القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية غزاله في صحراء الذئاب الفصل الثانى بقلم الكاتبه رحمه سيد حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج

رواية غزاله في صحراء الذئاب الفصل الثانى بقلم الكاتبه رحمه سيد حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج 



رواية غزاله في صحراء الذئاب الفصل الثانى بقلم الكاتبه رحمه سيد حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج 


صرخـة مدوية أطلقتهـا من بين شفتيها المرتعشتيـن بهلـع وألم من قبضتـه الحديديـة حول خصرهـا، رائحتـه المقـززة التى تكرهها تكفلـت بمعرفتهـا من هو، إلتفتت بسرعة تجاهد فى إبعـاده عنها، وكأنها تجاهد للحصول على الحريـة من قاضى فاسـد .. ظالـم .. متجبر، ظـلت تلهـث لدقيقتـان تحـاول السيطـرة علي حالة الهلع التـى سيطـرت عليها حتى لا تفتح له الطريق لما اراد، وصاحت فيه بجـزع حقيقي :

_ انت مجنـون، كم مرة اقولك بطل حركاتك دى بقا انت مابتزهـقش 

كـان يقف بهدوء مفتعـل، وكل خلية من جسـده ترتعـش من إقتـرابه منها لهذا الحـد، لا يـدرى ماذا يجيش بصدره تحديدًا عندما يراهـا، ولكن ماهو متأكد منه ان قلبـه يتقافـز حماسًا للحصول عليها، ثـبت ناظريـه علي عينيها الرماديـة بنظرات ذائبـة، ثم اجابـها بمحاولة للهدوء : 

_ مجنون بيكِ يا شمس، مش عارف امتـى هتحسي بيا بقا 

حديثـه يخنقهـا رويدًا رويدًا، يكبلها بعشق لم ترغب به يومًا، ظهـرت اشباح التقـزز علي قسمَات وجههـا الأبيض، ومن ثم غمغمت بضيق : 

_ مش هحس ومش عايزة أحس، قولتلك ارحمنـى بقا انت ابن خالتى وبس 

أختـفي بريـق عينـاه اللامـع المشتـاق، ليجتاحها نظرات مشتعلة بفعل كلماتهـا الحادة، التى باتت تؤلمه وتنغزه في قلبه دون رحمة، ثم نظـر في المرآة الموضوعة على الحائـط الكبير، ينظر علي جسـده المتوسط، يطالـع هيئتـه الرجولية بنظرات متحسرة، ينظر لملامحـه الهادئة والحادة في آنٍ واحد وكأنه يسألها بجنون 

" لما لا تجذبيهـا انـتِ لما !؟ " 

الأجابـة كانت من شمـس، التي باتت تعيـد له نفس الكلمـة وكأن لسانها اصبح آلي يردد تلك الجملة : 

_ انا مش رفضـاك لشكلك او مش هقبل بيك بردو لشكلك، بس انا عمرى ما هحبك، انت مجرد ابن خالتـى بس 

إلتفتت لها في لمح البصر يمسـك بيدها التي ارتعشت من مسكتـه المقززة كالوبـاء، وراح يترجاهـا وهو محدق بها : 

_ طب ادينـي فرصة وانا هتغير، هبطل اى حاجة بتضايقك، خمرة او بنات او اى حاجة، بس كونى ليـا 

جهـر القلـب بأعتـراض شديد، اعتراض علي حاكم مستبد يرغب في افتراض نفسـه جبرًا عليه، هـزة نافية صارخـة من رأسهـا جعلتـه يحدجـها بقوة وكأنما لا يرى الرفض، فقالـت بجدية : 

_ صعب اوى يا يحيى الي انت بتقوله ده، انا مش بأفكـر فى اى حاجة من دى دلوقتِ، ياريت نفضل ولاد خالة بس 

ولا يسمـع ايضًا الرفـض، أقتـرب منها متعمدًا اثـارة توترهـا، يثيـره هيئتها الحمراء من الخجل، وإنتفاضة جسدهـا كالثعبان الذى لدغهـا، ولما لا يذقيهـا من نفس الكأس ألا وهو التوتر قليلاً، ثم قال بهمسـات حطمت جديتها لأشـلاء صغيرة : 

_ بس هتفكـرى، اوعـدك يا شمس هتفكـرى وهتفكرى كتيير، وهتجيلي بأرادتـك 

اختفـت الدماء هربًا بهلع من وجههـا، وتمنت الهرب كحبـات الدماء بسرعة، تحاملت علي نفسها وهى تسأله بخوف : 

_ قصدك اية يا يحيى ؟ 

إبتعـد عنها " يحيى" وقد أصاب سهمه ما اراد تمامًا، لينظر لهيئتها المبعثرة بأستمتـاع يتشبعـه بجدارة : 

_ انتِ فاهمـة قصدى كويس ولو مش فاهمة يبقي خليها مفاجأة 

إبتلعـت ريقهـا الذى جف، وحاولت جمـع شتـات شجعاتها التي بعثـرت بفعل ريـاح تهديده وهى تقول : 

_ انت متقدرش تعملى حاجة اصلاً 

تقـوس فمـه بأبتسامة ساخرة مستفـزة، تعبر لها عن مدى عراهـا امامـه، ثم اومأ بتهكم : 

_ هنشوف يا بنت خالتى 

ثم استـدار وغادر على عقبيـه، مهما تبنى جدار امام جدار، بثقب خبثـه ولؤمـه يراها على الفـور، ليهد كل ما بنتـه في ثوانٍ معدودة .. 


                                ******


يتجسـد كل شخـص امامهـا كحبـة لؤلؤ رقيقـة هادئـة، لتقترب عاصفـة قويـة وتهدمهـا، لتصبح قطع صغيرة متناثـرة، وتركض هى لمحاولة لعودتهم كما كانـوا، ولكن من الممكن ان نقل للماضي .. هيـا عـد ؟! ، ام انه لا يعود بأكملـه بل شظايا مؤلمـة منه فقط ليس إلا !! 

