذلك ، فحتى إعترافها لنفسها عليها أن تنساه ، عليها إكمال حياتها كما تعرفها وليس كما إكتشفتها مؤخرًا ...


حل الصباح بعد ساعات طويلة ليبدأ يوم غير إعتيادي ، يوم ستتجلى به لقاءات يتجنبها الجميع ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

تجهزت "نغم" و "شجن" للذهاب لعملهم دون تغيير يذكر يإرتدائهم نفس ملابس الأمس فليس لديهم رفاهية التبديل العديدة لخياراتهم المحدودة ...

مرت الفتاتان ببطء من أمام شقة عمهما نزولًا نحو أسفل الدرج ليمرا بـ"حنين" التى مازالت تفتح باب شقتها تتابع المغادر والوارد على البيت بطبيعتها المتلصصة ...


تابعت أيضًا "صباح" خروجهن بهدوء تلك المرة ، فقد كانت تترقب خروجهن الآن فإثارة المشاكل معهما الآن ليس بذات الأهمية لما تخطط له ...

فور إدراكها برحيل بنات "زكيه" إتجهت على الفور بخطوات متعجلة لم تدنو من كونها سريعة بالمرة بل كانت كـ دب يتحرك بثنياته الثقيلة بين أرجاء الأثاث الضخم منعدم الذوق والوجاهة ...

أسرعت نحو إبنتها تسحبها من ساعدها قبل أن تهمس بتشدق ...

- يلا يلا ... بنات الخدامة نزلوا ...

قضمت "راويه" شفتيها بإستياء لما هى مجبرة عليه لتردف بتساؤل تدرك جيدًا الإجابة عنه مسبقًا ...

- إنتِ لسه مصممة ...؟!!

توسطت "صباح" خصرها بكفوفها الغليظة لتصدر أساروها صوت ضجيجها المحبب لتتحدث بصوتها الخشن ...

- نعم يا أختى ...؟!!!!! إنتِ لسه بتسألي ... غوري يلا على فوق ... وعلى الله ترجعي من غير القطر بتاعهم كلهم ... يا ويلك مني يا بت "فخري" لو مجيبتيهوش ...

لوت "راويه" فمها جانبيًا قبل أن تدب الأرض بقدميها الثقيلتان ...

- حاضر حغير هدومي وأطلع لهم ..

تطلعت بها "صباح" بدونية قبل أن تردف بحنق ...

- وحيفرق إيه عن اللي إنتِ متهببه ولابساه ...!!!

قضبت "راويه" وجهها الغاضب ثم ألقت عليها نظرة مختنقة من طريقة والدتها معها ، نعم هي تدرك أنها ليست جميلة بل دميمة قبيحة المظهر والمعشر أيضًا ، لكن لم لا تنفك والدتها بتذكيرها بذلك ، دائمًا ما تشعر منها بالنفور أليست إبنتها والتى يجب أن تُشعرها بأنها أفضل من الجميع ، ألا يقولون هذا بالأمثال الشعبية ( القرد في عين أمه غزال ) ، لم لا تراها غزالًا ولا حتى عنزة !! بل كل ما تفعله هو أن تحقر منها ومن دمامتها وعنوستها طيلة الوقت ، أجابت والدتها بنفس ضائقة ...

- طالعه أهو وأمري لله ... ولو إن أنا مبحبش أروح عندها ...

ألقت "صباح" حديثها السام بوجهها قائله ...

- أهو عشانك من عشاني يا بايرة .. ياللي مش لاقيه حد يعبرك ...

إتخذت "راويه" خطواتها البطيئة وهي تغمغم بحنق ...

- والله لو جالي صرصار لأوافق عليه و أخلص منكوا كلكوا ...

وضعت قدمها بدرجات السلم التى لم تصعد إليه منذ سنوات طويلة للغاية قد مضت ...

وقفت أمام باب شقة "زكيه" لبعض الوقت بعينان متوترتان وقلب خافق فتلك أول مرة تقدم على فعل مثل هذا لكنها بالنهاية إتخذت قرارها الحاسم ودقت الباب ...


زكيه ..

بعد مغادرة بناتها وإنشغالها بأعمال المنزل تفاجئت بطرقات تدق بابها ، إضطرب قلبها الضعيف ونظرت نحو الباب بتخوف فمن هذا الذى يدق بابها فلم يأتها زائر منذ وقت طويل للغاية ، زاد تفاجؤها حينما وجدت "راويه" تقف ببابها لتتسع حدقتيها بذهول قائله ...

- "راويه" ...!!!!

تكلفت "راويه" بإبتسامة مزيفة هزيلة للغاية قبل أن تردف ...

- صباح الخير يا مرات عمي ..

- صباح الخير ...

قالتها "زكيه" بتوجس من حضورها لكنها إنتظرت أن تبرر "روايه" مجيئها لزيارتها الغريبة وبهذا الوقت من الصباح ...

- أنا .. ااا ... كنت جايه أقعد معاكِ شوية ... أنا أصلي عايزة أسألك على حاجة ...

أشارت لها "زكيه" بطيب خاطر رغم توجسها نحو الداخل تدعوها للدخول ...

- إتفضلي يا "راويه" ... إدخلي ...

تقدمت "راويه" بخطواتها وهى تدور بعينيها بأرجاء تلك الشقة القديمة المتهالكة وقد تعجبت من تقبلهم للبقاء بهذا المكان المهترئ الذى يضيق بالنفس ، الجدران القديمة وآثار اللون الإسمنتي الرمادي يرمم تلك التشققات بصورة كئيبة للغاية ، لكن كل شئ مازال بموضعه كما كان عمها على قيد الحياة ...

جلست بهذا المقعد الذى تذكرته على الفور وهي تستدير تجاه تلك البسيطة متحلية بنبرة كاذبة صدقتها "زكيه" بسهولة ...

- شوفي يا مرات عمي ... أنا مش زي أمي ... أنا زهقت من كتر المشاكل بينك وبينها ... عشان كدة إستنيت وهي نايمة وجيت أقولك أنا ماليش دعوة باللي هي بتعمله ... أنا مش زيها ....

ساذجة لينه القلب حتى مع كِبَر عمرها وخبرتها بالحياة إلا أنها تظل سطحية ، لها قلب طيب رقيق يصدق بسهولة ، هتفت "زكيه" بصدق وصفاء قلب ...

- عفا الله عما سلف ... إنتِ برضه زي "شجن" و "نغم" ... ومهما حصل الظفر ميطلعش من اللحم ...

دهشة "روايه" كانت أعظم بكثير من طيبة قلب تلك السيدة ، فغرت فاها ببعض الصدمة فهل بهذه السهولة تسامح وتعفو ..؟؟!! ، إنها لم تعتاد تلك النفوس الصافية ولا الحنو الظاهر بملامح "زكيه" ، نظرت "روايه" ببعض الشك فليس هناك من يسامح بهذا اليسر لتردف بإرتياب ...

- هو إنتِ سامحتيني بجد ...؟؟!! بسهولة كدة ...؟؟!

بتأكيد شديد أجابتها "زكيه" ..

- طبعًا يا حبيبتي ... الدنيا مش مستاهلة إن الأهل يخبطوا في بعض ... ربنا يهدى الجميع ...

دارت عينا "راويه" بإندهاش لكن رغم ما تراه بتلك الطيبة إلا أن عليها مهمة يجب إتمامها ، لانت نبرة "راويه" كثيرًا وهي تترجي "زكيه" ...

- طب ممكن تستسمحي بنات عمي على اللي حصل مننا ... كفاية مشاكل بقى ...

- طبعًا يا حبيبتي ... وهم كمان أكيد حيسامحوا ....

ضيقت "راويه" بين حاجبيها بإستغراب من ثقة "زكيه" فهل تتحدث جديًا أم أن هناك خدعة بالأمر ، نعم بالتأكيد هي تخدعها وتسايرها بالحديث لمعرفة غرضها من الزيارة ، لابد أنها إرتابت بها فليس هناك من يتحلى بطيبة لهذه الدرجة ...

دق هاتف "زكيه" لتطالع شاشته بوجه قلق ثم أردفت ..

- معلش حبيبتي إنتِ مش غريبة ... دقيقة واحدة ... حرد على التليفون ده ...

- أه طبعًا ... طبعًا ... إتفضلي ...

قالتها "راويه" لتسنح لها الفرصة للوصول لغايتها لعمل السحر لهن ، بينما دلفت "زكيه" نحو الداخل لإجابة المتصل ....

- السلام عليكم ... إزيك يا "وعد" ...

- وعليكم السلام ... إزيك يا خالتي ...

كعادة نبرتها الحزينة تنهدت لها "زكيه" متسائلة بإشفاق ...

- مالك بس يا حبيبتي ....إنتِ لسه زعلانه ...؟!!

لملمت "وعد" شفاهها المرتجفة تتماسك حتى لا تنجرف بالبكاء لتجيبها بإختناق ...

- أعمل إيه بس ... قلبي مخنوق ... تعبت أوى يا خالتي ...

بيقين بأن فرج الله قريب لتلك المسكينة ...

- فرجه قريب ... بلاش تعملي كدة ...

سحبت "وعد" نفسًا طويلًا مضطربًا ثم عقبت ...

- يا رب يا خالتي ... يا رب ....بقولك يا خالتي ... هي "عهد" ما إتصلتش بيكِ ... أنا بقالي فترة مش عارفه أكلمها ... تليفونها على طول مقفول ...

- يمكن مشغولة ولا حاجة يا بنتي ...

تقوست شفتي "وعد" وهي تنطق حروفها بحشرجة ..

- أنا عارفة إنها أكيد قافلة التليفون عشان مش عايزة تكلمني ... أنا عارفة إنها زعلانه مني ...

حاولت "زكيه" تلطيف الأمر ...

- لا يا حبيبتي ... هي أكيد مشغولة ولا وراها شغل ... حاولي تاني ... كلميها يا حبيبتي ... إنتوا مالكوش غير بعض ...

أومأت "وعد" عدة مرات بتفهم لذلك ...

- عندك حق ... إحنا مالناش غير بعض ... أنا حكلمها تاني ... أنا كنت بسألك بس هي كلمتك ولا لأ ...

- لا والله حبيبتي .. متكلمناش بقالنا فترة ...

أنهت "وعد" محادثتها لتستعد أولًا للإتصال بـ"عهد" فلن تتواني عن قُربها وسندها لها ، لكن عليها أولًا أن تهدأ قليلًا فلا داعي للبكاء ...


عادت "زكيه" لـ"راويه" التى كانت تلملم ردائها إستعدادًا للمغادرة ...

- إيه ده ... إنتِ نازله ولا إيه ..؟؟! 

إصطنعت "راويه" بسمة وسط إرتباكها الشديد ...

- أه ... أنا خايفة أمي تكون صحيت متلاقينيش وتعمل مشكلة ...

ألحت عليها "زكيه" بالبقاء بكرمها الغير محدود الغير متوافق مع إمكانياتها المادية إطلاقًا ...

- من غير حتي ما تشربي حاجة ... لا والله لازم تقعدي ...

- معلش يا مرات عمي ... خليها مرة تانية ...

أنهت "راويه" عبارتها لتتجه مسرعة نحو باب الشقة لتغادر تحت أعين "زكيه" المندهشة ...

