القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية ظلام الصعيد الفصل الاول الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس بقلم نور الشامي حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج للروايات والمعلومات

 رواية ظلام الصعيد الفصل الاول الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس بقلم نور الشامي حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج للروايات والمعلومات


كانت الغرفة ضيقة، جدرانها المتآكلة تشهد على سنوات من القسوة، والنافذة الصغيرة محاطة بقضبان حديدية تعلن استحالة الهرب. جلست الفتاة في الركن، جسدها مثقل بالكدمات، وعيناها الحمراوان تفضحان ليالي بكاء طويلة.وأمامها، جلس رجل عريض المنكبين، يراقبها ببرود لا يليق إلا بالجلادين. ارتجف صوتها وهي تصرخ، تمزق الصمت كسكين حاد:


ـحرام عليكم… عايزين ترجعوني تاني ليه عاد دا انا ما صدجت بعدت عنه؟ دا عاجز… عاجز!"


لم يكد صدى كلماتها ينتهي حتى هوت كف ثقيلة على وجهها، ارتد رأسها للخلف بقوة، وامتلأ فمها بطعم الدم. دوى صوته الغاضب في المكان:


ـ "إزاي تقولي كده على ابن عية الجبالي؟! غصب عنك هترجعيله… وهتتجوزيه تاني، فاهمة


فتح الباب فجأة، ودخل رجال غلاظ شداد، وجوههم كالحجر، بلا ملامح من رحمة. أمسك اثنان منهم بذراعيها بقسوة، وسحبوها نحو الخارج فـ. علا صراخها المستغيث:


سيبوني… بالله عليكم سيبوني


ومع أول لحظة غفلة منهم، اندفعت بجسدها بكل ما تبقى لها من قوة، هاربة. لم تكد تخطو خطوتين حتى أحاطها أحدهم من الخلف، جذبها بعنف، ورفع مسدسه ليهوي بمقبضه على رأسها.

كانن لحظة واحدة، وانطفأ كل شيء و. سقط جسدها على الأرض، وعمّ السكون إلا من وقع أنفاسهم الثقيلة وفي مكان اخر كان يجلس هذا الشاب  في عتمة الغرفة، يلفه سكون ثقيل لا يقطعه سوى خيط الدخان المتصاعد من سيجارته. كان جسده متكئا على الكرسي الخشبي العتيق وظهره مستقيم، وملامحه حادة تنحتها الظلال. وعيناه الرماديتان، واسعتان كبحر هائج في ليلة غائمة، تتوه فيهما الأرواح فلا تجد بر أمان. لم تتحركا قط، ظلت تحدقان في الفراغ أمامه، ببرود و. شعره الأسود انسدل قليلا على جبينه، ليزيد من حدة تلك النظرة، فيما كساه السواد من رأسه حتى قدميه، كأنه جزء من الظلمة التي تحيط به. حتي انفتح الباب بخطى مترددة، ودخل رجل قصير القامة، يحمل بيده بعض الأوراق. وقف متخشبا وقال بصوت خفيض:


يا بيه… خال حضرتك كان وكيلك في الجواز، ولازم تمضي على الورج ده."


اقترب بخطوات حذرة، ووضع الأوراق أمامه على الطاولة  وكد الرجل القلم. لكن عينيه الرماديتين لم تتحركا لحظة واحدة نحو الأوراق، كأنها لا تعنيه. ومد يده، التقط القلم، ووقع بسرعة، ثم بصم بإصبعه، دون أن يغير من ثبات نظرته. وتناول الرجل الأوراق بسرعة، وهم بالانسحاب، لكن صوته الجهوري القاسي أوقفه:


هي فين


ارتبك الرجل، بلع ريقه قبل أن يرد:


"البيه… حابسها في الأوضة. بس خلاص، مضيت على كل حاجة. تحب… نطلعها أوضتك


اشتعلت سيجارته مجددا بين أصابعه، وحدق فيه ببرود أشد، ثم أشار بيده حركة حاسمة:


لع... خليها مكانها..... امشي


انحنى الرجل برأسه، وغادر مسرعا  فنهض الشاب  من مكانه ببطء وخطواته ثابتة، واتجه نحو خزانة خشبية قديمة في زاوية الغرفة.و فتحها بيده القوية، وأخرج صندوقا صغيرا مغطى بطبقة غبار رقيقة و جلس على حافة السرير وفتح الصندوق، فانكشفت داخله صورة قديمة لوجه أنثوي يحمل ملامح رقيقة، وعينين غارقتين بالحزن. فـ مرر أصابعه على ملامح الصورة بحنو غريب لا يشبه قسوته، ثم أخرج ولاعته. لهيب صغير اشتعل أمام عينيه الرماديتين، ارتجفت صورته في الزجاج، قبل أن يقرب الصورة ببطء ويترك النار تلتهمها شيئًا فشيئًا… حتى صارت رمادا في يده. وبعد فتره جلست غفران على الأرض بجانب الباب، دموعها تنهمر على وجنتيها كالمطر، ويديها ترتجفان وهي تضرب بهما على الخشب المغلق بعنف، يتردد صدى طرقاتها في أرجاء الغرفة المظلمة مردده: 


ـخرجوني من اهنيه… بالله عليكم افتحولي أنا بخاف من الأوضة دي… افتحولي


ارتفع صوتها المرتعش، ولحظة، ثم دق المفتاح في القفل، وانفتح الباب قليلا  لتطل منه خادمة تحمل صينية عليها بعض الطعام. وضعتها على الطاولة الصغيرة دون أن تجرؤ على النظر في عيني غفران فهرعت إليها غفران تتعلق بثوبها بلهفة:


ـخرّجيني من اهنيه . أنا بخاف… مش جادرة أتحمل. خدي كل ال عايزينه بس طلعيني


ارتبكت الخادمة، هزّت رأسها بأسى وهي تهمس:


والله يا هانم ما أجدر… دي أوامر البيه. لو عملت حاجة من ورا كلامه يجتلني. معلش… استحملي.


اغلقت الخادمه الباب خلفها، تاركة الغرفة تغرق من جديد في وحشة ثقيلة. فنظرت غفران حولها بخوف، وعينها تدوران بين الجدران العتيقة والظلام المتربص. فـ شهقت، وغطت وجهها بكفيها، لتندفع الذكريات إلى رأسها بقوه وتتذكر


فلاش باك


كانت جالسة على الأرض، عيناها دامعتان، ووجهها متورم من أثر الضرب. وأمامها وقف جمال، زوجها، وجهه متجهم، ويده الملطخة بدمها ترتجف غضبا. وصوته انفجر كالرعد:


لو جولتي كلمة عاجز دي تاني… هجتلك، فاهمة


أجهشت بالبكاء والتقطت أنفاسها بصعوبة وقالت برجاء:


خلينا نطلج يا جمال… بالله عليك سيبني. والله ما هتشوف وشي تاني، همشي من البلد كلها.


اقترب منها بخطوات بطيئة، حتى صار ظله يبتلعها. وانحنى و قبض على وجهها بين كفيه بقسوة، ةعيناه تشتعلان بجنون وهو يقول:


مستحيل أسيبك. إنتي مرتي… ولو سيبتيني هموت. هتفضلي معايا اهنيه ولو فكرتي تسيبيني… هجتلك وأجتل نفسي معاكي


ارتجفت غفران وصرخة مكتومة اختنقت في صدرها، والدموع غطت ملامحها.


فلااش باك


فزعت غفران على وقع طرق خفيف على الباب وصوت الخادمة يعود مترددا:


يلا يا ست هانم… البيه عايزك.


تجمدت غفران في مكانها، و قلبها يخفق بعنف، كأنها على وشك أن تساق إلى قدرها المحتوم. وبعد عدت دقائق دخلت غفران الغرفة بخطوات مترددة، وقلبها يخفق بعنف في صدرها، كأن كل نبضة تدق جدارا من الخوف. كان الظلام كثيفا يبتلع المكان كله، حتى الجدران بدت لها بلا ملامح ولونها الأسود يزيدها رعبا، والهواء ثقيل كأن الغرفة تختزن أنفاس الموتى فـ وقفت في المنتصف، تلفتت حولها بعينين مذعورتين، وهمست بصوت مرتجف:


في حد اهنيه


لم يجبها سوى الصمت، حتى دوى فجأة صوت غليظ عميق من أحد الأركان:


شغّلي النور.


شهقت غفران وانتفض جسدها كله، ومدت يدها المرتجفة تتحسس الحائط حتى وجدت المفتاح. ولحظة ارتباك، ثم ضغطت عليه. فـامتلأت الغرفة بالضوء، لتتجمد عيناها على المشهد أمامها. رجل ضخم الجسد، عريض الكتفين، يجلس على كرسي خشبي في وسط الغرفة. ملامحه قاسية، عيناه الرماديتان غائرتان، سكونه يرعب أكثر من أي حركة. ولكن وسامته تضغي علي المكان  فصرخت بفزع:


انت مين؟!


نهض هو من مكانه ببطء، قامته كجدار شاهق، وخطواته ثابتة كأن الأرض ترتجف تحتها. واقترب منها قليلًا وقال بصوت هادئ :


انا جوزك… ولازم نثبت إني مش عاجز


ارتجفت شفتاها، وصرخت بصوت متحشرج:


انت مش جمال… انت مين؟!


ابتسم بسخرية باهتة، ومد يده وأمسك يدها بقوة لكنها هادئة، وقال:


المهم نثبت إني مش عاجز… وبعدها نشوف أنا مين.