نظراتـها وحدها لا تكفـي للتعبير عن مدى عجزهـا.. وحزنهـا، ليس كل من يراها يستطيع إبعـاد ذاك الغلاف الهادئ عنها، أخفـت دموعها بصعوبـة، تكاد تشعر بنهر من الدموع الساخنة يتناثر علي وجنتيها من شدتـه، وقالت بصوت مهزوز : 

_ حرام عليكِ يا أمى، كان ممكن أنقـذه 

هـزت رأسهـا بأعتراض شديد تلقائيًا، عاطفة الأمومة هى المسيطرة الان فقط، ثم اردفـت بحزم : 

_ مش هتروحى يا خلود، انا مش مستغنية عنك يا حبيبتي 

خـارت قواهـا بأكملها وحان وقـت الاستسلام، فتحت الابـواب وأعلنـت راية الأستسلام، لتقع امام "عبير" فتاة هزيلة اهلكها ماضي مؤلم، وصرخت فيها من دون وعى : 

_ انا مش هنتحررر يا امى افهمى 

من يغفر لها وكان مثل الجدار الذى يعزل نار غضبها عنها ما هو إلا معرفتها بحالتها النفسية، تجـز على اسنانـها بقوة لتكبح غضبها بداخلها، ثم تابعت بصوت آمـر :

_ قولت مش هتنـزلى، هى كلمة واحدة 

إبتلعت ريقهـا بإزدراء، وتابعت دموعها الهطـول بغزارة، نظـرت لها نظرة تفهم مقصدهـا جيدًا، نظرة دائمًا ما تلعب دورهـا بأتقـان، ثم تابعت مترجيـة : 

_ ارجوكِ يا امى سيبني اعمل حاجة واحدة أقف بيها في وش النـاس واقول لهم ده مش ذنبـي انهم بيموتوا .. ! 

تأففت والدتهـا وابتعدت بعينيها عن مفعول عينيها السحرى الذى يخدرها في كل مرة، ثم قـالت هادئـة : 

_ عشان تنقذيـه أفرض بعيد الشر حصل لك انتِ حاجة، انا هعمل اية ساعتها ؟! 

اهتـزت رأسها نافيـة تلقائيًا بأعتراض شديد، وراحـت دموعها الساخنة تنهار من جـوف خنقتها داخل عينيها البنية لتتحرر واخيرًا لتحاول التعبير عما يجيش بصدرها من معانـاة بدت ابديـة .. ! 

ثم سقطـت منهارة علي الأرض، لتستطـرد وسط شهقاتها المميتـة لوالدتها : 

_ كل ما أروح احاول ألحـق حد، يفتكر إنى انا الي فيا حاجة، الناس بقت بتخاف تقـرب منى لأصحـى تانى يوم اقولهم انتم هيجرالكم حاجة، كل واحد بيرمى كلمة براحتـه ومش واخد باله إنى انسـانة بتحس، انسانة اترمت وسط ذئـاب بتنهش فيها وبس 

أقتـربت منها تحتضنـها بحنـان، تمنـع دموعها من الهطـول حتى لا تكسر ذاك الجزع الذى تستنـد عليه خلود، أطبقت عليها برفـق وقالت بمرح : 

_ يلا يا ستي الأستـاذ اخوكِ عايز ياكل مش هيستنى كتير 

ابتسمـت بخفة من بين دموعهـا ثم نهضت مبتعدة عن والدتها بهدوء، ليتجهوا سويًا للخارج، حيث وجدوا شاب في اوائل الثلاثينـات من عمره، يضـع يده اسفل خده، يجلس علي الكرسي المواجه " للسفرة " وما إن رأهـم حتى قال بملل وضيق مصطنع :  

_ شكلنا مش هناكل النهاردة عشان ست خلود بقاا 

ضحكت خلود ومن ثم إقتـربت منها واجابته بهدوء : 

_ هناكل يا طفس بس اهدى عشان حاسه إنك شوية وهتاكلنا احنا شخصيًا 

غمغم بضيق مصطنـع : 

_ اما نشووف بقاا . 

تنتقـل حياتها دومًا كالأمواج، هادئة حزينة غاضبة، متقلبة غير مستقـرة ابدًا، دائمًا ما تشعر انها ليست المتحكمة في حياتها، ولكن ما يرطب ويهدأ صفو حياتها ولو قليلاً هو اخاها الأكبر الوحيد ووالدتها من بعد والدهـا الراحل " على " .. 


                              ********


كـانت تتوسـط أصدقائهـا السـوء، الحلقة السوداء، في احـدى الملاهى الليلية الشهيـرة، تضع قدم فوق الأخـرى، لتظهر نصف قدمهـا البيضـاء أسفل الشورت القصير الذى ترتديــه، وبالأعلي تيشرت احمر نصف كم،وبالطبـع ملامحها الهادئـة لا تخلو من بعض مساحيق التجميل، وتترك شعرها الأسود ينسـدل علي ظهرهـا، ومن حولها حلقة دائريـة يشكلها بعض الشبـاب والبنات، كـان الضجـر يظهر علي ملامحها ويتشبعها بقوة، اقتـرب منها احد الشبـاب، ذو جسد هزيل، وملابس لا تليق بشيئ للشباب، وشعره يصففه بشكل مضحك، وتنحنح قائلاً بهـدوء : 

_ مالك يا " زيــنـة " ؟! 

هـزت رأسهـا نافيـة، مثبتـة عينيها علي اللاشيئ، ثم همست بصوت قاتم : 

_ مفيش حاجة يا زياد 

نظـر لها بطـرف عينيـه، ثم أمسـك يدها بقبضتَه السمراء، يعلم بكل ما يجيش بصدرها الان، يحفظ كل مراحلها، ولكن بكل مرحلة يخطط لأستغلالها اسوء استغلال، كل ما يريـده هو أن يتوغل بداخلها بقوة، ليصبح كالدماء التي تسير في شرايينها .. ! 

مط شفتيـه وقال بضيق مصطنع : 

_ كدة مش عايزة تحكى لزيزو صديقك ؟ 

تأففت بملل، سماء ذهنهـا ممتلئة بما يكفيهـا، لا ينقصها ثرثرته هذه الان ! 

ثم أجابتـه بهدوء حذر بعكس ما بداخلها : 

_ قرفانـة من كل حاجـة 

قـرب فمه من أذنيهـا، ليهمس بصوت أشبه لفحيح الأفعـي : 

_ طب والي يروقلك مزاجك ده 

_ يروقـه ازاى يعنى !؟ 

سألتـه مستفهمة بعد أن قطبت جبينها، ليجيبهـا بخبث : 

_ استنى دقيقة 

نهض بخفـة متجهًا لمكان ما، وبالطبع سمعت الهمهمـات بسهولة، تعتقـد أن كل من ينظر له نظرة ذات مغزى حقـود وكاره، ولكن .. لتكن نظرتها هى المغلفة بقنـاع الغرور ليس إلا .. 

تقـدم "زياد " منها يحمل بيـده سيجـارة، ولكن ليست بسيجار عادى، وإنما من يجعلك تغيب بكامل عقلك عن هذه الدنيـا .. 

