قصة أطفالي للبيع بقلم بشرى أبو غيدا حصريه وجديده وكامله جميع الفصول على مدونة النجم المتوهج للروايات والمعلومات
قصة أطفالي للبيع بقلم بشرى أبو غيدا حصريه وجديده وكامله جميع الفصول على مدونة النجم المتوهج للروايات والمعلومات
توقفت يدها عن العبث في الهاتف، وقد ركزت عينيها على كلمتين، رغم المواضيع الجاذبة الكثيرة في ذلك الموقع الإلكتروني،إلا أن هاتين الكلمتين جعلتاها تنفصل عن العالم من حولها، تعيد قراءتهما مرارا وتكرارا علّ وعسى أن يكون نظرها قد خانها وتبعثرت الأحرف أمامها فقرأتها بشكل خاطئ، وفي كل مرة تعيد تهجأتهما تعيد لفظ نفس الكلمات "أطفالي للبيع" ، مئات السيناريوهات إلتمعت في ذهنها، وعقلها يردد إحتمالات شتّى، لم تنتبه لصديقتها سارة التي تناديها للمرة العاشرة دون جدوى، غارقة في تساؤلاتها، إستفاقت من شرودها على هزة حركت جسدها المتصلب، نظرت بأعين حائرة نحو صديقتها التي دب القلق في كيانها من حال أسيل الذي إنقلب فجأة، لتستفسر منها وهي مقطبة الجبين بصوت قلق.
سارة : أسيل ما بكِ؟ بم كنتِ شاردة؟ ولم هذا التجهم الذي إعتلى وجهك؟
أسيل : خذي إقرأي.
مدت يدها بالهاتف نحو سارة التي أخذته، وشهقت مما قرأته، ورددت تلك الكلمتين بين شفاهها بعدم تصديق.
سارة : أطفالي للبيع!
نظرت إلى صديقتها مشدوهة وأردفت.
سارة : أما قرأته صحيح؟ أم يخيّل إليّ؟
أسيل : صحيح للأسف، لا أعرف ما نوع هذه الأم التي تستطيع أن تفرط بفلذة كبدها هكذا، ومن أجل ماذا، حفنة من المال.
طقطقت سارة رأسها بخزي وأردفت بحزن.
سارة : لقد فعلتها أنا.
ردت أسيل بلهفة وهي تمسك بيد صديقتها.
أسيل : إنتِ لم تبيعيه، لم تعطيه للأغراب وتأخذي المال مقابلا له، إبتعدتِ عنه لفترة قصيرة فقط.
أردفت سارة بصوت باك ودموعها تجري على وجنتيها.
سارة : لقد تخلّيتُ عنه، إبتعدت عنه شهورا، عشت حياتي وكأنني لم أنجبه، لم أتشوق خلالها لرؤيته، أو لضمه.
أسيل : لكنك عدتِ إلى صوابك، كنتِ فقط بحاجة لبعض الوقت للتأقلم وإستيعاب ذلك الضيف الجديد.
سارة : تخليت عنه ولم أتقبله سوى عندما.
لم تستطع أن تكمل وأجهشت بالبكاء بحرقة.
أسيل : توقفي عن لوم نفسك، فكري بتعلقك به الآن، بالحب الذي تبثينه إياه، والرعاية التي تحيطينه بها.
سارة : هل سيسامحني يوما؟ هل سأستطيع أن اسامح نفسي؟
أسيل : إبنك جهاد في ذلك الوقت كان عمره شهورا، لم يكن يفقه شيئا ، فكري في هذه المرأة التي تريد بيع أولادها من أجل المال، صدقيني حينها ستسامحين نفسك.
سارة : برأيك ما الذي دفعها لفعل شنيع كهذا؟
أسيل : لا أدري، هناك إحتمالات عدة، قد يكونون غير شرعيين، أو أنها فقيرة جدا ولا تستطيع أن تعيلهم، أو أنها جشعة لا يوجد في قلبها ذرة رحمة، ساعة إذ، لن يثنيها أحد عمّ تنوي فعله.