دقائق تمر كساعات وسط تخبط وتوتر "صباح" أثناء إنتظارها عودة إبنتها ، وقت تخيلت به بأحلامها القميئة مثلها بما سيحدث بعد أن تتم السحر لـ"زكيه" وبناتها وما سيطالهم من أذى ...

قطع أحلام يقظتها قدوم "راويه" حين فتحت الباب وهي تتلفت خلفها للتأكد بأنه ليس هناك من يتبعها أو يلاحظها ...

أسرعت "صباح" بتلهف ...

- ها ... عملتي إيه .. ؟؟!!

أخرجت "راويه" خبيئتها من ردائها لتمد به يدها تجاه والدتها بحقيبة بلاستيكية سوداء قائله بإمتعاض ...

- دول إللي عرفت أجيبهم ...

لمعت عينا "صباح" بوهج ماكر ثم هتفت بسعادة ...

- بت أمك بصحيح ... هو ده الكلام ... من بكرة أروح للشيخ "كرامه" ... هو إللي حيخلص كل حاجة ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈


شقة عهد ...

بللت شعرها الأسود بالماء وهي تمسح بكفيها فوق خصلاته الناعمة الملساء فوق رأسها قبل أن تطالع وجهها المستكين بالمرآة ، مظهر طالما خصت به نفسها فقط ...

عادت للجلوس فوق المقعد تدور بعينيها الناعستين باحثة عن سبب يجعلها تتغيب اليوم ولأول مرة عن عملها ...

هى تخشى من مواجهة ربما تحدث ، وربما أيضًا لا تتقابل الوجوه مرة أخرى ، لكنها يجب بكلتا الحالتين أن تكون على أهبة الإستعداد ...

لم يكذب من قال أن الألم ثمن القوة ، وعليها تحمل الألم وحدها كما تحملته طيلة عمرها ...

وكما تمنت تمامًا بإختلاق عذر لنفسها للغياب دق رنين هاتفها الذى لم تسمع دقاته منذ سفرها ..

نظرت بتملل تجاه شاشته حين ظهر إسم أختها "وعد" يتلألأ بالشاشة ، كما لو كانت تعلم أنها بحاجتها لأن تكون إلى جوارها ، أن تستمع فقط لصوتها الرقيق لتشعر بأنها ليست بمفردها ، حتى لو لم تقدر بضعفها وخنوعها أن تكون سندًا لها ، إلا أن شعورها أنها إلى جوارها يكفيها ...

تنهدت بقوة أولًا قبل أن تردف بفظاظة تدعى بها القوة وعدم الإهتمام ...

- ألو ....

تلقت صوت "وعد" الهادئ الناعم بالطرف الآخر كوسادة ناعمة تلقى عليها إنهاكها والآمها ..

- "عهد" حبيبتي .. وحشتيني أوى ... كنتِ فين ...؟!! إتصلت بيكِ كتير أوى تليفونك كان مقفول ...؟!!

عيون حزينة وقلب مفعم بالإنكسار لكن صوتها أعلن خلاف ذلك لتردف بخشونة ...

- كان عندي شغل ...

- لم تبالي "وعد" بخشونة "عهد" فقد إعتادتها ولن يمنعها إسلوبها الجاف من محبتها لها لتردف بحنو ..

- ربنا يقويكِ حبيبتي ... وحشتيني يا "عهد" ...

أرادت لو تجيبها بنفس هادئة ونبرة لينه حانية مثلها ، لكنها وجدت نفسها تستكمل بجفاء ...

- أيوة ... وبعدين يعني ...؟!!!

شعرت "وعد" بأن "عهد" مازالت متضايقة منها لتردف بطلبها بنبرة مرتجفة متوجسة ..

- عاوزة أشوفك ... عاوزة أجيلك أقعد معاكِ وأتكلم معاكِ ... ( ثم أنهتها بعبارة مترجية ) ... وحشني الكلام معاكِ نفسي أقولك كل إللي جوه قلبي ..

بعد صمت دام للحظات وجدت "عهد" نفسها تردف بهدوء لم تعتاده ..

- ماشي يا "وعد" ...


تهللت "وعد" بموافقة أختها لتردف بسعادة لما تسمعه بأذنيها ...

- بجد ... بجد يا "عهد" آجيلك ... بجد والله ...؟!!

لم تصدق سماحها لها برؤيتها بعد كل هذا الغياب لتؤكد "عهد" ذلك ..

- أيوة ... تعالي ...

- حالًا ... حالًا ... جيالك يا أختى ... جيالك ...

أنهت مكالمتها لتجد "عهد" سببًا أخيرًا لتغيبها اليوم عن العمل ، فسوف تقضيه مع أختها التى لم ترها منذ شهور مضت ...


❈-❈-❈


بيت المستشار خالد دويدار ...

غلبه الحماس اليوم كما لو كان يبدأ مغامرة من بدايتها ، مغامرة تحمل طبع آخر وتحدى بداخل نفسه ...

بحُلة رسمية زادت من وسامته وغموض عيناه القاتمتان تجهز "معتصم" للذهاب نحو مقر المخابرات العامة (الجهاز) بأول يوم عمل بعد عودته من مهمته الطويلة بسويسرا ...

رغم جاهزيته لمقابلة السيد "نظمي" وإطلاعه على تفاصيل المهمة كاملة إلا أن حماسه كان يكمن بإتجاه مغاير ، فاليوم سيلتقى معها كزميل عمل لا يمكنها الهروب من واقع يجمعهما معًا من جديد ...

تأنق للغاية ليغادر منزل والديه متجهًا لمبني المخابرات العامة بحزم وقوة ...


❈-❈-❈


مبني المخابرات العامة (الجهاز) ...

دقت خطواته القوية بأرضية الممر معلنة وصول قائدها المغوار الذى لانت له الصعاب وتحدى العراقيل حتى تمام مهمته ، ليست مهمة واحدة بل العديد والعديد من المهمات الخطرة والصعبة التى لا يمكن لسواه إقتناص النجاح من بين أغوار المخاطر ...

دلف "معتصم" بشموخ لداخل مكتب السيد "نظمي" ، شخصيته الفريدة المتمردة جعلته رغم تقديره لرئيسه بالعمل إلا أنه يتعامل بذات القوة التى يتعامل بها مع الآخرون لهذا كان لـ"معتصم" وضع فريد وخاص للغاية ...

بثقة تامة وكلمات قليلة بدأ "معتصم" لقائه مع نظمي" ...

- صباح الخير يا فندم ...

تهلل وجه "نظمي" برؤيته لقناص المهمات وورقته الرابحة ...

- "معتصم" ... حمد الله على السلامه ... تعالي أقعد ...

جلس "معتصم" بالمقعد المقابل لـ"نظمي" وهو يضم شفتيه الممتلئتان بغرور ...

- وصلك الجهاز يا "نظمي" بيه ...؟؟

أعاد "نظمي" جذعه للخلف بأريحية و فخر ليظهر بقية جسده الممتلئ ...

- أكيد ... طبعًا ما أنا عارف أنا بعت مين يخلص المهمة دى ... 

إطراء أسعد "معتصم" لكنه معتاد عليه ، رفع "معتصم" عنيناه المتجولتان بزهو مال للغرور بعض الشيء ...

- شكرًا يا "نظمي" بيه ... أظن كدة أنا أتميت المهمة خارج مصر ...

تذكر "نظمي" وعده لـ"معتصم" قبل سفره الأخير والذى طال كثيرًا بأنه سيُكلفه فيما بعد بمهمات بداخل الوطن وليس بخارجه ، إبتسم "نظمي" بخفة قائلًا ...

- وأنا عند وعدي ... من النهارده شغلك كله جوه مصر ... إختار المجموعة إللي تناسبك من الجهاز وإبدأ .. إحنا محتاجين هنا برضه حد زيك يا "معتصم" ...

لاح طيفها أمام أعينه ليميل برأسه قليلًا بخيلاء فهي بالتأكيد العضو الأول الذى سيضمه لمجموعته القادمة ...

- تمام يا "نظمي" بيه ... أنا حجهز قايمه بأفراد المجموعة وأعرضها على سعادتك ... هو ممكن لحد دلوقتِ أضم الضابط "عهد" ... كانت ممتازة جدًا فى المهمة الأخيرة ...

بترحيب شديد فهو لن يرفض لـ"معتصم" طلب ...

- تمام .. تمام ... إعتبرها معاك .. وأى حد تختاره أنا معنديش مشكلة ...

قطع حديثهم طرقات بباب مكتب "نظمي" ليتتوق "معتصم" للدالف فربما تكون هي ، لكن خُيبَ ظنه حين رأى شاب حديث العهد بالجهاز لم يره من قبل ...

- صباح الخير ... 

أشار "نظمي" له بالدخول وهو يأشر عليه معرفًا "معتصم" به ...

- إتفضل يا "طه" ... ده بقى يا سيدي واحد من الكوادر الجداد ... أظن ممكن يفيدك جدًا يا "معتصم" ...

أثار إسم "معتصم" إنتباه "طه" ليهتف بحماس و إنبهار بشخصية "معتصم" ...

- "معتصم" ...!!! "معتصم دويدار" ... أنا مش مصدق إني قابلتك أخيرًا يا "معتصم" باشا ... ده إنت أيقونة والله ...

بثقة وغرور فهذا طبعه المعتاد ليجيبه بإيمائه خفيفه وخيلاء ...

- شكرًا يا "طه" ...

تقدم "طه" نحو "معتصم" قائلًا بتعظيم لما سمعه عن قدرات هذا الضابط الهائلة ..

- لا حقيقي ... أنا كان نفسي أقابلك بجد ... 

ضحك "معتصم" ضحكته الرزينة ...

- بس كدة ... أدينا إتقابلنا ... ده إحنا ممكن نشتغل مع بعض كمان ...

إتسعت عينا "طه" الضيقتان بتفاجئ ...

- ده يبقى شرف ليا يا فندم ...

عقب "نظمي" برضا ...

- بشاير المجموعة بدأت تبان أهى ...

لاح تساؤل "طه" الذى جاء لأجله ليلقى بسؤاله الذى إسترعى إنتباه "معتصم" الكامل حين نطق "طه" إسم خاطفة قلبه ...

- هي "عهد" مجتش لسه ولا إيه ... ؟؟! أنا قلبت الجهاز كلها عليها ...

ضرب "نظمي" مكتبه بخفة ضاحكًا ...

- يا أخي غلبتنا بالست "عهد" بتاعتك دي ... حتلاقيها زمانها جايه ... هي إللي زى دى بتغيب أبدًا ...

لم يبالي "معتصم" بشئ سوى بكلمة "نظمي" ( بتاعتك) ، كلمة جعلته مرتابًا بالأمر لكنه لم يظهر أى من ظنه إليهم ، وقف "معتصم" يدنو قليلًا من "طه" متسائلًا بهدوء ...

- هو إنت و "عهد" بتشتغلوا مع بعض ...؟!!

أجابه "طه" بحماس وقد لمعت عيناه ببريق أدركه "معتصم" على الفور ...

- لأ ... شغل إيه ... أنا مش بتكلم على الشغل خالص ... إحنا حنتجوز إن شاء الله ...