كانت عيناها متسعتين من الذهول، فيما هو همس بمرارة، كأن كلماته تخرج من جرح قديم:


أول مرّة في حياتي أتمنى أكون شايف… عشان أشوف البنت ال دمّرت عيلتي دي شكلها اي عاد 


تجمدت غفران في مكانها، وشهقت بقوة، مدّت يدها ببطء إلى وجهه، ووضعت كفها أمام عينيه…ثم صرخت فجأة:


انت كفيف


ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة، وقال ببرود:


مش مهم دلوجتي… بعدين نتعرف


ثم دفعها بجسده القوي وألقاها على السرير بعنف، فـ صرخت وهي تحاول مقاومته، لكن قبضته كانت كالجبل. وارتفع صوته الجهوري يخترق أرجاء الغرفة:


أنا جبل... جبل الجبالي و 


انقشع الصمت عن الغرفة الثقيلة حين نهض جبل من فوق السرير... عاري الصدر، يتصبب من هيبته ظلام لا يقل عن سواد الليل. كان جسده متماسكا كالجدار، والندوب الباهتة على جلده تحكي حكايات معارك قديمة. أما غفران، فقد ارتجفت وهي تلملم جسدها بالملاية تختبئ فيها كعصفور مذعور، والدموع تنهمر من عينيها الغارقتين بالرعب فصرخت بصوت مختنق، كأن الهواء يخذلها:


انت مين؟! إزاي… إزاي اتجوزتك 


ابتسم جبل بسخرية باردة، وصوته خرج عميقا كأنه يقتلع روحها:


أنا جبل الجبالي… ابن عم جمال. أول مرة تشوفيني، علشان طول عمري مكنتش بظهر. بس أهه… دلوجتي اعتقد حلينا مشكلتك. هتجولي للناس إزاي إنك لسه بنت بنوت؟… وهتثبتي إزاي إن جمال كان عاجز؟


شهقت غفران، وانهارت بالبكاء، تشهق وتضرب صدرها بيديها المرتجفتين ورددت :


هجولهم… هجولهم إني اتجوزتك انت!… وإنت ال عملت اكده! هجول الحق


اقترب منها ببرود و عيناه الرماديتان لا تعرفان الرحمة، وردد بسخرية:


وأنا هجول للكل إنك مكنتيش بنت بنوت من الأول… ومحدش هيصدجك. هيصدجوني أنا، ويكدبوكي انتي.. مين دا ال هيتجرأ يكدب ابن الجبالي 


ازدادت دموعها غزارة، وكأنها تغرق في بحر بلا نجاة. فـ اقترب منها أكثر، وقال بصوت جاف لا يحمل سوى السخرية:


تحبي دلوجتي أطلجك؟… وأرميكي زي الكلبة بره


نهضت غفران فجأة واقتربت منه بارتباك وانهيار وأمسكت ذراعه ترجوه بعينين دامعتين:


انت عايز مني إي؟! فين جمال وليه كل دا.. ابوس يدك سيبني في حالي 


أبعدها عنه بغلظة ودفعها حتى سقطت أرضا على ركبتيها. وصرخ بصوت جهوري: 


أوعي تلمسيني تاني… أنا بقرف منك. وهتتعاقبي على كل ال عملتيه


رفعت رأسها نحوه وشفتاها ترتجفان وهتفت:  


أنا عملت إي؟! ده أنا ال كنت بنضرب… وبتعذب… إي ذنبي مش فاهمه.. انا اي ال عملته 


اقترب منها بخطوة، وانحنى قليلا كأن كلماته سهام:


بسببك… جمال انتحر. ووالله… لهتتعاقبي على كل دا.. ابن عمي مات بسببك.. بسبب واحده زي متسواش اتنين حنيه علي بعض 


تجمدت عيناها بالصدمة وانفتح فمها دون أن تخرج الكلمات، وكأن روحها انسحبت منها. أما هو، فاعتدل واقفا، وأدار ظهره متجها نحو الباب، خطواته ثابتة، يعرف كل زاوية في المكان رغم عماه... كأن الظلام نفسه ينحني له وتركها ملقاة على الأرض، قلبها ينهشها الرعب، وعقلهـا يصرخ: هل حقا مات جمال؟ وهل سيبتلعها قدر أشد سوادا مع جبل وفي صباح يوم جديد كانت صفية ام جمال  جالسة على المقعد الخشبي العريض، كفاها متشابكان فوق حجرها، والقلق يطل من عينيها كشرر مكتوم. وأمامها جلست نجاة أخت زوجها الراحل، ترفع رأسها بكبرياء مصطنع فتنهدت صفية، ثم قالت بحزمٍ حاولت أن تخفي به ارتجاف صوتها:


المفروض جبل مبدخلش في حاجه زي دي يا نجاه 


رفعت نجاة حاجبها بسخرية، وابتسمت ابتسامة باردة كأنها سكين تخترق القلب وهتفت :


يعني نتفضح بسبب بنت ملهاش لازمه؟ وبعدين انتي ابنك مات... ابنك انتحر يا صفيه وانتي لسن جاعده تتكلمي 


ارتجف جسد صفية، وكأن كلماتها صفعتها على وجهها، لكنها تماسكت وأجابت بعينين دامعتين وصوت متحشرج:


ـأنا أكتر واحدة مقهوره على ابني يا نجاة... بس جبل كمان ابني، وأنا ال مربياه من صغره. وهو تعبان، كل يوم يأجل العملية ال ممكن تخليه يشوف تاني... علشان مشاكلنا وخلافاتنا. بدل ما يركز على حياته وأمله الوحيد، احنا ندخله في متاهات وحوارات


أشاحت نجاة بيدها بازدراء، وقالت بصرامة:


ملكيش صالح في ال بيوحصل، أنا عارفه كويس أنا بعمل إي


لكن قبل أن تكمل، ارتفع صوت سلمى ابنتها التي كانت تتابع الحديث بصمتٍ ثقيل، فكسرت حاجز صبرها وهي تقول بعينين دامعتين:


ـبتعملي إي يا ماما؟! روحتي جوزتيه عادي اكده  كأني  مليش لازمة؟ مليش مشاعر.. انتوا ليه كلكم بتعاملوني كاني مليش اي اهميه 


استدارت نجاة نحوها بسرعة، وصوتها يرتفع كأنها تدافع عن موقفها:


مش انتي  سيبتيه بعد ما بجى مش بيشوف وخسر نظره 


ارتعشت سلمى، واندفعت كمن يخرج من سجن صمت طويل وهتفت:  


والله أبدا يا ماما... هو ال سابني! هو ال جالي خلاص مبجاش ينفع... وأنا كنت مستعدة أعيش معاه العمر كله، كنت هشيل معاه وجعه وهمه، بس هو ال مرضاش. اشمعنا دلوجتي وافج يتجوز


ساد صمت ثقيل، حتى تقدمت صفية قليلا، وكأنها أرادت أن تمد يدها لتمسح على قلب الفتاة، وقالت بنبرة حزينة:


علشان مش بيحبها يا بنتي... جوازه بيها انتجام، بس هو كان بيحبك انتي... عشان اكده محبش حياتك تتدمر


انفجرت سلمى في بكاءٍ حارق، ثم صاحت كأنها تكشف سرا مؤلما:


هيحبها يا مرت خالي... طبيعي يحبها.. هو دا ال بيوحصل دايما. ال بنحبهم بيمشوا لغيرنا، وأنا كده كده مسافره


شهقت نجاة بدهشة، وقالت بعصبية:


مسافره فين يا بنتي؟


مسحت سلمى دموعها بكف مرتجف، ثم رددت بعزمٍ كاذب يخفي انكسارها:


هروح أعيش عند عمي في القاهرة... مش هجعد اهنيه  ولا هطلع بدور الشريرة ال بتدمر حياة غيرها. أنا همشي خالص علشان مضطرش اعمل حاجه غلط وانا شايفه الشخص الوحيد ال حبيته في حياته مع واحده تانيه 


القت سلمي كلماتها ووقفت فجأة، وسحبت طرحتها لتخفي دموعها، واندفعت نحو الباب بخطوات سريعة، تاركة وراءها صدى بكائها يملأ المكان أما صفية، فقد انحنت برأسها، والدموع تنساب على وجنتيها بصمتٍ موجوع، بينما جلست نجاة مذهولة للحظة، تحاول أن تبرر لنفسها ما فعلته وفي الخارج، كان جبل واقفا في الظل مستندا إلى الحائط ملامحه متجهمة، وصدره يعلو ويهبط مع كل كلمة سمعها. لم يتحرك، لم ينطق، فقط ترك قلبه يتفتت وهو يراقب سلمى تبتعد بخطواتٍ مكسورة، فيما عيناه الكفيفتان تحاولان أن تتخيل ملامحها وهي تبكي، وسمعه ينقش صوتها في أعماقه نقشا لا يمحى وقي المساء كان الليل حالك السواد لا يرى فيه سوى ألسنة النار المتطايرة من فوهات البنادق. وأصوات الطلقات النارية تملأ الأجواء، والصرخات تتعالى من هنا وهناك. حيث داهمت قوة من رجال الشرطة مخبأ أحد أخطر تجار المخدرات في قلب الجبل، وتوزع الجنود كالأشباح خلف الجدران، يطلقون النيران ويمشطون المكان بدقة. وفي المقدمة، كان يقف ضابط طويل القامة، ملامحه حادة كسيف مسلول، وعيناه المتقدتان تعكسان صرامة قائد يعرف تماما ما يفعل. اسمه أسد الرفاعي قائد العملية، رجل اعتاد أن يرى الدماء ولا يرتجف، وأن يسمع الرصاص ولا يهتز. رفع سلاحه، وصوته الجهوري دوى في المكان مرددا:  


اوعوا تسمحوا لحد  يهرب... اضربوا النار علي أي حد يرفع سلاح ولازم يتمسكوا باي طريجه 


وبعد دقائق مشتعلة انتهت المواجهة، وألقي القبض على تجار المخدرات واحدا تلو الآخر، بينما الجنود يجرونهم كأكياس خاوية سار أسد بخطوات ثابتة نحو سيارته المصفحة يخلع سترته الثقيلة، ويزيح عن جبينه عرقا لزجا  قبل أن يفتح باب السيارة. لكن هاتفه اهتز فجأة، نظر إليه بضيق وزفر قائلا:


هو أنا ناجص صداع دلوجتي؟


ثم أغلق الهاتف دون أن يرد، وألقى بنفسه على مقعد القيادة، لتنطلق السيارة نحو المديرية وحين وصل إلى هناك كان الليل قد انتصف واقترب من نهايته. والمبنى بدا كقلعة غارقة في الظلام إلا من بعض الأضواء الخافتة. صعد أسد بخطوات متثاقلة إلى مكتبه في الطابق العلوي. وما إن فتح الباب، حتى تفاجأ بفتاة تجلس على المقعد المواجه لمكتبه، ساقاها متشابكتان، وعيناها تقدحان شررا فرفعت رأسها، وقالت بحدة:


مبتردش ليه؟


تجمد أسد للحظة، ثم زمجر بصوت غاضب، والصدمة ترتسم على وجهه:


انتي؟! إي ال جابك اهنيه في وجت زي ده؟ إحنا الساعة 3 الفجر! إنتي عبيطة


اعتدلت الفتاة في جلستها، وضربت كفا بكف وهي تقول بانفعال:


صاحبك الواطي اتجوز غفران… ووالله ما أنا سيباه


ضاقت عيناه، وانتصبت قامته بغضب، وقال بصرامة:


الزمي حدودك واتكلمي عنه كويس


ابتسمت بسخرية، وردت متحدية:


هتكلم براحتى! هو أنا مرتك ولا هو؟ وبعدين أنا جاية أعمل محضر في الفاسد ده


قطب أسد حاجبيه بشدة، واقترب خطوة وهو يهتف:


محضر إي يا حبيبتي... أولا إحنا مش في القسم … وثانيا محضر في إي علشان اتجوز واحدة؟ إنتي مالك؟ متدخليش نفسك في ال ملكيش فيه 


رفعت حاجبها بسخرية لاذعة، وقالت بصوت حانق:


طيب… يارب يفضل مش بيشوف اكده علشان ميرجعش يبجى ضابط تاني! ولما هو مش بيشوف وبيعمل كل ده، أمال كان بيعمل إي وهو شايف


هنا فقد أسد أعصابه، فضرب بقبضته على المكتب حتى ارتج وصاح بعنف:


حووريه... الزمي حدودك! ومتتكلميش اكده تاني جومي يلا روحي من اهنيه.. يلا علشان اوصلك 


حدقت فيه بعصبية، ثم فجأة تحولت ملامحها إلى هدوء غامض. ونهضت ببطء، واقتربت منه حتى صارت أمامه مباشرة. ورفعت يدها، ولمست وجهه بخفة، عيناها تتلألأ بخبث وهي تهمس:


أنا هساعد صاحبتي… غصب عنك.


وبحركة ماكرة، سحبت من جيب سترته مفتاح السيارة بخفة يد بارعة، ثم تراجعت خطوتين. وفي لحظة خاطفة، استدارت وانطلقت نحو الباب تركض كالغزال فـ تسمر أسد مكانه لثواني مصدوما مما حدث، ثم صرخ بغضب وهو يندفع خلفها:


حوريه... يخربيتك... إرجعي اهنيه  يا مجنونة انتي.. حوريه 


وبهد فتره من الوقت خرجت غفران من الغرفة بعد فترة طويلة، عيناها تتنقلان في أرجاء الممر بقلق، كأنها تخشى أن يداهمها شيء مجهول. خطواتها كانت مترددة، وصوت أنفاسها يسبقها. حتي توقفت فجأة حين التقطت أذنها صوتا مكتوما من غرفة الجيم. فـ اقتربت ببطء، ووضعت كفها على الباب، وانحنت تنظر من خلال الفتحة الصغيرة فـ اتسعت عيناها دهشة وصدمتها تزداد إذ رأت جبل عاري الصدر، يتصبب العرق من جبينه... ويتدرب بعنف غير مألوف، يرفع الأثقال بصرامة، ويهوى بقبضاته القوية على الكيس الجلدي كأنه يفرغ غضبا متراكما منذ سنين. وحركاته دقيقة، متقنة، لا يقوم بها من حرم نعمة البصر. فـ ارتجفت شفتاها، وهمست في نفسها:


إزاي... إزاي مش بيشوف؟ بيتعامل عادي كأنه شايف كل حاجة و


لكن فجأة، لم تدرك كيف التفت إليها، كأنه شعر بوجودها رغم صمته و في لحظة، سحبها بقوة إلى الداخل، وانغلق الباب بعنف خلفها ووقف أمامها، جسده يتلألأ بعرق حارق، وصوته الغاضب يجلجل:


إنتي واجفة تعملي إي اهنيه 


ارتبكت غفران، وهي تحاول التحرر من قبضته وهتفت: 


سيبني..... انت عايز مني إي إنت كداب... إنت بتشوف بعيونك  وبتضحك عليا وجمال لسه عايش... وأنا متأكدة


شدها جبل نحوه أكثر وقبضته القوية تمسك وجهها، وعينيه الجامدتين تحدقان فيها بقسوة:


أنا كل ده صابر عليكي علشان مش عايز اجتلك داوجتي ... ليه بتحاولي تستعجلي موتك هاا 


انفجرت دموعها وقالت برجاء:


إنت بتكدب... حرام عليك! سيبني... أنا عارفة إنك شايف


ضحك بسخرية مرة، وقال ببرود قاتل:


انتي مين أصلاً علشان أكدب عليكي؟ هخاف منك مثلا؟ إنتي ولا حاجة علشان اتعب نغسي واكدب علي واحده زيك 


ارتجفت شفتي غفران وهمست باكية:


طيب... جمال فين؟


اقترب جبل منها  أكثر، وصوته يقطر غيظا :


مات... انتـ*ـحر بسببك. مش مصدجة؟ هوريكي


تركها فجأة، واتجه نحو الطاولة وامسك هاتفه، وفتحه بصوته.

قال بصرامة:


جمال


فظهر المشهد أمامها على الشاشة، لكنه بدا حيّا كأنه واقع يعرض أمامها..... كان جمال يصرخ بجنون، يركل الأثاث ويكسر كل ما تصل إليه يداه، ودموعه تبلل وجهه وفي الخارج، وقفت أمه صفية وعمته نجاة، تضربان الباب وتصرخان:


جمال! افتح يا ابني! حرام عليك... افتح هنجيبها.. حسما بالله هندور علي ففران ونجيبها والله 


لكن صوتهما لم يصل إليه، فقد غطت صرخاته على كل شيء وجاء أسد مهرولا، دفعهما جانبا وصرخ وهو يضرب الباب بكتفه:


"ابعدوا... ابعدوا... جمال.. افتح يا جمال 


صرخت صفيه برعب :


اكسر الباب يا أسد بسرعة.. اكسروا يا ابني يلا 


وفجأة دوى صوت طلقة رصاص هز المكان فـ. تجمدت الأقدام، وتوقف الصراخ ودفع أسد الباب بقوة حتى تحطم، واقتحم الغرفة ليجد المشهد المفزع كان جمال ملقى على الأرض، ورصاصة اخترقت رأسه، والدماء تنزف حوله بغزارة فـ شهقت غفران ويديها ترتعشان، وأسقطت الهاتف من بين أصابعها وهي تصرخ:


مستحيل...لع


انحنى جبل ليلتقط الهاتف، لكنه توقف فجأة، إذ انتبه إلى صوت غريب في الخارج. فـ قبض على ذراع غفران وسحبها خلفه بسرعة، وأمسك سلاحه وهو يصرخ:


يا حراااس.... فيه حاجه بتوحصل  


وفي مكان آخر، كانت حورية تجلس خلف مقود سيارة فارهة، تقودها بسرعة عبر الطريق الليلي وفجأة، أوقفتها لجنة تفتيش و اقترب ضابط ونظر إلى اللوحة المعدنية، ثم رفع حاجبه باستهجان:


"العربية دي مسروقة... وصاحبها مبلغ عنها


نظرت حورية إليه بذهول وقالت:


إزاي؟! دي عربية جوزي اي ال بتجوله دا 


ابتسم الضابط بسخرية وهتف؛  


سيادة المقدم بنفسه هو ال بلغ إن عربيته اتسرقت. يبقي حوزك ازاي .. احنا لازم نقبض عليكي حالا


تجمدت ملامحها وقبل أن تستوعب الصدمة وقع بصرها على السيارة السوداء المتوقفة على جانب الطريق وخرج منها أسد بخطوات ثابتة وابتسامة باردة ترتسم على شفتيه. فـ صرخت حورية بانكسار:


إنت بتبلغ عن مرتك يا أسد


ضحك بخفة قاسية وقبل أن ينطق بكلمة، رن هاتفه فنظر إلى الشاشة، ثم أجاب، ليصمت لحظة ويقول بصوت متهدج بالدهشة:


ازاي؟! ... أنا جاي حالا  احموا جبل والعيلة... اوعوا حد منهم يوحصله حاجه 


القي اسد  كلماته وأغلق الخط، وعيناه تشتعلان بقلق، فيما تجمدت حورية مكانها، لا تفهم ما يحدث و 


لفصل الثالث

ظلام الصعيد


كان الليل ساكنا قبل أن يشقه دوي الرصاص والطلقات مزقت جدار السكون، وارتج البيت بأكمله، فيما تعالت الصرخات من كل صوب وهرع الجميع في فوضى لا يدرون من أين يأتي الخطر ولا إلى أين يفرون حيث كان جبل واقفا في صدر الممر، قبضته القوية تمسك بيد غفران المرتجفة، تحتمي به وهي تصرخ بخوف:


يا ساتر يا رب... يا ساتر!.. اي ال بيوحصل... مين دول 


شدد على يدها وهو يهتف بغضب:


متمشيش خليكي مكانك ... الرصاص حوالينا.. اهدي 


لم تستجيب غفران  أفلتت يدها من قبضته واندفعت تجري، فالتقط جبل صوت خطواتها، وصرخ بأعلى صوته:


هتموتي يا غفران.. خلبكي علي الأرض...انتي مجنونه 


لم تلتفت بل ركضت ناحية سلمى التي كانت عالقة وسط إطلاق النار، وانقضت عليها لتسحبها بعنف وسقطتا معاً على الأرض والطلقات تتناثر فوق رؤوسهما حتى غشى المكان دخان كثيف وهدير نيران ثم، فجأة... سكن الرصاص. وساد صمت ثقيل بعد العاصفة واندفع أسد إلى الداخل، خطواته سريعة، وصوته يجلجل وهو ينادي:


هربوا... بس هنمسكهم.. جبل... إنت كويس


اقترب منه، لكن سرعان ما اتسعت عيناه دهشة حين لمح الدم يسيل خفيفا من يد جبل وخدش بسيط أحدثته رصاصة طائشة. ووضع يده على ذراعه قلقا وهو يهتف:


إيدك اتصابت


لكن جبل لم يعر الأمر انتباها ورفع رأسه بحدة وقال بلهفة:


حد حوصله حاجه.. الكل كويس 


وفي تلك اللحظة جاءه صوت غفران مضطربا وهي تمسك بسلمى:


سلمي... انتي كويسه؟ ردي عليا


ارتجف قلب جبل فتقدّم مسرعاً، كأن قدميه تقودهما دون بصر. وركع بجوار سلمى ومد يده المرتجفة يتحسس وجهها، وصوته ينزف خوفاً:


سلمي ردي... فوجي بالله عليكي مالك.. انتي اي ال حوصلك 


لكنها كانت فاقدة الوعي. حاول أن يوقظها بلمسات متوترة على وجنتيها، وكل من حوله يراقب حتيغفران شردت للحظة تلاحظ ارتجاف صوته وقلقه، أما نجاة فشهقت بخوفٍ على ابنتها، وصوت صفية ارتجف وهي تقول:


انت بخير يا ابني؟ طمني عليك الأول يا جبل... انت كويس اي ال حوصل 


لكنه لم يجب، لم يسمعها أصلا... كان كل تركيزه على سلمى. وما هي إلا لحظات حتى فتحت عينيها ببطء، وعيناها تلمعان بدموع متجمعة، وحين وقعت نظرتها عليه، اندفعت إلى حضنه فجأة وهي تبكي بحرقة:


كنت هموت يا جبل


طوقها بذراعيه بحذر، وصوته يفيض قلقا وهو يسأل:


حوصلك حاجه؟ حد جرحك


هزت رأسها باكية، ثم شهقت وهي تلمح يده الدامية، فصرخت:


إيدك.... يا جبل يدك بتنزف


تدخل أسد بخطوات حاسمة وهو ينظر إلى النزيف ويقول بصرامة:


لازم نخرج فوراً... ونروح المستشفى. يلا يا جبل، أنا هسندك


مد اسظ ذراعه ليساعده، فترك جبل يد سلمى ببطء، ونهض وهو يتوكأ عليه. فيما غفران تبعتهم بنظرات حائرة، ونجاة تحبس دموعها من شدة خوفها على ابنتها، وصفية تسير خلفهم تدعو الله في سرها أن يحفظ أبناءها من كل شر وبعد فتره من الوقت كانت غفران جالسة في الغرفة، وجهها شاحب وعيناها متورمتان من كثرة البكاء، تحاول أن تلملم أنفاسها بعد ما مرّت به. الباب انفتح بقوة، ودخلت حورية، زوجة أسد، بنظرة صارمة وصوت يقطر عصبية:


غفران... يلا جوومي  معايا.... أنا ههربك من اهنيه قبل ما يوحصلك حاجه من  الخوف أكتر من اكده


رفعت غفران رأسها ببطء وصوتها متقطع وهي تهز رأسها بالنفي:


لع ... مش هينفع... هو هيلاجيني... وهيجيبني


زفرت حورية بضيق واقتربت منها:


هو مين ال هيلاجيكي... جومي يا بنتي معايا انقذي نفسك 


ترددت غفران لحظة، ثم قالت بصوت خافت:


مين جبل دا يا حورية؟


جلست حورية على حافة السرير و نظراتها امتزج فيها شيء من الحذر والحدة، وأجابت بعد تنهيدة ثقيلة:


جبل؟ دا كان ضابط شرطة... وال اعرفه عنه إنه كان من أجرأ الضباط ال شافوها و مبيخافش من حد ولا بيرجع خطوة لورا. أتصاب  في مأموريه  كبيرة وبجا كفيف .. ومن يومها وهو بيتحرك في الدنيا كأنه شايفها...ال ميعرفش ان جبل كفيف مستحيل يحس..هو بيتعامل عادي جوي . ومع ذلك، محدش بيجدر يوجف جصاده وصوته بس بيخلي ال جدامه يتهز هو قوي... وعنيد... وال يعرفه يجول إن جواه نار مش بتنطفي. بس في نفس الوجت... تصرفاته مش بتعجبني، جاسي زيادة عن اللزوم، مبيفكرش غير بالانتجام والعدل بطريجته هو، كأنه شايل الدنيا كلها فوق كتافه....و جبل عمره ما كان بيظهر وسط العيلة، أغلب حياته بعيد عن اهنيه.. في المدن ومع شغله. عشان كده، لما بيرجع الصعيد، حضوره بيبقى تقيل على الكل. الناس بتحترمه وبتخاف منه في نفس الوجت... زي ما يكون جبل بجد، واجف جدامك، لا بيتزحزح ولا بيتهز


أطرقت غفران برأسها وهي تتنفس بصعوبة، ثم همست بصوت مرتجف:


يعني هو مش هيسيبني... هو عايز ينتجم مني علشان جمال... مش هيرتاح غير لما يخلص عليا زي ما حوصل مع جمال.... هو جمال فعلاً انتحر يا حوريه 


أومأت حورية ببطء، وكأنها تستعيد الذكرى:


أيوه... جمال كان مهووس بيكي، ودا مكنش حب، كان جنون. هو كان عايزك بأي طريجة. وإنتي لما طلبتي الطلاج بسبب عجزه والموضوع انتشر... كرامته اتكسرت ونفسيته اتدمرت. انتحر وهو مليان غل 


شهقت غفران  وصرخت بحرقة:


والله يا حورية... اتحايلت عليه كتير يطلجني. إنتي كنتي شايفة بعينيكي بيعمل إي... دا مكنش بني آدم. كان بيعذبني وبيذلني... وأنا كنت بترجاه يسيبني في حالي.. كان دايما يضربني ويهيني وبيعاملني بطريجه محدش يستحملها 


اقتربت منها حورية واحتضنتها وتربت على ظهرها ببطء محاولة تهدئتها:


خلاص بجا.... كفاية. اهدي ونامي شوية، اليوم كان صعب عليكي


أغلقت غفران عينيها وهي تبكي بصمت، في حين جلست حورية بجوارها، تراقبها بعينين يختلط فيهما الحذر بالشفقة وفي صباحٍ جديد، وبينما كانت غفران  تحاول أن تجرّ لنفسها بقايا نومٍ سطحي حتي شعرت برعشةٍ غريبة تمر بجسدها كأن شيئا ما يدعوها لتفتح عينيها. ففتحت عينيها ببطء لتصطدم برؤيةٍ جعلت الدم يتوقف في عروقها... شخص ملثم يقف خارج الغرفه فـ. قفزت من مكانها بسرعة تحاول أن تهرب لكن ساقيها تلعثمت وسقطت على الأرض.... كانت الجدران تضيق على غفران وهي ترتجف ملقاة على الأرض، تصرخ برعب خانق. وفجأة  ودخل هذا رجل مغطى الوجه بقناع أسود، خطواته ثقيلة فـ ارتعد جسدها، وزحفت إلى الخلف والدموع تنهمر وهي تصرخ:


سيبني بالله عليك… يا جبل.... يا جبل الحقني


اقترب منها أكثر و مد يده بعنف وأمسكها، ثم ألقاها فوق الفراش بقسوة، فصرخت بحرقة، وهو يرفع يده ببطء إلى القناع فهتفت بصراخ:


إبعد عني… بالله عليك سيبني.. انت ميين عاد... يا ناس حد يساعدني


وفي اللحظة التي انزلق فيها القناع وسقط أرضا، تجمدت عينا غفران و شهقت شهقة مكتومة، ووضعت يدها على فمها برعب… إذ كان الوجه المكشوف أمامها هو جبل الذي بدأ في ضحك هستيري حتي انقطع ضحك جبل فجأة، ووقف مشدودا أمامها وعيناه تلمعان بغضب مقطع للنفس و. اقترب منها بخطواتٍ سريعة، وكان صوته حين تحدث قاسياً يقربه من الهلع أكثر:


أنا هبجى عملك الأسود في الدنيا دي 


انهارت غفران من البكاء، وصرخت متوسلة بدموع تغلي على خديها:


حرام عليك... إنت بتعمل فيا اكده ليه؟!  جمال كان واطي وحقير... اي بتار دا ال هتاخدي مني علشان ندل زي دا و 


لم تكمل كلامها، إذ امتدت يد جبل بسرعة صارمة، أمسك رقبتها بـ قبضة خانقة، ولقاها على السرير وهو ممسك بعنقها  ووجهه قريب من وجهها وصوته صارحا بالتهديد:


متخلنيش أجتلك .. وأوعى تجيبي سيرة جمال على لسانك. أنتي كل تفكيرك في القرف ال بتفكري فيه دا...وانا اديتهولك علشان اكده ساكته...اما جمال  روحتي فضحتيه   وجولتي  للمحكمة إنه عاجز


حاولت غفران أن تتنفس وتتكلم بين الاختناق والهلع فهمست :


 والله أبدا... إنت متعرفش كان بيعمل إي و


 لكن كلماتها تقطعت، وأنفاسها اختنقت وفي تلك اللحظات دخلت صفية مسرعة إلى الغرفة، وجهها يجمع بين القلق والصرامة. وبلمحة من الأمهات التي تعرف متى تكبح إبنها اندفعت نحو جبل ودفعت يمينه بألطف ما يمكن ولكن بحزم وهتفت:  


كفاية يا ابني... سيبها! حرام عليك، هتموتها


تردد جبل لوهلة، ثم سمعته سلمى وهي تجذبه بعنف خارج الغرفة، تسحب ذراعه وتشده بعيدا عنها فتقدمت صفيه نحو غفران. نظراتها تختزن شيئا من الحزن تحت صرامتها. واقتربت منها وهمست بضيق وكأنها تحاول إصلاح ما أمكن:


انتي كويسه.. اجيبلك الحكيم 


همست غفران تحاول أن تبلع دموعها وتلتقط أنفاسها و تقول بين شهقات وبكاء:


انتي عارفة كل حاجة... جولي لابنك بالله عليكي... خليه يرحمني... ابوس يدك يا حجه.. انا غلطانه انا السبب في موت ابنك... انا السبب في كل حاجه.. بس خلي جبل يرحمني. انتي مرت عمه وزي امه لو جولتيله هيسيبني امشي 


نظرت صفية إليها بحزن عميق، ثم التفتت ببطء وخرجت من الغرفة، تاركة الصوت الخافت لغفران يتلاشى بين أنين البيت وبعد دقائق قليله كانت يد سلمي ما تزال متشبثة بيده، تمشي بجواره كأنها تخشى أن يفلت منها أو يبتعد، حتى وصلا إلى حديقة البيت و نسيم الصباح حمل رائحة التراب المبلل، لكن بينهما كان الجو مكهرباً بالغيظ والوجع. وفجأة توقف جبل، وسحب يده من يدها بقوة، وصوته انفجر في المكان:


كفاية يا سلمي… سيبيني بجا.. في اي عاد.. هو انا عيل صغير 


ارتجف جسدها للحظة، لكنها لم تتراجع و نظرت إليه بعينين دامعتين وقالت بحرقة:


انت بتعمل اكده ليه... إي ال دخلك في كل ده من الأول؟! اعمل العملية وطلجها… بالله عليك يا جبل… خلينا ننهي الحكاية دي ونرتاح.


