رواية فراشة في سكّ العقرب (حب أعمى) الجزء الثاني كامله حتي الفصل الثاني والعشرون بقلم الكاتبه ناهد خالد حصريه وجديده
"أحيانًا لا نعرف كيف نجونا، رُبما بدعوة مخلصة من قلب يحبنا، ورُبما بمشيئة الرب!"
تسمرت محلها حين لمحت بجانب عينيها وقوفه القريب لحد ما، وصمتت تمامًا عن الحديث غير قادره على التفوه بحرف واحد ورد الفعل الصحيح تجهله، فماذا ستفعل وأين ستخفي الهاتف وهو يقف مجاورًا لها وعينيهِ بالتأكيد لا تفارقها، ثواني مرت عليها كالساعات حتى أتت مشيئة الرب حين دلفت "نورهان" لغرفته فجأة ليلتفت لها فتسرع "فيروز" التصرف وهي تسقط الهاتف في اناء زرع قريب منها ووقفت تعدل خصلات شعرها وكأنها لا تنتبه لهم...
_ ايه يا حبيبتي محتاجه حاجه؟
نظرت له بتردد واضح جعله يحثها على الحديث فقالت بحذر:
_ كنت عاوزه اسألك سؤال لو هيعصبك بلاش ترد.
ابتسم لها ابتسامة صغيرة وقال مشجعًا:
_ اسألي..
فركت كفيها بقلق بالغ وسألته:
_ مبتفكرش تحل مشاكلك ما مازن؟
استند على سور الشرفة بإحدى زراعيهِ وقال ببسمة ساخرة:
_ لأ، مبفكرش.
قطبت ما بين حاجبيها بحزن وضيق في آنٍ:
_ ليه؟ عمر العداوة ما تستمر بين الاخوات يا شاهين.
_ بتستمر عادي.. طول ما هم اتفننوا في أذية بعض.. تحبي اعدلك كام مرة مازن أذاني؟ أو محتاجه اعرفك هو أذاني لدرجة ايه؟
احنت رأسها أرضًا وصمتها كان مفسرًا فلوى فمه باستهزاء والتف ينظر خارج الشرفة يتعمق في السماء السوداء الكاحلة والتي بات قلبه يشبهها في عتمتها.
زفرة خانقة صدرت منها وبعدها ربتت على كتفه بمواساة وقالت:
![]() |
_ أنا أسفة.. مكانش قصدي افكرك.
_ مبنساش عشان تفكريني.
قالها بنبرة ظهر فيها القسوة والألم، فسحبت كفها وانسحبت هي نفسها بعدما القت نظرة على "فيروز" الواقفة بشرفتها تعطيها ظهرها..
بعد ثواني من الانغماس في قسوة الماضي وذكرياته الأليمة نفض رأسه عن كل ما يدور بها، والتف للواقفة على الجهة الأخرى ليجدها تضع كفها على أذنها كما كانت فتجعدت ملامحه قليلاً محاولاً فهم ما تفعله، ولِمَ تضع كفها هكذا!
_ فيروز؟
وعنها فلقد استمرت على نفس الوضع كي لا تثير شكوكه، لأنها تعلم أنه إن نظر لها سيسألها عن وضعها الغريب وحينها ستخترع له حجة تبدد أي شكوك لديهِ..
نظرت له وكأنها تفاجأت الآن بوجوده، رفرفت بأهدابها قبل أن تجيبه:
_ نعم!
_ انتِ حاطة ايدك على ودنك ليه؟
دلكت أذنها بكفها وجعدت ملامحها في ألم مصطنع قبل أن تقول:
_ وجعاني بقالها شوية وحساها بتوش.
سألها بحيرة:
_ دي أول مرة ولا ساعات بتتعبك؟
أنزلت كفها وابتسمت بهدوء وهي تجيبه:
_ لا متقلقش هي ساعات كده بتتعبني اصل مانا وانا صغيرة وانا عندي مشكلة في طبلة ودني اليمين حتى تلاقيني مبسمعش بيها كويس.
وقد كانت حقيقة فعلية، فهي لديها مشكلة في أذنها اليمنى أثر حادث تصادم حدث لها حين قررت العمل في بيع الفل لأول مرة.. كانت تائهة وتشعر بالتوتر والتخبط في آنٍ فلم تكن قد اعتادت بعد المرور بين السيارات واشارات المرور المغلقة والمفتوحة! وكعادة أي فتاة فكانت سرعة السيارات تربكها وتخيفها، وفي أول يوم لها في العمل حين فُتحت إشارة المرور دون انتباه منها وبدأت السيارات تتحرك أصابها الارتباك وهي ترى السيارات تمر من حولها دون توقف وأصوات الزمور القوي عزز ارتباكها، فتحركت بعشوائية جعلت إحدى السيارات تصطدم بها، لم يكن الصدام قوي، ولم يحدث بها ضرارًا واضحًا، لكن بعد عدة أيام عانت من ألم في أذنها التي سقطت عليها على الأرضية الصلبة، لتكتشف أنها قد أصيبت بثقب صغير في طبلة الأذن.. يسبب لها ألم من حين لآخر، ومع علو الأصوات تحديدًا يفقدها صوابها وهذا كان له السبب الأكبر في عدم تحملها لصراخ الرجل الذي كان في القبو...
_ مقلقتش.
قالها ببرود، فرفعت حاجبيها باستنكار لرده وقالت ساخرةً:
_ حتى قولي انك قلقت ولو بالكدب! وانا اللي كنت بسأل نفسي ليه المسافة دي كلها بينك وبين مراتك.. دلوقتي فهمت.
استند على سور شرفته الجانبي ليصبح قبالتها وهو يسألها بتهكم:
_ايه بقى اللي فهمتيه يا فيلسوفة؟
ربعت ذراعيها أمام صدرها وهي تجيبه بتهكم مماثل:
_ مش محتاجة فلسفة ولا حاجة.. يعني بصراحة أنا شايفة إنك شخص ملكش تعامل مع البشر، فأكيد مراتك كمان مش عارفة تتعامل معاك وده سبب الخلاف اللي مش فهماه بينكوا، رغم أنها متتخيرش عنك يعني المفروض تليقوا مع بعض جداً.
ارتفع جانب فمه ساخرًا:
_ وانتِ بقى اللي بتعرفي تتعاملي مع البشر، عشان كده مش عارفه تاخدي قرار في حياتك وأي حد يقولك كلمتين تقفي في صفه.
قطبت ما بين حاجبيها غاضبًة بعدما فكة عقدة ذراعيها وسألته بتحفز:
_ يعني ايه؟
اعتدل في وقفته هو الآخر وقال:
_ يعني أول ما مازن اقنعك انه هيحللك مشكلة القضية وهتبقى شقة امك ملك ليكي وقفتي في صفه ونفذتي اللي هو عاوزه، وبذكائك عشان تكسبي قضية كان ممكن تكسبيها بطرق كتير تانية وقعتي نفسك في مصيبة مش هتعرفي تخلصي منها.. ده طبعا لو الحكاية حكاية قضية.. وشقة.. ميكونش ماسك عليكي حاجه كده ولا كده.
_ المصيبة دي اللي هي انتَ مش كده؟
مسد وجهه بكفه وحرك رأسه يائسًا منها فلقد تركت كل ما تحدث فيه وعلقت على أتفه ما بهِ..
_ مش بقولك ذكية!
اقتربت من السور المشترك بين الشرفتين حتى أصبحت ملاصقة له وبات يفصلها عنه عدة سنتيمترات قليلة، نظرت له بغضب حقيقي وهي ترغب في سبّه لكنها تحكمت في لسانها بالكاد وهي تقول:
_ انتَ مش بس مصيبة، ده انتَ مصيبة سودا ووقعت على دماغي.. لو كنت اعرف اني هتقابل مع شخص زيك عمري ما كنت وافقت وتغور الشقة، بس للاسف دلوقتي مازن عنده فعلا اللي يهددني بيه عشان اكمل..
وتركته دالفة لغرفتها وقد اغلقت باب الشرفة بالقفل الالكتروني...
حسنًا لقد اعترفت.. هناك شيء ما لم تقوله وهو ما يهددها مازن بهِ، إذًا الأمر بات واضحًا، الحقيقة ليس لها أي علاقة بشقة وقضية الوضع أخطر بكثير، ولكن ما الشيء الذي يضغط بهِ مازن عليها؟ هل الأمر يتعلق بالشرف أم شيء آخر؟؟!!!
والغريب أنه حين خطر بباله أن الأمر قد يتعلق بعلاقة ما جمعتها بمازن أو بغيره شعر بنفسه يضيق، وكأن صدره يرفض ما توصل إليه عقله، والاغرب أن هناك صوت في قاع عقله يخبره أنها لا تفعلها، لا تتورط بهذا النوع من المصائب القذرة، وهناك في قمة عقله صوت يخبره ولِمَ لا؟ ألم تفعلها غيرها؟ وغيرها لم تتوقع منها أن تكون على هذا القدر من الحقارة.. هل ستثق مرة أخرى؟ ألم تأخذ عهدًا على نفسك ألا تضع رأيًا في أي امرأة أيًا كانت.. مجرد رأي! وأن تتوقع منهم دائمًا أن يدهشوك بالخيانة والغدر والحقارة التي يتلاعبن بها!
زفرة قوية أخرجت الكثير والكثير من خبايا صدره، تبعها بدلوفه لغرفته ليخلد لنوم جديد يهرب فيهِ من الماضي الأليم والحاضر المؤذي..
حين سمعت اغلاق باب شرفته فتحت بابها برفق وحذر وخرجت تأخذ الهاتف من اناء الزرع ودلفت مسرعة للداخل تتنهد براحة.. وما ان فتحت شاشة الهاتف لتطلب رقم والدتها حتى تفاجأت أن مكالمة مازن قيد الاستمرار!
_ الو؟
_ أمان؟
جلست فوق الفراش وهي تجيبه:
_ ايوه تمام انا في اوضتي، انا فكرت الخط فصل.
_ لأ.
كان صوته غريبًا لم تفهم سبب وجومه وحدته، ولم تدع نفسها حائرة كثيرًا وهي تسأله بتردد:
_ مال صوتك؟ في حاجة حصلت؟
بالطبع لن يخبرها انه استمع لحديث "نورهان" و "شاهين" الذي حرك بهِ شيئًا ما يمقته، وأثار الضيق في نفسه حتى أنه فكر أن يغلق المكالمة لكن الفضول دفعه للاستمرار ومعرفة ما سينتهي اليه الأمر.. وكالعادة "شاهين" ينال اعتذرًا مُحملاً بالأسف، و "مازن" ينال اتهامًا مُحملاً باللوم، متى سيقف أحدهم في صفه دون أن ينصر" شاهين" عليهِ؟ متى سيجد من يفهم ألمه هو الآخر ومبرراته كما يفعلون معه؟
_ زعلت من كلام شاهين؟ ولا إن نورهان مقالتش في حقك كلامك تدافع عنك؟
تجمدت ملامحه تفاجئًا بحديثها، هل فهمت ما أزعجه دون أن يبوح؟
_ الاتنين.
تنهدت قبل أن تقول بنبرة لينة:
_ أمي دايمًا كانت تقولي مفيش حد بيعترف بغلطه، عشان كده ملكش حق تزعل من كلام شاهين.. هو طبيعي مش شايف نفسه غلطان حتى لو هو فعلاً غلطان، ونورهان حتى لو عاوزه تدافع عنك مش هتعمل كده لأنها شافته ازاي مضايق، فهتأجل انها تقول كلمة تضايقه أكتر حتى لو كانت كلمة الحق.
ولأول مرة يقرر الإفصاح عن بعض ما يعتمر صدره فسألها:
_ ولو نورهان فعلا شايفة شاهين مظلوم ومعندهاش كلمة أصلا تقولها في حقي تدافعي بيها عني.
_ يبقى ده لسببين.. إما شاهين عارف يقنعها كويس بغلبه ومسكنته وانه مستحيل يأذيك وده أنا شوفته بعيني وشوفت ازاي ألف حكاية عني أنا وهو واقنعها بيها.. إما انتَ فعلاً مش مظلوم بس زي أي انسان مبيعترفش بغلطه.
_ وتتوقعي انهي الصح فيهم؟
صمتت قليلاً، وأخذت نفسًا تبدد بهِ حيرتها:
_ انا شوفت بعيني ازاي قدر يقنعها بحكاية مزيفة في دقايق.. حكاية لو أنا مش طرف فيها كنت صدقتها وكرهتك.. وفي نفس الوقت قلبي بيقولي انك مش السبب في الخلاف بينكوا، وبعدين امتى المجرم بيكون بريء وصادق!
لقد اعطته الشعور الذي يفتقده، أن يثق بهِ أحد دون أن يحتاج لكثير من الدلائل والمبررات المقنعة، أن يؤكد أحد على أنه الطرف المظلوم وليس الظالم، الطرف الصادق والبريء.
وبالتأكيد هذا ما جعله يخرج عن صمته ويبوح بالكثير من الأسرار التي لم يتحدث بها مع أحد من قبل:
_ شاهين كان اخويا الكبير وابويا وصاحبي، كان مثلي الأعلى وقدوتي، كل حاجة كنت عاوز اكون شبهه فيها، طريقة لبسه وتسريحة شعره، نوع البرفان اللي بيستخدمه، الوانه المفضلة واللي بيلبسها معظم الوقت، طريقة كلامه ومشيته.. لو قولتك اني كنت مهووس بيه لدرجة اني طول الوقت براقبه عشان اكون نسخة منه هتقولي عني ببالغ، بس دي كانت الحقيقة..
صوت صمت ساد لثواني جعلها تجلس مستريحة على الفراش وهي تدرك أن المكالمة ستطول، وصوته الشاجن المحمل بلوم وعتاب خفيان ربما يلقيهما على أكتاف شقيقه، وربما يقصد بهما الزمن الذي بدل الأحوال وفرق العزيزين جعل ملامحها توصم بالحزن دون أن تدرك.
وعنه فقد ترك الهاتف فوق الفراش واسترخى جاعلاً ذراعيهِ أسفل رأسه وكأنه يتحدث مع نفسه ويري مشاهد الماضي تتجسد أمامه على سقف الغرفة!
_ دايمًا الأخوات بيحبوا يكونوا مختلفين عن بعض، حتى التوأم اللي شبه بعض في الشكل بيكونوا حابين يكونوا مختلفين في الطريقة والكلام ومجال الدراسة والهوايات كنوع من التميز، لكن أنا كنت العكس خالص.. شاهين بيحب اللون البني والأسود يبقى أنا كمان احبهم، شاهين بيكره الأصفر.. أنا كمان أكرهه، شاهين بيلعب بوكس يبقى انا كمان العب زيه، كل حاجه كنت ماشي وراه فيها، ومكنتش شايف ده عيب على قد ما كان حب مني له، كان بابا دايمًا يقولي انتَ تابع لشاهين.. انت بتحاول تكون نسخة منه لكن هتكون نسخة ماسخه ومهما حاولت تكون شبهه هتفشل، كان دايما يقولي انتَ ملكش شخصية وبتعمل كل حاجه شاهين بيعملها مبتعملش حاجه من نفسك ابدًا، كل الكلام ده على قد ما كان بيوجعني على قد ماكنت مبهتمش افهمه او حتى افكر فيه، وفضلت ورا شاهين في كل حاجه..
صمت آخر، وتنهيدة طويلة..
_ ماما كانت مهتمة بيه اكتر مني ومدياله مكانة وحب اكتر مني بكتير، كنت فاهم إن المكانة دي لأنه الكبير، لكن ليه بتحبه وبتخاف عليه اكتر؟
_ مجربتش تسألها؟
انتفض بخفة على صوتها كأنه نسى وجودها، ولكن سريعًا ما استكان وهو يجيب وكأن ذكرياته أبت أن تتركه:
_ سألتها... مرة، قالتلي عشان شاهين اتيتم بدري وابوه مات وهو لسه صغير فبحاول اكون له الأب والأم واعوضه.
_ واقتنعت بإجابتها؟
ابتسم ساخرًا وهو يجيبها وقد بدأت الدموع توخز مقلتيهِ دون شعور:
_ مش بس اقتنعت ده انا كمان بدأت أمارس دور الأب واهتم بيه زيها واخاف عليه اكتر منها، ماما من غير ما تقصد زودت هوسي بوجود شاهين، فبقيت شايف ان أي حاجه في الدنيا تغور بس شاهين ميزعلش، اي حاجه تغور بس شاهين ميتأذيش، وهكذا بقى..
ظهر التأثر واضحًا في صوتها، والحزن زين نبرتها وهي تسأله:
_ وبعدين؟ ايه اللي بعدكوا عن بعض كده؟
_ عارفه لما يكون في شخص كل ده بالنسبالك وفجأة ينزل من نظرك؟ احساسك ايه لو في شيخ معين بتحبيه أوي ووخداه قدوة، وفجأة شوفتيه بيشرب خمرة مثلاً..
_هحس بالقرف ناحيته.
قاطعته قبل أن يكمل، ليبتسم برضا وهو يؤكد كلامها:
_ بالضبط ده اللي حسيته ناحية شاهين لما اكتشفت متجارته في السلاح، اتصدمت وحسيت بالقرف ناحيته و ناحية نفسي انا كمان، خصوصا اني وقتها كنت في كلية الشرطة فكان إحساسي إن حاميها حراميها.. وعلى فكره شاهين هو اللي ساعدني ادخل الكلية لما عرف انها حلمي من سنين بس كنت عاوز اضيعه عشان اكون بيزنس مان زيه.
_ هو اللي ساعدك! مكانش خايف تكتشف شغله وتنقلب ضده؟
_ معرفش، يمكن مكانش متخيل اني اكتشف شغله أصلاً.
_ طب ليه محاولتش تتكلم معاه وترجعه عن الطريق ده، انا حاسه انه بيحبك بجد واكيد وقتها كان هيسمع منك.
جاء صوته مختنقًا:
_ عشان اللي حصل يوم ما اتواجهنا كان أصعب من انه يتلم..
وسرح في ذكريات الماضي الأليم يتذكر تلك الليلة التي تحولت لكابوس يطارده في يقظته ومنامه.
قبل خمس سنوات..
_ وطي صوتك امك هتسمعنا!
نظر له بأعين تتقد غضبًا:
_ يعني هو ده كل اللي هامك؟ امك هتسمعنا! رد عليا وجاوبني انتَ ازاي مشيت في الطريق الو** ده!
توترت نظراته وهو يشيح بها بعيدًا وقال:
_ انا معملتش حاجه غلط، انا كل اللي بعمله اني بدخل السلاح البلد.. يروح فين او يروح لمين مش شغلي، وبعدين مش كل اللي بيشتروا سلاح بيستخدموه في الأذية في بدو كتير بياخدوا أسلحة عشان يدافعوا عن أهلهم في المناطق الصعبة اللي عايشين فيها.
جذبه من كتفه بقوة ليلتف له ويصبح في مواجهته وصرخ به:
_ انتَ بتبرر!! هي البجاحة واصله معاك للدرجادي؟ أنا تخيلتك هتتكسف مني، هتعترف بغلطك وندمك، لكن انتَ حتى مش شايف نفسك غلطان!
نظر له بقوة يناطحه:
_ لا مش غلطان، عارف ليه؟ لأن كل انسان فينا عنده عقل يفكر بيه عشان كده هو مسؤل عن افعاله، أنا بدخل السلاح اه، لكن مبقولش لفلان يروح يقتل بيه فلان عشان خناقة تافهه! السلاح زي ما له أضرار له فوائد كتير ولا انتوا مبتستخدموش السلاح في شغلكوا يا حضرة الضابط المستقبلي عشان تحمي بلدك ونفسك!
ارتد "مازن" للخلف مصدومًا من منطقه، وقال بدهشة تعبر عن صدمته:
_ مش شغلك! دخول السلاح البلد هو شغلة الحكومة وبس، ثم إنك لم توفر مسدس لشخص ده مش تحريض منك له انه يخلص بيه كل مشاكله، كام واحد بيشتري سلاح عشان ياخد تاره ولا حتى يقتل حد ويسرقه وغيره وغيره!
نظر له" شاهين" هازئًا:
_ تحريض مني! ماهو يا حضرة الضابط انا لو اتخانقت معاك دلوقتي وطلعت في دماغي اقتلك مش لازم يكون معايا مسدس أنا ممكن بكل سهولة اجري على المطبخ اجيب سكينة ادبها في قلبك، يا ترى بقى هتمنعوا السكاكين من البيوت؟ مهو تحريض على القتل بقى!
صمت ولم يستطع مجابهته في الرد، بالطبع ليس لصواب حديثه، ولكن ربما لتفاجئه بردوده، او صدمته فيه التي لم تزول بعد..
_ من أول ما اكتشفت انك ماشي في الطريق ده وانا كنت عارف انك خلاص روحت بلا رجعة، واني يوم ما هقف في وشك مش هاخد فيك حق ولا باطل، عشان كده خليت ليلى تبعد عنك.. محبتش اشيل ذنبها هي كمان وتتغش فيك.. عرفتها حقيقتك وهي اختارت تبعد عشان بتفهم.
وقد كانت القشة التي قسمت ظهر البعير، هو السبب في بعد حبيبته عنه، هو السبب في اختفائها الغريب والمفاجئ دون ان يستطيع الوصول لأي معلومة عنها وكأنها قصدت هذا، هُزمت ملامحه وهو ينظر له بعتاب جم:
_ مانا عرفت، اصلي نسيت اقولك اني وصلت لليلى وحكتلي اللي حصل، وقالتلي إنك بعدتها عني وفرقت بينا رغم إنك أكتر واحد عارف اني مدبوح من الموضوع ده بالذات بعد اللي عملته شدوى، انتَ اكتر واحد كان شاهد على اللي عشته وقتها وكان عارف ان حبي لليلى كان آخر أمل لقلبي انه يعيش.. يمكن مكنتش بحب شدوى للدرجة اللي تكسرني فيها، بس هي كسرتني بطريقة تانية.. كسرة رجولتي وحنت راسي قدام الكل، ٣ سنين مكنتش عارف ادخل حد حياتي لحد ما ظهرت ليلى وحبيتها، حسيتها الدواء اللي ربنا باعتهولي عشان يطيب خاطري من كسرة مكانش ليا يد فيها ولا ذنب...
قاطعه مازن بصياح غاضب:
_ فوق يا شاهين.. فووووق، انتَ محبتش شدوى ولا حبيت ليلى.. كل واحده فيهم كانت محطة في حياتك لكن مش حب.. انتَ عجبك المحاولات اللي ليلى كانت بتعملها عشان تقرب منك وتكون جنبك، عجبك دورها في انها تصلح كل اللي اتكسر فيك، ليلى حبتك.. وانتَ حبيت حبها ليك، لكن محبتهاش.. بطل توهم نفسك بقى، ليلى محدش حبها... غيري.
جحظت عينا "شاهين" بصدمة زلزلت كيانه وضربته في الصميم وهو يردد ذاهلاً:
_ انتَ بتقول ايه؟ ليلى! انتَ كنت بتحبها؟؟؟ ازاي!؟
ابتسامة مريرة زينت ثغر "مازن" وهو يقول:
_ متفاجئ عشان عمري ما بينت، ولا كنت هبين، وكنت هسيبك تتجوزها ومكانتش هتكون في نظري غير مرات اخويا، لكن لما لقيتك بتخدعها وحسيت انها ممكن في يوم تتكسر بسببك، اخترت لها البعد عن الكل.. عني وعنك.. بعدها أهون من إني اشوفها بتتوجع قدامي واقف عاجز.
استند "شاهين" على مكتبه بهم وضعف واضحين، كل ما سمعه الآن كان صدمة مزلزلة له، لم يتوقعها حتى في اتعس احلامه.
_ مش وقت تفكير، اللي حصل حصل، خلينا في دلوقتي.. قولي انك هتسيب الشغل.
نظر له بغضب لون خضرواتيهِ:
_ اسيبه! لو كنت عاوزني اسيبه كنت واجهتني قبل ما تعرفها حقيقتي وتبعدها عني.. اسيبه بعد ما نفذت عقابك فيا قبل حتى ما تواجهني!! ده انتَ حتى ياخي مكنتش هتواجهني لولا إني وصلت لليلى وهي اللي عرفتني.. كنت هتفضل مستغفلني وعمال تضرب فيا من تحت لتحت من غير ما تفكر تواجهني..
_ خوفت عليها.
ابتسم هازئًا بعدما وجده يتخطى جزئية عدم مواجهته:
_ حد قالك اني كنت هعذبها ولا كنت هشغلها معايا!
_كنت هتخدعها، وفجأة تكتشف ان جوزها او خطيبها تاجر سلاح.
_ كان هيبقى وقتها ليها حرية الاختيار يا تكمل معايا يا تسبني، محدش طلب منك تكون فاعل خير، زي ما محدش طلب منك تكون مُضحي.. انتَ شوفت ان ليلى فضلت كام شهر تحاول تقرب مني وانا كنت قافل ورافض أي محاولة منها، ليه ملفتش نظري عشان انسحب من الصورة؟ انا وانتَ قريبين كفاية اوي انك كنت تصارحني خصوصا وانت عارف انها مكانتش في بالي لسه.. بس انتَ اخترت تعيش دور الضحية.
ضحك بألم والتمعت الدموع في عينيهِ وهو يقول:
_ عشان كنت مفضلك عليا، كالعاده... كنت بسبلك فرصة تحبها عشان تنسى وجع شدوى اللي انا عشته معاك، ضحيت بحبي عشانك زي ما بضحي بكل حاجه عشانك، وانتَ دلوقتي رافض تضحي بشغلك الشمال عشاني وعشان العيلة كلها.
تحرك بعيدًا عنده وهو يقول بصرامة يعرفها:
_ متفتحش معايا الموضوع ده تاني.. عشان منخسرش بعض، كفاية الحاجز اللي اتكون بينا بسبب عملتك.
وكنوع من انواع التهديد ليس إلا، كحل أخير.. أخرج "مازن" مسدسه وسدده لرأسه وهو يقول:
_ يبقى قدامك حل من اتنين.. يا تسيب شغلك و توعدني دلوقتي يا هتخسرني.
التف "شاهين" ليرى المنظر الذي قلب الدنيا فوق رأسه، لم يستطع أن يشهق الهواء الذي زفره، أو يرمش بعينه التي جحظت كأنها ستخرج من مكانها، فقط وجد نفسه يردد بلا توقف وهو يمد ذراعه له:
_ لأ لأ... بطل جنان، انتَ بتعمل ايه نزل الزفت ده.. نزله بقولك..
صرخ بالأخيرة لكنه لم يتحرك وهو ينظر له بقوة، ويخبره:
_ عاوزني انزله اوعدني انك تبعد عن الشغل ده.
كلاهما يعرف أن وعد "شاهين" لا يُخنث، وعده لا يخلفه ابدًا تحت أي ظرف ومهما كان الوضع، لذا هو واثق أنه إن وعده سيصدق..
_ بطل جنان!
ابتسم وكأنه مجذوب:
_ طب ده حتى الفرق بينا، اني مجنون ومتهور، وانتَ العاقل الرزين.
مال برأسه بعيدًا وهو يسّب "مازن" من بين أسنانه هو يدرك ما يحاول فعله لكن في نفس الوقت يخشى تهوره وجنانه الذي يعرفه خير المعرفة، يخشى أن يؤذي نفسه..
وعلى غرة انقض عليهِ لتبدأ مناوشة خطيرة بينهما، الأول يريد أن يأخذ السلاح، والثاني يريد أن يظل محتفظ به حتى يحقق غايته..
وبين هذا وذاك... ضغط "مازن" على الزناد دون قصد، في نفس الوقت الذي فُتح فيه باب الغرفة لتخرج رصاصة غادرة في اتجاه الضيف المفاجئ...
اللايك والكومنت قبل القراءة فضلاً💜💜💜
الفصل الثاني من الجزء الثاني
فراشة في سكّ العقرب (حب أعمى)
"الحقيقة أن الأفعال البسيطة هي ما تُغذي مشاعرنا السيئة التي تتسرب لداخلنا لتحدث الكره والحقد، وتبني ألوفًا من الحواجز.. تقطع علاقات وتفرق أحبة، ومع تكرار المواقف يصبح الصديق عدو، والحبيب غريب مكروه، حتى وإن كانت تلك الأفعال غير مقصودة"
والزائر لم يكن سوى والد مازن" ممدوح" الذي سمع صوتهما العالي من الخارج فقرر الدخول لفهم ما يحدث، فاخترقته رصاصة طائشة أسقطته أرضًا..
صراخ وربكة وصدمة وضجيج في الوسط حتى وصل الجميع للمستشفى القريبة لحد ما..
وهناك وقفت" نادية" تصرخ بولديها من بين بكائها:
_ أنا عاوزه افهم ايه اللي حصل؟ ايه المسدس ده وازاي الرصاصة جت في ممدوح؟
اعتدل "شاهين" في وقفته بعدما كان مستندًا على الحائط خلفه وقال محاولاً اخفاء الحقيقة:
_ كان مازن بينضف سلاحه و...
اتسعت عيناها وهي توجه نظرها لمازن الذي ينظر لباب الغرفة التي اختفى فيها والده ونظراته تائهة، يخشى فقده ويخشى أن يكون بتهوره قد تسبب في موته فيحمل ذنبًا سيكويه طوال حياته..
_ جبت المسدس ده منين يا مازن؟ وجايبه ليه اصلا بتعمل بيه ايه؟
نظر لها معاتبًا:
_ معتقدش ده وقته.. احنا حتى لسه مطمناش على بابا.
وبعد انتهاء جملته خرج الطبيب ليندفعوا ناحيته بلهفة قلقة فيخبرهم انه بخير وان الرصاصة ولحسن الحظ كانت بعيدة عن القلب بعدة سنتيمترات، وأنها مسألة وقت وسيتم نقله من غرفة العناية لغرفة عادية بعد التأكد من مؤشراته الحيوية..
وبقى الوضع على أشده بين الجميع، نورهان التي التصقت بشاهين تبكي خشية فقد والدها وهول المنظر الذي رأته ووالدها غارق في دمائه، وشاهين الذي يحتضن شقيقته يدعمها ويهدأ من روعها وفي الوقت ذاته يلقي نظرة على والدته التي اتخذت الصمت والابتعاد عنهم عقابًا على الكارثة التي حدثت.. عقاب مؤقت! وأما عن الذي أصبح يقف مقابلاً له الآن لم ينفك عن رميه بنطرات اتهامية واضحة أثارت غيظه وأشعلت نيران غضبه ولا يتمنى الآن سوى أن ينفرد بهِ ليفهم معنى نظراته.
وجاء الانفراد بعد ساعات حين خرج ممدوح من غرفة العناية لغرفة أخرى وسُمح لوالدته وشقيقته بالبقاء بجواره، وحينها قرر "مازن" الانسحاب والعوده إلى المنزل ليبدل ثيابه التي تلطخت ببعض الدماء، وكذلك يجلب ثياب نظيفه لوالدته التي لم يختلف حالها عنه، وحينها استغل شاهين الفرصة وهو يبرر خروجه لحسابات المستشفى ليدفعها..
وأمام المستشفى وقبل أن يفتح "مازن" باب سيارته.
_ استنى يا مازن.
توقف بضجر واضح وهو يلتفت له بنظره يراها شاهين للمرة الأولى، نظرة لا يكمن فيها سوى الكره والشر، اقترب منه متجاهلاً نظرته وسأله بتحفز:
_ بتبصلي كده ليه؟ ونظراتك ليا فوق مش عجباني، كأنك بتتهمني بأني السبب في اللي حصل.
رفع جانب فمه ساخراً وهو يعقب:
_ بتهمك! لا طبعا حاشا لله، وانتَ ذنبك ايه يعني في اللي حصل.
قطب "شاهين" ما بين حاجبيهِ وهو يقول مؤكداً على حديثه رغم علمه بأنه مجرد سخريه:
_ أنا فعلا مليش ذنب في اللي حصل، لا انا اللي جبت المسدس اللي ما اعرفش انتَ جبته منين ولا بيعمل ايه معاك، ولا انا اللي طلعته من جيبي، ولا انا اللي هددت بيه.. ولا حتى انا اللي ضغطت على الزناد، قولي بقى انتَ المسدس ده كان بيعمل معاك ايه؟ انتَ لسه مجرد طالب في الكليه يعني لسه ما استلمتش سلاحك، جبته منين وكان غرضك ايه لما جبته؟ يا ترى كنت ناوي تخلص عليا بيه؟ ولا جايبه مخصوص عشان تهددني وتخليني اعمل اللي في دماغك؟
_ ما يخصكش.
رددها "مازن" بقسوة ونبرة يسمعها منه "شاهين" لأول مره، وكأن اليوم هو يوم تعامل شاهين مع نسخه جديده وغريبه من مازن! تنهد قبل أن يقول متجنبًا الشِجار الذي على وشك الحدوث:
_ عمومًا لما ابوك يفوق هقوله إن الغلط غلطي، وهقوله كمان أن المسدس بتاعي جايبه عشان أؤمن نفسي بيه، هو عارف كويس إن احنا في المجال بتاعنا واقعين مع ناس مش سهلين وهيصدقني ما تقلقش هبعدك انتَ عن الحوار ده.
ضحك "مازن" ضحكة تهكميه ساخرة تخفي خلفها وجعًا مؤلمًا وهو يقول:
_ هتقوله كده عشان عارف إنك لما تقوله ان الغلط غلطك انتَ الموضوع هيعدي وهيقولك حصل خير حتى لو كان اللي حصل ده كان في موته، لكن لو عرف ان الموضوع أنا طرف فيه هيشيله ليا وهيشوف إني مذنب كنت هموته و مش بعيد يقاطعني فيها.. كالعاده هيقف في صفك حتى لو كنت انتَ غلطان، وحتى لو غلطك كان هيموت بني ادم.
_ انتَ من امتى بتفكر كده؟ انا مستغرب كلامك! مستغرب طريقتك! حاسس إني واقف قدام حد ما اعرفوش، من امتى بتفكر إن ابوك بيفضلني عليك ولا بيعديلي انا غلطي وبيقفلك انتَ على الواحده!؟ ده حتى ابوك انتَ مش ابويا أنا!
قالها "شاهين" بدهشه حقيقيه وهو يشعر أنه لم يعد يفهم الشخص الواقف امامه...
_ في حاجات كتير قوي انتَ مش فاهمها عشان عمرك ما شفتها ولا حسيت بيها، لكن انا بقى فاهمها كويس قوي وملاحظها من زمان بس كنت ساكت عشان كنت شايفك تستحق كل اللي بيتعمل لك، لكن دلوقتي وبعد ما نزلت من نظري انتَ ما تستحقش ربع اللي بيتعمل معاك، ولا تستحق تاخد حق واحد من حقوقي.. ومن النهارده يا شاهين انا مش هسمحلك تيجي على اي حق يخصني.
انهى حديثه وفتح باب سيارته منسحبًا بسرعه من أمامه تحت نظراته المصدومه والمدهوشه من كل ما سمعه منه اليوم...
وإفاقة "ممدوح عمران" واسترداده وعيه كانت جحيم سقط فيه "مازن" الذي لم يشفع له اعتراف شاهين بأن المسدس يخصه وانه من ضغط على الزناد دون قصد، ليتفاجئ الاثنان برد ممدوح وهو يقول:
_ أنا متأكد إنك بتداري عليه يا شاهين، انتَ عمرك ما تكون بالتهور والطيش ده انك تطلع مسدس في مكتبك اللي في بيتك وتتخانق انتَ واخوك عليه، عمرك ما تعملها أنا متأكد ان المسدس ده يخص مازن وهو اللي خرجه وكنت انتَ بتحاول تاخده منه.
وبعد الكثير من القيل والقال، ومحاولة اقناعه بعكس ما توصل له عقله فشلت كل محاولتهم ليخرج مازن عن طور حكمته وهو يفجر الحقيقه في وجه والده:
_ ايوه المسدس بتاعي، وكان معايا بقاله فترة كنت شاريه ومرخصه عشان بحب لما انزل الاجازات اروح اتدرب على الرماية في أماكن بره، والنهارده انا كنت راجع من بره وهو معايا عشان كنت لسه راجع من التدريب، بس يا ترى مش حابب تعرف انا ايه اللي خلاني اطلعه وتحصل الخناقه بيني وبينه عليه؟ من غير ما تتعب نفسك وتسأل عشان انتَ أصلا مش هتهتم تسأل وما هتصدق ترمي اللوم عليا، المشكله اللي حصلت النهارده كانت عشان اكتشفت ان شاهين بيه اللي كلنا شايفينه ملاك ما بيغلطش، وعاقل وذكي وبيزنس مان قد الدنيا، طلع مش بس بيزنس مان ده رئيس عصابه كمان، الباشا بيتاجر في السلاح ولما واجهته حصلت بين الخناقه اللي انتهت باللي حصلك.
والرد كان صادم للجميع حين قال "ممدوح" بعدما تجاوز صدمته:
_ شاهين عارف هو بيعمل ايه كويس، وانا واثق فيه وإن عمره ما يعمل حاجه غلط، اكيد المعلومه اللي وصلتلك دي مش صحيحة.
هز رأسه مبتسمًا بعدم تصديق وهو يقول:
_ مش صحيحة! طب ولو قلتلك انه بنفسه اعترف ليا لا وبيبرر كمان عملته هتقول ايه؟ عندك اهو اسأله.. اسأله!
_ مش محتاج اسأله وما يهمنيش اعرف الإجابه، هو مش صغير هو عارف هو بيعمل ايه كويس مش محتاج حد ينظر عليه، ويا ريت انتَ اللي تعقل وتتحكم في طيشك شويه، اديك شفت أهو كان هيجيب أجلي النهارده لولا ستر ربنا.
وانتهى الأمر...
انتهى بخيبة أمل جديده انضمت لخيبات مازن من أبيه، أبيه الذي لم يقف في صفه ولو مره واحده.. والذي لم يقف في وجه شاهين ولو لمره مماثلة،
أبيه الذي لم يشعر منه ولو لمرة بمشاعر الأبوه أو حتى يلتمس منه موقفًا من مواقف الأب مع ولده، والأمر في مجمله لم ينتهي هنا..
فرد فعل والده أشعلت نيران لم تهدأ في صدر "مازن" والذي وبكل تهور اعترف لوالدته في نفس اليوم بكل شيء عرفه عن شاهين لتنشأ مشاجره كبيرة بين شاهين ووالدته وعلى أثرها تركت "ناديه" المنزل عائده الى منزلها القديم والذي يخص أهلها ومعها مازن ونورهان التي ورغم رغبتها في البقاء مع شاهين ووالدها إلا أن ناديه لم تقبل أن تتركها هناك ومن هنا كان تفرق العائله...
"عودة للآن"
_ أنتَ روحت فين؟
افاق من ذكرياته التي لم ينتهي ألمها لهنا.. بل كان كل هذا مجرد بداية لبوابة جحيم محمل بالألم والفراق والغضب!
_ معاكي.
كلمة بسيطة لكنها هزت دواخلها، وكأنه لا يخبرها أنه معها في الحديث بل معها في الحياة! هكذا كان شعورها حين سمعت الكلمة البسيطة التي لا يقصدها من الأساس، وهذا ما جعلها تتسائل هل أصحبت بائسة لهذه الدرجة! نفضت افكارها الغريبة وهي تقول بتوتر طفيف أثر تفكيرها:
_ أصل ساكت بقالك مدة فكرتك قفلت.
خرج صوته مخالف تمامًا لِمَ كان عليهِ قبل، خرج جامدًا وهادئًا خاليًا من أي مشاعر التمستها منذ قليل:
_ أنا فعلا هقفل عشان تلحقي تكلمي والدتك وتقفلي تليفونك ده تماما وتخفيه في أي مكان محدش يعرف يوصله، ولما تحبي تكلميني طلعيه واتصلي بيا بعد ما تتأكدي انك في أمان ومحدش سامعك.
_ حاضر.
قالتها باحباط بعدما عاد لسابق عهده، الدقائق التي نسيا فيها من هما وما صلتهما ببعض جعلتها تحلق بعيدًا وهي تشعر أنها شخص مهم لديهِ، يشرح له معناته ويشاركه مشاعره واحداث حياته، لكنه سريعًا ما سحب البساط من تحت قدميها ليعيدها للواقع... هو الضابط وهي بائعة الفل تجمعهما مهمة فور انقضائها لن يعرفها في طريق وسينسى انه قابلها من الأساس!
اغلقت معه واتصلت على الفور بوالدتها التي اجابتها بلهفة أم قلبها ينكوي بنيران الخوف على ابنتها، وبعد عدة دقائق كانت تنهي معها المكالمة بدموعها التي تساقطت اشتياقًا لها:
_ ادعيلي يا ماما المهمة دي تخلص على خير وفي أسرع وقت وارجع لحضنك ولبيتنا اللي اكتشفت انه أأمن بكتير من القصر اللي قاعده فيه دلوقتي.
وقالت والدتها من بين بكائها:
_ دعيالك يا بنتي، دعيالك والله في كل صلاة وفي كل قعدة ونومة، ربنا ييسرلك طريقك ويسترها معاكي ويبعد عنك ولاد الحرام يا فُلة يا بنت بطني.. بس متغبيش عني وطمنيني من وقت للتاني.
_ حاضر، هكلمك كل ما ظروفي تسمح.. مع السلامة يا ماما.
_ مع السلامة يا حبيبتي في رعاية الله.
اغلقت المكالمة وبعدها تأكدت من اغلاق الهاتف تمامًا ونهضت تدور في الغرفة تبحث عن مكان مناسب لاخفائه حتى جاء برأسها أن تخفيه في مكان أكثر حساسية الا وهو الدرج المخصص لملابسها الداخلية، رفعت القطع الداخلية بحرص ودسته تحتهم لتشعر بأن المهمة قد تمت كما يجب، واغلقت الدرج عائدة للفراش والقت بنفسها فوقه تنظر للسقف بشرود سابحة في أحداث وأفكار كثيرة.. حديث مازن معها، وحديث نورهان مع شاهين، ثم حديث شاهين معها.. وشعورها تجاه مازن الذي يتعمق كل يوم.. وخوفها من شاهين الذي يزداد بمرور الوقت وبقائها هنا... كل هذه أفكار كانت كفيلة أن تغرقها في النهاية في نومٍ عميقٍ...
*******
صباح اليوم التالي...
شركة العقرب...
دلفت للشركة التي لم تأتيها مُنذُ مدة، بل وحُرمت عليها مُنذُ انفصلت هي ووالدتها ومازن عن شاهين ووالدها.. والدها الذي لطالما وقف في صف "شاهين" حتى بعد تناثر الاقاويل حول متاجرته في السلاح!
وصلت لطابق الإدارة واتجهت فورًا لمكتب "شاهين" لتخبرها السكرتيرة الخاصة بأنه بالداخل ومعه احد اعضاء الإدارة، فدقت فوق الباب ودلفت بعدها بابتسامه واسعة اختفت بالتدريج حين رأت الذي يجلس في مكتب أخيها والذي لم يكن غير "معاذ"..
تقدمت منه ووجها قد اشتعلت به حمرة الخجل على الفور وبالأخص حين لم ترى شقيقها في المكان فقد كان معاذ يجلس بمفرده..
_ صباح الخير..
منذُ انتبه لفتح الباب والتفت ليرى الزائر وطلت هي بطلتها البهية، وقد ارتسمت فوق شفتيهِ ابتسامة ساحرة ومحبة، لا يصدق أنه يراها الآن فلقد كان يفكر فيها للتو وفي حيلة لرؤيتها بما إنها أصبحت في منزل العقرب، لتتحقق أمنيته دون عناء ويجدها أمامه، بمظهرها المرتب البسيط الذي يتكون من بنطال قماش ابيض، وكنزة خضراء حريرية مع حذاء أخضر ذو كعب عالي وزينتها البسيطة جدًا التي تخطف العين وقلبه! وكالعادة تترك لشعرها كامل الحرية، وحين سمع صوتها كان أحب لأذنه من تغريد عصافير الصباح لتتسع ابتسامته أكثر وهو ينهض ويمد كفه ليصافحها:
_ صباح الخير يا نورهان نورتي.
وتصافحا الكفان لتسري كهرباء لذيذة تصل فورًا لقلب كليهما، ولكنها سريعًا ما سحبت كفها بارتباك كبير وهي تنظر حولها بتلجلج:
_ اومال... اومال شاهين فين؟
ابتسم على توترها الواضح الذي يلازمها طول الوقت في وجوده، لكنه يبرر هذا بأنها ليست معتادة على التعامل معه.
_ شاهين في اوضة اللبس بيغير هدومه عشان القهوة وقعت عليه من غير ما ياخد باله.
نظرت لباب غرفة الملابس الصغيرة المغلق والتي حرص شاهين على وجودها تحسبًا لمواقف كهذه، وقالت بقلق:
_ هو كويس طيب؟
طمئنها مبتسمًا:
_ متقلقيش كانت بردت شوية مأذتوش.
تنهدت براحة، ليسألها راغبًا في خلق حديث طويل معها:
_ بس هو لسه جاي من ساعة ليه مجتيش معاه بدل ما تيجي لوحدك.
نظرت له تقول بحلق جاف من كثرة توترها في وجوده:
_ انا روحت شغلي بدري، بس قعدت ساعتين ومشيت لأن هنبدأ في الجرد السنوي النهاردة من بعد العصر لبليل متأخر، فقولت اعدي على شاهين بما إن الشركة هنا في طريقي.
عقب بعدم رضا:
_ نفسي افهم ازاي عندكوا شركة زي دي وتشتغلي في مكان بره، الأولى يكون مكانك هنا.
اجابته برقة:
_ بس أنا حابه شغل البنوك بلاقي نفسي فيه عن الشركات.
وأمام رقتها ابتسم يقول:
- أكيد أهم حاجه راحتك.
_ نورهان!!
رددها "شاهين" بتعجب بعد أن خرج من الغرفة ووجدها أمامه، ابتسمت وهي تقول:
_خرجت من شغلي بدري قولت اجي اشرب معاك فنجان قهوة لو فاضي.
اقترب منها يبتسم في حنو:
_ ولو مش فاضي يا حبيبتي افضالك، كفاية انك نورتيني.
تنحنح "معاذ" في حرج وهو يقول مقررًا الانسحاب:
_ طيب هسيبكوا على راحتكوا واروح مكتبي.
رفض "شاهين" انسحابه وهو يقول:
_ لا استنى اصلاً هطلب فطار اعتقد كلنا لسه مفطرناش.
_ مانتَ عارف انا زيك مبفطرش غير بعد ما اصحى بكذا ساعة.
نظر "شاهين" في ساعته وهو يقول:
_ ماهو يدوب كده الساعة داخله على ١١ اهي.. تعالوا اقعدوا.
قالها وهو يتجه للاريكة والكرسيان القابعان في جانب الغرفة، ليجلس هو ونورهان فوق الاريكة ويجاورهما معاذ على أحد الكراسي..
نظر لنورهان بعدما طلب الافطار لهم وهو يقول بحنان:
_ الشركة نورت.. بقالك سنين مدخلتيهاش.
نظرت حولها تستطلع المكان وهي تقول بحنين:
_ بس متغيرتش كتير، اخر مرة دخلتها كانت مع ماما الله يرحمها لما كانت جيالك عشان تكلم بابا انه ميدخلش مازن كلية الشرطة.
التمعت عيني "شاهين" بحنين وشوق لوالدته الغائبة عن الدنيا، وانتبه لصوت "معاذ" يسأل باستغراب:
_ معقول طنط نادية كانت رافضة دخول مازن الشرطة؟
ابتسم "شاهين" بشوق يقول:
_ رافضة بس! دي جننتنا لحد ما وافقت او اتقبلت انه يدخلها، ماما كانت خايفة على مازن اوي و مرعوبة عليه من السلك ده، عارضت كتير واحنا حاولنا نقنعها كتير اوي لحد ما في الآخر رضيت.
_ ماما كانت بتحبنا كلنا وبتخاف علينا من الهوا، بس شاهين كان له معزة خاصة.
قالتها "نورهان" بدون قصد، لتنقلب ملامح وجه "شاهين" ويظهر عليها الضيق الشديد وهو يقول بنبرة حادة:
_ مكانش ليا معزة خاصة ولا زفت، انتوا بس اللي كنتوا شايفين الوضع كده، لكن الحقيقة امكوا كانت بتعاملني زي ما بتعاملكوا وعمرها ما فرقت بينا.
فوجئت "نورهان" من حدة رده وصمتت بوجه مصدوم وحزين من طريقته، فهي لم تقول شيء سيء حتى وإن كانت والدته تفضله بطريقة ما وتحمل له حبًا زائدًا ما المشكلة في هذا!!؟
_ اهدي يا شاهين طيب، نورهان مقالتش حاجه غلط يعني!
قالها "معاذ" محاولاً تهدئة الوضع، لينهض "شاهين" واقفًا والتف حول الاريكة ليصبح مواجهًا للحائط الزجاجي المطل على الخارج وقال بخنقة:
_ جزء كبير من مشاكلي مع اخوها كانت بسبب كده، انه شايفني واخد حب واهتمام اكبر من امي وابوه.
اغضبها عدم رغبته في ذكر اسمه فقالت بعصبية طفيفة:
_ اخويا ده هو نفسه اخوك.. بعدين مازن عمره ما فكر كده ولا شال شيء جواه من الناحية دي، واه يا شاهين ماما كانت بتفضلك عنا وبتحبك اكتر مننا واحنا عمرنا ما زعلنا من كده لأن احنا كمان بنحبك وبنحترمك.
التف لها بدهشة كبيرة لم تظهر على ملامحه كالعادة لكنها كانت بداخله، حتى هي!! يشعر انه يقف امام مازن، نفس الحديث، ونفس التفكير، هل ستنقلب هي الأخرى عليه يومًا بسبب تفكيرهم العقيم هذا!
_ وأنا بقولك مازن شايف اللي بتقوليه ده بالضبط، وده كان سبب كبير اوي في مشاكلنا..
اعترض "معاذ" متدخلاً:
_ اسمحلي يا شاهين، مازن فعلا حتى لو شايف ده بس مكانش سبب في مشاكلكوا ابدًا.. لان كل المشاكل اللي بينك وبين مازن ما ظهرتش غير بعد الحوار اللي وصله عن إنك بتاجر في السلاح والكلام اللي بيقوله ده.. لو المشاكل اللي ما بينك وبينه بسبب أن والدتك بتحبك اكتر ولا مفضلاك عنه كانت هتكون المشاكل دي بادئه من قبل ما هو يقول انك بتاجر في السلاح والحوارات دي.
ابتسم ساخرًا يقول بألم خفي:
_ كلامك ده انيل.. لأن كلامك معناه انه طول الوقت كان بيخدعني، كان شايل جواه من التفضيل اللي شايفه من امه ومن ابوه ليا لكن كان بيتعامل معايا عادي.. كان بيتعامل معايا كويس قوي.. لكن لما حصل موقف خرج كل اللي جواه وقتها انا اتصدمت فيه، ومش فاهم ازاي كان جواه كل ده وفي نفس الوقت كان بيتعامل معايا بالطريقه اللي كان بيتعامل بيها.
اقتربت "نورهان" منه وهي تقول بتوضيح:
_ عشان انا كمان شايفه كده شايفه ان ماما كانت بتحبك اكتر وبتهتم بيك اكتر وبتخاف عليك اكتر.. لكن عمري ما كرهتك وعمر ده ما بنى حاجز جوايا ليك، شاهين انتَ لو مخلف وعندك ولد وبنت وشايف ان بنتك بتحبك اكتر من ابنك عمرك ما هتكره ابنك او هتحس بحاجز بينكوا، دي بتكون مجرد ملاحظه انك عارف من جواك ان بنتك بتحبك اكتر من تصرفاتها من مشاعرها اللي بتظهرها، لكن حبك لابنك هيفضل هو هو وعمره ما هيقل.
أراد الهروب من الحديث في الموضوع، وهروب شاهين لا يعني سوى شيء واحد انه اقتنع....او بدأ يقتنع، فقال بهدوء وهو يتجه لهم:
_ تشربوا قهوة مع الفطار ولا بعده!؟
نظر "نورهان" و "معاذ" لبعضهما تلقائيًا كأنهما يعلنان انتصارهما في اقناعه وهما خير من يعرفه، ولكن ما لبثت ان اشاحت نورهان ببصرها بعيدًا بارتباك حين وجدت معاذ يبتسم لها.
*******
نزلت درجات السلم بسرعة ليقابلها هدوء تام في اجواء الفيلا، زفرت بضيق وهي تنظر للساعة المعلقة لم تلحق موعد الإفطار، دلفت للمطبخ مبتسمة والقت التحية ليرد الجميع عليها، فقالت لصفاء بعتاب مزيف:
_ كده يا صفاء ماتصحنيش على الفطار.
ردت "صفاء" ببرود كاد أن يجلطها:
_ مش حضرتك من كام يوم لما شدوى هانم اتأخرت على الفطار منعتيني اصحيها وقولتي هي عارفه الميعاد لو عاوزه تنزل كانت نزلت.
ضغطت على أسنانها بغيظ حتى كادت تكسرهم، هي ترد الموقف لها! هل هي من حلفاء تلك الحيزبونه شدوى!
_ تمام، اعمليلي فطار بقى.
قالتها بحدة وغضب وهي تلتفت لتخرج لتتوقف على جملة "صفاء" :
_ بس القواعد هنا في الفيلا إن اللي الفطار بيعديه بيستنى ميعاد الغدا.
التفت لها قاطبة ما بين حاجبيها بشدة وهي تخرج عن طور هدوئها:
_ ليه احنا في مدرسة يا ابلة!
_ دي القواعد يا هانم ومن ايام الباشا الكبير كمان.
ضربت كف بآخر وهي تتلفت حولها كأنها تريد أن تلتقط شيء وتكسره فوق رأس الوقفة أمامها، لكنها على الاحرى لم تجد!
_ عدي اليوم واعملي الفطار لأحسن انا دلوقتي العفاريت كلها بتتنطط في وش أمي.
_ يا هانم انا هنا بنفذ القواعد وعلى أي حد... حتى الباشا الصغير تميم بيه، بصحيه في ميعاد عشان يفطر في ميعاده.
نظرت لها نظرة حارقة قبل أن تقول بتوعد:
_ ماشي....انا بقى هكسرلك القواعد دي خالص... قال قواعد قال.. اتصليلي بشاهين فورا.
قالتها بغضب جم بعدما شعرت بالاحراج من وقوف صفاء في وجهها امام الفتيات العاملات بالمطبخ، ولكن قبل أن تفعل صفاء وتخرج هاتفها سمعت من تقول:
_ متتصليش بحد.. والقواعد مش هتتغير واللي مش عاجبه يخبط راسه في الحيط.
هزت رأسها بعصبية وهي تسمع صوت "شدوى" من خلفها، لتلتفت لها بغضب:
_ انتِ بتدخلي ليه أصلا! محدش طلب رأيك.
ضرب الغضب وجه شدوى وهي تقف ندًا لها لتثبت لها من هنا له الكلمة الأولى والأخيرة:
_ أنا هنا صاحبة البيت وكلمتي اللي تمشي وادخل في أي حاجه تحصل هنا.. انتِ اللي ضيفة وضيفة بايخة وتقيلة اوي وياريت لو تخلي عندك دم وتخرجي من بيتي لانك مش مرحب بيكي.
واستمعت "فيروز" لتهامس الفتيات في المطبخ حول ما يحدث، فاتقدت نيران غضبها أكثر وأكثر لتصرخ بوجه شدوى:
_ انا خطيبة شاهين و....
قاطعتها "شدوى" وهي تسخر منها وتتهمها بمكر خفي:
_ ومن امتى والمخطوبة بتروح تسكن في بيت خطيبها؟ إلا بقى لو انتوا مخطوبين اه بس العلاقة بينكوا في حكم المتجوزين.. وواخدين على قعدتكوا سوا في بيت واحد.
جحظت عيني "فيروز" بصدمة وشعرت بدلو ماء بارد صُب فوقها، وارتفعت الهمسات والشهقات من الواقفات في المكان، التفت لتنظر للفتيات لتجد أعينهن مسلطة عليها وبها اتهامات لا تُقبل، عادت تنظر ل "شدوى" لتجدها تبتسم بخبث وانتصار، وفي هذه اللحظة الحريق الذي شب بفيروز كان أكبر بكثير من أن تتحكم بهِ او في رد فعلها، الذي خرج على هيئة صفعة مدوية لطمت بها خد "شدوى"... ولم تعطيها فرصة للرد أو الدفاع بل انقضت عليها تكيل لها الضربات واللكمات وكأنها تخرج بها همومها بأكملها تحت محاولة الجميع في الفصل بينهم وتعالي صرخات شدوى المتألمة...
الفصل الثالث من الجزء الثاني
فراشة في سكّ العقرب
حب أعمى
ناهد خالد
"الماضي.. كلمة انتهى زمن وقوعها ولكن أثره لا ينتهي فهو مستمر معنا في حاضرنا ومستقبلنا، الماضي ما هو إلا بداية لمستقبل إما أن يكون مشرقًا أو مظلمًا، وإن كان الماضي مُحملاً بأسرار بقت هكذا لغلق أبواب الجحيم، فحتمًا في المستقبل ستُفتح تلك الأبواب على مصرعيها مع ظهور الحقائق والجميع سيدلف منها راغبًا أو مرغمًا"
في شركة العقرب...
بعد أن انتهوا من تناول الإفطار وشرب القهوة, انصرف "معاذ" لمكتبه لمتابعة أعماله بعد أن قضى وقتًا هو الأجمل والأمتع بالنسبة له فأي شيء برفقتها يكن مميزًا ولا يمكن نسيانه, وبقت "نورهان" جالسه مع أخيها في مكتبه يتناولون أطراف بعض الأحاديث الغير مهمة, حتى تعالى رنين هاتف "شاهين" لينظر لشاشته ويرى رقمًا مميزًا, فانسحب بهدوء من الأجواء وهو يخبرها بأنها مكالمة عمل مهمة, وحين نأى بنفسه في ركن من أركان المكتب البعيد عن مسامع الجالسة, رد ليستمع لصوت محدثه:
- ازيك يا شاهين؟
رد "شاهين" بهدوء:
- تمام يا نصر باشا, ازيك انتَ؟
أجابه المدعو "نصر" وهو يقول:
- محتاجك... لازم تيجيلي عشان في حاجة مهمة محتاجين نتكلم فيها تخص الشغل ما ينفعش في التليفون.
سأله وهو يمسد مؤخرة عنقه بكفه:
- انتَ لسه في لندن ولا نزلت مصر؟
- لا نزلت مصر بقالي كذا يوم, هنتظرك بكره الساعه 12:00 بالليل.
- تمام.
قالها "شاهين" وأنهى المكالمة ليتجه بعدها لمكتبه وهو يقول محدثًا "نورهان":
-عندي اجتماع بعد نص ساعة هجهز أوراقه وهكون معاكي.
قالت مبتسمة:
- تمام وأول ما الميعاد يجي هرجع أنا البيت عشان ما اشغلكش.
انشغل لبعض الوقت في ترتيب أوراقه حتى توقف فجأة وهو يقول ناظرًا إليها:
- واضح كده إننا هنرجع البيت دلوقتي.
سألته مستغربه:
- ليه؟
قال وهو يلتقط مفتاح سيارته وسترته متجهًا لها:
- امبارح كنت براجع الملف في مكتبي في البيت ومشيت النهارده الصبح من غير ماخده.
وقفت وهي تقول مقترحة:
- طيب ليه ترجع مخصوص البيت! أنا هروح وابعتهولك مع حد من هناك.
- المشكلة إني حطيته في الخزنة.
هزت رأسها متفهمه وهي تقول بمرح:
- اه وطبعًا الخزنة دي شيء محظور ممنوع اللمس حتى عليا.
ابتسم ابتسامة صغيرة وهو يقول بعد أن أمال رأسه يمينًا:
- طبعًا, انتِ عارفاني ما بثقش في حد, وأكيد الخزنة فيها حاجات كتير قوي مهمة, وده مش شك فيكي انتِ اكيد فاهمة, بس أنا بعتبر الخزنة دي شيء مقدس محدش ينفع يلمسه غيري, يلا خليني اوصلك بالمرة واخد الملف وارجع قبل ميعاد الميتنج لأنه مهم جدًا.
اومأت موافقة وهي تسير معه في طريقهما للعودة إلى المنزل.
**********
وهناك....
تحديدًا في فيلا العقرب...
كان الشجار ما زال على أشده, الضربات لا تتوقف, ولا الصرخات كذلك, لم يقدر أيًا من الفتيات على جذب "فيروز" بعيدًا عن "شدوى" التي ما زالت مسطحه ارضًا, وما انقذها من تحت يدي فيروز هو الطنين الشديد الذي ضرب اذنها من كثره صراخ الأخيرة المرتفع, لتشعر بصوتها كتيار هواء شديد السخونة يخترق اذنها ثم رأسها فينشب بها ما يشبه الحريق, وهذا ما جعلها تنهض عنها وهي تمسك اذنها بكفها بقوة محاولة إيقاف الصفير المزعج الذي رن بها, ساعدت الفتيات شدوى و نهضت بألم, لتقول "صفاء" رافضه كل ما حدث:
- اعذروني على تدخلي, بس اللي بيحصل ده ما ينفعش يحصل, المشهد اللي حصل دلوقتي ده مش تصرفات هوانم ابدًا.
عقبت "شدوى" بألم وغيظ يملأها:
- وده إن دل على شيء فيدل على إنها بعيدة خالص عن الهوانم, هانم مين دي بيئة, انا عارفه شاهين جابها من أنهي داهيه!
أنزلت "فيروز" كفها من فوق اذنها بعد أن هدأ الصفير لتعقب بغضب:
- هانم غصب عن عينك, ولا انتِ فاكره عشان هانم زي ما بتقولي المفروض اسيبك تقلي ادبك عليا وتغلطي في حقي وفي شرفي واسكت؟
تدخلت "صفاء" في الموضوع وهي تقول:
- اسمحيلي يا فيروز هانم, كان ممكن ترد عليها لكن موضوع الضرب ده ما ينفعش ابدًا... شاهين بيه لو عرف اللي حصل مش هيعدي على خير لا ليكي ولا ليها, هو ما بيحبش التسيب ويحب دايمًا اللي موجود في بيته يحترمه ويحترم وجوده ما اعتقدش انك عملتي ده لما مديتي ايدك على شدوى هانم.
رفعت حاجبها باستنكار وهي تعقب باستهزاء:
-صدقي بالله أنا من الأول كنت شاكه فيكي إنك من حلفائها, بس دلوقتي اتأكدت, انتِ مالك يا ست انتِ تدخلي ليه اصلاً ما بينا؟ طب هي غلطت فيا وانا برد عليها غلطها انتِ بقى مالك؟
ظهر الغضب على وجه "صفاء" وهي ترد بهدوء مخالف تمامًا عن الغضب الذي تمكن منها:
- انا هنا مش مسؤوله الخدم بس, أنا هنا مسؤوله عن كل حاجه بتحصل في البيت في غياب شاهين بيه.
اقتربت منها "فيروز" خطوة تدفعها في كتفها برفق وهي تقول بحدة:
- طب ريحي انتِ بس كده عشان أنا اللي يجيب سرتي بحاجة وحشة اقطع لسانه مش بس اضربه, ولسه حسابي معاها ما خلصش.
نظرت لشدوى التي ترتب شعرها بوجع, ف" فيروز" لم تغفل أن تغلغل اصابعها في شعرها وتجذبه من جذوره بعنف اثناء ضربها لها, نظرت لها متحفزه وهي تقول:
- بصي يا شدوى هانم على رأي صفاء,
والقت لصفاء نظرة ساخرة ثم أكملت:
- انا قعادي هنا مش برغبتي دي برغبه شاهين, والأسباب ما تخصكيش إني احكيهالك طبعًا, بس هي بعيده تمامًا عن شغل الرخص اللي انتِ فكرتي فيه وبما إن قعدتي هنا ممكن تطول وشكلنا قاعدين في وش بعض حبه حلوين, فأيه رأيك لو نتفق اننا نعتبر نفسنا مش شايفين بعض اصلاً! يعني انتِ اعتبري نفسك مش شايفاني وانا هعتبرك هوا, لا تقوليلي صباح الخير ولا اقولك صباح النور, وكل واحد مننا يبقى في حاله ايه رأيك؟
ظهر الاستهزاء جليًا على وجه "شدوى" التي قالت رافضة الاقتراح:
- كل واحد مننا في حاله! ده بيتي يا ماما لو انتِ مش واخده بالك! يعني ما اقدرش اعتبر شخص موجود في بيتي كأنه مش موجود, لأن اللي موجود في بيتي لازم يحترمني ويفهم حدوده كويس قوي مش سايبه هي.
زفرت "فيروز" أنفاسها بقوة ثم قالت وهي تهز رأسها بأسف مصطنع:
- واضح كده ان احنا مش هنتفق, بس يعني انتِ عاجبك إني كل شويه اجيبك من شعرك قدام الناس, أصل أنا فيا عيب نسيت اقولهولك....
رفعت "شدوى" حاجبها باستهجان في انتظارها للتكملة, لتكمل فيروز بضيق اتقنت تمثيله:
- اني دايمًا ايدي سابقه لساني, ما بعرفش اتحكم فيها اعمل ايه طيب! اول ما بزعل والادرينالين يرتفع عندي تلاقي ايدي راحت ممدوده على اللي قدامي على طول واطول اللي اطوله بقى.
ضربت "شدوى" الأرض بكعب حذائها العالي ليصدح رنينه في الأرجاء وهي تقول بقوة وعنفوان:
- لو كنتي فاكره إنك تقدري تمدي ايدك عليا تاني تبقي بتحلمي, ايدك دي لو لمستني تاني انا هقطعهالك.
ابتسمت "فيروز" باستفزاز مرعب وهي تهز رأسها بمرح وتقول:
- طب تيجي نجرب؟
وقبل أن تجيب "شدوى" اقتربت "مستكة" من "فيروز" تهمس لها في اذنها:
- لمي الدورعشان الموضوع ما يتقلبش عليكِ انتِ ما تعرفيش رد فعل شاهين هيبقى ايه لما يرجع, هيبقى شكلك وحش قوي لو حط عليكِ قدامهم, ما تنسيش انها في الاخر مراته وام ابنه وصاحبة البيت فعلًا.
اقتنعت "فيروز" بحديث "مستكة" وشعرت بالقلق من رد فعل "شاهين" حين يعلم بكل ما حدث, فهو ورغم انه اعطاها تصريح غير مباشر من قبل بأنه لن يتدخل في اي شيء يحدث بينها وبين شدوى, لكن كما قالت مستكة هي في الأخير زوجته وأم ابنه, ولن يسمح باهانتها من أيًا من كان, لذا حاولت انهاء الامر وهي تقول عمومًا:
- انا المرادي هسامح على رأي المثل ما يسامح الا اللي قلبه كبير, وانا قلبي كبير قوي ودي تاني غلطة بتحصل هعديهالك, فاكره الغلطة الأولى لما هنتيني في أول مرة شفتك فيها وقلتي إني مش من النوع اللي شاهين بيفضله أو ممكن يختاره, بس خدي بالك فاضلك غلطة لو حصلت بعدها أنا مش مسؤوله عن اللي هيحصل.
نظرات "لصفاء" وهي تقول لها:
- وانتِ ياللي داخله توعظي ما بينا وتنصحينا, كل الحوار ده بسببك انتِ لو كنتِ من الأول عملتِ الفطار زي ما قلتلك ما كانش كل ده حصل, ويا ريت في الاخر بقى تحضريلي الفطار لأحسن انا بتلكك امسك في أي حد تاني, زي ما قلتلك ايدي أطول من لساني.
قالتها وهي تنسحب من أمامهم, وانسحبت الفتيات لداخل المطبخ بعد ان اشارت لهم "صفاء"...
كانت تتجه للسلم للصعود لغرفتها لتتوقف فجأة شاهقة حين شعرت بكف يقبض على خصلات شعرها بقوه كادت تقلعها!
بعد أن انهت "فيروز" حديثها المستفز والمثير لأعصاب "شدوى" التي تقف وبداخلها بركانٍ مشتعلٍ واتجهت للصعود لأعلى, لم تستطع "شدوى" منع نفسها من اخذ حقها وحق إهانتها أمام الجميع, فإن سامحت "فيروز" في حقها كما ادعت فهي لن تسامح ابدًا في إهانتها التي كانت على مرأى ومسمع من كل من في المنزل, وفجأة اندفعت نحو "فيروز" لتقبض على شعرها بقوه وغيظ واسقطتها ارضًا لتجثو فوقها وهي تبدأ في ضربها كما فعلت الأخرى منذ قليل, عادت الفتيات و"صفاء" من المطبخ على صوت الشِجار مرة أخرى, ولكن صرخت بهم "شدوى" قائلة:
- اللي هيقرب مني هيكون أخر يوم له هنا في البيت.