صاعقة ضربت قلبه بمقتل ، لم يظن أن "عهد" يربطها علاقة من أى نوع بآخر ، لماذا ظن أنها متاحة ولا ينشغل قلبها بغيره ؟؟!!! ، لحظات من الصدمة لم تظهر لمن يتطلعوا به بل إكتفى بحبسها بداخل نفسه ، فغموضه يجعل ملاحظة ما بداخل نفسه لأمر مستحيل للغاية ...

شعور غريب تملكه ، إحساس لم يراوده من قبل ، شعور مؤلم لنفسه وقلبه ... إنها الغيرة ... 

صمت "معتصم" قليلًا قبل أن يردف بنبرة جادة إضطرب إثرها "طه" فقد كان مبتسمًا ممازحًا منذ قليل ...

- تمام يا حضرة الضابط ... 

قالها "معتصم" وهو يتطلع تجاه "طه" بنظرة غريبة لم يفهمها الأخير ثم إستطرد بجدية تامة ...

- ترتيب أفراد المجموعة حتكون على مكتب سيادتك يا "نظمي" بيه بكرة الصبح ...

إتخذ خطوة تجاه باب المكتب للمغادرة قبل أن يلتفت بجانب وجهه فقط تجاه "طه" المحدق به موجهًا له حديثه المقتضب ...

- إنت حتكون معايا ... و ... أكيد حضرة الضابط "عهد" ....

أنهى عبارته مغادرًا وقد تخبط بمشاعره لأول مرة بحياته ، شعر بالضيق والإنقباض لقد ظن أنه سيستعيدها ويخبرها بما تحرك داخله تجاهها ، لكنها لم تكن له إنها لسواه ...

ستعطي مشاعرها وحبها لغيره ، لقد ظن أن قلبيهما تلاقا لينتفض الساكن بين ضلوعهما لكن يبدو أن ظنه لم يكن صحيحًا ...

غصة علقت بقلبه حين علم بأمر زواجها من "طه" معلنًا ضياع فرصته بقربه منها وإصلاح ما أفسده بسيويسرا ...

لقد لعبت الظنون برأسه ونسي أن بعض الظن إثم ...


❈-❈-❈


شقة عهد ...

وقفت وحدي بأوقات لا يتجاوزها المرء إلا جماعة ، إعتدت وحدتي حتى أصبحت هي رفيقتي وسندي ، لكن اليوم على البوح بما كمن بقلبي ، لم أعد أقوى على الكتمان فسوچف أعترف بكل شيء ...

تلهف قلبها لرؤية أختها التى غابت عنها لشهور طويلة ، لأيام عدة قاست بها حنينها وشوقها إليها متحملة بُعدها عنها فربما تشعر بخطأها وتتراجع عما سوف تُججلقى به نفسها ..

صاحب طرقات باب شقتها دقات قلبها التى هتفت معلنة شوقها لأختها لكنها أظهرت قناع البرود والتجاهل خاصتها لتجيب الطارق بوجه جامد صامت ...

فتحت الباب لتجد "وعد" تقف قبالتها بتلك الإبتسامة العريضة والأعين الدامعة ، كانت تود لو تقابلها بنفس المشاعر المرهفة التى تتجلى بملامحها بسهولة لكن الأمر على "عهد" كان صعبًا للغاية ...

لم تعطها "وعد" فرصة لإتخاذ قرار الخطوة الأولى لتلقى بنفسها بأحضان أختها تطوقانها بذراعيها بشوق وإحتياج لقربها وحنانها ...

لم تقاوم "عهد" عناق أختها فقد كانت تحتاجه أكثر منها حتى ولم تظهر ذلك ...

همست "وعد" بنبرتها الرقيقة ...

- وحشتيني أوى أوى ...

تنهدت "عهد" بصمت كما لو أن تنفسها المنتظم براحة وسكينة هو إجابة عن إشتياقها هي أيضًا لها ...

بعض لحظات من الحنين قضبت "عهد" حاجبيها بإستغراب وهو تنظر للفراغ من خلف "وعد" لتتسائل بتعجب ..

- فين "زين" ...؟؟! 

ضغطت "وعد" بأسنانها فوق شفتها السفلية ثم قوست حاجبيها بتأثر قائله ...

- وديته عند خالتي "زكيه" ...

تراجعت "عهد" لخطوة إلي الخلف تطالع وجه أختها بتفحص تود كشف ما تخفيه تلك الضعيفة ..

- ليه ...؟!! مجبتيش إبنك ليه يا "وعد" ...؟!!!

سحبت "وعد" نفسًا متألمًا إنتهى بانتفاضة جسدها كمحاولة فاشلة للتحلى ببعض القوة لهذا اللقاء ...

- عشان عاوزاكِ لوحدنا ... مش عايزة أى حد معانا ...

مدت "عهد" ذراعها لتغلق الباب الذى مازال مفتوحًا قبل أن تردف بجدية وإرتياب بما تخفيه "وعد" ...

- هي إيه الحكاية ...؟! إدخلي ...

تقدمت "وعد" تجاه الداخل فكل شئ حولها مرتب بعناية كما كانت والدتهم تفعل تمامًا ، لم يتغير بالبيت شئ ، وربما ذلك أمر بعث الراحة بداخلها فإحساس الأمان مفقود تمامًا تتمنى أن تتشبث بأى شئ يشعرها به ...

إلتفت "وعد" تجاه "عهد" التى لحقت بها لتبدأ تهاوى قوتها الضعيفة ...

- متزعليش مني يا أختى ... غصب عني ...

يا ليتها لم تنطقها ، فـ"عهد" كانت على وشك الإنفجار وضعف "وعد" حقق لها غايتها ، لتنهال بإنفعالها و حِطدتها على تلك السلبية ...

- غصب عنك ...؟؟!! ليه ... ليه بتعملي فى نفسك وفينا كدة ...؟!! ليه بتعيدي حياة كرهناها ... ليه ضعيفة وخايبة بالشكل ده ... ما إنتِ عارفة كويس الضُعاف بيجري لهم إيه ...؟؟! 

أشارت "عهد" بطول ذراعها نحو الفراغ وهي تنتفض بغضب إشتد له حمرة وجهها لإنفعالها الشديد فقد وقعت إحداهما بالهاوية ...

- مش شايفة إللي حصل لأمك ... ولا لخالتك "زكيه" ...؟!! مش شايفة قدام عينك ضعفهم عمل فيهم إيه ... إنتِ ليه غبية كدة ....؟؟! ليييييه ...؟!!؟

تهدج صدر "وعد" بقوة لتنهار بنشيج وبكاء حاولت ألا تنساق خلفه لكنها لم تقدر على الإطلاق ...

- قلبي خاني يا "عهد" ... غصب عني كنت بدأت أحب "عاطف" ... كنت عايزة حياتنا تمشي ... كان نفسي يبقى ليا زوج بيحبني ويخاف عليا  ... كان نفسي فى بيت إتحرمت منه .....!!!!!!

صوتها المتهدج وإحساسها بالتحسر والندم جعل "عهد" ولأول مرة تشعر بمعنى ضعفها ، لقد فهمت أخيرًا ما معني أن ينساق قلبك رغمًا عنك ، أن يحب من لا يحبك ، لقد أدركت أن النسيان ليس بتلك السهولة ...

لأول مرة تعاطفت مع أختها فقد مرت بمرارة التجربة ، لكن .... إحساسها بالضعف ليس من شيمها ، فلن تستسلم ولن تترك أختها تتخبط بتلك المتاهة ، بل عليها الأخذ بيدها والعبور بها لبر الأمان ...

رفعت "عهد" عنقها للأعلى بشموخ فلن يكسرهما رجل لتعقب بقوة أرادت بثها بـ"وعد" ...

- كان لازم تختارى نفسك ... فوقى من إللي إنتِ فيه .. و إللي إنتِ ناوية عليه ... لازم تكوني قوية وأنا معاكِ ... متخافيش ... هاتي إبنك وتعالي هنا ... أنا حاحميكِ متخافيش ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

زادت شهقاتها وبكائها وهي تحرك رأسها نفيًا حتى أن "عهد" لم تفهم لم ترفض ذلك ...

- مش حينفع ... مقدرش ... مقدرش ...

إحتدت "عهد" بقسوة لتفيق أختها من خنوعها ...

- هو إيه اللي متقدريش ... سيبي لهم البيت ... تعالي هنا ... وقعتي مرة ... مش لازم تقعي كل مرة ... فوقي يا "وعد" فوقي ...

رفعت "وعد" عيناها المغرغرة بالدموع نحو الأعلى قبل أن تردف بإنفعال ...

- إنتِ مش فاهمة حاجة .... مش فاهمة حاجة خالص ...!!!

أجابتها "عهد" بحدة ..

- فهميني ...!!

إرتجف جسد "وعد" بشدة وهي تصرخ معترفة بما لم تستطع كتمانه لأكثر من ذلك ...

- أنا مينفعش أسيب البيت هناك ... مينفعش ... أنا ... أنا ....

- إنتِ إيه ... ؟؟! ما تنطقي ...!!!

بنبرة قوية مهتزة كنفسها الهشة تمامًا ...

- أنا إللي قتلت "عاطف" يا "عهد" ... أنا قتلته ...!!!!!!


( الفصل التاسع عشر ) "الجزء الثاني"

أحيانًا نتمنى ألا نفهم ، أن نترك الأمور على سجيتها يُفهم ما يُفهم و يُترَك ما يُترَك ، أن نتغافل عن الثقوب والأخطاء وأن نبقى على سكوننا بدون أى رد فعل ، كما لو أن رد الفعل سيمحو الضرر الذى سيلحق بنا ...

إدراكنا للحقيقة مُجهد للعقول مؤلم للقلوب ، مؤذى للنفس ... ففي بعض الأحيان نفضل ألا نصدق ...


بيت النجار ( شقة فخري) ...

لمعت عين "حنين" بغيظ مكتوم لم تستطع إظهاره أنقذها من شلال الإهانات التى كانت ستتلقاه طرقات أخرى على باب شقة "صباح" ....

قفزت "حنين" بخفة مبتعدة عن "صباح" ولسانها السليط لتلبي الطارق ظنًا منها أنها بذلك تهرب من ضيق نفس بوجودها إلى جوارها ، لكنها فوجئت بمن يكتم أنفاسها كمن يسحب الهواء من حولها ...

رفعت "حنين" حاجبيها وإتسعت عيناها بذهول قبل أن تفغر فاها قائله ...

- "ريهام" ....!!!!

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه 

منذ بدأ خلافاتها مع "مأمون" لم تخطي "ريهام" بيت العائلة ، بل ظنت "حنين" أنها تخلصت نهائيًا من وجودها ورؤيتها ، تلك المتعالية التى كادت تسرق كل الأضواء منها ، فما الذى أتى بها إلى هنا اليوم ..

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

بطرف عيناها الواسعتان رمقتها "ريهام" بتقزز لتعبر من جوارها دون الإكتراث حتى بإلقاء السلام عليها ...

خطوات متمايلة متغنجة وهي تدلف نحو الداخل لتميل برأسها فى خيلاء لتتحرك خصلات شعرها العسلية المموجة تكيد بجمالها تلك الواقفة إلى جوار الباب من خلفها ...