تصلبت ملامحه، واشتدت قبضته  وهو يرد بغضب مكبوت:


وبتار ابن عمي؟! هسيبه يضيع اكده من غير ما آخد حقه وبعدين عملية إي دلوجتي..... العملية هتاخد وجت طويل… وأنا مينفعش أختفي الفترة دي كلها والله اعلم هتنجح ولا لع 


شهقت سلمي وعيناها تتأججان بنيران القهر:


لحد إمتى هتفضل اكده... تفكر في غيرك وتسيب نفسك تضيع؟! فكر في نفسك شوية يا جبل


اقتربت منه ببطء، ثم رفعت يدها المرتجفة ولمست وجهه بحنان مهتز ورددت :


 إنت عارف أنا بحبك قد إي… وإنت لسه بتحبني. إنت يمكن مش شايفني، بس حاسس بيا… مش اكده


أغمض جبل عينيه بشده، كأنه يحاول أن يُطفئ نارا تتأجج داخله، وان يمسك على قلبه حتى لا يضعف أمامها. لكنه ما لبث أن أمسك يدها وأبعدها عن وجهه بحزم:


خلاص يا سلمي… احنا جفلنا الموضوع ده من زمان.


شهقت باكية، ثم اقتربت خطوة أخرى وهتفت :


بس إحنا لسه بنحب بعض… إنت عارف وأنا عارفة.


مددت وجهها نحوه، تكاد تلامس أنفاسه بأنفاسها، لكنه تراجع بعنف وصرخ صرخة دوت في المكان:


سلمي... إنتِ اتجننتي ولا إي... إزاي تفكري في حاجة زي دي؟! وبعدين أنا… أنا متجوز


تجمدت للحظة، ثم حدقت في عينيه  ودموعها تنساب على وجنتيها، وقالت بمرارة ممزوجة بالعصبية:


متجوز... هو إحنا هنضحك على بعض إنت متجوزها علشان تنتجم منها وبس


احمرت ملامحه من الغضب وقبض على عصاه بقوة، وكأن الأرض ترتج من تحت قدميه، وصاح:


بس متجوز برده..... انتجم… أجتلها حتى… دا موضوع تاني! لكن خيانة؟! لأ يا سلمي… أنا مش اكده. عمري ما هخون حتى لو مش بكره حد زيها في الدنيا دي كلها 


ارتجفت شفتاها وهي تكاد تختنق قائله :


ـ طب وأنا؟! وأنا يا جبل 


أدار وجهه عنها وصوته انكسر للحظة قبل أن يتجلد:


 سافوي… وبلاش تضيعي مستجبلك ووجتك معايا.


ثم صرخ فجأة، صوته جلجل في الحديقة:


يا ولد... تعالي 


اقترب الحارس مسرعا، فوضع جبل يده أمامه، فأعطاه العصا البيضاء وقبض عليها، ثم استدار دون أن ينظر إلى الوراء و خطواته ثقيلة، لكنه يمشي بثبات أما سلمي، فبقيت واقفة مكانها، أنفاسها تتلاحق، دموعها تنهمر بحرقة، ثم أطلقت صرخة من القهر والغيظ، ارتجّ لها قلب الحديقة، وانهارت على مقعد خشبي وهي تضرب كفها بكفها في يأسٍ خانق وبعد منتصف الليل

كانت غفران تحمل حقيبة صغيرة بيد مرتجفة، خطواتها خفيفة تتسلل في ظلام الممر الطويل، تتلفت حولها خشية أن يراها أحد. قلبها يخفق بقوة، وكأن جدران البيت تسمع أنفاسها وتفضح سر هروبها. واقتربت من الباب الخلفي، كادت يدها تلمس المزلاج، حين اخترق صمت الليل صوت أنين متقطع. فتجمدت في مكانها،ط و التفتت ببطء، وجاء الصوت من الغرفة الجانبية. وترددت لحظة عقلها يصرخ  ويقول امشي يا غفران.. دي فرصتك، سيبيه وروحي.


 لكن قدماها حملتاها رغما عنها نحو الغرفة.  ودفعت الباب بخفة، وإذا بالظلام ينكشف عن صورة جبل  ممددا على السرير، عاري الصدر، والعرق يغطي جسده. وصدره يعلو ويهبط ببطء،  واثار التعب والرصاصة التي أصابته ما زالت تنخر فيه فـ اقتربت أكثر و يداها ترتعشان وهي تلمس جبينه فشعرت بحرارة عالية تكاد تحرق كفها وغامت عيناها بين الخوف والشفقة، وكادت تسحب يدها وتغادر، لكن ضميرها شدها لتبقى وفجأة، تحرك جبل وهو يهذي ويردد بصوت مبحوح متقطع:


كان لازم اجتله… هو خاين… كان لازم يموت… جمال و


شهقت غفران وقد جمد الدم في عروقها عند سماع الاسم. وعينها اتسعت رعبا وشفتيها ارتجفتا وهمست دون وعي:


جمال و


الفصل الرابع

ظلام الصعيد 


كان الصباح قد تسلل بخيوطه الخافتة إلى الغرفة، يوقظ الجدران الثقيلة من صمتها، فيما غفران ما زالت جالسة إلى جوار السرير. لم يغمض لها جفن طوال الليل، لم تهرب كما كانت تنوي، إذ منعها مرضه وحرارته المرتفعة، وظلت تراقب أنفاسه المتقطعة، بينما جملته الغامضة عن جمال تدوي في رأسها بلا توقف حتي تحرك جسد جبل فجأة و أهداب عينيه الرمادية ارتجفت قبل أن يفتحها ببطء، فتشبث قلبها في صدرها. وحاولت أن تنهض بهدوء لتخرج قبل أن يلاحظ وجودها، لكن صوته الجهوري، الخشن من أثر التعب شق الصمت:


استني... خارجه ليه زي الحراميه؟! كنتي بتعملي إي فـ أوضتي 


تجمدت مكانها ونظراتها مضطربة، قبل أن تلتفت نحوه بارتباك:


إنت... إنت عرفت إزاي إني أنا ال اهنيه 


ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة، وأجاب ببرود:


هو كل حاجه تسألي فيها اكده... بطلي صداع بجا شويه 


وفجأة، مد يده بخفة، سحبها نحوه بعنف غير محسوب، فسقطت فوق صدره على السرير، وأنفاسها تتلاحق ووجهها احمر من التوتر. فـحاولت أن تتماسك، لكن عينيها سرحت رغما عنها في عمق عينيه الرماديتين  وتسمرت بلا حراك وردد: 


كنتي بتعملي إي اهنيه 


 سألها بنبرة جافة  تقطر أمراً لا سؤالاً فـارتبكت، وحاولت أن تدفع نفسها لتنهض، لكن قبضته كانت أقوى وهمست متلعثمة:


سيبني... بالله عليك سيبني 


قربها أكثر حتى شعرت بحرارة أنفاسه على وجهها، وصوته يزمجر بصرامة:


جاوبي كنتي بتعملي إي 


انهمرت الكلمات من فمها المرتجف وهتفت :


انت... انت كنت تعبان طول الليل. جعدت جمبك... معملتش حاجه والله ... ولا سمعت حاجه


ابتسم بسخرية لاذعة وردد :


بس أنا مجولتش إنك سمعتي حاجه 


تجمدت ملامحها، والتوتر يتضاعف، بينما هو يضيف ببرود قاتل:


ومش هتفرق... حتى لو سمعتي. أي كلمه بجولها وأنا مش فـ وعيي، مش فارق معايا مين يسمعها ومين ميسمعش


همست غفران بخوف وهي تحاول الإفلات:


سيبني... مينفعش اكده... انت بتخوفني اصلا 


رمقها بابتسامة ساخرة، وقال بنبرة مستفزة:


ربنا يسامحك... وبعدين اسيبك ليه؟ هو إنتي مكسوفة ولا إي... ال زيك  مش بيتكسف اصلا 


وفي تلك اللحظة انفتح الباب فجأة، ودخلت سلمى بخطوات مترددة، وعينيها تتسعان دهشة وهي ترى المنظر. تجمدت في مكانها، وصوتها خرج مرتجفا:


أنا... كنت جايه أطمن عليك... إنت كويس


أرخى جبل قبضته قليلا، لكنه لم يترك غفران تماماً، وأجابها بلهجة هادئة جافة:


الحمد لله كويس جوي ... ومعلش يا سلمى، علشان عايز أغير هدومي. اجفلي الباب وراكي وانتي خارجه 


وقفت سلمى لثواني كأن الكلمات طعنة في صدرها، قبل أن تومئ برأسها وتغادر بخطوات مثقلة، تغلق الباب وراءها بصوتٍ خافتٍ لكنه موجع وما إن انغلق الباب، حتى أفلت جبل غفران من قبضته. فـ اندفعت واقفة بسرعة، تحاول أن تهرب من توترها، لكنه أمرها بصوت حاسم:


اوعي تخرجي دلوقتي... أنا داخل أخد دش. ولما أخرج... تكوني حضرتيلي هدومي بعد اذنك 


ثم أخذ عصاه، واتجه إلى الداخل بخطوات واثقة رغم جرحه، تاركا غفران وحدها في الغرفة، قلبها يخفق بجنون ويدها ما زالت ترتجف من أثر قربه وفي مكان اخر كان الغروب يوشك أن يبتلع الأفق، والسماء تصطبغ بلون برتقالي حزين، حين توقفت سيارة سلمى على جانب طريق مهجور تحيط به الحقول. ونزلت بخطوات متعثرة، ودموعها تنهمر بغزارة، ووضعت يدها على صدرها كأنها تخشى أن ينفجر قلبها من شدة القهر، وأنفاسها تتلاحق بصعوبة حتي أطلقت صرخة مكتومة، ثم راحت تجهش بالبكاء وهي تضرب كفها بكفها، تهتف بصوتٍ متحشرج:


ليه... ليه بيوحصلي اكده؟! هو أنا عملت إي عشان أستاهل كل دا... يحبها... ويكون معاها... وأنا خلاص مبجاش ليا أي لازمة... نساني... نساني بعد كل الحب دا ... نسي كل حاجة كانت بينا


اهتز جسدها مع كل كلمة، وكأنها تفرغ ما تبقى من روحها على هذا الطريق الخالي، إلى أن قاطعها فجأة صوت رجولي  هادئ لكن غامض مرددا :