بالفعل وقفن جميعًا ينظرن لِمَ يحدث دون محاولة لفض النِزاع هذه المرة, ومن بينهن كانت "مستكة" التي كانت تقدم قدم وتأخر أخرى, فوجودها في المنزل سيفيد "فيروز" على أي حال وإن اقتربت وحاولت الفصل بينهما وطُردت من العمل حينها لن يصب هذا في مصلحة "فيروز" بل بالعكس سيؤذيها, فوقفت محلها وهي تقول لنفسها:
- معلش بقى يا فيروز تستحملي العلقه احسن ما تستحملي اللي هيحصل فيكِ من شاهين لو طلعت من البيت وانقطعتي عن التواصل مع مازن بيه.
والغلبة لم تستمر لصالح "شدوى" وقتًا طويلًا وسرعان ما استطاعت "فيروز" أن تسيطر على الوضع لتصبح "شدوى" هي الملامسة للأرض و"فيروز" فوقها وعادت تكيل لها الضربات مرة أخرى, لكن هذه المرة بقوة أكبر, لتهمس بداخلها مستهزئه بشدوى:
-فاكره إنك هتعرفي تغلبي واحده بنت شارع! ده انا الخناقات دي ياما صبحت ومسيت بيها ناس.
وبالفعل كانت "فيروز" تعرف كيف تتفادى الضربة وكيف تردها في الوقت نفسه بأخرى أشد..
وبالخارج اصطفت سيارة "شاهين" الذي وصل للمنزل ودلف هو و"نورهان" للداخل سريعًا حين استمعا لصوت صراخ عالي وصل لهما من قبل أن يصعدا درجات السلم الخارجي, ركضت إحدى الفتيات تفتح الباب سريعًا حين سمعت صوت اصطفاف سيارة بالخارج, ليدلف للداخل "شاهين" وهو يسير بحركة سريعة وسألها بغضب:
- ايه اللي بيحصل جوه؟
لكنها وقبل أن تجيب حتى كان قد دلف للداخل تتبعه "نورهان" بخطوات سريعة اشبه للركض, وحين اقتربا من السلم الداخلي للفيلا كان المشهد واضحًا تمامًا, ولكن حينها كانت "فيروز" تضع كفها على فم "شدوى" بقوة تمنعها من الصراخ, وكلاً من يرى الوضع ظنوا أنها تحاول خنقها, ولكنها في الحقيقة كانت تكتم صوتها الصارخ الذي يثير إزعاجها ويُحدث طنينًا قويًا بأذنيها ورأسها, اقترب "شاهين" وهو يصرخ بالواقفات:
- انتوا واقفين تتفرجوا.
وفي اللحظة التالية كان يجذب "فيروز" من ذراعها بقوة لتنهض عن "شدوى" التي علىَ صوت صراخها فور رفع كف "فيروز" عن فمها, ركضت "نورهان" ل"شدوى" تساعدها في الوقوف والتي كانت في حالة مزرية, شعرها مشعث ووجهها بهِ خدوش تركت أثرًا واضحًا وشفتيها تنزف دمًا, ليسأل "شاهين" والغضب مسيطر على ملامح وجهه:
- انا عاوز افهم حالاً ايه اللي حصل؟ ايه المشهد اللي انا شفته ده؟ انتوا في بيتي ولا في الشارع!
وهنا انطلقت "شدوى" في بكاء وشكاء لم يتوقف ولم ينقطع وهي تقول ما فعلته فيروز وما لم تفعله, وتضيف نكهات للموضوع بأن "فيروز" لم تحترم المكان الموجودة بهِ ولم تحترم صاحبه, وتداخل معها صوت "نورهان" وهي تحاول أن تهدئ من صراخها بين كل جملة وأخرى وتلقي لومًا على "فيروز" مبررة أنه مهما حدث لا يحق لها أن تستبيح ضرب الأخرى, و تعالى صوت "شاهين" الغاضب وهو ينهر جميع الواقفات لتخاذلهم عن التدخل وفض النِزاع, وفجأة أصبحت الأصوات متداخله, بكاء شدوى بصوت مزعج... محاولة نورهان أن تهدئها... وصوت صراخ شاهين في الخادمات.... ومحاولتهن للتبرير... بين كل هذا علىَ صوت الطنين بأذن فيروز لدرجة شعرت وكأن أحدهم يطرق رأسها بمطرقة, فعلى صوت تنفسها وظلت تحرك رأسها يمينًا ويسارًا كشخص مجذوب قبل أن تصرخ فجأة:
-بــــــس... صوتكم, كفــــــــاية.
وبعد كلمتها الأخيرة ورغم أن الجميع صمت ينظر لها بتعجب واستغراب, كانت تسقط فاقدة للوعي بعد أن فشلت في تحمل الألم الذي أصابها, ركض "شاهين" إليها ليلتقطها من بين ايدي "مستكة" والتي كانت الأقرب لها, فاسندها على صدره وهو يحاول إفاقتها ولا يعلم تحديدًا لِمَ فقدت وعيها! ولكن كل المحاولات بائت بالفشل, ليحملها على ذراعيهِ ويصعد بها بعد أن أخبرهم أن يطلبوا حضور الطبيب.
**********
وبمكتب مازن في قسم الشرطة...
جلس مقابلاً لصديقه "أمجد" الذي سأله:
- انا نفسي افهم انتَ هتاخد ايه من كل اللي بتعمله ده؟ يعني نهاية الموضوع ده ايه؟ حتى لو البنت دي قدرة تخلي شاهين يعمل كل اللي انتَ بتخطط له ايه اللي هيحصل بعد كده؟ ما كده شاهين هيغير باسورد الخزنة وهيديها الورق اللي هو عاوز يوصله لك مش الورق اللي انتَ عاوزه!
هز رأسه مؤكدًا على حديث صديقه وهو يقول:
- عارف عشان كده دلوقتي بحاول اخلي فيروز تقرب من شاهين.
نظر له صديقه بعد فهم وهو يسأله بحذر:
- يعني ايه تقرب منه؟
قال وهو ينهض ليصبح أمامه مستندًا على المكتب بجانبه:
- يعني زي ما انتَ فهمتها.
رفع "أمجد" حاجبه غير مقتنعًا بالفكرة وهو يسأله:
- اه طيب ولو قربت منه ايه اللي هيحصل؟
- لو قربت منه شاهين هيثق فيها جدًا وخصوصًا انها من أول محطة باعتني له و قالت له انها متفقه معايا وإن كل ده حوار عامله عليه, فأصلاً شاهين دلوقتي بيثق فيها أو بمعنى أصح في خوفها منه بس بنسبة قليلة قوي, انا بقى عاوز النسبة دي تعلى قوي, كل ما تعلى كل ما فيروز تعرف تجيبلي اللي انا عاوزه, وبيني وبينك حوار الخطوبة ده على هوايا ولصالحي, ويا ريت شاهين يكمل فيه.
هز "أمجد" رأسه شاعرًا بأنه لم يفهم الأمر كاملاً:
- انا ما بقتش فاهمك! في الأول بعتها عشان تجيب ورق, وبعد شويه عايزها تقرب من شاهين, ويا عالم بعد كده تطلب منها ايه تاني؟ يا ترى هي اصلاً هتستحمل الوضع ده هتفضل مكمله ولا ممكن بقى تبيعك لشاهين بجد؟
هز رأسه بضحكة عالية وهو يقول بثقة غريبة:
- مستحيل تعمل كده.
رفع "أمجد" حاجبه ساخرًا:
- يا سلام ايه الثقة دي؟ ليه يعني مستحيل تعمل كده؟
اقترب منه خطوة وهو يضرب اصبعه في جبهة الآخر:
- عشان يا اذكى اخواتك في سببين يمنعوها, اول حاجه انها فعلاً خايفه مني, وخايفه اني انفذ اللي هددتها بيه قبل كده والبسها قضية لو خلعت و ما جابتليش اللي انا عاوزه.
- والسبب التاني؟
ابتعد عنه واختفت ابتسامته, أصبحت ملامحه غير مفهومة ابدًا وهو يقول بنبرة غريبة:
- عشان حاسسها معجبه بيا, ويمكن اعجابها ده اللي مخليها مصدقاني في كل حاجه بقولها و واثقة فيا.
نهض "أمجد" ليقف أمامه يسأله بغضب حقيقي:
- هو انتَ كمان بتستغل مشاعرها؟ مش كفاية الفيلم اللي عملته عليها والناس اللي بعتهم يسرقوا الفلوس عشان تكمل لعبتك وتجبرها توافق على اللي انتَ عاوزه!
نظر له "مازن" وقد اغضبه حديثه, ليقول نافيًا التهم عن نفسه:
- ايه اللي انتَ بتقوله ده! انا ما استغلتش مشاعرها لأن اصلاً ما كنتش قصدي اخليها تعجب بيا ولا نيله, كل الحكاية اني لاحظت انها معجبه بيا, اعمل ايه بقى؟ في ايدي ايه اعمله؟ انا لا قلتلها اعجبي ولا قلتلها ماتعجبيش ولا حتى عمري بينت لها اني معجب بيها ولا انها اصلاً في دماغي, وموضوع الفلوس ده خلصنا منه من زمان, قولتلك اني وقتها عملت كده لأني حستها هتتراجع ومكانش عندي حل تاني اقنعها بيه انها تكون معايا في المهمة بعد ما شوفتها مناسبة جدًا لها.
نظر له "أمجد" نظرة مبهمة وهو يسأله سؤال غامض:
- وهي فعلاً مش في دماغك؟
طالعه "مازن" لثواني بصمت قبل أن يرد عليهِ مستهزئًا:
- وهينفع اصلاً تكون في دماغي؟ انتَ شايف كده؟
هز "أمجد" رأسه بلا معنى وقال:
- عمومًا هنشوف.
وتركه خارجًا من المكتب ليغرق "مازن" في دوامة من الأفكار التي لا تنتهي..
******
انتهى الطبيب من فحصها ونهض يخرج لشاهين الواقف بالخارج تاركًا "صفاء" معها بالداخل بعد أن أخبرها بأنها ستفيق في اللحظات التالية.
اقترب منه "شاهين" حين خرج من الغرفة يسأله باستفسار:
- هي ايه اللي حصل لها؟
رفع الطبيب منكبيهِ جاهلًا:
-هو من كشفي ما فيش أي حاجه ممكن تسبب ليها الاغماء, فطالما ما فيش حاجه عضوية, وارد يكون الاغماء ده حصل بسبب ضغط نفسي مثلًا, ولو ماتعرضتش لضغط يبقى تعمل تشيك اب كامل وتحاليل في أي مستشفى عشان تطمنوا اكتر, وعمومًا هي ممكن يكون عندها معلومة لما تفوق, لأن مش كل حاجه احنا بنقدر نعرفها من الكشف, بس كل حاجه تمام وما فيش حاجه مُقلقة حتى مش هكتبلها على أي دوا...
هز "شاهين" رأسه متفهمًا وانسحب الطبيب من أمامه, ليسمع بعدها صوت "شدوى" من خلفه تقول:
- يا ترى بقى هتجيبلي حقي منها ولا اللعبة الخايبة اللي عملتها وانها اغمى عليها حننت قلبك ليها؟
التف ينظر لها بنظرة جامدة و قاتمة وقال بنبرة اقلقتها:
-مش شاهين المنشاوي اللي يتلعب عليه لعب خايبة, وما تحسسنيش إنك مظلومة عشان أنا متأكد مليون في المية إن كل اللي حصل ده انتِ السبب فيه, ده انا عشت معاكِ سنين وعارفك كويس, وعارف ازاي تقدري تستفزي الشخص اللي قدامك وتوصليه لمرحله هو عمره ما توقع انه يوصلها وتطلعي أو** ما فيه.
نظرت له مدهوشة وهي تردد بغضب ووجه تلون بالحمرة القاتمة:
- يعني انتَ في الآخر هتقلب الترابيزة عليا؟
رفع كفه ينهي حديثها يهتف بقوة:
- انا مش عاوز اسمع أي كلام دلوقتي في الموضوع ده, لينا كلام تاني بس مش وقته.
وانسحب تمامًا من المحيط كي يعود إلى عمله, وعادت هي لغرفتها ورأسها يشتعل لن تهدأ حتى تأخذ حقها من تلك الحقيرة التي تجرأت عليها.
وبالداخل حين استعادة "فيروز" وعيها ورأت "صفاء" في وجهها أمرتها بغضب أن تخرج من الغرفة فورًا, فهي لم تعد تطيق رؤيتها فحين هجمت هي على "شدوى" اقتربت "صفاء" تبعدها بقوة وأخذت بعدها تلقي محاضره في كيفية التعامل بينهما, ولكن حين حدث العكس لم تأخذ أي رد فعل, وهذا ما عزز غضب فيروز منها ومقتها لها, نهضت تجلس على الفراش تأن بتعب وهي تمسك رأسها بين كفيها, هي تعلم جيدًا تلك الحالة التي تنتابها حين تسمع صوتًا عاليًا او ضجيج لفترة تزيد عن ثواني معدودة ينتهي الأمر بها مغشيًا عليها من شدة الألم, لكنها قررت في قرارة نفسها أنها لن تسكت وان حاول "شاهين" أن يُلقي عليها اللوم أو يحملها ذنب وخطأ ما حدث ستعرف حينها كيف تأخذ حقها جيدًا من الجميع, ولن تسمح لأحد أن يحملها خطأ ليس بخطئها فشدوى هي من بدأت وهي لم تكن سوى رد فعل, همست لنفسها وهي تعود للتسطح:
- لا انام شويه مش قادره دماغي هتنفجر عشان اصحى فايقة للغجر اللي في البيت ده.
*********
و في مكان بعيد نذهب له لأول مرة...
فيلا في منطقة نائية بعيدًا عن التجمعات السكنية, لكنها فيلا فخمة ويرتص أمامها الكثير من الحرس والسيارات التي تدل على ثراء صاحبها..
كان قد أغلق الهاتف بعد أن انهى حديثه مع "شاهين" وأخبره بموعد مقابلتهم غدًا, حين دخل عليهِ رجله وذراعه الأيمن "رأفت" والذي قال سائلًا:
- كلمت شاهين بيه؟
ليرفع "نصر" نظره عن الأوراق التي أمامه وهو يجيبه:
- ايوه كلمته, وحددت معاه ميعاد بكره الساعه 12:00 بالليل.
جلس "رأفت" على الكرسي المقابل للمكتب وهو يهمهم قبل أن يقول:
_ لسه بردو مش ناوي تقوله انك ابوه!؟ هتفضل مخبي لامتى؟
توقفت يده عن كتابة ما كان يدونه، وتجمدت ملامحه رغم لمعة التأثر بعينيهِ التي رفعها لينظر للجالس أمامه الآن وهو يقول:
_ مش يمكن مش ناوي اقوله.
ظهر الرفض جليًا على وجه الآخر وهو يعقب:
_هتفضل عمرك كله حارم نفسك من ابنك وحارمه منك؟
حاول أن يوهم نفسه قبل أن يوهم الجالس أمامه بأنه بخير والحال هكذا افضل للجميع فقال:
_ أنا مش محروم منه، كفاية إني قادر اشوفه واتكلم معاه، اطمن عليه وأأمنه.
ابتسم بتهكم وسخرية وهو يقول:
_ بس مش قادر تضمه لحضنك.. كام مره بشوف عينك هتطلع عليه واحسك بتتخيل انك جريت عليه وخدته في حضنك، مش قادر تسمع منه كلمة بابا، مش معقول تكون ناوي تموت حارم نفسك وحارمه من احاسيس ومشاعر كتير حلوة ممكن تعشوها.
زفر بقوة وهي ينتفض من فوق كرسيه واتجه له يقف أمامه يهتف بحزن وغضب في آنٍ:
_ بلاش تزود وجعي، انا مش محتاجك تقولي كل ده عشان اخد بالي، الوجع اللي جوايا بيصرخ فيا كل يوم وكل مره بشوفه فيها، واوقات... اوقات بحس اني هنفجر واقوله واللي يحصل يحصل... بس خايف يكرهني وده اللي بيرجعني، خايف يسألني اسئلة معنديش إجابات لها، أو... أو يلومني وميقتنعش بمبرراتي.. خايف اسمع منه جملة "انتَ فضلت نفسك عليا، وضحيت بيا عشان نفسك".. خايف من حاجات كتير اوي اقوى من رغبتي في اني اخده في حضني.
هز "رأفت" رأسه بحزن وحيرة، هو يفهمه لكن الوضع القائم لا يجب أن يستمر، ينبغي أن ينتهي يومًا ما، أن يكشف الستار عن ما خلفه، والحقائق التي دفنت من سنوات يُعاد النبش بها، فلا حقيقة تبقى مدفونة للأبد...
_ مفيش سر بيتدارى للأبد ومليون في المية بييجي يوم ويتكشف، ولو اكتشفه من حد غيرك هيبقى موقفك معاه صعب اوي.
ضرب الأرض بقدمه عدة مرات بوتيرة ثابتة ورفع رأسه للأعلى يأخذ نفسًا قويًا مغمغمًا بعدها بقلة حيلة وعجز:
_ يارب....
نهض "رأفت" يقترب من "نصر" وهو يربط على كتفه من الخلف قائلًا بمواساة ونصح:
- صدقني يا نصر باشا إن شاهين بيه يعرف إن ابوه عايش حتى لو كان فيها صدمة له,و لو كان هيبقى في خلافات ما بينك وما بينه, وهتتعب شوية لحد ما يسامحك, أحسن مليون مرة من إحساسه باليتم وإن ضهره مكشوف.
التف له يقول:
- ايوه بس ممدوح كان طول الوقت معاه, كنت دايمًا بعرف من مصادري انه بيتعامل معاه كويس جدًا وفعلًا معتبره زي ابنه وعمره ما قصر معاه وزي مانت شوفت في اخر مرة لما كان شاهين هيتأذي ولحقه ممدوح برجالته.
هز "رأفت" رأسه بعدم اقتناع:
- هو اه يمكن يكون بيتعامل معاه كويس وبيحميه, بس انت قلتها بيعتبروا زي ابنه يعني عمره ما يكون ابنه حقيقي, وعلى فكره انا متأكد مليون في المية ان كل اللي بيعمله ده ورا مصلحة, ما هو يعني ما تقنعنيش ان في حد هيعمل كل ده حبًا في ابن مراته, خصوصًا بقى إن ممدوح عنده إبن ومخلف يعني حتى مش محروم من خلفة عشان نقول بيعوض حرمانه فيه.
هز "نصر" رأسه مؤكدًا على حديثه وهو يقول:
- ممدوح مش بيعمل ده حبًا في شاهين وبس, ممدوح عارف قوة شاهين وعارف انه طول ما شاهين عايش وموجود ما بينا واسمه موجود في شغلنا فهو حماية له, يعني تقدر تقول ممدوح بيستند على اسم شاهين وعلى قوته في شغل السلاح.
هز "رأفت" رأسه بأسف وهو يقول:
- مش متوقع رد فعل شاهين بيه لما يعرف إن البيج بوس لشغلنا هنا في مصر يبقى ابوه.
ببسمة ساخرة أكمل بنبرة ظهر عليها الجمود الذي يخفي خلفه المًا:
- شغلنا اللي بسببه اتحرم من ابوه العمر كله, واللي بسببه برده أمه ماتت بعد ما ممدوح قتلها لما عرفت انه شغال في السلاح...
الفصل الرابع من الجزء الثاني...
فراشه في سكّ العقرب...
حب أعمى.. ناهد خالد..
" ما أصعب أن تحضنك عيني دون أن يفعل جسدي، وأن يحبك قلبي دون أن ينطق لساني ،
أن يركض إليك عقلي راغبًا في البوح بالكثير وأنا في الحقيقة ما زلت ثابتًا في مكاني..
فلا الظروف تسمح ولا الوقت يناسب"
بعد ثلاث ساعات كانت قد استيقظت "فيروز" من نومها على صوت دقات فوق باب غرفتها، فنهضت تفرك عينيها بكسل سائلة عن هوية الطارق، لتعرف أنها" مستكه" فأذنت لها بالدخول، دلفت الأخرى وهي تقول:
_ أنا قلت اشوفك قبل ما أخلص وأروح..
سألت" فيروز "وهي تجلس فوق الفراش:
_ أنتِ الشفت بتاعك خلص؟
أومأت برأسها مجيبة:
_ ايوه فاضل نص ساعة وهمشي.
ثم نظرت إليها بفضول واضح وهي تسألها بأعين ضيقه:
_ هو أنتِ ايه اللي حصلك؟ ايه اللي خلاكِ صرختِ فجأه ووقعتِ كده؟
توترت نظرات "فيروز" وهي تبعدها عنها وتقول مبرره:
_ ما حصلش حاجه، أنا بس حسيت بضغط مع الصريخ الكتير و لما الزفته دي هجمت عليا فجأه فزعتني، وبيني وبينك بقى أنا اصلاً كنت بهرب من الحوار ده كله.
و "فيروز" لا تبين نِقاط ضعفها لأحد، فمستكة اليوم حليفتها ولكن في الغد لربما تصبح عدوتها، وعليهِ فلن تعطيها سلاحًا تستغله ضدها فيما بعد، وهذا ما علمه لها العمل في الشارع وسط مختلف البشر، ووسط أشخاص إن رأوك مهزوزًا سيقضون عليك بلا رحمة.
سألتها "مستكه" بتعجب:
_ بتهربي إزاي يعني؟
اجابت "فيروز" بثبات مصطنع:
_ يعني... حسيت إن الموضوع كده هيقلب عليا خصوصًا مع رجوع شاهين فجأه رغم إن ده مش ميعاد رجوعه خالص، وكمان لما جه شاف إن أنا اللي بضربها، ولما حب يسأل راح يسأل الحيزبونه اللي اسمها صفاء اللي هي أصلاً من حلفاء الصفرا التانيه، حسيت ان الدنيا هتعك على راسي فقلت اهرب من الموضوع بأي حاجه.
اتسعت أعين "مستكه" بصدمه وهي تسألها:
_ يعني أنتِ كنتِ بتمثلي؟
"لا حرج من بعض الكذب" هذا ما رددته "فيروز" في عقلها وهي تستكمل كذبتها على مستكه:
_ اه اومال يعني هكون وقعت ليه هو كان حد لمسني أصلاً!
حركت "مستكه" رأسها مقتنعه بحديثها وقالت:
_ وأنا برده قلت كده، استغربت قوي يعني ما حدش جه ناحيتك.
تمادت "فيروز" في كذبتها وهي تقول:
_ أنا بس حسيت إني في ضغط والدنيا قربت تتقلب عليا، فجه في دماغي الحوار ده فعملت نفسي اغمى عليا والحمد لله الموضوع عدى على خير.
سألتها "مستكه" مستنكرة:
_ وأنتِ تفتكري أن شاهين بيه مش هيفتح الموضوع تاني!
رفعت منكبيها جاهلة وهي تقول:
_ ما اعرفش بصراحه إذا كان هيفتحه ولا لأ، بس يعني حتى لو فتحوا أنا دلوقتي هديت وهقدر أفكر وأرد عليه كويس في أي حاجه هيوجهها ليا.
عقبت "مستكه" قائلة:
_ بس أنتِ لو عاوزه رأيي فأنتِ زودتيها قوي مع شدوى، بصراحه اللي في وضعك أصلاً ما ينفعش أنه يكسب عداوة حد، يا بنتي ده أنتِ المفروض كل اللي في البيت ده تاخديه تحت جناحاتك وتضميه لصفك، أنتِ أكيد مش ناقصه ناس تقلب عليكِ ويبدأوا يخططولك عشان يوقعوكِ في مشاكل، لأ ويركزوا معاكي وساعتها ممكن يكتشفوا اللي شاهين نفسه ما اكتشفوش، وهتبقى وقعتك سودا..
توترت "فيروز" وهي تنظر لها قائلة بضيق:
_ الله! أنتِ هتقلقيني ليه بقى.
ربطت "مسكته" بكفها على فخذ الأخرى وهي تجيبها:
_ أنا مش بقلقك.. أنا بقولك الصح، شدوى لو حطيتك في دماغها وبدأت تنبش وراكي أنتِ عندك كتير قوي اللي يوقعك، فأنا من رأيي تحاولي تتجنبيها على قد ما تقدري، وحتى لو عملت معاكي حاجه غلط اعملي نفسك مش سامعه، خلي الشغلانه السودا دي تعدي على خير.
حركت رأسها بمعنى أنها توافق على حديثها:
_ هحاول و ربنا يستر.
نهضت "مستكه" وهي تقول:
_ طيب همشي أنا بقى أروح ولما اجيلك بكره الصبح ابقي احكيلي لو في حاجه حصلت لما شاهين بيه يرجع.
ضحكت "فيروز" تسألها:
_ أنتِ ليه بتقولي بيه وهو مش موجود ومحدش سامعك!
ضحكت "مستكه" هي الأخرى وجعدت ملامحها بخوف مصطنع:
_ والله يا ختي ماعرف، الراجل ده له هيبة كده حتى لو مش موجود، اول ما اسمه بييجي قدام الواحد جتتي بتتلبش واحس إني عامله مصيبة والاقي نفسي بتكلم عليه بكل احترام، وبعدين عشان بردو لساني ميتعودش اقول اسمه من غير بيه واجي اغلط قدام ام اربعة وأربعين.. قصدي صفاء الحيزبونه زي ما قولتي من شوية.
ضحكت "فيروز" بشدة على طريقتها وحديثها، لتهز "مستكة" رأسها ضاحكة بقلة حيلة وتحركت خارجه من الغرفة تاركة "فيروز" تفكر جديًا في حديثها وفي كونها لابد وأن تتجنب "شدوى" قدر المستطاع كي لا تجلب لنفسها متاعب أخرى فلديها ما يكفي ويفيض!
******************
وفي تمام الثانية عشر منتصف الليل....
كانت سيارة "شاهين" تقف أمام فيلا "نصر العقاد" الأسم الذي ذاع صيته في مجال عملهم وأصبح من أهم وأكبر الأسماء التي يهابها الكثير ويضع لها ألف تقدير وحساب.
دلف "شاهين" لداخل الفيلا بعدما استقبله الخادم واجلسه في غرفة مكتب "نصر"، فجلس ينتظر قدومه حتى سمع صوت الباب يُفتح وبعدها يدلف هو، وهو يقول:
_ أهلاً يا شاهين نورت.
نهض "شاهين" ليقف قباله ويمد كفه يتصافحا بينما يقول بهدوءه المعتاد:
_ ده نورك يا نصر باشا.
كان ينظر إليه الآن وحديث "رأفت" يرن بأذنيهِ عن كونه قد حرم عليهِ وعلى ابنه مشاعر يهفو كليهما إليها، ورغم عنِاده مع "رأفت" وإخباره أنه بالعكس لا ينقصه شيء وولده كذلك، فهو الآن ينظر له بأعين تخفي الكثير من الشوق والحب، والرغبه في جذبه لأحضانه وبعدها يحدث ما يحدث فلا يهم، المهم أن يهدأ قلبه الذي يهفو إلى وليده وتهدأ ثورة مشاعره التي تحثه على الاقتراب دون حدود، لكنه تمالك نفسه وهو يقول
بعتاب ليس معتادًا بين رئيس العمل والمرؤوس:
_ ما جيتش يعني تزورني من وقت آخر مشكلة حصلت في المينا، وكأن زيارتك ليا ما بتكونش غير لمصلحة أو لو في كارثه حصلت في الشغل.
سحب "شاهين" كفه في هدوء وهو يقول مجيبًا:
_ لأ الحكاية مش كده، بس المره اللي فاتت لما جيت كان عشان انبهك إن في حد من رجالتنا خاين وبلغ الناس في المينا عن الشحنة، من بعدها وكان في كذا شحنة داخلين وأكيد سعادتك عارف بتاخد قد ايه ترتيبات ومجهود عشان تدخل وتوصل لمخازنا بسلام وتتوزع كمان، كل الحكايه إن الشغل كان كتير لكن أكيد حابب أزور سعادتك من غير ما يكون في مشاكل في الشغل.
استعاد "نصر" نفسه بصعوبة وهو يشير له للجلوس وجلس على الكرسي المقابل له تاركًا كرسي مكتبه فارغ، وهذا لا يحدث سوى مع "شاهين"، ابتسم له وهو يقول بإعجاب بشخصيته:
_ دبلوماسي أنتَ يا شاهين وده بيعجبني فيك، قلي بقى تشرب ايه الأول؟
وقبل أن يجيب "شاهين" كان "نصر" يرفع كفه وهو يقول مازحًا:
_ اتمنى تغير القهوة المظبوطة بتاعت كل مره.
مازحه "شاهين" في هدوء وهو يقول:
_ خلاص نخليها ساده.
ضحك "نصر" هازًا رأسه بيأس، قبل أن يقترح بلهفه وأمل في أن يوافق شاهين:
_ طب ايه رأيك اخليهم يحضروا العشاء على ما نخلص كلام؟
تحكم "شاهين" في مشاعر استغرابه وتعجبه من أفعال نصر معه، وسؤال واحد يتردد في ذهنه، هل الرجل الجالس أمامه بكل هذا التواضع والأريحية في التعامل؟ فتعامله بعيدًا تمامًا عن تعامل أي شخص في عملهم، ما بالك وهو صاحب العمل نفسه!
لكنه تجاوز استغرابه وهو يضع كفه على صدره في حركة شكر وقال:
_ تسلم يا باشا والله، بس أنا ما بتعشاش.
انعقد جبين "نصر" بإحباط وحاول معه مرة أخرى مبتسمًا:
_ طب يعني حتى مش هتكسر القاعده دي عشاني!
وجملته ازادت شاهين استغرابًا تجاوزه كسابقه،
وابتسم بدبلوماسيته واجاب:
_ معلش مش هقدر.. ممكن نخليها غدا المره الجايه إن شاء الله.
تنهد "نصر" باستسلام وهو يتخطى الموضوع كي لا يلفت نظر "شاهين" لشيء وقال:
_ طيب براحتك.. هطلبلك القهوه بتاعتك.
وبعد أن طلب قهوته المعتادة، نظر له وهو يسأله:
_ قولي لسه أخوك بينخور وراك ؟
حرك رأسه بلا مبالاة وهو يقول:
_ خليه يتسلى، هو كده كده مش هيوصل لحاجه.
ابتسم "نصر" في مكر وهو يسأله:
_ طب وحكاية البت اللي عندك في البيت هنعتبرها تسلية بردو؟
لم يتفاجئ "شاهين" ابدًا بالعكس رفع حاجبه الأيسر وهو يجيبه في ثقة:
_كنت متأكد إنك هيكون عندك خبر بيها، عمومًا اطمن ما تشغلش بالك، أنا ومازن بنلاعب بعض هو واخد الموضوع جد وانا اديني بتسلى، حاكم أنا بحب الألعاب دي قوي ... بتضيع وقتي وفي نفس الوقت بتحسسني بمتعه، متعة الانتصار بعد كل جولة...
ربط "نصر" على ركبته بكفه بقوة وهو يقول:
_ وأنا واثق فيك، عشان كده لحد دلوقتي أنا ما ادخلتش بأي طريقة مع أخوك، أنتَ عارف كويس إني لو ادخلت مش هيبقى في لعب بعدها، أنا مقبلش إن يبقى في شخص مهدد حياة راجل من رجالتي.
وجملته الأخيرة كانت تبريرًا لحدته التي لم يقصدها وتبديدًا لأي شكوك قد تُثار بداخل شاهين..
تجمدت ملامح "شاهين" لوهلة قبل أن يعقب:
_ مفيش داعي لتدخل سعادتك، الوضع تحت السيطرة.
هز رأسه مقتنعًا بحديثه وقال:
_ وأنا متأكد من ده، ده أنتَ العقرب.. بس بقلق لحبك لأخوك يخليك تسيبه يضيعك.
أُظلمت نظرات "شاهين" لتظهر عيناه الآن مقتبسة من أعين صاحب اسمه، فباتت تشبه أعين الصقر تمامًا الذي رأي عدو يقترب منه في استعداد لأذيته:
_ أنا بحبه اه، لكن مهما كان حبي له فأنا أكيد بحب نفسي أكتر ومش هسمحله يوقعني، بالمناسبة بما إن سعادتك مسبقش ليك التقابل معاه وجه لوجه، فأيه رأيك لو تشرفنا وتحضر حفلة عاملها بكره في فندق ****.
سأله مستغربًا:
_ بمناسبة ايه؟
_ الحفل السنوي لشركة العقرب، وغالبا كل رجال الأعمال هيكونوا موجودين.
هز رأسه مرتان ثم قال:
_ هشوف جدولي بكره لو مناسب هحضر أكيد.
وبداخله بالطبع سيحضر، فهو لن يضيع فرصة يرى فيها شاهين ليوم إضافي.
صمت لثواني ثم قال:
_ تمام خليني بقى اكلمك في اللي أنا طلبتك عشانه، في شوية تعديلات هتحصل الفتره الجاية في شغلنا لازم نتفق عليها عشان تبقى كل حاجه واضحه.
وبدأ يوضح له طبيعة التعديلات وأن سبب إجرائها هو زيادة أمان وحيطه أكثر، كي لا يستطيع أحد إدانتهم بشيء.
*************
بقصر العقرب..
كانت جالسه في غرفتها تتصفح مواقع التواصل الإجتماعي بملل حين أتتها رساله من أحد التطبيقات، لتنتفض جالسه فجأه وقد اتسعت عيناها بذهول حين أبصرت إسم صاحب الرساله والذي لم يكن سوى معاذ! فتحت الرسالة لتجد مضمونها
"الصورة اللي نزلتيها من شوية حلوة قوي بس لو تسمحيلي شايف إنها مش مناسبه تنزل على فيسبوك"
ظلت تنظر للرساله بتوتر بالغ واستغراب في نفس الوقت، فمعاذ لم يفعل هذا ابدًا من قبل، ولم يبعث لها برسالة أو حتى تعليق على أي منشور لها، هم فقط مجرد أصدقاء على تطبيق التواصل الاجتماعي فيسبوك ولكن لم يتم التواصل بينهما بأي طريقه كانت، وبعد عدة ثواني استطاعت أن تتمالك نفسها وردت سائله:
" وليه يعني ما ينفعش تنزل على فيسبوك! هو أنتَ شايف إن الصوره فيها حاجه مخله؟"
أتاتها رسالته سريعًا:
" أكيد مش قصدي كده، بس تطبيق الفيسبوك ده للناس كلها أي حد ممكن يشوف صورتك دي سواء بقى الشخص ده يعرفك او لأ، بصراحه دي حاجه مش كويسه خصوصًا البنات، يعني ولد ممكن يشوف الصوره دي صدفه حتى لو هو مش من أصدقائك ويقعد يتأمل فيها وفي تفاصيل جسمك فهي بصراحه شيء مش لذيذ"
ظلت تنظر لرسالته لبعض ثواني وهي تعيد قراءتها مرارًا وتكرارًا وشعرت بأنها اقتنعت بحديثه ولكنها أبت أن تظهر هذا فردت:
" احنا مش مطالبين إننا نتقيد بتصرفات الآخرين يعني، أنا مثلاً لو جت قدامي صورة شاب أنا ما اعرفوش صدفه أكيد مش هقف اتملى في ملامحه زي ما انتَ ما بتقول، لأن ده مش من حقي، لكن لو ده حد تاني عمله زي ما انتَ ما تقصد فأنا كشخص منزل صورة ليا مش ملام ابدًا"
" لا على فكره أنتي لما نزلتي صورتك على موقع فانتي عارفه كويس قوي أنه بابلك وأي حد يقدر يشوف الصوره دي، فانتي اللي مش من حقك تتحكمي في الناس مين يقف يتأمل الصورة ومين يعديها كأنه ما شافهاش، عارفه دي عامله زي إيه؟ سوري يعني لو التشبيه هيكون مبالغ أو فج شويه، بس انتي اكيد هتفهمي قصدي، ده بالظبط عامل زي واحده نزلت من بيتها لابسه بدلة رقص ولما كل الناس اللي في الشارع بصوا عليها قالت مش من حقهم انهم يبصوا، رغم ان هي اللي سمحت لهم بكده انها نازله في الشارع ما طلعتش على سطوح بيتهم مثلا! "
بعدما قرأت الرسالة شعرت بأن تشبيهه فج كما قال، فردت رافضه:
" أنت بتشبه إيه بأيه؟ أنا فاهمه إنك عاوز توصلي الرساله، بس لأ طبعًا ما ينفعش تشبه حاجه زي دي بأني أنزل صوره عادي على فيسبوك، يعني معنى كده إن أي حد بينزل صور على فيسبوك يبقى منزلها للعرض!"
" لأ طبعًا انا ما قلتش كده، بس لازم لما تيجي تنزلي صوره على تطبيق الناس كلها هتشوفها تراعي الصوره اللي هتنزل، يعني تكون مش مبينه ملامحك قوي، أو مش مبينه تفاصيلك، مش مبينه جسمك ودول أهم من الملامح على فكره، لأن على الأغلب ما حدش بيركز في صوره شافها في التايم لاين عشان ملامحها، يعني الملامح مش هي اللي بتلفت الانتباه"
فهمت قصده فردت بتحفز:
" طيب اللي منزلاها مالها ده حتى الصورة من بعيد وملامحي مش باينه قوي"
وأتتها رسالته التي جعلت حمرة الإحراج والخجل تضرب وجهها كأنه يجلس أمامها
" ما هو المشكله إنها مش مبينه الملامح بس مبينه حاجات تانيه بما إنها من بعيد"
وفورًا خرجت من تطبيق الرسائل لترى الصورة مرة أخرى وحين دققت بها فهمت قصده، فالصورة بالفعل تبين انحناءات جسدها بشكل واضح، خاصةً مع ذلك البنطال المجسم والكنزة القصيرة لحد ما وعارية الذراعين، ورغم أن هذه طريقة لبسها في الطبيعي وأن ما ترتديه في الصورة خرجت به للشارع ولعملها وألف عين رأتها، ولكن إن تكن صوره بين يديكَ تسمح لك بتفحص كل جزء بها فهو أمر مخالف لنظره عابره تلقيها وانتَ تمر بالجوار..
وفجأة وجدت نفسها تضغط على حذف الصوره وبعدها أغلقت الهاتف ووضعته بجوارها ووضعت كفها فوق قلبها حين اتتها رسالة أخيرة منه تتضمن كلمة واحدة
" شاطره"
ورغم أنها كلمة لا تعني أي شيء، ولا تثير أي مشاعر ، لكنها جعلت قلبها الأحمق يدق بشدة، فهو يهمه أمرها! ويراقب أفعالها حتى وإن لم يظهر في الصورة من قبل!
***************
يوم جديد يحمل بين طياته الكثير يحمل...
أحداث هادئة للبعض ..
أحداث مقلقه للبعض الآخر..
وأحداث كارثيه لبعضهم....
خرجت من غرفتها التي ظلت عاكفه بها اليوم السابق، فهي لم تخرج منها إلا مرتين ، أولهما حين أرادت تناول الطعام وكانت تعلم بأنه غير موجود في المنزل، والثانيه قرب منتصف الليل بعدما سمعت صوت سيارته تغادر المكان، وفي المرتين كانت حريصه على أن تسرع بما تريد فعله قبل أن يأتي، فهي لا تريد مواجهه معه رغم أنها تعلم أنها آتيه لا ريب، ولكنها تحاول تأجيلها بقدر استطاعتها.
وها هو اليوم لا مفر من المواجهة، فاضطرت أن تحضر الإفطار المقدس كي لا يفوتها مثل أمس وتحدث مشكلة جديدة، نزلت درجات السلم بعدما ارتدت بنطال من "الجينز" الأبيض وكنزة صيفية من اللون الأصفر تصل لبداية البنطال من قماش "الشيفون المبطن" وحذاء أبيض، وربطت شعرها من الأعلى تاركة الجزء المتبقي منه ينسدل على ظهرها، اقتربت وهي تلقي تحية الصباح بعدما وجدت الجميع حول الطاولة، وجلست دون أن ترفع نظرها لأيًا منهم، ولكنها بعد ثواني سمعت صوته يقول بنبرة جامدة أسرت خوفًا في عروقها:
_ بعد ما تخلصي فطار عاوزك في مكتبي.
وقبل أن ترفع نظرها له سمعت صوت "شدوى" الثائر:
_ يعني ايه عاوزها في مكتبك؟ أنتَ ناوي تحاسبها على اللي حصل امبارح بينك وبينها؟ اومال هتجيبلي حقي منها ازاي؟؟!
نظر لها بجانب عينيهِ بنظرة حتى قاسية وهو يقول:
_ أنتِ ليه بتتكلمي كأنك بريئه فعلاً! أنا لسه ما عرفتش ايه اللي حصل امبارح، ولا حددت مين اللي له حقه ومين اللي عليه.
لم تهدأ وهي تقول:
_ ايوه يعني بردو هتكلمها بينك وبين.....
قاطعها بحدة واضحة:
_ شدوى مش عاوز كلام في الموضوع، أنتِ مش هتعلميني اعمل إيه و ما اعملش إيه!
ابتسمت "فيروز" بشماتة وهي تضع وجهها في طبقها كي لا يلاحظ أحد ابتسامتها، وتدخلت "نورهان" وهي ترى الوضع يتصاعد بينهما:
_ خلاص يا شدوى اهدي ما يصحش كده تيم قاعد، وأنتَ يا شاهين هدي نفسك شويه.
نظر "شاهين" لتيم الذي ينظر إليهما في قلق ليمسد على ظهره بحنو، وهو يقول مبتسمًا:
_ ايه رأيك لو خلصت الساندوتش بتاعك كله هلعب معاك كوره.
تخلى الصغير عن قلقه من المشادة التي شاهدها للتو وهو يبتسم بفرحه قائلاً بحماس:
_ بجد هتلعب معايا؟ بقالنا كتير ما لعبناش كوره سوا.
عبث بكفه في شعر الصغير وهو يقول آسفًا:
_ معلش يا حبيبي الفترة اللي فاتت كان عندي شغل كتير، بس اوعدك لو خلصت الساندوتش بتاعك نلعب مع بعض كوره كتير لحد ما تزهق.
هز الصغير رأسه عدة مرات بحماس قبل أن يتوجه لإلتهام طعامه متحمسًا لاللعب مع والده فور انتهاءه.
تابع الجميع تناول الطعام في صمت تام حتى كان "شاهين" أول الناهضين وهو يقول مناديًا على "صفاء":
_ دخليلي قهوتي على المكتب.
ووجه حديثه لفيروز بعدها:
_ لما تخلصي أكلك حصليني.
ثم نظر لتيم الذي ينظر له بقلق من أن يكون قد رجع في وعده له وقال مبتسمًا:
_هخلص قهوتي واتكلم مع طنط فيروز شويه على ما تكون أنتَ خلصت أكلك عشان ناوي اقطعك جوال.
ابتسم الصغير ابتسامة واسعة وهو يومأ له بحماس، فانسحب "شاهين" من الأجواء تحت نظرة "فيروز" له المتعجبة كيف يبدل حاله بين ثانية وأخرى! فيتعامل بقوة وحزم وجدية ثم حنو مع الصغير! تنهدت بحيرة وحقًا "شاهين" هذا لغز كبير بالنسبة لها لم تستطع حل جزء فيه، حركت عيناها لتتقابل نظرتها مع "شدوى" التي تنظر لها بأعين تطق شرارًا ، فلم تستطع أن تفي بوعدها لمستكه بأن تتجنبها، والقت إليها ابتسامة مستفزة، كأنها تخبرها بألا تحلمي بالانتصار، فالغلبه دومًا ستكون لي وهذه أول جولة..
*********
انتهوا جميعًا من تناول الطعام، وكانت أخرهم "فيروز" لحضورها إياه متأخره عنهم، بعدما انتهت شربت كوب ماء كامل وهي تستعد لمواجهة العقرب الغاضب بالداخل، وأخذت نفس قوي تهدأ ذاتها كي تستطيع الرد على أي تهمة سيوجهها لها، نهضت عن الطاولة متجهة لمكتبه ولكنها لفت انتباهها جلوس "نورهان" على كرسي منزوي قليلاً يطل على الحديقة الخارجية، كانت ستتجاهلها لولا أنها سمعت شهقة بكاء خافتة تخرج منها، اتجهت لها لترى شاشة هاتفها وتحتله صورة شقيقها "مازن"، وضعت كفها فوق كتفها لتنتبه لها:
_ اللي يشوفك وأنتِ بتعيطي وباصة في التليفون يقول بتشوفي صورة حبيبك اللي افترقتي عنه مش أخوكِ.
مسحت "نورهان" دموعها وهي تقول:
_ أول مرة ابعد عن مازن المدة دي كلها، أول مرة اقعد كذا يوم من غير ما اشوفه، كان أخري يومين لو عنده مأمورية، حاسة إن في حاجة كبيرة اوي نقصاني.
نظرت "فيروز" للصورة بأعين لامعة وهي تقول:
_ حلوة اوي علاقتك بأخوكِ وحبك له ما شاء الله، وهو يستاهل حبك ده.
طالعتها "نورهان" لثواني بصمت، لتنتبه ل "نورهان" لنفسها فتبعد عيناها بتوتر عن الهاتف، ولكنها صُدمت حين سمعت "نورهان" تقول:
_ أنتِ حبيتي مازن؟
نظرت لها بتوتر واضح وهي تسألها:
_ ليه بتقولي كده؟
قالت "نورهان" بحيرة:
_ المفروض إنك بتحبي شاهين، ومازن وقع بينكوا، واستغل ده وقرب منك وكان هيتجوزك، لكن لما عرفتي الحقيقة سبتيه ورجعتي لشاهين.. لو محبتيش مازن مكنتيش هتقولي دلوقتي انه يستاهل حبي له، ولمعة عينك وأنتِ بتبصي لصورته بتقول إنك بتحبيه..
_أ... أنا.. مش..
قاطعتها "نورهان" وهي تقف أمامها ممسكة بكفيها تقول:
_ لو بتحبي مازن بلاش تعاندي نفسك وتبعدي عنه، هو اه غلط لما وقعك بينك أنتِ وشاهين، لكن كل إنسان منا بيغلط، وأنا شوفت حبه ليكي لما جابك ليا عشان تتعرفي عليا، لو بتحبيه بلاش توهمي نفسك إنك لسه بتحبي شاهين، مش شرط أصلاً تكوني لسه بتحبي شاهين، ممكن لما اتعاملتي مع مازن حبتيه واكتشفتي إنك نسيتي حبك لشاهين.. وده مش عيب ولا غلط، الغلط بجد لو استمريتي واهمة نفسك إنك بتحبي شاهين وعينك بتروح على مازن غصب عنك.
وحديثها كان يفعل الكثير في فيروز، فها هي "نورهان" من مجرد ثواني اكتشفت حبها لمازن ولاحظته، حبها التي كانت تدركه ولكنها تتأرجح أحيانًا من صدقه أو زيفه، والآن تأكدت أنه حقيقة مؤلمة، بالطبع مؤلمة فهي موقنة أنها لن تجني منه خيرًا.
طال صمتها حتى قالت:
_ أنا هروح اشوف شاهين.
وهربت منها تحت نظرات نورهان المشككة بأمرها والتي تدعي ألا تكون "فيروز" وقيعة جديدة بين اخويها..
************
فتحت باب المكتب ودلفت تنظر للمكتب لتجده فارغ، وفور تخطيها للباب وقبل أن تتفحص أرجاء المكان كانت تشهق بخوف وهي تجد من يجذبها ويدفعها بقوة لتستند على الباب الذي أُغلق بعنف جراء اصطدامها بهِ و"شاهين" يقف أمامها لا يفصله عنها سوى بضع سنتيمترات وملامحه غير مبشرة بخير أبدًا وقال بفحيح مرعب أثار الفزع فيها:
_ مجاوبتيش نورهان... بتحبي مازن؟
ارتفع تنفسها وعلى وجيب قلبها وهي تنظر له فقط بفزع وكأن لسانها قد عُقد...!
فراشة في سكّ العقرب... حب أعمى
الفصل الخامس.. ناهد خالد
"من القى بنفسه من على سفح الجبل وظن بأنه سينجو فهو أحمق كبير, فالمراهنة هنا تكون على القدر, ومن يستطيع أن يراهن على القدر ويخرج رابحًا!"
مع نظراته ومحاصرته لها وتحت فحيح نبرته كانت تزداد خوفًا منه, هي لا تفهم بما عليها أن تجاوب؟ ولكن مع اشتداد قبضته عليها ورؤيتها له أنه لا يتراجع خطوة واحدة كان عليها الرد فقالت بنبرة مهتزة:
- هي هتفرق معاك حبيته ولا لأ؟
اشتد قبضته على ذراعها القابض عليه بقوة أكبر قائلاً من بين أسنانه كأنه لا يقبل التفاوض في الأمر أو المراوغة:
- جاوبي على **** السؤال.
اتسعت عيناها بصدمة مع سماعها للسبه النائية التي صاحبت قوله, وهنا لم تستطع الصمت وهي تعقب بضيق حقيقي:
- لو سمحت ما تنساش إنك بتتكلم مع بنت ما يصحش تقولي ألفاظ زي دي.
ورغم أنها في تعاملها مع البشر في مجال عملها قيل لها ألفاظ أقبح من ذلك, وسمعت كلمات بالفعل خادشه للحياء, لكن لا ترى "شاهين" يليق بهذه الألفاظ أن ينطقها من الأساس, فأصحاب هذه الطبقة هي تراهم في مستوى معين من حيث اللبس, وطريقة التعامل, وحديثهم بما فيه من كلمات مُختارة, رفع جانب فمه ساخرًا من حديثها البعيد تمامًا عن إجابه سؤاله, وهدر بها في ضيق وغضب:
- اخلصي..
ضجرت ملامحها بشدة وهي تجيب كي تخلص منه:
- عاوزني اجاوبك اقولك إيه؟ ما أنتَ عارف اللي فيها, احبه امتى وأنا أصلاً كل اللي ما بيني وما بينه مصلحة.
ابتعد خطوتين وترك ذراعها اخيرًا والذي شعرت بأنه مُخدر من قوة الألم وقال بنبرة مهددة:
- يبقى احسنلك بردو.
قطبت ما بين حاجبيها متعجبة وهي تسأله:
- ممكن اعرف احسنلي ليه؟ وهيفرق معاك في إيه اصلاً إذا كنت أحبه ولا لأ؟!
ابتسامة ساخرة زينت صفحة وجهه الباردة وهو يجيبها:
- هتفرق في إنك لو حبيتيه ساعتها أنا لازم اقلق مِنك, عشان أكيد ساعتها هتغدري بيا وبتفاقنا عشان حبيب القلب, وتبدأي تشغلي دماغك معاه عليا, وأنا ما بحبش اللي بيشغل دماغه, اما بقى احسنلك في ايه, فاحسنلك عشان أنا لو شكيت مجرد شك إنك بتحبيه أو بتفكري تلعبي معايا ساعتها أنا كمان هلعب معاكي, بس أنا بقى لعبتي بتكون الأخيرة, لعبة هتسفرك بعيد.... لعالم عمرك ما شفتيه.
انقطع الهواء عنها لبعض ثواني وهي تفهم مغزى جملته جيدًا ولا يتردد سوى شيء واحد بعقلها, ماذا سيفعل بها إن علم الحقيقة؟ ماذا سيكون مصيرها معه إن علم بخططها مع مازن؟!
ابتلعت ريقها بصعوبة شديدة وتحركت لتبتعد عن الباب وعن محيطه تقف في منتصف الغرفة, وهي تنفض شعرها للخلف قائلة بثبات واهي:
- كل واحد ونيته بقى, وانا مش محتاجه تهديدك, بلاش تحسسني إني هنا بعمل كل حاجه غصب عني, أنا لما قلتلك على خطتي مع مازن وحكيتلك على الحقيقة كنت عارفه إني بكده هكون في صفك أنتَ ضد مازن, ومع ذلك وافقت, ايه اللي هيخليني ارجع في كلامي!
تحرك ليتجه لكرسي مكتبه ويجلس فوقه بكل هيبة لم تستطيع إنكارها وقال بهدوء مخالف تمامًا لِمَ كان عليه منذ قليل:
- كلام حلو بس المهم الفعل, اقعدي عشان اكلمك في الموضوع اللي جبتك عشانه.
جلست بعدما استعادت بعض ثباتها ناظره للأمام دون أن توجه نظرها له, فهو الآن يربكها:
- اللي حصل بينك وبين شدوى مش عاوزه يتكرر تاني.
نظرت له وهي تسأله مستغربة:
- أنتَ مش قلتلي قبل كده اتعاملي معاها! وايه حوار يبقى بيني وبينها.
حرك رأسه بحركة رتيبة وهو يقول:
- اه قلتلك كده بس ده مش معناه أبدًا إنك تهنيها وتقلي من كرامتها قدام الخدم, قلتلك اتعاملي معاها لما تغلط معاكي بس مش تضربيها, عمومًا هنا في القصر ما ينفعش مشهد زي اللي حصل ده يحصل, أنتِ مش بس قللتي منها قدام الخدم, أنتِ كمان قليتي مني شخصيًا.
نظرت له مصدومة من جملته الأخيرة وهي تسأله:
- قللت منك أنتَ؟
اومأ برأسه وهو يقول:
- اه طبعَا قلتي مني, لما تضربيها يبقى أنتِ مش عاملالي حساب, المفروض كمان إنك خطيبتي وطالما خطيبتي تبقى المفروض عارفه إن حاجه زي دي أنا مش هقبلها إنها تحصل في بيتي, فكونك عارفه إني مش هقبل حاجه زي دي تحصل وتعمليها يبقى أنتِ مش عاملالي حساب, واعتقد إن صفاء وضحتلك ده وقت الخناقة وقالتلك إن ده مش تصرف هوانم, هي ما كانتش بتقف في صف شدوى, هي كانت بتقولك اللي ما ينفعش يطلع لا منك ولا منها.
رفعت جانب شفتها العليا ساخرة وهي تقول:
- اه ولما هي مش واقفه في صف شدوى وبتقول بس اللي المفروض ما يحصلش, ليه لما شدوى هي اللي بدأت وضربتني ما عملتش معاها نفس اللي عملته معايا, ده لما قالتلهم لو حد قرب هطرده من البيت كله وقف يتفرج وما حدش فيهم حاول يتدخل, وصفاء اللي أنتَ بتقول إنها كانت بتعرفني الصح من الغلط ما فتحتش بقها بكلمة.
شبك كفيهِ فوق المكتب وهو ينحني بجسده ليصبح مائلاً عليهِ وقال:
- في دي معاكي حق, وفي دي بردو أنا ليا كلام مع صفاء, عمومًا أنا مش هقبل بأي وضع إن يبقى في حد هنا في البيت بيفرق بينك وبين شدوى في المعاملة, بما إن الكل عارف إنك خطيبتي يبقى المفروض كله يتعامل معاكِ أنتِ وشدوى بنفس المعاملة, ما يعملوكيش بأنك الست الدخيلة وهي ست البيت الأصلية.
حركت رأسها في تأكيد على حديثه وهي تقول:
- بالظبط كده, هم شايفين إنها ست البيت الأصلية وإني واحده دخيله عليهم, وإني اصلاً كلها أيام وهمشي من هنا...
قطبت ما بين حاجبيها باستغراب وهي تتوقف في منتصف حديثها ثم أكملت بضحكة صغيرة:
-ايه الهبل ده مانا فعلًا كلها أيام وهمشي..
رجع بظهره للوراء ونظر لها نظرة غامضة ثم قال:
- سيبي الموضوع ده لآوانه, بس طول ما أنتِ موجوده هنا لازم الكل يعرف ازاي يتعامل معاكي.
نهضت واقفه وهي تقول:
- طيب في حاجه تانية؟
- بكره في حفلة بمناسبة مرور 10 سنين على تأسيس شركتي, وطبعًا لازم تكوني موجودة.
سألته بفضول:
- هي الشركة دي ورثك من باباك أو حد من أهلك يعني؟
هز رأسه نافيًا لتسأله باستغراب أكبر:
- ازاي؟
-هو ايه اللي ازاي؟
وضحت قائلة:
- أصل يعني أنتَ بتقول الشركة بقالها 10 سنين, هو أنتَ أصلاً عمرك كله قد إيه عشان تكون أسست الشركة من 10 سنين.
اجابها في هدوء تام:
- أنا مأسس الشركة وأنا عندي 21 سنة, كنت لسه في الكلية.
عادت تجلس مرة أخرى وقد انتابها الفضول حوله, فقد شعرت بأنها ستسمع الآن إحدى القصص التي كانت تشاهدها في الأفلام العربية, عن شاب مكافح جاهد حتى وصل إلى مكان مرموق وأصبح غنيًا من الأثرياء:
- ازاي يعني؟ شاب لسه في الكلية ازاي يقدر يأسس شركة؟
أرضى فضولها وهو يقول:
- لما أسستها ما كانتش شركة كانت مجرد مكتب صغير, ومع الوقت كل حاجه بتكبر , والأهم من الوقت إنك تبقى عارفة أنتِ ماشيه ازاي, وتبقى ماشيه على أرض ثابتة وكمان تجتهدي وتعملي كل اللي عليكِ.
حركت رأسها وهي تقول بتمني حقيقي:
- أنا كمان كان نفسي قوي يبقالي شغل خاص بيا أكبره وأكبر معاه.
سألها مستفسرًا:
- طب وليه ما عملتيش كده؟
مرت سحابة حزن في عينيها وهي تجيب:
- مش كل الناس ظروفها تكون سامحه, مش دايمًا الحظ بيلعب معانا.
رفع أحد منكبيه بعدم اقتناع وهو يقول:
- ما بقتنعش بحاجه اسمها حظ.
ضحكت ضحكة ساخرة و متألمة قائلة:
- لا لازم تؤمن بحاجه اسمها حظ, لأن الحظ ده اللي بيخلي ناس مجتهدة فعلًا وحقيقي تعبت كتير ما توصلش لأي حاجه, وفي نفس الوقت ناس تانيه ما تعبتش نص تعبها وبتوصل لحاجات كتير قوي, هي حكمة ما حدش عارفها و ما حدش فاهم مغزاها, بس خلينا نكون معترفين إنها بتحصل وبتحصل كتير كمان, زي مثلًا لما تلاقي في شركه في اتنين موظفين ممتازين ومجتهدين وكل حاجه بس في واحد أعلى من التاني ويمكن بيتعب اكتر من التاني, بس لما ييجوا يرقوا واحد منهم بيختاروا اللي بيتعب أقل, هم مش شايفينهم ومش عارفين انه بيتعب أقل, هو بس الحظ لعب معاه.
أصر على رأيه وهو يقول:
- مش مقتنع, أنا مازلت عند رأيي لكل مجتهد نصيب.
- أكيد بيكون له نصيب, بس مش شرط يكون النصيب اللي هو عاوزه بالضبط, أوقات كتير قوي المجتهد بياخد نصيب بس أقل من اللي هو عاوزه.
وكعادته دومًا يخرج من الموضوع فجأة ويتطرق لموضوع آخر دون أن ينهي الأول فقال:
- هيوصلك فستان بكره الصبح عشان الحفلة, ولو تحبي ممكن اطلبلك الميك اب ارتست تيجي تعمللك اللازم هنا في البيت الميك اب والشعر والحاجات دي, أنا عارف المواضيع دي بتهم البنات, وكمان أكيد شدوى جايبه حد يعملها ده, والأكيد مش هينفع نفس الشخص يساعدك لأني ما اضمنش الحقيقة.. يعني ممكن بدل ما تحطلك ميك اب تحطلك مية نار.
ورغم أن الجملة الأخيرة لم يكن فيها أي فكاهة لكنها ضحكت ضحكة بسيطة وهي تتخيل الأمر وقالت بعدما فكرت قليلاً , لتشعر بالتوتر من أن تضع هي الميك اب لنفسها وتكون المسؤولة عن مظهرها اليوم, فلقد فهمت من حديثه أن الحفل أهم بكثير من حفل عيد مولد تيم, وسيكون بهِ الكثير من الضيوف المهمين, فقالت:
- هي الحفلة هتكون في الفيلا ولا بره؟
- لا هتكون في فندق بره.
ابتسمت بحرج وهي تقول:
- يعني مدام في فندق واضح إنها حفلة مهمة فممكن نستعين بميك اب ارتست.
اخفى ابتسامته على حرجها ووجهها الذي تلون بحمرة واضحة بعد طلبها وقال:
- تمام هتكون موجودة عندك بكره قبل الحفلة بساعتين.
دقات فوق باب الغرفة تبعها دخول تيم بعدما فتحت له صفاء الباب وقال:
- بابي أنا خلصت الساندوتش كله, انتَ كمان خلصت كلامك مع طنط فيروز؟
نهض فورًا يبتسم بحب وهو يقول:
- خلصت يا باشا يلا بينا.
وقد كان "شاهين" وقتها يرتدي بنطال قماشي من اللون الأزرق الداكن وقميص أبيض متخليًا عن باقي بدلته فاليوم يوم إجازته, أوقفته على باب الغرفه وهي تردد باندفاع:
-هو أنتَ هتلعب كوره بقميص و بنطلون؟!
التف لها يطالعها بصمت, فأطرقت رأسها أرضًا حين أدركت ما قالته ولكن الصغير كرر جملتها وهو يقول:
- صح يا بابا مش ينفع تلعب كده.
نظر لصغيره ثم عاد ينظر لها خافيًا ابتسامته على مظهرها الآن, فكانت وكأنها طفلة صغيرة تقف أمام مدرسها بعد أن فعلت جرم كبير وتنتظر عقابه!
- اومال بابي المفروض يلبس ايه.... يا طنط فيروز؟
أرفق جملته الأخيرة بمرح طفيف ليضحك الصغير عاليًا وهو يسمعه يناديها ب" طنط" وتدخل في الأمر موجهًا حديثه لفيروز:
- جاوبي يا طنط فيروز بابي بيسألك.
رفعت رأسها تنظر للصغير متحاشيه النظر للواقف عند باب الغرفة وقالت:
- يعني اللي اعرفه إن اللي بيلعبوا كورة لازم يكونوا لابسين لبس مريح, ترنج مثلاً أو حتى بنطلون وتيشرت عادي.
ودون أن يسمع لكلمة زائدة خرج من الباب وهو يتحدث:
- ثواني وراجعلك يا تيم.
***********
وبعد دقائق من صعوده هبط مرتديًا بنطال رياضي أسود وتيشرت أبيض بنصف أكمام برز جسده العلوي المعضل بشكل مهلك جعلها تتمتم فورًا بينها وبين نفسها:
- يادي النيلة السودا يا ريتني ما قلتله يغير, الراجل ده لو لبس شوال هيطلع تحفه عليه!
كانت حينها تجلس في الحديقة مع "تيم" منتظرين نزول "شاهين" الذي اقترب منهما وعيناه ثابتة عليها فلأول مره منذ سنوات دراسته بالكلية يرتدي لبس رياضي ويخرج بهِ من غرفته, فمنذ أن ارتدى الحياة العملية وهو قد نسي تمامًا تلك الثياب ولم يفكر في ارتدائها من قبل, وقف أمامهما لينتفض "تيم" يمسك بكفه وهو يقول بسعادة واضحة:
- واو شكلك يجنن يا بابي, كده أحسن بكتير عشان نلعب براحتنا.
نظر بجانب عينيهِ لفيروز التي تتحاشى النظر إليه وقال بنبرة ماكرة:
-والله يا تيم أنا بقالي أكتر من 10 سنين ما لبستش اللبس ده, بس يعني كلامك اقنعني فقلت وايه المانع.
وبالطبع لم يقصد أبدًا بحديثه "تيم" والمقصود معروف!
وقضى الجميع وقتًا لذيذًا والضحكات ترتفع بسعادة, ضحكات تيم ورقده هو وشاهين وراء الكورة, وابتسامة "فيروز" التي لم تختفي من على وجهها تلقائيًا وهي تتابعهما , و "شدوى" التي تقف في شرفة الغرفة بالأعلى تتآكل غيظًا وتتمنى فقط لو يسمح لها بأن تجر "فيروز" من ذراعها جرًا وتطردها شر الطردة خارج المكان.
وبالفعل لم تستطع البقاء ونزلت للأسفل لتقترب من "فيروز" التي وقفت فور رؤيتها أمامها تنظر لها بصمت, لتبدأ "شدوى" في الحديث:
- مش شايفه إن قعدتك هنا ملهاش داعي! أنا الأولى اقعد هنا اتفرج على ابني وجوزي.
وضغطت على حروف الكلمة الأخيرة وهي تقولها, فابتسمت "فيروز" ابتسامة صفراء وهي تقول رافع حاجبيها بمرح مصطنع:
- أصل لاقيتك مش فاضية قولت اقعد مكانك, اكيد كنتِ بتتصفحي آخر صيحات الموضة أو بتتفقي مع صحابك على خروجة!
احتدت ملامح "شدوى" تقول بغضب وكره:
- وأنتِ مال أهلك أكون فوق بعمل ايه, وسواء كنت موجودة هنا أولأ ملكيش حق تاخدي مكاني.
- شاهين.
قالتها "فيروز" مناديه عليهِ وهي تنظر ل "شدوى" بتحدي, حتى توقف عن اللعب وذهب إليهما لينظر لهما سائلاً من بين لهاثه:
- في ايه؟
ابتسمت "فيروز" بمكر أنثوي جديد عليها وهي تنظر له وتقول بحزن أتقنت أداءه:
- شدوى متضايقة إني قاعدة بتفرج عليك أنتَ وتيم وانتوا بتلعبوا كورة, بتقولي إنها الأولى تقعد القعدة دي تتفرج على جوزها وابنها, هو أنا صحيح مليش حق اقعد اتفرج عليكوا!؟
ووجه "شدوى" الآن بركان مشتعل, نظر لها "شاهين" يقول بضيق:
- في ايه يا شدوى؟ مش حكاية يعني إنها تقعد تتفرج علينا! بعدين ملهاش حق ازاي دي قريب هتكون مراتي زيك بالضبط.
تابعت "فيروز" قوله بقولها:
- رغم إني ماحبش يكونلي ضره, بس كله يهون عشان شاهين.
لا تعلم لِمَ قالت هذا, ولكنها أرادت أن تزيد من إشعال "شدوى" وتقابل هجومها بهجوم أشد كي تعرف أنها ليست خصمًا سهلاً.
- يا حبيبتي, ليه ما تخليه يطلقني! أما أنتِ بجحة بصحيح!
قالتها "شدوى" بانفعال وهي تقترب خطوة وكأنها ستهجم عليها, لترتد "فيروز" خطوة للخلف تحتمي في "شاهين" الذي هدر في الأخيرة:
- بلاش غلط ولمي الدور مش كل شوية هنفرج علينا الناس! وأنا مش ماسك فيكي لو الوضع مش عاجبك وعاوزه تطلقي بلغيني.
وسحب "فيروز" من ذراعها يقول:
- تعالي اقعدي الناحية التانية.
وسحبها متجهًا للجهة المقابلة تحت نظرات "شدوى" المقهورة من أفعاله والتي اغرورقت عيناها بدموع الألم والغضب وهي تضرب الأرض بقدمها بغيظ وهي تراه يعود للعلب مع الصغير وبدأت "فيروز" تشجعهم بحماس و "شاهين" يناغشها حين ضرب الكرة بها لتصرخ بغيظ وهي تلقي الكرة تجاهه فتصطدم بكتفه!
وعقلها يتساءل منذُ متى وشاهين يسمح لأحد بالمزح معه والتطاول عليه!؟؟
***********
وفي مساء نفس اليوم...
_ حادثة ايه اللي بيقولوا عليها حد اتعور؟
تساءلت بها مستكة بعدما وجدت جمع غفير يركض ناحية إحدى شوارع منطقتها حين عادت من عملها، وتحديدًا الشارع الذي تسكن فيه، أجابها أحد الشباب الذي كان يسير على عجالة جوارها قاصدًا مكان الحادث:
_ بيقولوا مجد الميكانيكي في عربيه وقعت عليه وهو بيصلحها.
وكأنها طُعنت بسكين في صدرها فتيبست قدميها ارضًا في الحال وجحظت عيناها بشكل مخيف وفُغر فاهها الذي لم تقدر على غلقه، وانحصر الهواء عنها فلم تعد تتنفس، وجملة الشاب ترن في أذنها مرارًا وتكرارًا فتزيد حالتها سوءًا.. ظلت على وضعها لثواني لم تحسبها ربما دقائق! فقط انتبهت لوضعها فجأة وأمسكت بذراع شابه كانت تعود من مكان الحادث تسألها بأنفاس ثقيلة ودموع ملأت مقلتيها وهي تدريجيًا تستوعب ما سمعته:
_ ايه اللي حصل؟... الحادثة... هو.... ايه اللي حصل؟
لم تكن تعرف كيف ترتب جملة صحيحة تستطيع منها الفتاة فهمها، ولكنها التمست ما تريد السؤال عنه فأجابتها بأسف واضح:
_ مش عارفه... أنا ما شفتش من الزحمة، بس هم طلبوا الإسعاف وخايفين يحركوه من مكانه.. هم بس شالوا العربيه من عليه.