سارة : إذا كان الإحتمال الأخير هو الأصح فأنا أتمنى أن تبيعهم على الأقل ستحتويهم عائلة محرومة من الأطفال، يبثونهم حبهم وحنانهم.
عندما أنهت كلامها نظرت نحو أسيل التي تلتمع عيناها ببريق غريب، تعلمه سارة جيدا، فتسألت.
سارة : أسيل أعرف نظرتك هذه. على ماذا تنوين ؟
إرتسم على قسماتها التصميم وتكلمت ببرود.
اسيل : سنذهب إليها.
إكتسح الذهول وجه سارة وتساءلت.
سارة : ممماذا ؟
أخذت أسيل الهاتف وقامت بطلب الرقم، رغم محاولات سارة إثنائها عمّ تفعله.
سارة : أسيل، لا تجنّي، ماذا ستقولين لها؟ بأي حق ستتدخلين؟
لم تجبها، تنتظر وهي تطرق بأصابعها على المكتب أمامها إلى أن تمت الإجابة من الطرف الآخر.
اسيل : ألو، عفوا اريد ان أكلم السيدة ندى.
ندى : من حضرتك وبم تريدينها؟
أسيل :أريد أن أكلمها بشأن الإعلان الذي وضعته على السوشل ميديا. أتمنى أن لا أكون قد تأخرت وسبقني أحدهم بأخذ الأطفال.
وضعت سارة يدها على فمها تكتم شهقة مما تفعله أسيل، أجابت ندى بتوتر.
ندى : آآآه،أأهلا بك، لللاا لم تتأخري.
أسيل : هذا جيد الحمدلله، أريد مقابلتك في أسرع وقت، وأريد رؤية الأطفال أيضا.
ندى : يمكنك المجيء في أي وقت تحبين، ليس لدي مشكلة.
أسيل : أين يمكننا أن نلتقي؟
أجابتها ندى معطية إياها عنوان بيتها.
أسيل : أهذا بيتك؟
ندى : نعم.
أسيل : أيناسبك بعد ساعة، سآتي ومعي صديقتي.
ندى : لا مشكلة، أنا في انتظاركما.
أسيل : حسنا، إلى اللقاء.
ندى : إلى اللقاء.
أقفلت أسيل الخط ، وقفت سارة بغضب تصرخ بأسيل وتتكلم بحدة.
سارة : هل جننتِ أسيل، كيف ستذهبين إليها؟ ماذا إن كان فخا من أحد الرجال وتعرّض لنا، أو قد يكونوا عصابة ما.
أسيل : لا تخيفيني سارة.
سارة : عليكِ أن تخافي، فهذا الأمر لا يريحني البتة. لن نذهب إلى هناك.
أسيل :ماذا لو أن هناك أطفالا فعلا؟ ماذا لو إستطعنا إنقاذهم من المستقبل المجهول الذي ينتظرهم؟ لا نعرف من سيأخذهم، قد لا تتبناهم عائلة، قد يأخذهم احد ما ويبيعهم من أجل أعضائهم؟
سارة : أسيل إنتِ لست مصلحة إجتماعية، بلغي إحدى الجمعيات التي نعرفها ودعي الأمر لهم .
أسيل : أرجوكِ سارة لا تعقدي الأمور، فلنذهب سويا، أشعر بأنني سأكون عونا لهم، وانا حدثي لا يخطأ.
سارة : لا.
أسيل : أرجوكِ.
نفخت سارة بضيق ،تنظر لوجه أسيل الراجي، لا تريد خذلها ولكن عقلها يدق بأجراس الخطر، ثم أردفت بإستسلام.
سارة : حسنا، أتمنى أن لا نندم على ما سنفعله.
تحمست أسيل وأخذت حقيبتها ووقفت ممسكة بيد سارة تجرها وراءها.