مد يـده لها بهدوء، لتعقـد حاجبيها ثم تقول متساءلة بعدم فهم حقيقي :

_ اية ده بقا، انت عارف إنى بطلتها 

تنهـد بقـوة قبل أن يتابع بنبرة كسـاها الخبث والاغراء : 

_ دى هتريـحك من وجع دماغك وهتخليكِ تنسي أهلك شخصيًا 

نظـرت له بطرف عينيهـا، جزءً ما بداخلها يحذرهـا وجزءً يشجعها على اخذها، ولكن الحبـال المتينة تزجهـا نحو السوء، لتمد يدهـا وتأخذ منه تلك السيجـارة، ثم وضعتها بين شفتيها الحمراء واخذت نفسًا عميقًا غير مبالية بالغـد ابدًا .. 


                          *********


وصل " مالك " امام البنايـة الكبيرة بالمعادى التي بها منزلـه المتوسط، ترجـل من سيارتـه السوداء الكبيـرة، ثم أبعد النظارة عن عينيه البنـية، لتظهر تلك الجوفتين العميقتين الغامضتيـن، تنظران نحو ملجأها الوحيد الذى لم تلمحه منذ فترة كبيرة، سار بخطوات واثقة حتى دلف من باب البنايـة، ثم إتجـه نحو الحارس الذى يجـلس على احدى الكراسي الخشبية وهب منتصبًا حين رأه، وقال بجدية وحذر : 

_ اهلاً اهلاً يا مالك بيـه 

عقـد مالك حاجبيـه السوداويـن، ثم قال متساءلاً بحيـرة : 

_ اية ده امال فين عم صابر ؟! 

نظـر الحارس للأسفـل، ثم حك ذقنـه بطرف يده، يفكـر في حلاً ما لتلك الأجابـة، نظر له مرة اخرى واجابه بهدوء حذر : 

_ اصله ساب الشغل يا بيه 

سأله " مالك " دون تردد : 

_ لية ساب الشغل يعنـي ؟! 

توتـر بشـدة، يخشـي سقوطـه في حفـرة ما عميقـة تسلب منه كل شيئ، عمله.. مكانته .. ولربمـا أسرتـه الصغيرة، نظر له بهدوء مصطنـع ومن ثم قال متلعثمًا : 

_ اصل آآ اصله دخل السجن يا بيه 

حـدق مالك به بصدمـة، ثم اردف فاغرًا شفتيـه : 

_ ازاى يعني، ده راجل قمة 

رفـع كتفيـه بمعنى لا اعلم، ثم غمغم بعدم معرفة مصطنعة : 

_ منا كنت بقول كدة، بس الله هو اعلم بخلقـه بقا يا ساعت البيه  

اومـأ مالك بلامبالاة، ثم استـدار وغادر علي عقبيـه، توقف للحظة وإلتفت له يطالعه بنصف عيـن قائلاً : 

_ ابقي ابعتلي اى حد ينضف الشقة يا عم محمد لو سمحت

اومـأ موافقـــًا بسرعة، ليغادر مالك بهدوء، في حيـن تنهـد هو بقوة وقال في خواطـره بلوم لشخصـه : 

_ ربنا يكون معاك يا "صابر" .. ويسامحنى

أستـدار هو الأخـر وإتجـه نحو الداخـل بهو البنايـة الكبير، ليصل امام منزل شمس الصغير، ثم طرق الباب بهدوء، وبعد ثوانى فتحت والدة شمـس وعلى رأسها حجابها الصغير، لتسأله في هدوء : 

_ ايوة يا عم محمد خير ؟ 

اجابـها بهدوء مماثل بل زائـد، مغلف ببعض الأسـف : 

_ الاستـاذ مالك صاحب الشقة الي فوق عايز حد يطلع ينضف له الشقة، وزى ما انتِ عارفة يا ست كريمة، استاذ محمود صاحب العمارة قال واحدة منكم تبقي تطلع عشان الايجـار وكدة 

أطـرقت رأسهـا بحـزن، تشعـر بقلبها يتمـزق بمجرد ذكر انها او ابنتهـا سيعملـوا كـ خدم، تشعر انها بداخل غابـة مليئـة بالذئـاب، وبمجرد ان ذهب راعيـهم إلتفـوا حولهم ليهاجموهـم، حتى انحصروا في زاويـة صغيـرة.. وما لبث أن مرت فترة وجيـزة هاجموهم مرة اخرى !! 

تمتمت بنـبرة حملـت الحزن والأسف والألم معًا في طياتهـا :

_ حاضر .. حاضر يا عم محمد 

استـدار ليغــادر محمل شعوره بالأسف نحوهـا، أما كانـت تلك السيدة الفاضلة التي يحترمها كل شخص، الان ستعمل وابنتهـا كخادمـة فقط !! .. يا الهـي كم تدور هذه الدنيـا وتدور حتى تسقطـك في نفس الحفرة التي تخشاها دومًا .. الان نظراتهـا تجعلك تشعر بالشفقـة، نظرة لو ظلت تنظرهـا لشخص ما يعذبها لأسقط من يده كل مقاليـد تعذيبهـا ليتركهـا حـرة !! 

دلـفـت لأبنتـها الوحيدة، لتجـدها تجلس على الكرسي الخشبي الصغير، تعد الطعـام، نظرت لها دون ظهور اى تعابير، ثم هتفت بهدوء اصطنعته بمهارة : 

_ شمس، انـا طالعـة انضف شقة الاستاذ الي لسة جاى 

رفعـت شمس ناظريها لها تطالعهـا بدهشة، وسرعان ما قالت بجدية تلقائيـة : 

_ لا طبعًا، انتِ عارفة إن انا الي هأطلع مش انتِ يا أمـي

تنهـدت تنهيـدة حـارة تحمل الكثير والكثـير، ثم اردفـت بقلة حيلة : 

_ لأ يا شمس مينفعش يا حبيبتي 

نهضـت مسرعة، ظهـر بريـق لامع في عينيها الرماديـة، بريق ما إن لمحتـه والدتها حتى علمت أن موجـه العنـد لن تـزول إلا أن تفعل ما ارادتـه، فاستطـردت شمس بتصميم : 

_ لأ انا طالعة، الشقة الي ف اول دور مش كدة ؟ 

اومأت والدتها مؤكـدة، فتقدمـت شمس وامسكت بحجابها الصغير ترتديـه ومن ثم اتجهت للخارج، لتتجه لمنزل مالك بهدوء دون بت كلمة اخرى .. 