والوصف يجعلها تنهار أكثر! فماذا ستكون حالة شخص كان تحت جسم سيارة...!؟
ولم تنتظر اكثر وهي تقطع الشارع ركضًا لدرجة أن إحدى الكياس التي كانت تحملها والتي احتوت على بعض المستلزمات للمنزل وقعت من يدها ولم تقف لتلتقطها أو حتى تنظر إليها, بل واصلت ركضها حتى وصلت ورشته فوجدت الجمع هناك يزداد, والجميع يتحدثون بأصوات متداخله لم تفهم منها شيئًا واضحًا, اخترقت الجميع واقتربت من مدخل الورشة لتسمع صوت والده واضحًا الان وهو يصرخ بالجميع بأن يعاودوا طلب الإسعاف.
ورأت المشهد الذي جعلها تقف في مكانها ودموعها تتسابق في الركض فوق وجنتيها, حين رأت جسده مسطح ارضًا ونصفه العلوي غارقًا في الدماء والتي لم تعرف مصدرها تحديدًا, ووالده يجلس جواره غير قادرًا على لمسه تحت تحذيرات الواقفين بألا يلمسه كي لا يسبب له أي ضرر, وفي نفس اللحظة تعالى صفير سيارة الإسعاف ليتحرك الجميع فاتحًا الطريق, وتم وضعه بكل حذر بواسطة المسعفين على الحامل ثم ادخلوه للسيارة ومعه والده, وبعد ذهاب السيارة أخذت تتلفت في ضياع لا تعرف ما عليها فعله الآن, أو كيف ستذهب خلفه؟ لتسمع رجلين من المنطقة يتفقان على الذهاب خلفه بسيارة احدهما فطلبت منهما أن ياخذوها معهم, وكان الطريق من الحي الشعبي للمستشفى كأنه قُطع في سنوات من الانتظار الحارق وهي تدعو بداخلها بكل الادعية التي عرفتها يومًا بأن يخرج ناجيًا من الحادث البشع....
وبعد نص ساعة كانت قد وصلت المستشفى وخرج الطبيب من غرفة العمليات وهو يقول لوالده ما جعل الرجل يترنح في وقفته وصرخة خافتة تخرج من فاه "مستكه" وهي تهز رأسها بعدم استيعاب لِمَ سمعته وصوت أحد الرجال الواقفين يقول:
- لا حول ولا قوة إلا بالله...
الفصل السادس من الجزء الثاني
فراشة في سكّ العقرب
حب أعمى... ناهد خالد
"كن ذكيًا واستغل الفرص حين تأتيك خاصًة تلك الفرص الذهبية!"
وفي اليوم التالي في فيلا شاهين ...
وقبل حلول المساء كانت سيدة ومعها فتاة أخرى في غرفة فيروز يقومان بعملهما في تجهيزها من حيث وضع مستحضرات التجميل وتصفيف الشعر وغيرها، حتى انتهيا فنظرت "فيروز" لنفسها في المرآة لترى نفسها ولأول مرة جميلة إلى حد ما! فالمستحضرات التجميلية التي تم وضعها على بشرتها ابرزت جمال ملامحها واخفت العيوب التي كانت تمقتها، ورغم أنها لم تغير من لونها فحين طلبت من السيدة أن تفتح درجة بشرتها رفضت متعللة بأنها لن تليق عليها والأفضل أن يتم وضع الكريمات التي تطابق لونها، وبعدما أصبحت بمفردها اتجهت لذلك الثوب الذي لم تراه فقد أتى منذ عدة ساعات وأوصلته صفاء لغرفتها، لكنها لم يتيح لها الفرصة أن تراه، فتحت سحاب الغلاف القماشي الخاص به وأخرجته منه لتتسع عينيها انبهارًا بهِ وللمرة الثانية يحسن شاهين الاختيار، فقد كان فستانًا من اللون النبيذي بقماشته اللامعة بشدة، ينسدل على جسدها كاشفًا عن ذراعيها والقليل من مقدمة صدرها عبر فتحته المثلثية وظهرها، وأما عن طوله فيصل إلى الأرض، ولكن حين ارتدته وارتدت الحذاء الذي أتى معه والذي كان بكعبٍ عالٍ ارتفع الفستان عن الأرض ليصبح بطول مناسب، وقفت تنظر إلى نفسها في المرآه التي استطاعت أن تعطيها صورة كاملة لجسدها، ولا تعرف لِمَ خطر في بالها هذا الشيء حين اجرت مقارنه سريعة بين الثياب التي اختارها لها مازن من المول مبررًا بأنها ليست مرتديه للحجاب, فكانت معظم الثياب إن لم تكن جميعها كاشفة الكثير من جسدها, وتبرير آخر منه بأنها قضت معظم عمرها في لندن لذا فهذه هي الثياب المناسبة تمامًا, أما عن شاهين فمنذ أن أتت لهنا وكل الثياب التي احضرها لها سواء كانت الثياب التي ترتديها يوميًا أو فستان الحفلة السابقة وفستان هذه الحفلة ايضًا, فكانت ثياب إلى حد ما محتشمة لا تكشف الكثير من جسدها وهذا حوله علامة استفهام كبيرة! تعرف أنها لن تصل لإجابة أسئلتها.. فهل كل هذه الثياب ليست من اختيار شاهين؟ و الإجابة لا, فقد علمت اكثر من مرة من صفاء بطريقة غير مباشرة أنه من يختار الثياب عبر موقع الكتروني وتأتي لباب المنزل عبر عملاء التوصيل, والاحتمال الآخر هل شاهين من انصار الثياب المحتشمة؟ ولا يحبذ أن تُظهر المرأة مفاتنها للجميع والإجابة نفس الإجابة السابقة "لا" ,فشدوى جميع ثيابها مكشوفه لدرجة أنها رأتها منذ عدة أيام وهي تعود من الخارج وكانت ترتدي فستان قصير للغاية يصل إلى قبل ركبتيها بمسافة ليست بهينة, وهو في نظر فيروز ليس سوى ثياب خاصه بالنوم.. وكما توقعت في البداية لن تصل لإجابة مقنعة, فنفضت رأسها مما بهِ وهي تنظر لنفسها في المرآه نظرة أخيرة, وكأنها تتعرف على الشخصية الجديدة التي لم تظن يومًا أن تعيش دورها, فهيهات الفرق بين "فُله" و"فيروز" هانم التي اقترنت بعلاقه مع "شاهين بيه المنشاوي" أخذت نفس عميق قبل أن تلتقط حقيبة اليد والتي لم تخلو ابدًا من الزخرفة, والفصوص اللامعة بها, وخرجت من الغرفة على موعد مع "نورهان" والتي ستذهب معها للحفل.
******
وبأحد أفخم فنادق القاهرة....
توقفت احدى سيارات "شاهين المنشاوي" والتي كانت تنقل "فيروز ونورهان" لمكان الحفل, ليترجل الاثنتان منها وفيروز تنظر حولها بانبهار بمدخل الفندق والأنوار التي تملأ المكان, وبعد ثواني من السير وجدت نفسها تدلف من بوابة أخرجتها على مساحة واسعة مفتوحة بها الكثير من الطاولات المتراصة المزينة بشكل جميل, ومنصة صُممت بديكور مُبهر تقبع في آخر المكان وفي المنتصف تمامًا, وبعض الديكورات الأخرى التي أخذت منظرًا رائعًا, واضفت لمسة جمالية لطيفه, والأرض لم تكن مستويه بل كان المنتصف مستوي وعلى الجانبين ارتفاع وفوقه يوجد الطاولات الأخرى, اشبه قليلًا بدور العرض المسرحي, وحين كانت تتفحص المكان بعينيها وقفت كالصنم حين وقع بصرها على "مازن" يقف في أحد الجوانب يصافح بعض الرِجال ويتحدث معهم, وللحقيقة كان الأمر مفاجئًا لها فلم تتوقع قدومه, وفي نفس الوقت كانت "نورهان" انتبهت لوجوده فقالت:
- ما توقعتش إن مازن ييجي.
التفتت لها "فيروز" تقول بتأكيد:
- ولا أنا بصراحه.
تنهدت "نورهان" معقبه:
- هو متعود بيجي كل حفل ثانوي للشركة لأنه طبعًا شريك فيها, بس قلت المرة دي ممكن ما يجيش بسبب المشاكل الأخيرة اللي حصلت, وخصوصًا إنه اكيد مش حابب يشوفني.
نظرت لها "فيروز" تقول بحنو:
- ما تقوليش كده ما فيش أخ ما يحبش يشوف اخته, هو آه حصل بينكوا مشاكل بس يعني مش هتوصل انه مش عاوز يشوفك.
ابتسمت "نورهان" بألم ونظرت لفيروز بعينين اغرورقت بالدموع تقول:
-اقولك على حاجه ما قلتهاش لشاهين نفسه.
اومأت برأسها تحثها على الحديث فقالت بنبرة مختنقة:
- انا روحت لمازن الشغل وكان في مكتبه, بس ما رضيش يقابلني.
اتسعت عيناها بصدمه فهي لم تتوقع أن يكون الأمر بينهما لهذا الحد وقالت:
- معقوله؟!!
هزت الأخرى رأسها بتأكيد وهي تقول بمرارة:
- مازن زعله وحش قوي فوق ما تتخيلي, لدرجة انه مستعد في ساعة الغضب يقطع علاقته بأي حد ويدوس عليه, يعني هو لما رفض يقابلني ما فكرش حتى إن ممكن يكون حصل معايا مشكلة, أو حصل مشكلة بيني وبين شاهين, ما فكرش يقابلني ويشوف انا عاوزه ايه, و إن كنت جايه له عشان اصالحه يرفض بس يطمن عليا.
لم تجد "فيروز" رد مناسب لِمَ قالته "نورهان" وهي ما زالت في صدمتها من رد فعل مازن القاسي من وجهة نظرها, فأكملت "نورهان" مبتسمة:
-عكس شاهين خالص, شاهين مهما عملتي فيه او حصل بينكوا لو حس إنك ممكن تكوني في خطر بيرمي كل شيء ورا ضهره ويكون معاكي, افتكر في مرة كنا مقاطعينه لما ماما كانت عايشه, وجيت اتصلت بيه في يوم ولقيت رقمه مقفول فكلمت سكرتيرة مكتبه وقولتلها لما يوصل بلغيه اني عوزاه ضروري في مسأله مهمة, انا مكنتش عوزاه في حاجه انا بس كان وحشني وعاوزه اسمع صوته بس قولت كده عشان عارفه انه هيخاف عليا ويكلمني, وفعلا اول ما بلغته رن عليا خمس مرات بس انا تلفوني كان فصل شحن من غير ما اخد بالي... تخيلي لقيت البواب بيخبط على شقتي وبيقولي كلمي واحده صاحبتك تحت, نزلت لقيته شاهين بس قال للبواب يقول كده لأن ماما كانت مانعه أنا أو مازن نتواصل معاه.
- جالك تحت البيت عشان يطمن عليكي وانتي مقطعاه؟؟!
ابتسمت بحب وهي تقول:
-شاهين طول عمره حنين, قلبه مش قاسي, غير مازن... عارفه مازن واخد قساوة قلب مامي.
رفعت حاجبها ذهولاً:
- مامتك كانت قاسية؟
- ايوه, تخيلي قعدت 3 سنين قاطعه علاقتها بشاهين ومحرمه أي حد فينا يتواصل معاه, مامي طول عمرها كانت قاسية على شاهين رغم حبها له, وكان أي غلط له بتعاقبه بقسوة, مامي كانت بتحب شاهين ومتعلقه بيه تعلق مرضي.. طب تعرفي إنها كانت بتكره شدوى عشان العيلة كلها كانت بتقول إنها هتكون مراة شاهين, مكانتش مستوعبة إنها هتاخده منها!
ظهرت الصدمة واضحة على وجه "فيروز" مما تسمعه وبداخلها تتمتم أن هذه العائلة تخفي الكثير من الأسرار, وقبل أن تعلق سمعت صوت "شدوى" المألوف وهو يقول:
- نورهان كويس إنك وصلتي, الحفلة فاضل لها خمس دقائق بالضبط وتبدأ وشاهين هيطلع يقول كلمته.
تفحصتها "فيروز" بعينيها لتؤكد ما كانت تفكر بهِ قبل بعض الوقت, فلقد كانت "شدوى" ترتدي فستان بدون أكمام فقط بسير رفيع بهِ بعض الفصوص التي لا تستبعد أن تكون من الألماس فهي بطبيعة الحال مُطرفه, معظم ثيابها فيها بزخ واضح, وكان يظهر جزء لا بأس به ابدًا من مقدمة صدرها وكذلك ظهرها, وبه فتحة طويلة بدايًة من فخذها اليمنى, وفي المجمل لم يغطي الفستان الكثير من مفاتنها, على عكس "نورهان" التي كانت ترتدي فستان من اللون الازرق الداكن, والذي كان ينساب على جسدها ويصل طوله إلى كعبيها, فقط أحد أكمامه تم استبدالها بسير رفيع به بعد فصوص مشابه لسير فستان "شدوى" ولكنه في المجمل كان ساترًا بشكل كبير, يبدو أن نورهان بطبعها لا تفضل ارتداء الملابس التي تكشف الكثير من جسدها, وبالطبع تجاهلت "شدوى" "فيروز" تمامًا كأنها لم تراها واكملت قاصدة اغاظتها:
- سوري بجد يا نور إني ما قدرتش استناكي نيجي مع بعض, بس أنتِ عارفه أنا لازم اكون مع شاهين من أول الحفلة ونستقبل الناس سوا.
لم ترد "نورهان" على حديثها لأنها تعرف جيدًا ما تحاول "شدوى" فعله بل سألتها مباشرةً:
- هو شاهين فين مش شيفاه في المكان؟
اجابتها وهي تنفض شعرها بغرور حين رأت نظرات فيروز المسلطة عليها:
- شاهين هو ومعاذ راحوا يستقبلوا العيلة, أصلهم بره.
ظهر الفرح الشديد على وجه "نورهان" وهي تسألها بلهفة:
- بجد هو جدو والعيلة كلها بره؟ أنا توقعت انهم مش هييجوا عشان كانوا بيقولوا إن عمتو تعبانه.
لم تعير الأمر اهتمامًا وهي تقول:
- ما اعرفش انا عرفت انهم بره.
وبالفعل ما إن انهت حديثها حتى رأت شاهين و معاذ يدلفان من بوابة الحفل ومعهم بعض الأشخاص, فأسرعت لهم وهي تقول:
- اهم جم.
التفت "نورهان" وحين رأتهم تحركت فورًا تتجه لهم, ولاحظت فيروز أن "مازن" قد فعل المثل, والعائلة التي تحدثوا عنها كانت أربع أفراد رجل كبير في السن خمنت انه جدهم, وسيدة ربما في منتصف الأربعينات تجاوره بالتأكيد عمتهم, وشاب ينقص عن شاهين في الطول القليل من السنتيمترات يبدو على وجهه الجدية والضجر! وبجواره فتاة تمسك في ذراعه خمنت انها زوجته, لم تجد لنفسها مكانًا بين كل ما يحدث فاتجهت الى أحد الطاولات الفارغة لتجلس عليها وهي تردد في عقلها بأن هذه الحفلة لن تختلف كثيرًا عن حفلة "تيم" والتي لم يكن لها أي وجود بها, ولكن قد خاب ظنها فبعد دقائق قليلة رأت "شاهين" يصعد على المنصة الموجودة في المكان والآن قد استطاعت أن ترى مدى اناقته ووسامته في البدلة التي اختارها اليوم بلونها البني الذي تراه عليه لأول مرة, بدأ في الحديث مُرحبًا بالضيوف بعد عِدة جمل تخص مجال العمل والشركة وما الى ذلك, فشعرت بأنها تريد الذهاب للحمام فنهضت تخرج من المحيط باحثة عن مكانه.
وعند شاهين وبعد ترحيب خاص منه بجده والعائلة كان يقول:
_ بالمناسبة السعيدة دي أحب ابلغكم خبر سعيد عني.. انا خطبت وإن شاء الله قريب هتشهدوا كلكوا على فرحي وهتكونوا مدعوين له.
همهمات تسبقها الدهشة وشهقات مستنكرة، توترت الأجواء بشكل ملحوظ وبدأ التهامس يعلو والجميع يمرر بصره بين المتحدث "شاهين" وبين زوجته المعروفة "شدوى" والعقول تتسائل كيف أعلن خطبته من أخرى وهو لم يعلن انفصاله عن زوجته! وكيف لها أن تقبل الوضع المهين الذي وضعها بهِ الآن!!
وكان مدركًا لِمَ وراء الهمهمات المتصاعدة، ومتفهمًا اندهاشهم ونظراتهم التي تتسلط على زوجته الأولى، وبكل هدوء ودون اهتمام لأي أحد أو أي شيء يحدث حوله أكمل موضحًا:
_ ومنعًا لأي اخبار مغلوطة أو ان حد يطلع يتكلم ويحلل الأحداث عن لساني هجاوبكوا على السؤال اللي بيلح على عقلكوا دلوقتي...
والهدوء عم المكان والجميع كله انصات للآتي، وهي تقف تتابع ما يتابعه الجميع كعرض مسرحي سخيف، تشعر بالسعير يشب في جسدها، وتتمنى فقط لو تتصدع الأرض وتسقط بها مختفية عن أنظار الجميع التي تحرقها، موقف لم تتخيل بأسوء كوابيسها أن يضعها "شاهين" بهِ، ولو كانت تمتلك قدرة للهرب الآن لفعلت بكل رحابة، لكنها تيبست وتسمر جسدها بأرضه فقط أنفاسها الهادرة التي تنم عن اختناقها هي ما تصدر عنها، وعيناها كجمرتان من النيران الحامية وهي تنتظر تكملة حديثه وتخصه وحده بنظراتها التي لا يهتم لها من الأساس.
ارتخاء ملامحه بدى وكأنه يخبرهم عن أحوال الاقتصاد في البلاد، أو عن خطة تنموية لنهضة الدولة! ملامح هادئة ونبرة تماثلها وهو يكمل:
_ بالنسبه لخطوبتي وانا لسه متزوج من مدام شدوى مراتي، فده برضا جميع الأطراف، وكل شخص عنده ظروفه واحواله الخاصة اللي مينفعش يشاركها مع حد، يكفيكوا اقولكوا ان مدام شدوى هي أم ابني اللي بكنلها كل الاحترام والتقدير المتبادل، فمش هسمح ان حد يدخل نفسه في أموري الشخصية وينزل بأخبار او توقعات مش صحيحة عن علاقتي بيها..ولو ده حصل مش هتردد ارفع قضية على الناشر لأني زي ما قولت مابسامحش ومش هسامح أي حد يدخل نفسه في تفاصيل حياتي أنا أو أي حد يخصني.
كانت "فيروز" قد عادت مع جملته الأخيرة لكنها لم تفهم منها شيء فظنت أن الأمر يتعلق بالشركة أو بعلاقته بأخيه..
رفع نظره لبعيد فرآها تتهادى لمحيط المكان، ابتسامة خفيفة ماكرة زينت ثغره وهو يطالعها بتمعن منتظرًا صدمتها التي ستتلقاها كالمطرقة فوق رأسها الآن، مسد جانب عنقه بكفه، وعاد يتحدث في المكبر الصوتي وعينيهِ لا تحيد عنها:
_ فيروز... لو سمحتي تعالي هنا.
توقفت ورفعت رأسها بغتة وهي تسمع اسمها بعلو صوته، يناديها لتشاركه المنصة الصغيرة! والجميع التف في هذه اللحظة ليرى من تكون المدعوة فيروز! بهتت معالمها وابتلعت ريقها الذي جف فجأة وهي تجهل ما يحدث ولماذا يناديها ألم تتفق معه أن يظهرا في الحفل كأنهما أقارب!
حادت ببصرها لجهة أخرى تقصدها، فوجدته يطالعها بوجه مشتعل بحمرة غضب ادركتها لكنها جهلت سببها! ماذا حدث في الأجواء في الدقائق القليلة التي مكثتهم في الحمام لتعدل هيئتها؟ هل حلت كارثة ما! "مازن" ملامحه غيره مبشرة ابدًا وكأنه تلقى لكمة عنيفة بوجهه للتو!
_ فيروز!
نادها ثانيًة حين طال صمتها وسكونها، فانتبهت وحركت نفسها مجبرة بعد أن سلط الجمع الغفير انظاره عليها وحدها، اقتربت من المنصة التي تحمل ثلاث درجات لتجده يقترب منها سريعًا يمد كفه لها بلباقة ليساعدها في الصعود، جحظت عيناها لفعلته وظلت تحدقه بنظرات رافضة علّه يبتعد ويصرف نظره عما يريد فعله، لكنه لم يتزحزح أنشًا، فزفرت انفاسها المعبئة بصدرها من التوتر وهول الموقف وهي تضع كفها في كفه فجذبها برفق لتصعد الدرجات واتجه بها وهو مازال ممسكًا كفها تحت استغرابها وذهولها، ووقف أمام المكبر الصوتي يقول معرفًا:
_ دي آنسة فيروز الحديدي خطيبتي وقريب هنعلن عن ميعاد فرحنا..
وبتلقائية همست بأعين متسعة وهي تنظر لجانب وجهه:
_ يخربيت أهلك!
لف ذراعه حول خصرها يجذبها إليهِ في حدة غير ملحوظة وهو يقول:
_ لمي لسانك واضحكي.
تصنعت الإبتسامة وهي ترفع نظرها للجمع الذي أمامها، لتقع ببصرها على "مازن" الذي كان واقفًا بجوار الطاولة التي جلس عليها أفراد عائلته ووجهه كجمرة نار مشتعلة، واستطاعت أن ترى قبضة يده التي تشتد في محاولة منه للتحكم في غضبه، وفجأه وجدت "شاهين" يميل عليها حتى باتت أنفاسه تضرب عنقها، و يهمس بجوار أذنها بما أسرى رعشة في جسدها لم تعرف حينها هل هي رعشة خوف أم ماذا؟ :
_لو فكرتي تقربي منه أو تقفي معاه هزعلك.
لفت رأسها تنظر له عبر السنتيمترات القليلة جدًا بينهما في نفس الوقت الذي كان هو مازال يطالعها، لتلتقط عدسات المصورين صورة رائعة لثنائي سيكون حديث
الأخبار لعدة أيام مقبلة....
انتهى العرض السخيف من وجهة نظر "فيروز" وتركا المنصة لتزيل ذراعه من حول خصرها بعنف غير مهتمة بنظرات الجميع, فكظم غيظه وهو يسير لجوارها حتى التفت له وقالت بوجه محمر غضبًا:
- انا عاوزه أتكلم معاك.
توقف وهو يجيبها ببرود:
- لما نروح.
- دلوقتي!
قالتها بنبرة حادة لأول مرة يسمعها منها, ومع نظراتها علِمَ أنها لن تتراجع, لكنه وعلى أي حال أعند منها, فاحتدت نظراته وهو يعيد جملته بقوة:
- قولت بعدين, مش ست اللي هتمشي كلامها على شاهين المنشاوي, لو مش قادره تصبري لحد ما نروح على الأقل خلينا نسلم على عيلتي واعرفك عليهم بعدين هاخدك مكان نتكلم, وقت نزول الضيافة.
قضمت شفتيها بقوة وهي تشير له بعصبية:
-اتفضل عرفني عليهم ما هو ده اللي ناقص.
التقط ذراعها الذي تشير بهِ تحت ذهولها وجره منها لطاولة عائلته, وحين وقفت أمام الطاولة مرغمة حاولت إخفاء غضبها وابتسمت ابتسامة مصطنعة..
-دي فيروز خطيبتي, انا عارف انكوا متفاجئين بس جدي كان عنده علم.
أردفت السيدة تقول بعتاب:
-واحنا مش اهلك عشان تعرفنا! يعني جدك بس اللي يعرف.
أجاب الجد نيابةً عنه:
-مكانش لسه في حاجه رسمي يا سهير.
بدأ "شاهين" يعرفها عليهم:
-ده جدي المنشاوي, ودي عمتي سهير, وده سيف ابن عمي مختار لسه مشوفتيهوش بس سيف بيكون أخو شدوى, ودي زينة مراته.
تفاجأت بوجود أخ ل "شدوى" لكن حين دققت النظر بهِ وجدته يشبهها تمامًا حتى في وجومها وكبريائها وغرورها وفي الحقيقة لم ترتاح له ابدًا.
-ودي فيروز الحديدي زي ما عرفتها على الاستيدج.
رحبت العمة في هدوء:
-اهلاً بيكي, شكلك سحرتي لشاهين عشان يخطبك.
وأخذت "فيروز" حديثها على أنها تسخر من شكلها كما فعلت "شدوى" في أول تعارف بينهما, فقالت بنبرة حادة مدافعة عن نفسها:
-هتقولي إني مش ذوقه! بس عمومًا انا ماعملتش له أي حاجه, هو وقع فيا لوحده.
أدركت "سهير" أنها فهمت حديثها خطأ فقالت موضحة:
-لا مش عشان كده, بس أصله كان مضرب عن الجواز, ورافض يدخل واحده جديدة حياته.
قطبت ما بين حاجبيها مستغربة ومتعجبة وأردفت:
-ويدخل واحده تانية ليه ما مراته موجوده! ولا انتوا عندكوا في العيلة لازم تعدد الزوجات!
تدخل "شاهين" يقول:
- عمتي مش وقته الكلام ده.
أتى أحدهم يهمس له بشيء فانسحب آخذًا معه "فيروز":
-عن اذنكوا راجعين تاني.
وحين ابتعد بها ولدهشتها تركها يقول:
- روحي اقعدي على الطربيذه الفاضية دي على ما اجيلك.
نظرت للطاولة وهي تغمغم بضيق:
-طب ماسبنيش معاهم ليه على ما يخلص مشغولياته!
جلست عليها وغاب هو عن نظرها لبعض الوقت, كان كافيًا ل"مازن" أن يقترب منها ويجلس جوارها قائلاً:
- هو قالك إنه هيعلن خطوبتكوا؟
نظرت له بخضة من وجوده المفاجئ ثم هدأت وقالت:
-لأ, انا اتصدمت لما عمل كده.
هز رأسه باختناق واضح وقال:
-شاهين بدأ ياخد خطوات غير اللي اتوقعتها منه وكده مش هنعرف نفهمه ولا نتوقع تفكيره.
-أنتَ ليه رفضت تقابل نورهان لما جاتلك الشغل؟ ليه قسيت عليها للدرجادي دي مهما كانت اختك؟
وقد كان حديث "نورهان" لا يغادر عقلها منذُ أخبرتها بهِ, نظر لها متفاجئًا من حديثها وصُدم حين أكملت بشرود كأنها تفكر فيما تقول:
-بتقول إن شاهين أحن منك حتى حكتلي موقف عن كده, ازاي وهو مجرم وتاجر سلاح يكون بالحنية دي!
تجاهل كل حديثها وفجأة وجدته يسألها بغضب:
-أنتِ هتكملي بعد اللي بيعمله! احنا مبقناش هنتوقع خطواته, راضية إنه يعلنك خطيبته قدام الكل!
استطاع جذب انتباهها فنظرت له تسأله بحيرة:
-هعمل ايه؟
زفر باختناق وغضب واضحين وقال:
-فيروز انا ههربك من عنده, مش هينفع تكملي المهمة.
نظرت له بأعين متسعة تسأله:
-ليه؟
نظر لها بداخل عيناها يقول:
-عشان خايف عليكي, مش متوقع خطوة شاهين الجاية.. ثم أنتِ عارفه إن ممكن شاهين بين يوم وليلة يجيب المأذون أو يعمل حفلة جوازكوا من غير ما يعرفك! مش هنفضل ساكتين لحد ما يعمل كده!
التمست خوفه عليها, وشعرت بأنه يكن لها شيئًا ما, وكم تمنت هذا! فسألته بلهفة خفية, وأمل يدعو بداخلها:
-وحتى لو اتجوزني ايه اللي يضايقك! كده كده المهمة هتتنفذ, بالعكس وقتها هتتنفذ أسرع.
نظر لها بغضب حارق وهو يردد:
-أنتِ مجنونة! لا طبعًا يتجوزك ايه! ي***** دي مهمة, أنا مستحيل اقبل بكده.
ابتهجت ولمعت عيناها وأصرت على الضغط عليهِ علّها تتأكد بأنه يكن لها مشاعر:
-ليه بردو؟ انا مش شايفه فيها مشكلة! مهو هيتحبس بعدها وهكون حرة.
مد كفه يمسك كفها يقبض عليهِ بقوة وقال:
-مش هسمح إن شاهين يعتبرك مراته أو يلمسك.. مش هسمحله يقرب منك للدرجادي, فيروز أنا....
صمت لثواني فقط ينظر لها, حتى سحرته نظراتها فوجد نفسه يردد:
-أنا بحبك... مش عارفه ازاي وامتى ورغم انه مكانش ينفع.. بس أنتِ تتحبي, وأنا بحبك...
انقطع الهواء عنها وعيناها ثُبتت عليهِ وعقلها بالكاد يستوعب جملته!!
الفصل السابع "فراشة في سكّ العقرب" الجزء الثاني...
حب أعمى...
ناهد خالد...
"لطالما تمنيت وجود شيء يجعلني أحب اليوم..
وعندما وجدتك وكأنني امتلكت العالم لأنني وجدتك فقط"
"من كتاب 24 فبراير ليان مشعي"
"حين تذق حلاوة التجربة الأولى تكن كل حواسك متحفزة وليس فقط لسانك عضو التذوق! جميعها منتظرة حلاوة المذاق والشعور بعدها, جميعها تتلهف لتجربة شيء ظننت أنه قد فاتك من كثرة ما تأخر, ظننت أنه لن يمر بكَ رغم مروره بالكثير قبلك وكأنه جاء عند عنوانك وفقد الذاكرة! أو وكأنك مُهمش في هامش صفحة بيضاء في كتاب مليء بالكلمات من سيلتفت لك ويترك البقية! وحين يتوقف عندك أحدهم ستكن هذه أسعد لحظاتك على الإطلاق"
" ناهد خالد "
وهذه كانت أسعد لحظات "فيروز" على الإطلاق, أن يعترف لها شاب بحبه, هي من ظنت أن الحب لم يُكتب ابدًا لأمثالها, والحب المقصود هُنا هو الحب الحقيقي المتبادل بين الطرفين وليس من طرف واحد, هي التي لم تجرب يومًا شعور الفتاة حين يعترف لها الشاب بحبه, حُمرة الخجل, التوتر, التلعثم والسعادة, لمعة العينين, والفم المبتسم بحياء وفرحة, كل هذا لم تجربه, والآن تفعل, ومع من؟ مع الذي تمنت لو ينظر لها نظرة تشعرها أنه يراها, وضعت كفها فوق قلبها الذي ينبض بقوة ألمتها, ونظرت له مبتسمة بأعين دامعة ولامعة في آنٍ, ولم تنطق, فقط تنظر له.
شعر بها وأدرك أن اعترافه أسعدها وأخجلها معًا, فابتسم لها وهو يقول:
-مش مستنيكي تردي, أنا بس كان لازم اعترفلك باللي جوايا.
خرجت من خضم أفكارها وهي تقول بلهفة:
-يعني أنتَ هتهربني من عنده!
وفور انتهاء جملتها لمحت "شاهين" يأتي من خلفه لتقول فورًا:
-شاهين جاي.
اختفت ابتسامته وجُمدت ملامحه ولكنه لم يتحرك من مكانه, بل ظل كما هو حتى وصل إليهما "شاهين" والذي قال بنبرة حادة واضحة:
-أتمنى ما اكونش قطعت عليكم قعدتكم الحلوة دي.
نظر له "مازن" من فوق كتفه ثم نهض يقف أمامه مباشرةً وهو يقول:
-ما شفتش في بجاحتك! يعني خاطف الست اللي بحبها واللي كنت هخطبها ووقفت في المؤتمر قدام الناس كلها وقلت انها خطيبتك, ودلوقتي جاي محموق اوي إنها قاعدة معايا! أنا لو عاوز اخدها حالًا وامشي أنتَ مش هتقدر توقفني.
-انا خاطفها! الله يسامحك.
قالها "شاهين" بنبرة مستكينة ظهر فيها براءته المصطنعة وأكمل وكأنه لم يخطفها حقا! وينظر لها نظرة عملت معناها:
-طب ردي عليه انتِ يا فيروز, أنا خطفتك؟
نهضت "فيروز" من كرسيها واقفه أمامهما بضجر من كل ما يحدث وقالت كي تنهي النقاش:
-لا مش خاطفني خالص.
تجاوز "شاهين" نبرتها الساخرة وهو ينظر "لمازن" ويقول مكملًا تلك المسرحية الدرامية السخيفة بين الجميع:
-على فكره أنا عرفت فيروز بعد معرفتك بيها بفترة بسيطة ولما انتَ اخذتها لنورهان وعرفتها عليها انها خطيبتك من قبل ما تقولها انك ناوي تخطبها , وقتها كانت حاسه بحب ناحيتي عشان كده كلمتني, وقالتلي اللي انتَ عملته فقلتلها اننا اكيد مش هنستنى لحد ما حضرتك تخطبها رسمي ولا حتى تدخل عليها بالمأذون, فخيرتها ما بيني وما بينك... و كالعادة يا مازن اختارتني أنا.
وكلمه "كالعادة" التي ذكرها كانت تعود للماضي, كأنه يذكره بأن نفس القصة تُعاد مرة أخرى وهو المنتصر فيها كما حدث في قصة "ليلى" , ورغم أن "مازن" يعرف بأن "شاهين" يقول حديث ليس له أي واقع من الصحة, و"شاهين" يعرف أن "مازن" يدرك جيدًا كذب حديثه, لكن هذا لم يمنع أن يثور غضب "مازن" بداخله وغضبه الذي ظهر على ملامحه الآن ونبرته كان حقيقيا, ليس من طبيعة الموقف الذي يحدث حاليا, ولكن من آثار الماضي, حين اقترب منه وهو يقول:
-عشان كل مرة بتلعبها ب****, وأنا للأسف ولا مرة عرفت أكون و*** زيك, بس ما تقلقش بتعلم وقريب أوي هردلك كل ده.
ابتسم "شاهين" ابتسامة ساخرة رغم تألمه من الجملة التي قالها:
-تعرف لو شغلت نفسك بأي حاجة في حياتك اكتر مني كان زمانك انجح حد فينا, يعني على الأقل كان زمانك متجوز ومخلف, بدل ما انتَ كل شويه عمال تحب واحدة وتطير منك.
ابتسم "مازن" ابتسامة قاسية وهو يقول بتوعد حقيقي:
-لا ما تقلقش المرادي مش هتطير مني, انا اتعلمت كويس قوي من اللي فات.
هز "شاهين" رأسه في حركة رتيبة بلا اهتمام قائلًا:
- تمام وانا مستني اشوف, على فكره يهمني جدًا إنك تتعلم من اخطائك مش انا زمان كنت دايما بقولك إن الوقعة ما تكسركش بالعكس لازم تعلمك ! هفرح أوي لو لقيتك خدت بكلامي.
رفع "مازن" جانب فمه لأعلى وهو يقول بسخرية مريرة:
- لا ما تقلقش انا كل اللي اتعلمته منك رميته في أ*** بحر قابلني, ومش فاكر منه أي حاجه, واللي بعمل بيه دلوقتي هو اللي الأيام علمتهولي.
تجاوز "شاهين" حديثه وهو يربط على كتف الآخر بقوة مقصودة وقال مُستفزًا إياه:
-اكيد مش هنسى اعزمك على فرحي, وأكيد لازم تيجي.
دفع "مازن" كفه بقوة وهو يقول من بين أسنانه:
-يا عالم مين هيعزم مين الأول على فرحه.
ونظر ل"فيروز" نظرة أخيرة معناها واضح! قبل أن ينسحب من بينهم, كاد "شاهين" أن يلتفت لفيروز بالغضب الذي يكمن فيهِ الآن, ولكنه توقف حين أبصر عمه "مختار" يدلف للمكان, فقال لها دون أن يلتفت:
-تعالي اعرفك بعمي.
وذهب لتذهب خلفه وهي تزفر بضيق وقد ضاق ذرعها من هذا الحفل بأكمله.
احتضنه "مختار" يربط على ظهره بقوة وهو يقول:
- مش عيب عليك نتقابل في حفلة! يعني ما كانتش المناسبة تجمعنا ما تقولش اروح اشوف عمي اقعد معاه شويه,ولا ما وحشتكش قعدتي.
ابتعد عنه مبتسما بهدوء وهو يجيبه:
- انتَ عارف يا عمي اني ما بشبعش من قعدتك, بس حقيقي الفترة اللي فاتت كنت مشغول أوي.
وبعد عدة سلامات وترحيب من "مختار" بأفراد العائلة لنزولهم القاهرة لحضور الحفل السنوي للشركة, فعائلة المنشاوي اصلها يعود الى البحيرة وما زال الجد والعمة يمكثون هناك, أما "سيف وزوجته" فبالطبع يتواجدان في فيلا "مختار المنشاوي" بالقاهرة.
وبعد أن انتهى "مختار" من الترحيب بادر "شاهين" قائلًا وهو يشير لفيروز:
- بما ان حضرتك جيت متأخر فأنتَ ما حضرتش وانا بعلن عن الخبر الجديد.
نظر له باستفسار يسأله:
-خبر ايه؟
وبكل هدوء كان يعرفها له:
- فيروز خطيبتي.
ونظرة "مختار" الآن تعبر عن مدى صدمته بالخبر, ولم تكن نظرته فحسب بل خرج من صمته الذي دام لثواني وهو يقول بحده وغضب:
- يعني ايه خطيبتك؟ طب ومراتك! اللي هي بنتي واللي هي بردو بنت عمك ايه وضعها؟!!
وقبل أن ينطق "شاهين" كان يقول الجد موجهًا حديثه لمختار:
- مختار, مش وقته الكلام ده.
نظر له "مختار" مستنكرًا:
- مش وقته طبعًا… ما كانش وقته بردو انه يعلن عن خطوبته في حفلة كبيرة زي دي فيها صحافه وفيها مصورين قبل حتى ما ياخد رأينا, أو يعرفنا بالخبر ده.
ثم نظر لشاهين وهو يقول معاتبًا بغضبه الذي ما زال مسيطرًا عليهِ:
- ولا انا بتكلم غلط؟ مش من الأصول يا ابن اخويا ياللي جدك مربيك على الأصول, إنك كنت تعرفنا وتاخد رأينا قبل ما تطلع تعلن ده قدام الكل ونتفاجئ زينا زي الغُرب!؟
- في الحقيقة يا عمي إن الخبر مش مضطر اشاركه مع حد قبل ما اقوله , ولا مضطر إني اخد رأي حد فيه, وفعلًا جدي رباني على الأصول وعشان تربيته دي فانا قبل ما أعلن خطوبتي ومن كام يوم,قلت لبنتك انها لو عاوزه تطلق انا معنديش أي مشكلة, وبنتك عارفه خطوبتي من فيروز بقالها كذا يوم, يمكن 10 ايام او اكتر, يعني انا صاحب الشأن معرف اللي يخصها الموضوع اللي هي مراتي, وخيرتها اني ما احطهاش في موقف زي ده وننفصل بهدوء, ورفضت يبقى انا ما عنديش أي غلط.
نظر له "مختار" بعتاب واضح ورفض لِمَ يفعله وهو يقول:
- يا خساره, معزتك عندي كانت غالية أوي يا شاهين, بس باللي انتَ عملته النهاردة فأنتَ هديت حاجة ما بينا, وعملت حاجز عمره ما هيتهد.
نظر له "شاهين" مضيقًا ما بين الحاجبين باستغراب وتحفز للإجابة سؤاله:
- ويا ترى ايه الحاجز ده؟ هي جريمة اني اخطب؟
اجابه "مختار" في حدة وغضب:
- لا مش جريمة بس انتَ عشان تخطب كسرت بنت عمك, وقليت بيها قدام الناس, خليت شكل بنتي قدام كل الناس الموجودة في الحفلة دي زي الزفت, والكل دلوقتي اكيد بيتكلم عليها انه ازاي جوزها يعلن خطوبته من واحده تانيه وهو لسه متجوزها!
رفع "شاهين" سبابته وهو يشير له قائلًا بابتسامة بسيطة:
- بالضبط, هي دي النقطة انهم هيقولوا ازاي جوزها يخطب واحدة تانية وهي لسه على ذمته, بس دي بقى انا ماليش ذنب فيها, لأني قلتلها نطلق وكان وقتها لما أعلن خطوبتي دلوقتي ماحدش يجيب سيرتها ما خلاص بقت طليقتي, لكن هي اللي رفضت, يبقى انا ذنبي ايه؟ ولا انا كنت المفروض سواء موافقة ولا مش موافقة أطلقها وابعتهالك على بيتك عشان اعرف أعلن خطوبتي! كنت وقتها مش هبقى ندل و كسرتها!
صمت لبرهة من الوقت ثم قال بمغزى أدركه "مختار" جيدًا:
- عمي انت اكتر واحد عارف ان عشان غلاوتك عندي انا عملت ايه, واكتر واحد عارف انا ضحيت بإيه, وازاي عشانك وعشان العيلة دي ,فما لكش حق دلوقتي تيجي تلومني لما احب التفت لنفسي شويه, اعيش لنفسي بعيد عن المسؤوليات والتضحيات والعيلة..
ثم نظر لجميع الجالسين حول الطاولة وهو يقول:
-واعتقد كلكم كنتم شاهدين على ده, فياريت اللي عنده اعتراض على خطوبتي يخلي اعتراض لنفسه, عن اذنكم.
قال جملته الأخيرة وهو يلتقط كف "فيروز" ويسير بها بعيدًا عن الجمع لمنطقة هادئة يستطيع فيها أن يتحدث معها ويضع الِنقاط فوق الحِروف.
وبعد أن ذهب نظر لهم "مختار" من بين غضبه وهو يسألهم:
-هي شدوى راحت فين؟
أجابه "سيف":
- بعد ما البيه قال مفاجئته قالت انها هتروح الحمام, من وقتها مارجعتش.
عقب الجد المنشاوي في هدوء تام:
- سيبوها, محتاجه تكون لوحدها شويه يمكن تفوق وتراجع نفسها.
نظر له "مختار" غاضبًا يسأله باستنكار:
-هي برده اللي تفوق!؟
أصر الجد على حديثه وهو ينظر له بقوة:
- اه يا مختار هي اللي تفوق وتعرف ان الدنيا مابتقفش على حد ومش هتقف على شاهين, على فكرة هي كلمتني لما شاهين بلغها بخطوبته وانا نصحتها تبعد باحترام وفي هدوء بس مسمعتش كلامي, بنتك محتاجه تعرف يعني إيه كرامة وتتمسك بيها.
و صمت الجميع بعد حديث الجد… البعض مقتنع, والبعض الآخر غير مقتنع تمامًا ولكنه ليس به طاقة لنقاش عقيم لن يجدي بأي نتيجة.
**********
"نفقد أشياء ونودع أشخاص, تفوتنا فُرص ويكسرنا فراق, تُهدم أحلاما وتتبخر أماني, نُخذل و نُطعن, وكل هذا لحكمة لا يعلمها الشخص في وقتها وربما يدركها لاحقا وربما تظل مجهولة لباقي العمر, وهل في يدك أن تُغير القدر؟ هل بيدك أن تتمسك بشيء كُتب عليك فقده!؟ القدر...النصيب.. الحكمة, بينهم ارتباط وثيق تمقته حين يكن الاجتماع على شيء عزيز عليكَ, ولكن كل ما تستطيع فعله هو الصراخ والبكاء والتحسر والانفجار بالشكل الذي تراه..... ثم .... اهدأ, فكِر, وأخلق حكمة حتى وإن كانت الحقيقية مجهولة, ثم اندفع بها وبقوة لسير خطوات ثابتة لا يهزها ما أصبح ماضي"
وفي إحدى مستشفيات القاهرة..
منذ الأمس وهي تجلس على نفس الوضع, على إحدى المقاعد الموجودة أمام غرفة ما في إحدى طرقات المستشفى, بعدما هاتفت والدها بالأمس واستأذنت منه أن تظل مع والد مجد لأن وضعه غير مستقر تمامًا, وبحكم الجيرة والعلاقة الطيبة بين والدها والرجل لم يعترض, بل أراد أن يحضر للمستشفى لكنها رفضت خوفًا عليهِ, فصحته لا تحتمل جلسة المستشفيات.
تنهدت وقالت وهي تنظر لوالده الذي يسند رأسه على الحائط خلفه, وبدا على وجهه الحزن والهم:
- لا اله الا الله يا رب ارحمنا برحمتك,
ثم اقتربت منه تقول:
- وحد الله يا عم شاكر ان شاء الله ربنا مش هيصيبك فيه.
نظر لها بأعين ممتلئه بالدموع:
-مش عارف حاله هيبقى ايه لما يصحى, مش عارف لما يفوق ويلاقي نفسه كده هيعمل ايه؟ وانا ههون عليه ازاي وانا عاوز اللي يهون عليا.
تساقطت دموعها وهي تستمع لحديثه ثم قالت بمواساة:
-نحمد ربنا انه نجاه منها, دي كانت حادثة كبيرة مش هينة, وزي ما انتَ سمعت الدكتور, كويس انها جت على قد كده ولسه حسه في الدنيا.
هز رأسه مقتنعًا بحديثها ولكنه ما لبث أن قال بمرارة:
- بس انتِ ما تعرفيش يا بنتي واحد طول عمره شغال بدراعه واقف على رجله لما الدنيا تيجي عليه و تهده وتاخد منه حاجة عزيزة عليه بيحس بإيه, وانا عارف ابني لما يفوق هيحس بإيه.
-مهما كان اللي هيحس بيه انتَ موجود جنبه, هتقويه وتسانده.
- هقويه واسانده اه, لكن مش هعرف اشيل عنه, مش هعرف اخفف حمله.
خرج الطبيب من غرفته وهو يخبرهم:
- المريض بدأ يفوق وانا برجح تكونوا موجودين جنبه في وقت زي ده, لانه مش هيستوعب اللي حصل بسهوله, وانا معاكم عشان لو احتجنا نديله حقنة مهدئة.
نهض "شاكر" و"مستكه" و دلفا للغرفة, بقلوب واجفة, وأعين دامعة , و أنفس داعية الله بأن يمر الأمر على خير أو على الأقل بأقل الخسائر.
وهذه أول مرة يُسمح لهما برؤيته, فلقد منعهم الطبيب من رؤيته منذ أمس ورؤية وضعه الآن بعثت فيهم غصة لا تذهب, وقبضة قلب مُوحشة ورجفة جسد متألمة على وضعه, فما تراه العين غير ما تسمعه الأذن ويدركه العقل.
وحين استفاق "مجد" لم يكن يشعر بما حدث له, فقط ابتسم حين رأى والده وهو يسأله بصوت متعب:
-ايه اللي حصلي؟
اقترب "شاكر" من فراشه وقال بدموع واضحة:
-انتَ بخير وزي الفل, ربك نجاك وكتبلك عمر جديد.
ابتسم "مجد" ابتسامة صغيرة وهو يقول:
-بتعيط يا أبا؟ لا ماتعيطش انا مش متعود عليك اشوفك كده, وبعدين انا كويس اهو.
ربط "شاكر" على صدره قائلاً:
-الف حمد وشكر لله انه نجاك, ده انا معرفش أعيش من غيرك يا مجد, اتبهدل واتشرد وابوك كبر ومش حِمل مرمطة.
-بعد الشر عليك من المرمطة يا حاج, طول مانا عايش هعززك واكرمك زي ما كبرتني وعلمتني.
ثم نظر ل "مستكة" يقول مستغربًا:
-انتِ هنا بتعملي ايه؟
أجابه "شاكر" قبلها:
-دي معايا من امبارح من وقت الحادثة ومسابتنيش لحظة كتر خيرها بنت أصول.
تنحنحت بحرج وهي تقول:
-انا معملتش غير الواجب, بحكم الجيرة وبحكم عشرتك مع ابويا يا عم شاكر.
رفع "مجد" رأسه عن الوسادة وحاول النهوض وجاء يستند بذراعيهِ ليدعم جسده, لكنه شعر بشيء غريب, شيء ناقص!
وكانت الكارثة حين نظر لذراعه الأيسر الذي لم يشعر بهِ ليجد مكانه فارغ! فقط بروز صغير في الكتف...!!
نظر فورًا لوالده ليجده يبكي في صمت وهو ينظر له, فابتسم بصدمة وعدم تصديق يسأله:
-ايه ده؟ فين دراعي!
رد "شاكر" من بين بكائه:
-حالته كانت وحشة لان العربية لما وقعت عليك هو اكتر حاجه اضررت, وانتَ في العمليات الدكتور طلع وقالي انه حاول كتير يفادي دراعك لكن لازمله.... لازمله بتر.
أكملت "مستكة" الحديث بدموعها ونبرتها المختنقة:
-الدراع كان متهشم وكان مسبب نزيف مبيقفش, لو كانوا اصروا على وجوده كان ممكن يجرالك حاجه, ربنا خد منك حاجة مقابل حياتك اكيد مش هتكون أغلى من حياتك.
صرخ بهما بغضب وكسرة:
-بتقولوا أيـــــــه؟ ازاي توافقوا؟ ازاي تقبلوا انه يبتر, محدش منكوا فكر فيا, محدش فكر في اللي بتعملوه فيا.
ووالده لم يكن قادرا على الرد من انهياره وبكائه الذي لا يتوقف, فأخذت "مستكة" مكانه وهي تقول:
-لو كنا رفضنا كنت...
-موت! ياريت...ياريت كنت موت.
قالها بصراخ وانفعال مخيف والفراش الصغير يرتج من أسفله من عنف حركته فوقه, اقترب منه والده سريعًا يقول بخوف:
-اهدى, اهدى يا حبيبي ماتعملش في نفسك كده, كنت عاوز تموت وتسبني يا مجد؟
أردف بالأخيرة معاتبا, ليضحك "مجد" بألم:
-وانا عيشتي دلوقتي ايه! مش موت! هفيدك بإيه... بقيت عاجز وعاوز اللي يعولنا احنا الاتنين... بقيت عاجز يابا, بقيت عااااااجز...
صرخ بالأخيرة صرخة جهورية رجت قلوب الواقفين ليقترب الطبيب ويفرغ حقنة في المحلول الوريدي والتي فور ان تسربت إليهِ من بين ثورانه حتى ارتخى ورويدًا ذهب في نوم عميق.
********
عودة للحفل....
-قولتلك متقربيش من مازن تقومي تسبيه يقعد معاكِ؟ انتِ بتفهمي ولا مابتفهميش؟
نفضت ذراعه الذي يمسكه بقوة وهي تقول صارخة بهِ:
-انا اللي مبفهمش! وانتَ واللي بتعمله ايه! نيوتن! انتَ ازاي تسمح لنفسك تعلن خطوبتنا... انتَ بتعمل ايه يا جدع انتَ؟ عاوز توصل لفين؟ وساحبني وراك زي التور! انا من اللحظة دي مش هعمل حاجه غير لما افهم.
رد ببرود أغاظها:
-مش شغلك تفهمي انا عارف انا بعمل إيه.
رفعت حاجبها له بتوعد وقالت:
-كده؟ حلو اوي, هرجع للحفلة واقولهم ان كل اللي قولته كلام فارغ واني مش خطيبتك وشوشرة بشوشرة بقى! على الأقل دلوقتي اكيد بيقولوا عليا خطافة رجالة وواحده شمال ظبط معاك عشان املاكك وخدتك من ابنك ومراتك, لكن لما يعرفوا هيقولوا إنك اتجننت, هيقولوا شاهين بيه المنشاوي مبقاش عارف بيقول إيه.
امسك ذراعها الذي تشيح بهِ بقوة لاويا إياه خلف ظهرها مقتربًا بوجهه منها وهو يقول بغضب مخيف:
-جن اما يلغبطك, مين ده يا بت اللي اتجنن! اتعدلي يا فيروز عشان متندميش على اليوم اللي شوفتيني فيه.
ضربت صدره بذراعها الحر الآخر وهي تهتف بعنفوان وعصبية:
-هو انا لسه هندم؟ لسه هندم! انا كرهت اليوم اللي قبلت بخطة مازن فيه, انتَ مش طبيعي وبتعمل تصرفات مش طبيعية, يا مجنون..
جحظت عيناه على لفظها الأخير وإشارتها على رأسها بعلامة الجنون, ليمسك فكها بقوة كادت تكسره وهو يهدر بها:
-طب جنان بجنان, كتب كتابنا آخر الأسبوع الجاي, والفرح بعد شهر..
هدأت لثواني جاحظة الأعين تحت نظرته الشامتة بحالها, وشحوب وجهها وصدمتها بِمَ قاله, لكن سرعان ما نفضت صدمتها وهي تقاومه لتحرر ذراعها منه وتقول:
-لما تشوف حلمة ودنك... ده انا اموت نفسي قبل ما تعملها, يا مجنون يا بن المجانين..
صرخت حين هبط بكفه على فمها يصفعه بقوة غاشمة شعرت أن أسنانها قد وقعت من قوة الضربة, وقال بنبرة أثارت بها الرعب:
-ورحمة أمي يا بنت ال*** لو مالميتي لسانك لأقطعهولك, اخرسي..
صرخ بها حين أوشكت على الاعتراض والصراخ بهِ وأكمل:
-اوعى تفكري إني ماقدرش اعمل معاكي حاجة واربيكي, انا شاهين قادر اخليكي تكرهي حياتك, قادر اوصلك للانتحار من غير ما ادخل, فعقلي وارسي كده عشان متأذيش نفسك بنفسك, انا مش من النوع اللي يقولك لو مش ست كنت عملت.... انا بعمل سواء ست أو راجل, لأنها مادام ست عاوزه تتربى وتتعلم الأدب يبقى اربيها.
نجح في إثارة خوفها, وقلقت أن يفعل لها شيء لن تتحمله, فقررت اتباع أسلوب مختلف فقالت بنبرة حزن وهدوء:
-هو حضرتك يعني يرضيك اللي بتعمله معايا ده!؟
-اه يرضيني.
شعرت بأن ذراعها بالتأكيد قد كُسر فرفعت عيناها الدامعة بوجع له وهي ترجوه:
-طب ارجوك سيب دراعي حساه اتكسر والله.
نظر لها لثانية واحدة قبل أن يدفعها بحدة بسيطة ووضع كفه في جيب بنطاله يراقبها في صمت وهي تمسك ذراعها تتفحصه بوجه متألم, فنفذ صبره يقول:
-هبقى اجبلك مرهم كدمات.
رفعت رأسها له بغضب وغيظ كظمته متذكره تهديده لها, اخذت نفس عميق وقالت:
-انا محتاجه افهم ليه بتعمل كل ده؟ هتستفاد ايه؟ كمان...كمان حرام عليك مراتك والله, انا لو منها كنت موت بقهرتي وجوزي بيعلن خطوبته وانا لسه على ذمته, يعني لو في مشاكل بينكوا حلها معاها بشكل ودي, ولو مش عشانكوا عشان السكر ابنكوا يستاهل تحاولوا عشانه.
-ملكيش دعوة, اللي بيني وبين عيلتي ملكيش دخل فيه, محدش عينك مصلحة اجتماعية.
صدمها رده ووقاحته, فضغط على أسنانها بقوة وهي تتحكم في غضبها لأقصى حد أمام هذا المستفز, زفرت نفس طويل ثم ابتسمت ابتسامة بسيطة تقول بهدوء:
-طيب, خليني في نفسي احنا بينا اتفاق إنك هتستخدمني ضد مازن عشان تقلب لعبته عليه, مافهمش انا بقى إيه علاقة الخطوبة وكل الحوارات اللي عملتها بعد كده باتفاقنا, انتَ باللي أعلنته النهارده ورطني معاك وعقدت الحكاية... وأكيد يعني حوار كتب الكتاب والفرح ده كنت بتضايقني... صح؟
تساءلت بخوف واضح جعله يبتسم في خبث وهو يرى رعبها وانتظارها الإجابة, تلاعب بها وهو يقول:
-طول ما انتِ مؤدبة أظن هنتفق.
مررت لسانها بداخل فمها في حركة إجرامية وشعور بداخلها يصرخ بها "اقتليه ولا حرج عليكِ"!
وفجأة استمعا لصوت "شدوى" تقول بنبرة مخيفة:
-اوه, جوز الكناريا هنا! إيه مش قادرين تبعدوا عن بعض مسافة الحفلة!
ثم نظرت ل "فيروز" بابتسامة غريبة وهي تقول لها:
-يا ترى جبتيه في مكان بعيد وهادي عشان تعرضي عليه خدماتك وتسحريه أكتر! رغم إن مفكيش شيء يسحر, بس يا ترى بقى ساحراه بإيه!
أو بيعجبه إيه فيكِ.
تصنعت التفكير لبرهة ثم قالت بابتسامة خبيثة:
- يمكن بتعجبيه وانتِ في سريره!
-شدوى!
صرخ بها "شاهين" بقوة جعلت ابتسامتها تختفي وهي ترى ملامحه تتحول للقتامة, الغضب ينفر من عروقه, ونظراته مميتة.
-دي تاني مرة تغلطي وتعيدي أخطائك... لتاني مرة بتذكري إني مش حلوة ومعجبوش, وبتذكري إن في علاقة غير شرعية بينا... المرة اللي فاتت جبتك من شعرك ومسحت بيكِ بلاط الفيلا, تحبي تجربي بلاط الفندق!
-وانا المرادي مش همنعها.
قالها "شاهين" لتنظر له "فيروز" بدهشة من موقفه لكنها سرعان ما تحولت لابتسامة خفيفة وتحفز لتجربة الأمر مرة أخرى.
ولكن لم تعطي لها "شدوى" فرصة حين انتفضت صارخة كالمجنونة تمامًا, وهي تضرب فخذها تارة بكفها, والأرض بقدمها مرة أخرى, وقالت بدموع وحسرة:
-ليييييه! بتعمل فيا كده لييييه! كل ده عشان غلطة! غلطة واحدة مش قادر تغفرهالي يا شاهين, حبك ليا ميغفرش غلطتي, تكسرني كده! تفضل دي عليا!
أشارت لفيروز باحتقار وأكملت بكلمات جارحة:
-السودا, اللي مفيهاش ميزة واحده, لا جمال ولا نسب ولا تشبه للهوانم في شيء, حتة جربوعة واطية جبتها من داهية وبتفضلها عليا! يا ترى طلبت منك تطلقني ولا لسه؟
-اخرسي يا شدوى.
قالها "شاهين" محذرًا من التمادي أكثر, وربما عدم اتخاذه لرد فعل الآن هو حالتها الغريبة والمقلقة فغالبًا هي على شفا الانهيار, صمتت لثانية لتجذب خصلات شعرها بقوة وهي تتابع بأعين شاخصة:
-اوعى...اوعى تكون طلبت منك تطعن في نسب تيم! اوعى يا شاهين تتخلى عني وعن ابني بسببها!
-اخرسي بقولك...
قاطعها بعنف وهو يتجه لها يمسك ذراعها يحاول التحرك بها تحت رفضها, ولكن "فيروز" شعرت أن الفرصة قد أتت لها على طبق من ذهب لتعرف حقيقة أمرهم, فركضت له تجذبها منه بقلق مصطنع:
-حاسب يا شاهين دي باين حالتها صعبة.
دفعتها "شدوى" بغضب ونظرت لها مكملة:
-عاوزه ولادك منه يكونوا الورثة الحقيقيين له صح؟
-اسكتي..
زجرها "شاهين" وهو يجذبها من ذراعها بقوة لتلتفت له, ولكن وقفت "فيروز" حائل وهي تدفع ذراعه بجسدها وتفصل بجسدها بينهما قائلة بلطف زائف:
-يا شاهين براحة هي شكلها أعصابها تعبانة... على فكرة أنا مفكرتش كده..
قاطعتها "شدوى" التي أصبحت في جهة مقابلة وقالت صائحة في وجهها:
-ماتعمليش فيها بريئة! أنا لو مكانك كنت هقول كده, كنت هطلب منه ينفي نسب تيم له عشان ميشاركش ولادي في الميراث وهو مش ابنه, عشان متكونيش قدام الناس ام ابنه وهو اصلاً ملمسكيش..عشان...
قاطعتها "فيروز" مرددة بوجه مصدوم وأعين جاحظة وفاه فاغر:
-تيم مش ابنه!؟
هدأت ثورة "شدوى" فجأة وقد شعرت بشيء ما مريب, نظرت ل "شاهين" تسأله بتوتر:
-هي...هي ماتعرفش!
-غبية.
الكلمة الوحيدة التي رددها "شاهين" بكره بعدما فضحت كل شيء أمام "فيروز" التي تشعر بدوامة تلف بها الآن....
"الفصل الثامن من الجزء الثاني"
"فراشة في سكّ العقرب"
"ناهد خالد"
"الأيام جميعها تمر حتى الأكثرهم عصبة، فعلينا أن نتحلى بالصبر والهدوء كي يمر بأقل الخسائر وبعده نعيد ترتيب أوراقنا لاللعب من جديد"
مرَّ يوم عصيب على الجميع..
انقضى بخلافاته وصدماته وواقعه الأليم للبعض والمُدهش للبعض الآخر، وفي النهاية كان يوم كباقي الأيام ومرَّ...
نزلت درجات السلم بتوتر بالغ، فهي تعلم جيدًا من ستلقى حول مائدة الإفطار، عائلة المنشاوي التي ظهرت أمس والتي أصر شاهين على استضافتهم ليومين قبل عودتهم لمسقط رأسهم، الجد والعمة وابن العم وزوجته وبالطبع شدوى وشاهين وتيم ونورهان، رأت الجميع متواجد، فاتجهت لأحد الكراسي الفارغه والتي كانت بعيدة عن شاهين هذه المرة وهي تلقي تحية الصباح بصوت هادئ بهِ ارتباك يأتي من بعيد...
كانت وقتها ترتدي فستان بنصف أكمام ويصل لبعض ركبتيها بمسافة كبيره حتى أظهر القليل فقط من قدميها، أبيض اللون بهِ رسومات كرز حمراء، بفتحة عنق مثلثية أظهرت مقدمة صغيرة من صدرها، وشعرها فقد عقدته للخلف بربطة شعر وتركت الباقي منه ينسدل على ظهرها، جلست بعدما اجابها بعضهم والبعض لم ينطق ولم تسمع له صوتًا، تناولت شريحة خبز بارتباك لتناولها الطعام امام الجمع الغريب عليها، وظلت تحاول الأكل رغم انعدام شهيتها.
_ ما قولتليش يا شاهين ناويت على الفرح امتى؟
حُشرت اللقمة في حلقها حتى لم تجد سبيلاً للنفس، ونظرت له على الفور بأعين متسعة بقلقٍ بالغٍ، لتلاحظ انه يرتدي "تيشرت" من الرمادي الداكن، إذًا لقد قرر أن يأخذ اليوم أجازة، وجدته ينظر لها بأعين تلمع مكرًا فهمته وهو يقول:
_ لسه يا جدي، في شوية حاجات هظبطها الأول.
والتزم الجميع الصمت لتشيح ببصرها عنه وتنظر ل "شدوى" لتجدها كما توقعت، تنظر لها بكره وشر واضحين، فتنهدت وهي تعيد النظر لطبقها قائلة في سرها:
_ولا كأني هموت عليه ياختي ابعديه عني وريحيني.
علىَ رنين هاتف "شاهين" فجأة ليلتقطه ويستأذن منهم بالخروج للرد على المكالمة، وبعد خروجه انصرفت "نورهان" كي تلحق عملها، ونهض الجد لينام قليلاً فهو عادته أن يستيقظ فجرًا ولا ينام إلا في التاسعة أو العاشرة صباحًا بعد تناول إفطاره ثم يستيقظ مرة أخرى على صلاة الظهر، تململت "فيروز" بعدم راحة وهي تجد نفسها في وسط أشخاص غرباء ومن ضمنهم التي لا تطيقها ومازالت مسلطة نظرها عليها، استمعت فجأة لصوت "سيف" يقول:
_وانتِ بقى بتعرفي تتعاملي معاه؟ أصل شاهين دايمًا عصبي ولسانه طويل وايده أطول ولا انتِ اتعودتي؟
وعلى حديثه كان "شاهين" قد انهى مكالمته وعائدًا للغرفة، ليتوقف خارجها وهو يسمع صوت سيف، أراد أن يسمع ردها عليهِ رغم أنه يتوقعه سلفًا.
_ مفيش داعي للكلام ده يا سيف، وبعدين كلامك مهين، معنى كده انه كان بيعمل كده مع شدوى وهي متقبله وساكته؟
قالتها العمة بضيق، ليعقب بمكر:
_وليه يا عمتو؟ مش بطمن على اللي هتبقى مرات اخويا، وبعدين عشان بردو لو ماتعرفش طباعه نوعيها عشان ماتستغربوش وتاخد عليه بسرعة.
وعقبت "شدوى" كاسرة صمتها:
_ واه شاهين دايمًا عصبي ولما بيتعصب بيفقد السيطرة على لسانه و... وايده، بس أنا عشان بحبه وابن عمي وابو ابني بستحمل وبعرف ازاي اصلح أموري معاه.
نبرتها كانت ماكرة وخبيثة بشكل واضح...
زفرت "فيروز" بخفة وهي تترك قطعة الخبز وتنظر له حيث كان جالسًا أمامها تمامًا وقالت وكأنها تجيب على عِدة أسئلة في امتحانات نهاية العام وهي توجه اجابتها لسيف:
_ بعرف اتعامل معاه؟ اه بعرف.. زي ما اختك كانت بتعرف تتعامل معاه، ولو هي اتأقلمت على غضبه وطولة لسانه... وايده، فالحقيقة أنا متأقلمتش، لأني مشوفتش منه أي شيء من دول، وده يخليني اشك انها كانت بتخرجه عن شعوره، والانسان مننا لو خرج عن شعوره بيطلع اسوء ما فيه، يعني مثلاً....
نهضت واقفة والتفت تستند على ظهر كرسيها والجميع يتابعها في استغراب والبعض في كره وقالت موجهه حديثها لشدوى:
_ لو عصبتيني دلوقتي وخرجتيني عن شعوري، ممكن في لحظة تلاقيني وراكي وملبسة راسك في طبق المربي اللي قدامك ده..
نهضت "شدوى" عن كرسيها فورًا بقلق تلقائي، لتبتسم "فيروز" باتساع، وكذلك العمة و "زينة"، واكملت:
_وقتها محدش يلومني عشان انتِ اللي وصلتيني لكده، ماينفعش بقى بعدها تمشي تقولي فيروز عصبية وايدها طويلة!
ثم نظرت لهما قاصدة اغاظتهما واشعال نيران الكره بهما:
_ بعدين شاهين مفيش اطيب منه هو بس بيتعامل مع كل واحد بأسلوبه، فالمحترم بيعامله باحترام، وقليل الأدب بي....
وقطعت حديثها وكانت التكملة مفهومة، ثم نظرت لسيف تقول له ساخرة بينما هو يرمقها بغيظ ومقت وقد وضعها ضمن قائمة الأعداء للتو:
_ وشكرًا على نُبل أخلاقك وخوفك الغير مُبرر عليا! بس أنا اعرف اخلي بالي من نفسي كويس اوي وماخليش حد يتجاوز حدوده معايا..
القت بكلماتها وخرجت من الغرفة تحت نظرات العمة المبتسمة وزينة المتشفية في "سيف" بعد أن استطاعت الغريبة لجمه ولم ينطق بحرف بعدها.
وحديثها كان صادمًا لشاهين الذي لم يتوقعه أبدًا، فقد توقع ان ترد على سيف ثائرة وتخبرهم كم هي مظلومة معه ولا تستطيع مجابهة قوته وغضبه!
ردها صدمه ورسم ابتسامة غير مفهومة على ثغره.. تشبه ابتسامة طفل سمع ثناء والدته عليه مع الغرباء!
****
حين خرجت من الغرفة وأتت لتسلك طريقها للأعلى كادت أن تصرخ حين وجدته واقفًا امام وجهها فجأة ولكنه كان الأسرع وقد رفع كفه يكمم فمها كي تصمت، ابتلعت ريقها الذي جف أثر الخضة وانزلت كفه بكفها وهي تبتعد مسافة صغيرة لتكون على بُعد حذِر منه جعله يبتسم ساخرًا ولكنه تغاضى عن فعلها وقال:
_ تعالي ورايا المكتب.
تحرك وتحركت خلفه ليتوقف في منتصف الصالة الواسعة حين ابصر نزول "نورهان" من الأعلى تحمل حقيبتها التي صعدت لتحضرها قبل ذهابها للعمل.
_ حبيبي أنا رايحه الشغل عاوز حاجة؟
نظر لها لثواني قبل أن يقول بضيق واضح في نبرته:
-اه، ياريت متروحيش لمازن شغله تاني.
اتسعت عيناها بصدمة من معرفته بالأمر، وفجأة حولت نظرها "فيروز" في اتهام واضح لها جعل الأخيرة تقول سريعًا ما إن فهمت نظرتها:
_ انا والله ما قولتله حاجه.
وهنا التف لها "شاهين" يسألها مستغربًا ومتفاجئًا:
_انتِ كنتِ عارفة!؟
حركت رأسها مرة أخرى نافية:
_ والله ماكنت اعرف.. هي قالتلي امبارح في الحفلة.