شابة تتمتع بحسن طبيعي بيضاء البشرة وفم رفيع وأعين صغيرة لكنها تتمتع بجاذبية شديدة لدلالها وتغنجها الدائم فهي معجبة بحُسنها لدرجة الغرور ، تدرك أن الأبصار تتجه صوبها فور تواجدها بأى محل تنزل به ...

تقدمت نحو "صباح" الجالسة بالصالون لتلقى تحيتها وهي تجلس دون دعوة صاحبة البيت لها ...

- صباح الخير ...

إعدلت "صباح" جسدها المائل بإهتمام بالغ لم تظهره يومًا لغير تلك المرأة ...

- "ريهام" ... !!! إزيك يا حبيبتي ...

ضمت "ريهام" شفتيها الرقيقتين وهي تلقى بنظرة أخيرة على "حنين" كما لو كانت تخبرها أن وجودها ليس مرغوب به لتعود ببصرها الكامل تجاه "صباح" لتجيب تحيتها ...

- كويسة ... اوووى ...

قالتها تكيد بـ"حنين" صاحبة المشكلات والإستفزاز لها حينما كانت تقطن هنا بهذا البيت ..

لم تتحمل "حنين" وجود "ريهام" فحتى مع غيابها إلا أنها تظل الأجمل وسارقة كل الإهتمام رغم المشاكل والقضايا بينها وبين "مأمون" ، هتفت "حنين" بعجالة دون إنتظار ...

- طب أنا حنزل أشوف العيال تحت ... حبقى أجيلك بعدين يا ماما "صباح" ...

خرجت على الفور وهي تسحب الباب من خلفها فقد فشلت مساعيها اليوم وإنتهى أيضًا برؤيتها لغريمتها زوجة "مأمون" السابقة ...

بحفاوة غير معتادة أخذت "صباح" ترحب بـ"ريهام" بشدة ...

- ليكِ وحشه والله يا "ريهام" ... بس مش كنتِ تقولي إنك جايه عشان نحضر لك غدا محترم ...

أعادت "ريهام" جذعها للخلف بعنجهية وهي ترفع ساقها فوق الأخرى قبل أن تجيب ...

- وهو أنا غريبة ... أنا صاحبة بيت يا حماتي ...

بسمة مهتزة إحتلت ملامح "صباح" وهى تردد كما لو كانت مجبرة على الترحيب بها ...

- طبعًا يا حبيبتي ... طبعًا ...

دارت "ريهام" بعيناها بداخل الشقة تكشف ما بها متسائله ...

- أمال فين "راويه" و عمي "فخري" ...؟!!

- عمك "فخري" فى الوكالة ... و "راويه" فى البلكونة ... أناديها لك ...؟!!

أنهت عبارتها وهي تدفع بجذعها الثقيل تحاول النهوض من فوق الأريكة ، لكن كف "ريهام" أوقفها قائله بلا إهتمام ...

- لالالالأ ... خليها خليها .... أنا جيالك إنتِ ...

توجست "صباح" من زيارتها لتهتف بترقب ...

- خير ...!!! 

أجفلت "ريهام" بعينيها الصغيرتين بتعالي ثم أردفت تطلب ما جائت لأجله بنبرة آمره ...

- عايزة فلوس ... "مأمون" كل ما أكلمه يطنش ... فقلت آجى لك ... أنا عايزة فلوس ... كتير ... الولاد عايزين حاجات ضرورية أوى ... ومش حستنى لما المحكمة تحكم ..

هبت "صباح" تلبي طلبها والذى رفضت مثيلهُ منذ قليل ، لكنها لا تقوى على رفض طلب "ريهام" ...

- بس كدة ... من عيني ... ثواني ورجعالك ...

دلفت لغرفة نومها لتخرج بعد قليل من الوقت تحمل رزمة من الأوراق المالية تأشر بها تجاه "ريهام" ...

- خدي يا حبيبتي ... كله إلا ولاد "مأمون".... وأمهم حبيبة قلبي ...

بسمة متكلفة علت ثغر "ريهام" وهي تضع المال بحقيبتها الحمراء قبل أن تقف إستعدادًا للمغادرة فقد تمت مهمتها ولا داعي لبقائها هنا ...

- طيب ... سلام بقى ...

رغم توجهها لباب الشقة إلا أن "صباح" هتفت مجاملة ...

- ما تخليكِ نتغدى سوا ...

أجابتها "ريهام" بتعجل ..

- لأ ... بعدين ... سلام يا حماتي ...

تنفست "صباح" الصعداء بعد مغادرة "ريهام" فهي الوحيدة التى تحسب لوجودها ولطلباتها ألف حساب ...

إنتبهت لأن الوقت يمر بها وعليها الذهاب للشيخ "كرامه" قبل عودة "فخري" من الوكالة لتدلف لغرفتها لتبدل عبائتها بأخرى لتقضى هذا الأمر بعجالة ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه 

❈-❈-❈


(نيره إستور) لمستحضرات التجميل ...

جمال الشئ يكمن في بقائه سرًا ، وليس علينا البوح بكل ما يحدث لنا ولا يبقى لأنفسنا حلاوة نخفيها عن الأعين والآذان ...

فلقضاء حواجئنا يجب علينا أن نستعين بالكتمان ، حياتنا الخاصة سميت خاصة لأنها تخُصنا وحدنا لا دخل فى المحيطين بها ...


بجلسة معتادة بين "نيره" و "إسراء" بالمتجر الخاص بـ"نيره" أخذت "نيره" تقص على مسامع صديقتها كل ما حدث بالأمس بالتفصيل بينها وبين "رؤوف" وكيف غضبت منه ومحاولته لإرضائها ...

دفعت "إسراء" خصلة شعرها الصفراء المصبوغة للخلف بتفكير قبل أن تجيب صديقتها ...

- حلو جدًا ... بس إوعي إللي حصل ده يخليكِ تسمعي الكلام ومتروحيش الشركة عنده تاني ... لأن هو ده إللي هو عاوزه ... عمل الزعلة دى مخصوص عشان تخافي تروحي له هناك تاني ...

كالمغيبة تمامًا أردفت "نيره" بإقتناع فقد أصبحت الآن كالقطة الوديعة التى تنصت لكل ما تقوله "إسراء" بينما تعترض كل ما يقوله "رؤوف" طيلة الوقت ...

- معاكِ حق ... هو كدة حيتطمن ... لأ ... أنا لازم أروح ... عشان يبقى عامل لي حساب فى كل مكان ...

- برافو عليكِ ... خليكِ واعية كدة ... 

دارت "إسراء" بعيناها الجاحظتان قبل أن تتردد في سؤالها ...

- بس إنتِ مقولتيليش ... أمه وأبوه أخبارهم إيه معاكِ ؟!! ... الناس دى لازم تكسبيها ... 

إمتعضت "نيره" قليلًا فهي ليست ذات شخصية مُحبة إجتماعيًا لتردف بثقل ...

- عمو "خالد" مشغول فى الشركة إللي بيشتغل فيها ... وطنط "منار" ما بين المستشفى والبيت ... بصراحة أنا مش ببقى عارفه أقول إيه يخليهم يحبوني ... ( ثم لوت فمها بإستياء مستكملة ) ... كفاية عليهم حبيبتهم "غدير" ... واكله عقلهم بصورة غريبة ...

أجابتها "إسراء" بتحفيز ...

- لأ ... لازم تبقى زيها وأكتر ... لازم يحبوكِ أكتر منها ... 

- طيب قوليلي أعمل إيه ..؟!

تفكرت "إسراء" قليلًا ثم أجابتها ...

- نفكر ...


❈-❈-❈

شركة بيكو للأدوية ...

سيكون الإنتظار غايتي إلى أن يقسم الله لنا أن نلتقى ، فقربه يعنى لي الحياة والحياة هي هو فقط ...

بقلب مضطرب وأحاسيس مربكة دلفت "مودة" بخطوات متباطئة لداخل الشركة تبحث عن وجه وحيد تكتفي به من الدنيا كلها ...

كقطة وديعة أخذت تطالع الأجواء من حولها ببعض المكاتب وأرفف الأدوية وبعض الشحنات المغلقة لعقاقير أخري ، موظفون هنا وهناك وجوه عديدة ليس بهم وجه من تأمل رؤيته ...

نجمة لامعة وسط ليل طويل وقفت بتشتت لبعض الوقت دون إدراك إلى أين تتجه ...

تقدم نحوها شاب متوسط الطول وقد ملأت إحدى إبتساماته المتصيدة لتلك الحسناء قائلًا بلباقة ...

- تحت أمرك يا آنسه ...

تطلعت "مودة" بوجهه فليس هو من تقصده لكن ربما يساعدها للوصول إليه ، أجابته بهدوء ..

- لو سمحت كنت عايزة الدكتور "رؤوف دويدار" ...

سنحت له فرصة حديث مع فتاة جميلة ليجيبها الشاب بتساؤل مازح ..

- "رؤوف" ... !! مكنتش أعرف إن له معارف حلوين كدة ...

هي ليست ساذجة لتدرك أن هذا الشاب يتغزل بها ، نظرت له مطولًا بصمت لتجعله يضطرب من نظرتها التى أشعرته بحقارة تصرفه ليتنحنح مستطردًا ...

- إحم ... أسف ... "رؤوف" فى المكتب بتاعه .. إتفضلي من هنا ...

أشار نحو أحد الإتجاهات بتعقل لتتخذ "مودة" طريقها نحو المكتب الذى أشار إليه ليتبعها بدافع الفضول لمعرفة هوية تلك الحسناء ذات الشخصية المتفردة ...

طرقت "مودة" باب المكتب لتسمع صوته الحماسي من الداخل يرحب بالزائر ...

- إتفضل ... إتفضل ... 

دلفت "مودة" وقد تغيرت نظرتها الجدية لأخرى متشوقة للغاية ، فهو دقات القلب وحنينها ...

- صباح الخير ...

إنتفض "رؤوف" بحماس مهللًا فور رؤيتها ليتقدم مرحبًا بقدومها ...

- "مودة" ... أهلًا أهلًا نورتي ... تعالي إدخلي ...

تقدمت بهدوء تتأمل تفاصيل ملامحه التى تعشقها وتذوب بعذوبته و لطافته ..

- أنا جيت فى المعاد زى ما "غدير" قالت لي ...

تمسك "رؤوف" بظهر أحد المقاعد الجلدية يطالبها بالجلوس ...

- طب مش نقعد الأول ونرتاح كدة وبعدين نتكلم فى الشغل ... هو ينفع الجميل يفضل واقف على الباب ...

كم تعشق إسلوبه الساحر وضحكته المشرقة ، نظرت بتعمق لوجهه المرحب وهى تبتسم بخفة لتجد نفسها لا إراديًا تجلس حيث أشار دون إثناء عيناها عنه ...

- شكرًا ...

إلتف "رؤوف" تجاه صديقه الذى مازال واقفًا بالباب يتابع إستقبال "رؤوف" لزائرته الحسناء ..

- مالك يا "حمدي" ... واقف زى العمود كدة ليه ...؟؟!!! ما تدخل ..

كانت تلك إشارة لمشاركتهم جلستهم ليتجه صوب المقعد المقابل لـ"مودة" متأملًا بصمت وجهها الطفولي الساحر وبراءة عيناها السوداوتين ...

- أوى أوى ... 

بدأ "رؤوف" بتعريف بعضهما البعض ...