وصلتا أسفل البناية، ترجلتا من السيارة وقد رفعت كل منهما رأسها للأعلى تعاينان المبنى، إقترب البواب منهما.
البواب : بم أخدمكما سيدتيّ؟
أسيل : لقد جئنا لنرى السيدة ندى القيصي، أليست تسكن هنا؟
البواب : نعم، وصلتِ سيدتي،الطابق الخامس الشقة على اليسار بجانب المصعد ولكنه معطل، تفضلا.
أسيل : لا مشكلة، وشكرا لك.
تقدمتا نحو المبنى ممسكتان بأيدي بعضهما وهما تصعدان الدرج ، سارة تكاد اعصابها تنهار من الخوف.
سارة : أسيل دعينا نعود أدراجنا، أنا خائفة.
أسيل : وأنا أيضا، لكن فضولي يكاد يقتلني، أريد رؤية هؤلاء الأطفال، وأريد معرفة سبب تفريط والدتهم بهم.
سارة : كم إنتِ عنيدة أسيل، وأنا الحمقاء التي وافقت على جنونك هذا.
وصلتا وقد أنهكهما التعب.
أسيل : هذه هي الشقة.
إقتربتا منها ،رفعت أسيل يدها المرتجفة نحو الجرس، نظرت لسارة التي ترتعد اوصالها وشحب لونها ،إزدردت أسيل لعابها وتحلت بالشجاعة ضاغطة على الجرس.
لم ينتظروا وقتا طويلا، فتح الباب لتظهر إمرأة في العشرين من عمرها، جسدها هزيل وحول عينيها هالات سوداء تدل على عدم نومها وإرهاقها.
أسيل : السيدة ندى؟
ندى : نعم انا.
أسيل : انا من إتصلت بك وجئت حسب المعاد.
ندى : أهلا وسهلا بكما تفضلا.
خطتا نحو الداخل والخوف ينهش جوفهما، أغلقت ندى الباب، وأقفلته بالمفتاح وسحبته من الباب واضعة إياه في صدرها، مما أثار حفيظة أسيل وسارة التي بدأ جسدهما بالإرتجاف، اردفت أسيل بهمس لسارة .
أسيل : لقد أقفلت الباب.
سارة : لعنك الله يا أسيل، لقد إنتهينا، سنغتصب، أو نقتل وتأخذ أعضاءنا.
تقدمتهما ندى ووقفت أمام باب غرفة الجلوس هي تشير بيدها لهما.
ندى : تفضلا.
أطاعاها فليس لديهما حل آخر، جلستا بجانب بعضهما البعض، وقفت ندى أمامهما.
ندى : ماذا تحبان أن تشربا؟
نظرتا نحوها واردفت أسيل وهي تدعي الجمود.
أسيل : لا شيء شكرا لك، فنحن مستعجلتان، فقط نريد أن نتحدث وإياكِ قليلا، ونريد رؤية الأطفال.
جلست مقابلا لهما وقد هبطت دمعة على وجنتها. أتت طفلة صغيرة، في عمر الخمس سنوات تبكي وهى تتجه نحو أمها التي تلقفتها في أحضانها بحنان وحب، تسألها ما بها.
ندى : ما بك حبيبتي؟
الطفلة ببكاء : هنا وهناء.
لم تكمل الكلام، أحاطتها ندى بذراعيها وقد أغمضت عينيها بأسى.
تبادلتا أسيل وسارة النظرات الحائرة، وقد قلّ خوفهما، لتبادر أسيل بالقول.
أسيل : إني أتعجب لحالك هذا، وحنانك الظاهر وحبك الشديد لإبنتك، رغم ذلك تريدين بيع أطفالك .
ندى : هذا أفضل لهما.
سارة : ما الذي تقولينه؟ أهناك أفضل من حضن الأم ورعايتها وحبها، ألهذه الدرجة المال عندك أهم منهم؟
هبطت دموع ندى وأردفت بعصبية.