بدت كالبلهاء وهي تحاول بقدر الإمكان إخراج نفسها من الأمر، ليلتفت "شاهين" ل "نورهان" يقول:
_ مش محتاج فيروز تبلغني، انا بعرف عنك كل حاجه أول بأول، واعرف كمان إنك حاولتي تكلميه امبارح في الحفلة وسابك ومشي.. بلاش تقللي من نفسك قدامه يا نورهان، لإنك مغلطيش أولاً، ثانيًا هو مابيعملش اعتبار لحد وهيذلك وراه لحد ما يرضى عنك.
تدخلت" فيروز" تقول بتلقائية ورفض لحديثه:
_ايوه بس ده اخوها!
نظر لها نظرة ارعبتها وجعلتها تقول بتوتر واضح:
_أنا.. انا هستناك في المكتب.
وانصرفت فورًا من أمامه تحت نظراته المستمتعة بخضوعها له وخوفها منه... أحيانًا!
وقفت "نورهان" أمامه وقالت بحزن:
_ حاضر يا شاهين.. مش هروحله تاني.
أمسك كتفيها وهو يقول بحنو حقيقي وصادق:
_ يا حبيبتي انتِ ماينفعش كل يوم والتاني تروحي القسم، وفي الآخر بتمشي من غير ما تشوفيه، دخولك مكان زي ده مش مقبول بالنسبالي حتى لو رايحه تشوفي اخوكِ.
اومأت برأسها وهي تقول:
_ معاك حق، انا روحتله ٣ مرات هناك واخرهم كان قبل الحفلة بيوم، لكن انتَ صح مش هروح هناك تاني.
رفع كفه يمسح على جانب عنقها بتشجيع قبل أن يقول:
_يلا عشان متتأخريش على شغلك.
*****
خرجت "نورهان" من الفيلا لتتوقف عند سيارتها حين رأت ترجل "معاذ" من سيارة خلفها وهو يقول فور رؤيتها:
_ صباح الخير يا نورهان.
تخضبت وجنتيها خجلاً منه فهي لم تنسى رسائله لها ونقاشهم، وردت بخجل:
_صباح النور يا معاذ، جاي لشاهين؟
اومأ وعيناه لا تفارقها وقال بمرح:
_ ماهو البيه قرر ياخد أجازة عشان العيلة، وطبعًا جت على دماغي، في شوية أوراق محتاجه أمضته.
نظرت له تقول محاولة كسر حاجز التوتر بينهما:
_ شكلك معترض.
رفع كفيهِ مستسلمًا:
_خالص، ده أنا جاي بكامل إرادتي.
ابتسمت ومازال خجلها يسيطر عليها:
_تمام هو في المكتب جوه، تقدر تدخله.
شعر برغبتها في انهاء اللقاء، ورغم عدم رغبته لكنه لم يجد بدًا من إطالته:
_تمام..مع السلامة.
اومأت برأسها وهي تفتح باب سيارتها لتستقلها، وهو عقله يتنازع بين القول والرجوع.. لكن انتصرت رغبته ورغبة قلبه وهو يقول:
_على فكره...
التفت له وهي ممسكة بباب سيارتها تنظر له باهتمام ليكمل رغم توتره:
_ اتبسط بنقاشنا حتى لو كنا اختلفنا شوية بس اعتقد في الآخر اقتنعتي.
انكرت وهي تقول:
_مين قالك إني اقتنعت!
رفع حاجبه مبتسمًا:
_إنك مسحتي الصورة مثلاً!
أصرت على عِنادها وقالت:
_أنا مامسحتهاش عشان كلامك، انا بس لقيت فيها ديفوهات ماعجبتنيش.
ابتسمت فجأة حين قال مبتسمًا بحنين:
_فاكره آخر واقفة زي دي بينا، وآخر نِقار لينا.
هزت رأسها تؤكد تذكرها وقالت:
_قبل ما نسيب الفيلا هنا أنا ومامي ومازن، ولسه بردو بتقول عليه نِقار كأننا فراخ!
لم يجيبها فقط تبادلا الابتسامات والعقول ترجع للماضي القريب، لزمن كانا فيهِ أقرب ولا يتعاملا كالغرباء مثل الآن، لولا تفرقهما مع تفرق العائلة لربما كان للقدر رأي آخر في قصتهما.
******
وفي مكتب شاهين..
دلف إليها بعد أن سبقته "صفاء" بقهوته كالمعتاد، ليجدها جالسة في صمت تام لم تقطعه حتى بعد دلوفه، جلس فوق كرسيه يرتشف من فنجان قهوته ببرود، وبعد ثواني كان يقول:
_طبعًا عرفتي ان جدي والعيلة قاعدين هنا يومين، ياريت التعامل معاهم يكون بحدود عشان ميعرفوش منك معلومة أنا مش حابب اعرفهلهم، وكمان هنتعامل قدامهم زي أي اتنين المفروض انهم مخطوبين.
نظرت له تقول بهدوء:
_ مفهوم طبعًا، حاضر.. هكمل المسلسل السخيف اللي دخلته غصب عني ودون علمي معاك.
رجع بظهره للوراء مستندًا على كرسيه وقال ببرود مستفز:
_ شكلك متعصبة، اخلي صفاء تعملك ليمون؟
وبحديثه أشعل نيران غضبها التي كانت تحاول جاهدة إخمادها منذُ أمس, فنهضت واستدارت لتصبح واقفة أمامه وقد التف بكرسيه ببرود ليصبح في مواجهتها وقالت بغضب:
-امبارح سحبت شدوى من قدامي ورجعتها القصر قبل ما اعرف استفسر منها على كل علامات الاستفهام اللي في دماغي, الحفلة انتهت ورجعنا كلنا ومتكلمتش معايا كلمة واحدة تريحني من التساؤلات اللي هتاكل دماغي من امبارح, ودلوقتي انا عاوزه اجابه لكل اسئلتي.
سألها في هدوء تام وكأنه حقًا لا يعرف إجابه سؤاله:
- ويا ترى ايه هي اسئلتك؟
رفعت كفها ليكن امام وجهه وهي تعد على اصابعها:
- اولًا انا عاوزه أعرف إيه لازمة إنك تعلن خطوبتنا امبارح في الحفلة؟ انتَ لما جيت قبل كده وقلت قدامهم هنا إني خطيبتك سكت و قلت ما فيهاش مشكله لما اتنين ولا تلاته يعرفوا إننا مخطوبين, لكن تيجي قدام كل الناس دي في الحفلة وتخلي مصر كلها تعرف يبقى محتاجه افهم ليه؟ وازاي اصلاً تعمل حاجه زي دي من غير ما تاخد رأيي فيها أو تعرفني الأول؟ انا وقتها حسيت كأن الأرض وقعت فوق راسي! وما بقتش فاهمه انتَ بتعمل إيه؟
نهض عن كرسيه ليقف امامها وفرد اصبعها الثاني وهو يسألها بنفس هدوءه:
- وثانيًا؟
تنفست في حده واجابت:
- لما قلت لشدوى إني خطيبتك انا كنت شايفه الموضوع أنه مجرد استغلال منك, واحد بينه وبين مراته شوية مشاكل وقرر انه ياخد موضوع خطوبتنا زي كارت ضغط عليها عشان بقى يتصالحوا.. عشان تصلح من غلطها.. عشان تراضيه, أيًا كان السبب فانا كنت فاكره إن الموضوع من الناحية دي , لكن طبعًا بعد اللي عرفته امبارح وإن اصلًا ابنها مش ابنك وكاتبه على اسمك وهو ابن حد تاني, وانك مش معتبرها مراتك من يوم ما اتجوزتوا, يبقى انا كل اللي كنت حطاه في دماغي وهم.. مش موجود اصلًا والموضوع اكبر من كده بكتير, ما يخصنيش اعرف انتَ ازاي كاتب عيل مش ابنك على اسمك, وما يخصنيش اعرف العلاقة ما بينكم عامله ازاي, بس يهمني جدًا افهم انا موقعي ايه في كل ده؟ دوري ايه في كل العك اللي انا شايفاه قدامي؟ المفروض إني الست الوحشه اللي دخلت خطفت واحد من مراته ولا اصلًا ما يعتبرش متجوز وعادي انه يخطب ويتجوز تاني!
فرد اصبع ثالث لها وقال:
- وثالثًا؟
-إيه أخرة كل ده؟ إيه آخر قصة الخطوبة والجواز و الحوارات دي كلها؟ النهاية هتكون إيه؟ يا ترى في الآخر هتعرفهم إن كل ده كان مسلسل هابط ولا هتفهمهم اننا ما اتفقناش فقررنا ما نكملش مع بعض!
رفع اصبعها الرابع لتقول قبل أن يسألها سؤاله السخيف:
- ورابعًا انا همشي امتى؟ هخرج من كل ده امتى؟
ورفعت الأصبع الأخير وهي تقول:
- وخامسًا, انتَ ليه لحد دلوقتي ساكت وما بعتش البنت بالورق اللي انتَ قلتلي عليه على اساس أنه ده الورق اللي انا سرقته من خزنتك, والمفروض إني بعدها هسيب الفيلا وامشي قبل انتَ ما تكتشف اني سرقتك؟ بقالك كذا يوم ما عملتش أي حاجة جديدة ودي حاجة غريبة, غير إني كل ما اسألك مابطلعش منك بإجابه واضحة.
وقبل أن يرد سمعا دقات فوق الباب تبعها دخول الحارس يبلغه بوجود "معاذ" بالخارج يريد الدخول.
نظرت له على الفور وقبل أن يجيب حارسه وقالت برفض قاطع:
- ما تفكرش تدخله وتطلعني قبل ما تجاوبني على كل اسئلتي, انا مش هتحرك من هنا غير لما تجاوبني.
رفع حاجبه في حدة واضحة وهو يسألها:
- ده تهديد ولا لوي دراع؟
لانت ملامحها وهي لا تريد أن تصل لطريق مسدود معه وقالت برجاء:
- لا ده ولا ده, بس لو سمحت ريحني انا من امبارح ما عرفتش انام من كتر التفكير وبرده ما وصلتش لحاجة.
نظر لها لثواني صامتًا قبل أن ينظر لحارسه ويقول بما جعلها تتنفس براحه:
- خلي معاذ ينتظرني في الليفنج لحد ما اخلص كلام مع فيروز هانم.
اومأ الحارس متفهمًا وخرج مغلقًا الباب خلفه, لينظر لها شاهين مرة أخرى وهو يجيبها في هدوء:
- طيب يا ترى انتِ عاوزه الحقيقة؟ ولا عاوزانا نكمل في لعبة اللف والدوران؟
قالت بلهفة واضحة:
- لا طبعًا يا ريت الحقيقة, لأني بجد مش حمل أي لف ودوران.
اشار لها على الكرسي التي كانت تجلس فوقه وقد اتجه ليجلس فوق الكرسي الآخر, فاتجهت تجلس مقابله في طاعه متلهفة لسماع اجابات لأسئلة أرهقت عقلها, خاصًة منذ أمس.
نظر لها لبعض الوقت ثم قال:
- اولًا, أول الموضوع لما قلت لشدوى إنك خطيبتي فما كانش إني عاوز أحسسها بغيرة ولا اشوف رد فعلها ولا أي حاجه من الحاجات دي, لأن اصلاً العلاقة ما بيني وما بين شدوى انتهت ومن سنين, لكن في نفس الوقت ما بحبش اسيب حقي, ولو مر عليه 100 سنه باخده, وبنفس الطريقة وفي يوم من الأيام شدوى حسستني بنفس احساسها دلوقتي وهي شايفاني بدخل شخص تاني حياتي رغم انها المفروض موجوده فيها, فلما قلتلها انك خطيبتي انا بس كنت بوصل لها احساس هي عملته فيا زمان, عشان نبقى خالصين, ده بالنسبة لشدوى, واستخدمت نفس الموضوع عشان لما يوصل لمازن يلففه حوالين نفسه ويلخبطه لأنه عمره ما هيتوقع اني اخد خطوة زي دي, و لما اخدتها هو كده فهم اني ماشي بخطوات عكس اللي هو كان متوقعها, زي موضوع خطفي ليكي مثلًا هو عمره ما توقعه, حتى لو فكر في 100 طريقه اني احاول اوصلك بيها, ما افكرش في دي, ومازن لما بيتلغبط بيغلط, وانا بقى بستنى غلطه ده أوي.
سألته في هدوء تسرب إليها بعدما بدأ يشرح لها و تفهم الأمور:
- طيب وليه اعلنت خطوبتنا قدام الناس كلها؟ ويا ترى قررت فجأة ولا كنت مرتب كل حاجة.
ابتسم وعينيهِ تلمع بالمكر وقال:
- ما فيش حاجة بقررها فجأة, كل حاجة عندي بحسبلها كويس أوي..
ابتلعت ريقها بقلق وهي تشعر أن القادم سيصدمها..
الفصل التاسع من الجزء الثاني
فراشة في سكّ العقرب
ناهد خالد
"أي لعبة يجب أن يكون لها أصول، فمن قال أن كل شيء متاح في الحب والحرب كان مخطئًا بالطبع، فهناك أشياء لا يجب أن تدخل ضمن حروبنا وخططنا، هناك أشياء لا يمكن اللعب بها أو الرهان عليها.. كالحب مثلاً! "
مازال الحديث مستمر بين "شاهين وفيروز"
سألته في هدوء تسرب إليها بعدما بدأ يشرح لها و بدأت تفهم الأمور:
- طيب وليه اعلنت خطوبتنا قدام الناس كلها؟ ويا ترى قررت فجأة ولا كنت مرتب كل حاجة.
ابتسم وعينيهِ تلمع بالمكر وقال:
- ما فيش حاجة بقررها فجأة, كل حاجة عندي بحسبلها كويس أوي..
ابتلعت ريقها بقلق وهي تشعر أن القادم سيصدمها..
********
في المستشفى التي يمكث فيها مجد..
دلفت للغرفة بعدما دقت الباب ولم تجد رد، ولكنها تعلم أنه مستيقظ، فلقد قابلها والده أثناء خروجه ليجلب بعض الطعام له واخبرها أنه مستيقظا منذُ الفجر ولم ينم من ليله إلا ساعات قليلة لولا الأدوية المخدرة ما كان سينامها.
التوتر والقلق سيقتلونها، فهي حقًا تخشى رد فعله فإن كان في ظروفه الطبيعية يثور عليها ويكره رؤيتها ماذا عنه الآن! ولكن على طبيعة الأحوال وعلى أي حال لم تستطيع أن تمنع نفسها من رؤيته والاطمئنان عليه.
سحبت الكرسي المجاور للفراش لتبعده قليلًا للخلف وتجلس فوقه تنظر له وهو جالس نصف جلسه ناظرًا أمامه بصمت وشرود، وكأنه لم يشعر بها، لكنها متأكده أنه شعر بوجودها فقالت:
_ ازيك يا مجد يا رب تكون كويس النهارده؟
وكما توقعت لم تتلقى منه أي رد فاكملت بدموع غزت مقلتيها:
_ انا عارفه أنك يعني ما بتحبش تشوفني ولا بتحب تتكلم معايا، وأكيد وانتَ دلوقتي تعبان وزعلان مش حابب تشوفني اكتر، وانا والله ما كنتش عاوزاه اجي عشان مضايقكش، بس.... يعني ما قدرتش، ما قدرتش امنع نفسي إني اجي.
وساد الصمت بينهما لثواني لم يكسرها هو ففعلت وهي تحدثه وكأنه نائم فلا يسمعها حقًا:
_انا حاسه بيك، يمكن ما تصدقنيش بس والله حاسه بيك، وعارفه يعني إيه الواحد فجأة حياته تتقلب وتتغير فيها حاجه هو متوقعهاش، انا بردو لما ابويا وقع فجأة من كام سنه، والدكتور قال إنه ما ينفعش يشتغل عشان قلبه ما بقاش يتحمل، ولقيت نفسي انا وابويا لوحدنا وما فيش حد يصرف علينا والمسؤولية كلها بقت عليا، حسيت بنفس اللي انتَ حاسس بيه دلوقتي، التوهه والوجع والحيره والصدمه، بس هنقول ايه... سبحان من يبدل حال بحال، وفي أول يوم قررت انزل اشتغل فيه قابلت راجل كبير في السن لقاني بعيط وواقفه في الشارع عامله زي التايهه، فسألني بعيط ليه وإيه حكايتي، وحكيتله وقتها هو كمان حكالي حكاية..
صمتت تحاول أن تلتمس منه أي اهتمام بما تقوله، وبالفعل لمسته حين رمش بجفنيهِ لأول مرة منذ أن دخلت للغرفة، وكأنه يفيق من شروده الواهي ليستمع لها فابتسمت وهي تكمل:
_قالي إن كان في ست ارمله عايشه في قرية هي وابنها الصغير، حالتها كانت صعبة جدًا، كانت عايشه في أوضه فوق السطوح في بيت قديم والفلوس اللي معاها بتكون على قد اليوم اللي هم فيه، يا دوب ياكلوا ويشربوا، وكانت رغم كل ده راضيه وبتعلم ابنها ازاي يحمد ربنا على أي حال هو فيه، لكن كانت كل مشكلتها لما بيجي الشتا، الاوضه سقفها ما كانش متعرش كويس فكان المطره بتنزل عليهم، لحد ما جه يوم كان المطر فيه شديد أوي عن كل الايام اللي قبله، فالست حضنت ابنها وقعدت وفضلت تعيط وهي مش عارفه تعمل إيه عشان تمنع المطر عنهم، لحد ما خطر لها فكره وقامت خلعت باب الاوضه وحطته على الأرض وسندته على حيطه فبقى عامل زي المظلة وقعدت تحته هي وابنها، فحما عنهم الميه اللي بقت تنزل على الباب وتنزل على الأرض بعيد عنهم، وقعدت وهي حاضنه ابنها تحت الباب لحد ما المطرة خلصت، فالولد اللي اتعلم منها الرضا بصلها وضحك وقالها يا ترى الناس الفقيرة اللي ما عندهاش باب نامت ازاي في المطرة دي؟! والولد هنا كان بيتكلم وكأنه غني مش عنده حتة باب يا دوب هو اللي حماه من المطر، والموضوع هنا كان أكبر بكتير من فكرة الباب، الموضوع هنا كان إن الولد ده بيدور على أي سبب في حياته يخليه يحمد ربنا ويرضى بيه.
صمتت قليلًا تأخذ نفسها ثم قالت:
_يمكن دلوقتي حاسس إنك فقدت حاجه كبيره، ومش عارف ازاي حياتك هتمشي من غيرها، لكن لو فكرت فيها هتلاقي إنك اه فقدت جزء من جسمك، بس على الأقل لسه عندك القدرة إنك تشتغل و تتحمل مسؤولية نفسك ومسؤولية ابوك، يعني تخيل لو الموضوع كان أكبر من كده وحالتك اسوء كان الوضع هيكون ازاي، على فكره الدكتور قال لنا إن كانت في خبطه في ضهرك شديدة، وقريبة من... من....
ظلت تحاول تذكر المسمى الذي قال عليه الطبيب لكنها فشلت فقالت بضجر:
_ حاجه كده مش فاكرة اسمها إيه، المهم انه قال لو كانت الخبطه دي أشد شوية، يمكن كانت عملتلك شلل.. فيا ترى بقى حالك دلوقتي أحسن ولا حالك لو كان لا قدر الله حصل زي ما الدكتور قال؟
وجدت عضلات وجه تتحرك بقلق واضطراب وكأنه لمجرد تخيله للأمر لم يستطع الصمود، فابتسمت وهي تُكمل:
_وقتها أكيد كنت هتكون عاجز أكتر من كده بكتير، ولو سألتني عن رأيي أنا مش شايفه ان انتَ دلوقتي عاجز اصلاً، انتَ عندك ورشتك بتاعتك انتَ يعني انتَ مش شغال عند حد عشان بعد اللي حصلك ده يطردك من الشغل، يعني لسه في ايدك تفضل مكمل في شغلك وفورشتك وتحمد ربنا أن الحادثه جت في ايدك الشمال، يعني لسه عندك ايدك اليمين تقدر تستخدمها وتكمل شغلك، انا اعرف ناس خسروا ايدهم الاتنين وبيعافروا ويشتغلوا، انا عارفه ومتأكده إن الموضوع مش بالسهوله دي، وان انتَ حقك تاخد وقتك عشان تتقبل الوضع الجديد وتستوعب الصدمه، بس في فرق ما بين إنك بتاخد وقت عشان تستوعب اللي حصلك، وما بين إنك خلاص استسلمت وشايف إن حياتك وقفت، إن ما بقاش لك لازمه زي ما قلت لأبوك امبارح، إحمد ربنا يا مجد على انها جت على قد كده، وانك خرجت منها بخسارة قليلة عن أي حاجه تانيه كانت ممكن تحصل، انتَ لو كان جرالك حاجه ما كنتش هتموت لوحدك، ابوك كان هيموت وراك, فكر في الراجل اللي ضيع شبابه كله عليك عشان يصرف عليك ويكبرك ويعلمك صنعة استندت عليها وقدرت بيها تعيش نفسك وتعيشه، فكر فيه انه مش بعد ما كبر ما بقاش يقدر على شغل ولا مرمطة انتَ كمان تتخلى عنه وعن مسؤوليتك ناحيته وتستسلم لوضعك ده، انا اسفه لو كان وجودي مضايقك بس زي ما قلتلك ماقدرتش امنع نفسي اني اجي اشوفك، وما اقدرش اوعدك اني ما جيش تاني طول ما انتَ في المستشفى..
انهت حديثها ونهضت تنظر له نظرة أخيرة قبل أن تخرج من الغرفة، لتتحرك رأسه تجاه الباب وكلماتها تعاد في عقله من أول وجديد وكأنها تتحدث له مرة أخرى وتبعث له قوة خفية ستعلن عن نفسها قريبًا وتجعله يتخطى ما حدث له... ومع نهاية كلماتها وإعلانها أنها ستأتي مجددًا ارتسمت الراحة على ملامحه بشكل غير مفهوم!
*****
وفي مكتب مازن بقسم الشرطة..
تعالت ضحكات مدحت وهو يقول بعدما هدأت ضحكاته:
_مش قادر... يا لهوي... انا لما شفت الخبر كنت هموت واشوف شكلك، يا ابني ده شاهين سنترها.. يعني بص اديهالك في الجون.. طب بذمتك انتَ كنت تتخيل انه يعلن خطوبته بيها في وسط حفله زي دي؟
اخرج لفافة تبغه من بين شفتيهِ لينفخ دخانها وهو يقول بوجه واجم:
_ لا ما كنتش اتخيل، وانا من امتى كنت اتخيل حاجه بيعملها عشان اتخيل دي، بس مش مهم كنت اتخيلها ولا لأ، المهم انا رديت بأيه...
سند "مدحت" ذراعه على المكتب وهو يقول بتنهيده حالمة مصطنعة:
_ اه، اشجيني يا سوبر مان رديت بأيه؟
ضرب "مازن" سطح المكتب بكفه بقوة وهو يقول بغضب واضح لا يقبل النقاش:
_مدحت لو ناوي تاخد الموضوع تريقه يبقى وريني عرض كتافك أحسن.
اعتدل "مدحت" في جلسته وهو يقول معتذرًا:
_خلاص يا عم ما تقفش، مش قصدي اعصبك، طب خلاص قول عملت إيه؟
نظر له لثواني بعينيهِ الغاضبتين وكأنه يفكر فيما سيقوله وقال فجأة:
_قلتلها إني بحبها.
رمش "مدحت" باهدابه عدة مرات وكأنه يستوعب ما يسمعه وقال:
_ إيه؟ قلتلها إيه؟
نهض "مازن" يطفئ لفافته في المطفأه وهو يقول زافرًا انفاسه بضيق سافر:
_زي ما سمعت.
نهض "مدحت" يقف أمامه يسأله بجهل:
_يعني إيه قلتلها بحبها؟ طب انا مش فاهم يعني هو ده ردك على اللي عمله شاهين؟ طب ايه علاقته! واصلاً ازاي تقولها إنك بتحبها فجأة كده؟ هو انتَ بتحبها فعلاً؟ انا مش فاهم حاجه!
نظر له "مازن" نظرة حائرة وقال بتردد حقيقي:
_مش عارف... مش عارف إذا كنت بحبها ولا لأ، بس انا لقيت نفسي بقولها إني بحبها... أنا يمكن حاسس مشاعر جوايا ليها بس ما اعرفش إذا كانت حب ولا لأ.
سأله "مدحت" مذهولاً:
_ وما دام ما تعرفش إذا كان حب ولا لأ، ازاي تعترف لها بحاجه زي دي وانت نفسك مش واثق و مش متأكد منها؟ انتَ كده بتلعب بيها لتالت مرة! بتلعب بيها يا مازن والمرادي غير كل المرات اللي فاتت، موضوع الحب ده بالذات ما فيهوش لعب ما ينفعش تخدعها في حاجه زي دي!
مرر اصابعه في خصلات شعره بقوة يشد عليها وهو يقول بعصبيه:
_ما كانش قدامي حل تاني، انا حسيت انها ممكن في أي وقت بعد اللي شاهين بيعملوا واللي انا مش فاهمه تقلب عليا وتروح تعترف له فعلاً بالحقيقة، وتبقى معاه ضدي، انا كنت شايف وعارف انها مياله ليا، حسيت ان لازم ابينلها ان انا كمان زيها عشان اديها أمل في ده، فتفضل متمسكه بيا ومهما شاهين عمل ما تغدرش بيا، بس في نفس الوقت انا فعلًا حاسس بمشاعر ناح....
قاطعه مدحت بغضب حقيقي:
_ ما تقولش حاسس بمشاعر ناحيتها.. واضحه زي الشمس على فكره، انتَ اعترفت لها الاعتراف ده عشان بس تضمن إنها تفضل منحازة لك انتَ، تفضل معاك ما تتقلبش ضدك زي ما انتَ بتقول، عشان تضمن ان شاهين ما يكسبهاش لصفه..
قال فجأه خارجًا عن سياق الموضوع:
_تخيل نورهان حكيت لها انها بتجيلي المكتب وانا برفض اشوفها، ومتأكد مليون في الميه إنها قالتلها إن شاهين ما بيعملش معاها كده، وقد إيه أنا واحد قاسي وقلبي حجر.
اشار "مدحت" له بسببته وهو يقول كأنه مسك عليه جرمًا:
_ شفت؟ انتَ دلوقتي اكدتلي إنك قلتلها كده عشان بس حسيت إنك مش على أرض ثابتة، وفي أي وقت ممكن تبدأ تشغل عقلها وتقارن وانتَ عارف انها لو قارنت في الوضع اللي هي فيه دلوقتي شاهين هيفوز، ويمكن ساعتها زي ما انتَ قلت تروح تحكي له على الحقيقة وتبقى في صفه هو ضدك، بس زي ما انا كنت من الأول رافض اللي بتعمله، دلوقتي انا رافضه أكتر بكتير.. اللي بتعمله غلط وحرام عليك ما ينفعش تعلق البنت بيك وانتَ اصلاً مش في دماغك.
صرخ به في نفاذ صبر:
_ وانتَ مين قالك أنها مش في دماغي؟ هو انتَ ما بتسمعش؟ بقولك انا حاسس في مشاعر..
قاطعه مرة ثانية وهو يقول:
_ عشان انتَ منستش ليلى... عشان مش هتعرف تميل ولا تحب واحده غيرها طول ما هي جواك.. تنكر إنك لسه بتحبها؟
وصمته كان خير إجابة، فأكمل "مدحت" باشمئزاز من أفعاله:
_وعلى فكره انا بردو من موقعي ده شايف إن شاهين أنبل منك، على الأقل هو صريح وواضح وما بيستخدمش أساليب حقيرة عشان يكسب في لعبته.
عقب "مازن" ساخرًا وقد اشتعل الغضب بداخله أكثر فأكثر ما يأجج غضبه أن يذكر أحدهم "شاهين" بالحسنى أمامه:
_ ما بيستخدمش أساليب حقيرة؟ ولما خطفها وهو عارف انها تخصني ده ما كانش أسلوب حقير؟ ولما أعلن خطوبته بيها وهو عارف انها بردو تخصني بردو ما كانش أسلوب حقير!
أصر" مدحت" على موقفه:
_ لا ما كانش أسلوب حقير، لأنه لما أعلن خطوبته بيها هو عارف باللي هي حكته له ان دي لعبه ما بينكم، وانك اصلًا مفيش أي حاجه بينك وما بينها، ولما خطفها في الأول فهو كان بيردلك قلم انتَ عملته زمان ودخلت فيه الحريم بينكوا، بس ما شفتوش عذبها ولا موتها مثلًا ولا اذاها هي شخصيًا في حاجه، تبقى الأساليب الحقيرة اللي انا بتكلم عنها إنك بتأذيها هي في لعبتكم دي، مش بتأذي شاهين.
رفع رأسه في عِناد واضح وهو يقول:
_ كل شيء مباح في الحب والحرب، واللي ما بيني وما بين شاهين حرب.
اعترض مدحت:
_ اولاً دي جملة عقيمة، ما فيش حاجه اسمها كل شيء مباح في الحب والحرب، لأن في حاجات ما ينفعش تدخل طرف اصلًا لا في حب ولا في حرب، ثانيًا هقولهالك تاني انتَ بتلعب على الطرف الضعيف في الحكاية مش على شاهين، الحرب بينك وبينه، لكن انتَ بتأذيها هي في النص، وصدقني نهاية الموضوع ده كله مش هتخلص على خير.
ولكن من يسمع ومن يعقل؟ فلكل منا شيطان يأتي من نفسه فيسوقه..!
******
في مكتب شاهين بالفيلا...
_جدي هو اللي كبر الموضوع في دماغي وخلاني اشوفه من منظور تاني.
نظرت له بجهل لفهم مغزى حديثه وسألته:
_ يعني ايه تشوفه من منظور تاني؟
نقر بأصابعه فوق المكتب لثواني وكأنه يفكر فيما سيقوله ثم قال:
_جدي كان حاسس ان في حاجه في الموضوع مش طبيعية، لأن أبسط حاجه لو كان في موضوع خطوبة فعلًا أكيد كنت هقوله قبلها بمدة طويلة، عشان كده بعد كام يوم من معرفته بالخبر كلمني، ووقتها أنا اعترفت له أن الموضوع كله مش حقيقي، وقبل الحفلة بيومين في مكالمة ما بينا فتح معايا الموضوع تاني وقتها لقيته بيقولي…
"وليه ماتقلبش التمثلية حقيقة, لو شايف إن البنت دي تنفعك ولو 50% وتستاهل تشيل اسم شاهين المنشاوي ليه ما تعملش كده! شاهين أنتَ بتكبر ولازم يكونلك اولاد من صلبك, أه بتعتبر تيم زي ابنك بس هو في الآخر مش ابنك, لازم تستقر يكونلك عيلة وزوجة تكون واجهة اجتماعية كويسة ليك, وانتَ عمرك ما هتختارها لا بالحب ولا بالإعجاب, لأن بعد اللي حصل زمان الستات بقت مابتلفتش نظرك اصلاً وطول الوقت مركز في شغلك وبس, ليه ما تعتبرش البنت دي ربنا بعتها ليك عشان تكون من نصيبك! لو عاوز نصيحتي لو متقبل وجودها في حياتك ولو بنسبة بسيطة ومتقبل إنها تكون مراتك, ماتضيعش الفرصة من ايدك"
-انتَ روحت فين؟
سألته حين طال شروده وصمته فقال منتبهًا لها:
-يعني قالي إني محتاجة اكون عيلة ويكون عندي اولاد, فليه ما تكونش خطوبتنا حقيقة ونكمل سوا .
سألته بأعين جاحظة:
-مين؟ مين دول اللي يكملوا سوا؟؟
رد في هدوء تام:
-أنا…وأنتِ.
******
شركة مختار المنشاوي..
وفي مكتبه..
كان يتحدث في الهاتف إلى والده وبكل غضب وعصبية يقول:
_أنا مش هقبل بالمهزلة دي تحصل، مش بنت مختار المنشاوي اللي جوزها يتجوز عليها قدام المجتمع كله.
رد الجد في هدوء:
_لو عاوز ترد كرامة بنتك من شاهين بعد اللي حصل امبارح... خليها تطلب الطلاق، وده احسن رد اعتبار ليها، الناس هيقولوا مقبلتش على نفسها جوزها يتجوز عليها فاطلقت.
ثار شيطان غضبه أكثر وقال:
_ويروح يتجوز الجربوعة اللي جايبهلنا لا ليها اصل ولا عيلة وبعدها تقنعه يطعن في نسب تيم له عشان تكوش هي وعيالها منه على املاكة كلها.
سأله الجد مندهشُا:
_هو انتَ يهمك بنتك وكرامتها، ولا أملاك شاهين؟
_ يهمني أنه مايطعنش في نسب تيم، لأني مش هتحمل الفضيحة دي وقتها، ومش بعد محاربتنا زمان عشان نلم الفضيحة ييجي بعد السنين دي كلها والكل يعرفها.
_ ماتقلقش يا مختار شاهين عمره ما يعمل كده، ولو مش عشانك ولا عشان بنتك فعشاني أنا، متنساش إن الفضيحة دي هتلط سمعتي بردو.
_ وليه بتتكلم كأن مليش حق اخاف على أملاك شاهين؟ هو انتَ ناسي ان غير أملاكه هو له نسبه في شركتي؟
احتدت نبرة الجد وقال:
_ويا ترى ده يديك الحق إنك تحرمه يكونله أسره وعيال! لو ده اللي مضايقك اتكلم مع شاهين وخليه يخلص نصيبه في شركتك، اللي هو نصيب أبوه اللي يرحمه، أنا رفضت زمان عشان خوفت شركة شاهين تقع ومايلاقيش حاجه يتسند عليها، لكن دلوقتي هو مش محتاج نصيبه في شركتك، كلمه وخلصوا الموضوع سوا.
أردفت بتعنت:
_هكلمه وهنخلص الموضوع بس بردو مش راضي بجوازه من البت دي.
على صوت الجد وهو يردف بغضب:
_ انا عاوز افهم هو انتَ وبنتك عاوزين ايه؟ احمدوا ربنا ان شاهين اتستر عليها زمان وكتب الواد باسمه، ولولا انه عمل كده كنا حطينا راسنا في الطين من سنين... عيلة المنشاوي اللي طول عمرها يتهزلها الف شنب ولها اسمها وسيرتها الكويسة بنتك كانت هتمرمغ بيها الأرض، كنا هنقع ومش هيقوم لنا قومه بعد اللي بنتك عملته، وبعد ما راحت غلطت مع واحد لحد دلوقتي احنا ما نعرفش هو مين، ولحد دلوقتي هي مش عاوزه تعترف عليه، بنتك لولا أن شاهين رحمها زمان كان زمانها ميتة وانا اللي كنت هقتلها بايدي.
_ يابابا..
حاول "مختار" الحديث ليقاطعه الجد بنفس غضبه:
_ أنا اللي هجوزهم يا مختار، واللي هيقف في وشي أو في وش سعادة حفيدي أنا اللي هربيه من أول وجديد اوعى يكون كِبر سني نساك مين هو المنشاوي ونساك أنا محيت كام شخص من طريقي لما فكروا زمان يقفوا قدام مصلحتي.
وأغلق الخط فورًا... وكان تهديدًا واضحًا ل"مختار" بألا يفكر في التدخل..
*******
فيلا شاهين المنشاوي...
كانت مازالت في صدمتها حين دلف الحارس مسرعًا يبلغ شاهين:
_ شاهين باشا..المنشاوي بيه طالب حضرتك والهانم بره وباين عليه أنه متعصب على الآخر.
نهض "شاهين" مسرعًا في قلق على جده فالغضب يرفع من ضغط دمه لدرجة أحيانًا تفقده الوعي، واتجه للخارج ليتوقف على باب الغرفة وهو يراها مازالت جاحظة العينين وتجلس محلها بعد اعترافه الصادم، فاتجه لها يلتقط كفها وهو يقول:
_مش وقت صدمة...
وسحبها خلفه للخارج لتنتبه لِمَ يحدث، ولكنها لم تسمع جملة الحارس فلا تعرف لِمَ يسحبها هكذا!
توقف ووقفت جواره وهو مازال ممسكًا بكفها ورمشت بأهدابها حين رأت الجميع ما عدا "نورهان" التي مازالت في عملها "وتيم" الذي يلعب في الحديقة يجتمع أمامها، والجد واقفًا في المنتصف مستندًا على عصاه الذهبية وقال بصوت قوي:
_ اللي هقوله دلوقتي هيتنفذ، ومش هقبل أي اعتراض من أي حد...
مرر نظره على الجميع ليجدهم قلقون ومترقبون للآتي، فقال ناظرًا لشاهين وقد لانت نظراته:
_ أنا زمان غصبتك تتجوزها وجبت المأذون وكتبت كتابكوا وأنا عارف إنك رافض، وزي ما عملت ده زمان من غير ما اسمع لحد، دلوقتي ومن غير ما اسمع لحد بردو.. كلمت المأذون وجاي في الطريق عشان يطلقكوا.. واصلح غلطي في حقك من سنين.
صرخت "شدوى" وقد أصابها الجنون:
_يعني إيه؟! أنا... أنا مش عاوزه أطلق... مش موافقة..
نظر لها الجد بصرامة:
_ موافقتك ملهاش لازمة، أنتِ تحمدي ربنا إني ماقتلتكيش لما اكتشفنا حملك ورفضتي تقولي من مين.. واحدة زيك ملهاش عين ترفض ولا تقبل جوازها ولا طلاقها..
عاد ينظر" لشاهين" الذي رأي الراحة ترتسم على وجهه لأول مرة منذُ سنوات، وقال:
_ وتبلغ رجالتك يرتبوا الأمور عشان كتب كتابك على فيروز هيكون بعد بكرة.
وفيروز! هل لها أن تفقد الوعي!!!!
الفصل العاشر من الجزء الثاني
فراشة في سكّ العقرب
ناهد خالد
شعرت وكأنها غرقت في محيط لا يمكن النجاة منه، ما سمعته الآن وما يحدث كان أكبر و أخطر من كل توقعاتها، وتوقعات شريكها في المهمة "مازن"، هزت رأسها من بين صدمتها وشعرت أن لسانها قد عُقد من هول ذهولها، وفورًا وجهت نظرها للذي مازال يمسك كفها بقوة، وكأن نظرتها له الذي شعر بها هي ما دفعته لنجدتها بحديثه حين قال:
_ بالنسبه لطلاقي من شدوى فزي ما حضرتك تحب.
شهقة قوية عالية خرجت من "شدوى" التي أحياها في أول جملته وقضى عليها في أخرها، لتتحرك فورًا تتجه له تمسك ذراعه برجاء وتذلل:
_شاهين! شاهين انتَ موافق تطلقني! هو انتَ مش المفروض بتحبني!
بدت كالتي على حافة الانهيار حقًا، دموعها التي لُطخت بكحل عينيها، ونظراتها الضائعة الغير مستقرة، حتى حركات جسدها العصبية، المتوترة.
نظرت لكفه المُمسك بكفها لتمد كفيها فورًا تفصلهما وهي تقول بانهيار ونبرة صارخة:
_انتَ ماسك ايدها كده ليه! سيب ايدها..
وحركتها العصبية أقلقت "فيروز" بالفعل، خاصًة وقد رأت أظافرها تخدش كف "شاهين" مُحدثة احمرار واضح على كفه الأبيض، فحاولت سحب كفها بقلق لكنه ضغط أكثر حتى شعرت بعظام كفها تؤلمها بحق من قوة الضغط.
وبكفه الآخر أبعد كفي "شدوى" بقوة غاشمة، فنظرت لكفيها بذهول وفجأة ضحكت ضحكة صغيرة من قسوة ما شعرت بهِ، ونظرت له تسأله بحذر:
_انتَ... انتَ بتزق ايدي عشانها! شاهين انتَ مابقتش تحبني؟
سألته بآخر سؤالها وقد تحولت نبرتها لأخرى باكية، وراجية أن يخبرها بالعكس، يخبرها أنه يحبها ولكنه غاضب وناقم على ما فعلته بهِ، وسترضيه، تقسم أنها سترضيه وتراضيه بالطريقة التي يفضلها، فقط لا يتركها، لا يستبدلها بأخرى..
وهنا ترك كف "فيروز" التي مسدت كفها بوجع، اقترب منها حتى وقف أمامها وسألها بنبرة هادئة مرعبة:
_بحبك؟ انتِ بجد بتسأليني؟ طب قوليلي انتِ بتحبيني؟
احيا أمل بقلبها لتهدأ فورًا وهي تومأ برأسها قائلة:
_بحبك.. انتَ عارف إني ماحبتش غيرك.
هز رأسه وهو يكمل سؤاله:
_ولو اتجوزت فيروز، هتفضلي تحبيني؟
توحشت نظراتها وغامت عيناها بغضب وكره وهي تقول بحماقة أدركتها بعدها:
_مش هسامحك، عمري ما هسامحك لو دخلتها حياتك وطردتني أنا بره، ويمكن اكرهك..مش عارفه بس حتى لو فضلت أحبك عمري ما هكون ليك تاني يا شاهين وهتخسرني للأبد، لأن الموضوع ده بالذات مافيهوش سماح ولا ينفع تستخدمه كتهديد أو عقاب ليا.
ابتسامة صغيرة ارتسمت فوق شفتيهِ وهو يقول بنبرة هادئة تمامًا:
_ بالضبط، انتِ اللي حكمتي اهو لما حطيتي نفسك في موقف زي ده، لمجرد التخيل قولتي اللي قولتيه، زعلانه ليه بقى إني عملت كده! سواء بحبك أو لأ فغلطتك مستحيل اسامحك عليها، وباللي عملتيه خسرتيني للأبد.
اختفت ابتسامته واحتدت نظراته وهو يشير لأرجاء المنزل:
_هنا.. في نفس المكان ده، وبنفس الواقفة دي، قولتي أنا مش عوزاه ومش عاوزه اتخطبله، بعد ما كنا محددين الخطوبة كمان ٣ ايام، وقفتي تصرخي في جدك وتقوليله أنا مش عوزاه وانتَ مش هتجبرني..
أشار للجد في جملته الأخيرة وأكمل ساخرًا:
_شديتوا مع بعض واتعصبتي أكتر فوقعتي..
قطع حديثه فجأة وهو ينظر لفيروز يأمرها:
_فيروز استنيني في المكتب لحد ما اناديكِ.
أدركت انه لا يريدها أن تسمع ما سيقوله، فانسحبت تحترم خصوصيتهما في الظاهر.. اما في الحقيقة فهي وقفت في غرفة المكتب ملتصقة بالباب كي تكمل باقي القصة حتى وإن كانت لا تسمع بعض الجمل.
_ معاذ لو سمحت، لو معاك أي ورق أو شغل أجله أنا مش فاضي النهاردة.
_ تمام يا شاهين.
وانسحب هو الآخر محترمًا خصوصية الأمور بين العائلة، فحتى وإن كان يعلم أن تيم ليس بإبن حقيقي لشاهين لكنه لا يعرف أي تفاصيل أكثر.
وبعدما لم يبقى في محيط المكان سوى "شدوى والجد والعمة وسيف الذي صرف زوجته فور انصراف فيروز" أكمل حديثه لها وهو يقول:
_وقعتي وجه الدكتور عشان يبلغنا بخبر مفرح.. خبر حملك، حملك اللي لحد الآن رافضة تقولي من مين، لحد الآن رافضة تعترفي على الندل اللي خونتيني معاه.. وكنتِ هتكملي وهتتخطبيلي لولا إنك عرفتي بحملك فخوفتي وحبيتِ تهربي مني فقولتي مش عاوزه اتخطبله ومش عوزاه.
اقترب خطوة أخرى منها وردد بخطر:
_لولا جدك وابوكِ، وعزة جلال الله كنت قبضت روحك وقتها، بس هم اللي منعوني.. ولسه بجحة وليكِ عين تسأليني بحبك!
لم تنقطع دموعها وهي تقول بنبرتها المفتورة:
_ أنا غلط.. عارفة والله، بس.. أنا..
قاطعها وهو يمسك ذراعها بقوة مرددًا:
_ قولي هو مين؟ قولي وأنا مش هسامحك لأن دي حاجة مبقتش في أيدي، بس مش هطلقك.. أصلا طلاقنا من عدمه مش فارق معايا، لو مش عاوزني اطلقك فعلاً قولي هو مين؟
زاد بكائها وهي تهز رأسها نافية بقوة وهستيريا، ثم قالت بتقطع:
_مش.. هقدر.. مش هينفع..
ترك ذراعها منفضًا إياها بقسوة وهو ينظر لها باشمئزاز:
_ كنت عارف إنك مش هتقولي.. ومش قادر استوعب رغم اللي عملته فيكِ زمان واني دلوقتي بخيرك على حاجة هتموتي عليها وبردو مش عاوزه تعترفي عليه! ليه؟ خوف عليه؟ ولا خوف منه؟ ولا كانوا كتير فمتعرفيش هو مين فيهم!
على صوت بكائها أكثر وهو يرميها بتهمة بشعة لا يتحملها أحد، تمنت لو تستطيع البوح، تمنت لو بإمكانها الإعتراف عليهِ، ولكنها لا تستطيع وإن قتلوها لن تفعل.
_ باشا.
التف على صوت أحد الحراس والذي قال:
_فيه شيخ بره بيقول إن المنشاوي بيه طلبه.
ارتفع صوت "المنشاوي" يقول:
- خليه يدخل.
ركضت لجدها تمسك كفه وهي تترجاه للمرة الأخيرة ألا يذبحها, ألا يأخذ منها ما هو عزيز عليها, فترجته بنبرتها الباكية:
-جدو, ارجوك متعملش كده, جدو أنا... أنا مش عاوزه اطلق, وموافقة إنه يتجوز بس يسبني على ذمته.
نظر لها الجدة نظرة قاسية يداري خلفها حزنه عليها وقال بقوة:
-كفاية... كفاية احفظي كرامتك, كفاية تقلي بنفسك اكتر من كده, فوقي لنفسك بقى مايصحش اللي بتعمليه ده!
كادت أن تتحدث ليمسك ذراعيها بعدما ترك عصاته تسقط أرضًا مدوية صوتًا ضرب صداه قلبها:
-المأذون هيطلقكوا, وبعدها هتيجي معايا البحيرة.. وجودك هنا مبقاش له داعي.
قطبت ما بين حاجبيها مستنكرة وهي تصرخ رافضة:
-لأ, انا عاوزه اقضي فترة عدتي هنا!
هز رأسه غير مستوعبًا جملتها وما تحاول فعله وهزها بقوة يردد:
-لسه بتعملي حوارات! انا عارف إن شاهين طول السبع سنين دول مالمسكيش, يعني انتِ شرعًا ملكيش عِدة أصلاً.
-جدو...
رددتها وهي تميل برأسها لعلّه يعطف عليها, لعلّها تنال شفقته, لكنه كان مُصرًا بنفس إصراره يوم أن زوجها ل "شاهين".
-سيف خد اختك طلعها فوق.
-لأ...انا مش موافقة..لأ...
أخذت تصرخ وتتلوى بين ذراعي "سيف" الذي أخذها للأعلى محاولاً التحكم بها مع معافرتها له.
*****
في المستشفى التي مازال "مجد" يمكث بها..
-يا بني يا حبيبي الموضوع دلوقتي بقى غير زمان, ولو زي ما بتقول شكلك.. فانتَ تقدر تركب طرف صناعي.
نظر له وكأنه يعاتبه على قسوة جملته التي يستهين بها, فقال بإصرار:
-ايوه ماتبصليش كده! احنا لازم نتكلم دلوقتي في الواقع, مش هقعد اواسيك, لازم تفوق وتشوف هتعمل إيه, وده حل كويس, حتى هيحسسك في أوقات كتير إنك مخسرتش دراعك.. مش كده احسن ما تلاقي مكانه فاضي!
ونفس النظرة وجهها له مرة أخرى, لينهض "شاكر" يقف يجاوره تمامًا وهو يضع كفه على رأس الآخر وقال:
-والله ما بقسي عليك, انا عاوزك تقف على رجليك, عاوزك تعدي محنتك ومتسيبش حاجه تكسرك, الراجل لما بيخسر حاجة بيدور على حاجات تانية يكسبها ويعوض خسارته, انشف يا مجد وخلي خسارتك بداية جديدة لحياة احسن من اللي كنت عايشها, انا مخلف راجل.. مش كده؟
وضغطه بالحديث كان أصعب من أن يتحمله "مجد" الذي كان يذم شفتيهِ المرتعشتين بقوة يمنع نفسه من نوبة بكاء لا يريد إخراجها أبدًا, أليس برجل كما يقول والده؟ وأليس الرجل لا يبكي؟ لكنه لم يستطع الصمود طويلاً, ففور أن انهى والده حديثه انفجرت نوبة بكاءه ليسرع "شاكر" باحتضان رأسه وهو يقول بدموع تساقط حزنًا على ولده:
-عيط.. عيط عشان لما تقف على رجليك تبقى قفلت الأيام دي بكل الوحش اللي فيها.. عيط عشان تفوق.
وهو لم يحتاج لكلام أكثر من هذا ليبكي من كل قلبه, يبكي بحرقة على وضع لم يتخيل نفسه فيهِ يومًا, يبكي على خسارته لجزء من جسده, وكأنه قُدر له الخسارة دومًا, لا يتذكر أنه فاز بشيء من دنياه القاسية, لا يتذكر فرحة أتته يومًا لتجعله ينسى مرارة باقي الأيام, وجملة والده ذات ليلة له تتردد في أذنه "هي الدنيا كده, ناس مداقوش للفقر طعم, وناس شافوا الفقر أشكال وألوان, أصل الفقر مش فقر فلوس بس.. التعاسة والخسارة فقر, الشقا من غير مقابل فقر, لكن اللي يصبر علينا مرار أيامنا, إن ربك مابيظلمش حد.. كل واحد هياخد ال24 قيراط بتوعه, بس يمكن لسه أوانهم مجاش"
*******
انتفضت واقفة حين رأت "مستكة" تدلف غرفة المكتب وقالت:
-مستكة!
قالت "مستكة" بنبرة وُصمت بحزنها وتعبها:
-ازيك يا فُلة؟
اقتربت منها فورًا تسألها بلهفة:
-انتِ كنتِ فين؟ انا فكرتك سبتيني ونفضتي بجلدك, بقالك يومين غايبة وسألت عنك البنات اللي هنا من بعيد بس معرفتش أوصل لحاجة.
أجابتها في تعب:
-لا متقلقيش مش هسيبك تتعكي لوحدك هنا عشان متأكدة إنك لو اتكشفتي هتكون نهايتك, وامك محتجاكي.
ابتلعت "فيروز" ريقها بخوف حين استمعت لجملة "مستكة" ورددت:
-الله يسامحك هو انا ناقصة رعب, انا اصلاً معكوكة ومرعوبة كفاية.
-حصل حاجة جديدة؟
اومأت وهي تقول بأعين دامعة خوفًا:
-شاهين ده باين عليه مجنون وشكلي مش هفلت من ايده.
توجست "مستكة" من حديثها وحالتها فسألتها بقلق:
-إيه اللي حصل؟ عملك حاجة؟
دمدمت وهي تنظر لها بعجز وقهر لمعا في عينيها:
-عاوز يتجوزني... وجده بيقوله نكتب كتابنا بكرة.
جحظت عينا "مستكة" بصدمة وهي تردد بفاه فاغر غير مستوعبة ما تسمعه:
-إيه؟ انتِ بتقولي إيه؟
******
وبالخارج...
قال المأذون وهو يجهز الأوراق الخاصة بهِ:
-الأوراق اللي طلبتها جاهزة يا منشاوي بيه؟
أومأ "المنشاوي" وهو يقول ل "سهير":
-اطلعي يا سهير هاتي الملف اللي قولتلك جهزيه.
نهضت "سهير" بوجه حزين وهي تصعد للأعلى لتجلب الملف الذي لم تكن تعلم أن الأوراق التي بهِ تخص طلاق "شاهين" و "شدوى"..
-انا مجهز الأوراق من قبل الحفلة بيومين..
قالها ل"شاهين" الذي نظر له مستغربًا ومدهوشًا من سرعة اتخاذه لقرار طلاقهما, وحين أشار للموعد الذي جهز فيهِ الأوراق انتبه "شاهين" أنه نفس اليوم الذي حدثه فيهِ الجد واقترح عليهِ أن يجعل خطوبته للفتاة حقيقة, ويستقر ويبني أسرة سعيدة حُرم منها طوال سنواته السابقة, ويبدو أن صمت "شاهين" حينها مفكرًا أخذه الجد على أنه قد وافق على اقتراحه.
نزلت "سهير" بالملف وخلفها "سيف" الذي أغلق الباب بالمفتاح على "شدوى" بالأعلى كي لا ترتكب حماقة تجعل الجد يغضب أكثر.
دقائق وكان المأذون يقول:
-نادوا الزوجة عشان توقع على الأوراق.
قال الجد:
-احنا هنطلق طلاق غيابي.
سأل المأذون:
-الزوجة عندها علم بالطلاق؟
اومأ المنشاوي يقول:
-ايوه, بس هي حالتها النفسية مش كويسة ومش هنعرف ناخد منها امضا.
-كده هنحتاج اتنين شهود.
نظر المنشاوي ل "سيف" يخبره:
-اطلع هات بطاقتك..
ثم أخرج بطاقته من جيب بنطاله القماشي وهو يعطيها للمأذون:
-ودي بطاقتي.
******
في شقة بعيدة...
بمنطقة سكنية مختلفة...
زفرت بقوة وهي تلقي الهاتف بعنف ليسقط فوق الفراش وأخذت تدور في الغرفة عدة مرات بلا هوادة, حتى وقفت تنظر لنفسها في المرآة, تعاين كل أنش بها ثم تحدثت لذاتها:
-هو انا فيا إيه مش عاجبه؟ ليه ماحبنيش؟ ليه بيعاملني إني نزوة يوم ما شوقه يرميه ليا يجيلي وبعد كده يصدرلي الوش الخشب ولا كأنه يعرفني!
التفت تلتقط هاتفها مرة أخرى تضغط على زر الاتصال, تتصل بهِ للمرة الرابعة منتظرة رده على أحر من الجمر...
-رد بقى وحشتني... مانا مش هسيبك غير لما ترد وتجيلي كمان!
****
أغمض عيناه لبرهة وهو يأخذ نفس شعر وكأنه نفسًا حرًا ولأول مرة منذ سنوات عديدة, وأخيرًا انتهى الأمر.. وأخيرًا انتهى كابوس "شدوى", تحرر منها وأصبحت خارج حياته بالمعنى الحرفي, فحتى وإن أخرجها منذُ زمن لكنها كانت مازالت مرتبطة بهِ, باسمه وسكنها معه, ولكن الآن بات الأمر واقعًا وليس مجرد نبذ منه لها.
انصرف المأذون ليقول الجد:
-انا كلمته عشان يكتب كتابك انتَ و...
قاطعه "شاهين" وهو ينظر له قائلاً بهدوء:
-جدي... سبني اشم نفسي, بلاش تستعجلني في جوازي ده كمان, أنا وقت ما احب اكتب كتابي هعمل ده..وكمان أبوها لازم يحضر كفاية إني اعلنت خطوبتي بيها من غير ما اكلمه وابلغه إني عاوز اتجوزها اصلاً.
ورغم اعتراض "المنشاوي" فقد أراد أن يطمئن عليهِ ويزوجه الفتاة قبل أن يعود لمسقط رأسه, لكنه لم يستطيع إبداء اعتراضه فيكفي ما فعله معه في الماضي, والآن سيترك له حرية التصرف في حياته.
-ماشي يا شاهين, وانا هستناك تكلمني اجي أحضر كتب كتابك.
-إن شاء الله.
غمغم "شاهين" في هدوء, ليقول "المنشاوي" ل "سيف":
-اطلع عرف اختك إن الطلاق تم, وعرفها إن بكرة هترجع معايا هي وتيم البحيرة.
تململ "شاهين" في جلسته وهو يقول بضيق:
-جدي, تيم ملوش علاقة بعلاقتي بشدوى, تيم هيفضل ابني ومفيش حاجة هتتغير من ده صح؟
ابتسم له الجد بحنان وفخر بحفيده الذي لا يظلم أحدًا, ولا يأخذ أحدًا بذنب آخر:
-ماتخفش يا غالي, تيم ابنك, وأي وقت تحب تشوفه أو حتى تيجي تاخده يقعد معاك كام يوم فأكيد مش محتاج تستأذن لا مني ولا من أي حد.
تنفس "شاهين" براحة وهو يومأ برأسه, ف "تيم" حتى وإن لم يكن ابنًا حقيقيًا له, لكنه عزيز عليهِ معزة الابن, وحبه له لا يزيفه أبدًا, بل حقيقي وخالي من أي رياء, فمن الأساس لا يحتاج لتزييف مشاعره, فإن كرهه لن يلومه أحد فبالنهاية هو ثمرة خيانة خطيبته له, ولكنه "شاهين" دومًا غامض وغريب..!
*****
كان يجلس في مكتبه حين رن هاتفه برقم غير مسجل, تجاهله مرة, والثانية, ولكن في الثالثة ومع استمرار الرنين اضطر للإجابة..
-الو مين؟
دخل "مدحت" وهو يقول:
-مازن خلصت أوراق...
قطع حديثه حين أشار "مازن" له بالصمت, فجلس أمامه ينتظر أن ينهي الآخر مكالمته, ثواني وأتاه صوتًا لا يمكنه أن يخفق في معرفته يقول:
-مازن, أنا محتاجه اقابلك..
جحظت عيناه بشكل مخيف وطفت الصدمة جلية على وجهه حين أدرك هوية المتصل, لكنها لم تعطيه مجال للصدمة وهي تقول بتوتر واضح:
-لو مش فاضي... او مش حابب...
وقبل أن تكمل كان ينتفض بلهفة يسألها:
-انتِ فين؟
والتقطت أشيائه بسرعة مهولة يركض من المكتب كالمجذوب تحت نداء "مدحت" عليهِ لكنه لم يلتفت ابدًا..!
-راح فين ده؟ ومين اللي بتكلمه؟
رددها "مدحت" بسؤال لن يجده له إجابة على الأقل الآن, لحين عودة "مازن"...
***
وفي غرفة المكتب...
-يالهوي... وهتعملي إيه في المصيبة السودة دي!
قالتها "مستكة" بذعر حين سردت لها "فيروز" ما حدث في اليومين السابقين, لتجيبها بقلة حيلة:
-مش عارفه.
-طب قولتي لمازن؟ كلمتيه؟
هزت رأسها نافية:
-انا لسه متفاجئة بقرار الراجل بره, ملحقتش اطلع اوضتي اصلاً.
اقترحت "مستكة":
-لازم تنفردي بنفسك وتكلميه تبلغيه, لازم يتصرف قبل ما يكتبوا الكتاب.
-كان قالي إنه هيهربني.
-طب ومهمته؟
رمشت "فيروز" بأهدابها تقول:
-هو انا مقولتلكيش! مش هو اعترفلي بحبه في الحفلة.
تجمدت ملامحها لثواني كأنها لم تسمع, وفجأة خرجت صرختها تقول:
-نعم؟ هو مين؟
حدقتها بضيق من صوتها العالي:
-وطي صوتك.. نسيتي البغل الحارس اللي واقف على الباب!
وسريعًا ما لانت نبرتها ونظرت لها ببراءة مصطنعة تكمل بهمس:
-مازن اعترفلي بحبه.
رددت "مستكة" خلفها بدهشة كبيرة:
-مازن!!! هو إيه اللي حصل؟ دول يومين اللي غبتهم!
-يووه.
قالتها "فيروز" بنزق من رنين هاتف "شاهين" الذي لم ينقطع, واتجهت له تلتقطه بعنف من فوق المكتب متجهة للخارج, لتسألها "مستكة" باستغراب:
-رايحة فين؟
قالت وهي تخرج من الغرفة:
-هديله تليفونه اللي صدعنا ده.
خرجت لتجدهم جميعًا متواجدين.. هو وجده وعمته وزينة التي عادت مرة أخرى, والباقي تخلف عن الصورة, اتجهت له تعطيه الهاتف:
-تليفونك بقاله شوية مبيفصلش رن.
التقطته منها بعدما وقف لتتجمد ملامحه وهو يرى اسم المتصل.. خرج للحديقة وهو يجيب بجمود صارخ:
-خير؟ كل دي اتصالات؟
أتاه الصوت النسائي الثائر بنبرة مختنقة باكية:
-ده بدل ما تكلمني تطمن عليا؟ بقالي 3 أيام مشوفتكش ولا تعرف عني حاجة... ورغم زعلي منك كلمتك... كلمتك عشان وحشتني يا شاهين, وحشتني اوي... انا مستنياك في شقتنا...تعالى.. تعالى دلوقتي انا مش قادره اقعد كل ده من غير ما اشوفك!
الفصل الحادي عشر من الجزء الثاني
فراشة في سكّ العقرب
ناهد خالد
"الحب أفعال لا أقوال، الحب ليس مجرد شعور عابر مذبذب، بل هو يقين وثبات، أن تحب شخصًا يعني أنك تحبه.. هكذا فقط.. بلا أي تردد أو تناقض في الأفعال"
ليلاً...
أخيرًا استطاعت أن تنفرد بنفسها بعيد عن ضجيج الجميع..
أخرجت الهاتف الصغير بحرص وحذر وطلبت رقم "مازن" ظلت تطلب رقمه لعدة مرات دون رد، فزفرت أنفاسها باختناق وهي تضع الهاتف جوارها بعد أن فعلت وضع الهزاز احتسابًا لرنينه في أي وقت.. وشردت بعقلها في أحداث اليوم وما سمعته عن حقيقة شدوى، حدثت نفسها تقول:
_هو شاهين ده اهبل ولا إيه؟ ازاي قبل يتجوزها وهي غلطت مع واحد تاني لأ وحملت منه! وليه أفعاله متناقضة كده، ده لو شخص وحش ومعندوش رحمة ولا قلب زي ما بيقولوا عليه وزي ما بيظهر ساعات عمره ما كان اتجوزها وكتب الواد على اسمه، أكيد كان قتلها..! طب معقول من حبه لها مقدرش يقتلها! بس بردو المفروض واحد بشخصيته ميحبش اصلاً ولا يعرف يحب ولو حب ميهزوش الحب ده، هو مش زي بتوع العصابات اللي بنسمع عنهم اللي يقتل مراته عشان خانته واللي يقتل حبيبته عشان هربت منه! ولا هو من بره هالله هالله ومن جوه يعلم الله!! اااااه...
رددت تأوها الأخير بتعب وهي تضع كفها على رأسها من كثرة التفكير، وفجأة ابتسم ثغرها ابتسامة غير مفهومة وهي تتخيل واقع حديثه معها، وطلبه منها أن تصبح زوجته حقيقيةً، زوجته!
كلمة لها وقع غريب على نفسها, تتخيل فقط لو الأمر أصبح حقيقة... ستصبح هي سيدة المنزل الواسع والفخم هذا, ستصبح من سيدات المجتمع الراقي, ستمتلك الكثير من الثياب الباهظة والمجوهرات والخدم والسيارات, أشياء لم تحلم يومًا أن تمتلكها, سوف تستطيع أن تملك كل ما تقع عيناها عليه, إن أرادت شيء سيكون لديها فورًا ولن تحسب له ألف مرة كما تفعل الآن, ولكنها مع كونها ستملك كل هذا... ستصبح مملوكة! مملوكة لشخص مخيف, غريب, والخطأ عنده بعُمر, شخص من المفترض أنه رجُل خطر والبُعد عنه نجاة.
تنهدت بحيرة وهي تتجه بتفكيرها لجانب آخر, شاهين ورغم كل علامات الاستفهام حوله, لكنه بهِ بعض الطِباع الحسنة, ويا للعجب أنها تقول هذا! بصرف النظر عن حديث "نورهان" المسبق عنه, لكنها في كثير من الأحيان تلتمس فيه أمورًا جيدة, وتشعر أنه على عكس الشخصية التي يُظهرها.
زفرت بقوة وهي تقول:
-إيه الهبل ده! أنا بفكر في إيه؟؟!
انتفضت على اهتزاز الهاتف لتجده "مازن" فتحت المكالمة فورًا تردد بصوت منخفض:
-مازن, رنيت عليك كتير مردتش.
أتاها صوته الهادئ يقول:
-كنت مشغول شوية.
شعرت بأن صوته بهِ شيء ما:
-أنتَ كويس؟ صوتك مش طبيعي.
-لا أنا تمام, قوليلي في حاجة ضرورية؟
ورغم تأكدها بأنه ليس بأحسن أحواله لكنها قالت متغاضية عن ما لا يريد الإفصاح عنه:
-في حاجات... شاهين طلق شدوى رسمي.
أتاها صوته المصدوم:
-بتقولي إيه؟ ازاي؟ والعيلة عرفت؟
-جدك هو اللي أمر بكده, ومحدش قدر يتكلم, وكمان قال إن كتب كتابي أنا وشاهين بكره.. بس شاهين مشكورًا يعني كلمني بعدها قدامه وقالي إني اكيد لازم اعرف بابا الأول ولازم يكون حاضر, فمسكت في الحجة دي وتبت... لكن مش عارفة هعمل إيه وهفضل اماطل لأمتى؟ وابويا ده هييجي منين!؟
-إيه ده؟ كتب كتاب إيه؟ هم اتجننوا؟ ولا شاهين عاوز يتأكد إنه هيسبقني بخطوة!
قطبت ما بين حاجبيها باستغراب وهي تقول:
-هو كل اللي فارق معاك إنه هيسبقك بخطوة؟ بعدين أنا في بالي إنك هتتصرف وتهربني من هنا زي ما قولت قبل ما ياخد الخطوة دي.
تردد صوته وظهر بهِ الارتباك وهو يقول:
-مش قصدي أكيد.. بس انا لما فكرت في موضوع هروبك ده لقيت إنه صعب شوية.
-صعب!
رددتها متفاجئة من حديثه فقد بنت أفكارها على تصرفه هو وتهريبه لها من هنا قبل أن تُكشف أو تقع في المحظور.
-هنبقى معملناش حاجة يا فيروز, هيكون خوفك وكل اللي عملتيه الفترة اللي فاتت راح على الأرض, لازم نلاقي دليل على شاهين قبل ما تطلعي من حياته.
-ولو لقيته؟
-هيتسجن طبعًا!
ابتسمت باستخفاف تقول:
-وطبعًا على ما اعرف الاقي على دليل هيكون اتجوزني!
سمعت زفرة حارة منه قبل أن يقول:
-ووقتها هتتحرري منه, متقلقيش عمري ما هسيبك تقعي فيه عمرك كله, وعمري ما هسمحله يلمسك.
-هيكون جوزي!
صرخت بها بنبرة خافتة وقد تجمعت دموعها في عينيها وقالت مكملة بمرار تتذوق طعمه في حلقها:
-ازاي مش هتسمحله يلمسني وهو هيكون جوزي! ازاي قولت إنك بتحبني ودلوقتي معندكش مشكلة اتجوزه المهم مصلحتك تمشي واعرف اجبلك دليل عليه! أنا تخيلت إني اول ما احكيلك هتقولي انا ههربك فورًا من عندك, ردك صدمني ومش قادرة استوعبه.
-اسمعيني بس, دلوقتي حتى لو كتب كتابه عليكي شاهين مش من النوع الرومانسي ولا انتِ فارقة معاه أصلاً, هو بيعمل كده عشان يعلن انتصاره عليا, وبناء عليه هو عمره ما هيقربلك, هو بس هيتجوزك عشان يثبتلي إنه خدك مني, فبالنسبه إنه يقربلك ده مش هيعمله, ولما نمسك عليه دليل هيتحبس, وقتها تقدري ترفعي عليه قضية خلع, وهتخلصي من الموضوع ده خالص بدون أي خساير.
وحقيقًة لا تعرف الآن لِمَ فعلت هذا لكنها لم تخبره عن رغبة "شاهين" الذي أخبرها بها, وأنه يريد الزواج منها ليكون أسرة وأولاد, صمتت, ولا تعرف سبب الصمت الغريب في موقف كهذا, لكنها شعرت بشيء يطبق في عنقها, ويجثم فوق صدرها, شيء لم تستطع إزاحته أو التخلص منه فقالت بغصة مختنقة:
-انتَ شايف كده؟
تنهيدة عميقة خرجت منه قبل أن تسمع صوته:
-فيروز, انا قولتلك إني بحبك... ومينفعش تشككي في كلامي أو شعوري, لأني ببساطة مش مراهق عشان معرفش حقيقة مشاعري ليكي.