                            *******


في السجـن كـان "صابر" يجلس علي الفراش الصغير الحديدى الموضوع علي الجانـب، بجوار الحائط المتهالك بعض الشيئ، يمدد جسـده الهزيـل عليه وينظر للأعلي بشــرود، نظرات لطالما حاول من حوله أن يفهموهـا ولكن فشلـوا، منذ دخوله السجن وهو كذلك، لم يتفـوه بما يجيش بصدره ولو للحظـات، لدرجة أنه يشعر أن ذات يوم سينفجـر من كثـرة البراكيـن المشتعلة بصدره .. وكثرة الألم الذى بـات لا يشعر به، بمعنى اوضـح قد اعتـاده وانتهى الأمر .. ولكن ليس بسلام اطلاقـــًا .. 

أقتـرب منه أحد الاشخـاص، في منتصف عمره، ذو وجه هادئ ولكن عليه بعض الندبـات، ينظر له بهدوء، ثم تنحنح قائلاً : 

_ اية يا عم صابر عامل اية ؟ 

لم ينظـر له ثم اجابـه بصوت أقـرب للهمس :

_ الحمدلله رب العالميـن 

تنهـد الرجـل، ورمقـه بنظرات يعرفهـا جيدًا دون أن يراهـا، يشعر بها تختـرقه لتستكشفه بفضول قاتـل، ولكنه يوقفها عن الحد المناسـب دائمـًا، ثم سألـه الرجل بصوت أجـش : 

_ انت محكوم عليك كام سنة يا عم صابر 

_ مؤبــد 

كلمـة نطـق بها بسهولة، ولكن بعدها شعر أت لسانـه شُـل عن الحركـة، كلمة كلما تذكرهـا كانـت حروفها تقطعه ببرود، تعيـد عليه ما مر منذ سنـوات، تذكره بقيـده الأبدى الذى قيـد به من دون ذنـب، الحديدى .. القاتل الذى لن يتحرر منه ولا يريـد أن يحاول التحرر منه.. قيد علمـه الأستسلام .. والصبر ..

بينمـا إتسعت حدقتـا عينا الرجل، الذى قال بصدمـة شابت بالتعجب : 

_  مؤبد وقاعد كدة عادى يا عم صابر ؟ 

تابـع مبتسمًا ابتسامة منكسرة : 

_ اديك جاوبت نفسك، " يا عم صابر " يعني انا صابر وراضى بقضـاء ربنا 

يتعجـب اكثر واكثـر، يتوغل بداخله شعور أنه شخص تافـه .. متعجرف، غير راضٍ بقضـاء حكم عليه لشيئً فعله، بينما الأخر يرضي بحكم علي شيئ من المفترض أنه لم يفعله اسـاسًا، اى بشر هذا ؟! 

عاد يسألـه بصوت قاتـم : 

_ انت عملـت اية اصلاً يا حاج ؟ 

تنهـد صابـر بقوة، ثم نظـر له بنصف عيـن، ثم قـال مشاكسًا برغم كل ما بداخله من همـوم : 

_ انت هنا ف سجن اية ؟ 

تنحنح بحـرج واجابه بهدوء : 

_ قتل 

رفـع كتفيـه بهدوء بمعنى هذا، حائـط أمـن بناه لحماية ابنته الوحيدة وزوجتـه ولن يهدمه مهما حدث، وإن حاول الجميع كسره سيقاوم كل عضو بداخله بقوة قبل ان يتحرك هو .. 

بينما استطرد الرجل قاطبًا جبينه : 

_ طب ازاى قتلت يا عم صابر وانت راجل باينلك عارف ربنا 

_ الزمـن يابنـي 

قالهـا بلجهـة امتلأت بالحزن والألم، تجسدوا في هاتان الكلمتـان بكل معانيهم، وكأن هذا الزمن عدوًا له ليهلكه هكذا دون ذنـب مفتعـل !! ، بداخله يحترق بمجرد التذكرة فقط.. لو كان الغضب والحزن لهم رائحـة لكانت فاحت الرائحة منذ زمن .. 

راح يسأله الرجـل كالقاضي مستفسرًا في قضية ما : 

_ طب لية ما تدافعش عن نفسك وتعمل نقض وتحكى كل الي حصل يا عم صابر 

صمت برهه، وإنزلـق لسانه بعفـوية : 

_ اصل انا سمعت إنك ماقولتش حاجة غير انك ماقتلتش، لكن ما حكيتش اى تفاصيل، ومستغرب بما انك مفروض برئ يبقي ده عبط كدة 

ابتسـم بخفة علي عفويتـه، ولكن سرعان ما تحطمـت بقولـه الغامض : 

_ لو اتكلمت هأذيهم، وانا مليش غيرهم، يا إما اخرج انا واتكلم، يا إما اسكت، لكن مش هحاول أأذيهم عشان اطلع انا 

عقـد حاجبيه ثم اردف بتفكير : 

_ يااه، هى مشكلة عويصة للدرجة ! 

اومـأ صابـر بهدوء، ثم نهض قائلاً بصوت هادئ : 

_ تعالي بقا نساعدهم عشان كدة مش هيأكلونا .. 


                            *******


طـرقـت شمس البـاب عدة مرات بهـدوء، تفــرك يدها بتوتر شديد لمعرفتها أنـه شـاب في اوائـل عمره، عدلت من وضعية طرحتها الصغيرة لتخفـي الشعيرات السوداء المتناثرة اسفل حجابها، مرت ثوانٍ وفتح مالك البـاب، أُصيـب بالدهشة قليلاً لمعرفته أن زوجة الحارس السابق هى من ستقوم بالتنظيف، وليست فتـاة كهذه !؟ .. صمت برهه وظل هكذا يطالعها بأعيـن حادة كالصقـر، إلتمعت بوميض غامض، ولكن سرعـان ما تسللت الأبتسامة له، وانفرج ثغـره ليصبح في شكل خطوط متعرجة حوله، وتحولت نظراته لنظرات لم تفهمها شمس بسبب نظرها للأرضية الرخامية، ليقـول مالك بصوت هادئ ولكن يحمل الخبث في طياتـه : 

_ هو انتِ بقا الي بعتـك 

اومـأت شمس مسرعة دون تفكيـر بما ستجلبه لها هذه الهزة الصغيرة، لتنقلب حياتها رأسـًا على عقـب !! 

رفع الهاتف الذى كان في يـده ليضعه على اذنـه ليتابع بصوت رجولى خشن اثار الرجفة في انحاء جسدها المرهق : 

_ خلاص يابنى اهى جات

_ .......... 

_ اه مع انى مستغرب بس .. 