- ده بقى "حمدي الكاتب" زميلنا هنا فى الشركة ... دى بقى "مودة" ... أخت "غدير" مرات "عيسى" ... حتشتغل معانا من النهاردة ...

هلل "حمدي" بإستحسان وحماس شديد ..

- هو ده الكلام ... نورتي الشركة يا آنسة "مودة" ...

لم تستساغ "مودة" طريقة هذا الرجل لكنها أومأت بخفة مجاملة له ...

- شكرًا ...

أحضر "رؤوف" إحدى عُلب العصير ثم مد يده تجاه "مودة" التى ترددت لقبولها فهي لا تحب أى من المأكولات و المشروبات الغريبة خاصة تلك المعلبة ، لكنها أول شئ يقدمه لها فحتى لو لم تتناوله ستأخذه من يده ...


- إتفضلي يا "مودة" ... دى حلاوة أول يوم .. تخيلي بقى لو كل يوم معانا ...


تمنت أن تهتف بسعادة (يا ليت) لكنها إكتفت بإبتسامة خجولة ..

خجلها وبسمتها العذبة سرقا قلب "حمدي" الذى كان يترصد بردود أفعالها الرقيقة بينما أخذ "رؤوف" بإيضاح عملها وما يتطلب منها ، كادت أن تحلق بسعادة لقربها منه وإختصاصها بحديث حتى لو عن العمل ..

كل تفاصيلك لها بعيوني مكان ، سيكون قربي غايتي ولا أريد سوى هذا القرب ...

هل يمكن أن يحلق المرء وهو ساكن دون حراك ، هل يمكن أن يحلق ومازالت قدميه تطأ الأرض ...

يكفيني إحساس السعادة هذا فلا أريد شيئًا بعد ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه 

❈-❈-❈


شقة عهد ...

لم تكن لحظة غضب بل كان تراكم من الكتمان ، إهتزاز وإرتجاف وأصوات صاخبة تمامًا كبركان ثائر بداخل نفسها ...

لكن آن الأوان لأن تهدأ وتخرج ما أخفته بقلبها فاليوم يوم الإعتراف ...

صمت لاح بين كلاهما بعد إنهيار "وعد" وإنتظار "عهد" لفهم كل شيء ، فرصة للهدوء سمحت بها "عهد" أخيرًا حتى تستطيع فهم ما سبب قرار "وعد" الأعمى ...

بعد أن هدأت نفسها قليلًا نظرت "وعد" تجاه تلك العينان العسليتان اللاتى تحدقان بها تتوق لإدراك ما يثور بداخلها ...

لأول مرة منذ سنوات طويلة "عهد" تستمع بإنصات دون إنفعال ودون غضب ...

جلست بهدوء تنتظر صافرة البدء وعيناها معلقتان بأختها المنهارة تمامًا ...

ضمت "وعد" شفتيها المرتعشتان قائله ...

- خليكِ جنبي يا "عهد" ... أنا ماليش غيرك ...

لم يرهف قلبها لها الآن ؟!!  أليست هي القوية !!! ، ألهذه الدرجة تغيرت دون أن تدري ؟؟ هي من تتعامل بالصواب والخطأ وإعمال العقل ، أصبح قلبها يرهف لبعض المشاعر والشفقة ...!!!

تهدج صدرها ببطء وهي تومئ بخفة شديدة ربما تخشى أن يلاحَظ لينها الذى لم تعتاده ، لكن أختها تستحق ذلك ، تستحق أن تشعر ببعض الأمان ، هنا أردفت "عهد" بيقين تام ...

- أنا معاكِ فى أي حاجة حتعمليها ... بس فهميني ... لما إنتِ خلصتي من البني آدم ده وربنا فكك منه ... بتعملي فى نفسك ليه كدة ... إنتِ غاوية عذاب وتعب ...؟!!!

إستطردت "وعد" توضح الأمر من بقية الجوانب لها حتى تتفهم لم إتخذت هذا القرار ...

- ساعة ما "عاطف" وقع .. أنا خوفت أوى ... حسيت إن قلبي وقع معاه ... أنا فاكره اليوم ده كأنه إمبارح ... مش من خمس شهور ...


تذكرت "وعد" المشهد كاملًا أمام مرآها كما لو كانت تعيش تلك المأساة مرة أخرى ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه 

فلاش باك ...

﴿ إختل توازن "عاطف" ليسقط من فوق درجات السلم يتخبط هنا وهناك حتى إختفى عن أعينها وقفت مذهولة متيبسة دون حراك كما لو أنها أصبحت تمثال من صخر ، إرتعد جسدها فزعًا لكن دون حركة ...

لم تفق من شتاتها إلا بسماعها صرخات من "عتاب" بالأسفل لتحرك ساقيها المتيبستان تهبط درجات السلم بتخوف وتشتت ...

مالت "عتاب" على أخيها الساكن بلا روح وهي تصارخ ببكاء يهز جوف "وعد" الفزعة ...

- أااااااه يا أخويا ... اااه ... يا حبيبي يا "عاطف" ... اااه يا "عاطف" ...

صرخاتها كانت كفيلة بإيقاظ الغافلين حولهم لتقف "قسمت" أسفل الدرجات تنظر بهلع نحو ولدها الساكن وإبنتها الصارخة لتفهم ما حدث على الفور ، فقد مات "عاطف" ولدها البِكر وأحب أبنائها لقلبها ..

لم تقوى على التقدم أو الإبتعاد كما لو أن الزمن توقف هنا ، ما تراه حقيقة بعينيها يصعب عليها تصديقه ، فإن تحملت وفاة زوجها لا تقوى على تحمل فقدان إبنها الغالي ...

سقطت "قسمت" أرضًا فقد إنهارت حصونها القوية معلنة الإستسلام والهزيمة ...


رفعت "عتاب" رأسها نحو "وعد" التى تتطلع نحو "عاطف" بصدمة وقد بُهت لونها الأبيض حتى كادت تشبه الأموات ، صرخت بها "عتاب" بكلماتها القاسية الجارحة ووجه متعنت متوعد لها ...

- قتلتيه ...!!! قتلتي أخويا ... 


سُحِب الهواء من رئتي "وعد" وإرتجف جسدها الضعيف لتتسند بالجدار الذى يجاورها لتتهاوى جالسة وقد إتسعت خضراوتيها بغير تصديق ، حركت رأسها بعنف تنفى تصديقها لما حدث لتشاهق بالبكاء وقد إرتعد جسدها بقوة تخفى بكفيها هول ما تراه بأعينها ...

قبعت "عتاب" و "وعد" إلى جوار "عاطف" بينما مازالت "قسمت" ملقاة أرضًا لا تدري عن الواقع شيئًا ...

خطوات رزينة تقدمت نحوهم ليطل "محب" بوجه مقتضب دون فهم ...

- إيه إللي حصل ...؟؟! ماله "عاطف" ...؟؟؟

بوجه برئ تمامًا رفعت "عتاب" رأسها لتظهر دموعها الغزيرة التى غطت وجنتيها النحيلتان قائله بحسرة ...

- أخوك مات ... ماااات يا "محب" ...

لم تكتفي بحديثها المشؤوم بل إستطرت مستكملة إتهامها لـ"وعد" ...

- هي إللي موتته ... هي اللي زقته من فوق السلم ... 

قلب "وعد" الضعيف لا يتحمل رؤيته بهذه البشاعة فكيف ستتحمل فكرة أنها السبب بفقدانه حياته ، رفعت "وعد" رأسها تجاه "محب" تود لو تنفى ما حدث وأن ليس لها علاقة لكنها لا تقدر ، شهقاتها اليائسة كانت إجابة عما حدث ...

أسرع "محب" تجاه "عاطف" محاولًا إسعافه فربما مازال هناك أمل لكن قدر الله قد نفذ ليشيح بوجهه الحزين المتجهم فخلال شهور قليلة فقد أبيه وأخيه فما أقسى مصابه وأصعب فراقهم ...

حاولت "وعد" أخيرًا النطق فقد تلاشت منها الكلمات وجف حلقها تمامًا ...

- والله ما ... أقصد .. غصب عني ... هو ... هو .. كان بيخنـ .. بيخنقني .. بعدته عني ... وقع ... والله ما قصدت ... ووو ... والله ما قصدت ...

تركت "عتاب" رأس "عاطف" لتهب تجاه "وعد" تعنفها بقسوة وهى ترجها من بين يديها كعصفور مرتعد ...

- لأ تقصدي ... إنتِ لا بقيتي طايقاه ولا عايزاه ... هو ياما إشتكالي منك ... إنتِ كنتِ عايزة تخلصي منه ... إنتِ زقتيه بالقصد ... إنتِ قتلتيه يا مجرمة ... أنا حبلغ الشرطة ... لازم تتسجني ... لازم تدفعي تمن إللي عملتيه فى أخويا ...

تشتتها بين "عتاب" و"عاطف" الملقى أرضًا جعلها تنتحب بقوة فما تقوله "عتاب" سيجعلها تُحاسَب على جريمة لم تقصدها ، ستخسر حياتها وإبنها ...

لاح صوت جهوري غير معتاد أخرس كلتاهما حين صدح صوت "محب" بنبرة مغايرة تمامًا لما إعتادوه منه ...

- خلاص ... إنتهى ... إطلعي شقتك يا "وعد" ... وإنتِ خدي أمك إللي واقعه في الأرض دى ودخليها جوه ... وعلى الله أسمع الكلام ده تاني ... أخويا وقع قضاء وقدر ... لا حد زقه ... ولا حد وقعه ... الكلام منهي .. مفيش شرطة ولا بلاغات ... أخويا مات قضاء وقدر ...

حدجهما بنظرات قوية لازعة تلجمت لها ألسنة كلاهما لتصعد "وعد" راكضة نحو شقتها بينما حاولت "عتاب" حمل والدتها بصعوبة نحو الداخل تاركين الأمر لـ "محب" ...

ليلة عصيبة إنتهت بهدوء لم تتوقعه "وعد" وقضى الأمر بأنه حادث قضاء الله وقدره ولم يوجه لـ"وعد" أى إتهام كما قال "محب" ...﴾


عادت "وعد" لواقعها برفقة "عهد" التى كانت تنتظر مرة أخرى إجابة عن تساؤلها الذى لم تجيبه "وعد" ...

- أيوة ... برضه أنا مش فاهمة ... "عاطف" الله يرحمه مات من خمس شهور ... والحكاية خلصت قضاء وقدر زى ما قولتي ومحدش إتهمك بحاجة ... إنتِ ليه برضه مكملة فى بيتهم ... وليه حتعملي المصيبة اللي عاوزه تعمليها دى ....؟؟!!!

نكست "وعد" عينيها لتجيبها بصوتها الناعم الحزين ...

- يمكن وقتها محدش إتهمني بحاجة وده عشان "زين" طبعًا ... عشان ميخسرش أبوه وأمه مرة واحدة .. لكن كان دايمًا الإتهام بإني أنا إللي قتلته .. والتهديد إنهم حيبلغوا الشرطة عني ...

بفراسة إستطاعت "عهد" فهم كيف دار الأمر بعد ذلك لتعقب هي متخيلة بقية الأحداث ببراعة إندهشت لها "وعد" على الفور ...