تهاوت دموعها وهي تشعر بالحزن والكأبة وقالت معاتبة:
-غريب حبك ده! رغم إني معرفش الحب ولا عمري عيشته, لكن مش طبيعي تكون بتحبني وموافق راجل تاني يتجوزني حتى لو مش هيقرب مني زي ما بتقول رغم إن ده شيء مش مضمون, هتعمل إيه لو بقى جوزي بجد؟ هيبقى الموضوع عادي زي ما عادي اتجوزه!؟
أتاها صوته الغاضب يقول رافضًا:
-لا طبعًا, وانتِ المفروض ماتسمحيش بده! ده لو بتحبيني. أنا اصلاً مسمعتش ردك على اللي قولتهولك في الحفلة, مشاعرك إيه ناحيتي يا فيروز؟
هو يخنقها الآن, فمشاعرها مضطربة, ومشوشة بعد حديثه الغريب عليها وردود أفعاله الأغرب, اتجهت للنافذة تنظر من خلفها للسماء لتجد نفسها تردد بشرود:
-مش عارفة... بس يمكن في مشاعر جوايا ليك.
والحقيقة لو سألها نفس السؤال في أول مكالمته لقالتها صراحًة واعترفت بالحب, ولكنها "فيروز" الفتاة التي تعلمت نصف ما بها من صفات وطِباع من الشارع, من قسوته وسوء معظم من قابلتهم بهِ, لذا فعقلها يطغى على مشاعرها في كثير من الأحيان, أو حين يستدعى الأمر.
والعقل يقول الآن أن تتماسك وألا تتسرع في الاعتراف بمشاعرها.
-رغم إن إجابتك مش مرضية اوي ليا, بس مقدر إنك اكيد في تردد وحيرة وسط اللغبطة اللي بتحصل.
-وليه متأكد إن جوايا مشاعر ليك؟
-تصرفاتك ونظراتك بتفضحك يا فيروز, يمكن مش متأكد إذا كنتي حبتيني ولا لأ, بس متأكد إني مأثر فيكي, وعلى فكرة.. وحشتيني.
اضطربت وانتفض قلبها وهي تستمع لكلمته, وعقلها يستنكر كيف اشتاق لها وقد رأته بالأمس في الحفل! إنه يبالغ! أم يريد أن يحسن الوضع بعدما شعر بتوتره؟
لم تعقب على كلمته فقط قالت متخطية الموضوع:
-المطلوب مني اعمل إيه؟ وابويا ده هنتصرف فيه ازاي؟
-بقولك إيه تعرفي مرسي دراع شاهين اليمين؟
صمتت تحاول إدراك هوية من يذكره فقالت:
-لأ, ماله ده؟
-ده لازم تعرفيه, هبعتلك صورته, الراجل ده لو شوفتيه عند شاهين في مكتبه حاولي على قد ما تقدري بعد ما يمشي على طول تدخلي المكتب وتدوري فيه, مرسي مبيظهرش غير لما يكون هو وشاهين بيرتبوا لعملية, ولو عرفتي تسمعيهم وتعرفي منهم معلومات, أي معلومة حتى لو صغيرة تعرفهالي.
-وهعمل ده ازاي؟ ده في تور واقف على الباب بتاع المكتب مبيخليش حد يقرب منه.
-اتصرفي يا فيروز, شوفي شبابيك المكتب ولا أي مكان تقدري تسمعي منه, مرسي ده هو اللي هيوصلنا لحاجة وإلا هنفضل نلف في دايرة مقفولة.
-هحاول..
قالتها بتنهيدة قوية وهي تشعر أن القادم ليس سهلاً, وسألته:
-ولو قالي إنه عاوز يتواصل مع ابويا؟
-قوليله إنك هتتواصلي معاه عن طريق اكونت الفيسبوك لأن طبعا تليفونك مش معاكي ومتعرفيش غير اكونته, وانا هبعتلك في رسالة اسم اكونت والصورة بتاعته, الراجل ده واحد معرفة موجود في لندن هكلمه افهمه كل حاجه واعرفه لما تتواصلي معاه هيقول إيه.
-واسم الاكونت ده مش هيكون مختلف عن اسم ابويا؟
-اصلاً هو عامل اكونت باسم وهمي فموضوع الاسم مش مهم.
*******
في اليوم التالي...
_الزم أدبك يا سيف، شاهين هو كبير العيلة من بعدي ميصحش تتكلم عليه كده.
_ومين قرر انه كبير العيلة يا جدي! العيلة مش محتاجه كبير من بعدك.
_لا محتاجه، محتاجه عشان اللي في دماغك ده مش هيحصل حتى بموتي، بموتي مش هتقسموا الورث ومتعرفوش بعض بعدها.. انا موصي ان مفيش مليم يطلع من الورث، ومفيش حاجه هتتوزع، وملك عيلة المنشاوي هيفضل زي ماهو واللي مش عاجبه يفارق بس من غير ولا مليم.
_ ايه الجنان ده! انتَ بتقول ايه؟ ده ورثنا وحقنا ناخده.
_متولعش النار يابابا ، انتَ عارف انهم عمرهم ما حبوا بعض في وجودك... عيلة كلها تعابين، هيحبوا بعض بعد موتك!
والجملة أتت من ولده" مختار" الذي دلف للفيلا للتو, نظر له "المنشاوي" وهو يشير ل"سيف" بينما يقول:
-تعالى...تعالى شوف البيه ابنك بيقول إيه, البيه بيعدل عليا أنا وابن عمه, صاحي يقول شكل للبيع، والتعابين اللي تقصدهم يبقوا انت وعيالك، مين في العيلة بيحقد ويغل غيركوا!
قال "سيف" بغضب:
-عشان مش بعد كل السنين اللي شدوى قضتهم معاه تخرج من حياته فجأة كده وترجع تعيش في المنفى, هي من حقها تفضل عايشة هنا, ولو مش في البيت خلاص تعيش معايا أنا ومراتي في بيتنا.
ضرب "المنشاوي" عصاه بالأرض بحدة:
-لأ, مش هيحصل, عشان عارف إن اختك مجنونة وعديمة الكرامة, مش هتسيب شاهين في حاله, وطول ماهي معاه في نفس البلد هترازي فيه هو وخطيبته, وانا عاوز اقطع جدر الموضوع ده خالص.
قال "مختار" بغيظ يكبته:
-اسمع يا حاج, شاهين لازم يرد شدوى لعصمته, اللي عملته امبارح انتَ من غير ما تاخد رأي حد غلط, وغلط كبير.
اقترب "المنشاوي" منه وهو يقول ساخرًا:
-وليه عاوزها ترجعله؟ وموافق ترجعله بس يتجوز عليها؟ ولا هتحجر عليه وتحرمه من حقه وتقول مايتجوزش؟
ورده كما توقعه الجد حين قال:
-لو عاوز يتجوز يتجوز, المهم ميرميش بنت عمه وابنها عشان واحده غريبة و...
قطع "المنشاوي" حديثه يقول بابتسامة مشمئزة:
-مش مصدق إنك بتبيع بنتك وبتمسح بكرامتها الأرض عشان ورث شاهين.
توتر وجه "مختار" وهو يقول برفض:
-ورث إيه؟ انا مش محتاج ورثه أنا...
-لا محتاج... ورثه اللي هو ورث ابوه واللي أصريت اكتبه باسمه عشان لما اموت متاكلوش حقه, ورثه اللي حافظ عليه وبقى 3 اضعاف الأصل.
لم يستطع "سيف" التحكم في نفسه وهو يقول غاضبًا وحانقًا:
-وللآن مش راضي تكتب لأبويا حقه الشرعي في باقي أملاكك, وسايبهم باسمك, عشان لما تموت شاهين يورث تاني!
نظر له "المنشاوي" ناظرة قاتمة, حادة وقال:
-شاهين مش طماع ولا معدوم الضمير زيك, هو عمره ما هياخد جنية تاني, لكن أنا مش هكتبلكوا باقي املاكي عشان امد ايدي ليكوا اطلب المصروف كل شهر ولا لو وقعت في مشكلة استلف منكوا, وانتَ بالذات يا فاشل لو شميت ريحت الفلوس هتضيعها زي كل حاجة ضيعتها قبل كده.
-طبعًا, انا الفاشل وشاهين بيه هو اللي مفيش منه, طول عمرك شايفه بطل رغم إن كل اللي بيعمله عادي.
قالها "سيف" بكره حقيقي, فمن كثرة ما يرى تفضيل الجد ل "شاهين" عليهِ كره "شاهين" والجد نفسه, ليقول الجد:
-اعمل نص اللي بيعمله بعدين ابقى أتكلم, ده انتَ لسه بتاخد مصروفك من ابوك ومعتبره مرتب قال, مرتب إيه وانتَ مبتروحش الشركة مرتين في الأسبوع.
-اديني نص اللي ادتهوله وانا اعمل زي ما عمل.
غضب "المنشاوي" وهو يقول:
-لا هديك حاجة, ولا تحلم لا انتَ ولا ابوك إني اكتبلكوا املاكي, لما أموت ابقوا اورثوني، ومتخلونيش احلف إني اكتب وصية إن بعد موتي املاكي ماتتقسمش واخلي كل حاجه تحت تحكم شاهين عشان تفضلوا طول عمركوا تحت ايده.
-بعد الشر عليك يا بابا, بس بقى يا مختار انتَ وسيف عيب كده, حصل إيه لكل ده؟ وانتَ يا سيف اهدى, انتَ من وقت ما صحيت وانتَ بتقول شكل للبيع ونازل شامم نفسك علينا.
هدرت بها "سهير" خارجة عن صمتها ليقول "سيف" بنفس غضبه:
-عشان امبارح اضطريت اسكت تحت إصرار جدي, لكن انا مش قابل اللي عمله هو فكر في شاهين وبس, مفكرش في اختي.
نزلت "صفاء" على الدرج تقول بوجه شاحب:
-منشاوي بيه انا طلعت ابلغ شدوى هانم تجهز الشنط عشان تمشوا, بس ملقتهاش لا هي ولا تيم, وهدومهم مش فوق.
صُدم الجميع مما قالته, واتسعت عيني "المنشاوي" بغضب وهو يهدر في "سيف":
-اتصل بيها شوفها راحت في أي داهية.
******
اليوم لابد أن يخرج من المستشفى, وللعجب لم يكن يريد الخروج! فقدومها له على مدار اليومين كان يبعث فيهِ راحة غريبة, وكأنه بدأ يفضل المكوث في المستشفى فقط لتأتي وتراه! لِمَ أصبح يراها بشكل مختلف؟ أليست هي نفسها "مستكة" الفتاة التي لا يحب الحديث معها ولا نظراتها له, لا يحب سخافتها وهي لا تنفك عن إظهار مشاعرها أمامه, ولكن الصورة الجديدة التي ظهرت بها أحبها, أو على الأقل تقبلها, الفتاة العاقلة التي تعطيه دفعة للحياة والتي يمتلئ حديثها بالحكم والمواعظ, الفتاة التي جعلته يتقبل وضعه وأشعرته بأنه لم يفقد حياته كما رأى الوضع, بل فقد شيء وعليهِ أن يعوضه بشيء أخر..
نزل من سيارة الأجرة, ليجدها تقف أمام منزلهم تحمل صينية طعام مغطاة بقطعة قماشية كبيرة, اقترب هو ووالده منها ليبدأ "شاكر" في الحديث:
-إيه اللي موقفك كده يا مستكة؟
ابتسمت بخجل وهي تنظر لِمَ تحمله:
-لما كنت في المستشفى الصبح عرفت انكوا هتخرجوا على ميعاد الغدا, قولت اكيد مش هتلحقوا تيجوا تعملوا أكل وهتكونوا جعانين, فعملت حاجة بسيطة كده.
خرج "مجد" عن صمته يقول بحرج مما تفعله معهم:
-بس كده كتير...بعدين معنى كده إنك مشتغلتيش النهاردة كمان! ومعطلة نفسك عشانا.
رفعت نظرها تطالعه بابتسامة ولمعة عيناها قد عادت كما كانت دومًا:
-مش كتير ولا حاجة, وبعدين... انا خدت النهاردة إجازة من شغلي, وبيع الفل كده كده بشتغله في أي وقت.
اقتربت تعطي الصينية ل"شاكر" وقالت:
-حمد الله على السلامة, وإن شاء الله ربنا يتمم شفاه على خير.
تناولها منها "شاكر" بحرج وامتنان:
-تعبناكي معانا اليومين اللي فاتوا, بس مش جديدة عليكي يا مستكة طول عمري شايفك بت جدعة وبنت أصول.
ابتسمت وهي تختلس النظرات ل "مجد":
-الجيران لبعضها يا عم شاكر, والرسول وصى على سابع جار, واحنا ولاد حتة واحدة, ويارب الأكل يعجبكوا.
-أكيد.
قالها "مجد" فجأة, لينظرا له فحمحم يقول:
-كفاية إنك تعبتي نفسك وعملتيه.
-السلام عليكم.
قالتها وهي تنصرف من أمامهما وقلبها يدق بدقات تشعر بها للمرة الأولى, فلأول مرة يعاملها "مجد" بهذا اللطف, لأول مرة يتقبلها دون أن ترى منه نظراته الكارهة, دون أن يجرحها بحديثه, كما كان الأمر هكذا في المستشفى لكنها كانت تبرر ربما يقدر ذهابها لرؤيته كمريض فيحاول أن يعاملها بلطف, ولكن ماذا عن الآن؟ وهل هذا أمل تتعلق بهِ أم ستكون أكبر ساذجة إن فعلت!
******
مساء اليوم التالي....
ابتسمت بتوتر وهي تحادث والدها المزعوم عبر هاتفه:
-أنا بس يا بابي كلمتك عشان اقولك إن في حد متقدملي وحابب يكلمك عشان يطلبني منك, وكمان يحدد معاك باقي التفاصيل.
أتاهما صوت الرجل يقول بضيق أجاد تمثيله:
-والكلام ده من امتى؟ بعدين تفاصيل إيه اللي هحددها معاه وانا معرفوش ولا اعرف عنه حاجة!
نظرت ل"شاهين" بتوتر ثم أجابت:
-انا اعرفه كويس يا بابي, وواثقة فيه, هو بس عاوز يعني يحدد معاك ميعاد الخطوبة وكمان عشان تكون موجود.
-لالا مش هقدر انزل مصر خالص, مش أقل من كام شهر لأن عندي اشغال كتير هنا مينفعش اسيبها وانزل.
نظرت ل "شاهين" بحيرة مصطنعة ثم سألت الرجل:
-يعني ممكن تنزل بعد قد إيه؟
-يعني مش أقل من 6 شهور, بلغيه بكده, وخليه يأجل أي حاجة لحد مانزل.
-تمام يا بابي, هكلمك تاني.
وأغلقت معه الهاتف لتنظر ل"شاهين" الذي يطالعها بصمت, صمت لم يقطعه فقطعته هي تقول بابتسامة متوترة:
-ساكت ليه؟
نظر لها بتمعن أقلقها:
-وافقتي ليه؟ متوقعتش تدخلي عليا الصبح المكتب تقوليلي أنا موافقة إننا نتجوز بجد!
تحكمت في خوفها من أن تخفق في الحديث, واستدعت الثبات وهي تقول:
-فكرت بعقلي, على فكرة أنا بعيدة خالص عن الحب والمشاعر والكلام ده, ولما هديت وفكرت لقيت إني طول عمري بدور على الزوج المناسب بشكل عقلاني, وبصراحة... انتَ فيك كل مواصفاته, بس مع عقبة بسيطة مش عارفة هقدر اتخطاها ولا لأ.
-ويا ترى إيه هي العقبة دي؟
-موضوع تجارتك في السلاح, انا للآن مش عارفة انتَ فعلاً بتاجر فيها ولا مازن فاهم غلط!
شبك كفيهِ فوق المكتب يقول بهدوء:
-بصي, انا اكتر حاجة بكرهها إن حد يدخل في تفاصيل حياتي, او يتدخل في حاجات انا شايف إنه ملوش فيها.
رفعت حاجبها الأيسر باستنكار تقول:
-يعني إيه! لا ليا فيها طبعًا, التفاصيل دي هتكون حياتي انا كمان, ازاي اتجوز شخص حواليه شكوك, وشكوك إجرامية كمان!
عقب على حديثها بنبرة قوية واثقة:
-بصرف النظر عن أي شيء يخصني أو يخص شغلي, يكفيكي اقولك إنك عمرك ما هتتأذي ولا هتكوني طرف لعداوتي مع حد... أنا عارف كويس اوي أفصل حياتي العملية بكل اللي فيها عن بيتي وحياتي الشخصية, شدوى عاشت معايا 7 سنين ولا مرة مشاكلي في شغالي أو عداوتي مع حد حست بيها, واعتقد ده اللي يهمك.
لم تقتنع بحديثه أبدًا وقالت:
-ايوه بس لو شغال في السلاح واتقبض عليك ده مش هيأثر عليا وعلى حياتي!
نهض يلف حوله مكتبه حتى أصبح أمامها فاقترب من كرسيها واستند بكفه على المكتب يميل عليها يسألها بأعين ماكرة:
-بتلفي وتدوري ومصممة توصلي لإجابة السؤال ده صح؟
رمشت بأهدابها توترًا من اقترابه الخطر, وابتلعت ريقها بصعوبة مع تسارع أنفاسها وقالت بنبرة مرتبكة:
-ايوه...مصممة, وبصراحة ده مقابل إني أوافق بشكل كلي..على...على الجواز يعني.
*******
جلس أمامها في المقهى الذي اتفق معها على اللقاء فيه, وقال بابتسامة ارتسمت على ثغره:
-هتشربي عصير مانجا كالعادة ولا ناوية تغيري؟
ابتسمت وهي تجيبه:
-مانتَ عارف مبشربش غيره.
طلب لها مشروبها وطلب له قهوته الخاصة وبعدها نظر لها يقول:
-امبارح جالك تليفون ومشيتي وملحقناش نتكلم, نزلتي مصر ليه وامتى؟ وكلمتيني ليه؟
ضحكت ضحكة صغيرة تقول:
-كل دي أسئلة؟ عمومًا هجاوبك.. نزلت مصر من أسبوعين, وليه...عشان للأسف حياتي بره انتهت, وكلمتك ليه... فكلمتك عشان لما نزلت مصر معرفتش الاقي أي حد من صحابي, ولقيت نفسي لوحدي, افتكرتك.. وقولت انتَ الوحيد اللي هعرف اوصلك لأن الاكونت بتاعك كان لسه عندي, قولت اكلمك ونرجع صداقتنا ويبقالي حد هنا على الأقل استند عليه وقت ما يحصلي مشكلة او احتاج صاحب.
نظر لها بتمعن يسألها:
-معقول! شايفه إننا ينفع نرجع صحاب؟ حتى بعد اللي حصل يا ليلى؟
تنهدت وهي تقول بينما تنظر بعيدًا:
-اللي حصل بيني وبين اخوك زمان انا عمري ما دخلتك طرف فيه, بالعكس طول الوقت حافظة جميلك إنك نبهتني وخوفت عليا اتخدع فيه, وعمومًا.... انا نسيت شاهين من زمان يا مازن.
-متأكده؟
سألها بشك واضح, لتبتسم في خفوت وقالت:
-لو ماكنتش نسيته مكانتش اتجوزت.
-اتجوزتي؟؟؟!
رددها بصدمة وفاه فاغر وقد شعر بحجر ثقيل سقط فوق قلبه فجأة..
الفصل الثاني عشر من الجزء الثاني
فراشة في سكّ العقرب بقلم ناهد خالد
"ألا تعرف ما تريده حقًا, وألا تجد نقطة تواصل بينك وبين نفسك لهو أمر في غاية التخبط"
نظرت له باستغراب فمنذُ أوضحت له ظروف زواجها وصمته غريب, وملامحه متجهمة بشكل يقلق, ارتشفت رشفة من العصير وبعدها سألته:
-مالك؟ من وقت ما حكيتلك وانتَ ساكت, انتَ حتى معلقتش على اللي حكيته!
نظر لها بنظرة تائهة قبل أن يقول:
-هقول إيه؟ كل اللي حكتيه بيحصل كتير.. اتجوزتِ واحد شوفتيه مناسب ليكي وبعدها حصل خلافات واكتشفتِ إنه بعيد خالص عنك, ولما الخلافات زادت قررتِ تطلقي.. سناريو مكرر وبنسمع عنه كتير, مفيش فيه حاجة استوقفتني.
حركت رأسها في حركة رتيبة وقالت:
-معاك حق...هو...هو شاهين وصل لفين؟ لسه مع بنت عمه؟
وسؤالها الأخير كانت مترددة بهِ لكنها في الأخير سألته وقد غلبها فضولها, والسؤال لم يكن محبذَا ل "مازن" ابدًا الذي تجمدت ملامحه ووجمت أكثر من ذي قبل, ونطق بسؤال حاد:
-لسه يهمك؟
اضطربت وحركت رأسها تنظر للجانب وهي تجيب بهدوء مزيف:
-عادي... فضول مش أكتر.
-فضول؟
سألها باستنكار, ليقول بعدها:
-لا مش فضول, واضح إنك مقدرتيش تنسي شاهين رغم السنين اللي عدت.
نظرت له فجأة وهي تقول بإقرار صريح:
-أنا حبيته... وهو معملش حاجة أذتني, بالعكس لحد آخر لحظة جمعتنا كان إنسان كويس وبيعاملني أحسن معاملة, أنا سيبت شاهين عشان كلامك اللي قولتهولي وده ميخلنيش اكرهه, آه هو خدعني لما معرفنيش حقيقة شغله, لكن بردو معملش تصرف ليا مباشر أذاني به, يمكن عشان كده مقدرتش اكرهه!
وبملامح غير مقروءة سألها:
-لسه بتحبيه؟
ابتسامة مريرة رُسمت على فمها قبل أن تقول وهي تتلاعب في الكأس أمامها:
-ملناش نصيب مع بعض, مش هتفرق لسه بحبه ولا لأ.
-لو لسه بتحبيه مش هتقدري تدخلي حد تاني حياتك.
قالها بإقرار باقتناعه التام, لتهز رأسها رافضة وقالت:
-مانا دخلت طليقي, واتجوزنا وحقيقي كنت صادقة معاه وحابه استمر واكون أسرة وأولاد.. لكن مع جوازنا سنتين مقدرناش نخلف من غير سبب, ومقدرناش نتفاهم وده ملوش علاقة بأني بحب غيره أو لأ, انا حاربت بكل طاقتي مع طليقي إننا نكمل, لكن مكانش فيه فرصة.
-اتحرري منه يا ليلى, اتحرري من شاهين لأن وجودكوا مع بعض بقى مستحيل, شاهين هيتجوز.
قالها بغضب طفيف وهو يتمنى لو يصفعها لتفيق من حب عقيم لن تجني منه سوى العذاب, رفع حاجبيهِ بصدمة حين وجدها تسأله بأعين دامعة:
-هيتجوز! ده غير شدوى؟
-ايوه, طلق شدوى, هيتجوز بنت تانية.
ابتلعت غصتها وسألته بألم ظهر في عينيها:
-بيحبها؟
رد بغيظ يأكله:
-ايوه....بيحبها, ووقف قدام الكل عشانها, وطلق شدوى عشانها.
وجمله المتتالية كان يقصد تمامًا إيصال الألم لها, يخبرها بوضوح أن قصتها مع "شاهين" انتهت واُحرقت صفحتهما.
صمت وهو يراها تنفرد بنفسها وتشيح بوجهها بعيدًا عنه وبعد دقائق غمغمت بنبرة مختنقة:
-ربنا يسعده.
ابتسم ساخرًا وأشاح بوجهه هو الآخر وكأنه لا يريد رؤية وجهها يتألم على أمر سخيف كهذا وقال بقوة وعيناه تلمع بشر غريب:
-مش هيلحق... عشان هكون مدخله السجن بإيدي.
سمع شهقتها وصوتها المصدوم والمستنكر:
-تسجن مين؟ انتَ اتجننت يا مازن ده اخوك؟
وبالطبع توقع رد فعلها سلفًا, وبالطبع هي لا تدافع لكونه شقيقه, بل دفاعها الأكبر عن شخصه.
نظر لها بنفس نظرته وقال بإصرار:
-لو ابويا.. مادام بيعمل غلط يبقى يتحاسب, وانا مش ضابط فاسد عشان اتستر عليه.
رأت نظرة الشر في عينيهِ فاتسعت عيناها تردد بصدمة:
-إيه النظرة دي؟ انتَ بتتكلم عن اخوك مش واحد بينك وبينه تار! انتَ مش عاوز تحبسه عشان زي ما بتقول ده الصح.. انتَ بتعمل كده عشان انتَ مش صافي لشاهين.. النظرة اللي في عينك دي بتقول إن في حاجات كتير وحشة جواك له.
وصدمها أكثر حين نهض يلتقط أشيائه ويضع الأوراق المالية فوق الطاولة يقول:
-انا بقول كفاية كده ويلا نمشي.. مادام القاعدة كلها على شاهين باشا.
*******
في مساء اليوم التالي...
رأته يقف في حديقة المنزل..
وهي منذُ الصباح وهناك سؤال يطرق عقلها لا تجد له إجابة, فقررت أن ترحم عقلها وتسأله فهو الوحيد الذي يمتلك الجواب..
نظرت لثيابها التي تتكون من "ترنج" بيتي بنصف أكمام ورغم أنه محتشم لكنه يرسم جسدها بدقة, كادت أن تبدله لكنها وقفت تقول لنفسها بقلق:
-انا لو فضلت مقفلة في لبسي ممكن يشك فيا, وعلى رأي مازن أنا المفروض جاية من لندن يعني دول ميلبسوش أصلاً!
وبعدما قنعت نفسها نزلت بهِ لتحدثه..
كان يتحدث في الهاتف فانتظرت حتى انتهى وقد كان في آخر مكالمته, التف ليتحرك للسيارة حيث كانت تنتظره ليذهب لموعد هام, فوجدها واقفة أمامه لينظر لها باستفهام فقالت بعدما زفرت نفسها وابتسمت بارتباك:
-كنت حابة اسألك سؤال.. ويعني لو مفيهوش خطر على صحتك تجاوبني بلاش الغموض الدايم ده.
نظر لها بنظرة عابثة التقطتها فقالت بأعين متسعة:
-لالا بلاش النظرة دي لأن بعدها هتأكد إنك مش هتقول حاجة.
تحولت نظرته لاستغراب يسألها:
-وانتِ عرفتي نظرتي منين؟
رددت بزهو:
-انا بفهم الناس بسرعة على فكرة, والفترة اللي قضتها هنا مش صغيرة, أينعم في حاجات مازلت مبتوقعهاش ومبفهمهاش فيك, لكن في حاجات لقطها.
-اسألي.
رددها فجأة بجمود فرفعت حاجبها مستنكرة طريقته وكأنه يخبرها أن تلخص وتدخل في صلب الموضوع!
ورغم حنقها منه كشفت عن سؤالها:
-انتَ ناوي تكمل اللعبة مع مازن ولا خلاص كده؟
صمت لثواني تحت توترها وقلقها من أن يتجاهل سؤالها وألا يريحها بالاجابه, لكن ليته لم يجبها, فاجابته كانت بركان من الأسئلة التي انفجرت في عقلها حول الإجابة الصادمة.
أمال رأسه قليلاً وهو ينظر لها بتمعن ثم قال:
-الترنج ده ضيق, مش لطيف تنزلي بيه من اوضتك.
وبعدها كاد أن يتحرك من أمامها لكنها مسكت ذراعه بجرأة غريبة وهي تقول بقوة:
-مش هتمشي قبل ما تجاوب سؤالي, انا من الصبح والسؤال في عقلي ومش لاقية إجابة.
ومن الواضح أنه أراد أن يرحمها من عذاب السؤال فعذبها بسؤال الجواب, حين ربط بكف ذراعه الآخر على كفها وهو ينزله من فوق ذراعه وقال:
-مبدخلش ستات في لعبنا السخيفة, لكن مازن هو اللي دخلك وانا قبلت, بس مادام بقيتي تخصيني فانا هطلعك من اللعبة غصب عن عينه.
وذهب...
هكذا بكل بساطة! ذهب بعد أن فعل بها الأفاعيل بحديثه, لقد وجدت منه رد الفعل الذي انتظرته من "مازن" الذي من المفترض انه يحبها! رأت حمأته في الدفاع عن فتاة تخصه, كيف له أن يكون هكذا؟ تشعر أنه سيكتب جنانها بيده قريبًا!
*****
وفي سيارة العقرب...
نظر من النافذة للخارج وعقله يعمل..
لا يعرف إن كان ما يفعله صواب أم خطأ, لأول مرة يترك عقله يفعل ما يراه صواب دون أن يراجعه ألف مرة, لقد راجعه في بداية الأمر ومنذُ اقترح عليهِ الجد الفكرة, لكن يبدو أن القلب قد تدخل في الخفاء, تدخل يقول:
أليس من حقك أن تعيش حياة مستقرة؟
أليس من حقك أن تبني أسرة حقيقية ويكن لك أولاد من دمك؟
ألم يحن الوقت لتصنع حياتك الخاصة؟
بيت دافئ, حضن لطيف, ضحكة صافية لطفل صغير, وخلافات تكن جزءًا من سعادة المنزل.
كل هذه مشاعر ومواقف تمنى القلب أن يعيشها, وكما قال جده, إن انتظر أن يقع في حب احدهن لن يتزوج ولو بعد مئة عام, وهو قد أصبح في الثلاثينات ف لمتى سينتظر بعد؟
تنهد بقوة من عمق أفكاره وقال محدثًا الذي يجلس بجوار السائق:
-عملت اللي قولتلك عليه؟
رد عليهِ فورًا:
-اتحريت عنه يا باشا, الاكونت قديم ومحل الإقامة لندن فعلاً, بس هو اسم وهمي فمش عارف اتأكد إن كان هو نفس الاسم اللي قولتلي عليه ولا لأ, لكن لما كلمت الواد الهكر عرف شوية معلومات, زي ان صاحب الاكونت في لندن وشغال في اعمال الشركات هناك, وعايش لوحده... يعني المعلومات من بعيد متطابقة مع الشخص اللي سعادتك قولتلي عليه, وبردو هخلي معارفنا في لندن توصله وتبلغني بمعلومات أدق عنه.
عاد ينظر للنافذة المجاورة له وسند رأسه على مقعده سابحًا مع أفكاره حين توقفت السيارة في إشارة مرور ليصدح صوت أغنية تنبعث من سيارة مجاورة...
"في لحظة الدنيا فاجأتني
وعدت فوقي هدتني
وقست قلبي خلتني
واحد تاني ومعرفوش
وفضلت كل يوم بتضيق
لحد ما شب فيا حريق
وخلاني اروح لطريق
عكس ارادتي مخترتوش
فهمت الناس والاعيبهم
بطريقتهم بلاعبهم
ووسطيهم بقيت سيدهم
بقيت بالقسوة دي حاببني
واخاف مني على الدنيا
واخاف من الدنيا على قلبي
انا مش حابب القسوة
ومش حابب كمان طبتي
وبخسر كل يوم نفسي
في حرب اغلبها تغلبني
ما بين خوفي وبين يأسي
سنين العمر سرقتني"
وكأن الغنوة بكل حرف بها فُصل تمامًا ليناسبه, بكل تفاصيل حياته, وتخبطاته وقسوته, وعنفوانه وطيبته, بكل ما بها كانت ترسم صورة له ما بين الماضي والحاضر..
***********
-وبعدين يا مازن؟ هتفضل تخبط كده! فيك إيه؟ ليه متضايق إن ليلى لسه بتحبه ومتعشمة فيه, مش انتَ اللي قولت لمدحت إنك نسيت حبها, ووقفت قدامه تقوله إن في مشاعر جواك لفيروز؟ طب لو فيه ازاي متضايق من رد فعل ليلى؟ ليه اتخنقنت انها اتجوزت؟ وليه ارتحت شوية إنها اطلقت؟ وليه كنت تتمنى متسألش عن شاهين؟
أخذ نفس جديد من سيجارته العاشرة وهو يقف عاري الصدر في شرفة غرفته, ينظر لظلام الليل وعتمة السماء شاردًا في كل ما مرَّ بهِ الأيام السابقة, وظهور "ليلى" صنع ربكة لم تكن في الحسبان.
هز رأسه وكأنه يحدث أحدهم وقال بصوت مسموع لنفسه:
-لا, انا يمكن زعلت ان ليلى بعد كل اللي عملته معاها وإني ضحيت بعلاقتي باخويا زمان عشانها لسه بتفكر فيه وراجعة حاطة أمل فيه, لكن مش عشان حاجه تانية, وانا فعلاً حاسس بمشاعر حلوة لفيروز.. حاسس إني مشدودلها وفي حاجة جوايا لها.
وصوت نفسه الداخلي كان يرد:
-ولما انتَ مش بتفكر في ليلى, ليه لحد دلوقتي رافض تمسح صورها من تليفونك, ورافض كمان تمسح الشات القديم بينكوا, ليه سايب كل ذكرى جمعتك بيها؟ ليه جريت لما كلمتك في التليفون وقالتلك تقابلها؟
-عشان انا مبحبش اتخلى عن ذكرياتي, ودي ذكريات بيني وبين واحدة مكانش دورها قليل في حياتي... وجريت لما كلمتني, لأن انا وليلى كنا صحاب اوي زمان من قبل ما احبها حتى.
-ولما انتَ بتحب تحتفظ بالذكريات, ليه محيت كل ذكرياتك بشاهين؟
قطب ما بين حاجبيهِ في غضب لذِكره حتى بينه وبين نفسه وقال:
-عشان ده شخص أذاني ميستاهلش يكونله ذكرى معايا, لكن ليلى مأذتنيش! وحتى لو لسه جوايا حب لليلى فهي لسه بتفكر في شاهين وانا استحالة احط نفسي في موقف إنها تشوفه فيا ولا تتقبلني كزوج مناسب زي جوزها الأولاني, وانا جوايا مشاعر لفيروز فعلا.. وكفاية بقى.
ردد الأخيرة بغضب وقد شعر برأسه يُفتك من الوجع من شدة الصداع, ورمى بعقب سيجارته من الشرفة في نفاذ صبر واضح, سمع صوت رنين جرس الباب فاتجه للداخل ليفتحه وهو يتمتم بغضب:
-اهو مدحت افندي وصل عشان يكمل وصلة الفتي في حياتي.
ولكنه وقف بملامح جامدة مشبعة بالغضب وهو يرى الزائر, والذي لم تكن سوى...
*****
طاف في أرجاء مكتبه بغضب وهو يحدثها عبر الهاتف يكاد يقفز بداخله إن استطاع ليصل لها:
-يعني إيه مش عاوزه تعرفيني مكانك؟ هو انتِ فاكرة إني جدك اللي هيسيبك ويرجع؟ انا ابوكِ يعني تقوليلي عنوانك ورجلك فوق رقابتك.
أتاه صوتها الملول تقول:
-بلاش بس دور ابوكِ والشويتين دول وقولي, انتَ عاوز تعرف مكاني ليه؟ في مصلحة؟
جحظت عيناه غضبًا كالجحيم يصرخ بها:
-به, اظبطي كلامك معايا, هو إيه اللي بلاش الشويتين دول! ومصلحة إيه يا معفنة اللي هعوزها منك!
بدى عليها غضبت من حديثه فقالت بصوت خرج عن هدوئه:
-زي ما كلمتني يوم طلاقي وبعيطلك واشتكيلك واقولك تعالي الحقني هيطلقوني يإما أقول مين عمل كده فيا تقولي اوعي تنطقي, خوفت انطق لكن ماخفتش عليا.
سبة بذيئة خرجت من فم "مختار" قبل أن يقول:
-يا غبية افهمي, لو كنتي قولتي كانت هتبقى مصيبة سودة وقعت على دماغنا كلنا, شدوى بلاش تهور وغباء.
أتاه صوتها الغاضب:
-انتَ فاكر إني مقولتش عشان لو قولت هتبقى مصيبة! ما تولعوا كلكوا, انا بس مقولتش عشان انا كمان غلطانه, انا كمان ليا يد في اللي حصلي, وعشان..
قطعت حديثها وهي تقول ببكاء:
-متكلمنيش تاني..متتصلش بيا تاني, انا كل ما بكلمك بفتكر اللي حصل وبتوجع, انتَ السبب, انتَ السبب في كل اللي حصلي ومش مسمحاك...
وأغلقت المكالمة في وجهه دون حرف آخر...
********
كانت جالسة في غرفتها تعتكف بها كالعادة...
فقد أثرت هذا بعد أن أصبحت الفيلا ليس بها سواها وسواه ونورهان التي غالبًا ما تغيب سواء كانت في العمل أو نائمة, تتجنب أن تكون معها بمفرده لوقت طويل كي لا تخطئ في شيء يكشفها أمامه.
والآن تحديدًا لا ينفك أن يتردد في عقلها جملتان...
" الترنج ده ضيق, مش لطيف تنزلي بيه من اوضتك"
" مادام بقيتي تخصيني فانا هطلعك من اللعبة غصب عن عينه"
وقلبها ما بهِ؟ فيهِ دقة شاردة وغريبة لا تفهم معناها! نظرات حالمة أحيانًا وهي تتذكر جملتيهِ, وتنهيدة لطيفة تنبعث منها أحيانًا أخرى!
-إيه ده؟ في إيه؟
رددتها بأعين متسعة حين بدأ عقلها يخيل لها "شاهين" في صورة أكثر رومانسية, والمشهد كان... ماذا لو قال لها كلام معسول على ضي القمر والنيل شاهد! كما كانت ترى في أفلام عبد الحليم حافظ وشادية قديمًا!
ضربت رأسها بكفيها تقول بذعر:
-فوقي يا فُلة يخربيتك, فوقي اللي بتفكري فيه ده مينفعش يخطر في بالك أصلاً! لا.. لا كده مش هينفع, الراجل ده خطر عليا.
دقات فوق الباب جعلها تتوقف عن التحدث لنفسها, واتجهت للباب تفتحه بعد نفس عميق...جدًا, لتجده يقف أمامها... هذا بالفعل ما كان ينقصها! وخاصًة انه ارتدى ثياب غريبة... قميص قطني رياضي بحمالات عريضة, وبنطال قماشي من نفس لونه الأسود..
-انتَ كنت بتتخانق؟
قالتها وهي ترى جسده يلمع بفعل العرق, فلم يجيبها فقط نظراته القوية ظلت تحدقها قبل أن يسأل سؤاله الكارثي:
-إيه علاقتك بالبت الخدامة؟
تجمدت ملامحها وقل تنفسها وهي تطالعه صامته, مرت ثواني قبل أن تنتبه لوقفته فسألت بصوت مضطرب حاولت التحكم بهِ:
-خدامة مين؟
وبعينيه الصقرية همس منتظر الجواب:
-البت اللي اسمها مستكة..
......
فضلاً لايك وكومنت برأيك قبل القراءة لدعمي والاستمرار 💗
الفصل الثالث عشر من الجزء الثاني
فراشة في سكّ العقرب
ناهد خالد
"في أشد المواقف صعوبة قد يمر أي شيء إلا ردود الأفعال القاسية، ستظل تتذكرها دومًا، حتى وإن سامحت، مع أي موقف مشابهه مهما كان صغيرًا ستعيد ذاكرتك أحداث ذلك الرد القاسي، لذا حاول مهما كان غضبك ممن أمامك أن تتحكم بهِ، على الاقل ألا تجرحه أو تهينه، وأن تتذكر أنها لربما ساعة يوسوس لك فيها شيطانك، والساعة التالية ستهدأ لتندم على رد فعلك القاسي والمؤذي"
تجهمت ملامحه وهو يبصر الواقفة أمامه، وما لبث أن ترك الباب مفتوحًا ودلف للداخل واقفًا في منتصف الصالة، دلفت خلفه تقول بعتاب:
_مكنتش متخيلة إن قلبك يقسي عليا كده زي ما قسي على اخوك!
التف ينظر لها بنظرات عدائية تراها في عينيهِ لأول مرة ولا تصدق انها موجهة لها!
_بلاش تجيبي سيرته بينا لاني مش طايقك كده كده، وطبعًا قعدتك معاه خلتك تشوفيه ملاك وتشوفيني شيطان.
هزت رأسها بيأس منه وقالت:
_انتوا الاتنين اخواتي، ليه لازم اشوف حد منكوا ملاك والتاني شيطان! انا شيفاكوا انتوا الاتنين احسن اتنين في الدنيا بس.. بس سوء التفاهم اللي بينكوا هو اللي مضيعكوا.
زفر نفسه بقوة وبعدها سألها بضجر:
_انتِ جاية لحد هنا عشان تحنني قلبي عليه!؟ لو ده سبب وجودك فاتفضلي امشي.
اتسعت عيناها وقد ادمعت في الوقت ذاته، وسألته بنبرة متحشرجة من غصة البكاء:
_بتطردني يا مازن؟
اشاح بنظره بعيدًا عنه وكأنه يتجاهل أي ندم أو إحساس بالتعاطف قد ينتابه، تهاوت دموعها وهي تقول:
_بتطردني زي ما رفضت تقابلني في كل مرة جتلك فيها الشغل؟
على صوتها وقد فاض بها وهي تفضي ما في جعبتها بغضب:
_ ده انتَ حتى ياخي مفكرتش تخرج تشوفني محتاجه إيه، مش يمكن كنت في مصيبة وبلجألك؟ مش يمكن اتخانقت مع شاهين وكنت عاوزه ارجع هنا؟ مقلقتش عليا خالص! كان عادي بالنسبالك ادخل القسم عشان اشوفك وانتَ تخلي العسكري يمشيني، على فكرة انا مكانش المفروض اجي النهارده بعد اللي عملته..
أخذت نفسها الذي شعرت بهِ قد حُبس واكملت بنظرات مليئة بالألم واللوم، الحسرة والغضب:
_شاهين قالي مقللش من نفسي واحاول اقابلك تاني، بس أنا اللي غبية.. انا اللي قولت لنفسي ميصحش ده مازن... مازن اخويا وشقيقي واللي عيشت معاه سنين سواء وماما معانا او بعد ما ماتت، شيطاني وسوسلي إن ازاي افضل مع شاهين اللي معيشتش معاه قد اللي عشته معاك، واللي مش اخويا شقيقي، وسوسلي إن أكيد انتَ أولى بيا وابقالي منه، لكن كل ده غلط... شاهين ابقالي منك وهو الأولى بيا، شاهين عمره ما جرحني بنظرة مش زي نظراتك ليا دلوقتي كأني عدوتك! شاهين رغم اني لسنين قطعت علاقتي بيه وكنت يدوب بكلمه في التليفون زي الحرامية أول ما لجأتله شالني فوق راسه وجوه عينه..
لم تغفل ابدًا عن نظراته الغاضبة التي كان يحدقها بها، بل المشتعلة، لم تغفل عن وجهه الذي أحمر غيظًا وكأن شياطين الجان قد تلبسته، وقبل أن تكمل حديثها وفجأة وجدته يندفع إليها يقبض على ذراعها بعنف ويدفعها للخروج من الشقة وهو يصرخ بها:
_خلاص روحيله.. روحي اترمي تحت رجله وخليه ينفعك، روحي عيشي عيشته الحرام واتبسطي بيها وبيه.. انا مش محتاجك... مش محتاجك ولا محتاج حد.
اغلق باب الشقة بعدما نجح في اخرجها بقوة، وقفت ظهرها للباب وعيناها ثابتة بشكل مخيف، وكأنها تلقت خبر وفاة أحدهم للتو، من هذا؟ أهذا شقيقها؟ أهذا هو مازن الذي عاشرته لسنوات؟ مازن الذي فضلته على أخيها ووقفت بصفه ضد الآخر، مازن الذي كانت تراعي مشاعره وتتواصل مع "شاهين" سرًا كي لا تضايقه؟
تحرك بآلية تامة، لم تبكي ولم تذرف دمعة أخرى، واستقلت المصعد هابطة للاسفل ومنها لخارج البناية، جلست في سيارتها لدقائق طويلة... طويلة جدًا، تنظر أمامها في صمت مطبق، وعقلها يكرر عليها المشهد وحديثه مرارًا وتكرارًا، وبعد تلك الدقائق وجدت نفسها تمسك هاتفها تطلب أحدهم، وما إن أجابها قالت بصوت مختنق وخافت:
_شاهين.. تعالالي.
وفي الأعلى..
بعد أن قام بطردها وتكسير ما طالته يده وشعر أنه أخرج طاقة غضبه ولو قليلاً، جلس فوق الكرسي الموجود في الصالة، يلتقط انفاسه بعنف، يتذكر الآن طرده لها، ويشعر أنه قد انتصر.. قد اوجعها كما اوجعته حين أخذت صف عدوه، المته حين فضلت الآخر عليهِ وذهبت معه رغم رفضه، والآن قد أخذ حقه كاملاً منها، الآن فقط يشعر ببعض الراحة وإن غضبه الكبير الكامن داخله طوال الفترة السابقة منها بدأ يخفت شيئًا فشيء.
*******
لولا اتصال "نورهان" بهِ وقلقه الكبير عليها لِمَ تركها قبل أن يعرف إجابة سؤاله، ولكن ولحظها الجيد مؤقتًا أنه قد اتاه اتصال اخته قبل أن تجيبه هي بحرف، نظرت له بقلق فطري انتابها من تغير ملامحه خاصةً وقد هتفت باسم "نورهان" لتسأله:
_ هو في ايه؟ نورهان كويسه؟
قال وهو يتجه لغرفته:
_ مش عارف..
دلفت غرفتها سريعًا تلتقط معطف من خزانتها ترتديه فوق "الترنج الضيق" كما وصفه هو، واتجهت فورًا لغرفته عازمه على أن تذهب معه يدفعها هذا علاقتها بنورهان التي توطدت في الفترة الأخيرة وقلقها الحقيقي عليها، قابلته في منتصف الردهة لتجده قد بدل قميصه فقط بآخر بنصف أكمام، والتقط مفتاح سيارته ليقول فور أن رأها وهو يتابع سيره للأسفل:
_ انتِ رايحه فين؟
اجابته وهي تتبعه بخطوات سريعة تلائم سرعته:
_ هاجي معاك، افرض هي في مشكله اكيد هتبقى محتاجه بنت معاها.
قال وهو يفتح باب المنزل:
_ خليكي هنا مفيش داعي تيجي.
لم تتوقف واستمرت في اتباعه وهي تقول بضيق:
_ هو ايه اللي خليكي هنا؟ هو انت شايلني فوق كتفك.
ودون كلمة زائده منه أو منها بعدما استقل السيارة دون أن ينتظر سائقه أو حتى حراسه استقلت مكانها جواره، لينطلق بالسياره فورًا في سرعة كادت أن تصيبها بسكته قلبيه.. ولكن هل لها أن تعترض!
*****
فيلا نصر..
_خير يا مختار، دي تقريبًا خامس مره ترن عليا، انتَ اكيد عارف إنك لما بترن عليا و ما بردش من أول مرة ببقى مشغول.
اتاه صوت "مختار" الغاضب وهو يقول:
_ وانتَ كمان اكيد عارف إن مدام رنيت عليك كذا مره يبقى الموضوع ضروري وما يستناش.
تنهد "نصر" بصبر يسأله:
_طيب إيه هو الموضوع اللي ما يستناش؟
توحشت نبرة "مختار" وهو يبدأ في الحديث:
_ اسمع أنا عملت اللي ميتعملش مع ابنك، وقفت جنبه كتير وحميته كتير من ناس كانوا عاوزين يجيبوا أجله، لكن بعد كل ده المحروس ابنك مشاليش جميلة واحده تخليه يصون عرضي ويحفظ بنتي، ابنك طلق بنتي ورماها هي وابنها، بعد كل اللي عملته معاه، لكن انا بعد كده مش هقف في وش اي حد عاوز يأذيه.
احتدت نبرة "نصر" وظهر بها الغضب واضحًا يقول:
_ انتَ بتهددني يا مختار ولا إيه؟ انا اعرف ازاي احمي ابني بوجودك او من غيره.
اتاه صوت الآخر ساخرًا:
_ لولايا، ولولا إني كنت دايمًا جنبه وفي ضهره عمرك ما كنت هتطمن عليه خصوصًا في وجود مدحت، حتى انتَ نفسك أنا اللي ساعدتك تكون نصر الميناوي ومتتكشفش، انا اللي حذرتك يوم الحفلة اللي شاهين كان عاملها إنك متجيش عشان ابوك هيكون موجود، انا دايمًا الجندي المجهول في حكايتك انتَ وابنك.
_ مبتعملش حاجه ببلاش، ولا بتعمل ده عشان انا اخوك وهو ابن اخوك، انتَ بتعمل كل اللي بتعمله عشان بتستفيد، متحسسنيش بقى إنك بتتجب علينا.
ظهرت نبرته الغاضبه وهو يقول:
_ وكانت جازاتي في النهاية إيه؟ رغم إني عملت كتير أوي وابنك عارف ده كويس وفي الآخر، كان عمل إيه؟ حتى ما احترمش كلامي لما قلتله ما يطلقهاش، ما فكرش انه يخليها على ذمته وفي بيته تقديرًا ليا.
قاطعه "نصر" وهو يقول بغضب واضح:
_ ابني فضل ست سنين سايبها على ذمته وفي بيته تقديرًا ليك ولا انتَ كنت عاوزه يفضل طول العمر متدبس فيها عشان يعجب حضرتك؟ انتَ تحمد ربنا ان ابني راجل واصيل ووافق أنه يتحمل بلوة بنتك، أي راجل غيره كان مستحيل يقبل على نفسه إنه يتجوز واحده مخلفه عيل من راجل تاني و مش راضيه حتى تعترف عليه، لا ويكتب الواد باسمه، انا ابني عامل اللي عليه وزياده أوي، وكونك عاوزه يفضل طول العمر شايلها وسايبها على ذمته فدي أنانيه وبجاحه منك، انا كنت متخيل ان بعد ما يتجوزها بسنه أو بسنتين انتَ اللي هتطلب منه إنه يطلقها ويعيش حياته، مش تبقى عاوزه يرتبط بيها عمره كله ويوقف حياته ودنيته عليها، كفايه أنانيه يا مختار... كفايه اللي مدلك ايده تاكل دراعه.
رد "مختار" بنبرة قوية:
_بالضبط كفاية.. حتى كفاية اشغل نفسي بيك وبابنك، انا مش حامي الحمى بتاعكوا، وإن كان على مصالحي اللي بتقول انك بتردلي بيها اللي بعمله فكده كده هتمشي لان بينا شغل ملوش علاقة بمشاكلنا الشخصية، وطالما انتَ جامد وبتعرف تحمي ابنك فهو عندك اهو، احميه بقى وشيل عنه زي مانا كنت شايل، وانا هشيل ايدي خالص منه ومنك.. لكن لو ابنك فكر يفضحني ويفضح بنتي ويطعن في نسب تيم وقتها... وقتها هتحتاج تحميه مني انا كمان.
قال جملته الأخيرة بتهديد واضح واغلق المكالمة فورًا، ليلقي "نصر" الهاتف فوق المكتب وهو ينظر للأمام بشرود، وعقله يردد
"مختار بات خطرًا، هو خير من يعرفه ويعرف انه حين يختلف مع أحد يمكنه أن يغدر شر غدرة،
مختار لا يُعطى له الأمان ابدًا، يعرف جيدًا كيف يضرب ولا يُمسك عليهِ دليلاً، يخشى أن يستغل جهل شاهين بالأمور ويغدر بهِ.. إذًا عليهِ التصرف، ولكن كيف؟"
*******
وصل للمكان الذي اخبرته به اثناء طريقه حين هاتفها مرة أخرى، ليدرك قبل أن يصل إليها أين هي ومن معرفة المكان استطاع أن يخمن ما حدث، توقف بسيارته جوار سياراتها وترجل فورًا هو و فيروز ليجدوها جالسه في مقعد السائق تضع رأسها فوق المقود ويبدو أنها إما تبكي إما انهكها البكاء فغفلت وكان التوقع الثاني هو الأصوب حين فتح "شاهين" باب سيارتها فوجدها ترفع رأسها وتنظر له بأعين ظهر فيها النعاس رغم أثار الدموع التي خطت فوق وجنتيها وعينيها الحمراء بشدة وكأن الجحيم اشتعل بها، امسك رأسها بين كفيهِ وهو يسألها بقلق اتضح على ملامحه:
_ إيه اللي حصل؟ وانتَ بتعملي إيه هنا؟
عادت دموعها وعاد بكائها وشهاقاتها وهي تجيبه:
_ ما كنتش اتخيل... إن... إن لما اجيله البيت يعمل كده.. ما كنتش فاكره إنه ممكن يتعامل معايا أنا بالطريقه دي... فكرت انه أكيد.. هدي بعد.. كل الفترة دي وانا دلوقتي هعرف اتفاهم معاه.. اصلح الامور.. ما بينا لكن انا... انا كنت غلط.. مين ده ؟ ده مستحيل يكون اخويا! مستحيل يكون مازن اللي عشت معاه سنين طويله! مستحيل يكون هو.. هو اللي كنا بناكل ونشرب مع بعض.. وبنسهر ليالي طويله.. نشكي همنا لبعض.
كان قد وصل القلق مبلغه منه فسألها بعصبيه وحدة:
_ هو عمل إيه؟؟؟
اجابته وهي تحاول أن تلتقط انفاسها من بين شهقاتها:
_ طردني .. تخيل!
ثم اخذت تحرك زراعيها وكأنها توصف له المشهد تمامًا:
_ شدني من دراعي وسحبني بره الشقه وهو بيقولي انه مش عاوزني في حياته، مش عاوز أي حد في حياته، طردني وقفل الباب في وشي... حسيت.. حسيت اني لو فضلت قدامه دقيقة كمان كان... كان ضربني..
انهت حديثها ولم تستطع التحكم في بكائها أكثر فانفجرت باكيه:
_ لتسرع فيروز في الالتفاف والجلوس في المقعد المجاور لها وبحركه تلقائيه كانت تجذبها لأحضانها تحاول تهدئة روعها وهي تهمس لها بكلمات معتذرة، لا تعرف هل تعتذر عن فعلته أم تعتذر عن قسوة الموقف فقط!
لم يتحرك "شاهين" لدقائق قليلة فقط، ينظر لنورهان المنهاره في أحضان فيروز وجملها وما أخبرته بهِ يتكرر في عقله الذي يجسد له المشهد، فشعر ببراكين من الغضب والسخط تضرب بجسده، ليبتعد فجأه عن الباب المفتوح وهو يلتف بجسده وبخطوات مسرعه؛ ليصعد للأعلى والمقصود معروف..
صرخت " فيروز" وهي تراه يندفع بهوجاء للمنزل، لتنتبه "نورهان" لفعلته فصرخت باسمه هي الأخرى، واسرعت الفتاتان يركضان خلفه في محاوله لالحاق بكارثه قد تحدث ان تواجه الاثنان حاليًا..
******
جلس لجوار ولده الذي كان يسبح في ملكوت أفكاره، وهذا حاله على الأغلب منذُ خرج من المستشفى، ربط على فخذه وهو يطيب خاطره بربطته تلك، لينظر له "مجد" بانتباه فوجد معه ظرف لا يعرف محتواه، ولكنه كشفه له بعد قليل وهو يفتحه ويقول:
_ دول تحويشة عمري.. انا عارف انهم مش كتير بس اهي نوايه تسند الزير.
نظر له باستغراب وهو يسأله بهدوء:
_ وانتَ جايبهم ليه؟ انا معايا فلوس تكفينا لحد كام يوم كده وهنزل افتح الورشة.
_ بس انا مش جايبهم عشان اكلنا وشربنا، انا جايبهم عشان حاجه تانيه.
نظر له باستفهام صامت ليكمل "شاكر":
_ خدهم ولو معاك فلوس محوشها كمل عليهم وشوف حوار الطرف الصناعي.
تغيرت ملامحه ولم يجيب، ليقول "شاكر" بإصرار:
_ احنا اتفقنا نواجه الوضع اللي حاصل، وكنت اتكلمت معاك في موضوع الطرف الصناعي ده لكن شايف إنك مدتش اهتمام للموضوع.
زفر أنفاسه المختنقة وهو يجيبه:
_مش وقته يابا..
نفى "شاكر" يقول:
_بالعكس ده هو ده وقته، انا عاوزك لما تنزل شغلك وتتعامل مع الناس تكون مركبه، متحسش إن في حاجه غريبه، وبعدين يا حبيبي هيساعدك في الشغل، والطب اللي بيتقدم ده لازم نستغله ومادام بقى في حلول ليه ما نستخدمهاش، صدقني هيفرق كتير في نفسيتك وفي شغلك كمان، قولت إيه يا مجد؟
صمت "مجد" لعدة ثواني وكأنه يفكر أو يحاول استيعاب وضعه الآن، وفي النهاية قال:
_ايوه بس بيكون غالي، وانا حاليًا الفلوس اللي معايا يدوب تكفينا اكل وشرب لحد ما افتح الورشة.
نظر له "شاكر" بقوة ثم قال:
_والفلوس اللي محوشها؟ هتفضل محوشها لإيه يا مجد؟ هييجي إيه أهم من اللي انتَ فيه دلوقتي؟
وكأنه تغافل عنها تمامًا فسأله:
_فلوس إيه؟
_ال١٥٠ ألف اللي كنت شايلهم عشان جوازك من البت فُلة.
انتفض واقفًا فور انتهاء جملة والده ليقول برفض قاطع:
_لأ..
نهض "شاكر" يقف أمامه يسأله باستنكار:
_لأ؟ وليه لأ؟ داهية لتكون لسه حاطط أمل فيها؟ فوق لنفسك بقى يابني، فوق وشوف فين مصلحتك.
وتركه ودلف لغرفته، ليجلس "مجد" مكانه مرة أخرى وعقله يتسائل، هل انتهت قصته معها وأُغلقت بقفل موصد؟ أأصبحت بعيدة عنه بعد النجوم عن الأرض؟ هل عليه أن يستسلم للواقع ويغلق صفحتها للأبد؟ والسؤال الأهم هل سيقدر؟
********
وضعت صينية العشاء وهي تقول بفخر كاذب:
_أحلى طبق جبنة بالأوطة، وبيض بالبصل والفلفل، ورغفين سخنين هتاكل صوابعك وراهم.
ضحك والدها وهو يقول بهم:
_مفيش اشطر منك في إنك تحلي اللقمة في عيني، تحسسيني إن طبق البيض طبق لحمة، وإن طبق الجبنة طبق كفتة، يابخت اللي هيتجوزك يابت يا أمل.
لوت فمها بضيق تقول:
_بردو أمل؟ محدش غيرك بيقولي أمل غيرك يابو أمل، ده نسيت اسمي من كتر ما بقاش حد يناديني بيه.
تناول رغيف الخبز يقطع منه قطعة صغيرة وهو يقول:
_مانا بفكرك بيه اهو، طول مانا عايش هتفضلي فكراه، لكن بقى لما اموت...
قاطعته "مستكة" بغضب:
_بعيد الشر، متقولش كده يابو أمل، هو انا ليا غيرك يا راجل عشان تسبني وتمشي؟
ابتسم لها ابتسامة صغيرة يقول وكأن جملته لم تكن عبثًا، بل هي بداية لحديث طويل يريد أن يخوضه معها:
_وعشان لو موت هتكوني لوحدك، مش هكون مطمن عليكي، الموت في إيد الله، وانا مش ضامن عمري، لكن عاوز اضمن اني مطمن عليكي يا بنتي، وانتي مبقتيش صغيرة انتي ماشاء الله عروسة حلوة وكملتي ال٢٤ سنة، طمنيني عليكي يا أمل وريحي قلبي.
ابتسمت له في تعجب وهي تقول:
_واعمل إيه بس يابو أمل، اروح انا اشوفلي عريس واخطبه؟ ماهو على يدك محدش جه وقولت لأ، ومين هييجي لوحدة بتلف في الشوارع بفل والناس بيكون في دماغها إن كل الرجالة عدت عليها، لأ وإيه آخر اليوم بروح اخدم في فيلا كبيرة، يا عالم إيه بيحصل جواها.. ده تفكير الناس يابو أمل، قولي بقى اعمل إيه؟
نظر لها بتمعن وهو يقول:
_بس انا حاسس ان في حد في حياتك، في حد شاغلك، اوقات كتير بتكوني مهمومة وسرحانة، فيكي حاجة غلط بقالك فترة طويلة، قوليلي في حد شاغلك؟
تنهيدة قوية، حزينة، مهمومة، متألمة، ومقهورة:
_ وحتى لو فيه، انا يعني اللي هروح اخطبه؟ وبعدين مش كل اللي بنتمناهم بيكونوا لينا يأبو أمل، وانتَ اكتر واحد عارف معنى الكلام ده كويس.
ابتسم لها والدها بهدوء يقول:
_قصدك يعني عشان الحكاية اللي قولتهالك اللي كانت بيني وبين بنت عمتي، بس مكانش ليا نصيب فيها، في النهاية اتجوزت أمك وبالعشرة كانت غالية عندي ونسيت بنت عمتي دي خالص، حتى لما كنت اشوفها مكانتش بتشغل بالي خالص، بقت زيها زي أي حد، مش كل اللي بنتمناه بنطوله يا بنتي، والحياة بتمشي عمرها ما وقفت على حد، وبعدين لو قولتلك ان في عريس متقدملك تقولي إيه؟
بهُتت ملامحها، وظهرت الصدمة جلية على وجهها، وهي تردد بذهول:
_عريس؟
_يبقى ابن خالة أم سعيد جارتنا، جاتلي امبارح وقالتلي عليه، وظروفه حلوه، شغال عامل في مصنع على ماكنة قماش، وله مرتب ثابت، وعنده شقه في بيت ابوه، وهو لسه صغير يعني عنده ٢٩ سنه، وورتني صورته الراجل ميتعايبش، قولتي إيه؟ اقولها تحدد معاه ميعاد؟
توترت بشدة وهي مازالت تحت صدمتها ولكنها قالت بارتباك:
_اصبر بس يا بابا، يعني مالك مستعجل كده، اديني يوم ولا اتنين افكر.
_تفكري في إيه؟ هو انتِ شوفتيه؟ يابنتي اقعدي معاه وشوفيه بعدين خدي ٤ ايام ياستي فكري، بس تشوفيه الأول.
لم تجد مفر من والدها الذي يصر على أن ترى الشاب، فقالت باستسلام وعقلها يفكر في ألف شيء:
_ماشي... اللي تشوفه.
وهل أُذن لها أن تنتهي قصتها هي الأخرى؟ أم أن القدر لم يقول كلمته بعد؟
*********
وقفت أمامه بعد ركضت باقصى سرعتها لتصله، والآن لحقت بهِ على سلم العمارة بعد أن كان المصعد مشغول فلم ينتظره، وهذا طبعًا لحسن حظ الفتاتين، حدقها بنظرة مشتعلة كي تتنحى جانبًا، ولكنها لم تهتم وهي تحاول التقاط أنفاسها اللاهثة، وقد وقفت "نورهان" هي الأخرى خلفه وكأنهما يحتجزناه بينهما.
_مش صح تطلعله دلوقتي.. مينفعش اصلاً تواجهه دلوقتي.
_ابعدي.
قالها بصرامة ونبرة مخيفة ورغم قلقها البالغ منه تصنعت الصمود:
_لأ، خلينا نمشي دلوقتي وبعدين اعمل اللي تعمله، بس مش وقت غضبك وغضبه، لو طلعت دلوقتي هتقتلوا بعض.
لم يجيبها فقط امسك ذراعها يزيحها بقوة جانبًا، لتتمسك بعنقه تلقائيًا كي لا يقدر على ازاحتها، فحدقها بنظرة ساخرة وهو يقول بتهكم:
_يعني انا مش قادر اشيلك كلك اهبدك ورايا؟
لم تترك تمسكها بهِ وهي تقول هامسه بوجهها القريب من وجهه:
_قادر.. بس صدقني لو طلعتله نورهان مش هتسامح نفسها انها السبب في اللي هيحصل بينكوا، وهتخليها بعد كده لو مازن ضربها حتى مش هتقولك وهتخاف منك عشان ميحصلش مشكلة بينك وبينه.
ويبدو انه اقتنع إذ تراخت قبضته القابضة على ذراعها، ولكن الأمر لم يكتمل حين سمعوا صوت "مازن" يقول:
_حامي الحمى وصل!
نظروا جميعًا محل الصوت لتهمس "فيروز" بخوف حقيقي:
_شكلنا هنشوف فيلم الحرافيش حصري!....
الفصل الرابع عشر👇💗
فراشة في سكّ العقرب
ناهد خالد
"أن تكون قوي, لا يعني أبدًا أن تكمن قوتك في قبضة يدك, بل تعني أن تظهر القوة في نظراتك, وكلماتك, مواقفك, وردود أفعالك, القوة الحقيقية لا تنتمي أبدًا للعنف بأنواعه, فأنتَ لستُ مجرد حيوان في غابة تصارع لإثبات قوتك"
لم يكن عليهِ الظهور الآن, ابدًا... فظهوره أذم الموقف وجعل "شاهين" كوحش ضاري يتمنى لو يفتك بفريسته, ولكنها كانت منتبهها جيدًا, فبعد أن وضع كفه على ذراعها مرة أخرى ليجذبها بعيدًا عن طريقه وقبل أن يفعل كانت تنزل درجة واحدة لتصبح أقرب وموازية لطوله, والصقت نفسها بهِ تهمس له في مكر:
-عاوز يطلع اسوء ما فيك عشان يثبت لنورهان إن مش هو لوحده اللي وحش, لما تشوفك بتموته ضرب دلوقتي هيكون مبسوط عشان هتشوف الشخص الوحش اللي جواك اللي ممكن يموت اخوه في ايده عادي, متخليهوش ينجح في ده, لو عاوز تفرسه اتعامل بتحضر.
نصحته, وهي خير من تنصح خاصًة فيما يخص التعامل مع الغير, فلقد عاشرت اسوء البشر واحسنهم, وتعلم جيدًا ما يحاول الذي أمامها فعله, وللحقيقة هي هكذا مع الجميع إلا هو... "شاهين" الوحيد الذي لم تجد له مالكة, ولا تعرف فيما يفكر أو ما ينوي فعله, كالآن تمامًا, فصمته ووجوم ملامحه لم يريحها, هل اقتنع بما قالته أم ضرب بهِ عرض الحائط؟
أزاح كفه من فوق ذراعها, وتركها مبتعدًا عنها تحت نظراتها القلقة وهمست "نورهان" باسمه في رعب وخوف من اقترابه من الآخر.
وقف أمام "مازن" وهو يضم قبضة يده في محاولة للتحكم في غضبه وقال بنبرة قوية وحادة:
-اللي عملته مع اختك مايصحش, قليل الأدب والرباية والأصل هو اللي يطرد اخته بالشكل ده, بس عارف.. العيب مش عليك, العيب عليها أنها عبرتك رغم إني قولتلها متحاولش تقربلك تاني عشان انتَ ملكش عزيز.
بملامح يملئها الشر والغضب كان ينظر لها ثم يعود بنظره للذي أمامه يقول بنبرة متهكمة:
-مانا عارف إنك انتَ اللي محرضها عليا, كالعادة يعني مبتحبش تشوفني مرتاح وفي حد حواليا.
وشاهين يعلم جيدًا لِمَ يشير بحديثه, ابتسم في هدوء مستفز وهو يجيبه:
-طب انا كخه, ومحرضها عليك وببعد الناس عنك, قرب انتَ منهم, بدل ما تطردها احتويها وصلح أمورك معاها, بدل ما تبعد عنها اكتر ياخي غيظني وباينلي ان مهما اعمل مش هقدر افرق بينكوا.
ابتسمت "فيروز" وقد رُسمت الراحة فوق وجهها, لقد تلاعب "شاهين" بذكاء ومكر أكثر مما توقعت, تقسم أن دقيقة أخرى وستشهد على نبل اخلاقه!
لم يهدأ غضب "مازن" ابدًا بل كما اخبرته "فيروز" تصاعد غضبه أكثر وهو يقول في عصبية واضحة:
-انا مبجريش ورا حد بايعني, وهي باعتني يوم ما مشيت معاك من المستشفى, يوم ما وقفت مع عدوي قصادي, وبلاش الدور المثالي اللي بتمثله ده عشان انا عارفك على حقيقتك.
هتفت "فيروز" بحمئة لا تعرف من أين أتتها:
-على فكره ده مش عدوك ده اخوك, حتى لو شاكك ان شغله بطال مش لدرجة تشوفه عدوك, انا اعرف ناس كتير بيعرفوا بلاوي عن اهاليهم وبيتستروا عليهم كمان مش بيعتبروهم اعدائهم, لو في حاجه تانية مخلياك شايل منه للدرجادي بلاش تلبسها في إنك ضابط محترم وعندك القانون فوق الكل حتى اخوك, لان الأكيد ان مش ده السبب الوحيد, وغلط نورهان الحقيقي انها طاوعتك وبعدت عن اخوها عشانك, حتى لما كانت بتتواصل معاه كان في السر زي مايكون عشيقها زي ما هي حكتلي, كان لازم من الأول تفهمك انه اخوها زيك بالضبط وملكش تفرض عليها تقطع علاقتها بيه, لكن سكوتها اللي خلاك تزيد فيها.