صمت برهه ينظر لشمس من اعلاها الي امحص قدميهـا ولم يستطـع إخفـاء نظرات الاعجـاب واللمعة تلك من عينيه ليستطرد بصوت قاتم : 

_ بس اشطا .. يلا سلام انت 

اغلق ينظر لها ثم تنحنح قائلاً بأبتسامة زادت من القلق الذى كان يتوغل بداخلها رويدًا رويدًا : 

_ اتفضلي اتفضلي واقفة لية هنا 

ما إن مدت شمـس قدمها للداخـل حتى وجـدت من يضربهـا بقوة على رأسهـا، جعلتها تسقطت فاقـدة الوعى من دون أن تصرخ حتى، بين ذراعى مالك الذى التقطها علي الفور و....... 


                           *********


الفصل الثـالث : 


حـدق بالثـلاث اشخـاص الذيـن كانـوا يقفون أمامـه بهيئتـهم الرجولية الضخمة بصدمة دامـت لثوانى فقط، وسرعان ما ابعد شمس عنه لترتطـم بالأرضيـة بقوة، لو كانت متيقظة لكانت صرخت من الألم، وفى لمح البصر كان يخطف العصـا من يد احدهم ويلكمه بقوة، قبل أن يضربه هو على رأسه مثل شمس، ساعدته قواه الجسامنيـة بالطـبع، ظل يتبادل اللكمات والضرب مع الرجليـن، بينما الاخر فـر هاربًا بسرعة لينجـو بنفسه الأهم من اى شيئ الان، سقطـت الاثنين علي الأرضين متأوهيـن من الألم، هبط مالك لمستواهم وامسك برقبـة احدهم، يرمقـه بنظرات دبت الرعب في اوصاله ليرتعد من هيئتـه الغاضبـة وعينيه الحمراوتيـن مثل وجهه من كثرة الإنفعـال، ثم سأله بأنفاس لاهثـة : 

_ انت ميييين 

كاد يختنـق، وحاول إبعـاد يده عنه وهو يجيبـه بتعب حقيقي : 

_ عـ عبد آآ عبدالحميـد 

حدقـه بقوة وبرقت عينـاه، وراح يسأله مرة اخرى وهو يهـزه : 

_ عايز منها اييية انطق انت تعرفها اصلاً 

_ مـ معـرفش معرفهـاش معرفهاش 

إلتفـت للحظـة للأخـر الذى استغل الفرصة التى قُـدمت له على طـبق من ذهب وركض مسرعًا ليفر من امامهم، نهض مالك ليراه بغضب، في حيـن تحامل الأخر على نفسـه ونهض مسرعًا قدر الامكـان ثم دفع مالك بقوة وركض هو الاخـر .. 

لم يبالـي مالك واستـدار لشمس التي مازالت فاقــدة الوعى، هبط لمستواها ثم وضـع يــده أسفـل ركبتيهـا والاخرى اسفـل ظهرهـا، ثم إتجـه لداخل المنزل واغلق الباب بقدمـه، وضعها علي الأريكـة المتوسطة الموضوعة في الصالة، ثم نهض واتجه للمطبـخ واخرج الماء من الثلاجـة ثم عاد لها مرة اخرى، سكب بعض قطرات الماء على وجهها وظل يضربها برفق علي وجنتهـا وهو يقول بصوت قلق بعض الشيئ : 

_ يا انسة ولا يا مدام، فوقي يا انتِ 

بدأت شمس تفتح جفنيهـا بتثاقل لتشرق شمس عينيها الرماديـة الجذابـة، تشعر بثقل في انحـاء جسدهـا الضعيف، بدأت الصورة توضح امامها الان، في منزل ما، وامامها شـاب .. وبمفردهم !! 

ما إن وصلتها تلك الكلمة حتى هبت منتصبة بفـزع، اصبح جسدها يرتعش غير مبالية لألم رأسهـا الذى تشعـر به، كل جـزء فيها يرتعد لمجرد التفكير فيما قد حدث او يحدث، رأى الذعـر في عينيها الساحرة بوضـوح، كان ينظر لها بدهشـة، هو لم يفعل شيئ لكل هذا الفـزع، ولكن كيف تفـزع اساسًا وهى .. 

قطعـت شمس حبل تفكيـره الشارد وهي تتأوه بألم لم تستطع اخفـاؤوه اكثر : 

_ آآآه انا فين !! 

رفـع حاجبـه الأيسـر، ثم نظر لها بنصف عين، ونهض فجأة يقول بجدية : 

_ اية انتِ فقدتى الذاكرة ولا اية ؟! 

ظلـت تعود للخلف شيئ فشيئ، تشربـت ملامحهَا الخوف .. والجزع، ظل يراقبها بهدوء مخيـف كالفهد الذى يراقـب فريستـه، إبتلعت ريقها بإزدراء، ثم قالت متلعثمة : 

_ آآ افتـ افتكرت، انا آآ انا .. 

توقـف يسألها برزانـة : 

_ انتِ اية ؟ 

كانـت دقـات قلبها تتسـارع، الى متى ستظل هكذا ترتعد، من كثرة خوفها لا تتذكر انها كانت هادئة سعيدة يومًا، يجتاحها الان شعور بالرغبة في الغثيـان، تشنجـت قسمـات وجهـها قبل أن تجيبه بصوت هامس : 

_ أنـا شـمـس 

ضحـك على ارتباكهـا واجابتها، كانت ابتسامتـه جذابة ولكن .. مخيفـة، وكانت تسيطر عليه حالة تعجب لا نهائيـة، كيف تتلعثم وتخجل هكذا !؟ 

سألها بابتسامة لعــوب : 

_ مالك يا شمس فيكِ اية خايفة كدة لية، متخافيش بطلت أكل النـاس 

نظراتـه الغامضـة وكلماته اللعوبـة نشرت الخـوف اكثر بداخلهـا، وكأنها في بحر عميق من الخوف، تحتاج لنجدة ما، ولكنه بأفعاله يدفعها بداخله اكثر واكثر، استدارت بسرعة لتسير بخطوات سريعة، ثم قالت مصطنعة الهدوء: 

_ انا ماشية، هبقي ابعت لحضرتك حد غيرى 

أمسـكها من معصمهـا، ليشعر بالقشعريرة التي سارت في جسدهـا، تحت انظاره وجهها يشحب شيئً فشيئ، لمعة عيناها إنذار لأعلان بدأ اندلاع ثورة غاضبة وباكيـة، قربها منه قليلاً، ثم نظـر في عينيها الرمادية، ذاك البحر العميق، الأزرق الرمادى، نظرات اذابـت تماسكها المتبقي في لمح البصـر، لتنغمس هى في عينيه السوداء، و قال بصوت رجولى هامس، ليلعب على اوتارها الحساسة : 

_ بس انا عايـزك انتِ مش عايز حد تانى 

أستفاقـت على جملتـه تلك، جملتـه التى حملت الرغبة في طياتهـا، كرهت كلمة " الرغبـة " بسبب ذاك، دموعها على وشك الانهمار، لن تتماسك بعد الان .. ! 