ندى : هل جئتما من أجل البنتين ام جئتما كي توعظاني.
أسيل : أهما فتاتان.
ندى : نعم ،هنا وهناء توأمان.
أسيل : وهذه الصغيرة، ألا تريدين بيعها أيضا؟
تشبثت ندى بها، وأردفت.
ندى : لا هنادي لا، لا أفرط بها مطلقا.
سارة : لم هنادي لا؟
ندى : إنها إبتني الصغيرة مدللتي.
أسيل : وهنا وهناء أليستا إبنتاك.
أسرعت سارة بالإجابة.
سارة: أيعقل أن تكونا إبنتا زوجك وتريدين التخلص منهما.
أخفضت ندى رأسها وأجابت.
ندى : لا إنهما إبنتاي.
سارة بغضب : لم إذا؟ لم تميزين بين أطفالك؟ لا يعقل أن تكوني بهذه القسوة، اي أم إنتِ!
وقفت ندى وقد أنزلت هنادي عن رجليها وهتفت ببكاء غاضب.
ندى : لا يحق لك إتهامي بهذا الشكل، إنتِ لا تعلمين شيئا.
سارة : بل سأتهمك لأنني أرى أمّا أنانية تفرط بإبنتيها من أجل المال، نزعت من قلبها الرحمة لترميهما لأشخاص أغراب، الله وحده يعلم ماذا سيفعلون بهما.
ندى : أنا لا أريد مالا، أريد فقط أن أرتاح، أريد ان انام وأنا مطمئنة وقريرة العين، أريد ان أخطو خارج هذه الشقة لو لدقائق معدودة، أريد التنفس، أريد لعقلي وأعصابي أن يركنا لدقائق.
أرادت سارة الرد، أمسكت أسيل بيدها ضاغطة عليها لتوقفها عن الكلام، وأردفت لندى بإبتسامة.
أسيل : أريد رؤيتهما.
أشارت ندى برأسها موافقة وذهبت لإحضارهما، الصمت سيد الموقف، إلى أن أطلتا أمام والدتهما، فنطقت أسيل بكلمة واحدة.
أسيل : التوحد.
نظرت كل من سارة وندى إليها، وقد تساءلت ندى في نفسها كيف عرفت، إقتربت أسيل منهما، وقد لاح الرفض على وجهيهما، لكن أسيل بخبرتها ،إستطاعت إستمالتهما فتقبلتاها بعد وقت ليس بقصير، نظرت لندى.
أسيل : إنهما بحاجتك.
ندى : لا أستطيع مساعدتهما، لا أعرف كيف أتعامل معهما، لقد باتتا مؤذيتان بشكل كبير، شعري يقتلع بأيديهما، رقبتي تجرح بأظافرهما، إنهما يؤذيانني ويؤذيان أختهما كثيرا، ولا أستطيع لجمهما، إن غفت عيني، أنتفض فزعة بعد دقائق خوفا من أن يحرقوا المنزل، خوفا من أن أقتل أنا وإبنتي فلقد باتتا عدائيتين جدا، لا أستطيع فهم ما تريدان ، لا شيء نافع معهما، ويؤذيان أنفسهما أيضا، لقد تعبت تعبت.
إقتربت أسيل منها، آخذة إياها في أحضانها لتفرغ شحنة قهرها وتعبها بالبكاء علها ترتاح، أجلستها أسيل.
أسيل : متى عرفت ان إبنتيك يعانيان من التوحد.
ندى: في عمر الثلاث السنوات، تأخرتا في النطق وكانا دائمي البكاء، وتارة يضحكان دون سبب، منطويتان لا تتخالطان مع أحد، أخذتهما إلى الطبيب وشخص حالتهما بالتوحد.
أسيل : ألم تساليه كيف تتعاملين معهما؟ ألم يرشدك لأخصائية نطق، أو لدكتور متخصص ؟
ندى: لا كل ما قاله توحد، ولم يفسر لي ماهيته. لا أعرف لم أنا دونا عن البشر، تخلق إبنتاي بهذا المرض.