وكأن شياطين الجن تلبسته, فهي الأخرى قد انطلت عليها حيلة "شاهين" الخادعة, ورأته ملاك بجناحين وهو الشيطان, والمخطئ الوحيد في القصة, تحرك من مكانه خطوة للأمام وهو يصيح فيها بغضب:
-وانتِ مالك انتِ؟ حد طلب رأيك؟ إيه اللي دخلك؟
وقف "شاهين" في وجهه تمامًا يقول بنبرة باردة:
-مالها انها بقت من العيلة... واسمع بقى آخر كلامي وافهمه كويس, عشان انا بتكلم لحد دلوقتي بالعقل وبهدوء..
احتدت نظراته وقوت نبرته وهو يكمل مشيرًا بسبابته للفتاتين بعد ان استدار ليصبح جانبه مواجهًا لهما:
-نورهان متقربش منها تاني, ولا تحاول تضايقها بأي شكل, انتَ خسرتها باللي عملته, الحالة الوحيدة اللي مسموحلك تقرب منها فيها إنك تكون جاي تبوس راسها وتعتذر لها على اللي عملته, ويا تسامحك يا لأ, دي حاجه ترجعلها..
حول اصبعه ليشير ل"فيروز" التي اضطربت وهي لا تعرف ماذا سيقول بشأنها:
-وفيروز لو لمحت ضلك قريب منها هنسفك, والخطة الخايبة اللي دخلتها بيها بيتي وحياتي بلها واشرب ميتها, فيروز خطيبتي وهتبقى مراتي وانا مبدخلش حريمي في خطط ولا الاعيب قذرة, اللي يقرب من حرمة بيتي يستاهل اللي يجراله.
تبادلا النظرات المتحدية والغاضبة لبعض الوقت قبل أن يهديه "شاهين" ابتسامة ماكرة وصلت للآخر واضحة وهو ينسحب يلتقط كف "فيروز" اولاً و يسحبها خلفه وكف "نورهان" ثانيًا, وكان مشهدًا عنوانه الواضح "لقد خسرت الاثنتين" وأعلن "شاهين" فوزه في جولة جديدة.
******
مساء اليوم التالي...
اليوم وبعد أن هاتفت "صفاء" مسؤولة الخدم وطلبت منها أن تتغيب عن العمل لظروف خاصة, قضت نصف يومها في عملها في الطرقات, والنصف الآخر في تنظيف المنزل من أجل الضيوف, والضيوف المقصود بهم الشاب المتقدم لخطبتها وأهله, فقد أخبرها والدها صباح اليوم أنهم سيأتوا مساءً لزيارتهم, وفي الموعد المحدد ارتدت ما يناسبها من فستان بسيط وفردت شعرها بلا تبرج, وقابلتهم بود يليق بكونهم في بيتها, وقد كان الشاب قد جلب معه والدته وشقيقته, الحقيقة لم يكن سيء, رغم سمار لونه وامتلئ جسده قليلاً لكنه مقبول, وبعد جلسة عائلية قصيرة, انفرد بها في غرفة مفتوح بابها حيث يراهم من في الصالة.
وكان أول سؤال بدر في ذهنها:
-عرفت إني ببيع فُل؟ وايام تانية طباخة في فيلا, او نقدر نقول خدامة بلاش نجمل الوضع.
-عرفت..
واكمل بملامح سمحة:
-وموافق, كفاية إنك كنتي بميت راجل واشتغلتي عشانك وعشان والدك المريض, والشغل عمره ما كان عيب, واكيد يعني قبل ماجي عرفت معلومات عنك.
ارتاحت لكونه لا يعترض على عملها, وانطلقا بعدها في حديث ونقاش دام لخمسة عشر دقيقة قبل أن يعودا للجلسة العائلية, ودقائق أخرى وانسحبوا في انتظار رد العروس, العروس التي شعرت بالحيرة والتخبط, فلولا حبها للمغفل مجد لوافقت فورًا على الشاب, لكنها تشعر بعدم الراحة, وتشعر أن موافقتها عليه ربما تندم عليها فيما بعد حين لا تستطيع نسيان حب الآخر.
********
-طردتها؟ انتَ باين عليك اتجننت؟ هي مش دي نورهان وصية أمك ليك قبل ما تموت؟
نظر لصديقه بصمت استفز الآخر فصرخ بهِ في ضيق:
-ما ترد يا بني ادم انتَ.
تنهيدة قوية خرجت منه قبل أن يقول:
-يمكن اتسرعت في طردها, بس انا غضبي كان عاميني خصوصًا بقى لما جابت سيرة البيه, بس مش ندمان, عشان لما قالي مقربش منها ماعترضتش ومشيت معاه موافقة على كلامه ولا كأني اخوها.
نهض "مدحت" يقترب منه يقول بحنق واضح:
-انتَ يلا مبتحسش؟ يعني عاوزها بعد طردك ليها تدافع عنك وتقول لاخوها لأ ازاي تقوله يبعد عني ده اخويا..حبيبي...كبدي..
وظهرت السخرية واضحة في حديثه الأخير, ليقول "مازن" ببرود يخفي سخطه ورفضه لحديث الآخر وطريقته:
-هو انتَ دايمًا حاطط عليا في كل حاجة, دايمًا تطلعني غلطان و...
قاطعه يقول:
-عشان دايمًا بتكون انتَ الغلطان, انا ساعات بشك انتَ ازاي بقيت ضابط! ده انتَ دماغك مهلبية يلا.
نهض "مازن" يخبطه في كتفه بقوة طفيفة يقول:
-طب يلا يا خفيف غور على مكتبك عشان ورايا شغل, وبطل دور الواعظ الاجتماعي ده شوية.
تحرك "مدحت" للخارج يقول بضحك:
-انا وراك وراك لحد ما اصلح دماغك العطلانة دي.
*****
وفي اليوم التالي...
على طاولة الإفطار في فيلا شاهين المنشاوي...
نظرت ل "نورهان" التي بالكاد تتناول بضع لقيمات من الطعام وقالت:
-بقالك يومين على الوضع ده, إيه علاقة الأكل بالزعل.
وقبل أن تنطق كان ينطق هو بنبرة جامدة:
-زعل؟ زعل ليه هو ده شخص يستاهل يتزعل عليه بعد اللي عمله فيها!
خفضت "نورهان" رأسها بحزن ولم تعلق, فأشفقت "فيروز" عليها فقالت محاولة تغيير الموضوع:
-بقالك يومين مبتروحيش الشغل, هم رفدوكي ولا إيه؟
أردفت جملتها الأخيرة بمرح, لتنظر لها "نورهان" مبتسمة ابتسامة صغيرة:
-هروح النهارده, هفطر واروح.
-ايوه كده اخرجي من مود الكآبة ده, وإيه رأيك بليل نخرج نعمل شوبنج.
-ده من نفسك كده؟
هتف بها "شاهين" مستنكرًا دون أن ينظر لها بل ارتشف بعدها من كوب قهوته بهدوء كأنه لم يقل شيئًا, نظرت له تقول بابتسامة متوترة وهي تنقل انظارها بينه وبين "نورهان" وقد فطنت معنى جملته:
-مهو اكيد يا حبيبي مش هتعترض مادام حاجه هتبسطني وتخرج اختك من المود, مش كده؟
نظر لها متفاجئًا من حديثها وضيق عيناه يطالعها في مكر لم تنتبه له, لتقول "نورهان" مبتسمة:
-الحق يا شاهين دي بتثبتك.
ومكره كان حين التقط كفها الممسك بكوب من الشاي يحتجزه بين كفه, تحت تجمدها الواضح له, وقال وهو يجذبها لتقترب بوجهها منه لحد الخطر, والخطر ظهر حين وجدته مقبلاً على تقبيلها من وجنتها فانتفضت للخلف كالملسوعة تحت نظراته هو و "نورهان" المستغربة فسألها:
-إيه ده؟ هو انا هعضك؟
بحدة متوترة قالت:
-ممنوع القرب بكل انواعه, احنا لسه مخطوبين حلمت اننا اتجوزنا ولا إيه؟
رددت "نورهان" ضاحكة:
-دي مجرد بوسة بريئة يا فيروز! ده بيبوسها لوحدها لو سلم عليها وهو ميعرفهاش في حفلة او في بيزنيس!
قطبت ما بين حاجبيها بغضب وهي تجذب كفها منه بضيق حقيقي:
-ده اسمه قلة أدب, يعني إيه يبوس واحده ميربطوش بيها شيء.
رفع حاجبه بخطر مرددًا:
-قصدك إني قليل الأدب؟
تحول فورًا غضبها لابتسامة بريئة مصطنعة:
-لا... اقصد اللي بيعمل كده.
-والله؟ ما هي قالتلك إني بعمل كده, انتِ بتحوري؟
نهضت من فوق كرسيها تقول وهي تبتعد بسرعة حين نهض هو الآخر وقالت وهي تركض خارجة من الغرفة:
-اللي على راسه بطحة بقى.
وقف ينظر لركضها فوق درجات السلم ليسمع ضحكات "نورهان" ثم قالت:
-لذيذة فيروز.
نظر لها لتكمل:
-عفوية ورغم انها قضت وقت في لندن لكن عندها مبادئ وتحسها من مصر القديمة كده.
-ده عشان قديمة يعني؟
رددها مبتسمًا لتتسع عيناها ذهولاً تقول بعدما نهضت:
-بتقلش! شاهين المنشاوي بجلالة قدره بيقلش! بس بصراحة قلشة سخيفة متعملهاش تاني بقى.
اختفت ابتسامته يطالعها صامتًا لتشير للدرج قائلة بتوتر:
-شنطتي... هطلع اجيب شنطتي والحق شغلي.
وركضت هي الأخرى هاربة منه ومن غضبه الوشيك.
-مجانين.
قالها مبتسمًا وهو يتجه لمكتبه ليأخذ أشيائه ويذهب للشركة.
********
وفي وقت الغداء حين عاد لتناوله وبعد ان انتهيا..
لم يكن حول الطاولة غيرهما ف "نورهان" مازالت في عملها, قالت "فيروز":
-اليومين اللي فاتوا مكنتش بشوفك كنت طول الوقت بره البيت, حتى لما بترجع مبتكملش نص ساعة وتخرج تاني... مجاتش مناسبة ابدي اعجابي بموقفك مع ماز...
قاطعها يقول وهو ينظر لها بتمعن:
-موقفي كنتِ انتِ السبب فيه, لولا كلامك كان زمانه في المستشفى.
رفعت حاجبها ذاهلة وقالت بضحكة غير متوقعة:
-غريبة! متخيلتش تعترف بإني السبب في رد فعلك, تخيلت هتقولي انا اصلاً كنت هتصرف كده من غير كلامك, وشوية نرجسية.
نفى برأسه في هدوء:
-ده شغل عيال, وكلام فارغ, انا اللي بيعمل حاجه بشاور عليه وعلى اللي عمله, وزي ما مجتش ليكي فرصة تبدي اعجابك ماجتش ليا فرصة اشكرك.
-تشكرني؟؟؟
رددتها بذهول وصل أقصاه وهي لا تستوعب ما تسمعه من شخصية كشخصيته, ولكنه اكمل بهدوء:
-اه اشكرك, اللي عملتيه يستحق الشكر, لولاكي كانت نورهان شافتني بصورة انتِ عمرك ما هتتخيليها, كان وارد اعمله عاهه ولا اموته في ايدي في وقت غضبي, واكيد وقتها كانت هتخاف مني, وتشوفني اوحش منه.
ابتسمت له بصدق وقالت تلقائيًا بحديث لم تحسبه ولا تعرف كيف خرج منها:
-انتَ مش اوحش منه, عشان كده سمعت كلامي امبارح وهديت, ومفيش داعي للشكر.. الناس لبعضيها.
اردفت جملتها الأخيرة بضحكة صغيرة مرتبكة بعد اول حديثها, ليظل ينظر لها بنفس نظراته المتمعنة وقال:
-شكلي هقتنع انك اختيار مناسب ليا.
ونهض خارجًا من الغرفة بعد ان انهى جملته, لتنظر لأثره بشرود وحديثها مع "مستكة" صباح اليوم يدور في رأسها من جديد.
**********
مساءً...
عادت مستكة لمنزلها, وبعد ان اعدت العشاء لوالدها جلست تتناول معه الشاي, ليفاجئها بقوله:
-في عريس متقدملك.
-قصدك على اللي لسه مردناش عليه؟ انا لسه مفكرتش و...
قاطعها يقول مبتسمًا:
-لا قصدي عريس تاني.
اتسعت عيناها بصدمة تقول:
-عريس تاني؟
ضحك والدها:
-شكلهم بيهلوا مره واحدة, ابوه جه وكلمني وقالي اعرفك عشان تختاري بينه وبين الشخص اللي جه وقعد معاكي..
-مين ده؟
-عمك شاكر جه وكلمني عليكي لمجد ابنه, وقالي ان لولا ان مجد لسه مبقاش في احسن حال كان جه أتقدم بنفسه, بس اقولك لو وافقتي ييجي يتقدم هييجي وتقعدي معاه, رغم إنك كده كده عرفاه بس بردو لما يكون عريس متقدم غير جارك ولا ابن حتتك.
الصمت هو رد فعلها لثواني طويلة بلغت دقائق, ووالدها ترك لها حرية التفكير والاستيعاب..
مجد تقدم لخطبتها؟
كيف؟
ومتى فكر بها؟
وما الدافع؟
وهل عليها الآن ان تفاضله بينه وبين الشاب المتقدم قبله؟
وهل ستكون مفاضلة عادلة أم سيتدخل بها قلبها معلنًا النتيجة؟
رباه هل يأتي الفرج دفعة واحدة بعد سنين عجاف؟
وهل علم مجد بتقدم أخر لها قبل التقدم أم بعدها؟
-هو عمي شاكر او ابنه عرفوا ان في حد متقدملي امتى؟
أجابها والدها بما أوضح لها الصورة:
-كان عمك شاكر جه طل عليا امبارح وقعدنا ندردش وقولتله في وسط الكلام, شكله هو و ابنه كانوا حاطين عينهم عليكي بس لما لقوا في عريس قالوا نلحقها.
كان حديثه مبتهج وسعيد, وبهِ راحة لكونه سيطمئن على ابنته اخيرًا, نظرت له بشرود إذًا الأمر هكذا, لقد علم بالشاب المتقدم لها, ولكن يبقى السؤال متى فكر بها كزوجة؟؟!
*****
نظرت للحارس الذي لا تطيقه بازدراء وهي تدفع باب مكتب "شاهين" لتدلف له, وتعمدت ان تغلق الباب في وجه الآخر بقوة, رفع "شاهين" رأسه ناظرًا لها باستغراب يقول:
-بترزعي الباب ليه؟ بتخانقي دبان وشك؟
جلست فوق الكرسي أمام مكتبه وقالت مبتسمة ببرود:
-الراجل اللي بره ده شكله بيخنقي.. اعتقد اول تعديل هعمله في الفيلا بعد الجواز اني امشيه من هنا, يعني إيه راجل غريب واقف في وسط الفيلا معرفش اخد حريتي في لبس ولا حركة.
-اول تغيير؟ معنى كده ان في تغييرات كتير؟
رددها رافعًا حاجبه باستفهام هادئ, لتقول بنفس ابتسامتها:
-اه... مش عروسة بقى ولازم بيتي يكون على ذوقي.
رجع بظهره يستند على الكرسي براحة وينظر لها بنظرات مبهمة, وكأنه مستغرب حديثها, او متفاجئ بهِ, نظرت لأرجاء المكان حولها ثم عادت تنظر له فجأة وقالت:
-احنا ممكن نكتب الكتاب من غير بابي.. انا كلمته وقالي انه صعب ينزل الفترة دي وان مدام انا واثقة في اختياري يبقى هو كمان واثق فيا ومعندوش مانع نتجوز وهو مش موجود...
فراشة في سكّ العقرب
الفصل الخامس عشر الجزء الثاني
ناهد خالد🌿
ممنوع نقل الرواية لأي صفحات أخرى ونقلها يعتبر سرقة وغير مسامحة فيها وسيتم التعرض للمسائلة القانونية.
🌿💗
"حين تجد نفسك في لعبة لا يمكنك الخروج منها، خطط لالعب فيها بذكاء، كي لا تصبح مجرد دمية يحركها منافسيك كيفما أرادوا، يجب أن يكون لك فعل، وموقف، وقدرة على توجيه كافة مسارات اللعبة لِمَ تريده، فالضعيف عادًة يؤكل، ويكون بكل تأكيد الطرف الخاسر في أي لعبة يدخلها، ولكن اللعب دائمًا يجب أن يكون بحذر لا بتهور، أن تحسب قوة أخصامك مقابل قوتك، وأن تكن على دراية جيدة بما يمكنهم فعله وهل تستطيع رده أم ستُهلك أسفله، إلا يتلاعب بك شيطانك أو توسوس لك نفسك بقدرتك على مجابهة من لن تستطيع اللعب معه وليس إعلان الانتصار! فمن يلقي نفسه في النار وينتظر أن يخرج منها سالمًا دون أن تحرقه، بالطبع... أحمق كبير"
_ مش شايفة ان كلامك غريب؟ يعني في أب يسمح إن بنته الوحيدة تتجوز شخص لا شافه ولا يعرف عنه حاجه؟ لا وكمان تتجوزي وهو مش موجود!
هذا ما خرج منه بعد صمت دام لدقائق بعدما انهت حديثها، ابتسمت وهي تقول بثقة:
_ ده لما يكون علاقتي بيه كويسه.
_بمعنى؟
قالها بنبرة هادئة وملامح منتظرة اجابتها، ولكن نظراته محللة، مفسرة، راصدة لكل ما يصدر عنها من ايماءة او نظرة او ارتباك!
_انا وبابي علاقتنا بايظة من زمان، من قبل وفاة مامي كمان، هو طول الوقت مشغول بالبزنيس وتقريبا في وسط مشغولياته نسيني، عارف لدرجة إيه؟ لدرجة إني لما نزلت احل مشكلة الشقة مفكرش ينزل معايا.. بالعكس ده كان عاوزني اسيبها وقالي مش ناقص مشاكل ووجع دماغ.. الفكرة عندي مكانتش في مبلغ الشقة، كان في قيمتها انها حاجه من ريحة أمي..
تنهدت قبل أن تنظر امامها بعيدًا عنه وقالت:
_هو عمومًا مكانش موجود في أي حاجة في حياتي، لما كنت معاه في لندن كنت حاسه اني هناك لوحدي، بشوفه كل كام يوم مره، عشان كده لما نزلت محستش بفرق، ومادام مش عاوز يحضر جوازي يبقى احسن.. مش فارقة معايا.
سألها في هدوء:
_ متكلمتيش معاه ليه؟ يمكن مش حاسس بتصرفاته.
هزت رأسها تقول:
_انا مقتنعة إن كل شخص عارف هو بيعمل إيه كويس اوي، اكيد عارف انه مش معايا ومش مديني أي اهتمام، مش محتاج انبهه، ومع ذلك.. اتكلمت مرة واحدة وكان رده "انتِ عارفه شغلي محتاج تركيز ومجهود عشان كل اللي عملته ميضعش وده غصب عني بيشغلني عنك" تفتكر محتاجه انبهه تاني!؟؟
دقة مختلفة دقت بقلبها حين وجدته ينحني قليلاً على مكتبه ساندًا على كوعيهِ وهو يقول بجدية:
_لو شايفة ان كتب كتابنا او حتى جوازنا بدون وجوده هيشفي غليلك ناحيته وهيحسسك إنك كده بترديله الاحساس اللي دايمًا بيخليكي تحسيه في إنك مش مهمه عنده، فخلينا نحدد كتب الكتاب والفرح.
نظرت له ودمعت عيناها بتأثر وهي تجده يحاول فعل ما يمكن فعله لترتاح وتصبح سعيدة!
_اقولك الحقيقة؟
هزه من رأسه اعطتها إذن القول، فقالت بكذبة جديدة تضاف لقائمة كذباتها:
_انا مقلتلوش اننا هنكتب الكتاب.. انا مكلمتوش من يوم ما كلمته معاك، انا بس فكرت ولاقيت انه ميستحقش يكون موجود في فرحي ويحضر مناسبه تخصني وانا كلي مش مهمة عنده، حسيت اني كده بشفي غليلي زي ما بتقول.. هسرق منه حقه فيا زي ما سرق حقي فيه من سنين.
رجع بظهره للوراء وقد رُسمت ملامح ماكرة، مبهمة، فوق وجهه وقال بما صدمها:
_مانا عارف.
رفعت حاجبيها بصدمة تسأله بعدم فهم:
_عارف إيه؟
نهض يتناول لفافة تبغ يشعلها ببرود وهو يلتف حول المكتب حتى أصبح أمامها يضع إحدى كفيهِ في جيب بنطاله القماشي والكف الآخر يتناول بهِ اللفافة، أخرج دخانها من فمه ثم قال:
_عارفه لو مكنتيش قولتي إنك مكلمتيهوش وإن ده رغبه منك تتجوزي من غير وجوده، كنت هحطك في دايرة الشك، ومكنتيش هتخرجي منها بسهولة.
ابتلعت ريقها بتوتر بالغ لم يظهر عليها، وسألته في ثبات:
_ليه؟ إيه اللي يخليك تشك لو فعلا هو كلمني وقالي كده؟
رفع إصبعه الممسك بال"سيجار" وقال:
_اولاً، انتِ ممعكيش تليفون عشان تكلميه، ويوم ما كلمتيه كان من تليفوني انا، وانا واثق ان محدش من الخدم اداكي تليفونه، عشان انا عارف كويس كل حركة بتحصل هنا، وعارف إن محدش دخل اوضتك الكام يوم اللي فاتوا خالص ولا اتكلمتي مع حد من الخدم.. غير بس امبارح الخدامة اللي اسمها مستكة طلعت تنضف اوضتك قعدت نص ساعة ونزلت، وكانت طالعه من غير تليفونها.. ثانيًا، مفيش اب يقول لبنته اتجوزي من غير وجودي، حتى لو مش مهتم ليكي بس هو اكيد بعد ما قولتله اسمي سأل وعرف انا مين كويس، فمش هيحب ابدًا شكله يطلع قدامي كده بعد ما يرفض ييجي يحضر فرح بنته، واكيد اكتر هيكون حابب ينزل عشان يتعرف عليا ويوطد العلاقة بينا.. وزي ما بتقولي هو البيزنس عنده مهم، فطبعًا هيهتم بحد كبير في مجال البيزنس زيي ومش هيضيع الفرصة دي من ايده.. ولو مكنتيش قولتلي دلوقتي ان علاقتك بيه منقطعة، مكنتش محيت النقطة اللي حوليها علامة استفهام خلتني اشك فيكي الفترة اللي فاتت.. اصل انتِ بقالك هنا تقريبًا شهر، طول الشهر تليفونك مش معاكي، مبتتواصليش مع ابوكي، وده مش طبيعي، الطبيعي تقوليلي بابا هيقلق عليا! انا عاوزه اكلمه، أي حاجه من النوع ده.. لكن علاقتك بيه اللي وضحتيها دلوقتي فسرت النقطة دي.
_انتَ عرفت منين حكاية إن مستكة طلعت وقعدت معايا نص ساعة ومكانتش واخده فونها؟
ابتسم بثقة يقول:
_يعني عموما مفيش حاجه بتحصل ومعرفهاش ما بالك لو جوه بيتي، مقولتليش، إيه علاقتك بالبت دي؟
اجابت بتحفظ:
_ حسيتها طيبة، غير باقي الخدم اللي هنا، حسيتها ملهاش في سكة شدوى ومش ممكن تجندها ضدي أو تأذيني بيها، وكنت محتاجة حد اتكلم معاه هنا لاحسن هطق من وحدتي خصوصًا إني ممعيش فون.. بالمناسبة مش ناوي تجبلي فوني من شقتي.. او أي فون تاني ولا هفضل في الحظر ده؟
_لأ..
قالها وهو يتحرك ليجلس على الكرسي المقابل لها مريحًا ظهره عليهِ في جلسته المعتادة:
_خدي بالك انتِ تحت عيني، وكان في نقط واخدها عليكي بس انتِ ظبطيها، لكن ده مش معناه ابدًا إن ليكي الأمان، لكن ممكن بعد كتب الكتاب نفك الدنيا شوية.. بس بحدود وبردو هتفضل عيني عليكي.
نظرت له لثواني تطالعه بتفحص عميق
"ليس سهلاً... ابدًا"
فلم تكن تعلم أنه يضع في عقله كل هذه النقاط، والتي وضعتها في دائرة الشك لديهِ، فكل ما قالته الآن واخرجها من تلك الدائرة هو بمحض الصدفة، ليس ذكاءًا منها أو تنبؤ بما يفكر فيه، ولكن هل سيسير معها الأمر دومًا هكذا؟ أم ستقع في شر أعمالها ذات مرة؟
أخرجها من شرودها يسألها:
_قوليلي بقى حابة كتب الكتاب امتى؟
وهل سترغب في عقد القرآن حقًا بعد كل ما قاله؟ صمتت تفكر، وعقلها يتنازع بين شخصيتين إحداهما قلقة، تنصح بالهرب قبل فوات الأوان، والأخرى مصرة على استكمال ما انتوته، وبعد صراع دام لدقائق وهو يتابعها بصمت تام، يترك لها حرية التفكير وأخذ القرار، يعلم جيدًا أن حديثه أقلقها ولكن لابد منه كي لا تظن أنه بزواجهما سيعطيها الثقة المطلقة، فهو لا يفعل ولن يفعل حتى ولو أصبح لديهما ثلاثة أطفال، فالثقة المطلقة أو الكاملة لا تعرف طريقًا لقاموسه.
وانتهى الصراع القائم داخلها بانتصار الشخصية المُصرة، فقالت:
_زي ما تحب، مش فارق معايا.
رد بهدوء:
_مش في ترتيبات، فستان.. ميك اب، حفلة، حاجات عاوزه تشتريها..
تنهدت وقالت:
_كل دي حاجات أمرها سهل.
_وشك اتغير وطريقتك كمان! ليه؟
سألها مباشرًة بسؤال لم تتوقعه ككل فعل منه، لكنها اعربت عن ضيقها:
_كلامك حسسني إني طول الوقت هكون تحت الملاحظة، والاكيد إن محدش بيرتاح في الوضع ده، كلامك قلقني أنا كنت فاكره ان بجوازنا هنعيش حياة طبيعية مش كلها اختبارات ومراقبة وقلق، بس عارف.. رجعت قولت ان مفيش حاجه في الموضوع ده كله طبيعي فليه منتظرة يكمل طبيعي!
_ليه وافقتي على الجواز؟ طب انا ليا أسبابي، إيه أسبابك؟
هزت رأسها تقول:
_الصراحة، ولا احور؟
أمال رأسه بإجابة واضحة، فتنهدت وقالت:
_هو انتَ كنت هتسبني في حالي لو موافقتش؟ طب مازن كان هيسبني في حالي لو طلعت من هنا من غير ما افيده؟
لم يجيبها فتولت الاجابة عنه:
_انتَ اصلاً اعلنت خطوبتنا من غير ما تاخد رأيي، وقررت ان خطوبتنا هتكون حقيقي وهتتحول لجواز بردو من قبل ما تاخد رأيي، واخوك.. انتَ عارف قالي إيه يوم الحفلة؟
لم يجيبها فقط حثها بنظراته لتزفر بضيق وهي تقول:
_على فكرة انتَ ممل جدًا في الحوار، يعني المفروض ترد عليا عشان احس إنك سامعني حتى!
قلب عينيهِ بملل وقال:
_وانا مبحبش شغل التشويق ده، قولي اللي عندك ورا بعضه، وانا سامعك لو مش سامعك كنت قومت وسيبتك مش هقعد اتملى في جمالك.
اتسعت عيناها بصدمة لجملته، وقالت ببرود يداري خلفه غضبًا وضيقًا:
_عارفه إنك مش هتقعد تتأمل جمالي، مانا لا عيني خضرا ولا شعري أصفر ولا بنور من البياض.
وبهدوء عقب بجملة غير مفهومة:
_بالعكس.. انتِ لو فيكِ أي صفة من دول مكنتش هقعد ادامك وابصلك اصلاً، نفسي جزعت من البيض اللي عنيهم خضر.. بقيت بشوفهم دمهم تقيل وجمالهم ده مجرد شكل وجوه سواد.
هدأ غضبها وقالت بما فهمته من حديثه:
_ااه، اللي هو داق الحلو فنفسه جزعت فحب يحدق، كده وضحت.. اصل شدوى قالتها اول ما جيت هنا، قالتلي انتِ مش زوقه، وانا وقتها كنت عارفه إني مش كده بس مكانش في أي حاجه اظهرتها ليا فكان كلامها ملوش معنى عندي، لكن لما جت فكرة الخطوبة كانت عندي علامة استفهام كبيرة دلوقتي شيلتها بكلامك.
أطفأ لفافته التي انتهت أخيرًا، ونفخ دخانها من فمه قبل أن ينظر لها بنظرة صارمة، حادة، اربكتها، وقال بهدوء وبطئ كأنه يريد أن يصل كل حرف لعقلها وتستوعبه:
_بما إنك هتكون مراتي مستقبلاً، فلازم تعرفي إني اكتر حاجه بكرهها الإنسان اللي يقلل من قيمة نفسه أو شكله، واللي مبيكونش عنده ثقة فيها، وعاوز افهمك كمان ان اللي قولتيه حاليًا لو اتعاد تاني هتحصل مشكلة كبيرة انتِ مش قدها وهتزعلي مني، عشان تكوني مرات شاهين المنشاوي، لازم ثقتك في نفسك تكون مخلياكي شايفة نفسك ملكة جمال الكون، وواثقة إنك شخصية قوية، ناجحة، ومفيش حد زيك، وتستاهلي احسن من اللي انتِ فيه بمراحل مهما كان اللي انتِ فيه كويس، مش عاوز اسمع كلامك ده تاني.
ابتسمت تلقائيًا وهي تستمع لحديثه، وبعدما انتهى منه وجدت نفسها تتنهد بسلام داخلي كبير، لقد اعطاها الثقة التي تفقدها، دومًا كانت ثقتها بنفسها ظاهرية، لكن داخليًا تعلم أنها بها الكثير والكثير من العيوب ولا تجد في نفسها ميزة واحدة، من الداخل كانت محطمة ولا تعرف لها الثقة طريقًا، لكنه الآن دفع فيها قوة خفية، وطاقة ثقة لم تشعر بها من قبل.
_مازن قالك إيه يوم الحفلة؟
اخرجها من شرودها بهِ وابتسامتها البلهاء له، لتفيق وهو يعيدها للموضوع الرئيسي، فقالت:
_قالي انه بيحبني..
استطاعت أن ترى الغضب يزحف لمقلتيهِ، والشرارات التي سكنت عيناه في لحظة اخبرتها بأن ما ستقوله لن يروق له ابدًا.
_قالي ان بعد اعلانك خطوبتنا بقى خطر افضل معاك، وانه في أقرب وقت هيهربني، عشان بيحبني.
كررت جملتها الأخيرة وكأنها راق لها أن تراه غاضبًا مشتعلاً من أجل شيء يتعلق بها.
سألها بصوت جامد:
_وليه مهربكيش؟
ابتسمت ساخرة:
_ده اللي خلاني اشوفك احسن منه، مهربنيش عشان لما فكر فيها شاف ان بهروبي هيخسر، فقرر يسبني، في نفس الوقت وبعد ما قالي ههربك، بعدها بثواني رجع في كلامه، قولتله افرض الموضوع بقى جد وفاجأني بجواز قالي حتى لو هيدخل السجن وهترفعي عليه قضية خلع وهخليكي تكسبيها، تخيل! يعني في حد بيحب واحده يسمح انها تتجوز غيره على أمل انه هيتسجن وتتطلق؟! وقتها عرفت ان مازن شخص مش طبيعي، يا إما بيلعب بيا، يا إما هو فعلاً مجنون اهم حاجه عنده يأذيك حتى لو على حساب أي حد.
ابتسامة صغيرة ظهرت على ثغره وهو يقول:
_اول مرة حد يشوف مازن صح.. اول مرة حد يكشف لعبته قبل ما يقع فيها.
لم تعقب على حديثه واكملت:
_وقتها قارنت بينك وبينه، وفي نفس الموقف، انتَ قولتلي هطلعك بره الموضوع معنديش حريم تدخل في خطط، الحقيقة حاجات كتير لما قارنت فيها بينك وبينه قولت لنفسي حتى لو شغلك غلط بس شخصيتك احسن منه، كمان تعاملك مع نورهان طمني، طمني إن رغم اللي شوفته منك اول ما جيت هنا ومتأكده إن ليك جانب اسود بردو، لكن على الأقل باعده عن اهلك وبتتعامل معاهم كويس.. انتَ حسبتها بالعقل.. عاوز تستقر وتكون أسرة وشوفتني شخص مناسب، انا كمان حسبتها بالعقل لو هختار بينكوا فانتَ احسن الاسوء! بما إني كده كده مش هعرف اخرج سليمة من الدايرة اللي دخلت نفسي فيها، يبقى اخد صف الطرف الأقوى.
هي لا تعرف هل حديثها حسن الموقف وأوضحه أم اذمه، لكنها قالت ما قالته بكل صدق، وبكل عقلها فهي حين تفكر بالأمر تصل لكل هذه النتائج، حاولت أن تفهم من تعبير وجهه هل أصابت القول أم لا، ولكنها كالعادة لم تفهم شيء، فقط قال:
-كتب الكتاب بعد بكره، يناسبك؟
بُهتت من اقتراب الموعد بهذا الشكل، لكنها حدثت نفسها، لقد قبلتِ وخططتي أن تسيري في هذا الطريق، اليوم أو الغد أو بعد عام النهاية واحدة، وانتِ من وضعتيها.
ابتسمت بتوتر وهزت رأسها موافقة.
_كويس، اكتبي كل اللي ممكن تحتاجيه في ورقة وصفاء هتاخدها منك، تجبلك الحاجات اللي مش محتاجه اختيار منك، اما الباقي زي الفستان ولوازمه صفاء بردو هتديكي تليفون تختاري كل اللي تحتاجيه من على الويب سايتس، وهيجيلك لحد عندك.. بس هتختاري وهي موجوده، لأن التليفون مش هيكون معاكي وانتِ لوحدك.
استنكرت وهي تقول:
_وشكلي إيه قدام صفاء وانا واخده فونها لأ وقاعده فوق راسي لحد ما اختار!
هز رأسه بلا معنى وقال:
_خلاص ابقي خدي تليفوني بس لما ارجع من الشركة.
_حبة ثقة!
قالتها بغيظ وهي تشير بإصبعيها علامة على قلة حجم الثقة التي تريدها، ليبتسم ابتسامة باردة وهو يقف وقال:
_اثبتيلي إنك محل ثقة.
********
اليوم التالي...
التاسعة صباحًا...
نظرت له باستغراب منذ قام والده ووالدها وهو يضحك في خفوت لم تفهم معنى ضحكته فسألته بتعجب:
_بتضحك على إيه؟
_بصراحة اول مرة اشوف عريس بيتقدم لعروسة الساعة ٩ الصبح!
ضحكت هي الأخرى بعد جملته، وقالت من بين ضحكتها:
_معاك حق..
تنهدت واكملت مبتسمة:
_بس هعمل إيه خدت يومين غياب من الشغل ومش هينفع اغيب النهارده كمان، وبرجع متأخره، فده انسب وقت قبل ما اروح الشغل.
اومأ برأسه متفهمًا وقال:
_فرحت لما ابوكي كلم ابويا امبارح وقاله نيجي نتقدم النهارده، كنت فاكر إن العريس خطفك مني.
نظرت له بذهول وسألته بعدم استيعاب:
_خطفني منك؟ هو انا امتى كنت ليك اصلاً يا مجد؟
ذمت شفتيها بذهول لم يتركها من أمس واكملت:
_انا بس عاوزه افهم، ليه فجأة اتقدمتلي وبعد ما كنت مبطقش تشوفني بقيت عاوز تتجوزني؟ مش من حقي استغرب وافهم؟
عدل من جلسته ليصبح جالسًا على نهاية الكرسي وقال بهدوء:
_ يعني ليه الناس بتتجوز؟ اعتقد ان كل شخص لازم هيتجوز في يوم.
قطبت ما بين حاجبيها بعدم فهم وقالت بإصرار للوصول لإجابة واضحة:
_ايوه اشمعنا انا؟ ليه لما حبيت تختار واحده تتجوزها اختارتني انا؟ وفيروز خلاص كده يئست من نصيبك معاها؟
تحمحم وهو يجيب بصدق:
_انا هكون صريح معاكي لأن ده جواز مش لعبة، بالنسبة لفيروز فأه انا فهمت اننا ملناش نصيب مع بعض، كفاية انها بقالها ييجي شهر او اكتر بعيدة والله اعلم فين اراضيها ولا بتعمل إيه، ففيروز متنفعيش.. اقتنعت بده خلاص، بالنسبه للجواز فانا فعلا فكرت اني خلاص مدام مليش نصيب فيها فاشوف غيرها.. ولما حصلي موضوع الحادثة وقوفك جنبي وجدعنتك اللي شوفتها منك غيرت وجهة نظري فيكي، وخلتني احس إنك هتكوني البنت المناسبة ليا.
تجمدت ملامحها تردد بذهول:
_جدعنة؟ ومناسبة؟ هو ده سبب إنك اتقدمتلي؟
_ مش قولتلك هقولك الصدق! لو قولت غير كده ابقى كداب.. الأكيد اني مش هحبك من كام يوم شوفت منك مواقف عجبتني.. وبردو مش هضحك عليكي واقولك حبيتك، الجواز لازم يكون بدايته صراحة.. وانا بقولك الصراحة اهو.. ولما عرفت ان في عريس متقدملك قولت الحق اتقدملك قبل ما توافقي على التاني واكون خسرتك، حسيت اني لو خسرتك هعيش عمري كله ندمان، انا وضحتلك موقفي، ليكي حق تقبلي او ترفضي.. لكن اللي عاوزك تفهميه ان مش كل اللي بيتجوزوا بيحبوا بعض في الاول اوقات كتير الحب بييجي بعد الجواز، واوقات في فترة الخطوبة، اعتبري جوازنا صالونات هنتعرف على بعض من أول وجديد.
ابتسمت بحزن وهتفت بمرارة:
_بس مبيكنش قلبهم مشغول، هيكون الوضع ايه لو بعد الجواز لاقيتك بتفكر لسه في فيروز؟ او لو رجعت وحسيتك رجعت تحط أمل فيها؟
هز رأسه نافيًا بإصرار غريب لم تفهمه:
_حكايتي مع فيروز انتهت، واقدر اضمنلك واوعدك إن عمري ما هفكر فيها تاني كزوجة، ولو رجعت بكره مش هيفرق معايا في حاجة، اما حكاية قلبي... انا واثق ان حبك هيقدر عليه، حبك ليا اللي من غير أي شروط ولا مقابل، هيكسب قلبي انا واثق.
ابتسمت ابتسامة صغيرة تخفي مرارتها:
_يعني لما كنت مبطقش تشوفني كنت بعمل أي حاجه عشان اكون معاك والفت نظرك، فكرك بعد ما بقيت عاوزني معاك مهما كان الوضع هرفض؟؟
ابتسم لها ابتسامة صغيرة صادقة يقول:
_ خلينا نحارب سوا.. حاربي عشان حبك ليا، وانا هحارب عشان اكون ليكي، وصدقيني لو في يوم حسيت اني بظلمك انا من نفسي هبعد.
وابتسامتها الجميلة والتي لاحظ للتو جمالها زينت ثغرها، وتخضبت وجنتيها خجلاً، ليفهم ردها ويبتسم هو الاخر بفرحة يتخللها شعور من الندم فهو لم يقل لها الحقيقة كاملة....
عودة بالأحداث~~~~~
_ تتجوزها؟ غريبة عمرك ما لمحت إنك عاوزها رغم إني غلبت الفت نظرك ليها؟
قالها "شاكر" بتعجب لرغبة ولده المفاجئة، فأجابه "مجد" بشرود:
_من وقت ما قولتلي على العريس اللي متقدملها وانا محتار وبفكر، وفي الآخر وصلت للحل اللي حسيت اني مرتاحله.
_والسبب؟ ليه فكرت فيها دلوقتي؟
تهرب بعينيه من والده وهو يجيب:
_وقوفها جنبي في المستشفى وبعد طلوعي منها خلاني اشوفها بشكل تاني، شوفتها بت جدعة وطيبة وبنت أصول، وبتحبني.
_وإيه تاني؟ مهي دي مش اسباب مقنعة عشان تتجوز واحده مكانتش طايقها.
سند رأسه بكفه وقد اسند ذراعه السليم على ركبته وقال دون النظر لوالده:
_هي الوحيدة اللي هتقبل بظروفي ومش هتشوفني عاجز ولا ناقص، هي الوحيدة اللي هتتحمل ظروفي بالعكس ما هتصدق إني اتقدملها، حكايتي مع فيروز انتهت بالضبه والمفتاح.. دي مكانتش موافقة عليا وانا سليم، هتوافق وانا عاجز!
_فمبقاش قدامك غير مستكة!
رددها والده ساخرًا ومستنكرًا، ليكمل:
_بس كده هتظلم بنت كل ذنبها إنها حبتك يا مجد.
رفع رأسه يبرر:
_مش هكدب عليها، هقولها الحقيقة، هقولها اني محبتهاش بس شوفتها مناسبة.
_وهتقولها فكرت فيكي عشان انتِ الوحيدة اللي هتقلبي بوضعي؟
_لأ، مينفعش اقول كده، ومفيش داعي اصلاً.
_لأ فيه.
صرخ بها "شاكر" واكمل رافضًا ما يفكر بهِ:
_لازم تكون صريح معاها، ده جواز مش لعبة، ولو مقبلتش تكون في الوضع ده وانتَ شايف انها الوحيدة اللي هتقبل بيك، لو كرامتها مقبلتش ده يبقى حقها ومتكونش خدعتها وظلمتها.
_انا مش ناوي اظلمها، انا هعاملها بما يرضي الله، وهحاول احبها.
_بس نيتك من البداية مش كويسة، زي اللي راح يجيب من السوق بطيخ ولما ملقاش جاب شمام،
انتَ حاططها في نفس الحتة دي، وبتتعامل معاها على إنها آخر حبة خضار مع البياع فهتاخدهم وخلاص عشان مش هتلاقي غيرهم، رغم انهم مش عاجبينك، بس اهو يمشي الغرض.
نهض بضيق وهو يقول:
_كفاية بقى، متحسسنيش إني ناوي اعذبها معايا! وإن كان على دراعي هجيب الطرف الصناعي اللي قولتلي عليه عشان متحسش إني ناقص حاجه، وهرجع اشتغل وحياتي هتكمل عادي، وإن كان عليها هحاول احبها.. ولو معرفتش مش هظلمها.
الآن ~~~~~~~
نظر لفرحتها الواضحة ليشعر بضميره يجلده، وينصب له محكمة هو الوحيد المذنب فيها، ويسأله:
فيما أخطئت الفتاة لتلاقي منه ما لاقت سابقًا من حدة في الحديث وكلمات قاسية ونظرات نافرة كان يرميها بها؟
فيما أخطئت ليستغل حبها ويربطها بهِ وبعجزه وهو موقن من انها لن ترفض؟
فيما أخطئت ليخدعها في زواجه منها ويخفي السبب الحقيقي؟
فيما أخطئت ليكن جزاء حبها خداعًا وأنانية؟
ولكنه أخرس ضميره، وكل الأصوات التي تصرخ بداخله وقرر أن يكمل في قراره.
*******
في فيلا شاهين...
على طاولة الإفطار..
قطع شاهين الصمت يقول:
_نورهان، كتب كتابي أنا وفيروز بكره.
شهقت "نورهان" بصدمة ولكنها سرعان ما هللت فرحة:
_الله بجد! بس فجأة كده؟ ولا كنتوا مقررين ومقولتوليش!
اجابتها "فيروز" مبررة بعدما تركت الطعام وقد بدأ الخجل يزحف لوجهها:
_لا والله لسه مقررين امبارح، انتِ عارفه اخوكي كل قراراته بتيجي فجأة.
_فرحت اوي والله، ربنا يتممها بخير يارب، ناوي تعمل حفلة طبعًا يا شاهين؟
أجاب وهو يتناول كوب قهوته:
_مش حفلة بمعنى حفلة، هي هتكون عائلية، كلمت جدي وجايين النهاردة بليل، وطبعًا عزمت عمك وابنه معرفش هييجوا ولا لأ، واحنا كده.. مش حابب يكون الموضوع فيه صحافة ولا ناس كتير، خلي ده للفرح.
ورغم أنه لم يأخذ رأيها في الأمر لكنها حبذت ما قاله، فهي لا تحب الحفلات ابدًا، ولا تفضل اقامتها في مناسبة تخصها.
قالت "نورهان" :
_طب إيه يا فيروز هتعملي إيه في الفستان؟
اجاب "شاهين" نيابةً عنها:
_هتطلبه من على ويب سايت.
عقبت "نورهان" مستغربة:
_وليه؟ انا ممكن انزل معاها نروح الاتيليهات المشهورة وتختار منهم!
رد بهدوء:
_بلاش لف و فرهدة، بعدين هي كذا مره لبست من الويب سايتس واعتقد عجبها، وكده كده بيكون هو هو اللي في الاتيليهات، انا قدامي ساعة قبل الشغل، ممكن نقعد تختاري فيها.
صمتت لثواني قبل أن تبتسم وهي تقول:
_الحفلتين اللي فاتوا انتَ اللي اختارت فساتيني، وبصراحة زوقك عجبني جدًا، فهسيبلك المهمة دي.
_يا سيدي يا سيدي.
قالتها "نورهان" وهي تصفق بمرح، لتبتسم "فيروز" وهي تنظر لها بخجل بالغ، فأكملت الأخرى:
_لأ انا شكلي كده هعاصر قصة لكابل لذيذ، هيفقعولي مرارتي بس هيبسطوني.
_هيبسطوكي! احنا في المسرح القومي؟ خلصي اكل واختاري فستانك عشان يلحق يوصل ويتظبط.
قالها "شاهين" ونهض بعدما انهى قهوته، وكالعادة لم يأكل من الفطار شيئًا سوى قطعة خيار رصدتها عينا "فيروز" المهتمة.
_طب ما تختارلي مع خطيبتك.
ابتسم بسماجة وقال ببرود:
_للأسف معرفش استايلك ولا زوقك.
وذهب تحت صدمتها وفاهها الفاغر، لتنظر ل "فيروز" بغيظ حين تعالت ضحكات الأخرى في مرح.
*****
عصرًا....
نظرت ل "مستكة" التي ستجن أمامها وهي تقول بغضب بالغ وتضرب ركبتيها بكفيها بهلع:
_يالهوي... يالهوي على السواد اللي هنشوفه، بردو عملتي اللي في راسك! انتِ بترمي نفسك في النار وهتولع بينا كلنا.
نظرت لها الأخرى بهدوء تام واجابت:
_شاهين هو الوحيد اللي يقدر يحميني في اللعبة دي، هو يقدر على مازن لكن مازن ميقدرش عليه.
_ولو شاهين عرف حقيقتك هيطربقها فوق دماغك ومحدش هيقدر عليه بردو.
نظرت لها بنظرات خائفة لكنها قالت:
_لأ... لأ مش هيعرف.
استنكرت "مستكة" تقول:
_ليه؟ لو مازن عرف إنك بتغدري بيه وهتتجوزي شاهين بجد، هيروح يقوله على حقيقتك ومش هيتردد لحظة.
زفرت باختناق وهي تنهض تطوف ارجاء الغرفة بقلق، وقالت:
_مش هيعمل كده، عشان انا مش هعرف مازن اني قلبت عليه.. انا هفهمه إني لسه معاه، هو قالي اتجوزيه لو حكمت عشان نكمل خطتنا، واهو هتجوزه.
جحطت عيني "مستكة" وهي تنهض وتمسكها من ذراعها بقوة:
_هتلعبي على الاتنين؟ هتخدعي الاتنين وفاكرة إنك هتخرجي من بينهم حية!
_شاهين هيأمنلي مستقبلي، وهيحميني من اللي مازن ممكن يعملوا فيا لو غدرت بيه، انتِ شايفة انا قاعدة فين...
قالتها وهي تفلت نفسها منها ودارت حول نفسها فاردة ذراعيها:
_شايفة الاوضة اللي بمقام افخم شقة في حتتنا، شايفة لبسي، شايفة ازاي كل حاجه بقت تحت رجلي، شايفة ازاي شاهين بيعاملني وانا لسه مبقتش مراته، هو يمكن وحش في الطريق اللي ماشي فيه، ويمكن اوحش لما بيقلب على حد، لكن طول مانتِ حبيبته تاخدي عينه... هو احسن كتير من مازن، راجل جدع وحنين مع اللي يخصوه، وعاقل مش متهور، وغني، وحلو، و....
قاطعتها مستكة تقول بأسف من تفكيرها:
_وعقرب... ولدغته بالقبر، ولو وقعتي مش هيسمي عليكي حتى لو بقيتي ام عياله زي ما بتخططي.. انتِ قررتي تكسبي في اللعبة بس فكرتي بغباء ونفذتي رغم اني حذرتك وقولتلك بلاش اللي بتفكري فيه.. اتجوزيه، وعيشي واتبسطي وات
"ولما انتَ لسه محتاج دم لها مخدتش دم تاني مني ليه؟!"
حاول الطبيب أن يشرح له الموقف فقال بعد أن عدل عويناته بشكل صحيح:
_ يا استاذ احنا خدنا منك دم كتير، واكتر من كده هيكون خطر على حياتك، وللأسف بنك الدم عندنا مكانش فيه غير كيس واحد ينفع فصيلتها وهي خسرت دم كتير ومحتاجين نعوضه، وكل اللي واقفين دول مينفعوش معاها.
أشار على الرِجال ضخام الجسد الواقفين في أحد الجوانب بعد أن قام بإجراء فحوصات لمعرفة فصيلة دم بعضهم والبعض الآخر كان يعلم فصيلته والجميع غير متطابق لا يمكنهم التبرع لها.
_هكلم ناس تيجي تتبرع..
وقبل أن يبحث عن هاتفه الذي لا يعلم اين تركه تحديدًا في خضم ما حدث، كان الطبيب يخبره:
_لو مش هيكونوا هنا في ظرف نص ساعة يبقى مفيش داعي تتصل.. لأن أي تأخير مش في صالحها.
نظر له نظرة مميتة وكأنه سيحرقه وهو يسأله بحذر خطير:
_وبعدين؟
ابتلع الطبيب ريقه بتوتر من ملامحه التي تحولت لملامح إجرامية مخيفة، وقال:
_مانا قولتلك من شوية الممرضات بيحاولوا يشوفوا متبرعين في المستشفى هنا، وأن شاء الله هيلاقوا يعني.
_ ولو ملاقوش؟
أمال رأسه قليلاً للجانب وهو يلقي سؤاله، وبدى وكأنه متحفزًا لسماع الجواب ليقدم على شيء ما!
ولكن قبل أن يسمع الجواب وجد أحد الممرضين يخرج من غرفة العمليات وهو يخبر الطبيب بتوتر واضح:
_يا دكتور.. دكتور صفوت بيقولك محتاج كيس دم في ظرف عشر دقايق.
فنظر له الطبيب محاولاً فِهم وجه السرعة، فهمس الممرض بما وصل لمسامع "شاهين" المنصت باهتمام:
_الحالة بتتصفى لسه مش قادرين يسيطروا على النزيف، مش حِمل تأخير...
وقبل أن ينبت الطبيب بحرف كان يشهق بخضة حين وجد ياقتي قميصه بين كفي الثور الهائج الذي أمامه وهو يهدر بعنف وملامح صارخة بغضب:
_هتسحب انتَ من دمي ولا اشرب انا من دمك!
جحظت عينا الطبيب بذهول من عنفوان الذي أمامه، وشعر أنه لا يمزح ابدًا، ومن الرِجال الموجودين معه يبدو أنه سيقدر على فعلها، ولكن ضميره المهني لم يسمح له بالخضوع وهو يخبره بإصرار:
_انا مش هموت شخص عشان انقذ التاني احنا لو سحبنا منك ٥ سم كمان هيحصلك هبوط حاد.
ويبدو أن حديثه لم يلقى استحسان "شاهين" ابدًا، الذي بدى وكأنه على شفا حفرة من تنفيذ تهديده، بعدما ضغط على شفته السفلى بأسنانه بقوة غاشمة كادت تدميها وربما فعلت! في مشهد يشبه مشاهد غضب زعماء المافيا في تلك الأفلام.
ولكن ولأنه طبيب أمين، وصادق، انقذه الرب، حين وجد شاب يقل عن الواقف أمامه في الطول وعرض الجسد القليل، يمسك بقبضة الآخر يقول بنبرة مشحونة ومستنكرة:
_متعرفش تكون بني آدم طبيعي ابدًا، البلطجة بقت بتجري جواك؟
نظر له "شاهين" نظرة جانبية ساخطة وهو يهدده:
_ابعد ايدك يالا.
رفع حاجبه بدهشة مصطنعة وردد:
_يالا! طب نزل ايدك انتَ ومطلعش روح البطلجي اللي جوايا.
انتهى الاقتباس...
ها عرفتوا مين اللي ظهر قدام شاهين؟
قولوا في الكومنتات
وعارفة ان كان المفروض يكون فصل.. بس لظروف ما، الفصل مؤجل لبكرة بإذن الله تعالى، بس قولت انزل اقتباس كده يحمسكوا، وإن شاء الله يكون طويل على قد ما قدر🫡♥️♥️
وروني هتوصلوا الاقتباس ده لكام عشان تشجعوني رغم تعبي اكتب الفصل.....
الفصل السابع عشر من الجزء الثاني... كامل في اول كومنت فيس👇
"مهما حاول الإنسان لا يمكنه أن يتحكم في ذاته ومشاعره وانفعالاته طوال الوقت, هناك أوقات تسبق فيها انفعالاتك عقلك, وخاصًة تلك التي يكن فيها الخوف أو الغضب هما المسيطران, تنفلت زِمام الأمور, والغلبة لتلقائيتك, وما يصدر عنكَ لا يمكن التراجع عنه"
سقوطها هكذا غارقة في دمائها التي ظهرت واضحة من كنزتها الزرقاء الفاتحة, جعل عقله يُشل للحظات قبل أن يستوعب الواقع, رغم أنه ليست اول مرة يرى فيها قتيل, وليست هي أول شخص يسقط أمامه بروح ذاهبة, ولكنها.. تخصه, تهمه, ليست كمن سبقوها ابدًا..
إن حاول إحصاء عدد من كانوا في مشهد مماثل لها الآن, لن يستطيع إحصائهم, وكان كل ما ينالونه منه نظرة عابرة لا تتعدى ثواني ثم ينطلق في طريقه ويكمل ما يفعله.
ولكن الآن ولأول مرة لا تكن نظرة عابرة, ولم يهتم ابدًا بالنظر لمحل إطلاق الرصاصة ومعرفة من أطلقها, أو حتى الركض ورائهم, بل ركض ناحيتها هي.. يلتقطها من فوق الأرضية الصلبة, لتنظر له بعينيها الناعسة والتي أصبح بياضها يغزوه شعيرات دموية حمراء.
كان يظهر عليهِ الارتباك والقلق, ملامحه كانت مضطربة بشكل لم تراه عليهِ من قبل, ولم يكن هو عليهِ منذُ اليوم الذي عرف فيه خبر وفاة والدته, كان وقتها مضطرب كالآن, لا يعرف ما عليهِ فعله ولا أين يذهب, فقط يمرر كفه على ذراعها دون أن يكتشف مكان الإصابة, وكأنه يواسيها!
هي مجرد حركة حمقاء تدل على صدمته وتوتره, وبعدها كان يسمعها تهمس بما جعله يستفيق من حالته:
-هموت... ماما... عاوزه اشوفها... قولها...
ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تشعر بشيء بدأ يملأ حلقها, وأكملت بينما أصبحت كمن أخذ جرعة مخدر قوية تسحبه نحو اللاوعي دون اراده منه:
-كان معاها حق.. انا غبية... كانت صح..
لم يفهم ما تقوله, أليس والدتها متوفية! ولكن أرجع الأمر أنها لا تشعر بنفسها وهي تقريبًا أصحبت في حالة قريبة من اللاوعي.
-قوم يا شاهين نوديها المستشفى, انتَ هتفضل تتفرج عليها؟
رفع رأسه ليرى "نصر" يقف بالقرب منه تمامًا, لا يعلم متى أتى أو ماذا أتى بهِ لهُنا, وقد كان "نصر" الذي ترجل بسرعة البرق ينادي باسمه وقلبه يخفق وجلاً من إصابته بمكروه, قد هدأ قليلاً زافرًا أنفاسه براحة حين وجده سالمًا, والإصابة لم تكن بهِ, ووقف هادئًا, صامتًا, ينتظر أن يطمئن "شاهين" عليها, ولكنه لم يفعل شيء, هو فقط يقوم بأفعال غريبة ستجعل المسكينة تفقد حياتها وهي بمحلها, لذا كان عليهِ التدخل.
عاد "شاهين" ينظر لها وقال بعدما ابتلع ريقة بقوة:
-متخافيش, هتكوني كويسة.
وجاء ليحملها لتصرخ هي بوجع من بين قربها لفقدان الوعي:
-لا...متحركنيش.. ابعد...ابعد..
قبل قراءة الفصل يرجى ترك لايك وكومنت للاستمرار♥️
تفاعل الفصل اللي فات وحش جدا جدا، هنعمل تحدي على الفصل ده يوصل ٢٠٠ لايك و٣٠٠ كومنت وانزل الجديد قبل يوم الجمعه 🔥
قراءة ممتعة ومستنية رأيكوا ♥️ والرفيوهات يا جماعة فضلاً.
الفصل السابع عشر من الجزء الثاني...
"مهما حاول الإنسان لا يمكنه أن يتحكم في ذاته ومشاعره وانفعالاته طوال الوقت, هناك أوقات تسبق فيها انفعالاتك عقلك, وخاصًة تلك التي يكن فيها الخوف أو الغضب هما المسيطران, تنفلت زِمام الأمور, والغلبة لتلقائيتك, وما يصدر عنكَ لا يمكن التراجع عنه"
سقوطها هكذا غارقة في دمائها التي ظهرت واضحة من كنزتها الزرقاء الفاتحة, جعل عقله يُشل للحظات قبل أن يستوعب الواقع, رغم أنه ليست اول مرة يرى فيها قتيل, وليست هي أول شخص يسقط أمامه بروح ذاهبة, ولكنها.. تخصه, تهمه, ليست كمن سبقوها ابدًا..
إن حاول إحصاء عدد من كانوا في مشهد مماثل لها الآن, لن يستطيع إحصائهم, وكان كل ما ينالونه منه نظرة عابرة لا تتعدى ثواني ثم ينطلق في طريقه ويكمل ما يفعله.
ولكن الآن ولأول مرة لا تكن نظرة عابرة, ولم يهتم ابدًا بالنظر لمحل إطلاق الرصاصة ومعرفة من أطلقها, أو حتى الركض ورائهم, بل ركض ناحيتها هي.. يلتقطها من فوق الأرضية الصلبة, لتنظر له بعينيها الناعسة والتي أصبح بياضها يغزوه شعيرات دموية حمراء.
كان يظهر عليهِ الارتباك والقلق, ملامحه كانت مضطربة بشكل لم تراه عليهِ من قبل, ولم يكن هو عليهِ منذُ اليوم الذي عرف فيه خبر وفاة والدته, كان وقتها مضطرب كالآن, لا يعرف ما عليهِ فعله ولا أين يذهب, فقط يمرر كفه على ذراعها دون أن يكتشف مكان الإصابة, وكأنه يواسيها!
هي مجرد حركة حمقاء تدل على صدمته وتوتره, وبعدها كان يسمعها تهمس بما جعله يستفيق من حالته:
-هموت... ماما... عاوزه اشوفها... قولها...
ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تشعر بشيء بدأ يملأ حلقها, وأكملت بينما أصبحت كمن أخذ جرعة مخدر قوية تسحبه نحو اللاوعي دون اراده منه:
-كان معاها حق.. انا غبية... كانت صح..
لم يفهم ما تقوله, أليس والدتها متوفية! ولكن أرجع الأمر أنها لا تشعر بنفسها وهي تقريبًا أصحبت في حالة قريبة من اللاوعي.
-قوم يا شاهين نوديها المستشفى, انتَ هتفضل تتفرج عليها؟
رفع رأسه ليرى "نصر" يقف بالقرب منه تمامًا, لا يعلم متى أتى أو ماذا أتى بهِ لهُنا, وقد كان "نصر" الذي ترجل بسرعة البرق ينادي باسمه وقلبه يخفق وجلاً من إصابته بمكروه, قد هدأ قليلاً زافرًا أنفاسه براحة حين وجده سالمًا, والإصابة لم تكن بهِ, ووقف هادئًا, صامتًا, ينتظر أن يطمئن "شاهين" عليها, ولكنه لم يفعل شيء, هو فقط يقوم بأفعال غريبة ستجعل المسكينة تفقد حياتها وهي بمحلها, لذا كان عليهِ التدخل.
عاد "شاهين" ينظر لها وقال بعدما ابتلع ريقة بقوة:
-متخافيش, هتكوني كويسة.
وجاء ليحملها لتصرخ هي بوجع من بين قربها لفقدان الوعي:
-لا...متحركنيش.. ابعد...ابعد..
-هي الرصاصة فين؟
سأله "نصر" ليحرك رأسه باضطراب مرددًا بجهل:
-مش عارف.
ثم استكمل حديثه ل "فيروز" يطالعها بشفقة حقيقية:
-لازم اشيلك عشان تروحي المستشفى, معلش اتحملي بس ثواني لحد ما ارفعك.
وقبل أن تعترض كان يرفعها بين ذراعيه بأقصى رفق يعرفه, ولكن هذا لم يمنع صرخة خافتة متألمة خرجت منها قبل أن يستقيم بها, فتلقي رأسها على صدره بإنهاك وتغمض عيناها في استسلام تام للتخلص من بشاعة الألم... وفي نفس اللحظة تناثرت بعض الدماء من فمها.
-متغمضيش يا فيروز.. متغمضيش.
صرخ بها وهو يركب أحد السيارات التي فُتح بابها أمامه, لكنها لم تستجيب.. فكانت بالفعل قد فقدت وعيها.
لعن من بين أسنانه حين لاحظ أنها قد فقدت الوعي, وحاول أن يتفحص جسدها لمعرفة مكان الإصابة, لكن تلطخ الكنزة بالكامل بلون الدماء جعله يخفق في معرفة موضع إصابتها.
-متقلقش هنلحقها.
قالها "نصر" الجالس في المقعد الأمامي بجوار السائق, لينظر له "شاهين" بملامحه المتجهمة يسأله:
-انتَ عرفت مكاني ازاي؟ وعرفت اللي حصل منين؟
أجاب "نصر" في هدوء:
-للأسف كنت جاي انقذك بس وصلت متأخر, كويس إنك بخير وإلا كنت هحرقه حي.
لم ينتبه لنبرته الغريبة, ولا جملته الأغرب عن مدى مكانته لديه, فقط ردد بشراسة:
-انا كده بخير! مش واخد بالك إن في واحدة بين الحيا والموت؟ بعدين هو مين ده؟ معتقدش إن عقابه دلوقتي هيختلف.
-هيختلف لأنك سليم, فهحاول اديله فرصة تانية ي...
صرخ "شاهين" غاضبًا غضب قد يجعل السيارة تنقلب بهم الآن:
-بردو هيقولي سليم! هي دي واحده كانت معدية في الشارع واتصابت مكاني! دي خطيبتي, ده كان ربنا هيرحمه لو انا اللي اتصابت, قولي هو مين؟
-بطل صرخ...
قالها "نصر" منزعجًا من صوته العالي وأكمل:
-بعدين مش وقته, خلينا نشوف البت الأول بعدين نتكلم, ادخل يا بني على أقرب مستشفى.
وجه جملته الأخيرة للسائق الذي هزَّ رأسه موافقًا ومنفذًا...
كبح غضبه المشتعل بصدره, وحول نظره لها وهي متسطحة فوق مقاعد السيارة ليحاول جعلها أكثر راحة وحشر نفسه في جلسة غير مريحة جوارها, وكانت رأسها تجاهه, لاحظ تعرقها بغزارة فطلب من السائق بتبجح:
-هات المناديل دي.
مد يده له بعلبة المناديل على الفور, ليبدأ في تجفيف عرقها من على وجهها ورقبتها, ويمسح فمها من الدماء, التي أصابته بذعر أكثر, ودون شعور منه وجد نفسه ينحني عليها هامسًا في أذنها بعنفوانه وغضبه المعتادين:
-مش هرحمك لو جرالك حاجة, ومش هعديهالك لو قومتي منها.
هو حقًا لا يدري بحماقة ما يتفوه بهِ!
لكن هذا ما سيفعله بكل تأكيد, ربما لن يملك الفعل إن ذهبت, وحتمًا لن يمررها لها إن نجت.
-------------
ضحكة مجلجلة صدرت منه فور وصوله الخبر, وبدى الابتهاج جليًا على وجهه وهو ينهي المكالمة:
-تمام... تمام اوي, أي اخبار جديدة تبلغني بيها, ويا ريت المكالمة الجاية تبلغني بخبر موتها.
أغلق الهاتف ليقول الذي يجلس أمامه ينهيا بعض الأعمال الخاصة بشحنة جديدة:
-مين دي اللي مستني خبر موتها؟
ضحك "مختار" وهو يقول:
-خطيبة شاهين.
رفع الجالس حاجبه يسأله بحذر:
-انتَ اللي وراها؟
رفع "مختار" كفيهِ مستسلمًا وابتسم يقول:
-لأ يا غسان انا ملوثش ايدي انا بعرف ازاي أوصل للي عاوزه بس من بعيد, انا بس رفعت ايدي عن شاهين ودي كانت النتيجة.
همهم "غسان" يقول:
-بس إيه علاقة خطيبته بمشاكله, معتقدش في حد هيكون مستقصدها!
-لا مهو مكانتش هي المقصودة, هي اتصابت بالغلط.
اتسعت عيني "غسان" بقلق وهو ينتفض من فوق كرسيه:
-يعني شاهين المقصود؟ ومين اللي عمل كده!؟
سخر "مختار" من انتفاضته وقال:
-مالك هبيت ليه كده؟ اوعى تكون لسه بتخاف عليه من باب الصحوبية والهبل ده.
-مين اللي عمل كده؟
رددها بإصرار للمعرفة دون اهتمام بحديث الآخر, ليجيبه "مختار" بلامبالاة:
-انا إيه عرفني, لسه الخبر واصلي واكيد مش هعرف في نفس اللحظة مين وراها, خصوصًا إن أعداء شاهين زي الرز.
جمع أشيائه وهو يسأله مرة أخرى:
-هم راحوا علي فين؟
وقف "مختار" يوازيه مرددًا باستنكار:
-إيه هتروحله؟ بطل جنان يا غسان, وبعدين مانا قولتلك هو زي القرد محصلوش حاجة.
ردد "غسان" بما يعرفه عن "شاهين":
-بس هيودي نفسه في داهية, مش هيسكت على اللي حصل وهيتغابى.
-وانتَ مالك!
-يعني هحاول الحقه.
والحقيقة "مختار" لا يتمنى الشر ل "شاهين" أو بمعنى أدق يتمنى له الشر بحد معين وليس لدرجة الموت أو مصيبة لا يخرج منها, لذا قال وهو يلتقط هاتفه:
-هعرفلك هو فين.
----------------------
انتفضت من نومها بذعر بعد كابوس مزعج شعرت فيه أنها تختنق, والكابوس كان واضحًا, رأت ابنتها تركض في مكان مظلم ومخيف, وخلفها يركض ذئاب ضخمة ذات شكل مخيف, وفجأة وصلت "فيروز" لنهاية الطريق المغلق, والتفت خلفها تصرخ وهي تنظر للذئاب التي لم تتوقف وهي تركض نحوها, وفجأة وصل لها أحدهم ينقض عليها لتختفي صرختها بين أنيابه..
وحينها استيقظت "مديحة" تشهق بهلع وتتلفت حولها لا تعرف علاما تبحث, لكنها تشعر بالعجز, تشعر بغصة قوية تقبض قلبها, وكأنه ينبئها بخطر ما, خطر بالتأكيد يخص ابنتها, واخيرًا بعد فترة من البكاء والهلع اهتدت لهاتفها, ففورًا اتصلت بهِ, حتى أتاها رده فقالت على الفور:
-مازن باشا, بنتي مالها؟ متخبيش عليا بنتي جرالها حاجة صح؟
نهض "مازن" الذي كان يجلس على كرسي مكتبه, وسألها باستغراب:
-في إيه؟ مين قالك إن فيروز جرالها حاجة!
أجابته ببكاء:
-انا حلمت حلم وحش ببنتي, وانا احلامي مبتخبش, قولي بنتي جرالها إيه؟
أنتابه القلق حيال "فيروز" من حديث والدتها, ولكنه أجاب بصدق:
-انا معرفش حاجة والله, وإن شاء الله ميكونش حصل حاجة, اقفلي بس وسبيني أوصل لأخبارها.
