رواية روح الفصل الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس بقلم نور الشامي حصريه وجديده
كانت تقف على السلالم الباردة بملابس البيت التي لم تكن تليق لا بالشارع ولا بالموقف. قدماها الحافيتان ترتجفان من صدمة اللحظة، ودموعها تنهمر في صمتٍ مخنوق، كأن قلبها يلفظ أنفاسه الأخيرة وخلفها باب الشقة مفتوح على اتساعه، وزوجها يقف كالصخرة عند العتبة، لا تزلزل مشاعره صرخات البنات الصغيرات اللاتي تعلقن بأطراف ثوب أمهن وهن يبكين:
ماماااا… ماماا
صرخت الصغيرة ووجهها مغمور بالدموع، وذراعاها تلتفان حول ساق أمها المرتعشة، بينما الأخرى تمد يدها نحو الأب وتقول:
خليها تجعد معانا..بالله عليك يا بابا
لكن الأب لم يتحرك، عيناه كانتا جمرة مشتعلة من الغضب، وصوته خرج حادّا، جارحا، كالسكين:
ابعدي من اهنيه … انتي لا ليكي ولاد، ولا ليكي بيت! دول ولادي أنا… مش ولادك
شهقت روح وكأن صدرها قد طعن بطعنة لم تكن تتوقعها حتى في أسوأ كوابيسها وهتفت:
ليه؟ أنا عملتلك إي؟! ده أنا اتجوزتك من غير رضا أهلي! ضحيت بكل حاجة علشانك، حتى كرامتي نسيتها… جولي عملتلك إي انا كنت بموت نفسي علشان أرضيك... اي ذنبي
نظر إليها باحتقار بصوته المليء بالكره:
انزلي بكرامتك قبل ما أطلعك مرمية في الشارع.. وجولتلك ملكيش عندي بنات
![]() |
في تلك اللحظة خرجت فتاة شابة من الشقة، كانت بشعرها المنسدل ونظرتها الماكرة تحمل شرا لا يخفى ووضعت يدها برقة مصطنعة على كتف الرجل وقالت بابتسامة خفيفة:
يلا يا حبيبي بجا... خلينا نرتاح… وبعدين هو انت مجولتلهاش ولا اي عاد
ثم نظرت إلى روح نظرة انتصار وأردفت:
هو معرفكيش إنه مطلجك
شهقة أخرى انفجرت من صدر روح وركبتيها كادتا أن تخوناها من الهول فـ نظرت إليه، وعيناها ترجوانه أن ينفي، أن يكذب، أن ينقذها من هذا الغرق لكنه لم يفعل بل اقترب منها فجأة، ومد يده إلى شعرها، وسحبها بعنف، حتى تعثرت في عتبة الباب والدمعة الأخيرة سقطت على خده الصغير الذي كان يمد ذراعيه نحوها:
ماماا
صرخة الطفلة شقت قلبها بينما هو يزج بها خارج البيت، ويغلق الباب بقوة خلفها، ويتركها وحدها… على السلالم… عارية من كل شيء… حتى من لقب أم
وفي مكان اخر في قصر كبير…كان هذا الشاب نائما على سريره العريض عاري الصدر، غارقا في ظلام الغرفة إلا من خيط ضوء خافت يتسلل من فتحة الستائر الثقيلة. وانفاسه كانت هادئة، لكن وجهه لم يعرف السكون، وكأن حتى في نومه يحمل معركة وبجواره، جلست ميرا على طرف السرير، تراقبه بعينين ممتلئتين بالضعف والرغبة حتي مدت يدها ببطء، تلامس بها صدره، ثم وجهه، وابتسامة صغيرة بدأت ترتسم على ملامحها…وقبل أن تقترب أكثر، فتحت عيناه فجأة واعتدل في جلسته بسرعة، وصوته خرج خشنا حادا:
انتي بتعملي إي اهنيه
ارتبكت ميرا وسحبت يدها بسرعة وهي تقول:
كنت... جاية أطمن عليك... بس لاجيت الباب مفتوح
نهض ركان واقفا، وصرخ في وجهها مرددا:
مش أنا حذرتك مليون مرة متدخليش أوضتي؟! خصوصا وإنتي عارفة إني نايم
خفضت نظرها، وبان الحزن في عينيها، لكنها لم ترد.وفجأة، انفتح باب الغرفة ودخل الحارس مسرعا، يتنفس بقوة وهتف بلهفه:
يا باشا… عرفنا مكان بنت عم حضرتك
جمدت ملامح ركان ثم اتسعت عيناه، أما ميرا فشهقت بصوت مخنوق:
عرفتوا مكان روح.. ليه وازاي
ثم نظرت الي ركان بعينين تمتلئان بالغيرة والوجع، وقالت بمرارة:
إنت عايز منها اي... هي خلاص هربت وسابتنا... وعمي الله يرحمه مات من قهرته عليها ولا ناسي
استدار نحوها بغضب وقال بحدة:
اسكتي يا ميرا
ثم التفت إلى الحارس، وصوته جاء صارما لا يقبل التردد:
هي فين؟ هاتوها... هاتوها حالا
أومأ الحارس برأسه وردد:
حاضر يا باشا... بعد اذنك
وغادر بسرعة، تاركا خلفه غليانا في العيون… وسكونا في القلب لا يشبه السكون وفي غرفة صغيرة بالكاد تتسع لسريرين أطفال وخزانة متهالكة، كان كل شيء يئن من الحزن…الصمت لم يكن صمتا حقيقيا، بل كان محشوا بالبكاء… وأنين خافت كأنه يستغيث وجلست ليان على طرف السرير، عيناها مغرورقتان بالدموع، ويديها ترتجف وهي تهز جسد أختها:
جومي يا ميرا … جومي بالله عليكي، ماما مش اهنيه… جومي خدي علاجك انا بدور عليع
لكن ميرا الصغيرة ذات الخمس سنوات، كانت تتنفس بصعوبة، صدرها يرتفع ويهبط كأن الهواء أصبح ثقيلاً، ووجهها بدأ يفقد لونه الوردي فـ ركضت ليان نحو الدولاب القديم، وفتحته بعنف، تقلب بين الملابس والعلب الفارغة:
فين الدوا؟! كان اهنيه… أنا متأكدة إنه كان اهنيه
بحثت تحت السرير، خلف المخدة، حتى رفعت الغطاء بيدين مذعورتين وهي تبكي بحرقة طفلة لا تعرف كيف تنقذ أختها مردده:
يارب… يارب ساعدني
وفجأة… انفتح باب الغرفة، ودخلت امرأة بثياب أنيقة، وعينين لا تحملان أي ذرة حنان كانت رانيا، زوجة الأب. التي وقفت عند الباب تنظر للبنتين كأنهما ليستا من لحم ودم، بينما ليان ركضت نحوها، تمسك بيدها، وتقول برجاء:
طنط رانيا… ميرا تعبانة جوي… مش جادرة تتنفس… لازم تاخد الدوا بتاعها… بالله عليكي
نظرت رانيا حولها ببرود، إلى أن وقع بصرها على عبوة الدواء قرب النافذة، فذهبت إليها وحملتها في يدها، ثم التفتت نحو ليان وقالت بلهجة باردة:
جدامكم ساعة… لو دخلت ولاجيت لسه في عياط…هيبجي مفيش علاج
شهقت ليان بدهشة وقالت وهي تحاول أخذ الدواء منها:
بس دي تعبانة جوي… دي هتموت
رانيا ببرود:
لما تبطلوا عياط، تبجى تاخد دواها
ودفعتها بقسوة، فسقطت ليان على الأرض، وظلت تبكي، وركضت نحو أختها تمسك وجهها وتهمس:
استحملي يا ميرا … بالله عليكي، استحملي... ماما اكيد هتيجي وتاخدنا من اهنيه
خرجت رانيا وأغلقت الباب خلفها بقوة، بينما بقيت الطفلتان في الداخل وحدهما....ميرا التي لم تكن قادرة على التنفس، وكل ثانية تمر كانت تختنق أكثر وليان التي بدأت تصرخ، تنادي:
ماما... ماما تعالجي بجا بالله عليكي
ثم تجمدت ملامحها وهي ترى أختها تسقط فجأة من فوق السرير… ترتجف للحظة… ثم تسكن فصرخت بصوت يخترق جدران البيت
وفي مكان اخر بالتحديد في احدي الشوارع كانت روح تسير في شارع شبه خالي وقدماها تجرانها جرّا، ملابسها مبعثرة، وعيناها لا تتوقفان عن البكاء..... كان الهواء باردا والسماء ملبدة… كأن الكون كله يعكس داخلها حتي تمتمت لنفسها وهي تمشي:
كان عندك حق يا ابوي… مكانش ينفع… كنت شايف ال عمري ما جدرت اشوفه
وتعلو في أذنيها أصداء صوته القديم، تلك الليلة التي سمعت فيها رفضه القاطع لزواجها، محفورا في ذاكرتها كنقش لا يمحي مرددا:
هتندمي يا روح… الولد دا مش ليكي، ولا لينا… ولا هو من طينتنا…ابعدي عنه وكفايه اكده بجا
كانت كلماته آنذاك كخناجر تتطاير حولها، لكنها تجاهلتها… دفنتها تحت عنادها، تحت حبها الذي ظنته خالدا وشددت الغطاء على جسدها المرتجف، والدموع تبلل وجنتيها دون توقف وشهقت بأنفاس مكسورة، وهمست بصوت بالكاد يسمع:
مكنتش عايزة أصدجك… بس فعلا… كل حاجة راحت… حتى بناتي راحوا مني
وفي لحظة انكسار كاملة، وقفت في منتصف الطريق، دون أن تعي اتجاها أو وجهة. كانت تحتضن نفسها، كأنما تبحث عن دفءٍ فقدته للأبد، وانفجرت في نحيب موجع لكن الهدوء لم يدم وفجأة، ظهرت سيارة سوداء، بلا لوحات، كأنها خرجت من ظلام متربص وتوقفت بجوارها بعنف، وكاد الهواء أن يسحب معها وقبل أن تدرك ما يحدث، انفتح الباب الخلفي، واندفع رجلان ملثمان نحوها فـ صرخت بأعلى صوتها، ورعبها جمد الدم في عروقها وهي تهتف :
انتوا مين؟! إبعدوا عني.. عايزين مني اي عاد
حاولت روح الفرار، لكن يدا خشنة جذبتها من ذراعها بعنف، وسدل على وجهها غطاء أسود، لا يظهر شيئا سوى العتمة وعلت أنفاسها المرتجفة وسط صمت موحش، ودوى صوت محرك السيارة وهي تنطلق بسرعة جنونية…واختفت روح وفي زاوية غرفه الصغار كانت ميرا مُمددة على السرير ووجهها شاحب وعيناها مغلقتان كمن غادر الحياة في صمت فـوقف والدها بجوار الجدار، ذراعه مضمومة على صدره، وصوته خالي من القلق و من الحب و الأبوة وهتف:
ها يا حكيم، هتفوق إمتى؟… إحنا بس نسينا نديها العلاج، يعني مش حاجة كبيرة…"
رفع الطبيب رأسه من فوق جسد الطفلة ونظراته حادة، مشتعلة بضيق لم يحاول إخفاءه. ثم بصمت ثقيل، غطى وجه الصغيرة بالملاءة البيضاء واستدار نحو الرجل وقال بصوتٍ خافت:
البقاء لله و
الفصل الثاني
روح
كانت أروقة المستشفى تضجّ بأصوات الخطوات السريعة، وصفير أجهزة الإنذار، ورائحة المطهرات التي تخترق الروح قبل الأنف. كانت روح تجري في الممر الطويل، شعرها المبعثر يتطاير خلفها، وصوتها يعلو بنحيبٍ مخنوق:
ميرااا… بنتي… فين بنتي... ميرا
اصطدمت بممرض، ثم دفعت الباب المؤدي إلى قسم حفظ الجثث، غير آبهة بصرخات الموظفين خلفها. ووقفت أمام الطبيب وهي تلهث، والدموع تتساقط بلا انقطاع:
بالله عليك… أنا أمها… وريني هي فين… وريني بنتي.. ابوس يدك يا حكيم
حاول الطبيب أن يهدئها، لكن نظرة الانكسار في عينيها كسرت تردده، فأومأ برأسه وأشار إلى الداخل. وخطت خطوات بطيئة، كأن قدميها تغوصان في بحر من الجمر، حتى وصلت إلى السرير المعدني البارد. ومددت يدا مرتعشة، وأزاحت الغطاء الأبيض عن الوجه الصغير… كان شاحبا ساكنا، كدمية فقدت الحياة. فـ شهقت روح شهقة كأنها انتزعت من أعماق روحها، ثم ارتمت على جسد ابنتها تضمه بكل ما بقي لها من قوة:
اصحي يا ميرا… بالله عليكي جومي… متسبينيش لوحدي… أنا جيت أهو… متروحيش وتبعدي عني يا بنتي بالله عليكي
لكن البرودة التي تسللت إلى كفيها كانت أقسى من أي رد، فأجهشت ببكاء مرّ، يهز جدران المكان. حاول الممرضون إخراجها، وهي تقاوم كالغريقة التي يتم انتزاعها من آخر نفس وحين خرجت، وقعت عيناها على سالم، زوجها، واقفا عند باب الممر ووجهه شاحب يختلط فيه الغضب بالحزن، وإلى جواره رانيا، بثوبها الأنيق ونظرتها القاسية. اندفعت روح نحوه، تمسكه من ياقة قميصه بعنف وهي تبكي وتصرخ :
إنت ال جتلتها… إنت السبب… إنت موت بنتك... جتلت بنتك ربنا ينتجم منك... ربنا ينتجم منك يا سالم
وقف سالم مذهولا وكأن الكلمات أصابته في مقتل، لكنه لم ينطق. أما رانيا، فدفعتها بعصبية، وهي تقول بحدة:
ابعدي عن جوزي يا قليلة الربايه… وبنتك التانية عندنا، احترمي نفسك بدل ما أخليكي تتحسري عليها كمان
كادت روح تسقط من قوة الدفعة، لكن يدا قوية أمسكتها قبل أن ترتطم بالأرض فـرفعت بصرها لتجد أمامها وجها تعرفه جيدا… ركان، ابن عمها، يقف بصلابة، وخلفه أربعة من رجاله بملابس سوداء. الصدمة انعكست في عيون الجميع، حتى روح نفسها. فاقترب منها، وعيناه تحملان مزيجا من الغضب والجدية، وصوته منخفض لكنه نافذ:
البقاء لله يا بنت عمي
نظرت إليه بدموع تسيل بلا توقف، وهمست بصوت مبحوح:
بنتي ماتت… والتانية هتموت معاهم… أنقذها بالله عليك… وبعدها اجتلني لو عايز... انا موافجه اموت بس هات بنتي و
لم تكمل، فقد غامت الدنيا أمام عينيها، وسقطت فاقدة الوعي بين ذراعيه وحملها ركان دون تردد، ثم التفت ببطء نحو رانيا وسالم، وعيناه تلمعان بوعيد صريح:
حضروا كفنكم… علشان مشكلتكم دلوجتي بجت معايا أنا
ثم خطي خارج المستشفى، وحراسه يحيطون به، بينما الصمت الثقيل يخيم على المكان، وكأن تهديده لم يكن مجرد كلمات، بل وعد مكتوب بالدم وبعد عدت ساعات كانت السماء رمادية، والهواء مثقل برائحة التراب الرطب، حين تجمّع الناس عند حافة المقبرة. سالم يقف وسط جمع من الرجال، عيناه غائرتان، وملامحه متصلبة، بينما النعش الصغير يستعدون لإنزاله إلى جوف الأرض. لكن قبل أن ترفع الفأس الأولى لفتح القبر، ظهرت سيارتان سوداوين توقفتا عند المدخل، ونزل منهما ركان، وبجواره ابن عمته أمجد، وخلفهما عدد من الحراس بملابس داكنة ونظرات حادة ووقف ركان أمام سالم، وصوته ثابت وقاطع:
البنت دي هتندفن في مدافن عيلة الجسار
رفع سالم رأسه بغضب وردد:
لع… ومش من حقك… دي بنتي، وأنا ال أدفنها مكان ما أنا عايز
لكن قبل أن يرد ركان، كان صوت طفولي يهتف من بين الحاضرين، بنبرة بريئة ممزوجة بالخوف:
ايوه يا عمو… بلاش تدفن ميرا أختي اهنيع… علشان بابا وحش… متدفنوهاش عنده
التفتت الأنظار إلى الطفلة، التي كانت رانيا تمسك بيدها بإحكام. حاول ركان أن يقترب منها، لكن رانيا وقفت حاجزا، تشد الطفلة إلى جانبها. وقبل أن تكتمل لحظة الشد والجذب، تقدمت فتاة طويلة القامة، بشعر أسود مسدل وملامح قوية… كانت ميرا الكبيرة، ابنة عم ركان وروح وسحبت الطفلة من يد رانيا بعنف، ثم صفعتها صفعة مدوية جعلت وجوه الحاضرين تتجمد من المفاجأة، وهي تقول بنبرة حادة:
الرجالة عندنا مش بيمدوش إيدهم على البنات… بس البنات بيمدوا. وإنتي… ليكي حساب لوحدك، وده هيكون معايا أنا. وواضح إنكم افتكرتوا إن بنت عمي لوحدها… فحبيتوا تعذبوها. بس أنتو متعرفوش إنها من عيلة الجسار… والعيلة دي مش بتسيب ولادها… حتى لو هما سابوها
وفي تلك اللحظة، تقدم ركان وأمجد، وحملا النعش الصغير بأيد ثابتة، واتجها به نحو وجهتهم بينما رجالهم يفتحون الطريق وسط صمت ثقيل فـ وقفت رانيا تلهث من الغيظ، والتفتت نحو سالم تصرخ بعصبية:
شايف بيعملوا إي؟! إنت ساكت ليه؟! اتصرف
لكن سالم اكتفى بالنظر إليها نظرة باردة، قبل أن يدير ظهره ويمشي، تاركا صوتها يتلاشى في هواء المقابر الكئيب وفي المساء كان الليل ثقيلا فوق بيت آل الجسار، والهدوء الذي يخيّم على الممرات لا يقطعه سوى صوت عقارب الساعة وهي تحفر في الصمت ثانية تلو الأخرى. في الغرفة، كانت روح غارقة في سبات مضطرب، ملامحها شاحبة، أنفاسها متقطعة، وكأن جسدها يرفض الراحة رغم الإعياء. حتي فتحت عينيها ببطء، فاستقبلها سقف تعرفه جيدا… لم تصدق في البداية، لكنها حين أدارت رأسها حولها، تجمدت أنفاسها. هذه غرفتها القديمة، كما تركتها الستائر نفسها بلونها الكريمي الباهت، الخزانة الخشبية التي تحفظ بين طياتها رائحة طفولتها، حتى المفرش المطرز على السرير، ما زال هناك، وكأن السنوات لم تمر فرفعت جسدها من الفراش، تتأمل المكان بعينين تملؤهما الدهشة والارتباك. ثم تمتمت بصوت مبحوح، تبحث عن أي حياة:
ميرا… ليان … فينكم يا بنات؟
خرجت من الغرفة بخطوات متعثرة، رأسها يلتفت في كل اتجاه، لكن الرد الوحيد كان صدى صوتها بين الجدران. قلبها بدأ يضرب بعنف، وكل خطوة تقربها من حافة الانهيار ووصلت إلى المطبخ، والذكريات تتزاحم في عقلها، كأن كل زاوية فيه تذكرها بوجع لم يندمل. عيناها وقعتا على سكين وضعت بإهمال على الطاولة. لم تفكر كثيرا… مدت يدها المرتعشة، قبضت على المقبض، ورفعت النصل نحو معصمها والدموع تحجب عنها الرؤية، وفكرة واحدة تسيطر عليها اللحاق بابنتها.... لكن فجأة، يد قوية أمسكت بها بعنف، سحبت السكين من قبضتها ورمتها على الأرض لتصدر صوتا معدنيا حادا. قبل أن تستوعب ما يحدث، صفعة مدوية ارتطمت بخدها، أفاقتها من دوامة اليأس كان ركان الذي يقف أمامها، وجهه مشدود، عيناه تقدحان غضبا مرددا بنفاذ صبر:
كفاية تهور بجااا.... فوقي مستنية تخسري إي تاني أكتر من ال خسرتيه بسبب غبائك وتهورك
تراجعت خطوة للخلف ويدها تمسك خدها، ودموعها تنهمر بلا توقف:
بنتي ماتت… والتانية… مش هشوفها تاني… خلاص… كل حاجة راحت.
اقترب منها وصوته خفيض لكنه محمل بالصرامة:
ـ بنتك التانية نايمة دلوجتي… وموجودة اهنيه معايا
رفعت رأسها فجأة، عيناها تتسعان بصدمة وهتفت :
بجد؟! فين هي؟! و… إزاي
ابتسامة باهتة مرت على شفتيه، لكن عينيه ظلتا قاسيتين:
مش هتشوفيها غير لما ترجعي لعقلك… ونصفي حسابنا معاكي… ومع الكلب ال أبوكي مات علشان جوازك بيه.
كلماته انغرست في قلبها كسكاكين جديدة، وملامحه لم تمنحها أي فرصة للرد. أمسك بيدها، وسحبها عبر الممر بخطوات واسعة، وهي تحاول اللحاق به، أقدامها حافية على أرضية الرخام الباردة. حتي توقف أمام باب غرفتها دفعه بكتفه، وأدخلها، ثم نظر إليها بحدة:
نامي وارتاحي… أحسن، علشان الأيام الجاية مفيهاش راحة.
القي ركان كلماته أغلق الباب خلفه، وصوت خطواته يبتعد في الممر. بينما وقفت روح لثواني، تستند بظهرها إلى الحائط، ثم انزلقت جالسة على الأرض، ضمت ركبتيها إلى صدرها، ودفنت وجهها بين ذراعيها، تبكي بصمت متواصل. كان البكاء هذه المرة بلا صراخ، بلا نحيب… مجرد انكسار ناعم، كأنه نزيف بطيء لا يتوقف. وفي الخارج، كان ركان يقف عند نهاية الممر، يحدق نحو باب غرفتها المغلق، ملامحه قاسية، لكن خلفها ظل غامض من القلق… قلق لم يسمح له بأن يظهر، لا لها ولا لأي شخص آخر.