وال يساعدك تنتجمي 


تجمدت في مكانها وارتبكت، ومسحت دموعها بظهر يدها ثم التفتت ببطء، لتجد أمامها مشهدا غير مألوف رجل مسن يجلس على كرسي متحرك، وخلفه يقف حارسان ضخام البنية كأنهما من عالمٍ آخر، يحيطان به بصمتٍ مهيب فـاتسعت عيناها دهشة وصوتها وهتفت:  


إنت... إنت مين؟ وعايز مني إي عاد 


ابتسم الرجل ابتسامة باهتة تحمل بين طياتها سخرية وغموضا وردد: 


أنا... انا هجولك أنا مين.. بس اسمعيني كويس جوي 


وفي عمق الليل.... في بيت اسد كانت تقف حورية أمام الموقد منشغلة بإعداد الطعام، يعلو وجهها ضوء خافت يتراقص مع لهب النار. وفجأة، أحاط بها دفء غير متوقع، حين اقترب أسد من خلفها، وضمها إلى صدره بقوة، ثم طبع قبلة طويلة على عنقها جعلت أنفاسها تختل. وارتجفت قليلا وهمست وهي تبتسم بخجل:


انت جيت امتى 


أجاب بصوتٍ عميق يحمل مزيجا من الشوق والدلال:


ـ دلوجتي... وحشتيني، جولت أجي أشوف مرتي الحلوة وبعدين انتي تاعبه نفسك ليه عاد.. مش جولتلك اجيبلك شغالين 


التفتت نحوه ببطء، وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة ساخرة، ثم شبكت ذراعيها حول عنقه، وهمست:


لع.. انا بحب اعمل كل حاجه لوحدي وبعدين....انت بتثبتني بكلمتين، فاكرني هنسى إنك كنت عايز تحبسني


ضحك أسد ضحكة قصيرة صافية وقال بمرح:


خلاص بجا... سماح


لكن اللحظة انقلبت في طرفة عين إذ مدت يدها فجأة داخل جيبه، وسحبت مسدسه ثم صوبته مباشرة إلى صدره ورددت :


لع.... مش مسامحة 


ابتسم أسد رغم فوهة السلاح الموجهة نحوه، وقال بصدق عجيب:


هو أنا أطول إنك انتي ال تموتيني؟ وأخر حد أشوفه في الدنيا يبجي إنتي 


مد يده بخفة خاطفة وانتزع منها السلاح دون مقاومة تذكر، ثم رفعها بين ذراعيه بسهولة، فضحكت بخجل والتفتت حول عنقه، بينما صوته يخفت بحرارة:


 أنا جاي ساعتين وممكن أمشي تاني... فخليني أفضل جمبك فيهم..... جوليلي طبخالي إي بجا 


أطلقت ضحكة قصيرة وهي تهمس:


طيب نزلني وأنا أجولك.


أنزلها برفق لكن ابتسامتها تلاشت فجأة، وارتسمت على وجهها علامات ألمٍ مباغت و وضعت يدها على بطنها وهي تتأوه، فاقترب منها أسد بخوف، وصوته يعلو:


 مالك؟ في إي يا حوريه و


وقبل أن يكمل كلماته، اتسعت عيناه رعبا وهو يرى الدم يتسرب من جسدها، وفي لحظة سقطت أرضا فاقدة الوعي. وركع بجوارها، يمسك بيديها المرتجفتين، وصوته ينفجر بنداءٍ يائسٍ مجروح:


حورية جووومي و 


وفي منزل اسد  كانت غفران واقفة في فناء البيت، وجهها شاحب وعينيها متورمتان من البكاء، أمام صفية زوجهزعم جبل ونجاة عمة جبل والصياح ينساب من أفواه النساء كأنه لسانُ نارٍ ونجاة تهتف وهي تقبض على طرف العباءة: 


إنتي معملتيش حاجه.. دا انتي سبب كل المصايب ال في عيلتنا 


هتفت غفران بصوت مكسور تحاول أن تدافع عن نفسها:


أنا معملتش حاجة، انتوا جوزتوني جبل غصب عني .. أنا مكنتش عايزاه اصلا انتزا ال دايما بتحطوني في دماغكم 


تقدمت نجاة خطوة ووجها احمر وأخذت نفسا عميقا وهتفت :


إنتي السبب في موت ابن أخوي..... جمال مات علشانك ولازم تموتي... هعذبك زي ما عذبته، وبعدها هجتلك 


،القن نجاه كلماتها واشارت الي احدي الحراس فتقدم أحدهم ممسكا بسكين يلمع وقد أشعل طرفه بالنار حتى صار يتوهج بلون أحمر مخيف. ورمشت غفران بعينيها مرتعبة، وصاحت بصوت مبحوح:


إي دا... ابعدوا عني... بالله عليكوا ابعدوا عني


لكن نجاة لم ترحم توسلاتها وأمسكت السكين بيدها، وقربتها من ذراع غفران بينما الحرس أمسكوا بها ليمنعوها من الحركة. وفي لحظة واحدة قبل أن يلمس الحديد جلدها، إذا بيد قوية تمسك بمعصم نجاة بعنف. كان جبل يقف بينهم، ووجهه محتقن وصوته يعلو بغضب هادر:


انتي إزاي تعملي اكده في مرتي... انتوا اتجننتوا ولا اي عاد 


القي جبل كلماته وسحب السكين بعيدا، ثم أدار جسده نحو غفران يتحسس مكانها بيديه المرتجفتين، وصوته ممتلئ بالقلق:


انتي كويسه... حوصلك حاجه 


كانت غفران منهارة بالبكاء، لا تستطيع الرد سوى بالنشيج المتقطع، فاقترب منها جبل أكثر زجذبها إلى صدره واحتواها بذراعيه، وهمس بجانب أذنها:


متخافيش... أنا معاكي.. اهدي 


ثم رفع رأسه نحو عمته وبقية العائلة وعينيه الكفيفتين تشعان بقوة غاضبة وصاح بصوت يهز المكان:


محدش مسموح ليه يلمس مرتي أو يقرب منها غيري! وال هيتعدى حدوده معاها تاني... أنا ال هتصرف معاه


تقدمت سلمى بخطوة وعينيها مليئتان بالدموع والغضب، وقالت بحدة:


انت بتحمي ال جتلت جمال وخدته مننا 


صرخ جبل، وصوته ارتجف وهو يدوي كالرعد:


لع أنا بحمي مرتي... وحتى لو هي السبب في موت جمال، فأنا ال هحاسبها، مش إنتوا! واعتبروا دي آخر مرّة... ال هيقرب من مرتي مش هسكتله. وعلى فكره... أنا هعمل العمليه جريب حبيت اعرفكم يمكن حد فيكم يفرح مع اني اشك 


ثم مد يده يبحث عن غفران. قبض على يدها المرتجفة بقوة وقبل ان يكمل حديثه قاطعه صوت اتصال هاتفب فاجاب وبعد ثواني تحدث بصدمه: 


نعم؟!  ماتت و 


الفصل الخامس

ظلام الصعيد


كانت أروقة المستشفى تضجّ بصوت خطواتٍ متسارعة وصرير العربات الطبية، والوجوه القلقة تتناثر هنا وهناك. دخل جبل وهو يسند نفسه بعصاه، وبجانبه غفران التي تتشبّث بذراعه بخوفٍ مكتوم. وما إن لمح الاثنان هيئة أسد الجالس في زاوية الممر، حتى تجمدت أنفاس غفران..... كان منكفئ الرأس، كأن الدنيا انطفأت من حوله فـترددت غفران للحظة ثم شدت على يد جبل المرتجفة وهمست بصوتٍ حنون مرتبك:


تعال... اجعد جمبه يا جبل..... هو محتاجك دلوجتي تكون جمبه


قادته بخطوات بطيئة حتى جلس إلى جوار أسد، ثم تركت يده ودخلت الغرفة حيث ترقد حورية، بينما جلس جبل في صمت ثقيل إلى جانب صديقه فـ رفع أسد رأسه ببطء... عيناه محمرتان من البكاء، وصوته خرج مبحوحا وهو يضغط على صدره:


بنتي يا جبل. البنت ال ملحقتش تيجي الدنيا... كانوا بيجولوا في الشهر الرابع وإحنا حتى مكناش نعرف إنها حامل اصلا 


ارتعشت يد جبل وهو يمدها ليمسك بذراع أسد، محاولا أن يخفف من انهياره، لكن أسد لم يحتمل أكثر، فاندفع وارتمى في حضنه، كطفل فقد كل سند زهز جسده بالبكاء، وخرج صوته متقطعا:


أنا... أنا كل ال كان يهمني حورية... كانت نفسها تبجى أم يا جبل كانت بتحلم باللحظة دي من زمان. وأنا معرفتش أفرحها، معرفتش أحافظ على حلمها


شد جبل ذراعيه حوله بقوة، وعيناه الكفيفتان تتجهان كأنهما تبصران وجع قلبه وهمس بصوت ثابت لكنه يقطر حزنا:


اهدى يا أسد... بكرة تبجى حامل تاني وربنا يرزقك بأولاد يملوا عليك البيت. المهم دلوجتي إنها تبجى بخير... وحلمها لسه مراحش يمكن يتأجل بس 


ارتجف أسد أكثر وهو يرد بين شهقاته:


بس يا جبل... هي موضوع الحمل دا كان مأثر عليها جوي  وأنا خايف يأثر عليها اكتر 


ضغط جبل على كتفه وقال بحزم دافئ:


طول ما انت جمبها... كل حاجه هتبجي كويسه والله.. بس بلاش  ال بتعمله دا... اوعي تضعف انت ظابط وراجل صعيدي لو شافتك اكده مش هتجدر تتخطي الفتره دي اهدي اكده وان شاء الله كل حاجه هتتصلح 