-طمني يا باشا الله يخليك, انا قلبي مقبوض ومش هطمن غير لما اسمع صوتها, لو وصلتلها خليها تكلمني.
-حاضر, متقلقيش مفيش حاجة.
وأغلق معها المكاملة وعقله يفكر هل بالفعل قد أصاب الفتاة شيء؟
---------------
وفي المستشفى كان الأمر أشبه بانتظار انفجار قنبلة موقوتة..
الجميع في حالة ترقب, بعد أن أخذها الأطباء لغرفة العمليات منذُ ساعة كاملة, خرج الطبيب يخبرهم باحتياجهم للتبرع بالدم للمصابة, بعد أن استنفذوا ما يلائمها من بنك دم المستشفى, فتوجه "شاهين" ورِجال "نصر" الذي طلبهم لإجراء اللازم إن كان أحدهم يستطيع التبرع لها, ولكن لم يكن سوى "شاهين" هو الخيار الوحيد المتاح, وتم أخذ كمية لا بأس بها منه, في محاولة لإنقاذها بها لحين الحصول على كمية أخرى.
وقبل أن يدلف الطبيب لغرفة العمليات مرة أخرى, سأله "شاهين" وهو ينزل كم قميصه الملوث بدمائها بعد سحب الدماء من ذراعه:
-هي الإصابة خطيرة؟
أجابه الطبيب بعملية موضحًا:
-الرصاصة في نص صدرها, بس الحمد لله مصابتش أي عضو حيوي, لكن النزيف مستمر وبنحاول نسيطر عليه, نحمد ربنا انها مصابتش القصبة الهوائية رغم انها كانت قريبة جدا منها وعشان كده كانت بتنزف من بوقها.
وعاد للداخل تاركًا "شاهين" في أقصى حالات غضبه, اقترب من أحد الرِجال وطلب منه بفظاظة لفافة تبغ, وأخذها منه يخرج غضبه, وقلقه بها.
اقترب منه "نصر" يقول:
-همشي انا يا شاهين, ومتقلقش هتقوم بالسلامة.
و"شاهين" الآن بدى أكثر وعيًا من اللحظة التي تفاجئ فيها ب"نصر" فسأله مستغربًا:
-عرفت منين إني هنا؟
أجابه "نصر" بضجر:
-بردو بتسأل أسئلة مش وقتها؟ لما خطيبتك تطمن عليها لينا قعدة مع بعض.
انهى حديثه وربط على كتفه مستكملاً:
-هسيب 3 من رجالتي هنا لحد ما تكلم رجالتك تجيلك.
وضع كفيهِ على جيوب بنطاله وردد بنزق:
-تقريبًا التليفون وقع مني..
-اكيد في مكان الحادثة, انا سيبت هناك ناس من رجالتي يلموا الدنيا اكيد هيلاقوه.
سأله "شاهين" مستغربًا:
-يلموا الدنيا ازاي؟
-يمسحوا أثر الجريمة, ويسكتوا اللي شافها, مش عاوزين شوشرة, هبعت حد من الرجالة بيتك يبلغ رجالتك يجولك.
حرك رأسه بلامبالاة لينسحب "نصر" مبتعدًا وخلفه بعض رِجاله, وبالقرب منه "رأفت" ذراعه الأيمن, فقال له "نصر" بملامح تحولت للغضب العاصف:
-اطلبلي يسري الصاوي... النهاردة يكون عندي.
ويبدو أن "نصر" لن يمرر فعلته على خير, فحتى وإن نجا "شاهين" فقد هدد ذلك الأبلة حياته, وهو لن يسمح له بالتفكير في تكرار فعلته, فإن خابت مرة تصيب الثانية.
----------------
-يا باشا انا شغلي بيكون الصبح.
قالتها "مستكة" بضجر وهي تحدث "مازن" وأكملت:
-لو روحت دلوقتي هيبقى فيه الف سين وجيم, بعدين انا قولت لسعادتك انا سيباها كويسة وكانت نازلة معاه مشوار.
أتاها صوت "مازن" القلِق:
-مش يمكن عرف حاجة وخدها عشان يأذيها.
جلست "مستكة" على سريرها وهي تقطب جبينها بقلق انتقل إليها:
-يوه, هتوغوشني ليه, هو يعني لو عاوز يعملها حاجه هياخدها بره البيت! إذا كان بيته مخصصه للتعذيب.
أتاها رده الحائر:
-مش عارف, يعني انتِ مش هتعرفي أي معلومة غير لما تروحي الصبح؟
أجابته بقلة حيلة:
-والله لو في ايدي شيء كنت عملته, بس مقدمناش غير إننا نستنى للصبح.
وأغلق كلاهما والقلق يتلاعب بعقولهما.
------------------------
" يقرص الموت أذني ويقول عش حياتك! فأنا قادم.
(أوليفر وندل)"
على الفراش الأبيض القابض للقلب رغم بهيج لونه, وعلى ضوء الكشافات الموضوع فوق رأسها وجسدها, كان جميع من بالغرفة يسابقون الزمن لإنقاذها, كمية الدم التي خسرتها ليست طبيعية ابدًا, والنزيف الغير قابل للتوقف في حد ذاته مريب, أصوات أشخاص تختلط بأصوات أجهزة يُفزع لها البدن, وبين كل هذا هي.. في عالم آخر, كالنائم في سباط عميق.. لا تسمع شيء من حولها, فقط تحلم...
تسير في مساحة كبيرة, أراضي صحراوية موصولة لا نهاية لها, يتصبب منها العرق, ويجف ريقها من العطش, تبحث حولها عن أي منقذ أو سبيل للنجاة, والنهار على وشك الذهاب, والليل يبدأ في إسدال ستائره, وهذا في حد ذاته يرعبها.
هدأت دقات قلبها العالية حين أبصرت شخص يجلس على صخرة تراها جيدًا, فأسرعت في خطاها حتى وصلت له, تهتف من خلفه:
-لو سمحت انا تايهه, قولي على طريق يرجعني.
التف لها الشخص لتبتسم بعدم تصديق, مرددة بابتهاج:
-بابا؟؟ حبيبي انتَ وحشتني اوي, لو كنت اعرف إنك هنا كنت جيتلك من زمان.
أجابها بصوته المألوف:
-كل شيء بأوان يا فُلة, انتِ كمان وحشتيني.
-خلاص انا هفضل معاك هنا مش عاوزه ارجع.
قالتها بسعادة كبيرة وهي تحاول التقدم للصعود للصخرة ليوقفها قائلاً:
-وهتسيبي امك؟ ده انا مطمن عليها عشان عارف إن بنتي بميت راجل, هتحمي نفسها وامها.
وقفت بحزن تقول:
-الدنيا وحشة اوي, وانا مش جامدة زي مانتَ فاكر.
-لا انتِ جامدة, طول عمرك ذكية, وتعرفي ازاي تخرجي نفسك من المصيبة قبل ما تقع على راسك, مفهاش حاجة لما تغلطي كام مرة, واهم بردو بيعلموكي.
-بس غلطاتي دي خلتني زي الفار اللي وقع في مصيدة مستحيل يطلع منها سليم.
-مين قالك كده؟ عمرك ما شوفتي فار هرب من مصيدة! الفار الذكي هو اللي يستنى الفرصة اللي الصياد يفتح فيها الباب وقبل ما يقدر يمسكه يهرب, يهرب وميبصش وراه, بس يبص قدامه, ويلاقي مكان آمن يهرب له, اصله مش هيقعد يجري من غير ما يقف.
نظرت له بحيرة وتفكير, لتسمعه يكمل مبتسمًا:
-الدنيا لونين يا ابيض يا اسود, والألوان اللي في النص رغم انها بتكون جذابة لكن مُرة, مفيش اوحش من إنك تقفي في النص, تتمرجحي لا منك عارفة إنك مع الأبيض ولا منك اتأقلمتي إنك مع الأسود, بصي وراكي كده.
نظرت خلفها لتجد المكان قد تحول لطريقين, أحدهم يظلله السواد, والآخر يشع منه البياض, وسمعت صوته يخبرها:
-شوفي هتمشي في انهي طريق, بس خدي بالك, دايمًا البداية بتغر.
وفي اللحظة تذكرت جملة والدها التي قالها منذُ لحظات "طول عمرك ذكية" فوزنت الأمر بعقلها واختارت طريقها, لتخطو نحو الطريق المظلل بالسواد وجملته ترن في أذنيها "دايمًا البداية بتغر" دخلته وسارت بهِ مسافة لا بأس بها تحت خوفها وفزعها من شدة ظلمته, ولكن فجأة ضرب نور قوي في وجهها فوضعت كفها تحجبه عنها, وحين أزالت كفها ببطء اتسعت عيناها وهي تراه أمامها, مبتسمًا, وفي أبهى صوره, يخبرها فاتحًا ذراعيهِ لاستقبالها...
"اتأخرتي عليا, بقالي مدة مستنيكي"
وابتسمت هي, تخطو نحوه خطوات واثقة, سعيدة, والأعين تتحدث, لكنها وقفت أمامه بعدما اختفت ابتسامتها تنظر خلفها بحزن حين لم تجد والدها مرددة:
-بابا..
جذب ذراعيها له وهو يخبرها بابتسامة جميلة:
-طريقه غير طريقك.
وفي غرفة العمليات... كان صوت الطبيب يصدح:
-النبض انتظم أخيرًا, بس النزيف مبيقفش, محتاجين نقل دم حالاً لحد ما نسيطر على النزيف.
---------
-ولما انتَ لسه محتاج دم لها مخدتش دم تاني مني ليه؟
حاول الطبيب أن يشرح له الموقف فقال بعد أن عدل عويناته بشكل صحيح:
_ يا استاذ احنا خدنا منك دم كتير، واكتر من كده هيكون خطر على حياتك، وللأسف بنك الدم عندنا مكانش فيه غير كيس واحد ينفع فصيلتها وهي خسرت دم كتير ومحتاجين نعوضه، وكل اللي واقفين دول مينفعوش معاها.
أشار على الرِجال ضخام الجسد الواقفين في أحد الجوانب بعد أن قام بإجراء فحوصات لمعرفة فصيلة دم بعضهم والبعض الآخر كان يعلم فصيلته والجميع غير متطابق لا يمكنهم التبرع لها.
_هكلم ناس تيجي تتبرع..
وقبل أن يبحث عن هاتفه الذي لا يعلم اين تركه تحديدًا في خضم ما حدث، كان الطبيب يخبره:
_لو مش هيكونوا هنا في ظرف نص ساعة يبقى مفيش داعي تتصل.. لأن أي تأخير مش في صالحها.
نظر له نظرة مميتة وكأنه سيحرقه وهو يسأله بحذر خطير:
_وبعدين؟
ابتلع الطبيب ريقه بتوتر من ملامحه التي تحولت لملامح إجرامية مخيفة، وقال:
_مانا قولتلك من شوية الممرضات بيحاولوا يشوفوا متبرعين في المستشفى هنا، وأن شاء الله هيلاقوا يعني.
_ ولو ملاقوش؟
أمال رأسه قليلاً للجانب وهو يلقي سؤاله، وبدى وكأنه متحفزًا لسماع الجواب ليقدم على شيء ما!
ولكن قبل أن يسمع الجواب وجد أحد الممرضين يخرج من غرفة العمليات وهو يخبر الطبيب بتوتر واضح:
_يا دكتور.. دكتور صفوت بيقولك محتاج كيس دم في ظرف عشر دقايق.
فنظر له الطبيب محاولاً فِهم وجه السرعة، فهمس الممرض بما وصل لمسامع "شاهين" المنصت باهتمام:
_الحالة بتتصفى لسه مش قادرين يسيطروا على النزيف، مش حِمل تأخير...
وقبل أن ينبت الطبيب بحرف كان يشهق بخضة حين وجد ياقتي قميصه بين كفي الثور الهائج الذي أمامه وهو يهدر بعنف وملامح صارخة بغضب:
_هتسحب انتَ من دمي ولا اشرب انا من دمك!
جحظت عينا الطبيب بذهول من عنفوان الذي أمامه، وشعر أنه لا يمزح ابدًا، ومن الرِجال الموجودين معه يبدو أنه سيقدر على فعلها، ولكن ضميره المهني لم يسمح له بالخضوع وهو يخبره بإصرار:
_انا مش هموت شخص عشان انقذ التاني احنا لو سحبنا منك ٥ سم كمان هيحصلك هبوط حاد.
ويبدو أن حديثه لم يلقى استحسان "شاهين" ابدًا، الذي بدى وكأنه على شفا حفرة من تنفيذ تهديده، بعدما ضغط على شفته السفلى بأسنانه بقوة غاشمة كادت تدميها وربما فعلت! في مشهد يشبه مشاهد غضب زعماء المافيا في تلك الأفلام.
ولكن ولأنه طبيب أمين، وصادق، انقذه الرب، حين وجد شاب يقل عن الواقف أمامه في الطول وعرض الجسد القليل، يمسك بقبضة الآخر يقول بنبرة مشحونة ومستنكرة:
_متعرفش تكون بني آدم طبيعي ابدًا، البلطجة بقت بتجري جواك؟
نظر له "شاهين" نظرة جانبية ساخطة وهو يهدده:
_ابعد ايدك يالا.
رفع حاجبه بدهشة مصطنعة وردد:
_يالا! طب نزل ايدك انتَ ومطلعش روح البطلجي اللي جوايا.
وأزال يده بعيدًا عن الطبيب وهو يقول:
-انا موجود يا دكتور, اعمل التحاليل اللازمة, لو ينفع اتبرعلها, خد مني دم واكيد هفيدك أكتر من الجحش ده.
-متختبرش صبري.
قالها "شاهين" مزمجرًا, ليبتسم له "غسان" بسماجة معتادة:
-انا مش اجي اختبر حاجة, انا قولت اساعد, مش عشانك بس عشان عارف إنها لو جرالها حاجة هتقلب تور هايج وهتطربقها على دماغ الكل.
انهى حديثه ونظر للطبيب باستغراب:
-ما يلا يا دكتور ولا حابب تكمل معانا الحوار!
تنحنح الطبيب بخجل وهو يشير له للدخول لغرفة مجاورة, وأشار للمرض الواقف معه أن يتبعه, وعاد هو لغرفة العمليات.
وبعد عدة دقائق خرج "غسان" وهو يعدل ملابسه, وقال بمرح سخيف:
-ليكوا الشرف إنكوا خدتوا من دمي, كده اضمن إن عيالك كمان هيبقى فيهم منه.
لم يعقب "شاهين" على سخافته, ولم يكن لديهِ طاقة لأي حديث معه, فاستند على الحائط خلفه والتزم الصمت, مما جعل "غسان" يفعل المثل, ولكنه لم يصمت بل سأله:
-عرفت مين اللي وراها؟
-لسه, تفوق بس وهعرفه.
هز "غسان" رأسه يقول بعدم رضى:
-بس ياريت متلبسش نفسك مصيبة زي زمان.
نظر له بعينيه الغاضبة وردد من بين أسنانه:
-ولو رجع بيا الزمن هعمل نفس المصيبة تاني.
سخر "غسان" وهو يغمغم بألم مخفي:
-المصيبة اللي خسرتنا بعض.
-انتَ اللي غبي, لسه مش قادر تفهم إني عملت الصح وقتها.
-ولا عاوز افهم.
قالها منهيًا الحوار, فالتزما الاثنان الصمت وكلاً منهما شاردًا في أفكاره.
---------------------
"الحمد لله سيطرنا على النزيف والحالة حاليًا كويسة, بس هتفضل 48 ساعة تحت الملاحظة قبل ما نحدد وضعها النهائي"
كانت الجملة التي سمعها "شاهين" من الطبيب قبل أن يتحرك فورًا وهو يبصر رِجاله قد حضروا, وتحرك خلفه "غسان" يسأله باستغراب:
-رايح فين؟
-مرسي خليك هنا انتَ واتنين من الرجالة, مش عاوز دبانة تقرب منها.
اومأ "مرسي" بطاعة, وذهب باقي رِجاله خلفه, ليهدر "غسان" بغضب وهو يجذبه من ذراعه ليوقفه أمامه:
-بقولك سايبها ورايح فين؟
أجابه بشراسة وملامح تدل على الشر المطلق:
-متعودتش يبدأ يوم جديد من غير ما اصفي حساباتي..
نظر لساعته ثم قال بابتسامة قاسية:
-الساعة 2 يعني فاضل 3 ساعات على النهار ما يطلع, يدوب الحق.
وتخطاه مسرعًا في خطواته و "غسان" خلفه يغمغم بغيظ:
-مش قولت تور هايج..
.
قبل قراءة الفصل..
يرجى ترك لايك وبعد القراءة يرجى ترك كومنت برأيك ♥️ ده بيشجعني استمر وانزل❤️😍
دمتم حلوين❤️
الفصل الثامن عشر من الجزء الثاني..
"قال عثمان بن عفَّان: الدنيا خضرة، قد شُهِّيَتْ إلى الناس، ومال إليها كثيرٌ منهم، فلا تركنوا إلى الدنيا، ولا تثقوا بها، فإنها ليست بثقة، واعلموا أنها غير تاركة إلاَّ من تركها"
وصل لفيلا "نصر العقاد"..
ليترجل من سيارته وعاصفة غصبه تسبقه وخلفه رجاله فأشار لهم بالانتظار وتبعه "غسان"، حتى وصلا لبهو فيلا" نصر" فقابلهما" رأفت" الذي هتف متسائلاً:
_خير يا شاهين بيه؟ إيه الموضوع المهم اللي يجيب حضرتك بدون ميعاد سابق.
بوجه صارم وملامح يبدو أنها تتحكم في الغضب بالكاد سأله:
_نصر باشا فين؟
وقبل أن يجيب "رأفت" صدح صوت "نصر" الذي كان ينزل درجات السلم الداخلي في هدوء وكأنه كان ينتظر قدومه:
_أنا هنا يا شاهين.. وكنت مستنيك، عارف إنك مش هتهدى غير لما نتكلم.
التزم "شاهين" الصمت حتى وصل أمامه، فوجه نظره ل "غسان" يسأله مستغربًا:
_طب هو جاي يعرف اللي يخصه، إنما انتَ منورنا ليه يا بلتاجي؟
اجاب "غسان" متحفظًا:
_بحاول الم الدنيا، انا عارف إنه مش هيسكت، وهو لما بيهيج بيبقى غبي، وسعادتك عارف اللي جوه دايرتنا مينفعش يتغابى.
ضغط "شاهين" على نواجزه غاضبًا وهو ينظر لها بسخط:
_هو انتَ فاكر إن وجودك هيمنعني من حاجة عاوز اعملها! وبطل تغلط عشان مبوظش لك معالم وشك.
حرك "غسان" رأسه بلا معنى ولم يرد، وقال "نصر" خافيًا ابتسامته:
_يعني بدل ما تشكره إنه خايف عليك!
لم يعقب، بل عاد بنظره له يسأله مباشرًة:
_ مين اللي عملها؟ مين اللي اتجرأ يبعت ناس تقتلني؟
ابتسامة بسيطة سخيفة ارتسمت على وجه "نصر" يقول:
_انتَ فاكر إني هقولك؟ زي ما صاحبك قال، في حالتك دي مينفعش تعرف مين عملها، بس عمومًا ماتقلقش، انا هشد ودنه وهخليه يحرم يقرب منك.
قطب ما بين حاجبيهِ بتعجب، وسأل وكأن عقله انتبه لهذه النقطة للتو:
_انتَ بتعمل معايا كده ليه؟ إيه يدخلك بيني وبين الشخص ده؟ وإيه اللي جابك وقت الحادثة؟
حاول "نصر" الثبات وهو يجيبه:
_انا جيت مكان الحادثة لما رأفت عرف باللي هيحصل، كنت بحاول الحقك.
_وتلحقني ليه؟ اصلاً كان كفاية تبعت رجالتك، معتقدش إنك كل ما يوصلك خبر ان في راجل من الرجالة هيتقتل بتجري على هناك!!
هز رأسه بتأكيد وقال:
_معاك حق، بس انا بعتبرك في مكانة تانية، انتَ عزيز عندي يا شاهين، بيعجبني تفكيرك وقوتك وخطواتك الثابتة، معتقدش إني هحب اخسر راجل زيك، بالعكس أنا من يوم ما عرفتك وانا بعاملك كأنك ابني او راجل من رجالتي المخلصين، فأكيد لما اعرف بخطر بيحوم حواليك هحاول انقذك.
لم يعبأ بكافة حديثه بل قال في هدوء مصطنع:
_جميل، بس ياريت بقى تقولي هو مين، اكيد لو انا زي ما بتقول عزيز عندك مش هتحب تسبني على ناري كده.
ابتسم له "نصر" ابتسامة صادقة هذه المرة وهو يخبره بما جعله يستشيط غضبًا:
_واني اقولك أنا هتصرف معاه مش كفيل يطفي نارك؟
- هو انا اكتع؟ ولا مشلول عشان حد يجيب حقي، انا حقي هيرجع بأيدي، وحتى لو مقولتش هو مين انا كده كده هعرف، بس قولت اجي أسألك بما إنك عارف، بس لو مقولتش انا هعرف بردو، ووقتها بقى مش هو بس اللي هيطوله أذايا.
اتسعت أعين "غسان" بصدمة ولكزه في ذراعه يحذره هامسًا:
_شاهين انتَ اتجننت؟ اظبط كلامك متقومش الدنيا عليك.
ولكن همسه وصل ل "نصر" الذي قال محافظًا على ابتسامته وهدوءه كما لا يفعل مع أي أحد آخر، فيقسم لو أن أحد غيره لمحَ بتهديد له لكان أراه من الويل أشكال، لكنه "شاهين" ولده الحبيب، وقرة عينه، وقلبه الملكوم ببُعده، فبالطبع سيمررها له:
_ واضح إن صاحبك الموقف مأثر عليه لدرجة انه واقف في نص بيتي يهددني.. يهددني أنا!
أردف جملته الأخيرة ساخرًا وما إن أوشك "شاهين على الرد حتى قاطعه يقول بعدما اختفت ابتسامته:
_خد صاحبك وامشي يا غسان، وهديه، ده لمصلحته، ولو عرفت مين اللي عملها ابقى اعمل ما بدالك.
قال جملته الأخيرة موجهًا حديثه ل" شاهين" الذي نظر له بصمت غاضب، وعيناه تتوعد بالكثير، قبل أن ينسحب مهرولاً للخارج واتبعه "غسان" بعد أن القى نظرة أخيره على "نصر".
_شاهين مش هيسكت غير لما يعرف مين اللي عملها.
قالها "رأفت" بحقيقة مؤكدة، فقال "نصر" وهو مازال ينظر لمحل ذهابه:
_واحنا هنقطع عليه كل طريق يوصله للحقيقة، شاهين لو عرف إن يسري اللي عملها مش هيتردد يقتله، وانتَ عارف إن ده هيقلب عليه البشوات الكبار اللي يهمهم حياة يسري عشان مصالحهم تمشي.
_مش وارد يشك فيه؟
_لأ، مش وارد، لأن في ناس كتير اوي لهم عداوة مع شاهين، خصوصًا إن يسري ساكت على حقه بقاله ٣ سنين.. يعني مش منطقي لسه فاكر ينتقم من شاهين.
_ وحضرتك خلصت الموضوع مع يسري؟
صمت "نصر" وهو يتذكر آخر حديثه مع "يسري" حين هتف الأخير بغضب:
انا مش هسيب حقي اللي عنده، وإن كنت ساكت السنين اللي فاتت فسكت عشان مختار المنشاوي كان مُصر يحاميله، وكان بيني وبينه مصالح كتير مينفعش اخسرها، لكن انا عرفت انه بقى على خلاف بمختار وإنه خلاص رفع ايده عنه، فمبقاش في حاجة توقفني عن أذيته.
سخر "نصر" يقول:
_عرفت؟ ولا اتقالك! مختار بلغك انه مبقاش يخصه فتعمل فيه اللي انتَ عاوزه! عمومًا لو مختار رفع ايده فانا ايدي لسه محطوطه، ومش هسمح بلعب العيال ده، قولنا اللي حصل زمان كان شاهين معاه حق فيه، وبناءً عليه انتَ ملكش حق اصلاً عنده.
_ده اللي انتَ شايفه، لكن انا شايف إن ليا حق، وهاخده من حبة عنيه.
_يسري!
هتف بها "نصر" في غضب تمكن منه، وأكمل بصرامة:
_لو قربت لشاهين تاني انا اللي هقفلك.
نهض "يسري" واقفًا يسأله باستنكار:
_طب مختار كان عمه، انتَ بقى تبقاله إيه عشان تحاميله؟
وقف "نصر" هو الآخر وقال بثبات:
_شاهين راجل من رجالتي، ولما حد يقربله ويأذيه تبقى إهانة ليا.
_بس شاهين مش راجل من رجالتك، شاهين راجل في المنطمة وانتَ بترأسه مش اكتر!
ضجر من ضغط "يسري" في الأسئلة حول هذه النقطة فقال منهيًا الحديث بقوة:
_ميخصكش، المهم إنك تعقل وترجع تعمل نفسك مش شايفه زي ما كنت عامل طول السنين اللي فاتت.
ظهر الغضب على ملامح الأخير وهو يقر:
_انتَ مش أعلى مني ولا بترأسني عشان تكلمني كده، انا وانتَ في نفس المكانة يا نصر، فملكش تأمرني، وانا مش هنفذ اللي بتقوله.
_انا مش بأمرك، بس لو كملت اللي في دماغك انتَ عارف انا واصل لفين، فهخلي الأعلى مني ومنك يأمرك تبعد عنه، متخليناش نوصل للنقطة دي.
وانتهى اللقاء، ويبدو أن "يسري" اهتزَ من تهديد "نصر" وربما يفكر في العودة للصمت الذي طبقه على نفسه لسنوات مضت من أجل مصالحه الشخصية، وأما عن "نصر" فسيكون مترقب جيد له، ولن يعطيه الأمان ابدًا.
-------------------
وفي سيارة شاهين...
أعرب عن غضبه من قدوم "غسان"..
_انتَ جاي معايا ليه! هو انا عيل صغير ماشي وراه ليتوه!
سخر "غسان" يقول ناظرًا أمامه:
_سلامة الشوف.. مانتَ شايفني وانا جاي معاك، جاي تتكلم بعد ما المشوار خِلص...
رد بغيظ:
_عشان مكنتش فايق وانا جاي، كان كل همي اوصل لنصر واعرف منه اللي عاوز اعرفه.
_المفروض متكونش فايق اكتر وانتَ راجع، بعد ما مشوارك طلع فشنك وماستفدتش حاجه.
_عرفت منين كل اللي حصل؟ وعرفت منين مكاني؟
نظر له وهو يراه يسأل السؤال الأهم والمنطقي فأجاب بمرح زائف:
_حمد الله على السلامة.
ونظرة "شاهين" الحادة جعلته يجيب بجدية:
_كنت قاعد مع مختار ووصله الخبر.. انتَ عارف مفيش حاجه بتخفى عنه.
سخر "شاهين" معقبًا بما فاجئ الآخر:
_مفيش حاجه بتخفى عنه ولا مراقبني.
_انتَ عارف؟
_انتَ أهبل؟ هيكون في حد مراقبني وانا معرفش!
_وسايبه ليه؟
أردف بلامبالاة:
_خليه يتسلى، هو فاكر أنه كده بيعرف عني كل حاجة، لكن انا بعرفه اللي عاوزه يعرفه، زيه زي الأهبل التاني.
ضحك "غسان" مغمغمًا:
_اكيد قصدك مازن.
_هو كمان فاكر إني مغفل ومعرفش إن في حد من طرفه مخصصه يراقب كل تحركاتي، لكن اللي ميعرفوش إني بخليه يعرف اللي انا عاوزه يعرفه، زي النهارده كده، مكنتش عاوز يوصله خبر عن مكاني.. واكيد موصلش.
قطع حديثهما رنين هاتف "غسان" فرفعه مجيبًا:
_ايوه يا فريال.
صمت قليلاً ثم أجاب:
_مشوار مهم خِلص خلاص، نص ساعة وجاي.... تمام.. تمام يا فريال نتكلم بعدين!.. ماشي سلام.
أغلق معها لينظر فورًا بتلقائية ل "شاهين" فوجد ما توقعه تمامًا، علامات السخرية تزين وجهه، وغمغم:
_بقالك ست تشكمك، حلو.. اصلك من زمان عيارك فالت، الله يعينها عليك.
_متقولش إنك معرفتش بجوازي!
رد بلاهتمام:
_عرفت.. متجوز من سنه باين! واستغربت، مكنتش اتخيل إنك من الرجالة اللي بتدور على الاستقرار، او حتى يكتفي بست واحده.
_انا كمان اتفاجئت إنك هتتجوز تاني، فكرت شدوى عقدتك بس طلع لسه عندك نفس تجرب تاني.
حسنًا إنها حرب تتحدث فيها الأسلحة، كلاً منهما يلقي الآخر بما فيه ويعرفه عنه، دون مراعاة لأي شيء او شعور.
_ما عاش ولا كان اللي يقطع نفس ابن المنشاوي، وبعدين فكرتك هتفرحلي.
ورغم تهكمه في جملته الأخيرة، وشعور "غسان" بذلك، لكنه أجابه بجدية:
_مبقتش افرحلك ولا ازعلك، مبقاش في حاجه بتربطنا ببعض عشان اهتم بيك اصلاً.
_كداب.
قالها "شاهين" باسترخاء تام، وأكمل بابتسامة سِمجة:
_ووجودك النهاردة معايا دليل على كدبك.
_اقف على جنب.
قالها "غسان" بحدة للسائق الذي نفذ ووقف، ليكمل بعدها ل "شاهين" :
_وجودي النهاردة غلطة مش هتتكرر، بس اني احميك من جنانك هيتكرر، لأني للأسف فاكر العيش والملح اللي كان بينا.
وترجل بعدها من السيارة فورًا دون النظر خلفه، تنهيدة عميقة خرجت من "شاهين" تحمل كمًا هائلاً ينتابه الآن من المشاعر السلبية، قبل أن يأمر السائق:
_اتحرك.
وبعد ثواني رن هاتفه برقم "معاذ"، ليجيبه فوجده يقول:
_شاهين انتَ فين؟ انا في المستشفى ومعايا نورهان.
_جاي يا معاذ، جاي..
وأغلق المكالمة ناظرًا أمامه، شاردًا في عتمة السماء رغم وجود القمر!
--------------
_أخيرًا فتحت تليفونك، انتَ فين يا بني آدم!؟
هدر بها "مازن" غاضبًا، ليجيبه الرجل عبر الأثير:
_يا باشا تليفوني فصل شحن، وعلى ما قدرت اشحنه كان خد وقت انا اسف، بس هو في حاجه؟
تنفس "مازن" بقوة مهدئًا نفسه وسأله:
_قولي إيه الأخبار عندك؟
_مفيش حاجه يا باشا، شاهين بيه مخرجش من الفيلا من وقت ما رجع من الشغل، بس رجالته خرجوا لوحدهم من يجي ساعة ونص كده، ومن شوية صغيرين خرجت نورهان هانم بعربيتها.
_متأكد أن شاهين مش مع رجالته؟
سأله "مازن" بحذر ليجيبه بيقين:
_متأكد يا باشا.
تنفس براحة وهو يقول:
_تمام أي حاجه تحصل بلغني.
وأغلق المكالمة مطمئنًا أن الأمور على ما يرام، ويبدو أن "شاهين" بالفعل يوصل له ما يحب إيصاله!
----------
صباح اليوم التالي...
قبل أن تذهب لعملها بالفيلا، وبعد انتهائها من بيع الفل في ساعتها الصباحية، جهزت بعض الأطعمة السخنة الشهية لوجبة الإفطار، وأخذتهم على صينية متوسطة الحجم، متجهه لمحل عمل "مجد"...
اقتربت منه وهي تراه يعمل في أحد السيارات وألقت السلام لينتبه لها وبعدها بادرت في قول:
_لما عديت ولاقيت الورشة مفتوحة، فرحت وقولت لازم اجبلك حاجه بالمناسبة الحلوة دي.
مسح كف يده السليم في قماشة حمراء حال لونها للأسود من اتساخها، لتلاحظ المفاجأة الثانية والتي جمدتها لثواني بينما كان يقول:
_مناسبة! هي أول مرة افتح الورشة؟!
_انتَ... دراعك!
تمتمت بتلعثم وهي تنظر لذراعه، فأجابها في هدوء:
_ركبت طرف صناعي.
رفعت نظرها له، وأدمعت عينيها وهي تسأله:
_بالسرعة دي؟ يا ترى انتَ عاوز كده دلوقتي ولا عملت ده عشان في خطوبتنا محدش يبصلك نظرة تضايقك؟
_هتفرق؟
سألها بوجوم واضح، فأجابته بإصرار:
_جدًا.
زفر أنفاسه ثم قال:
_الاتنين... مش متقبل نفسي بالشكل ده، وكنت عاوز حاجه اداري وراها دارعي اللي خسرته، على الاقل في اوقات بنسى انه صناعي واحس بدراعي عادي، وعشان بردو يوم الخطوبة مش هتقبل نظرة الناس، لا هتقبل شفقة ولا هتقبل نظرة معناها ازاي وافقت عليه.
ابتسمت ابتسامة صافية خرجت من قلبها فوصلت لقلبه في سلام:
_إن كان عليك انتَ فطبيعي تحس بحاجة غريبة في الأول وتستغرب نفسك، ويمكن بردو متقدرش تتقبل الحقيقة على طول كده، بس لازم تعود نفسك تتقبل شكلك في أي حالة، لأن اكيد مش هتفضل مركبه طول الوقت عشان ماتتعبش، وإن كان على الخطوبة فمتقلقش انا اصلاً مش هعمل هيصة، يكفيني نروح نشتري الدهب والبسه عند الصايغ، وفي الفرح نبقى نعمل اللي هوانا فيه، ومتركزش مع الناس، الناس في كل وقت وفي كل حال بيتكلموا، واللي يركز معاهم يتعب... ووقت ما نعمل فرحنا ان شاء الله مش هنركز مع حد غيرنا، اكننا احنا الاتنين بس اللي موجودين محدش حوالينا.
غمغم في هدوء:
_ان شاء الله.
أكملت بنفس ابتسامتها:
_بعدين اسمع ان اللي بيخسر جزء من جسمه في الدنيا بيسبقه على الجنة، يعني دلوقتي دراعك قاعد متهني هناك ومستنيك.
قالت جملتها الأخيرة بمرح، فضحك بخفوت وهو يعقب:
_يا عالم هروحله هناك ولا هيفضل هو في الجنة لوحده.
_لا إن شاء الله ربنا يوعدنا بالجنة، المهم ده فطار كده يعني على القد بس اللي لحقت اعمله أصل لسه راجعة من شغل الصبح، ويا دوب الحق شغلي التاني...
_ماشي، بس اعملي حسابك، بعد جوازنا ان شاء الله لا في ده ولا ده، انا مش عاوز اقولك اقعدي من دلوقتي عشان....
قاطعته تقول:
_عشان انا مش هقبل اقعد وتصرف عليا وانتَ حياله خطيبي، ولا هقبل علاج ابويا تكون انتَ دافع فلوسه، وعشان كمان اجهز نفسي، وإن كان على بعد الجواز فربنا يحلها ولو قعدت هكون بعمل مشروع او حاجة تجيب مصاريف ابويا.
نظر لها مستغربًا يسألها:
_وتجيبي مصاريف ابوكي ليه؟ وانا روحت فين؟
نفت برفض قاطع:
_ لا معلش، انتَ ملزم بيا اه، لكن ابويا لأ، ومش هقبل حد يصرف على ابويا حتى لو جوزي، وابويا مش هيكون مرتاح.
نظر لها نظرة معاتبة:
_بتعملي يعني فرق من اولها! وبتقولي ابويا وابوك.
_لا مش فرق، بس الدنيا مش مضمونه، وإن كنت حلو معايا النهاردة الله أعلم ببكره، اكيد مهما حصل مش هتيجي في يوم من الايام تعايرني إنك كنت بتصرف عليا وبتأكلني وبتشربني، عشان انا في الاخر مسؤوليتك وده واجبك، لكن ابويا مش واجب عليك تعمل معاه كده، وانا مش هستنى لما يتقالي في يوم انا كنت بصرف على ابوكي وبعمل وبعمل... انا عارفه انك ابن أصول ومتعملهاش، بس زي ما قولتلك الواحد لازم يحرص، ولازم نعمل حساب لغدر الأيام.
_رغم ان كلامك حاسس في إهانه ليا، بس مش قادر اقولك إنك غلط، عشان لو حطيت نفسي مكانك مش هقبل حد يمد ايده بجنية لابويا، زي ما عاش عمره كله معززني، جه الدور عليا اعمل كده، بس بردو وقتها أي مبلغ مني له ميعتبرش لا واجب ولا جميل، هيكون حب في الراجل الطيب ده، ولا انتَ ناسية ان هو وبابا صحاب وانا طول الوقت بحبه وبحترمه.
تسللت إليها الراحة بعد حديثه، ووضعت الصينية على أحد السيارات المجاورة، وقالت:
_ربنا يقدم اللي فيه الخير، وبألف هنا الأكل، همشي انا بقى عشان الشغل.
ذكرها بما جعل وجنتيها تحمر خجلاً، وقلبها يرقص على نغمات الفرح، وعيناها تشع بهجة ولهفة.
_متنسيش بعد بكرة هننزل نشتري الدهب.
وكان هذا بناءً على اتفاقهم يوم ان تقدموا لخطبتها.
وهو الأمر بالنسبه له تقليديًا بحت، حتى أنه لا يجد شعور لا للسعادة ولا للحزن، شعوره فاتر.. وكل ما في الأمر انه سيخطب..!
-------------------
في المستشفى....
جلست بجواره تناوله كوب القهوة اولاً، فأخذه منها مبتسمًا ابتسامة بالكاد تُرى، مدت له كفها ببعض البسكويت فرفض هازًا رأسه، مما جعلها تقول بضيق:
_يا حبيبي مينفعش كده، لازم تاكل حاجه، انتَ من امبارح العصر ماكلتش، من وقت الغدا، وكمان عمال تشرب قهوة وسجاير وده غلط.
اشعل بالقداحة لفافة أخرى وأشار لها بكفه:
_مش عاوز يا نورهان، وبالله عليكي ما تضعطيش عليا، انا دماغي مصدعة ومش قادر اجادل، كفاية صممتِ تباتي معايا في المستشفى.
_ايوه طبعًا اومال كنت عاوزني امشي واسيبكوا كده.
_والله انتوا الاتنين وجودكوا مكانش له داعي... صباح الخير.
قالها "معاذ" الذي اقتحم جلستهما في أحد غرف الاستراحة المفتوحة، لترد "نورهان" تحية الصباح بينما قال "شاهين" :
_مينفعش امشي واروح انام مرتاح في بيتي وهي يا عالم هتكون كويسة ولا لأ.
عقب "معاذ" :
_يا شاهين ما امبارح الدكتور نفسه قال وجودكوا ملوش داعي لو حصل أي حاجة هيبلغنا في التليفون، عمومًا اللي حصل حصل.. يلا عشان تروح بقى تغير هدومك دي اللي عفنت عليك.
رفع "شاهين" حاجبه مستنكرًا:
_عفنت إيه ده الحرس جابوهم امبارح بليل وغيرت هدومي اللي كانت كلها دم.
عقبت "نورهان" موضحة:
_يا حبيبي انتَ غيرت اه بس ماخدتش شاور، وريحة الدم ماسكة فيك، الأحسن تروح تاخد شاور وتريح ساعتين وتاكل وترجع.
نهض واقفًا وهو يقول بصرامته المعهودة:
_هاخد شاور واغير وارجع... ويلا معانا عشان تفضلي في البيت وجودك هنا ملوش داعي لحد ما تفوق.
وقبل أن تقاطعه قال:
_نورهان لو سمحتي! قولتلك مش عاوز جِدال.
وانسحب مبتعدًا عنهم، لينظر لها "معاذ" وقال ناصحًا:
_بلاش تعارضيه في حاجه لأنه فعلاً على آخره.
_أنا خايفة عليه.
غمغمت بها في حزن واضح، فابتسم لها يطمئنها:
_متقلقيش مش هسيبه، لولا ان كان في شغل ضروري لازم يخلص في الشركة الصبح مكانتش سيبته.
_انا واثقة من ده، وشكرًا على تعبك معانا.
قالتها بأعين ممتنة، ليبتسم لها وقال:
_ده واجبي.
--------------------
بعد ثلاث ساعات.....
وصل أمام فيلا شاهين وهو كالبركان النشط، أو كالقنبلة الموقوتة، ينتظر فقط أن يراه لينفجر في وجهه، منذُ حدثته "مستكة" تخبره بما حدث ل "فيروز" وعفاريت الجان تتلبسه، لم يحسب للأمر، ولم يفكر فيه ثانية واحدة، فقط انطلق تاركًا عمله ولم يعبأ بشيء، فقط ليصل له، ويلكم وجهه السخيف، ويخبره أن يُعيد له الفتاة التي كاد أن يقضي على حياتها، هو لا يعلم ماذا حدث لها، هو فقط علم بإصابتها بطلق ناري ووجودها في المستشفى، ويرجح أنه هو من اطلق عليها، لربما عرف حقيقتها فأحب أن ينتقم، فتبًا لخطته وعمله، فقط ليعيدها سالمة، فلن يتحمل ذنب موتها، ولا لوم والدتها، فقط ليعيدها وتنتهي القصة لكنها مستمرة بينهما هما.
وفي نفس لحظة وصوله ودلوفه بسيارته للبهو الداخلي للحديقة وترجله من السيارة، كان "شاهين" و "معاذ" يخرجان من الباب الداخلي للفيلا، ليقف "شاهين" على حافة الدرج الخارجي، وهو يرى "مازن" يصعده إليهِ بملامح صارخة غضبًا..
وقف أمامه ليس تمامًا فبينهما مسافة لا بأس بها، فهدر "مازن":
_فيروز فين؟
_قصدك خطيبتي؟
سألها "شاهين" في هدوء ساخر، ليصرخ فيه الآخر غاضبًا:
_خِلصت يا شاهين، خرج فيروز من كل حساباتك، انا عارف إنك خطبتها كيد فيا، وعارف أنها مش فارقة معاك ولا تهمك، بس فارقة مع ناس تانية، خليني ارجعها لأهلها، انا غلطان إني دخلتها بينا من الأول وهي ملهاش ذنب في حاجة، مش هقبل يحصلها حاجة، خليها ترجع لحياتها... وانا وانتَ نبعد عنها.
أجاب في صرامة:
_انتَ تحكم على نفسك مش عليا، وبعدين ده احنا خلاص حددنا ميعاد كتب الكتاب.
جحظت عيناه متفاجئًا، وصدحت بعدها نبرته الغاضبة:
_اخلص وقول هي فين؟ قول اسم المستشفى وانا هروح اخدها من هناك على بيتها.
_هي في غيبوبة اصلاً ولسه مفاقتش.
هتف بها "معاذ" وأكمل ساخرًا:
_هتروح تاخدها بردو في حالتها دي؟
هز رأسه في جنون يصرخ في "شاهين":
_غيبوبة! انتَ عملت فيها إيه؟ مش هتبطل الاجرام اللي فيك ده، فاكر نفسك في غابة وبتاخد حقك بأيدك..لو حد ضايقك بس بتأذيه، رد هي فين... وانا هفضل جنبها لحد ما تفوق ومش عاوز المحك قريب منها.
ضحك ضحكة مستهزأه وهو يقول:
_ثقتك عجباني، بس مين بقى هينفذ الهبل ده؟ دي خطيبتي وهتبقى مراتي، يعني محدش هيكون جنبها غيري، وطرقنا بقى عشان مش وقتك.
_هتنفذ يا شاهين وإلا...
رفع "شاهين" سبابته يقول:
_ايوه، والا... وإلا ايه بقى؟
سأل الأخيرة في استخفاف واضح، فنظر له "مازن" بصمت لثواني قبل أن يحرر مسدسه الميري من حزامه وهو يوجهه له صارخًا فيه:
_وإلا هخلص عليك..
تحفز الجميع، ورفع الحرس أسلحتهم، ليشير لهم "شاهين" أن ينزلوها ففعلوا مرغمين، لكنهم ظلوا يتابعون متيقظين لأي حركة غادرة، واخرج "شاهين" سلاحه من وراء ظهره، فقط يريه ل "مازن" دون أن يرفعه وقال:
_مانا كمان اعرف اخلص عليك واسهل منك حتى...
وصمت لثواني، غامت عيناه بسحابة حزينة، ونظرة معاتبة تلوح في أفق بياض عينيهِ، وتحكم في نبرته وهو يقول:
_بترفع السلاح في وش اخوك!
شوف انا توقعت منك حاجات كتير لدرجة إني ما بقتش بتفاجئ باللي بتعمله بس مش هنكر إنك المرادي قدرت تفاجئني، يعني ما شاء الله كل مره بيطلع عندك حاجات جديده اوس* من اللي قبلها.
لم يهتز له جفن ولم تتخاذل يده المثبتة للسلاح في وجه الآخر، بل وأجاب بكل تبجح:
_ وهفاجئك اكتر لما افضي خزنته في دماغك ويا ريت ما تبقاش غبي وما تتوقعهاش مني.
وفي نفس اللحظه كان أحد حراس" شاهين" يسحب سلاحه المخفي خلف ظهره في اتجاه مازن الذي يعطيه جانبه، يسحبه مقررًا أن يضغط على زناده فورًا; لحمايه رب عمله، وبالفعل ما هي إلا ثانية واحدة وكانت رصاصة تنطلق مخترقه الفراغ، وصداها يتردد في اذان كل الواقفين وقد عرفت تجاهها الصحيح... فسكنت الجسد مدرجه الدماء....
صرخة قوية صدرت من "نورهان" التي خرجت للتو من باب الفيلا، مع صرخة أخرى خافتة خرجت من الحارس الذي أصابت الرصاصة ذراعه فألقى سلاحه أرضًا وامسك ذراعه بالآخر بوجع بعد أن اسنده زميله، وقال "شاهين" ببرود بعدما انزل سلاحه:
_خده عالجه... وحسابنا بعدين.
شعر بجسد "نورهان" يضم ذراعه بقوة خائفة، فأحاط جسدها بذراعه فورًا مرددًا:
_متخافيش يا حبيبتي مفيش حاجه.
والجميع وكأن على رؤوسهم الطير...
خاصًة "مازن" الذي لم يفهم تصرف "شاهين" أو يفهمه لكنه لا يريد الاعتراف، فحين رفع "شاهين" سلاحه ظن أنه سيضربه، وأن الطلقة موجهه له، ومن صدمته لم يتحرك ولم يتصرف، حتى فوجئ أنها ليست له، بل لحارس الآخر الذي أراد إنقاذ سيده فتلقى رصاصة بدلاً من ثناء!
_ليه؟
رددها ببهوت وكأنه غير واعي لقولها، ولكنها وصلت جيدًا لشاهين الذي أجاب بمرواغة:
_يوم ما احب اخلص منك هعملها بنفسي...
_كفاية...
صرخت بها "نورهان" وهي تخرج من حضن أخيها، وأكملت بانهيار حقيقي ودموع لا تتوقف:
_كفاية بقى.. انتوا إيه؟؟؟ ليه بتعملوا كده، انتَ مكنتش هتقتله...
قالتها موجهها حديثها لمازن وأكملت:
_كان تهديد أهبل لكن مكنتش هتعملها، وانتَ
ضربت الحارس عشان خوفت عليه مش عشان عاوز تقتله انتَ...كفاية بقى، كفاية تعاندوا، كفاية تبقوا زي الديابه في بعض وكل واحد بيتفنن يظهر كرهه وحقده للتاني ازاي...والله لو ما وقفتوا اللي بتعملوه ده لهسيبكوا انتوا الاتنين واغور في أي داهية بعيد عنكوا.. انا اعصابي مبقتش متحملة..
ولم يعلما أن تهديدها ليس مجرد تهديد في وقت غضب وأنها سترحل بالفعل!
وفي المستشفى....
فتحت عيناها ببطء، وهي تسمع أصوات متداخلة حولها لكنها لا تميزها، وبعد وقت استطاعت ان تفهم جملة قالها الطبيب:
_انتِ كويسة؟ أنسة فيروز؟
فسقطت دمعه من عينها اليمنى، وبداخلها تردد..
لقد نجوت..
مازلت على قيد الحياة..
لم يأخذني الموت على غفلة..
عدت للدنيا مرة أخرى... وطالما عدت لن اقع في أخطائي ثانيًة...
يكفي كذب،
يكفي خداع،
يكفي تلاعب،
يكفي بُعد عن والدتي...
ففي طرفة عين كدت لا أراها مرة أخرى..
فراشة في سكُ العقرب
ناهد خالد
الفصل التاسع عشر من الجزء الثاني
أمام فيلا شاهين المنشاوي...
"الأمر كان أشبه بخمود بركان بعد ثورانه, فلحظات الغضب مخيفة, وخطيرة كثوران البركان تمامًا, لا يمكنك توقع ما ستنتهي إليهِ الأمور, شد وجذب والنهاية مجهولة, إما هدوء إما خراب"
بعدما كان الأمر على أشده هدأ بفعل حديث "نورهان" وانهيارها الوشيك الذي أقلق أخويها, فحدق "مازن" ب "شاهين" بنظرة طويلة متوعدة, فلا يعني صمته الآن أنه صمت للأبد, بل يهدأ قليلاً حتى تمر العاصفة وللقتال بقية, وانسحب بعدها من المحيط بأكمله لتدلف بعدها "نورهان" للفيلا دون أن تلقي نظرة واحدة على "شاهين" فيبدو أنها بالفعل غاضبة!
-اهدى يا شاهين, هو شكله جاي يستفزك مش أكتر.
قالها "معاذ" ليعارضه "شاهين" قائلاً:
-لأ, مش استفزاز, هو فعلاً عاوز يعمل كده, واضح إنه حس بالذنب ناحيتها بأنه ورطها في مشاكل كانت هتضيع حياتها, فقرر زي ما دخلها يبعدها.
-وانتَ هتعمل إيه؟
نظر لها وأجاب بنبرة قاطعة:
-انا لما قررت اتجوزها طلعتها من حسبتي مع مازن, فمتتوقعش مني اجي دلوقتي اقولها اتفضلي امشي وارجعي لحياتك عشان البيه ميحسش بالذنب.
صمتا لثواني حتى قال "شاهين" محدثًا "مرسي":
-فهم رجالتك إن لو اتغابوا واتصرفوا من دماغهم مرة تانية هجيب رقابتهم, ورقابتك معاهم....
اقترب منه حتى أصبح أمامه تمامًا فهمس له بفحيح:
-مش اخو شاهين المنشاوي اللي يترفع عليه سلاح.. وفي بيتي! احمد ربنا إني هعديهالك المرادي, لكن لو كان حصله حاجة.. كنت اول واحد هتحصله.
وابتعد عنه متحركًا في طريقه, ليبتلع "مرسي" ريقه وهو يشعر بالخطر, إن وضعه "شاهين" في قائمته السوداء من كثرة أخطاءه لن يحمد العاقبة أبدًا, وعليهِ ألا يجازف بحياته.
-------------
وبداخل الفيلا..
سألت "مستكة" للمرة العاشرة:
-يعني هي كويسة ولا جرالها حاجة؟
تشدقت "سوسن" بعصبية:
-في إيه يا مستكة! ده المرة الألف اللي تسألي نفس السؤال, ما قولتلك احنا منعرفش بس بيقولوا بقت كويسة, بعدين مالك كده خايفة عليها ولا إيه! ولا خايفة على مصالحك معاها؟
توجست من حديث "سوسن" ويبدو أنها وضعت نفسها في مأزق من كثرة سؤالها حول وضعها الصحي:
-قصدك إيه بمصالح؟!
أجابتها "سوسن" بذكاء فطري:
-فكراني مش ملاحظة طلوعك ودخولك عليها, وكل حاجة تعوزها متطلبش غيرك...
شحب لونها قليلاً وهي تسمع حديثها وتتوقع أن القادم لن يعجبها, لكنها تنفست براحة حين أكملت الحمقاء:
-اكيد بتتدحلبي ليها عشان تشوفك بقرشين, وخايفة يجرالها حاجة ل الحنفية تقفل.
ابتسمت لها ببلاهة وهي تقول:
-اه... زي ما كانت الست شدوى بتشوفك أيام ما كانت لسه هنا عشان تكوني عصفورتها, لكن أنا فيروز هانم اخرها معايا تطلب انضف حاجه او ارتبلها الأوضة, شغل شريف يعني.
قالتها ساخرة وهي تنصرف من أمامها وقلبها يأكلها قلقًا على فيروز.
وقفت في مكان نائي في الحديقة بعيد عن الأعين وأخرجت هاتفها تطلب رقم "مازن", لم يجيبها من أول مرة, ورجحت أنه الآن لا يطيق أحد بعد ما حدث بينه وبين أخيه, فالجميع استمع لصوت العيار الناري, وحينها سمعت همس البعض بما حدث في الخارج, وفهمت الوضع, لكن على أي حال لابد من أن تحدثه, لابد أن يجد لها طريقة لتطمئن بنفسها على "فيروز", وبعد عدة محاولات فتح المكالمة وسمعت صوته يقول بعصبية:
-في إيه لكل الزن ده!؟
تجاهلت نبرته الغاضبة وقالت بجدية:
-مازن باشا انا عاوزه اطمن على فيروز, عاوزه اروح اشوفها.
-وانتِ هتروحي تشوفيها بصفتك إيه؟ بنت اختها! بطلي جنان انا مش ناقصك.
كان من الواضح أنه يقود سيارته, وأصوات الزمور ترتفع حوله, لكنها لم تأبه وهي تتجاهل سخريته:
-لا مش بنت اختها, بنت حتتها وصاحبتها, مينفعش ما اطمنش عليها في الوضع ده.
-وهتروحيلها ازاي يا ام عريف؟ يا ترى عندك خطة أو حجة لروحتك.
ردت بحيرة:
-معنديش, بس هفكر, انا قولت أقول لسعادتك يمكن تساعدني ادخلها من غير ما حد يعرف.
صمت لثواني كأنه يفكر ثم قال:
-ماشي, هظبطها عشان انا كمان محتاجك تشوفيها وتطمنيني عليها, بس اسمعي, عاوزك لما تروحي من الشغل تعدي على أم فيروز تعرفيها إنك مع فيروز في المكان اللي هي فيه, عاوزها تطمن عشان الست قلقانة جامد, ولو قالتلك تقوليلها تكلمك فهميها إنه صعب وإنها مش هتعرف تعمل ده اليومين دول.
-ماشي, مانا كنت عاوزه اطمنها من الأول واعرفها اني معاها بس انتَ اللي رفضت.
وضح موقفه:
-عشان لو كانت عرفت من بدري كانت هتدوشك وتوترنا بسؤالها عن فيروز وانها عاوزه تكلمها, ومش بعيد كانت تطلب منك تاخديها للمكان اللي هي فيه, لكن دلوقتي لازم تعرف عشان تهدى لأنها مش مطمنة, وكمان فيروز خلاص.. اول ما هتخرج من المستشفى انا هطلعها من كل ده, هرجعها لأمها وانهي كل العك ده.
عاتبته وهي تقول:
-دلوقتي عرفت إنه عك يا باشا! عرفت إن من الأول مكانش ينفع تدخل البت الغلبانة دي في حاجة, وإنها مهما عملت لا قدك ولا قده.
أتاها صوته يقول بنبرة شعرت بها نادمة:
-لما حسيت بالخطر وإنها كان ممكن تخسر حياتها فعلاً وانا ملحقتش اعمل لها حاجة لقيت نفسي مقدرش اتحمل ذنب موتها, ولا دعوة من أمها.
همهمت تقول وهي تتلفت حولها لتتأكد أن لا أحد يسمعها:
-سمعتهم بيقولوا انها مكانتش المقصودة من الطلقة, ده حد كان قاصد شاهين بس جت فيها.
استمعت لصوته المصدوم يسألها:
-انتِ متأكده من كلامك ده؟
-هم قالوا قدامي كده, واكيد يعني مش بيقولوا أي كلام, لأن واحد من الحرس هو اللي وصل الكلام لبت شغاله هنا.
-يعني شاهين مش هو اللي عمل فيها كده؟
رددها بصوت هامس, وكأنه يعيد ترتيبات عقله, وبعدها رفع صوته يخبرها:
-اقفلي دلوقتي, وبعد شغلك هكلمك تقابليني عشان تروحي تطمني عليها.
وأغلق معها المكالمة, ليتوقف بسيارته جانبًا, وعقله لا ينفك عن التفكير, وأكثر ما يخشاه أن يكون قد رفع سلاحه على أخيه باطلاً, فإن كان "شاهين" لا دخل له فما كان من حقه أن يفعل ما فعله ويذهب له ليهدده في عقر داره, يهدده! وهل كان من الممكن أن ينفذ تهديده ويقتله!
بالطبع لا, والسبب أنه ضابط شرطة لا يمكن أن يورط نفسه في جريمة منكرة كهذه, فقط؟ .... يبدو أن هذا فقط ما اقتنع بهِ عقله ولا يريد مواجهة نفسه بشيء آخر.
--------------------------
في المستشفى...
تهادت في خطواتها, ترتدي ثياب مُنكِرة, لا تناسب أبدًا قدومها لمستشفى ورؤية مريضة, فكانت ترتدي تنورة بنية جلدية تصل لقبل ركبتيها, وتلتصق بها حد التصاق الجلد باللحم, وكنزة بيضاء بدون أكمام فقط حمالات رفيعة تصل لحافة التنورة, وحذاء بكعب عالي أبيض, وحقيبة بنية, تسير بخيلاء حتى وصلت لغايتها, فاقتربت تحت ذهول الجالس على بُعد منها فوق أحد كراسي المكان.
-شاهين!
وصلت أمامه تبتسم في هدوء متقن وهي تسأله بسعادة تنضح بها مقلتيها:
-اخبار فيروز إيه؟ قولت اجي اطمن عليها... واجب بردو, مش عشنا تحت سقف واحد فترة.
حدق ثيابها من أسفل لأعلى باستنكار وتهكم واضحين, وعاد بنظره لها يجيب:
-كويسه... هتكون كويسه, اختفيتي وظهرتي لوحدك!
نفضت شعرها للخلف بدلال وأجابت في ثبات:
-انا مختفتش, انا بس بعدت, بعدت عشان جدي ما يرجعنيش معاه, لأني ست ناضجة وكبيرة كفاية عشان اختار المنطقة اللي اسكن فيها, ولما حسيت إن جدالي معاه مش هييجي بفايدة, خدت ابني وروحت سكنت في منطقة تناسبنا, وبدأت شغل اونلاين هيوفرلي دخل كويس جدًا... قولت استقل بنفسي واعتمد عليها, غِلط؟
هز رأسه بهزة بسيطة وقال بلامبالاة:
-لأ, بس كان المفروض تعرفيهم.
-اعرفهم, ولا اعرفك؟
سألته بنبرة خبيثة وكأنها اوقعته في فخ الحديث, لكنها ما حذرت إنه لا يقع ابدًا, فأجابها بما جعل داخلها يغلي كالمرجل:
-تعرفيهم, انا مبقاش يهمني اخبارك, وملكيش تعرفيني حاجة, وإن كان على تيم فانا كنت عارف مكانكوا, بس لأن الموضوع ميهمنيش مقولتش لحد ولا فكرت اقربلك.
اتسعت عيناها ذهولاً تردد بعدم تصديق وهي تجلس جواره:
-كنت عارف مكانا؟؟!
-اكيد مش بالغباء اللي صورلك إني مش عارف اوصلكم!
ظهر الحزن على ملامحها تجيبه بخفوت عكس عنفوانها السابق في الحديث:
-لا, بس كنت بقول مستحيل تكون عارف مكانا ومتجيش تشوفن... تشوف تيم.
-لا كنت عارف, وتيم وقت ما كنت هحب أجيبه لعندي أشوفه كنت هعمل كده.
"أجيبه لعندي أشوفه" لم تغفل أبدًا عن هذه الجملة والتي عاكست جملتها, إذًا يخبرها بكل وضوح أنه كان سيبتعد عن أي صدفة قد تجمعهما, حاولت الابتسام وهي تغير الموضوع بعدما لم تجد فائدة من الحديث فيه, بل بالعكس يقهرها أكثر:
-سيف وبابي كانوا عارفين مكاني, انتَ طلقتني وده حقك, وانا من حقي أعيش حياتي مكان ما حب وزي ما حب.
يبدو أنه ضجر من الحديث, فقال بهدوء وهي ينظر لباب غرفة العناية:
-اكيد.
ضغطت على أسنانها غاضبة, وقد بدأ غيظها يتصاعد وبالكاد تكبته, لاحظت أنظاره المعلقة بباب الغرفة, فقالت بحدة اتضحت في نبرتها:
-ما دام هي في العناية وجودك هنا ملوش لزوم.
نظر لها بجمود, فأكملت مبررة:
-يعني قعدتك وتذنيبك هنا وكمان شغلك اللي سايبه, ملوش داعي وجودك هنا, اكيد الدكاترة هيبلغوك لو في جديد.
سألها بنبرة جامدة أربكتها:
-ودي نصيحة منك ولا تدخل ملوش داعي.
تلجلجت في ردها وهي تقول:
-لا.. اكيد... اكيد يعني نصيحة.
-تمام, بس انا اكيد مش مستني نصيحتك, مش جيتي تطمني عشان الواجب! شكرًا على واجبك ونورتي.
اتسعت عيناها من فظاظته, هل يطردها؟ ولم تستطع التحكم في غضبها المشتعل وهي تقول:
-انا مش مصدقة بقى انتَ شاهين اللي اعرفه, للدرجادي مبقتش عاوز تكلمني ولا تقعد معايا!
نهض واقفًا يردد بنفاذ صبر:
-اعتقد ده لا وقته ولا مكانه, انا عندي مليون حاجة تانية اهم افكر فيها واشغل وقتي بيها.
-غيري..
قالتها وهي تنهض لتتحرك حتى وقفت قباله واكملت:
-عندك حاجات اهم من إنك تضيع وقتك معايا, تمام, انا غلطانه إني جيت اصلاً... انا مجتش عشانها, انا جيت عشانك, عشان اشوف حالتك, متأثر باللي حصلها ولا عادي.. بس اهو عينك منزلتش من على باب اوضتها وكأنك مستنيها تفتحه وتطلع, هي ازاي قدرتك توصلك كده؟ عملت إيه زياده عني عشان....
-شدوى! انزلي من على وداني, انا مش ناقص, متخليش غضبي كله يطلع فيكي.
وقد بدى فعلاً وكأنه على وشك أن تُتلف اعصابه ويُفلت زمام غضبه, وظهر هذا جليًا في نبرته التي ارتفعت وعروقه التي شُدت فظهرت في رقبته.
ابتلعت ريقها بتوجس, وهي تراه على هذه الحالة, يبدو أن جملة أخرى منها سيحدث ما لن تحمد عقباه, لذا فضلت الانسحاب وهي تلتقط حقيبتها من فوق الكرسي وتطرق الأرضية بكعب حذائها العالي مغادرة المكان في غضب واضح.
------------------------
"مش مسامحاك يا مازن على كل اللي بتعمله فينا, كل اللي وصلناله دلوقتي بسببك, كان زمانا زي أي اخوات طبيعيين كتفنا في كتف بعض بعد موت أهالينا, كان زمانا عايشين في بيت واحد وجنب بعض, لكن عِندك وراسك الناشفة بالأفكار اللي فيها هي اللي وصلتنا لكده, حتى لو اخوك مجرم, لحد ما تلاقي أدلة تسلمه فيها للمحكمة مكانش المفروض تبعد عنه ولا تعامله كأنه عدو, حتى أنا... عشان بس ما اخترت شاهين في مرة رغم إني كنت بختارك كل مرة, بعدت عني, وكأنك قطعت علاقتك بيا, ونسيت إني اختك, وكل ده ليه؟ مش لاقيالك سبب مقنع, وكأنك كنت بتتلكك عشان تعادي اخواتك, لو وصفتلك احساسي النهاردة وانتَ واقف في وش اخوك ورافع سلاحك عليه مش هتستوعبه, إحساس مميت, زي إحساس الابن لما يشوف ابوه وامه بيتخانقوا وبيبقى خايف لحد منهم يموت التاني, احساسه بيكون بشع وهو واقف مستني يشوف مين فيهم هيخلص على التاني, مشهد عمره ما بينساه, ومشهدكوا النهارده عمري ما هنساه, راجع نفسك... راجع نفسك يا مازن قبل ما تخسرنا بجد"
مسجل صوتي من شقيقته "نورهان" وصل له عبر تطبيق الواتساب, تعبر فيه عن مشاعرها تجاه كل ما يحدث, مسجل استمع له وظل يعيده لثلاث مرات, وكأنه يحاول إقناع عقله بحديثها, وفي الأخير, ألقى الهاتف على المكتب ووضع رأسه بين كفه والحيرة تنهش عقله, حتى دخل "مدحت" والذي سأله مستغربًا:
-مازن انتَ كويس؟
رفع رأسه له وكأنه طوق نجاته, رُبما إن تحدث معه يخفف عنه حيرته.
وبعد أن سرد له كل ما حدث حتى رسالة نورهان, ضرب "مدحت" كفًا بآخر منفعلاً وقال:
-انا بقف قدام افعالك وأقول سبحان الله, نفسي يا خي تقولي مبرر واحد لأفعالك, وسيبك بقى من جو اصله بيبيع سلاح أصله بيبيع زفت, حتى لو هو فعلاً كده, الطبيعي انتَ كأخ له تفضل علاقتك بيه كويسه أو حتى لو مش كويسه بس تبقى علاقة مسالمة, مش كلها عداوة, وبتنبش وراه عشان تسجنه.
-واجبي كضابط..
قاطعه "مدحت" موضحًا:
-واجبك كضابط لما يقع قدامك دليل يدينه تقدمه للمحكمة متتسترش عليه عشان اخوك, لكن مش تدور وراه وتعاديه, انتَ تاعب نفسك بنفسك يا مازن.
حرك رأسه رافضًا وهو يقول بانفعال:
-هو اللي تاعبني, هو اللي كسرني يوم ما خالف الصورة اللي كنت حاطه فيها, متلومش عليا لوم عليه هو.
-لا هلوم عليك, انا عرفت إن اخويا حرامي, يأما هفضل انصحه لحد ما يبعد عن الطريق ده, يا هاخد جنب منه بس بأدب واحط حد بيني وبينه في التعامل لحد برضو ما يبعد عن الطريق ده, ولو مبعدش وقت مايجيلي دليل عليه هسلمه, هعمل واجبي زي ما نتَ بتقول, انتَ بقى ليه حاطط نفسك في خانة إنك مُلزم تلاقي عليه دليل عشان تسلمه!
سأله مستنكرًا:
-يعني لو انا عارف إن حد حرامي اسيبه لحد الدليل ما يقع تحت ايدي؟ اسيبه يسرق ويعمل اللي عاوزه, ولا واجبي بيحتم عليا الاقي دليل ضده؟
-هو انتَ المفتش كرومبو! احنا شغلنا بيجيلنا بلاغ أو أدلة عن عمل مشبوه, بنتحرى ونقبض عليه, في جهات أمنية تانية شغلها تنخور ورا اللي عليهم شكوك, فخليك جوه نطاق شغلك احسن.
-انتَ جاي ليه؟
سأله بضيق حقيقي بعد أن حاصره في الحديث, ليقول "مدحت":
-ما دام معندكش رد, يبقى انتَ غلط, حتى مش عارف تقنع اللي قدامك بأنك صح, وانا مكنتش جاي اتملى في جمالك, انا جاي انقاشك في القضية اللي ماسكينها, ده لو دماغك فاضيلها يعني.
نظر له بغيظ محتقن من طريقته الفظة معه, وحدقه باشمئزاز موجهًا نظره بعدها للملف الذي أمامه وهو يسأله:
-وإيه بقى المناقشة العظيمة في القضية؟
-----------------------
-المريضة فاقت, والحمد لله عدت مرحلة الخطر.
قالها الطبيب ل "شاهين" الذي اندفع فورًا للغرفة بعد حديثه, دلف ليجدها نائمه على الفراش الأبيض متصل جسدها ببعض الأجهزة, وقناع الأكسجين موضوع فوق أنفها وفمها, سحب كرسي قريب من الفراش وجلس فوقه ينظر لملامحها التي بدى عليها الإرهاق, وسؤال واحد يتردد في ذهنه, كيف كان شعوره إن حدث لها مكروه؟
فرقت بين جفنيها وهي تشعر بدخول أحد للغرفة، لتجده هو، جلس على كرسي مجاور للفراش يبدو أنه جذبه من مكان ما، ينظر لها بطريقته التي توترها، لكن في حال كالذي فيه الآن لم تتوتر، فقط.. ارتبكت قليلاً! ولكن هذا لم يمنعها من القول بصوت مجهد بعدما أزالت قناع تنفسها:
_انا لسه عايشة.