نقطـة ومن بداية السطر .. مقاومة، كل خلية بداخلها نهرتها لتقاوم سريعًا، وجدت نفسها تدفعه بكامل قواها، شعرت بطاقة تخترقها لا اراديــًا .. 

بينما جـز هو على اسنانـه بغيظ، تحاول الفرار من الامتزاج بتلك الامواج وهى منها اساسًا، تحولت نظرات الهائمـة لنظرات جعلتها تشعر انها ستفقـد وعيها الان !! 

أمسكهـا من معصمهـا بقوة، ولم يبالي بأعتراضها، ثم زمجر فيها بحدة : 

_ فيه اية، انتِ مش جاية هنا عشان شغلك، ماتشتغلي بقا يلا

تنسـات خوفها، وتلاشي مع الريـاح، ليتجسـد امامها معاناة والدتهـا، لتقـف امامه وكأنها بلا روح، إما الغرق .. او التمزق لأشـلاء يصعب اعادتها !؟ 

قالـت بصوت مهزوز لم يراعيه ابدًا : 

_ ماشي، عن اذنك 

استـدارت لتتجـه للداخـل ولكن وجـدت ايدى من حديد قاتل امسكت بيدها  البيضاء الصغيرة ليمتزج لونهما سويــًا، أجفلت وهى تغمغم بتوتر : 

_ لو سمحت سيب ايدى، هأدخل اشوف شغلى 

عقد حاجبيه متساءلاً، ثم بدأ الانذار مرة اخرى بأقترابـه، ليستطرد بخبث ظهر بوضوح فى نبراته : 

_ ماهو انا شغلك .. صح 

هـزت رأسهـا نافيـة بسرعة ثم استدارت وفي لمح البصر كانت تركض للخارج بخطوات متلعثمة، بقلب ظنته يدق بصوت عالٍ مسموع، بأعيـن تعاهدت ألا تسمح للانهار بالانهمار علي تلك الوجنتين الساخنتيـن.. 

بينما وقـف هو مدهوشـًا لما يحدث، رعشتهـا .. خوفها .. توترها وتلعثمها، اشياء توحى وتدفعه للظـن انها لا تفهم او انه ليس كذلك، هناك حلقة مفقـودة !! 

قال ذلك لنفسـه قبل أن يستدير ويمسك بهاتفه من جيبـه ثم اتصل بشخص ما وما ان اتاه صوته الرجولى حتى قال جادًا : 

_ انت فين ؟ 

_ ف الكافيه الي بنقعد عليه دايمًا 

_ معاك حد ؟ 

_ لا لوحدى 

_ طب انا جايلك مسافة السكة 

_ في حاجة ولا اية 

_ اما اجي لك هتفهم 

_ ماشي مستنيك 

_ سلام 

_ سلام 

اغلق الهاتـف ووضعه في جيبـه مرة اخرى، لم يتـركه التفكير .. والشك ولو للحظـة، يداهمـه بقوة جعلته يضع يداه علي رأسها ويضغط بقوة عله يستطيع ايقاف سيل التفكير ليهـدأ قليلاً .. 


                            *********


هـروب .. كلمة من اربـع حروف كلما تذكرتها يجتاحها شعور بالضـعف والخزى من نفسها، نعم .. تهرب وتخشي المواجهة، تخشي الظهور امام اى شخص يخترقها بنظراته فتنهـار، كالزهرة التي ان خرجت للشمس الحارة ستذبل .. وتموت !! 

اغلقـت اهدابهـا الكثيفـة السـوداء، تهدأ نفسها من كم المشاعر التى اجتاحتها وتجتاحها يوميًا بلا رحمة للراحة !! 

ثم نهضـت ووقفـت امام الدولاب لتختار ما سترتديـه، اخرجت بنطال جينز واسع الي حدًا ما وتيشرت كم أصفر، وطرحة صغيرة من اللون الاصفر والبرتقالي المشجّر .. 

ارتـدت ملابسها على عجلة، واستعدت للذهاب لعملهـا، حيث تعمل كـمهندسة ديكـور فى احدى الشركات الخاصة، انتهـت ثم خرجـت متجهة للبَاب، لتقابل والدتها التى خرجت من المطبـخ لتوها، وما إن رأتها حتى قـالت بريـبة : 

_ رايحة فين يا حبيبتي 

تنهـدت خلود بقوة، ثم نظرت لها بهدوء، ومن ثم اجابتـه بنبرة تحمل بعض التهكم :

_ رايحة شغلى يا ماما، ولا انا خلاص هأقعد فى البيت 

هـز رأسهـا نافيـة بسرعة، هى تخشـي عليها من اى شخص قد يجعلها تموت بالبطيئ بفعل كلماتـه المميتة، ثم هتفت مبررة : 

_ لا ابدًا يا حبيبتي، انا بس آآ 

تقـوس فمها بأبتسامة ساخرة، قد فهمت كل شيئ من نظراتها، تـوّد حبسها خلف جدار عازل لتمنـع تلك الهتافات السوداء من إطالتهـا، ولكنها قد قررت التصدى لها ومواجتها، وإن كانت ستجرحها بأشواكهـا، قاطعتهـا قائلة بحزم : 

_ انا هنزل يا امى وهعيش حياتى عادى 

ارتسـم ثغرهـا بأبتسامة باهتـة تعبر عن كم المخاوف التى تساورها، ثم تمتمت بخفـوت : 

_ ربنا يحفـظك يا حبيبتي 

بادلتهـا الابتسامـة الهادئة مرددة : 

_ يارب 

استـدارت واتجهـت للخـارج، ثم استقلت احدى سيارات الاجـرة متجهة للشركـة، أفكَارها متخبطة بالكثير وسماء ذهنها ممتلئة بشكل متعب، تحاول إعداد وجمع شتات نفسها لتقبل اى كلمة ستسمعها بعد قليل .. 

وصلـت الشركـة، كبيرة فاهرة، الحارس امام الباب، ذات طابـع جديد ثرى، اخذت نفسًا عميقــًا ثم دلفت متجهة لمكتبهـا، ما إن دلفت الي الحجرة الكبيرة الموضوع بها اكثر من مكتب للموظفيـن حتى بدأت الهمهـات تعلو رويدًا رويدًا .. 