أسيل : إستغفري ربك، حرام، أعرف أنك تعانين،وأعرف كيف تشعرين لكن عليك أن تتحلي بالصبر والإيمان
ندى؛ لا، لا تعرفين ما أعاني، الكلام سهل، ولكن التجربة مرار.
أسيل : إبني لديه توحد.
نظرت ندى لها والحيرة في عينيها.هزت أسيل رأسها مؤكدة. وبدأت بسرد معاناتها.
أسيل : إنه اول طفل زين عائلتنا، كتلة من الجمال، مشى في عمر السنة ونطق بعد سنة ونصف، من يلاعبه يرى مدى ذكائه وروحه الجميلة إلى أن تغير كل هذا في عمر السنتين، لم يعد يتكلم، بات منزويا ولا يلعب مع أقرانه، شهور وانا أراقبه وقلبي يقتلع من مكانه وانا أرى حالته تتراجع يوما بعد يوم، وقفت عاجزة ماذا أفعل؟ ما به إبني؟ وكانت الصدمة الكبرى بالنسبة إلي، إبنك لديه توحد،هذا ما قاله الطبيب، لم أعرف وقتها ما معنى ذلك، إنهار عالمي حين علمت أن لا علاج لهذا المرض، وإن طفلي سيعيش مع هذا المرض طوال عمره ولن يشفى، إبني لن يدخل المدارس العادية كغيره، لن أصفق له وهو ينال شهادته الجامعية، لن أزفه عريسا وأفرح بزواجه كما حلمت وتخيلت، إكتأبت فعليا، والسواد أصبح يلف عالمي ولم أعد أرى بصيص ضوء، بدأت البحث على الإنترنت وعرضته على أطباء كثر علني أحصل على علاج يشفي إبني، أفتش عن بارقة أمل تريح قلبي وتشفي جروحه ، لكن لم أجده، وقفت عاجزة وانا لا أعرف كيفية التواصل مع إبني،كل ما أفعله هو البكاء والنحيب. بعد أن ينام وما أصعب اللحظات التي تمر قبل إستسلامه لسلطان النوم، أجلس بجانبه، أمرّر يدي على وجهه وشعره ودموعي تغرق وجهه وانا أقبّل أجزائه ، وعقلي يعمل بلا كلل ولا ملل يفكر كم سيعاني هذا الملاك الصغير، وعندها أتمنى الموت وحين أنظر إليه وأعي ما تفوهت به ألوم نفسي واقول إن مت ماذا سيحصل لطفلي البريء، لا أحد سيحتويه ويتفهمه مثلي،تملك مني اليأس ومرات عديدة تمنيت الموت لي وله ، أحترق حين أراه يبكي ويصرخ ولا يستطيع أن يعبر عمّ يريد، أقع في الحيرة، لا أعلم إن كان جائعا، عطشا أو متألما، عشت في جحيم، نار مستعرة تحرق روحي ، إلى أن أنار الله قلبي، وبصيرتي، وعرفت أن ما أوصلت نفسي إليه لن يفيد إبني، لن يغير الواقع، علي التأقلم والصبر ومحاولة فهم مرضه وعوارضه وكل ما يخصه حتى استطيع فهم ما يريد، وإن اتعامل معه بما يتناسب وحالته ، بثثته حبي وأشعرته بالطمأنينة، وتابعت على إعطائه الأدوية الخاصة به، وقد نجحت في ذلك .
مسحت أسيل دموعها ،أما ندى إزداد نحيبها وهمست.
ندي : يؤلمني رؤيتهما هكذا عاجزين عن أداء أبسط الأمور، كل ما حلمت به وتخليته حين أتيا لهذه الدنيا ذهب أدراج الرياح، لا أستطيع المتابعة بهذا الشكل، خذاهما، ضعوهما في دار خاص، افعلا ما شئتما ولا تتركاني في هذا العذاب .