- اااه ... فهمت ... يبقى عشان خوفك على "زين" هم إستغلوا النقطة دي و بقوا يهددوكِ يا إما تمشي على مزاجهم وتعملي إللي يقولوا لك عليه ... يا إما يبلغوا عنك ... صح ... بس يا ترى مين فيهم إللي أجبرك ... حماتك ؟!! ... لأ ... حماتك من يوم ما "عاطف" مات وهي فى دنيا غير الدنيا ومش حاسة باللي حواليها ... "محب" ..؟؟! لأ مظنش برضه لأن دي مش دماغه ... يبقى مفيش غيرها الحقودة الغلاوية "عتاب" ... هي إللي هددتك صح ...؟؟!

أومأت "وعد" بالإيجاب بإندهاش من ذكاء وفراسة أختها مجيبة إياها بإستكانة ..

- أيوة .. مظبوط ..

وقفت "عهد" ليظهر طولها وهى تشد من تشدقها للأعلى قائله بجدية ...

- بس أنا مش عاوزاكِ تخافي .. مهما حصل ... سيبي لهم الدنيا كلها وتعالي أقعدي هنا ... أنا قادرة أحميكِ ..

إضطرب تنفس "وعد" ولاحت علامات التخوف على ملامحها الرقيقة لتردف مجبرة ...

- مش حينفع يا "عهد" .. أنا الأسلم لـ"زين" إني أوافق على إللي قالولي عليه ...

جذبتها "عهد" من مرفقها لتفيقها من غفلتها ...

- متخافيش ... مش لازم توافقي ... مش حيقدروا يعملوا حاجة ...

سكنت "وعد" بعينيها بترجي ...

- إللي أنا عاوزاه إن إنتِ بس متزعليش مني ... أنا مش عاوزاهم ياخدوا "زين" مني ... أنا عشان خاطره أعمل أى حاجة ...

هتفت بها "عهد" بإشفاق لكن نبرتها كانت جافة للغاية ...

- عشان إبنك ... ترمي روحك فى النار ... عشان إبنك ... تتجوزي "محب" ...!!!!!!


( الفصل العشرون ) الجزء الاول

أنت الأول والأخير لا يضاهي وجودك شئ ، سلام على كل عابر بقلوبنا فلا أحد يمكنه ملأ فراغك مهما حاول ، يقتلني شوقي إليك فبقلبي حنين صامت يتتوق لرؤياك ، فهل يصلك رسالة صمتي أم أنني بالإشتياق وحيد ...


بيت محفوظ الأسمر ...

أعدل "محب" من إستقامة قامته بعد أن حاول لمرة أخرى حث والدته على التحدث فمن يتخيل أن تلك المرأة التى لم تصمت يومًا أو تهدأ نفسها أن تفقد النطق تمامًا وتبقى على هذا الحال منذ خمسة أشهر ، لأيام طويلة وليالي قاسية قضتها "قسمت" ممدة بفراشها دون النطق بكلمة فصدمة فقدانها لـ"عاطف" كانت عظيمة للغاية ...

تحير الأطباء بوضعها الصحي فهي ترفض التحدث لأثر فقدانها العظيم بنفسها وليس لسبب عضوي ..

حاول "محب" حث والدته مرارًا أن تخرج من قوعتها وتعود لحركتها وأصواتها الصاخبة ، وأن عليها تقبل قضاء الله وإكمال الحياة فالرضا بما قسمة الله هو الإيمان الذى يجب أن نتحلى به ، لكن نفس "قسمت" الضعيفة لم تتحمل هول الأمر لتبقى على وضعها لتلك الأيام دون محاولة منها لتخطى الأمر ...

صدح صوت "عتاب" من خلف "محب" قائله ...

- "محب" ... تعالى عاوزاك ...

طلبٌ مُحلى بلهجة آمره جعل "محب" يترك غرفة والدته خارجًا للقاء جديد مع "عتاب" والتى لا تكف عن طلبه لوضع حدود جديدة من أفكارها ..

همس "محب" بصوت خفيض ببعض الضجر من طلبها المستمر ...

- فيه إيه يا "عتاب" ... ؟!! ما تستني شوية ..!!!

لوت فمها بإمتعاض مردفة بإستهزاء ...

- يعنى قعدتك معاها هي إللي حتفرق ... ما هي على الحال ده من خمس شهور ...!!!

دفعها "محب" بخفة من مرفقها للإبتعاد عن غرفة والدته قائلًا بإستياء ...

- وطى صوتك ... كفاية إللي هي فيه ...

تقدمت "عتاب" وهي تحدث "محب" أثناء إبتعادها عن الغرفة ساخرة من لين طبعه المفاجئ ...

- طيب يا حنين ... تعالى ورايا ...

تبعها "محب" حتى إبتعدا تمامًا عن غرفة والدته ليسألها بتملل ...

- عايزة إيه تاني ...؟؟!

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

تطلعت بجانب عينيها تجاه الباب المفتوح لتتأكد أن "وعد" لم تأتي بعد فقد خرجت منذ الصباح ، ثم أجابته بتساؤل مرتاب ...

- كنت عايزة أعرف إحنا لسه على إتفاقنا ولا إيه ...؟!!

زفر "محب" بقوة فلم يعد يتحمل تكرار "عتاب" للأمر ليجيبها بإنفعال ليس من طبعه ...

- وأخرتها معاكِ ... !!! مش خِلصنا من السكة دى ... وخلاص ...!!!

عقدت "عتاب" ذراعيها أمام صدرها وهي تعيد على مسامع "محب" إتفاقهم لتضمن أنه مازال على العهد معها ...

- ونقول تاني وتالت ورابع ... إحنا متفقين إن إنت لازم تتجوز "وعد" وتبقى وصي على "زين" ... ده إحنا كل فلوسنا بقت بإسمه حتى الورق مش لاقينه ... يعنى لازم كل حاجة ترجع لينا ... كمان أنا مقدرش على خدمة عيل كمان ... كفاية عليا عيالي وأمك ... إنت لازم تتجوزها عشان ناخد منهم حقنا ... ماشي يا "محب" ...؟!!

بإيمائة خاطفة أجابتها بضيق ...

- وأنا قلت لك ماشي ... وإتفقنا .. وإنتِ هددتي "وعد" يا نتجوز يا تبلغي عنها إنها قتلت "عاطف" ... وكل حاجة ماشيه تمام ومستنيين موافقتها ونخلص ... عاوزة إيه تاني ... ؟؟!

مالت برأسها الطويل لتحدق عيناها السوداوتين المخيفتان بأخيها فإتفاقهما هو ما سيرجع مالهم وعليه الإلتزام بذلك وعليها أيضًا التيقن من ذلك كلما سمح الأمر ...

- عاوزة أقولك إن الكلام منهى ... أنا مش عايزاها تصعب عليك ... ولا تضحك عليك ... إحنا فى الهوا سوا يا أخويا ...

تمالك "محب" غضبه من تكرار "عتاب" لتذكيره بالأمر ..

- تمام ... تمام ... متقلقيش ... هي بس توافق ونخلص ونكتب الكتاب على طول ...

- الله ينور عليك ... نكتب الكتاب ... ونشوف طريقة بقى نرجع حقنا من الهانم وإبنها ...

إكتفى "محب" بهذا الحديث ليخبرها أثناء مغادرته ...

- طيب ... أنا نازل المعرض عشان إتأخرت ... سلام ...

لم ينتظر "محب" ردها بل إتجه نحو الخارج فالأجواء ببيت العائلة أصبحت خانقة للغاية ...

إنتهزت "عتاب" تلك الفرصة للبحث عن أى أوراق تثبت ملكيتهم لأى شئ قد تناسي والدهم بتسجيله بإسم "زين" ، فجميع ما يمتلكونه الآن أصبح ملكًا لإبن "عاطف" فقط ....

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈


عطارة النجار ...

تنتشر الفئران بعد غياب أصحاب البيت وإنشغالهم عن خيره ، وهكذا كان "فريد" الذى وجد ضالته بعد سفر "مأمون" وإنشغال والده بالمرور على بعض التجار أقرانه بالسوق ، دار "فريد" بخيلاء متخيلًا ما يُمكنه كسبه لو تملّك تجارة والده وأصبح هو المتحكم بها ...

إبتسم بخبث ضئيل الذكاء وهو يملس بكفه فوق مقعد والده والذى يجلس عليه "مأمون" في العادة وقد حلق بخياله ببحور الثراء والرخاء ...

جلس "فريد" مستمتعًا بتلك اللحظة التى لا تتكرر كثيرًا قبل أن تخرجه دقات هاتفه من حلمه الجميل لينتبه له ، إبتلع ريقه بإضطراب وهو يبلل شفتيه الجافتين مجيبًا ...

- "نونه" حبيبتي ... إيه الأخبار ...؟!!

خشيته من غضبها إذا أخطأ أنساه تخيله منذ قليل ليعود لشخصيته الخانعة بحضورها حتى لو عن طريق الهاتف فقط ...

- مش مهم أنا ... إنت عملت إيه عندك ...؟؟؟

قلب نظراته يمينًا ويسارًا ثم همس بتخوف من أن يسمعه أحد ...

- كله تمام ... "مأمون" سافر ... وأبويا بيلف لفه على التجار .. وانا قاعد على المكتب ...

إنفرجت أساريرها بسعادة ثم أردفت ...

- كويس ... لو عندك فلوس ... هات معاك وإنت راجع .. البيت فاضي ... 

أحنى "فريد" رأسه يتطلع لأحد الأدراج باحثًا عن بعض المال ...

- الدرج فاضي ... الظاهر أبويا أخد الفلوس قبل ما يمشى ...

لوت "حنين" فمها بإستياء فيبدو أن اليوم ليس أسعد أيامها ...

- برضه ...!!! طيب ... إسمعني كويس ... "حامد" إبن بنت عم أبويا ... عارفُه ...؟؟؟

قضب "فريد" جبهته بقوة محاولًا تذكر من هذا المدعو "حامد" ...

- لأ ... مش فاكره أوى ... مين ده ؟؟؟ وعاوز إيه ...؟!!

سأمت "حنين" من ذكائه المحدود لتهتف بتذمر ...

- يا أخي ركز معايا بقى ... "حامد" .. "حامد" ... مش عارفه إزاى ... "ميدو" يا أخي ...

إنتبه له "فريد" ليرفع رأسه بإدراك ...

- ااااه ... عرفته عرفته ... ماله "حامد" ...؟!!

أجابته بلهجة آمرة ...

- "حامد" حيجيلك كمان شويه ... أنا كلمته ... عشان حيدخلك معاه فى الشغل ... الواد ده بيعرف يطلع الفلوس من أى حاجه ... وإحنا لازم نشتغل معاه ...

ردد "فريد" حديث "حنين" لإرضائها هاتفًا ...

- صح يا "نونه" صح ... لازم نشتغل معاه ... وأنا قاعد مستنيه أهو مش حتحرك من مكاني لحد ما ييجي ...


❈-❈-❈


شقة عهد ...

إلى متى سيظل الخضوع مسيطرًا دون إختيار حياة تستحق أن تعيشها ، يُفطر قلبها لأجل نصف قمرها الآخر ، لم يكن ذلك هو المستقبل الذى كانت تتمناه لها ...