لم يتبين هوية جملتها، هل هي إقرار أم سؤال! ولكنه ابتسم لها ابتسامة لطيفة يختصها بها لأول مرة، وتراها على محياه بفعل غريب عنه، فالابتسامة واللطف لا يظهران عليهِ في العادة، وسمعته يقول بنبرة غامضة لم تتبين مرحها من عدمه:
_فكرتي هتخلصي مني بالسرعة دي؟ لسه بدري.. ميبقاش نفسك قصير.
لم تعقب على سخافة حديثه من وجهة نظرها في موقف كهذا بعد عودتها من الموت، فهي لا تتفاجئ ابدًا بأي فعل أو حديث يصدر عنه.. فهكذا هو شاهين، لا يعرف تجميل الحديث ولا قول ما يناسب الموقف، فلم تنتظر منه جملة لطيفة يخبرها فيها بخوفه من فقدها او سعادته لنجاتها مثلاً!
وقالت بشرود وكأن عقلها بمكان آخر:
_أنا حلمت بيك...
قطب ما بين حاجبيهِ يسأله باستغراب:
_حلمتي بيا ازاي؟
أجابته مبتسمة بإرهاق:
-مش مهم, المهم إني فهمت.. حلم كنت مستنياه من زمان عشان يبينلي طريقي..
لم يفهم ما تقوله لكنه سأله:
-وبينلك؟
أومأت بأهدابها وهي تجيبه:
-ايوه, وعشان كده عاوزه أتكلم معاك في حاجة مهمة.
نظر لوضعها, وتنفسها العالي وقال:
-معتقدش ده وقته.
وبداخلها كانت تجيب بأنه أنسب وقت, فأولاً بحالتها هذه لن ينزل عقابه عليها, وثانيًا ودون قصد منها حمَلته جَميل ينبغي عليه رده.
-بالعكس, ده انسب وقت, اسمعني...
وتلقائيًا قبل أن تكمل حديثها سحبت كفها من كفه وكأنها تخشى أن يكسره بعد أن تدلي بحقيقتها..
-انا مسميش فيروز عادل الحديدي، ولا أعرف الشخص اللي كنا بنكلمه على النت، انا اسمي فيروز إبراهيم يسري, أمي عايشة, وابويا هو اللي مات من سنين, عايشين في شقة صغيرة أو يعتبر اوضتين فوق السطح, حالتنا صعبة, وناس على قد قدها, أمي بتطبخ للناس في العزايم الكبيرة, وانا.. انا ببيع فل في الإشارات, قابلت مازن في إشارة وعرض عليا وقتها خدمة قصادها 50 ألف جنية, خوفت... وقولتله مش موافقة, بس كنت خدت منه الفلوس واتسرقت, ووقتها هددني يا أوافق يا ارجع الفلوس يا هيحبسني ....
وأكملت باقي قصتها.. للنهاية, حتى أمس... ورد فعله غير واضح لها الآن, مبهم, كملامحه التي بدت وكأنه لم يسمعها, ولكن حين نظرت لعينيهِ علمت أنه سمعها جيدًا, وتبشر بالقلق! القلق حد الخطر...!
الفصل العشرون من الجزء الثاني
فراشة في سكّ العقرب
حب أعمى
ناهد خالد
"ليتك أرحت قلبي بالصراخ والغضب، ولم تصمت هكذا، فصمتك شتتني وأقلق قلبي، وقوع البلاء دائمًا أفضل من انتظاره، لكنك حرمتني من الراحة، وجعلتني انتظر.. انتظر متى سيكون عقابك لي، وكيف سيكون؟ وهل سأتحمله أم سيكون جحيم جديد لن يتركني سوا رمادًا، بوحت بالحقيقة لأريح عقلي وصمت أنتَ لتعذبه! لطالما كنت غامضًا، مريبًا، ولكني تمنيت لو أنك في هذه اللحظة فقط كنتُ إنسان طبيعي سمعَ فانفعل، وغضب فثار، ولم يتخذ الصمت المكروه ردًا"
انهت حديثها منذُ ثواني وهي الآن فقط تنظر له بتمعن، بنفس تمعن وكأنها تنتظره أن يطير! رأت في عينيهِ الغضب، والشر، والجمود، والآن لا ترى شيء! نظرات طبيعية جعلتها تشك أنها أوشت بالحقيقة بهمس لم يسمعه! أو بداخلها!
وحين نطق قال بنبرة هادئة تمامًا:
_كويس إنك بقيتي بخير، مبحبش حد يتأذي بسببي.. مرتاحة كده ولا اعدلك المخدة؟
_ها!
قالتها بتلقائية وهي تنظر له بأعين متسعة، وفاه فاغر كالبلهاء، لينهض مقتربًا منها يمد كفه خلفها ليرفع وسادتها قليلاً في وضع رأه سيكون مريح أكثر لها، فاقت من ذهولها على اقترابه المبالغ منها، ورائحة عطره التي ضربت أنفها بشدة هي من أيقظت مراكز الحس لديها، فتجمد جسدها وخفتت انفاسها من قربه، وبغباء كانت تمنع نفسها من التنفس من كثرة توترها، عدَل وسادتها وكان وجهه قريبًا منها جدًا فنظر لها وقد أصبحت عيناه قاسية وقال بابتسامة ليست في محلها ابدًا ولا تتلائم مع نظراته:
_مبعاقبش حد ضعيف، وانتِ دلوقتي في اضعف حالاتك، هعتبر نفسي مسمعتش حاجة لحد ما تقفي على رجلك.. وبعدها..
وترك جملته معلقة، تبًا، إنه يتلاعب بأعصابها، ومنعها للتنفس هذه المدة مع مرضها، جعلها تنفجر مرة واحدة في سُعال قوي أوجع مكان إصابتها.
سارع في جذب قناع الأكسجين يضعه فوق أنفها وفمها، وقد اربكته حالتها، وضعت كفها فوق صدرها موضع الإصابة وهي تشعر بألم غاشم بهِ، محاولة أن تلتقط انفاسها تحت القناع.
_اهدي... خدي نفس براحة.. اهدي.
ظل يردد كلماته لها وهي تلهث وكأنها خرجت من سباق للتو، أغمضت عيناها وسقطت دموعها بوجع لم تتحمله، وكل شيء يضغط عليها.. كل شيء.
قطب ما بين حاجبيهِ بضيق وهو يرى دموعها تجري فوق وجنتيها، فسألها بلهفة حقيقية:
_في ألم؟
ووضع كفه فوق كفها المسنود على صدرها يحدد موضع الألم، لم ترد، فقط اومأت برأسها، وانفجرت في بكاء لم تتحكم بهِ، أسرع في ضغط زِر الاغاثة، وحدثها بقلق وانفعال:
_بطلي عياط طيب.. انتِ كده بتوجعي نفسك اكتر وبتزودي الألم، اهدي وخدي نفسك..
لكنه كان يحدث ذاته، لم تستجيب لأي محاولات لتهدئتها، وكأنها كانت تنتظر هذه الفرصة لتبكي..
فُتح الباب لتدلف إحدى الممرضات تتسائل:
_خير في حاجة؟
نظر لها "شاهين" يخبرها:
_عاوزين دكتور هنا بسرعة، الجرح شادد عليها ومش متحملة الوجع.
_حاضر.
قالتها وانصرفت الممرضة فورًا تستدعي الطبيب، أعاد النظر لها بملامح مرتبكة، وهو يجهل تهدئتها، وسألها:
_انتِ بتعيطي ليه!؟ مش معقول كل العياط ده من الوجع!
لم تستطيع الرد عليهِ، ورُبما حتى وإن استطعت لن تجيب.
_فتحي عينك وبصيلي يا فيروز.
أمرها بنبرة صارمة، ففعلت! وجد مقلتيها عبارة عن تجمع دموي، وهذا يدل على أنها تبكي من قلبها، قطب ما بين حاجبيهِ مستغربًا وقال:
_هو إيه اللي حصل لده كله؟ ده انا حتى معملتلكيش حاجه!
حاولت إزاحة القناع بعد أن هدأت قليلاً لتتحدث، لكنه رفض ممسكًا بكفها وقال:
_متشليهوش، اصبري على نفسك لسه نفَسك مستقرش، الكلام مش هيطير.
دقة بسيطة تبعها دلوف الطبيب الذي قام بفحصها وبعدها قال:
_العياط مش من الوجع واضح أنها تحت ضغط نفسي بسبب اللي حصل، واكيد اجهدت نفسها في الكلام، لأن المحلول اصلاً فيه مسكن للجرح، ومينفعش تاخد مسكن تاني، لازم ترتاح وتبطل كلام ومتحاولش تشيل الأكسجين لحد ما حنا نقرر، أنا بلغت حضرتك إن كان في نزيف في القصبة الهوائية، وده هيخلي تنفسها الطبيعي صعب شوية.
_تمام، انا مكنتش اعرف ان ممنوع تشيل الماسك، بس خلاص مش هتشيله لحد ما نفسها يظبط.
_حضرتك انا سمحت بدخولك لها ووجودك معاها رغم أنه ممنوع، بس الخدمة اللي عملتها معايا الصبح تخليني استثنيك من الممنوع، بس يا ريت ده ميأثرش على حالتها ويخليها تتدهور لأنها مسؤوليتي.
هز "شاهين" رأسه متفهمًا وقال:
_اكيد هحرص على راحتها، لأنها تهمني..
وكأنه يبلغه رسالة واضحة، إن حرص على بقائها بخير هذا لأنها تهمه وليس لأنها مسؤولية الطبيب وسيُضر فيها، ولو كان "شاهين" في موقف غير الموقف، ولو كان عقله صافيًا، لأخبره بتبجحه أن يذهب هو ومسؤوليته وعمله للجحيم، فهذا آخر شيء قد يهمه، فلا يهمه سوى أن تكون بخير.
_حمد الله على سلامتك يا أنسه، ويا ريت تساعدينا إنك تكوني كويسة وتتعافي، وتلتزمي بالتعليمات اللي بنبهك ليها.
اومأت بأهدابها موافقة، لينسحب الطبيب من الغرفة بعدما أنهى عمله.
جلس على الكرسي مرة أخرى وغمغم:
_مش هتكلم معاكي لحد ما تكوني كويسة، لأن واضح ان كلامي بيقلقك، هفضل معاكي لحد...
قاطعته وهي تزيل القناع على غفلة منه، وقالت بصوت متعب:
_متعطلش نفسك.. انا مش محتاجة حد معايا، ولو مُصر، ممكن تجيب مستكة اللي شغالة عندك في البيت عشان تساعدني لو احتاجت حاجة.
مال بجسده عليها يلتقط القناع من كفها يعيد وضعه لها، وقال:
_هبعت اجبها عشان عارف إن في حاجات لازم هي اللي تساعدك فيها، لكن وجودي هنا من عدمه ملكيش فيه، اكيد مش عاوز امشي ومكسوف منك.
طاقتها أُنهكت، وهي من الأساس تشعر بحالها مازالت في صدمة مما حدث، كيف أصابتها الرصاصة! هي لم تكن تفديه بحياتها؟ هي ليست من هؤلاء الحمقى الذين يخسرون حياتهم لإنقاذ الآخرين، ولكن القدر لعب لعبته معها، رُبما تكن في صفها، لكنها رغمًا عنها، وإن كان الأمر باختيارها، وإن كانت تعلم أنها إن حاولت إنقاذه ستصيبها الرصاصة، ما كانت لتفعل ابدًا، كانت ستكتفي بمناداته وتنبيهه.. فقط.
--------------
اغلق "رأفت" المكالمة ليقول لنصر الجالس أمامه:
_لسه رجالته بتنبش، مش هيهدى غير لما يوصل للي عملها.
_بيوصلوا لحاجة؟
نفى برأسه مطمئنًا:
_لأ سادين كل الطرق في وشهم، بس عرفت حاجه حصلت غريبة بالنسبالي.
سأله "نصر" مستغربًا:
_حاجة إيه؟
_عرفت إن مازن عمران راح لشاهين بيه البيت ورفع مسدسه في وشه، وادخل حارس من حرس شاهين بيه بيحاول يصيب مازن بس شاهين بيه ضربه بالرصاص قبل ما يلحق، كان بيدافع عن أخوه اللي واقف رافع سلاحه عليه.
انتفض "نصر" من مجلسه يضرب المكتب بقبضته في غضب وقال:
_انا مش عارف هو ازاي ساكت لزفت ده، ازاي سايبه طايح فيه وكل مدى بيعك الدنيا وساكت! وانا لولا إنه رافض تدخلي والله كنت خليته يقعد في البيت زي الحريم ولا له لازمه.
_لو عاوز نقرص ودنه نعملها، وبردو شاهين بيه مش هيعرف خبر بيها.
صمت "نصر" يفكر حتى قال بعدما احتدت ملامحه:
_اعمله.. مانا مش هسيبه طايح في ابني كده لحد ما يأذيه.
_عُلم وينفذ يا باشا.
قالها "رأفت" بابتسامة ماكرة، يبدو أنه لا ينوي خيرًا! والصفعة ستكون شديدة!
--------------
_نورهان!
قالها "معاذ" الواقف أمام باب المستشفى وقد وصل للتو، ليراها تصعد درجات السلم الخارجي بجواره، نظرت له متوقفة، وابتسمت بخجل يلازمها فور رؤيته وقالت:
_انتَ كمان جيت!
ابتسم بنظرات لامعة وأجاب:
_ايوه، في شوية ورق لازم إمضة شاهين، جبتهم عشان يمضيهم.
_مبهدلك معاه شاهين.
قالتها بحرج، ليرد فورًا:
_ده اخويا، يعني مش علاقة صاحب شغل واللي شغال عنده.
عقبت بصدق:
_عمرك ما كنت حد شغال مع شاهين، حتى هو عمره ما قال كده عنك، هو بيعتبرك شريك نجاح، وصاحب عمره، الوحيد اللي فضلت معاه بعد ما الكل اتخلوا عنه، ودايمًا كنت بسأل نفسي ليه فضلت معاه كل السنين دي؟ ليه قاطعت مازن وغسان صحابك عشانه؟
ابتسم يجيبها:
_عشان انا الوحيد اللي شايف الصورة من بره، انا لا مازن ولا غسان، ولا عيشت موقف العداء اللي وصلهم لكده، انا شوفت الصورة من بعيد، فقدرت احدد كويس مين مظلوم ومين ظالم، وعشان كده فضلت مع شاهين.
لمعت عيناها تسأله بلهفة:
_يعني شاهين مظلوم منهم صح؟
_شاهين مأذاش حد فيهم، ولا هو بالصورة البشعة اللي هم شايفينه بيها... غِلط ولا لأ دي مش النقطة، النقطة في طريقة مواجهتهم له، محدش مبيغلطش، لكن مش من حقنا نعلق المشانق لبعض، شاهين معملش معاهم كده عشان هم كمان ينصبوله محكمة، ومازن واخد الموضوع على صدره اوي، ومتمادي، وعمال يعك، ولو واحد غير شاهين مش هامه الأخوة والله كان علمه الأدب، وردله القلم عشرة.
لاحظ تغير ملامحها فقال مسرعًا:
_انا اسف لو كلامي عنه ضايقك.. انا نسيت انه اخوكي وتزعلي عليه بردو..
تنهدت بحزن وقالت:
_ الاتنين خواتي يا معاذ، وكنت فاكره إن بعد موت بابا وماما هنكون عيله ضهرها في ضهر بعض، نسند بعض ونكون عزوه، لكن اللي حصل غير كده خالص، زي ما انتَ شايف فضلوا على نفس الوضع اللي كانوا عليه قبل ما يموتوا، وموتهم مغيرش أي حاجه.
زفر "معاذ" أنفاسه وقال:
_ ربنا يهدي.
_ يا رب.
أمنت على الدعاء مرة، وقلبها أمن ألف مرة، فلا تتمنى شيء في الحياه أكثر من امنيتها في أن يعود اخويها كما كانا، يعودان لسابق عهدهما، متحبان، وداعمان لبعضهما، تتمنى لو تغمض جفنيها وتفتحهما لتجد هذا الكابوس قد انتهى.
_ مش ناويه تتجوزي؟
سألها بسؤاله هكذا دون أي مقدمات وبطريقه فاجأتها، فنظرت له مبتسمه في ذهول واجابت:
_ هو حد يسأل السؤال ده فجأه كده وبالطريقه دي!؟
ابتسم في حرج وهو يتململ في وقفته وقال:
_ معاكي حق، بس هو سؤال شاغلني بقاله فترة يعني، وجه على بالي دلوقتي فقلت اسأله.
_وشاغلك ليه؟
رد بارتباك واضح:
_اا... ابدًا، بس يعني طبيعي استغرب واحده زيك ما شاء الله حلوه، ومن عيلة كويسه واخلاقها لا غبار عليها، يعني فيكي كل المقاومات اللي تخلي أي شاب يتجوزك، فاعتقد حاجه غريبه إنك تكوني لحد دلوقتي ما اخدتيش الخطوة دي إلا بقى لو متعقدة.
ضحكت بخفة مجيبة:
_ لا مش متعقدة ولا حاجه، بس الجواز مش كده، يعني احنا مش بنتجوز علشان بقينا في السن اللي لازم نتجوز فيه! احنا بنتجوز لما بنلاقي الشخص المناسب اللي حاسين إن هو ده اللي هينفع نكمل معاه حياتنا! وأنا لحد الآن ما لقيتش الشخص ده عشان كده لسه ما اخدتش الخطوة دي الإجابه بسيطة.
_مش يمكن يكون قريب منك وانتِ مش واخده بالك!؟
قالها بتلقائيه فور أن انتهت من حديثها، وما إن حاول تعديل جملته بعدما أدرك ما تفوه بهِ كانت هي تقاطعه قائله بابتسامه عابثة:
_ والله انا مش هاخد بالي مني لنفسي، يعني المفروض الشخص ده يتلحلح يشاور... ينادي.. يعمل أي منظر.
وانهت حديثها متحركه من أمامه فورًا، وهو ما زال يحاول استيعاب جملتها الأخيرة! ما بهِ أصبح غبيًا، بطيء الفهم في الفترة الأخيرة؟
------------
_شاهين متزعلش مني، انا والله ماقصدتش اضايقك بكلامي بس...
قاطعها وهو واقفًا معها أمام غرفة "فيروز" وقال وهو يربط بكفه على وجنتها:
_ بس يا عبيطه ازعل منك إيه! بالعكس كلامك زعلني من نفسي، وضحلي إني للأسف مش عارف اوفرلك الأمان والحياة اللي انتِ عاوزاها ومحتاجاها، بس انتِ أكيد شايفه وعارفه إن غصب عني، يعني لو انا اتغاضيت عن اللي اخوكِ عملوا زمان وسامحته عشانك هو مش هيعمل كده، وهنفضل في الحرب دي طول ما هو متمسك بافكاره ومُصر عليها.
احتضنت كفه تقول:
_ ما تقولش كده انتَ بتعمل كل اللي تقدر عليه عشان ما تزعلنيش وتكون جنبي، ما تلومش نفسك على حاجه يا شاهين، ما حدش بيقدر يعدل الكون لوحده، وأي علاقه علشان تتصلح لازم يكون الطرف التاني عاوز كده، انا قلت اجيلك النهارده عشان مقدرتش استنى لحد ما تيجي البيت خوفت تكون زعلان مني.
احتضن رأسها لكتفه فضمت جسدها لحضنه ومسد على ظهرها بحنانه المعهود عليها، وقال بلطف:
_قولتلك انتِ الوحيدة اللي عمري مقدر ازعل منها.
_ربنا يديمك ليا يا حبيبي.
غمغمت بها قبل أن تبتعد عنه وهي تسأله:
_ طمني فيروز عامله ايه النهارده؟
_ كويسه متقلقيش، كان بس في شوية تعب في أول اليوم بس دلوقتي الدنيا تمام، وكلمت مرسي هيبعت مستكة هتقعد معاها عشان لو احتاجت حاجه تعملهالها.
قالت بتقدير:
_ اللي عملته فيروز لو قعدت عمري كله اشكرها عليه مش هيكفي، انا مش قادره اتخيل إن كان ممكن يجرالك حاجة بعد الشر، شاهين هو مازن ملوش علاقة بالموضوع صح؟
قالت جملتها الأخيره بقلق واضح تخشى أن يكون شقيقها متورط في هذا الأمر، الذي لن تتقبله ابدًا، لكن هدأت حين قال "شاهين" نافيًا بجدية:
_ اكيد لأ يا نورهان، إيه اللي انتِ بتقوليه ده!؟ الموضوع مش هيوصل للدرجادي يعني، وبعدين حتى تهويشه عليا في البيت انتِ نفسك قلتي أنه مكانش هيعمل حاجه.
_ اه قلت كده، بس ساعات بخاف، مازن بقى شخص غريب عني حاسه انه مش اخويا اللي عشت معاه سنين عمري، بخاف شيطانه يلعب بيه ويخليه يعمل حاجه هو نفسه يرجع بعد كده يندم عليها العمر كله.
_ متقلقيش مش هتوصل بيه للدرجادي.
_ ربنا يستر، طب انا ممكن افضل مع فيروز ما فيش داعي تبعت تجيب مستكه.
صمت لثواني حائرًا ثم قال:
_ مش عارف بس حاسس أنها هتكون مرتاحه أكتر لو بعت جبتلها البنت دي، يعني هي ممكن تتحرج مِنك أو تستتقل إنك تفضلي قاعده معاها، خليني ابعت اجيبها لها أحسن واصلاً الدكتور بيقول يومين وهتقدر تخرج.
اومأت قائلة:
_خلاص اللي تشوفه.. وعلى فكرة الفستان وصل الصبح قبل ما جي.
تغيرت ملامحه فور أن ذكرته بفستان عقد القران الذي اختاره لها عبر الموقع وقد وصل في موعده، فالمفترض أن اليوم هو يوم عقد القران، لكنه رُبما لم يكن عليهِ الوصول ابدًا!!
_ ان شاء الله أول ما تقوم بالسلامة تكتبوا الكتاب، أنا خليت صفاء تطلعه دولابها.
اومأ برأسه دون تعليق حتى رأى "معاذ" يقبل عليهِ من بعيد.
-----------
"شاهين بعت ياخدني المستشفى بيقول إني هقعد مع فُلة واعتني بيها، مفيش داعي تعمل حاجه"
رسالة بعثت بها ل "مازن"، وقد شعرت بالراحة لأن ما ارادته أتى لها على طبق من ذهب، شاكرة "فيروز" في سرها، فبالتأكيد هي من اقترحت فكرة ذهابها لها.
طلبت رقم "مجد" ليأتيها الرد بعد قليل..
_عاملة إيه؟
_الحمد لله، انتَ خلصت شغلك؟
_ايوه خلصت ورايح البيت، انتِ فين كده في صوت عربيات حواليكي؟
نظرت من نافذة السيارة التابعة لسيارات شاهين و التي توصلها للمستشفى، وقالت:
_الناس اللي بشتغل عندهم بنتهم تعبت وراحت المستشفى، وطلباني بالأسم اقعد معاها لتحتاج حاجه.
_بس ده مش من شغلك!
قالها رافضًا الفكرة فقالت:
_ أنا عارفه إن ده مش شغلي، بس أصل أنا بعزها وعمرها ما عاملتني إني واحده شغاله عندها، فأنا بصراحه من نفسي ومن غير هي ماتطلب مش عايزه اسيبها في محنة زي دي، قلت اروح اقعد معاها، وبيقولوا انها ممكن تخرج بكره أو بعده بالكتير.
_ يعني انتِ هتقعدي معاها يومين في المستشفى؟
سألها مستنكرًا، فأجابت:
_ايوه، مهو مش جدعنه بردو اسيبها في موقف زي ده، وهي يا عيني ابوها وامها ميتين وعايشه هي واخوها لوحدهم في البيت، واكيد اخوها الراجل مش هيسيب شغله ويقعد معاها، ومش هيعرف يعملها اللي هي عاوزه هتتحرج منه، لكن احنا بنات زي بعض.
استمعت لزفره أتت منه ثم قال:
_ تمام اللي انتِ شايفاه، في الآخر أنا لسه ما ليش كلمة عليكِ.
_ يعني لو لك كلمة عليا كنت هتقولي ما اروحش؟ وبعدين أنا مكلماك عشان أعرفك الأول، يعني تهمني كلمتك، ولو قلتلي ما تروحيش مش هروح، أنا عمري ما هعمل حاجه انتَ مش عاوزها.
يبدو أن حديثها جعله يهدأ، فصمت قليلاً وبعدها قال:
_ لا مش هقولك ما تروحيش مدام زي ما انتِ بتقولي البنت لوحدها، بس خلي بالك من نفسك ولو أي حاجه حصلت تكلميني.
وهل يطير الإنسان فرحًا ببضع كلمات! قلبها يدق صخبًا وهي تشعر باهتمامه، وابتسامتها ارتسمت وهي تلتمس نبرته الهادئة، فقالت بهيام:
_ابقى طُل على ابويا لو مش هتعبك، وكُل كويس لحد ما ارجع اعملك صينية الفطار المتين.
_متقلقيش عليه هروحله كل شوية وهخلي ابويا يروح يقعد معاه اليومين دول لاحسن يتعب فجأه وهو لوحده، هستنى صنيتك لما ترجعي، بيبقى طعمها غير.
وأغلقت المكالمة بأعين لامعة، ووجه متورد، وقلب ينبض راحة وفرحًا، وكأنه أخبرها أنه يحبها!
_________
_مستكة!
ركضت تجاهها مستغله فراغ الغرفة من الزائرين، حتى وصلت لها فالتقطت كفها تربط عليه بقلق واضح وهي تقول:
_ طمنيني عليكِ انتِ كويسه؟
_ انا كويسه.
عاتبتها تقول بهمس:
_ حرام عليكِ وقعتِ قلبي يا شيخة، انتِ إيه اللي هبلك وخلاكِ تقفي قدام الرصاصة أنا سمعت منهم إنك فاديتيه، هو انتِ عايشه في فيلم الطريق الى ايلات بروح امك! فاكره نفسك بتضحي عشان الوطن.
ضحكت "فيروز" ضحكة صغيرة على جملتها وقالت متغاضية حديثها:
_ أنا قلت لشاهين على كل حاجه، هو دلوقتي عارف الحقيقة، حقيقة فيروز بياعة الفل.
جحظت عيني "مستكة" حتى كادت تخرج من مقلتيها غير مصدقة أنها صارحته بالفعل!
___________
رنين هاتفه هو ما جعله يخرج من الغرفه ليجيب المكالمة، ضغط زر الإجابه رافعًا الهاتف على أذنه يقول بنبرة جامدة:
_ خير دي تاني مرة تتصلي.
أتاه الصوت على الجهة الأخرى يقول:
_ مجيتش الشركه النهارده وما اعرفش عنك حاجه من امبارح وقلقت، سألت عليك معاذ مرضيش يقول حاجه، كل اللي قاله إن فيه حد من طرفك تعبان وانتَ معاه في المستشفى.
_ ما معاذ قام بالواجب ورد عليكِ اهو، اومال بتتصلي ليه؟
اجابته في غيظ:
_ عشان عاوزه اطمن عليك وعاوزه اعرف مين اللي في المستشفى؟
_ وتعرفي ليه هتيجي تزوريه؟
قالها بسخرية فأجابته بتحدي:
_ وإيه المانع لما اجي ازوره؟ لو حد يهمك فعلاً مجيش ليه؟
سألها ساخرًا:
_ وهتيجي بقى بصفتك إيه؟
اجابته في ثبات:
_ بصفتي مراتك يا شاهين!!
الفصل الحادي والعشرون من الجزء الثاني
فراشة في سُكّ العقرب
حب أعمى
ناهد خالد
"الإعجاب مفهوم غير مفهوم! يحدث أحيانًا بدون سبب مقنع، تسأل نفسك سؤال واضح ما الذي أعجبني في هذا الشخص؟ ما الذي جذبني له؟ والإجابة لا تكن بنفس الوضوح أبدًا.. قيل أنك حين تجيب (بلا أعلم) معناها أنك أُعجبت بهِ بقلبك لا بعقلك ولا بعينيكَ، وفي الأغلب هذا الإعجاب يدوم ويتحول لمشاعر أنبل وأصدق"
بعد مرور يومين...
ليت الوقت يمر بسرعة السهم الذي خرج من بيته، ليت الطريق يقصر بقصر المسافة بين عُش الطائر والشجرة! فوضعها الآن يكاد يقتلها خجلاً وحرجًا وتوترًا! وهي محمولة هكذا بين ذراعيهِ بعدما رفضت ألف مرة لكنه لم يسمع لها، وحملها تحت محاولتها للتحرك والابتعاد رغم تعبها، فهدر بها في قوة وحدة جمدتها مكانها فجعلته يرفعها بين ذراعيهِ بسرعة البرق، قضمت شفتيها حتى كادت تدميها، تبًا إنها تشعر بدقات قلبه الهادرة تحت أذنها اليمنى! وعبق رائحتة ملأ رئتيها، ولكنها وعلى أي حال نُبل يُحسب له، فلم يريد أن يرهقها في صعود الدرج بصحبة الخدم.
وصل لغرفتها وكانت الخادمة تسبقه ففتحت الباب ودلف هو بها، اقترب من السرير فوضعها فوقه في حرص، وابتعد قليلاً بعدما حررها وهو يسألها:
_مرتاحة؟ في حاجة وجعتك؟
يا الله قلبها كنبض الحمامة التي ذُبحت للتو، دقاته السريعة هي حقًا ما تؤلمها، عيناه القريبة منها لهذا الحد هي ما تخرسها عن الإجابة الآن، من هنا تستطيع تحديد لون عينيهِ،إنها رمادية مخلوطة باللون الأزرق الفاتح وبها لمحة زيتونية.. تقريبًا! مزيج رائع سبحان من شَكله، لكنها تخطف.. تجعلك تغوص فيها غير قادرًا على النجاة!
وليتها تعلم أن عيناها السوداء فعلت المثل معه! ورغم قتامة اللون وأنه ليس مميزًا ابدًا، لكنه يجذب.. يجذب للحد الذي يجعلك تريد النظر له! شعر وكأنه يحتضن السماء ليلاً، بقتامتها ولمعانها الطفيف أحيانًا، ووسع عيناها جعله يشعر بأنه وقع في بحر مليء بالأسماك خلابة الشكل، جميلة المنظر، ولكنه وقع في عتمة الليل، فلا يرى جمالها كاملاً لكنه يلمحه بلمحات خاطفة كلما تمر سمكة مضيئة مثلاً!
_أنسة فيروز عندك ميعاد دوا.
صوت الممرضة هو ما جعلهما يفيقان من سحر الثواني القليلة، فتراجع "شاهين" للخلف وهو يقول بنبرته المتزنة:
_لو احتاجتِ أي حاجة بلغي صفاء بيها، ونورهان كمان هتكون معاكي هي بس راحت شغلها النهاردة هتخلص شوية ورق وترجع.
_هي مستكة فين؟
سألته بقلق حين لاحظت أنها لم تراها منذُ خرجت من المستشفى، فأجابها في هدوء:
_روحت... كفاية قعدتها يومين معاكي في المستشفى، هتشوف اهلها وترجع بكره في مواعيد شغلها.
اومأت برأسها وقد انتابها حزن حقيقي لذهابها، لا تشعر أنها ترتاح وتطمئن إلا بوجودها.
-ليه مقولتيش الحقيقة للضابط لما سألك؟
سألها بغتًة، فنظرت له وابتسمت وهي ترى الحيرة تزين وجهه لأول مرة، وأجابت:
_يمكن انتَ متكنش حابب ده، قولت اسيبلك انتَ الموضوع لو عاوز تقول حاجه قولها مش عاوز خلاص.
_يعني مش عاوزه الشرطة تجبلك حق دمك اللي اتصفى ده؟
سألها قاطبًا ما بين حاجبيهِ في استغراب وانتظار لإجابتها، فردت بصدق وما شعرت بهِ في هذه اللحظة وأتى على لسانها:
_لو الحكومة مجابتش حقي اكيد انتَ هتجيبه، متأكده إنك مش هتسكت غير لما تجيبه...
وحقيقًة لا تعلم من أين لها هذه الثقة! هي فقط قالت ما شعرت بهِ، وتوجست من رده لكنها شعرت بالراحة حين فُكت تقطيبة وجهه، واومأ برأسه دون رد وذهب.
التفت للممرضة التي أتت معها لتساعدها حتى تسترد كامل عفيتها وقالت بحدة حين لاحظت تركيزها في الاحداث الدائرة أمامها:
_هاتي الدوا.
____________
اتجهت مسرعة تلتقط حجابها وهي تقول بلهفة:
-يلا, هاجي معاكي وتخليني اشوفها, وكمان اشوف البيه اللي هي عنده واحكيله كل حاجة واترجاه يرجعلي بنتي.
التقطت "مستكة" ذراعها وهي تقول:
-استهدي بالله بس مش هينفع, مش هينفع خالص تروحي, انتِ فاكره إنك لو اترجتيه هيرجعها؟ ابدًا انتِ كده بتأذيها.
انفعلت صارخة وهي تنفض ذراعها من قبضتها:
-ولما اقعد هنا واسيب بنتي هناك ربنا يعلم بيها ابقى مبأذيهاش! انا بندم على اليوم اللي سبتها تروح فيه, كنا اتصرفنا ان شاء الله حتى نهج ونشوف مكان تاني, بس مبعتهاش لراجل غريب!
لطمت وجهها بكفيها وكأنه للتو استوعبت الكارثة:
-يالهوي! سبتها تروح تقعد في بيت راجل غريب, دي الأمانة اللي سبهالي ابوها! انا ضيعت الأمانة, لما اقابله أقوله إيه؟ اعمل إيه بس يا ناس.
قالت "مستكة" في محاولة لتهدئتها:
-اهدي.. اهدي بس مانا قولتلك إني معاها عشان اطمنك, والله شاهين ماقربلها ولا أذاها بأي طريقه, معملهاش أي حاجة, ولو كان حصل غير كده كنت قلبت الدنيا, انا ساكتة عشان شايفة إن ربنا معديها على خير, وماتقلقيش والله لو حصل حاجه لهبلغك.
وبالكاد استطاعت السيطرة عليها, ومنعها من الذهاب لابنتها.
-----------
دقات فوق الباب أذنت فيها للزائر بالدخول, فدخل مبتسمًا يلقي تحية الصباح, فابتسمت تلقائيًا ترد تحيته, ودعته للجلوس فجلس أمامها يقول:
-قولت اعدي عليكي قبل ما اروح الشغل مادام شغلك جه في طريقي, اطمن, متقابلناش بقالنا كام يوم.
ابتسمت ترد:
-متقابلناش بسببك, معرفش كنت مشغول في إيه الفترة اللي فاتت كل ما اكلمك الاقيك مش في المود.
شرد فيما كان يؤرقه الفترة السابقة, ولم يكن سوى "فيروز" وأحوالها, فكاد يجن جنونه بعدما خرجت من المستشفى على منزل غريمه مرة أخرى, وكـأن "شاهين" يتحداه, يتحداه أن يقف في وجهه ويأخذها منهُ, وبالفعل هو لم يقدر, بل بقى هكذا, يأكل في ذاته ويشيط غضبًا, والحل لا يجده, هل سيقتحم بيته ويأخذها عنوة! بأي صفة؟ هل يبعث لها بوالدتها لتفتعل مشكلة لتأخذها, ماذا إن سبب للمرأة أذى؟ هو لا يضمن ردود أفعال غريمه, ولا يضمن تصرفه إن ذهبت المرأة لأخذ ابنتها, هل سيهددها بألا تقترب من منزله ثانيًة؟ أم سيحتجزها معها؟ وكلا الخيارين يمكن أن يفعلهما.
-مازن! روحت فين؟
قالتها "ليلى" بتنبيه فنظر لها وقد فاق من شروده وقال:
-لا تمام معاكي.
وقبل أن يُكمل حديثه فُتح الباب ودلفت فتاة تقاربها في العمر تحمل "إياد" وهي تقول:
-خدي يا ستي ابنك عمال يقطعلي ورق الشغل.
نهضت "ليلى" تأخذ ابنها تقبله في حنان وهي تقول:
-معلش بقى هو في فترة اكتشاف, فبيحب يكتشف الأشياء.
ابتسمت لها الفتاة تقول:
_لا ابدًا ولا يهمك، انا بس قولت اجيبه قبل ما يخلص على ورق المكتب.
تبادلا بعض الأحاديث المجاملة، وخرجت الفتاة لتقول "ليلى" ناظرة لابنها تعاتبه وكأنه شاب كبير:
_ينفع كده يا إياد! من أول يوم شغل في المكتب تحرجني مع الزُملا؟
_عاملة إيه في شغلك؟
سألها "مازن" وأتبع سؤاله باهتمام يكمل:
_مرتاحة؟
هزت رأسها بهزة بسيطة غالبًا معناها أنها لا تعلم وقالت:
_لسه اول يوم ليا النهاردة اكيد مش هعرف بسرعة كده، بس يعني الناس اللي اتعاملت معاهم لدلوقتي لُذاذ، فربنا يستر.
_إن شاء الله خير، ولو احتاجتِ أي حاجة أنا جنبك.. قريب منك اهو كلميني و١٠ دقايق هتلاقيني هنا.
اومأت برأسها بامتنان، ثم سألته بتذكر:
_مقولتليش إيه كان شاغلك امبارح؟
_حوارات بيني وبين شاهين.
رددها باقتضاب فرفعت حاجبها تسأله:
_ويا ترى مين بدأها؟ طبعًا انتَ!
نهض بغتًة يتجه لها وحمل عنها "إياد" يقول بابتسامة باردة:
_هاخده معايا عشان تركزي في شغلك، كده كده معنديش شغل كتير النهاردة لحد ما تخلصي.
علمت أنه يهرب منها، ولا يريد الحديث في الأمر، ولكنها لا يمكنها محاصرته، فأبسط شيء سيفعله إن فعلت سيغضب ويقلب النقاش مشاجرة، لذا تجنبت هي الأخرى استكمال الحديث في الأمر وقالت:
_هتاخده ازاي؟ هو ده ينفع؟
حمله بحرص وهو يجيبها:
_اه عادي... وقت ما تخلصي رني عليا وانا اجيبه واجيلك.
_عادي انا هعدي اخده.
قالتها بتلقائية، لينظر لها بملامح جامدة وردد:
_هتدخلي قسم الشرطة!
وقد وعت في لحظتها عما اقترحت فعله، فصمتت، وقال هو بحدة بينما يتجه للخارج:
_ابقي رنيلي..
خرج وتبعته بأنظارها حتى اختفى، وعقلها يتسائل، متى كان "مازن" لطيفًا لهذا الحد؟ لطالما رأته الشاب الطايش، المتهور، والذي لا يهمه أحد سوى نفسه، طوال فترة ارتباطها بشاهين لم تكن تحبذ ابدًا التعامل مع مازن، هكذا ودون أي سبب، لتثبت حقيقة أن الناس قبول! ولكنها حاليًا بدأت تكتشفه من جديد، ليُثبت لها أن الإنسان لا يُعرف إلا بعد المعاشرة.
----------
ابتسمت وهي تجده منكبًا على أحد السيارت يعمل بها غير منتبهًا لدلوفها الورشة، تنحنحت بخفة وهي تسند صينية الطعام جانبًا، فرفع رأسه لها وقال باندهاش فور رؤيتها:
_جيتي امتى؟
ضحكت وهي تجيبه:
_لو قصدك على الورشة فلسه داخلة، ولو قصدك على الحتة فجيت من الصبح، وهرجع بكره.
مسح كف يده في قماشة قديمة وسألها:
_هترجعي إيه؟ في مواعيد شغلك ولا هتفضلي هناك؟
_لأ في مواعيد شغلي عادي، مانا قولتلك امبارح أنها طلعت من المستشفى وخلاص مابقوش محتاجني.
_شامم ريحة حلوة!
قالها وهو يستنشق الهواء بأنفه، لتتسع ابتسامتها تقول:
_قولت انوع، فعملتلك بيض مقلي بالسمنة البلدي، وطبق فول حار، وقليت بطاطس وبتنجان.
رفع حاجبيهِ في دهشة وهو ينظر لصينية الطعام التي كشفت غطائها أثناء حديثها، وابتلع ريقه بشهية ونظر لها وقال:
_انتِ ليه بتعامليني على اني خمسة في بعض! إيه كل الأكل ده؟ ودايمًا بتجيبي اكل زيادة.
_اصل يعني انتَ في الورشة ممكن تجوع باقي اليوم، مش شرط تاكل كله في الفطار، بس ممكن تجوع بعد ساعة ولا اتنين تنقنق فيهم بقى.
_يعني عاملة حساب فطاري ونقنقتي كمان! ده كتر خيرك والله.
_حاجة بسيطة.
غمغمت بها وهي تتلاعب في أطراف فستانها البني بوروده البيضاء المنفوشة، وصمتا وحين طال الصمت وشعرت أن لا حديث آخر يُقال تمتمت بحرج:
_طيب همشي أنا.
_تمام، شكرًا على الأكل، بس بلاش كل يوم تكلفي نفسك كده.
وما كادت أن تقاطعه حتى قال بنبره صارمة:
_اسمعي الكلام يا أمل، انا مش هبقى مرتاح كده، وكل واحد فينا ربنا عالم بظروفه، فبلاش نحمل على بعض.
_أول مرة تقولي أمل.
قالتها بابتسامة صافية، ليجيبها محافظًا على جمود ملامحه:
_مش حاسس اسم مستكة، بحسه بيضايقني، وبعدين انتِ اسمك أمل مش مستكة.
_أنا كمان بحب أمل أكتر بس الناس اللي طلعوا عليا مستكة، ومن وقتها مبقتش اسمع حد بينادي بأمل غير بابا.
_لا متقلقيش، انا مش هناديكِ غير بيه، ويبقى انا والحاج.
ابتسمت له بقبول والقت تحية السلام خارجه من الورشة، وقلبها مطمئن، يحدثها أنه بدأ يعتادها، يتقبلها، ويحب وجودها، وقريبًا لربما يحبها هي.
------------
للمرة الثانية تتصادف معه، وكأن القدر بات يرتب لقائهما، حركت رأسها بمرح وهي تقول:
_مش كل ما امشي في حتة اخبط فيك؟
ابتسم "معاذ" ورد:
_طب دي أحلى حاجة، حتى رجعتِ لطبيعتك معايا اهو ونسيتِ الكسوف اللي كنتِ فيه.
تنحنحت تبرر:
_مش حكاية كسوف.. بس فضلنا فترة مبنتقابلش وبعدنا، فكان طبيعي عدم التأقلم.
التمعت عيناه بالحنين وهو يعاتبها:
_عدم تأقلم إيه بس! يعني تنسي معاذ اللي كنتوا طول الوقت ناقر ونقير، وكل ما جي مع اخواتك البيت لازم نمسك في خناق بعض.
_ماهم بيقولوا الخناق محبة.
قالتها بتلقائية وبعدها وفور أن أدركتها تلون وجهها بحمرة الخجل، وقبل أن تصلح ما تفوهت بهِ كان هو كعادته يوقفها:
_فعلاً ما كل ده كان محبة.
نظرت له بأعين متأملة، تتأمل أن ينطق ويريح قلبها، لو أنه تزوج لكانت علمت انها لم تشغل باله يومًا، لو أنها سمعت فقط بارتباطه بفتاة لأدركت ألا تعلق نفسها وقلبها بهِ، لكنه لم يفعل أيًا من هذا، ولم يعبر لها عن إعجابه بها حتى! هو واقف في المنتصف بالنسبة لها، وأكثر ما تكرهه ويرهقها هو منتصف الأشياء.
_فعلاً، ده انتَ حتى بقيت في معزِة مازن وشاهين.
_مازن وشاهين!
رددها مشدوهًا، وقطب ما بين حاجبيهِ ناقمًا يسألها:
_انتِ بجد بتشوفيني في معزِة شاهين!؟
ردت بخبث وعيناها يظهر بهما مكر لم يدركه:
_اومال المفروض اشوفك ازاي!؟
_اصل انا مش شايفك في معزِة اختي.
قالها منفعلاً، لتخفي بسمتها وهي تسأله وقد شعرت بقرب منالها:
_اومال شايفني إيه؟
_معاذ انتوا واقفين بتعملوا إيه؟
صدح صوت "شاهين" من خلفها مقاطعًا أهم لحظة في حياتها، لتطبق جفنيها بانفعال وهي تسب في داخلها حظها البائس، فتحت جفنيها حين صدح صوت "معاذ" يجاوبه:
_ابدًا قابلتها وهي خارجة من الشركة.
_تمام، انا همشي عشان ميعاد الغدا، يلا يا نورهان.
ابتسمت باقتضاب وهي تتبعه، وظل "معاذ" ينظر لهما وداخله يردد
"يعني كان وقته تيجي يا شاهين! يمكن كنت نطقت!"
ويبدو أن حظه هو الآخر أبئس منها!
-------------
وفي سيارة شاهين...
_مكلمتيش أخوكِ تاني؟
سألها وهو ينظر من نافذة سيارته للخارج في هدوء جعلها تشك أنه لم ينطق، بل هي تتوهم! وعلى أي حال أجابت:
_لأ.
زفر أنفاسه يضيق وردد:
_مش عاجبني وضعكوا كده، ومكنتش احب يكون ليا أي دخل في الموضوع.
_اوعا تكون فاكر إن اللي احنا فيه بسبب خناقتي معاه يوم المستشفى! لا يا شاهين، خناقتي معاه كانت جاية جاية بس جت في الموقف ده، متشيلش هم، وسيبها للظروف.
لوى فمه ساخرًا وقال:
_اللي يسمعك يقول طلعتيه من دماغك، لكن انا عارف إنك طول الوقت زعلانة ومهمومة بسببه.
ابتلعت ريقها بمرارة وأجابته:
_تعرف.. انا بعتله رسالة بعد اللي حصل، وشافها ومردش، رغم أنها رسالة تخيلت إنه بعدها هيجيلي لحد عندي ويقولي متزعليش وهصلح علاقتي بأخوكِ عشان خاطرك، لكن محصلش، وبعدها عرفت إننا فعلاً مبقاش لنا أهمية ولا خاطر عنده.
مد كفه يمسك كفها يمسد عليهِ بحنو وقال:
_متزعليش نفسك، محدش يستحق زعلك حتى لو كان اخوكِ.
مالت برأسها على كتفه تبتسم في راحة وقالت بامتنان:
_انا مش عارفة من غيرك كنت عملت إيه، أنا بحبك اوي يا شاهين، انتَ سندي وضهري وأغلى حاجه عندي.
ابتسمت عيناه قبل محياه واكتفى بربطه على كفها الذي يحتضنه، هو لا يعرف كيف يعبر عن مشاعره بالحديث، لكنه يجيد الفعل.
رنين هاتفها جعلها تعتدل لتخرجه من حقيبتها، فاتسعت عيناها وهي تبصر رقمه يزين شاشته، نظرت ل "شاهين" بدهشة مرددة:
_ده هو!
_ردي..
أخبرها في هدوء، فابتلعت ريقها وهي تهدأ نفسها وأجابت، تبادلا الحديث لثواني معدودة يسألها عن حالها! وحال عملها! ثم سمعته يقول:
_نورهان الموضوع بينا سخف اوي، مش هنكر إني مضايق منك جدًا، لكن ممكن اسامحك واتغاضى عن ضيقي لو رجعتي بيتنا وبطلتي لعب عيال.
_لعب عيال!
رددتها مدهوشة ليجيبها في إصرار:
_اه لعب عيال، ماهو العيل اللي لما يغضب يسيب بيته ويروح يسكن عند الغُرب.
انفعلت من إصراره على نفس نغمة الحديث، وعلىَ صوتها تقول:
_انا لا بعمل لعب عيال ولا هسيب بيت اخويا الكبير، هو مضرنيش عشان اسيب عيشتي معاه، وانا مرتاحه هناك.
_اومال إيه لازمة الرسالة اللي بعتيها مادام مش عايزة تحلي!!؟
قالها بصوت مرتفع أكثر منها، فأجابته في برود ونبرتها هدأت فجأة:
_ااه، قصدك الرسالة اللي بعتها من يومين! لا ابدًا كنت فكراك لسه بتفكر، وتراجع نفسك، لكن كنت غلطانة، سلام يا مازن ومتتكلمش معايا إلا لو راجعت اخطائك وعرفتها وعرفت التفرقة اللي بتسببها انتَ بينا.
اغلقت المكالمة معه ووضعت الهاتف في حقيبتها بعنف ثم نظرت لشاهين تقول بخنقة واضحة:
_مش عاوزه اتكلم في الموضوع.
وهو لم يكن يجادلها فيهِ أساسًا!
------------------
بعد مرور ثلاثة أيام آخرين...
دلف لغرفتها كعادته في الأونة الأخيرة، كان يلقي نظرة عليها من وقت لآخر ليطمئن على حالها، اعتدلت في جلستها ما إن رأته تنتظر سؤاله المألوف وأن ترد ردها المعتاد، اقترب منها يسألها:
_بقيتِ كويسة؟
ابتسمت وهي تجده يصدق على توقعها ويسأل نفس سؤاله الذي توقعته، وردت:
_الحمد لله.
وبادرها بسؤال آخر جديد:
_يعني تقدري تتحركي كويس؟
وكان سؤاله يحمل غموض لم تفهمه، لكنها أجابت:
_اه الحمد لله اقدر اتحرك.
اومأ برأسه وبنفس نظرته الغامضة قال:
_تمام، في سواق بعربيه مستنيكِ تحت هيوصلك مكان ما تقوليله.
بُهتت ملامحها وابتلعت ريقها بالكاد وسألته بعدم فهم:
_يعني إيه؟ يوصلني فين؟
وبهدوء تام لا يناسب الموقف أجاب:
_لأهلك.. لبيتك... للشارع.. براحتك.
اتسعت مقلتيها في صدمة، وسألته بفاه قد فغر:
_إيه؟
اقترب خطوة منها وقال بفحيح أرعبها، ونظرة قاسية جمدتها مكانها:
_بس لو لمحت وشك تاني هعمل اللي منعت نفسي منه دلوقتي، انا عمري ما اديت لحد فرصة تانية، لكن اعتبرتك عيلة هبلة واضحك عليها بالتهديد او غيره، والرصاصة اللي خدتيها دي شفعتلك عندي.. فهتختفي من حياتي خالص.. ولو شوفتك صدفة هتبقي انتِ الجانية على نفسك...!!!!!!
الفصل الثاني والعشرين من الجزء الثاني
ناهد خالد
فراشة في سكّ العقرب
حب أعمى
"الفقد هو أصعب شعور قد ينتابك يومًا، شعور مؤذي وقاسي، تقف أمامه عاجز ومكتوف الأيدي عن التصرف، يقولون أن أصعب ما في الموت هو شعور الأحياء.. الفراق والوجع، الحزن والفقد الذين يشعرون بهِ، يتذكرون مشاهد جمعتهم بالفقيد فتنحر في أعماقهم، يتخيلون وجوده ويستمعون لصوته في وهم عقلهم فيُعذبون حين يفجعون بالحقيقة، وأنها مجرد أوهام.. فهو قد رحل، أن ترى مكانه فارغًا، وأن ترى أشيائه تنتظره أن يستخدمها لكنه لم يعد موجود، أن تتذكر خطته التي لم يسعفه الوقت ليفعلها، تفتقده على طعام، أو في خروجة، أو في أخذ رأيه في أمر يخصك، شعور لا يمكن وصف مدى قسوته.. شعور لا يمكنك تخطيه سوى بالوقت! "
منذُ ليلة أمس وهي لم تنم... تحججت بأنها ليست بصحتها الكاملة لتذهب الآن، فتركها لليوم، على وعد بأن بليله سترحل، وسيكون السائق في انتظارها، لا تعلم لِمَ طلبت منه هدنة، وبضع وقت تبقى فيهم هُنا، رفعت رأسها على دخول"مستكة" التي سألتها فورًا:
_عاملة إيه؟
_الحقيني..
رددتها بلهفة وهي تستنجد بها، فارتسم القلق على ملامح الأخرى وهي تسألها:
_ في إيه؟
سردت لها ما حدث، فنظرت لها بفاه فاغر صامتة، مما جعل "فيروز" تقول بتنبيه:
_روحتي فين؟ انتِ ساكتة ليه؟
هزت رأسها بعدم استيعاب وقالت:
_فين المشكلة؟ ده بالعكس ده انتِ ربنا نجدك!
فركت كفيها ببعضهما تقول بتردد:
_مش عارفه... حاسة إني.. مش عارفة، يمكن متخيلتش تنتهي كده.
_اومال كنتِ عاوزاها تنتهي ازاي؟
نظرت لها بحيرة وردت:
_مش عارفة، يمكن اتفاجأت باللي عمله، مكنتش متخيلة إن رده هيكون كده! كنت فاكره إنه... صدقي كنت فاكرة إنه ممكن يقتلني..او حتى يوريني الويل!
_طيب والحمد لله محصلش ده، ومعرفش هو مضروب على دماغه ولا إيه بس على أي حال جه في مصلحتك ومش هيأذيكِ، أنا رأيي تقومي دلوقتي حالاً، تطلبي السواق يوصلك وترجعي لأمك، انا معرفش انتِ لسه هنا ليه اصلاً.. مش فهماكي بجد.. يا بنتي المفروض تجري قبل ما يغير رأيه.
نظرت لها بضجر وقالت:
_بقولك معرفش... حسيت إني مش جاهزة امشي، يمكن المفاجأة.. يمكن عشان حاسه إني لسه تعبانة شوية..
عقبت بسخرية:
_كدابة يا فُلة، كدابة، انتِ في حاجة تانية جواكِ مش عاوزه تقولي عليها.
تغيرت ملامحها وكأنها تخفي شيئًا بداخلها لا يمكنها البوح بهِ... حتى لنفسها، بدى عليها الشرود والحيرة والتردد قبل أن تقول بصدق:
_ مش عارفه.. صدقيني مش عارفه، هتستغربي لو قلت لك ان في حاجه جوايا كانت بتقولي انه ممكن يعدي الموضوع عادي ويكمل حوار الجواز ده، طب هتستغربي اكتر لو قلتلك إني ساعتها حاسه اني كنت هكون مرتاحه ومبسوطه، يعني على الأقل هتحصل الحاجه اللي أنا شايفاها كويسه ليا وفي نفس الوقت انا مش بكدب عليه، ولا خايفه انه يعرف حاجه مخبياها.
ابتسمت لها "مستكه" وهي تقول بحزن:
_ ما حدش بياخد كل حاجه ومش كل اللي بتتمنيه بتاخديه مع بعضه، وان كنتِ عايزه رأيي فانتِ احمدي ربنا اصلاً انه ما اذاكيش وهتطلعي من هنا سليمه زي ما دخلتي، لكن بقى الأحلام الوردية وإنك تتجوزي واحد ابن ذوات، اللي ينقلك من حياتك لحياة تانية ومن يوم وليله تبقي عايشه في قصر وعندك خدم وعندك عربيات، الأحلام دي هم سموها أحلام عشان ما بتتحققش، فبلاش تتعبي نفسك بنفسك، وارضي بكرم ربنا عليكِ انه هيخرجك منها سليمة.
هزت رأسها عدة مرات ثم رددت بمرارة تغزو حلقها:
_ انتِ صح احنا اخرنا نحلم وعمر أحلامنا ما تتحقق، والحمد لله إني هطلع من هنا سليمه... او أقدر اقول بأقل الخساير.
قالت جملتها الأخيرة وهي تنظر لوضعها وإصابتها، ثم عادت تنظر ل"مستكة" يتبادلا النظرات العاجزة و الحزينة والبائسة على وضعهما الذي لم ولن يتغير..
وعن "مستكة" فداخلها قبول تقرع خوفًا من عودة "فيروز" والسبب معلوم! ستفتح باب أمل جديد ل"مجد" الذي لا تضمن وجوده معها للأن، لكنها حدثت نفسها انه عاجلاً ام آجلاً كانت فيروز ستعود، وربما عودتها الآن وإن قرر مجد الانفصال عنها أفضل من عودتها بعد زواجهما، فالحقيقة أن الأمر سيكون اختبارًا قويًا له إما أن ينجح وتستمر علاقتهما، إما أن يرسب وتكن نقطة النهاية باكرة.
_ بس انا برضو بقول استنى لأن ما ينفعش ادخل على أمي بالوضع ده، انا هقوله يسيبني يومين لحد ما استرد صحتي، الست ما تعرفش إني اصلاً اتصابت ولما ادخل عليها ماشيه بالعافية كده اكيد هتعرف يعني.
_ لأ في دي معاكي حق، قوليله إنك تستني هنا يومين لحد ما تبقي كويسه خالص وبعدها ترجعي.
-----------
في فيلا نصر...
أغلق "رأفت" المكالمه وابتسم ابتسامه ظفر وخبث مرددًا للذي يجلس على مكتبه أمامه:
_ حصل يا باشا، ودلوقتي قرصة الودن زمانها وصلت لابن عمران وبيتوجع كمان.
ابتسم "نصر" وهو يريح ظهره على ظهر الكرسي وقال منبهًا:
_ أهم حاجه ما حدش يعرف أننا ورا الموضوع ده، ولا عاوزه حتى يشك في شاهين، يعني اكيد ده مش هيبقى في صالحه.. مش عاوز مرازيه!
_متقلقش يا باشا... ابيض.. احنا ضربنا الضربة وعرفنا كويس هنلبسها في مين.
_كويس..
قالها "نصر" وهو يبتسم براحة، فمنذ بدأت الحرب بين شاهين ومازن وكان يود التدخل، وتلقين مازن درسًا لا ينساه، ولكن وقوف شاهين في المنتصف هو ما حجبه عنه، والآن أتت فرصته ليخرج غيظه وغضبه منه.
__________
لأول مرة منذُ أصبح ضابطًا في الشرطة المصرية يقف وقفه كهذه، تشبه وقفة التلميذ في الفصل أمام مُدرسه، بل ويتعنف مثله تمامًا، والأدهى هو ما قاله اللواء تاليًا:
_ للأسف يا مازن ما بقاش في ايدي حاجه اعملهالك، يؤسفني ابلغك إنك متحول للتحقيق وموقوف عن العمل لحد ما التحقيق يخلص.
اتسعت عيناه قليلاً من الصدمة التي تلقاها فوق رأسه للتو، وردد متسائلاً على نفس صدمته:
_تحقيق! ليه يا فندم الموضوع مش مستاهل كل ده.
ابتسم اللواء ساخرًا يقول:
_ الموضوع مش مستاهل كل ده وليك عين تقولها! يا بني ادم في صور ليك مع مجرم له سوابق عندنا قد كده ولسه طالع من قضيه قريب وانتَ اللي مطلعه منها، وبينكوا شنطة فلوس مفتوحة، يا انتَ بتديله رشوه أو هو اللي بيديك، الصورة مش موضحه بس طبيعي أي حد هيشوف الصورة دي هيعرف إنك انتَ اللي بتاخد الرشوة عشان تطبله وتداري عليه، وتطلعه من القضايا.
حاول الدفاع عن نفسه يقول:
_ يا باشا انا لما طلعته من القضية قبل كده طلعته عشان هو فعلاً كان بريء، وانا لقيت دليل براءته، هو كان مذنب في كل القضايا اللي قبل كده بس في القضيه دي بالذات ما كانش هو المذنب.
_ تمام... قولي بقى انتَ كنت قاعد معاه بتعمل إيه؟ وشنطة الفلوس دي بالظبط كانت رايحه من مين لمين وليه؟ قول... ما انا بقالي ساعه بسأل السؤال ده ومش بترد عليا.
تنحنح واشاح برأسه للجهة الأخرى وكأن إجابة السؤال أصعب بكثير من الاتهام الموجه إليه، ولكنه في الأخير جاوبه يقول:
_ يعني كنت عاوزه يوصلي شوية معلومات تخص شاهين، وبما إنه سوابق وله اصلاً في المجال اللي هو فيه قلت انه اكيد هيبقى عنده معلومات أو يعرف يوصل لحاجه..
-يعني انتَ اللي كنت بتديله شنطة الفلوس؟ انتَ اللي كنت بترشيه يعني! او بتجنده..
نظر له ولم يتحدث وكأنه للتو اكتشف مدى خطأه، لينتفض اللواء من فوق كرسيه وهو يخبط مكتبه بكف يده بقوة مرددًا بصوت جهوري غاضب:
_طب تصدق بالله اهو أنا دلوقتي هأكد بنفسي على قرار تحويلك للتحقيق، عشان تستاهل لأن مية مرة قلتلك ابعد عن أم الطريق ده وسيب اخوك في حاله مادام احنا مش عارفين نمسك عليه حاجه، لكن ازاي!! سايب شغلنا كله وقضيانا وعاملي فيها المفتش كرومبو وعمال تدور وراه عشان تلم عليه أدلة، انتَ متحول للتحقيق يا حضرة الضابط وموقوف عن العمل لحد ما التحقيق يخلص ونشوفهم هيقولوا إيه فيه... وعارف اتمنى يفصلوك خالص، عشان هيبقى ده عقابك المناسب على نشفان راسك طول الفترة اللي فاتت... اتفضل سلم متعلقاتك ومشوفش وشك هنا إلا لما نتيجة التحقيقات تبان.
ولأول مرة يشعر بالمعنى الحقيقي للأهانة و الإجبار على تقبل الذُل، فهو في العادة لا يسمح لأحد أن يحدثه بهذة الطريقة، وكان دومًا يتجنب الخطأ في شغله كي لا يصل لهذة النقطة ولكنه وصل بفضل مجهول لن يرتاح إلا حين يعرف من هو.
____________
علمت من "صفاء" أنه بمكتبه يقوم ببعض الأعمال قبل أن يخرج للشركة مرة أخرى، اتجهت له بخطى بطيئه تدق باب مكتبه وبعد قليل سمعت أذنه بالدخول، فدلفت لتجده منكبًا على الأوراق التي أمامه، في الأغلب يقوم بوضع إمضته عليها، فتنحنحت ليشعر بها ويرفع رأسه يطالعها في جمود وكأنه لا يراها حتى قالت بصوت منخفض:
_ كنت عاوزه اخد بس من وقتك دقيقة، عاوزه اكلمك في حاجة.
لم يعطيها اذنًا للبدء في الحديث أو الانصراف!
فظل على وضعه وجمود وجهه الذي لم ينبئها بشيء، فابتلعت ريقها وهي تقول ما أرادته دفعة واحدة:
_انا بس كنت عاوزه اطلب منك لو ينفع افضل يومين هنا لحد ما اقدر اتحرك كويس عشان اعرف ارجع لماما، لانها ما تعرفش حاجه عن موضوع الإصابة، وبصراحة مش عايزة اقلقها عليا والموضوع هيكبر لو عرفت إني حصلي حاجه زي كده وما حدش بلغها.
_ وانا المفروض اشيل هم إن امك تعرف ولا ما تعرفش... أو تقلق ولا ما تقلقش!
قالها بعد ثواني من الصمت بعدما انتهت من حديثها حتى شعرت أنه لن يجيبها بشيء، ولكن حين أجاب ابتلعت ريقها بحرج وقالت مجيبة:
_ يعني لأ، اكيد مش المفروض... بس ما اعتقدش إن يوم أو يومين زيادة هيضايقوك او هيفرقوا في حاجه.
نظر لها لثواني أخرى وكأنه يراها للمرة الأولى، ثم أجاب بنبرته الجامدة:
_ مش هيفرقوا...
وقبل أن تقول شيء آخر وقد كانت تود أن تشكره! قطع عليها الطريق وهو يقول بينما يعاود النظر في الأوراق:
_خدي الباب في ايدك.
وانسحبت تخرج تجر حرجها وغيظها في آنٍ.
______________
في اليوم التالي.....
قالت "نورهان" وهي تطالع شقيقها أمامها بينما يتناولا طعام الغداء:
_ انا مش عارفه حالة مازن دلوقتي هتكون عامله ازاي، ده مهووس بشغله! فكرة انهم يحولوه للتحقيق وكمان يوقفوه عن شغله حاجه صعبة، ومش هيتحملها... اقولك على حاجه.... انا... انا يعني بصراحة.. بفكر اروحله، هو أكيد دلوقتي محتاج حد جنبه صح؟؟؟
وقد بدا التردد واضحًا على جملتها الأخيرة، وربما كان ينتابها بعض الخجل من أن تعرب عن رغبتها في الذهاب له بعد كل ما حدث، والذي يعلمه (شاهين) جيدًا، لكنه لم يحرضها ضده، ولم يعارضها الفعل، بل قال في هدوء تام:
_ لو حاسه انك عاوزه تعملي كده روحيله.
_ يعني لو تحبي تاخدي رأيي... اعتقد انه فعلاً هيكون محتاجك أوي دلوقتي، وحتى يعني لو قال كلمتين ما لهمش لازمه من واجبك تستحمليه وتكوني جنبه، انتِ أخته.
قالتها "فيروز" متدخله في الحديث بحذر، فابتسمت لها "نورهان" وهي تقتنع بحديثها وقالت:
_خلاص انا هخلص غدا وهطلع اغير هدومي واروحله، اكيد يعني في البيت هيروح فين.
والتزموا جميعًا الصمت... ولا يشغل عقل "شاهين" سوا سؤال واحد... من فعل هذا بمازن وأوقعه في شر أعماله بهذه الطريقة؟ من له مصلحة!!؟
____________
كانت تقود سيارتها متجهه ل "مازن" حين استمعت لصوت رسالة تأتي على هاتفها فنظرت بطرف عينيها لشاشته المضيئه لتجد الرسالة عبر أحد مواقع التواصل الإجتماعي من "معاذ"، قطبت ما بين حاجبيها باستغراب فهو لا يبعث لها رسائل إلا قليل جدًا، ودومًا ما تكن رسائل مهمة، فجذبت هاتفها تفتحه لترى فحوى الرسالة فوجدتها رسالة مختصرة منه يقول فيها
"محتاج اقابلك، في موضوع مهم محتاج اكلمك فيه... موضوع متأجل من سنين.. بس خلاص مش هأجله أكتر من كده"
نبض قلبها نبض مختلف... نبض فرِح وهي تشعر بما يريدها فيه، أحقًا قرر النطق أخيرًا؟ أحقًا قرر أن يعترف لها بمشاعره ويأخذ خطوة؟ ضحكت بسعادة وهي تتمنى أن يكون ما فهمته هو الحقيقة، وأخذت نفس عميق وزفرته تهدأ من نفسها تقول:
اهدي يا نورهان.. اهدي عشان لو ما طلعش هو ده اللي في دماغك هتبقى حسرة كبيرة.. فاهدي خدي نفس واهدي وردي عليه.. قوليله إنك فاضيه بعد ساعتين تقابليه واهدي لحد ما تعرفي هو فعلا عاوزك في إيه.
وبعثت له الرسالة تحدد الميعاد والمكان...
وبعثت بعدها برسالة لمازن تقول فيها:
"انا جيالك البيت... لازم اكون جنبك.. حتى لو مش عاوزني جنبك برضو هعمل واجبي معاك ومش هسيبك.."
ورفعت رأسها للطريق لتكن الغفلة التي انهت حياتها...!!!!!
---------
بعد ساعة ونصف... في أحد مستشفيات القاهرة..
"للأسف ملحقنهاش... الحادثة كانت صعبة أوي والعربية دخلت في عربية نقل كبيرة.. حاولنا والله.. بس هي جاية في لحظاتها الأخيرة... "
صرخة خرج نصفها والنصف الآخر كتمته فيروز وهي تستند على الحائط خلفها ودموعها تجري كالمطر، وجمود تام نال من الشقيقين الى أن استوعبا الخبر، فمال" مازن" بجسده على كتف شقيقه وكأن الأرض لا تحمله، وهو يردد بحسرة وألم لا يُوصف:
_نورهان!!!
وعن" شاهين" فكان صامدًا ظاهريًا وداخليًا صوت يصرخ...
شقيقتي! شقيقتي الصغرى! ذهبت.. هكذا في لمح البصر، ذهبت على غفلة ألم تعدني بأن تحكي لي مقابلتها مع شقيقها فور عودتها، لِمَ لم تعد! ألم تصفني بأني آمانها أين كنت أنا وهي تفقد حياتها؟ كيف سمحت للموت أن يسرقها هكذا؟ نورهان! نقطة الوصل الوحيدة في العائلة! نورهان! الصغيرة التي لم استوعب أنها صارت فتاة يافعة بعد! كيف.؟كيف يمكن للوجع أن يتجاوز حده لهذا الحد؟
_اختي!
كلمة رددها فاهه من بين حربه الداخلية... والصوت الآخر يصرخ "عودي فوالله قلبي لا يحتمل الفراق"...
يتبع
لاتلهكم القراءه عن الصلاه وذكر الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
أدخلوا واعملوا متابعة لصفحتي عليها كل الروايات بمنتهي السهوله بدون لينكات من هنا 👇 ❤️ 👇
❤️🌺💙🌹❤️🌺💙🌹❤️🌺💙🌹❤️🌺💙🌹❤️🌺
تعليقات
إرسال تعليق