ظل الاثنان صامتين بعدها، لا يسمعان إلا أنين القلب المكسور وأنفاس المستشفى المثقلة بالوجع، فيما كانت غفران تقف خلف الباب، تضع يدها على صدرها، وعيناها تمتلئان بالدموع وهي تستمع إلى ذلك الحوار الموجع، شاعرة أن الحزن يثقل صدر الجميع وفي مساء يوم جديد، جلست غفران في غرفتها، تستند إلى حافة السرير وعيناها شاردتان في الفراغ، لكن عقلها لم يكن يعرف سبيلا الا إلى جبل. كانت صورته تلاحقها في كل لحظة، ملامحه الصارمة، صمته الموحش، وغموضه الذي ينهش قلبها دون رحمة وفجأة، انفتح الباب ببطء، ودخل جبل. كان يرتدي قميصا مفتوح الأزرار يتدلى على جسده المرهق، وقطرات العرق تلمع على صدره، فيما شعره مبعثر كأنه خرج تواً من معركة طويلة. أدركت غفران في لحظة أنه كان في غرفة الجيم، يفرغ ما بداخله من صراع لا ينتهي فـ اقتربت بخطوات مرتجفة و التقطت الفوطة الموضوعة على الكرسي، ومدت يدها تمسح بها وجهه ببطء وحذر، بينما ارتجفت أصابعها كأنها تعترف بخوفها. ورفع جبل عينيه نحوها وقال بصوت غليظ:


إيدك بتترعش ليه؟ وليه كل ما تقربي مني بتبجي اكده


حبست غفران أنفاسها وحاولت التماسك، لكن صوتها خرج مبحوحا وهي ترد:


انت... انت هتعمل فيا إي


اقترب أكثر، ونبرته صارت كالسهم يخترق صدرها:


هخليكي تجتلي نفسك .. زي ما جمال بالظ


دمعت عيناها بغتة، وخرجت كلماتها مختنقة:


اجتلني...  أهون عليا 


ابتسم جبل بسخرية باردة، وهز رأسه قائلاً:


لع.. الموت رحمه. وأنا مش هرحمك. اعتبري الفتره دي... تعويض. لحد ما أخليكي تقتلي نفسك... حتى دي مش هسمحلك بيها غير بمزاجي


تراجعت خطوة، وصوتها يرتجف:


تعويض... تعويض عن إي


اندفع نحوها فجأة وقبض على وسطها بعنف وسحبها إليه، حتى كادت أنفاسها تنقطع، وهمس قرب أذنها:


عن العجز... مش كنتي بتجولي إن جمال عاجز؟ خلاص... أنا هعوضك


اقترب منها أكثر وعيناه مشتعلة بظلام غريب، ثم طبع قبلة مفاجئة على شفتيها وحاولت أن تدفعه، أن تقاومه، لكن جسدها خانها، لتجد نفسها هي من تقترب أكثر، كأنها تذوب في تلك اللحظة. وعندما انحنى إلى عنقها وبدأت قبلاته تحاصرها، استسلمت يداها وارتفعتا تحيطان بعنقه حينها فقط، ارتسمت على وجهه ابتسامة خبيثة، ودفعها بعيدا عنه ببرود، وقال وهو يتأملها باحتقار:


مش جولتلك؟... انك رخيصه. كل ال يهمك أي راجل وخلاص.


ثم استدار وتركها واقفة كتمثال محطم، واتجه نحو خزانته يبدل ملابسه غير مبالي، قبل أن يخرج دون أن يلتفت إليها وظلت غفران في مكانها، قلبها يتفتت من الذل، ودموعها تحرق وجنتيها وشعرت أنها تسحق تحت وطأة كلماته أكثر من أي شيء آخر. لم تحتمل البقاء، فاندفعت خارج الغرفة، وهي منهارة كليا، تحمل في صدرها جرحا أعمق من الموت نفسه وبعد فتره جلست سلمى كانت تقف امان امرأة جالسة على كرسي قديم، عينها ثابتة كأنها تراقب كل نفس يمر. و اقتربت سلمى ببطء، ولاحظت أن وجه المرأة يحمل شيئا من الحدة والقسوة الممزوجة بحزن قديم. فـرفعت المرأة رأسها ونظرت إليها مباشرة، ثم قالت سلمي بحدة عامية:


إنتي عايزة مني إي بالظبط؟ وليه اكده


ابتسمت المرأه وهتفت:  


انا عايزة أنتجم من العيلة كلها... بس مش منك. وانتي كمان لازم تنتجمي 


تبدلت ملامح سلمى بين استغراب وغضب خافت، وسألت بصوتٍ متردد:


انتجم ليه؟ محدش أذاني.


هزت المرأة رأسها بمرارة قاتمة وقالت:  


لع. غفران آذيتك. وآذيتني. وهي... هي جتلت ابني."


تراجع صدر سلمى كما لو تلقى طعنة بطيئة، فتلعثمت بلهفة واندفاع:


مين ابنك دا 


تنهدت المرأه ببطئ وهتفت: 


جمال... جمال ابني


صعقت سلمى ووقف الزمن في عينيها للحظة وفي عمق الليل، كان السكون يخيم على بيت أسد إلا من أنفاس متقطعة تحمل تعبا دفينا ودفع الباب برفق، ودخل إلى الغرفة حاملا صينية صغيرة عليها بعض الطعام الساخن. وجلس بجوار حورية، محاولا أن يرسم ابتسامة على وجهه رغم الحزن الذي يثقل صدره وقرب إليها الصحن قائلا وهو يمد يده إليها:


يلا يا حورية، لازم تاكلي اي حاجه


أبعدت الطعام بيد مرتجفة، وحركت رأسها نافية. فمد يده يلامس وجنتها بحنو، وصوته يتهدج بإيمان ممزوج بحب:


ـوالله يا حورية، ربنا هيعوضنا خير… وهتبجي أحلى أم في الدنيا


لكن فجاه قاطعته حوريه كلماتها  التي جاءت كالسهم تخترق صدره مردده:


طلجني يا أسد


تجمدت ملامحه وارتجف قلبه وحدق فيها مذهولا:


انتي بتجولي إي 


أشاحت بنظرها بعيدا، ودموعها تنحدر وهتفت :


ـمامتك عايزه حفيد وبتجول دايما انه لازم يكون فيه وريث يحافظ على فلوس العيله… وانت نفسك في ابن، وأنا مش هجدر أسعدك. يبجى الأحسن… تطلجني وتتجوز واحده تديك ال انت عايزه


شدد اسد على يدها وهتف :


أنا مش عايز ابن… أنا عايزك إنتي.. والله ما عايز حد غيرك 


أجابت بصوت مبحوح، يخفي داخله انكسارا: 


وانا عايزه أشوفك مبسوط… اتجوز يا اسد 


اقترب منها أكثر، وعيناه تحترقان مردفا :


هتجدري تشوفيني في حضن واحده غيرك


هزت رأسها بإصرار، والدمع يلمع في عينيها: 


هستحمل… علشان أشوفك مبسوط.. مستعده استحمل اي حاجه 


وقبل أن يرد فتح الباب فجأة، ودخلت الخادمة بخطوات مترددة، تنحني قليلا ثم تقول:


يا بيه… أخت الست حورية وصلت علشان تاخدها معاها


تصلب جسد أسد، والتفت نحو حورية، بينما قلبه يتخبط بين الغضب والخوف والخذلان. وفي صباح يومٍ جديد، سكنت أجواء البيت على قلق خفي... تتناثر الوجوه فيه بين ترقب وحيرة.....و كانت صفية تجلس في وسط الدار، تتلفت بعصبية والقلق يأكل ملامحها ثم رفعت صوتها:


 هو فين جبل؟ فين اختفى من بدر.. وانتوا واجفين تتفرجوا عليا 


ارتبك الخدم وتبادلت العيون الحائرة، بينما غفران تقدمت بخطوات مترددة وقالت محاولة التخفيف:


يمكن راح الجيم… أو يكون مع أسد.


وفجأة انتفضت صفية وصوتها يعلو كالصاعقة:


اسكتي انتي.... انتي مش فاهمة حاجه.  جبل  حياته في خطر


ارتعش قلب غفران، وشحب وجهها وهي تهمس بقلق:


خطر؟! يعني إي  و


لكن قبل أن تنطق بمزيد من الكلمات، دوى صوت سيارة إسعاف أمام باب الدار. واندفع الجميع إلى الخارج، والصدمة شلت أطرافهم حين رأوا رجال الإسعاف يفتحون الباب الخلفي… وأسد يهبط بوجه شاحب متجهم، وخلفه نقل جسد جبل على نقالة و جراح غائرة تغطي جسده وكأن حربا كاملة اندلعت على جلده ف،  تجمدت غفران في مكانها وعينها متسعة، والدموع تتساقط دون وعي و


الفصل السادس 

ظلام الصعيد 


ساد الصمت الممر لبرهة والعيون معلقة بجسد جبل المستلقي والقلق ينهش القلوب. وقف الجميع متوترين، حتى قطع أسد الصمت بصوتٍ حاول أن يبدو مطمئنا:


حادثه بسيطه... متخافوش... هو بخير اهه إن شاء الله 


وفي تلك اللحظة تحرك جفن جبل ببطء، ثم فتح عينيه المطفأتين، فارتفعت همسات القلق إلى دعاءٍ صامت. واقتربت منه عمته جهاد وبجانبها صفية، وهما ترتعشان خوفا، ومدت صفية يدها تلامس كفه بحذر وهي تقول:


إنت كويس يا جبل؟ طمني يا ابني


ابتسم ابتسامة واهنة وقال بصوت خافت:


متخافوش.. أنا كويس الحمد لله 


وفجأة اندفعت سلمى من الغرفة المجاورة تركض نحوه، والهلع باد في ملامحها، ثم انحنت بجانبه، ووضعت كفها المرتعش على وجهه، كأنها تتأكد أنه حي. فـارتجف قلب غفران لرؤيتها، وشعرت بحرارة الغيرة تلسع صدرها لكن أسد تدخل سريعا وهو يرفع يده بحزم:


كفايه... هو محتاج يرتاح دلوجتي. يلا كلنا نسيبه ينام


ترددت سلمى ثم همست برجاء:


انا هفضل معاه، مش هعمل صوت.. بس مجدرش اسيبه لوحده اكده 


رفع أسد حاجبيه وقال بنبرة حادة:


مرته موجوده. يلا يا سلمى


شهقت سلمى بخيبة، وانسحبت بخطوات ثقيلة، فيما خرج الجميع خلفها، وبقيت غفران وحدها معه واقتربت بحذر وجلست إلى جواره، وعيناها تتأمله بقلق وهمست بصوتٍ مبحوح:


اي ال حوصلك.... انت كويس دلوجتي؟


أدار رأسه نحوها فجأة، وصوته خرج جافا صارما:


إنتي... إنتي ال حاولتي تجتليني صوح


شهقت غفران، وارتجفت كلماتها وهي تهتف:


اجتلك إي هو انت حد حاول يجتلك 


أومأ برأسه، وقال بنبرة جازمة:


ايوه حد حاول يجتلني بس معرفش 


اغرورقت عيناها بالدموع، ورفعت يدها تحلف قائلة:


والله ما أنا... مستحيل أفكر أعمل اكده فيك


حاول أن ينهض عن السرير رغم تعبه، فانحنت بسرعة تمسك بذراعه تسنده، وقالت له بصوت قلق:


استنى... إنت لسه تعبان 


زفر بحدة، ثم قال وهو يبتلع أنفاسه المتقطعة:


أنا مسافر بره... عندي شغل مهم


نظرت إليه بصدمة وهمست:


ازاي يعني لوحدك؟! إنت مش شايف حالتك


أطلق ضحكة مريرة وقال:


حالتي؟ إن أنا أعمى ومش بشوف يعني ؟ متخافيش  أسد هيكون معايا... وفي الفتره دي، اقنعي صاحبتك ترجع لجوزها وتبطل الدلع ال هي فيه اسد بيحبها 


رفعت غفران رأسها بإصرار وهمست بحرقة:


هي مش مدلعة... هي خايفه عليه


قطب جبينه وقال بصوتٍ قاطع:


ال بيحب حد... مبيسيبهوش مهما حوصل


ثم دفع يدها عنه ببطء، وهو يردد ببرود:


ابعدي... أنا بجيت كويس. مش محتاج مساعده


تقدمت خطوة نحوه، وصوتها يخرج بلهفة لم تستطع إخفاءها:


مستحيل أسيبك... إنت لسه تعبان


ثم ارتبكت فجأة، وخفضت صوتها محاولة إصلاح كلماتها:


جصدي يعني... علشان لو احتاجت حاجه بس 


وبعد فتره وقفت سلمى مقابل صفية بعينين مليئتين بالتحسر والغضب، وصوتها يخرج مقطعا:


إزاي جمال مش ابنك؟! 


ارتعشت صفية، وارتسم على وجهها صدمة عميقة، فتعثرت كلماتها:


مين جال اكده؟! مين يجرؤ يجول الكلام دا؟


صرخت سلمى بصوتٍ يكاد يكسر الهدوء:


واحدة... واحدة عايزة تنتجم منكم كلكم هي ال جالتلي الكلام كله... وهي ال عاوزه تفضحكم 


وفي تلك اللحظة دخلت جهاد مسرعة، وبدون تردد ضربت سلمى بقوةٍ جعلتها تتأوه وتحرك يدها عن وجهها، وقالت بغضب: 


إنتي بتجولي إي ؟! اخرسي وبلاش تفتحي الموضوع دا. اسمعي الكلام واطلعي بره فورا والله هسفرك من غير تفكير ومش هتيجي اهنيه تاني. ولو شوفتي الست دي تاني والله هاخدك واسفرك علطول من غير نقاش 


انسدحت سلمى على الباب تبكي، وصوت بكائها يقطع الصمت وهي تخرج متلعثمة بين الدموع. بعد خروجها، جلست صفية على الكرسي، ووجهها محمل بالخوف والحيرة، والدموع تتسلل من عينيها بينما تقول بهمس مرتعش:


هنعمل إي لو الحقيقه اتكشفت؟ كل حاجه هتضيع... كل ال تعبنا فيه هيروح 


رفعت جهاد رأسها بنظرة حازمة، وصوتها صار باردا كالسيف:


مفيش حقيقه هتتكشف. هي فاكرة إن جمال ابنها ومش عارفة إن جبل هو ال ابنها. سيبيها على اكده أحسن  محدش لازم يعرف حاجه، لا جبل ولا أي مخلوق في الدنيا. أما الست دي... أنا هتصرف معاها.


توقفت لحظة وكأنها تذكرت شيئا مظلما في صدرها، ثم أكملت بصوتٍ تئن منه العزيمة:


لازم اجتلها... بس لازم أعرف مكانها الأول علشان انا متاكده انها مستحيل تظهر جدامنا 


انتهت كلماتها كما لو أنها لا تدرك ثقل ما نطقت به، ولم تشعر بوجود أحدٍ آخر. اما خارج الغرفة فوقفت غفران متمسكة بمقعد الممر، قدميها مكبوتتان وقلبها يطرق صدرها بعنف. كانت قد خرجت لتبتعد عن الضجيج لكنها لم تستطع، فبقيت هناك تسمع كل كلمةٍ تلقى داخل المنزل  كلمات مزقت صدرها حد الصدمة. اما. عند جهاد فقفلت  عينيها للحظة، ثم نظرت إلى صفية بصرامةٍ مكملة عزمها:


متتكلميش في الموضوع تاني. أنا هتابع الموضوع دا بنفسي


وغادرت الغرفة، تاركه خلفهما صفية تبكي بهدوءٍ، وغفران واقفة في الظل وقد امتلأ صدرها بعاصفة من الأسئلة والخوف وهي تعلم الآن أكثر من أي وقتٍ مضى، لكن لم يجرؤ لسانها على أن ينطق وفي صباح يوم جديد استقر الصباح فوق الدار بنفحاتٍ خفيفة من نور وجلست غفران إلى جانب حورية في حجرةٍ صغيرةٍ مغمورةٍ بظل الحزن. كانت حورية ممسكة بمنديل تبكي، وتكرر بين شهقاتها كلماتٍ يملؤها الحنين:


أنا بحب أسد... ومش جادرة أعيش من غيره. بس عايز يخلف ويفرح، ده كل ال يهمني والله سعادته بس


مسحت غفران دموعها بهدوء، وجلست أقرب إليها، وأمسكت يدها بحنان محاولة أن تطمئن قلبها المهتز:


سعادته معاكي يا حوريه؟ ده واضح. هو مش عايز غيرك. فكري في ده شويه... أسد مش هيتجوز أي واحدة تانيه. هو بيحبكِ إنتي وحتى لو اطلجتوا مش هيتجوز غيرك


خف ضوء البكاء عن وجه حورية ولامع الأمل في عينيها وهي تنهض بابتسامةٍ صغيرةٍ تمسح أثر الدموع وهتفت: 


سيبك من الهم دا، إن شاء الله يتحل... المهم إن جبل مكلمكيش؟


رفعت غفران بصرها، وابتلعت ريقا ثقيلا قبل أن تقول بنبرةٍ مرتعشةٍ تعلن بخفةٍ عن حقيقةٍ لم تقر بها لنفسها بعد:


لع متكلمش من ساعة ما سافر... وانا خايفة عليه والله. أنا.. مش عارفة. بس حاسة إن فيه حاجة ناجصاني لما سابني، ولما بيبجى معايا بحس إني متوترة... يمكن ده دليل إنه... يمكن إني بحبه بس لسه معترفتش لنفسي تمام.. انتي فاهماني


جلست حورية مبتسمة بحزن وغمزت بعينها كما لو تهمس لها بالحقيقة القاسية:


ايوه ده ال واضح. بس اسمعي الكلام مني هو بيبصلك بعين انتجام، مش حب دلوجتي. هو بيكرهك وعايز ينتجم. دي فرصتك.. امشي واهربي، محدش هيجدر يمنعك دلوجتي. لسه هيفضل يعرضك للخطر لحد ما يجتلك


جفت أنفاس غفران ومر صمت قصير كأنه يقيس لها خطواتها ثم رفعت رأسها بوجهٍ لا يخلو من قسوةٍ وحزمٍ غامض:


ممكن كل الكلام دا يكون صحيح... وممكن أنا فعلا بخاف. بس مش هرجع ولا ههرب دلوجتي. مش ده الوجت ال أمشي فيه.


رمقتها حورية باندهاشٍ وخوفٍ، وقالت بصوتٍ منخفضٍ:


إنتي متأكدة؟


أجابت غفران بعينين ملؤهما قرار خافت وثابت:


مش متأكدة خالص. بس جلبي مش هيسيبها اكده... لو الموت قدامي، هواجهه، بس مش ههرب


وفي صباح جديدٍ اجتمع الجميع أمام الدار، ينتظرون عودة جبل بقلوب متوترةٍ وعيون مترقبة. كانت غفران تقف في آخر الصف يديها متشابكتين بعصبية، تحاول أن تخفي ارتجافها كلما اقتربت أصوات السيارات من بعيد. وأخيرا، توقفت سيارة أمام الباب، ونزل منها جبل بخطواتٍ ثابتةٍ، رغم أن وجهه كان متعبا أكثر من ذي قبل. ما إن رآه أهل الدار حتى اندفعت نحوه عمته جهاد وزوجة عمه صفية تعانقانه بحرارةٍ ودموع في الأعين.

فـ ابتسم جبل ابتسامة واهنة وهو يقول بصوتٍ مبحوح:


أنا كويس اهه الحمد لله.. واحشتوني جوي 


وفي تلك اللحظة تقدمت غفران ببطء، قلبها يخفق بعنف وهي تحدق فيه بـ شيء غريب كان يكسو ملامحه، نظراته لم تكن عادية، بل كأنها تخترقها وتفحص أعماقها. شعرت بقشعريرةٍ تسري في جسدها وهمست لنفسها:


هو بيبصلي ليه اكده.. كانه اول مره يشوفني


اقتربت خطوة منه بتردد، كأنها تريد أن تسأله شيئا لكنه ظل يطيل النظر إليها بصمتٍ مثقل. وفجأة تجمدت في مكانها حين رأت فتاه زدخل بخطواتٍ واثقةٍ، تقترب من جبل دون تردد، ثم مدت يدها تمسك بيده أمام الجميع.

وساد الصمت وغفران ظلت واقفة في مكانها، عيناها معلقتان بالمشهد، وقلبها يطرق صدرها بعنف و 

يتبع 



اللي بيحب الروايات الكامله والحصريه من هنا 👇 ❤️ 👇 


روايات كامله وحصريه



لاتلهكم القراءه عن الصلاه وذكر الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم 



❤️🌺🌹❤️🌺❤️🌹❤️🌺🌹❤️🌺🌹❤️🌺🌹❤️🌺🌹🛺🛺🛺🛺🛺


الصفحه الرئيسيه للروايات الجديده من هنا


جميع الروايات الحصريه والكامله من هنا


انضموا معنا علي قناتنا بها جميع الروايات على تليجرام من هنا


❤️🌺🌹❤️🌺❤️🌹❤️🌺🌹❤️🌺🌹❤️🌺🌹❤️🌺🌹🛺🛺🛺🛺🛺






تعليقات

التنقل السريع
    close