لم تعطيها اى اهتمام، بل اقتربت وجلست على كرسيها الجلدى الكبير لتملأ نصفه بكتفيها الصغيريـن، سمعت احدى الكلمات من شخص تعرفه جيدًا تقصدها هى : 

_ رجعت تانى، احنا شكلنا مش هانخلص من اللعنة دى خالص 

لتتابعها الاخرى متهكمة : 

_ اه، ربنا يستر بقا مايجراش لنا حاجة 

عـادت ترمقهـا بنظرات كارهه وبخوف مصطنع : 

_ اه ياختى احسن تيجى بكرة تقول لى انتِ هيحصلك حاجة وفعلاً يحصل لى، انا مُش ناقصة بصراحة 

ظـنت انها ستنهـض وتكيل لهم الكلمات اطنانًا، ولكنها صمتت، جـزت على اسنانهـا بغيـظ تكبـح دموعها بصعوبـة، تغلق ابوابهـا وتمنـع الرد من الطلوع، ولكن .. السبب مجهـول .. 

بعد ثـوان اتـي لها المنقـذ في صورة زميل لها، يطالعها بنظرات تود إختلاعها من عيناه السوداء .. الشفقـة، تكرهها وبشدة، نظراتـه تنغر في جرحها بقوة، تشعر بالألم يتراكم ويتراكم حتى اصبح صعب عليها تجاوزه، بينما قال هو هادئ : 

_ مستر درويش عايزك يا انسة خلود 

صدرت منها ايماءة صغيرة اكدت له انها مازالت على قيد الحيـاة، لتنهض بخطوات متعثـرة، تخشـي السقوط امامهم فيتأكدوا من سقوطها الابدى في الحياة .. 

وصـلت امام مكتـب " المدير " اخذت نفسًا عميقــًا تملأ رئتيها بالهواء النقـي، ثم طرقت الباب ودلفـت بهدوء، لتراه يوليها ظهره، بهيئتـه السمينة، وبدلته المهندمة، تعبر عن الوقـار والهيبـة، تنحنحت قائلة بهدوء حذر : 

_ احم ، مستر درويش حضرتك طلبتنى ؟ 

اومـأ دون أن ينظـر لها، ثم بعد ثوان استدار لها عاقدًا ساعديه امام صدره العريض، ينظر لها نظرات منعكسة على مرآتهـا المكسورة بالجمود .. والشفقـة، ثم تفـوه بجملة واحدة كان لها اثرًا واضحًا علي تلك المسكينة : 

_ الناس اشتكت منك، إما تروحى للدكتور النفسي الخاص بالشركة، إما تعتبرى نفسك مرفودة يا استاذة !!!  


                            ******** 


كـان يقفـوا أمامـه في شارع خالٍ من السكـان كبير، جسـدهم يرتعش ببعض الخوف من حكم ذاك القاضي المتجبر، يطرقوا رأسهم في الأرض بخزى، بينمـا هو صدره يعلو ويهبط من فرط إنفعالـه، يحدق بهم بشرارات غاضبة حارقة تجتاح عينيه السواوتيـن، هيئتـه العريضـة تجعل من يراه يخشـاه دون سبب محدد، في الثلاثـون من عمره، ملابسه انيقـة مهندمة،  رفـع يـده السمراء الخشنة عاليًا لتسقط علي جسـد احدهـم الذى صرخ متأوهًا من الألم، نظر له بشماتـه وقال بحدة : 

_ اية يا بهايم حتت واد يعمل فيكوا كدة !

غمغم بضيق واضح ولم ينظر له : 

_ ده مش اى واد يا باشا 

زاد احمرار وجهه غضبًا، شعر ان خلاياه ستنفجر من الغضب، لا يقبل التحدى من اى شخص، ما ان كان تحداه وتخطاه وفاز عليه بكل سهولة، ليس علي شخصًا مثل القبول والصمت هكذا، بل سيدلف حرب بملئ ارادتـه .. وحربه الفوز فقط هو المباح فيهـا وليس غيره ! 

زجـره بعينـاه وتابع بسخرية : 

_ وانتم تلاتة وماقدرتوش عليه، جاتكم نيلة يا بهايـم 

تهدجـت انفاسـه المتلاحقة، واجابه لاهثًا وهو يتحسس انفـه التي تنزف : 

_ ده انا كنت هموت فـ ايده يا باشا، ده شكله بيلعب مصارعة 

لم يرد عليه وانما اتـاه صوته متساءلاً بخشونة : 

_ اية الي ودااا البت عنده اصلاً ؟ 

رفـع كتفه كعلامة معبرة عن جهلـه، ليصدح صوته محذرًا : 

_ ف خلال 24 ساعة عايز اعرف كل حاجة عن الواد ده واية علاقته بالبت، والا نهايتكوا هتكون علي ايـدى 

صمت لبرهه يتفرس ملامحهم المذعورة، ليتشـدق بما اثار الرجفة في اوصالهم : 

_ وانتم عارفين .. انا ماعنديش ياما ارحمينى !! 

اومـأوا مسرعين، ليتابع قوله الامر : 

_ عايز البت بأى طريقة، بس ابقوا خدوا رجالة بجد معاكم 

_ حاضر ..حاضر يا طه بيه بس اهدى انت 

قالهـا احدهم محاولاً تهدأتـه، بينما افتـرش الشر على ملامحه الصارمة، ثم قـال بتوعد شرس لنفسـه : 

_ هوصل للى انا عاوزه، مش على اخر الزمن حتت واد زى ده هيقف ف وشي 

أشـار لهم ان يذهبـوا، لينطلقوا من امامه مسرعين يتنفسوا الصعداء حمدًا لله انهم مازالوا بخير، بينما انطلق هو الاخر كالسهم من احدى الأقـواس متجهـًا لمنزله لسببًا ما ..


                            ********


في احدى الكافيهـات الكبيرة, والمشهورة، جلس هو على احدى المنضدات، وعلى احدى الكراسي البلاستيكية، يملأه بمنكبيـه العريضين، ينعـش نفسه بالهواء الطلق الذى يشعر انه يجتاحها لينظـفه داخليًا ويذكره بما مضـي، تحديدًا تحت اضواء القمر المبهجـة، تتعالي الهمهمات العشوائيـة، يجلس هو على الكرسي، شـارد الذهن، وجه واجم وملامحـه هادئة بشكل غريـب يصعب فهمـه، كان يضـع يده أسفل ذقنـه وينظر للاشيئ بسرحان، حتى قطع خلوته بنفسه صوت صديقه المرح وهو يقترب منه : 

_ اية يا ملوكه طلبتنى ليية ؟ 

جـز على أسنانـه بغيظ، ثم نظر له محذرًا :

_ قولت لك ماسميش خرة، اسمى مالك.. مالك مش ملوكة !!