سارة : لا تدعي اليأس يتغلب على أمومتك، ستندمين لاحقا أؤكد لك، سيعذبك ضميرك طوال عمرك، وما أقوله عن تجربة.
أغمضت سارة عينيها التي إنسابت منها الدموع كالميزاب، وأردفت وهي تحاول كتم شهقاتها.
سارة : كنت أنتظر يوم ولادته بفارغ الصبر، أتوق لضمه في أحضاني، إستفقت من التخدير ابحث بعيناي عنه، وجدت والدتي بجانبي. رسمت إبتسامة باهتة على وجهها مهنأة إياي بولادتي بالسلامة، وأكفر وجهها وتعلثمت حين سألتها عن إبني وطلبت منها أن تجلبه إلي، فكان جوابها إنه في الحضانة وعندما أستطيع المشي ستأخذني إليه، تولد في داخلي شعور سيء أحسست أن هناك خطب ما، إبني يعاني من شيء خطير، تحينت فرصة ذهاب امي لرؤية الصبي، لحقت بها، أجر نفسي جرا والألم يقتلني.
توقفت عن الكلام وأجهشت بالبكاء المرير وقد أبكت من حولها.
سارة : ما إن لمحته وقعت بعدها فاقدة للوعي، صدمتي كانت كبيرة لقد ولدت صبيا لا أعرف كيف أصفه، جسمه متقوقع كالكرة وليس له شفة علوية، إستفقت من غيبوبتي وكأنني لم ألد، لم أسأل عنه، لم أطلب رؤيته مطلقا، كرهته، لم اضعه في أحضاني كما تمنيت، أدرت له ظهري ومشيت، عشت حياتي بطولها وعرضها، لم أفكر به، وكأنه غير موجود، تولت والدتي الإعتناء به، وأعطته من حنانها الذي من المفترض أن اعطيه إياه انا، لكني وقتها تجردت من مشاعر الأمومة، أجروا له عملية جراحية لوجهه، فبات مقبولا بعض الشيء، لأتفاجأ بوالدتي تضعه بين يدي دون سابق إنذار، نظرت إليه تأملت ملامحه الجديدة، عينيه البريئة التي تبتسم لي ، لم انفر منه، هناك شعور مختلف عن النظرة الأولى شعور جديد تخلل حواسي ووجداني، لم أعرف حينها ماهيته، أيعقل إنه ذات التوق القديم لإشباع رئتي من عطره الطفولي، رفعته وقلوب من حولي تخفق بشدة خوفا من تهوري، خوفا من ان أرميه من يدي، أو أن أرفض الواقع مجددا، لكنهم تفاجأوا بي أستنشق عبيره وشفاهي تقبل عنقه، وجهه، عينيه، فمه، أردت إدخاله إلى صدري وأنا أضمه برفق خوفا عليه وخاصة أن جسده ليس بالسوي، سمحت لدموعي أن تتحرر من محبسها، بكيت بصوت عال، بكيت وبكيت ودموعي لا تريد أن تنضب، همست له وكأنه يفهمني وقلت له، سامحني بني، سامحني يا طفلي الصغير، سامحني على أنانيتي، وبعدي وحرماني إياك من حناني وحبي وأحضاني، ما ذنبك أن تكون لديك أمّاً متحجرة القلب، باردة المشاعر مثلي، لم يرف جفنها لشهور على فراقك، أيمكن أن تسامحني على تقصيري.