كأخت كبرى تتمنى فقط مصلحة أختها ظلت "عهد" تحث "وعد" عن التخلى عن إلقاء نفسها بجُحر الثعابين ، لكن خوفها من إنتزاع حضانة إبنها سيطر عليها بصورة فَزِعة لم تستطع "عهد" إثناء رأيها عن قرارها البغيض ...

- يا "وعد" ... أنا مش عاوزاكِ تعملي كدة فى نفسك ... إبنك وإنتِ فى حمايتي ... ميبقاش الكل عامل حسابي وإنتِ خايفة بالشكل ده من أهل جوزك ... إسمعي كلامي ... متخافيش ... إنتِ مش أختي الصغيرة ... إنتِ بنتي ... بلاش تعملي كدة فيا وفي نفسك ...

مسحت "وعد" وجهها مستجمعة شتات نفسها لتلقى بنفسها بأحضان "عهد" التى تفاجأت برد فعلها ، ثم قالت بنبرتها الناعمة ...

- يا حبيبتي يا "عهد" ... أنا عارفة إني ماليش غيرك ... وإنك إنتِ إللي أخدتي بالك مني وإتحملتي مسؤوليتي لوحدك بعد وفاة ماما ... عارفة إني طول عمري كنت حِمل تقيل على كتافك .. وقفتِ حياتك بدل ما تكمليها وتعيشيها ... فضلتي إنك تعيشي عشاني ونسيتي نفسك ... 

لم تظهر "عهد" تأثرها البالغ بل ظلت على جمودها الظاهر برغم إختلاج قلبها من كلمات "وعد" لتردف ..

- وإيه إللي حصل بعد كدة ...!!! ما إنتِ عاوزة ترمي نفسك فى النار برضه ... يعنى مش كفاية أول مرة لأ ... عايزة تكرريها تاني وتوقعي نفسك تانى ...

إعتدلت "وعد" لتحاول إقناعها بما ليست مقتنعه به على الإطلاق ...

- مش يمكن كدة أحسن لـ"زين" ... مش عايزة أتحرم منه يا "عهد" ... إفهميني ... وبعدين مش يمكن "محب" يكون غير "عاطف" ... أنا عمري ما حوافق إلا لما إنتِ توافقي الأول ...

ضحكت "عهد" بسخرية فكيف ينبت نبات صالح بتربة فاسدة ...

- عشم إبليس في الجنة ... 

وضعت "وعد" كفها فوق صدرها تترجي "عهد" بقبول الأمر و نيل رضاها ...

- بالله عليكِ ... لو خاطري غالي عندك ... وافقي .. ومتزعليش مني ...

كيف ستتقبل إهدار نفسها للمرة الثانية ، لمَّ القلب أصبح ضعيف لهذا الحد ...!!!

زمت شفتيها بإمتعاض لتردف مجبرة رغم عدم تقبلها ..

- طيب ... إنتِ مش صغيرة ... أنا كان نفسي تكوني أقوى من نفسك ومن ماما ومن خالتك "زكيه" ...

بأمل جديد بأن حياتها القادمة مع "محب" ربما يمكن أن تكون مختلفة لإختلاف طباعه وشخصيته عن "عاطف" ، أو ربما ستتحمل لأجل قرة عينها ولدها الوحيد ...

- يمكن يا "عهد" يكون غيرهم ... يمكن ..

تنهدت "عهد" بضيق لتشبث أختها بالضعف كسائر نساء تلك العائلة ..

- مش قادرة أصدق ده ... بس لو إنتِ عايزة كدة ... مش حقف في طريقك .. وبرضه البيت هنا مفتوح لك في أى وقت ... ولو حد بس فكر يدوس لك على طرف قوليلي وأنا قادرة أمحيهم كلهم فى لحظة ...

- يا حبيبتي يا أختى ...

بعد عناق طويل إستمدت به "وعد" قوتها لإكمال طريقها ، لم تلبث "وعد" الكثير بعد ذلك لتصطحب ولدها الذى تركته لدى خالتها لتعود لبيت العائلة لتلتقى ما هو مقدر لها ...


❈-❈-❈


بأجواء خزعبلية بأحد الأحياء الفقيرة للغاية بشقة سفلية تقع بالدور الأرضي ، أنوار خافته ومصابيح غريبة الشكل ، سقف منخفض العلو يتدلى منه بعض الأقمشة البالية وحبال ملفوفة وعناقيد من حبات معقودة صلبة قاتمة للنفس ...

زادت الأجواء غرابة تلك السحب من الدخان المنبعث من أرجاء الشقة بفعل مواقد البخور المنتشرة ...

دلفت "صباح" بخطواتها الثقيلة الغير متزنه لذلك المكان الكئيب دون السؤال عنه كمن تدرى كل تفاصيله من قبل ...

تقابلت مع أحد الأشخاص بالداخل يرتدى جلباب أزرق ذو شعر مشعث لتسأله برجفة ...

- مساء الخير يا أخويا ... الشيخ "كرامه" هنا ...؟!!

قلب الرجل نظراته بهيئتها وأساورها الغليظة ذات اللون البراق ليجيبها على الفور فيبدو أنها من هؤلاء السيدات الثريات اللاتى يغدقن بالمال لأجل تحقيق مطالبهم ...

- موجود يا ستنا ... بس مشغول حبتين ... ده مش ملاحق على طلبات الأسياد عليه من الصبح ...

أخرجت "صباح" ورقة مالية من حقيبة يدها الجلدية اللامعة هامسة بفطنة للأمر ...

- طب ما تشفهولي خلص ولا إيه ... أصل أنا مستعجلة أوى يا أخويا ...

تلهف بوضع الورقة المالية بجيب جلبابه بعد التمعن بقيمته لينتفض ملبيًا طلبها ...

- أوامرك يا ست الكل ... حالًا نشوفه ...

دلف نحو أحد الغرف لبعض الوقت ثم خرج نحوها قائلًا بترحيب ...

- إتفضلي يا ستنا ... الشيخ مستنيكِ جوه ...

خطت "صباح" نحو الداخل ومازالت الرجفة تجتاحها رغم قلبها القوى الذى لا يهاب شيئًا ...

- مساء الخير يا شيخ ... 

تطلع بها أحد الرجال الذى إرتدى ملابس تدفع من يراه لمهابته والتخوف منه ، فقد إرتدى جلباب قصير ذو نقوش مخططة باللون الرمادي والأخضر معلقًا برقبته العديد من السلاسل والعناقيد الملونة ، يلف رأسه بوشاح عتيق من اللون النبيذي القاتم يتدلى منه بعض المعلقات من الجعران الأزرق ، خطط عيناه السوداوتين بكحل أسود ليدفع بالخوف بقلوب زائرية ...

أجابها بصوت أجش غليظ ...

- تعالي ... تعالي .... حاجتك مقضيه ... 

جلست "صباح" بمقابل "كرامه" قائله ...

- جيالك يا شيخنا تعملي عمل لأجل خطافة الرجالة وبناتها ... 

بخبث معتاد لتلك النوعية من السيدات تطلع بها كرامه قائلًا ...

- العمل ميتمش إلا بالقطر ... معاكِ قطرهم ...؟!!

أخرجت "صباح" اللفافة التى جلبتها لها "راويه" بالصباح لتدفع بها إليه قائله ..

- دول قطرهم هم الثلاثة ... وريني فيهم يا شيخ أذى ومرض .. وقف حالهم وكره الناس فيهم ... مش عايزاهم يتجوزوا ... ولو إتجوزوا يتخرب بيتهم ... وأمهم العقربة ... يبتليها بالمرض والمصايب ... ما تلاحق عليهم أبدًا ...

لحقت حديثها بوضع رزمة من المال أمامه مستكملة ...

- وخد دول تحت الحساب ولو حصل المراد حديلك زيهم ...

لمعت عينا هذا الدجال بطمع ليسحب المال وحقيبة الملابس نحوه قائلًا بشر ...

- إعتبريه حصل ... ده أنا الشيخ "كرامه" ... حتشوفي فيهم كل البلا ... والناس كلها تحكي على حالهم ... 

إبتهجت نفس "صباح" لتردف بسعادة ...

- كتر خيرك يا شيخنا ... بس يحصل ... وأنا رقبتي ليك ...

وضع بعض من حبيبات البخور لتزيد الأدخنة لسلب عقل تلك ضعيفة الإيمان لتنزلق لطريق الشيطان بإتباعها لهذا الساحر الدجال ...

وبنفس ضعيفة الإيمان سيئة النوايا خرجت "صباح" كما دلفت ظنًا منها أنها ستنتهي من أمر "زكيه" وبناتها بهذا السحر وهذا الدجال ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈


شركة بيكو للأدوية ...

لكل قلب موضعه إلا قلبي معك أنت ، سأكتفى بمراقبته فقط فلا أريده ولا أود البُعد مرة أخرى ...

هكذا كانت "مودة" بعد ساعات قضتها بداخل الشركة وهي تتابع سير العمل وتفاصيله مع "رؤوف" ، لم تنتبه للعمل بقدر حماسها المفرط لوجودها برفقته ، فقد فازت اليوم بقُربها منه لساعات متواصله ، فلو أنها تحلم لكانت قد إستفاقت وإنتهى الحلم لكنها واعية لحقيقة أجمل من الخيال ...

توقف "رؤوف" يطالع أحد القوائم للأدوية المرتجعة قائلًا ..

- دي بقى قائمة المرتجع .. يعني الأدوية إللي منتهية أو مرسلة بالغلط ... فهمتي ...

بعينان هائمتان معلقتان بتفاصيله أومأت بتشتت وقد لاحت إبتسامة بشفتيها الرقيقتان ...

- فاهمه ...

أشار "رؤوف" بتمرس تجاه أحد المكاتب موضحًا بلطافته التى لم ترى مثلها من قبل ..

- و إللي هناك ده بقى حيبقى مكتبك ... شغلتك بقى يا ستى رصد المرتجع وتعمليلي قائمة حلوة زي دى .. بحيث مفيش حاجة تعدي منك ... الأعداد والصنف وكل البيانات زى دى بالضبط ... إيه رأيك يا جميلة ...؟!!!

حاولت "مودة" أن تكون جادة نوعًا وأنها تستطيع التعامل بعملية مع ما يطلبه منها ، لتجيبه بحماس ...

- أه طبعًا ... فهمت جدًا ... وأنا معاك على طول ... قولي بس وحتلاقيني موجودة زي ما تحب بالضبط ...

إنتفض كلاهما على صرخة أتت من خلفهما إسترعت إنتباههم وعيون الآخرين ...

- ايييييه ... الله الله ... موجودة فين يا **** يا ***** مفيش لا تربية ولا أخلاق ... عيني عينك كدة ....!!!!

بهتت "مودة" من فهمها الخاطئ لتتحجر كلماتها بحلقها وقد إتسعت عيناها بصدمة من تطاول "نيره" المفاجئ والخارج عن الحد ...

إلتفت "رؤوف" تجاه "نيره" بأعين غاضبة غير معتادة لهذا اللطيف ليزمجر بقوة تناسب عائلة "دويدار" القوية ، فهنا ظهرت قوته وشراسته كأخويه تمامًا ، حتى أن "نيره" صدمت من رد فعله الهادر ...

- إنتِ تاني يا "نيره" ...!!! وبعدين معاكِ بقى ... كل شويه مشاكل وكلام ملهوش ستين لازمة ...!!!!!