أوقـف ابتسامتـه من التسلل لثغره بصعوبة، وسأله بجدية مصطنعة : 

_ خلاص خلاص، قولى بقا في اية يستاهل انك تقطع قعدتى الجميلة 

تقـوس فمه بأبتسامة ساخرة وقال متهكمًا:

_ لية ان شاء الله، كنت بتختم القرءان !؟ 

هـز رأسـه نافيًا، دائمـًا ما يخسر هو في نهاية الجدال، فاليصمت من البداية افضـل من ينفجر بوجهه ذات مرة !! 

هتف بنفـاذ صبـر : 

_ لا ياعم كنت بأشوف الاجنبى اية اخباره 

لم يستطـع منع الضحـك، يحب مرحه وعفويـته بشدة، توقـف فمه كما هو بصدمه عندما طرقت جملة صعبة التصديق على اذنيـه : 

_ ولا انت عشان البت ماجتلكش والليلة اتضربت يعنى تتعبنى انا !! 

حملـق به متسع الحدقتيـن، ليعقد "مروان" حاجبيـه متعجبًا : 

_ اية يابنى في اية مالك 

اخيرًا استطاع إخراج الكلمات بصعوبة من بين شفتيـه الثابتتيـن بصدمة : 

_ يعني اية البت ماجتليش ؟ 

رفـع كتفيه وقال بلامبالاة : 

_ يعنى انا عرفت عشان البت اتصلت بيا وقالت لى انها مش هتقدر تيجي، ف قولت زمانك بتدعى عليا 

هـز رأسـه غير مصدقًا، إن لم تكـن هى الفتاة التي ارسلها صديقه، اذًا من تكـون، من التى اثار الرعب في قلبهـا وفرشه براحتـه دون ادنـي شفقة!! 

ملابسها وحجابهـا الصغير .. و ملامحها البريئة الجذابة لا توحى انها كذلك اطلاقــًا بل هو من وضع غشـاوة رغبته امام عينيه ليمنعها من التدقيق وامر العقل بالتفكير !

فغر فاهه مندهشًا : 

_ يعنى البت كانت عشان تنضف مش بت من ايـاهم !! 

مروان بعدم فهم : 

_ لا ده انت تشرح لى واحدة واحدة كدة، بت مين واية الي حصل 

تنهـد مالك تنهيدة تحمل الكثير، ثم بدأ يقص عليه ما حدث بهدوء شديد، يستقبل مروان الكلام بدهشـة اكبر، ما إن انتهـي مالك من حديثه حتى صاح فيه مروان بجدية : 

_ الله يخربيتك يا مالك 

زم مالك شفتيـه بعدم رضا، ثم قال ساخرًا :

_ يخربيت لسانك السكر 

زفـر مروان بقوة، ثم تابـع بلوم : 

_ حرام عليك يا مالك، انت ماتعرفش البت اية الي جرالها وهى مين اصلاً

ثم تجلى صوتـه واردف بجدية : 

_ لازم تعتذرلها ع طول 

هـز مالك رأسـه نافيًا، وافترش الخبث على ملامحه بأريحية، ليركض القلق لمروان من الابتسامة التي تسللت لثغر صديقه واحتلته بلا منـازع .. 

نظر له يحاول فهم ما يدور برأسه ثم سأله بتوجـس : 

_ انت ناوى ع اية يا مالك ؟ 

همس بشرود وصوته يكاد يسمع : 

_ هتشوف .. 


                            *********


تجـلس على الأريكة بالخـارج، تضـع يدها أسفل ذقنهـا وتنظـر على الشارع الخارجى بشـرود إرتسم على ملامحهـا، ذاك العالم الذى لم ولن يرحمهم ابدًا، عالم تعلمت فيه أن تتناسي ألمهـا حتى اصبحت تشعر انها بلا احسـاس !! 

كانت والدتهـا تقـف خلفهـا، منذ ان وصلت وهى تسألها عما حدث جعلها هكذا، إنتفض جسدها بقلق من شحـوب وجهها الأبيض وكأنها خرجت من معركة ما خاسـرة، ولما لا .. بالفعل لم تنتصر وتواجهه، بل ارتعدت، كـانت الدموع متحجرة في لؤلؤتيها الرماديتيـن، تكبحهـم بصعوبة شديدة، ويظهر جهادها في ذلك عن طريق تنفسها الغير منتظـم، وسؤال والدتها يضعف من مقاومتها الشنيعة للبكـاء الحاد !! 

_ يابنتى ما تريحيني وتقولى لى مالك، اية الى حصل فوق خلاكِ كدة !؟ 

سألتها والدتهـا "كريمة" بنبرة ظهر فيها نفاذ الصبر، لتغمغم شمس بتشنـج : 

_ مفيش يا ماما محصلش 

اقتـربت منها تنتزعها من جوار الشباك، لتنظر لعينيها وتشير اليها بأصبعها، وهى تصيح فيها ببعض الحدة : 

_ امال اية الدموع الى فـ عينيكِ دى !

حاولـت شمـس الابتعـاد عن نظراتها خوفًا من افتضـاح الأمر، فهى كالمرآة بالنسبة لوالدتها، أمر سهل كشفـه بالطبع .. 

هـزت رأسها نافيـة، واستطردت بهدوء مفتعل : 

_ لأ متهيألك، انا متضايقة شوية بس 

سألتهـا مستفهمة، وراحت تعيد نفس الجملة : 

_ متضايقة من اية، حصل اية انطقي 

نظـرت للأرضية بأسف حقيقى، ثم تمتمت بكسـرة ألمـت " كريمة " بشدة : 

_ بابا وحشنى اوى بس، احنا من غيره مانسواش حاجة 

احتضنتـها في ثوانٍ، بالرغم من صدق عبارتها إلا انها لن تستسلم وتسقط معها، ستقـاوم وتقـاوم حتى .. الموت !! 

قـالت بصوت ينـزف ألمًا : 

_ ان شاء الله هيرجع لنا قريـب 

رددت خلفهـا بفتور 

_ ان شاء الله .. ياارب 

إبتعـدت والدتهـا قليلاً، واخذت نفسًا طويلًا تستعد للقـادم، تحصـن نفسها من التهـاون امام ابنتهـا الوحيدة، تنحنحت قائلة وهي تنظر للجهة المعاكسة : 

_ شمس انا عايزة أقولك على حاجة 

قطبت جبينها ثم قالت متساءلة : 

_ خير يا ماما حاجة اية ؟ 

اجابتها بصوت قاتم هز كيانـها : 

_ يحيى ابن خالتك اتقدم لك وانا موافقة وهيجوا زيارة نتفق ع كل حاجة !!! 


                             *******


يتبــع ❤

تعليقات

التنقل السريع
    close