ملأت رئتيها بالهواء وأكملت
سارة : عانى كثيرا، تألم كثيرا، عمليات متلاحقة متعددة، آلمني قلبي عند كل غرسة إبرة أخذها في وريده، وكل جرح ترك أثره في جسده، وكم كان هادئا صبورا لا يسمع له بكاء رغم ألمه، فقط أنات خافتة وفم مزموم وعينان تنظران إلي والدمع يغشيها يطلب مني إبعادهم وتخليصه من ألمه، مرات عديدة كنت سأمنعهم من الإقتراب منه، لكن حين أتخيله يمشي وأنا أفتح ذراعي أنتظر منه أن يصل ليلقي نفسه بينهما ، أقف كاتمة وجعي الذي يتفاقم مع وجعه، وأمني نفسي أن إبني سيتحسن وسيكون كأقرانه من الأطفال،.
إبتسمت وسط دموعها وأردفت.
سارة : وقد حققت أمنيتي أخيرا، وشاهدته بأم عيني يخطو نحوي، وكم كانت فرحتي كبيرة وصلت عنان السماء حين لفظ كلمة ماما، أصبحت كالمجنونة أقفز من مكان لمكان وهو يضحك ببراءة عليّ يعتقد أنني ألاعبه، أصبح جزءا من روحي، لا أتخيل حياتي للحظة بعيدة عنه، ندمت وما زلت نادمة على تفريطي به، وإستغفر ربي كل يوم على حجودي بنعمة الله وتكبري عليها، وعدم رضائي بقدره، تعلّمت أن الأمومة عطاء وتضحية وحنان وحب ، أنا أعاني نعم ، ولكنه يعاني أضعاف معاناتي، أتألم نفسيا، هو يتألم نفسيا وجسديا، أحمد الله، أين كنّا وأين أصبحنا، لذا أقولها لك إياكِ والتفريط بطفلتيكِ.
أسيل : هما بحاجة لحنانك وحبك، وانا سأقف بجانبك، لن اتركك إلى أن تجتازي هذه المحنة وتصبح إبنتاك بحالة أفضل، كما أصبح إبني، فالآن بفضل الله ورحمته وإعتنائي به وبثه حبي وإهتمامي بات إجتماعيا يحب الناس ويتعامل معهم بعد أن كان إنطوائيا منعزلا، عليكِ مساعدتهما وحث إبنتك الصغرى على اللعب معهما، إنهما غير مدركتان لما تفعلانه، لا يعيان أنك تتألمين من عنفهما الناتج عن غضبهما لعدم تلبية ما تريدان، قد تؤذيان نفسيهما أيضا إن لم تنتبهي لهما، يجب عرضهم على طبيب مختص وإعطائهم دواء يناسب حالتهم ويخفف من عدائيتهم وفرط الحركة لديهم، عليكِ أن تتحلي بالصبر، وتتحدي اليأس الذي سيطر عليكِ، أعلم أنهما لن يكونا كباقي الأطفال لكن يمكنك إحتوائهما حتى لا تزداد حالتهما سوءا.
ندى : إبقي بجانبي أرجوكِ، أنا أحتاجكِ على الأقل في بادئ الأمر ريثما أصبح على دراية بما يجب فعله .
أسيل : لقد وعدتك، لا تقلقي أنا بجانبك.
سارة : وأنا أيضا، وسنحجز لك عند أخصائية ، وستساعدهما كثيرا على الكلام وهذا سيخفف عنك عبئا كبيرا وستستطيعين أن تفهميهما أكثر، هل أنتِ موافقة؟
هزت برأسها وإختلطت مشاعرها بين البكاء والسعادة متمثلة بإبتسامة أمل على شفاهها.
تمت.
قد يصل اليأس بالإنسان إلى تفكير غير سليم أو سوي، يسيطر على لغة العقل ويثلج المشاعر في بعض الأحيان، ويبقى إستعظام الأمر هو المتحكم والمسيطر علينا من كل النواحي، وقد يغذي ذلك قلة الإيمان في بعض الأحيان، والتمرد على قضاء الله والسخط على بلائه، فلو تفكرنا قليلا وذكرنا الله في قلوبنا وعقولنا لأنزل عليهما سكينة من عنده وصبرا كبيرا نجزى عليه ثوابا عظيما.
تمت


تعليقات
إرسال تعليق