سحبت شهقة قوية متهكمة من قوته رغم خطئة الجسيم لتنفعل بقوة قائله ...

- لا يا شيخ ...!!!! بقى جايب الست هانم لحد هنا وبقيت أنا الغلطانة .. إنت بتستغفلني يا "رؤوف" ... هي حصلت !!!!

دفعها "رؤوف" من مرفقها بحدة فربما تُصمِت فمها الذى يقطر منه كلماتها الوقحة دون بينة ...

- إخرسي خالص ... إفهمي الكلام قبل ما تقوليه ... قلت لك قبل كدة أنا عمري ما بعمل غلط ... ولو عايز أغلط أكيد لا حيبقى قدامك ولا في مكان أكل عيشي يا هانم ... 

أوسعت حدقتيها بعدم تصديق لتصرخ مكذبة إياه ...

- حلو أوى الكلمتين دول ... تثبتني بيهم كويس ... ما أنا شكلي هبلة وممكن أصدق كلامك ... !!!

ضرب كفيه بعضهما ببعض من تهور "نيره" المتكرر ليهتف بحدة وهو يشير تجاه "مودة" التى إضطربت للغاية لما تسبب وجودها به بين "رؤوف" و"نيره" مما جعلها تشك به وتتهمها بسوء أخلاقها ، هتف "رؤوف" بإنفعال ..

- إفهمي يا بنى آدمه ... "مودة" حتشتغل معانا هنا .. وأنا كنت بقولها تعمل إيه ... بلاش ظنك إللي ممكن يهدم كل حاجة ده ... متخليش الظنون والشيطان يلعبوا فى دماغك .. 

بصدر ناهج أخذت "نيره" تدور بنظراتها بين العاملين وبين "مودة" وبين "رؤوف" المحتد فيبدو أن الأمر كما يقول وأنها تسرعت للمرة الثانية ، لكنها لن تعترف بسوء ظنها ، فهي لا تخطئ ...

إستطرد "رؤوف" من بين أسنانه بضيق ..

- وهو أنا لو بيني وبينها حاجة ... حخليها تيجي هنا قصاد كل الناس دي ...!!! "مودة" دي أختي ... زى "غدير" بالضبط ... إنتِ الظن إللي في دماغك حيخرب بينا بجد ...

قالها "رؤوف" لتهدأ بها "نيره" قليلًا وتلتزم الصمت بينما علقت غصة بقلب "مودة" فهو لا يراها إلا كأخت كما يرى "غدير" ، طأطأت رأسها قليلًا بتحسر دون أن ينتبه أحد لسبب رد فعلها المستكين ظنًا منهم أنها تأثرت بإتهام "نيره" الغير صحيح ...

همس "رؤوف" بنبرة جافة نحو "نيره" ...

- أظن كدة كفاية فضايح قدام الناس ... إرجعي على الإستور بتاعك وكفاية إللي عملتيه المرة إللي فاتت والمرة دى ...

لملمت "نيره" شفاهها بأسنانها توارى خطأها المتسرع بكل مرة تقتحم مقر عمله وتسبب له مشكلة وسمعة سيئة فكم كانت متسرعة هذه المرة أيضًا ...

إضطرت للتراجع و مغادرة الشركة لكن عليها التفكير بأمر ما يصلح ما أفسدته للتو ...

بنبرته اللطيفة حاول "رؤوف" الإعتذار من "مودة" لتسرُّع "نيره" وسوء ظنها بها ...

- أنا أسف يا "مودة" ... هي "نيره" كدة متسرعة شويه ... لكن متقصدش أكيد كلمة وحشة عليكِ ...

أهي تهتم لما قالته عنها أم أن كل ما يشغلها هو إحساسه هو بها ، رفعت سوداوتيها تجاهه بنظرة حزينة تحمل بعض العتاب ظنه لأجل ما فعلته "نيره" لكن ما قاله كان أعظم بالنسبة لها ..

تنفست ببطء ثم أردفت ...

- لو وجودى هنا حيعمل لك مشاكل ... يبقى بلاش أحسن ... أنا خلاص مش حكمل فى الشركة ... كفاية مشاكل أنا السبب فيها ...

إتسعت عيناه بإندهاش وهو يرفض بشدة ...

- أكيد لأ ... ده شغل وإحنا مش بنعمل حاجة غلط ... ده إنتِ لو مشيتي يبقى بتأكدي كلامها ... أنا مش موافق طبعًا ... إنتِ معانا ومكملة غصب عن أى حد ...

بإيمائة خفيفة وافقت "مودة" على رأيه لكنها قررت المغادرة الآن فلن تستطيع أن تكمل اليوم بعد ما حدث ...

- تمام ... بعد إذنكم .... لازم أمشي دلوقتِ ...

- مفيش مشكلة ... بس إحنا مستنيينك معانا بكرة الصبح ... تمام ...

- تمام ...

غادرت "مودة" بمشاعر مضطربة بين سعادة بقربة وتعاسة بظنه بها كمجرد أخت ...


❈-❈-❈


مكتب عيسى للمحاماة ....

للذكاء قوة تفوق القوة الجسدية بأزمان وعقود ، فـ التحلي بالفراسة والذكاء من متطلبات تلك المهنة بالخصوص ، فمن يريد التفرد بكونه محامى ذائع الصيط يجب عليه التحلي بمميزات عقلية فائقة غير معتادة بالمرة ...

قضية معقدة بصورة بالغة أجهدته بالفعل ، أخذ "عيسى" لحظات مسروقة من الراحة فله ساعات طويلة يحدق بتلك الأوراق ليفكر بملابسات تلك القضية المعقدة لمحاولة الوقوف على ثغرة لحلها ، فيبدو أن الإدانة هي النهاية المحتملة لهذا الرجل ...

إجهاد كبير لتفكيره فيجب عليه التوصل لحل لنجاة هذا الرجل من جريمة لم يقترفها كما أخبره أخاه ...

خطوات خفيفة إقتربت منه إستطاع "عيسى" سمع وقع صوت دقات كعب حذاء أنثوي يدنو من مكتبه ليردف دون أن يفتح عيناه بثقة وفطنة ...

- خير يا "سندس" ...

لم تتعجب "سندس" من معرفته بأنها من دلفت إليه فهي تدرك تمامًا ذكائه وقدراته العالية لكنها أجابته بتمرس ...

- إنت غلطان يا أستاذ "عيسى" ... 

فتح "عيسى" جفناه ليناظرها بقوة قبل أن يعتدل بجلسته متسائلًا ...

- في إيه ...؟؟!

جلست "سندس" بالمقعد المقابل له مستكملة بجدية بعيدًا عن العاطفة التى تتحكم بها أمام هذا الرجل ...

- إنك قبلت القضية دي ... القضية دى مفيهاش أى فكرة إنك تثبت براءة صاحبها ... أنا الأول كنت فاكرة إنها قضية كبيرة وممكن تكون قضية رأي عام حترفع من المكتب ومنك ... لكن دلوقتِ ... إسمح لي أقولك إن خسارتها هي المضمونة مش مكسبها ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

تنهد "عيسى" بقوة قبل أن يجيبها دون إيضاح مبالغ فيه ...

- وهي لو قضية سهلة وواضحة أنا دوري حيكون إيه ... أنا ميهمنيش القضية المضمونة قد ما يهمني إثبات الحق وبراءة "رمزي" ... أنا شغلتي القضايا الصعبة دي ...

نظرت "سندس" تجاه أحد الأوراق الخاصة بالقضية الموضوعة أمام "عيسى" فوق سطح المكتب ...

- إنت عارف إني كمساعدة ليك المفروض أقولك إللي أنا شايفاه ... القضية لابساه لابساه ... ده لو مكانش هو إللي عمل كدة فعلًا ....

ملس فوق وجنته بقوة متفكرًا فهي محقة هذه المرة لكن عليه البحث والمحاولة ليردف بثقة لا يدري من أين يأتي بها ...

- بس أنا لسه عندي أمل ألاقي ثغرة تطلعه منها ... أنا متأكد ...

مطت شفتيها العريضتين قائله ...

- يبقى مفيش قدامك غير تروح له زيارة تانية تحاول تطلع منه بأى معلومة جديدة .. يمكن تلاقى مفتاح الحل ...

بدون إيضاح لبقية تفاصيل ما يفكر به أجابها بإقتضاب ..

- ممكن ... لو سمحتِ تخلي عم "شاكر" يعمل لي فنجان قهوة تقيل ... عشان أنا قاعد لسه أكمل فى القضية دي ...

أشفقت "سندس" على حاله المرهق فهو لم يرتاح منذ الصباح وكاد المساء يغطى أستاره على السماء ...

- طيب ريح نفسك شوية ... أطلب لك حاجة تاكلها ...؟؟!

فرك جبهته بإرهاق بينما أجابها بتشتت ...

- لالأ ... قهوة كفاية ... إتفضلي إنتِ وإقفلي الباب وراكِ ...

حركت رأسها بخفة وقد أصابها الضيق لضيقه وإنشغال فكره ، خرجت من المكتب مغلقة الباب من خلفها ليعود "عيسى" لوضعه الأول مغمضًا جفناه ليجد أن مكالمة لمنبع الصفاء بحياته هي ما يحتاجه الآن ..

رفع هاتفه متصلًا بـ"غدير" التى أجابته على الفور ...

- "إيسوووو" ... وحشنااي ...

إبتسم لنبرتها المرحة التى يحتاجها بقوة ...

- وإنتِ كمان يا "دورا" ... بتعملي إيه حبيبتي ...؟؟!

- بعمل إيه ...!!! عملت الرز وأكلت البلح وغسلت الجاكيت وحطيت كياس الخضار وقفلت التلاجه وفتحت التلاجه وأكلت تفاحة وفتحت البلكونة وسقيت الزرع وقفلت البلكونة ودخلت "أم مجدي" ونظفتلي الشقة و ودعت "أم مجدي" ... اااه .. وبس ...

ضحك "عيسى" بضحكة يبحث عنها منذ بداية يومه الشاق ليردف بسخرية ...

- إنتِ بتقولي إيه ... كل ده عشان قولت لك بتعملي إيه ...!!! 

- الله ... مش أقولك على الحقيقة ... ولا عاوزني أخبي عليك ...

نهض من مقعده ليتحرك قليلًا بداخل المكتب مستكملًا حديثه معها ...

- لا قولي ... دي أحلي حاجة فيكِ إنك مش بتخبي عليا حاجة ...

لفت عيناه بالشقة من حولها ثم أردفت ...

- "إيسووو" ... أنا حنزل أطمن على طنط "منار" ... وبعد كدة حروح لـ"مودة" ... وأبقى أرجع لما تخلص المكتب ...

لم يعارض "عيسى" ذلك فهو يدرك قلقها الدائم على أختها الصغري ليجيبها بالإيجاب ...

- تمام ... ولو أنا خلصت بدري حكلمك نرجع سوا ...

قفزت "غدير" من موضعها مهللة ...

- أوكى ... سلام يا "إيسووو" يا عسل ...

- سلام يا شيكولاته ...

أنهت مكالمتها بضحكتها الصاخبة لسماعها كلمة شيكولاته التى يخصها بها لتستعد للمغادرة بعد قليل ...


يتبع ،،،


تعليقات

التنقل السريع
    close