وفي يوم جديد كان الصباح قد تسلل بخيوطه الباهتة إلى أروقة قصر آل الجسار، لكن الهدوء الذي يفترض أن يصاحب الفجر كان غائبا تماما. في البهو الواسع، حيث الأعمدة الرخامية تعكس الضوء الشاحب، كان ركان واقفا بثبات، كتفاه مشدودتان، وعيناه تضيقان بغضب لا يهدأ وأمامه، جلس سالم، زوج روح، على الأرض، وظهره منحني ووجهه يحمل آثار ضرب حديث وقطرات الدم سالت من زاوية فمه، وأنفاسه متقطعة كمن خرج من معركة خاسرة. خلف ركان، اصطف الحراس في صمت مهيب، عيونهم لا تلتفت إلا لأوامره وأشار ركان برأسه إلى أحدهم، فانصرف بخطوات سريعة، ثم عاد بعد لحظات وهو ممسك بذراع روح. كانت متعبة، عيناها متورمتان من بكاء الليل، وملابسها غير مرتبة. توقفت عند العتبة، وعيناها تتسعان حين وقعتا على سالم. ارتجفت شفتاها وكأن الكلمات خانتها، بينما قلبها يدق بعنف، فهذه أول مرة تراه منذ سحب منها ابنتها وألقاها إلى الشارع. فـ مد ركان يده فجأة، وجذبها نحوه بقوة، ووضع في يدها شيئا باردا جعل أصابعها تنكمش غريزيا… مسدس معدني، ثقيل الوزن، وصوت ركان يخرج كالرعد في البهو:
مش دا الكلب ال فضحتينا عشانه؟ مش هو السبب ال خلى أبوكي يموت من قهرته
هزت رأسها في صدمة، الدموع تتجمع في عينيها:
أنا… أنا آسفة… آسفة يا ركان.
اقترب منها خطوة، وصوته يزداد صلابة وعيناه تشتعلان بنار لا تهدأ:
هتجتليه بإيدك.
شهقت وهي تتراجع نصف خطوة:
لا… مش هجدر… مستحيل أعمل اكده.
ارتفع صوته فجأة، كالسوط يجلد قلبها:
يا هو يموت… يا بنتك تموت… اختاري.
ارتجفت أنفاسها، والأرض شعرت بها وكأنها تهتز أسفل قدميها:
بنتي… لا يا ركان… بالله عليك بلاش.
لكن ركان لم يزح عينيه عنها، ولم يترك يدها، بل ضغط المسدس أكثر في قبضتها وصاح:
يلااا… خلصينا.
كانت أصابعها المرتجفة تلامس الزناد، ودموعها تحجب عنها الرؤية، ونظراتها تتأرجح بين وجه سالم المنكسر وملامح ركان الصارمة، حتى بدا العالم كله يضيق من حولها وفجأة اطلقت عليه رصاصه اصابته فورا و انهارت تماما وشهقتها انكسرت وسط دموعها، لكن في لحظة لم يفهمها أحد… استدارت بكل عنف نحو ركان، ورفعت السلاح نحوه مباشرة، ودوى صوت الرصاصة في أرجاء القصر، لينتهي كل شيء في ومضة واحدة.و
الفصل الثالث
روح
كانت الرصاصة على وشك أن تنطلق، حين اندفع ظل من الجانب بسرعة البرق، وامتدت يد قوية تمسك بذراع روح قبل أن تكتمل ضغطة الزناد. التفتت بعينين جاحظتين، لتجد شابا طويل القامة، ملامحه حادة، وعيناه تحملان بريق الغضب… كان أمجد، ابن عمه ركان الذي انتزع منها السلاح بعنف، ثم استدار نحو ركان بخطوات سريعة، وصوته يحمل قلقا واضحا:
إنت كويس يا ركان... فيك اي حاجه
أومأ ركان برأسه ببرود، بينما كان الحرس يقتربون في صمت. فـ أشار لهم أمجد بإيماءة حادة:
خدوا الكلب دا من اهنيه وارموه في اي مكان
أسرع الحرس نحو سالم، الذي كان ممددا على الأرض، يتأوه من أثر الرصاصة، وقطرات الدم تلطخ ثيابه. ورفعوه بقوة وسحبوه خارج البهو لكن فجأة، تقدمت ميرا بخطوات سريعة نحو روح، التي كانت لا تزال في حالة صدمة وأمسكتها من شعرها بقوة جعلت صرخة ألم حادة تفلت من شفتيها و جذبتها إليها وهي تقول بعينين تقدحان نارا:
كمان ي… عايزة تجتلي ركان؟! يا مجرمة! مش كفاية البلاوي ال عملتيها فينا وفي العيلة.. انتي اي شيطانه
كانت روح تبكي بحرقة تحاول أن تحرر نفسها، لكن قبضة ميرا كانت كالفخ فـ تقدم ركان خطوة للأمام، وصوته قاطع حاد:
سيبيها يا ميرا… ابعدي عنها
ترددت ميرا للحظة، ثم أفلتت شعر روح بعنف، لتتراجع إلى الخلف، بينما ركان اقترب حتى اصبح أمام روح، ووضع المسدس في يدها من جديد، وردد :
يلا… اجتليني... أنا جدامك اهه … ومحدش هيمنعك.. اجتليني
ارتجفت روح، تنظر إلى السلاح ثم إلى عينيه، قبل أن تهز رأسها بيأس، وترمي المسدس أرضا واندفعت تمسك بقميصه بكلتي يديها، ودموعها تنهمر بلا توقف مردفه :
حرام عليك… عايز مني إي؟! عايز تعمل فيا إي تاني ما تجتلني وتريحني بجا
رمقها ركان بنظرة باردة، وصوته يقطر قسوة:
الموت راحة ليكي… وأنا مش هريحك... انا هخليكي تتمني الموت اكده في كل لحظه... مستحيل ترتاحي
انكسرت أنفاسها، ثم أسندت رأسها على صدره، وهي تبكي بنبرة متهدجة:
ارحمني بطا… حرام عليك… افتكرلي أي حاجة حلوة عملتها.. انا بنت عمك... حرام عليك
ولأول مرة، ارتسم ظل غامض من الحزن في عينيه، وتبدلت ملامحه للحظة، لكنها كانت خاطفة، وأخفى أثرها سريعا ودفعها برفق بعيدا وأشار بيده:
اطلعي على أوضتك ومتخرجيش منهت غير بأذني
ثم استدار، وخطواته تتردد في البهو وبعد دقائق خرج ركان من البهو بخطوات ثابتة، لكن أنفاسه كانت أثقل مما يحاول إظهاره و الهواء البارد في الممر لم ينجح في تهدئة الغضب المشتعل داخله. كان أمجد يسير بجانبه، ينظر إليه بطرف عينه، قبل أن يكسر الصمت:
كنت هتسيبها تضربك فعلا
أجابه ركان دون أن يلتفت وخرج صوته منخفض لكن حاد:
لو كانت عايزة تجتلني… كنت هخليها تعملها... بس انا كنت متاكد انها مش هتعملها علشان فاقت... لما كانت عتجتلني مكنتش في وعيها
توقف أمجد في منتصف الممر، يحدق فيه بدهشة:
إنت بتجول إي... إنت مجنون دي خلاص خرجت عن السيطرة لازم تتحاسب
التفت ركان إليه أخيرا، وعيناه سوداوان من شدة الانفعال، لكن خلفهما ظل من شيء آخر… شيء أقرب للوجع:
هتتحاسب... كل واحد فينا هيتحاسب علي ال عمله متخافش... وهي هتدفع تمن كل ال عملته غالي جوي مع ان موت بنتها كان عقاب بس برده مش عقاب كافي ليها
لم يجد أمجد ردا، فاكتفى بالنظر إليه بصمت، بينما ركان أشاح بوجهه وأكمل سيره، وكأنه يهرب من كلماته قبل أن يهرب من أي شيء آخر وبعد عدت ساعات في المطبخ الكبير، كانت رائحة الطعام تعبق المكان، وأصوات الأواني تتداخل مع حركة الشغالين وهم ينهمكون في تجهيز الغداء حيث جلست خالة ميرا الكبرى عند الطاولة، تتفحص الأطباق بنظرة فاحصة، وهي هنا في زيارة قصيرة لكنها تحمل دائما طابع السيطرة والتدقيق حتي دخلت ليان الطفلة الصغيرة، بخطوات مترددة وعينيها تبحثان بين الوجوه، ثم قالت بصوت خافت وهي تضع يدها على بطنها:
ممكن اكل لو فيه واكل علشان انا جعانه
التفتت إليها الخالة، وارتسمت على وجهها نظرة ازدراء واضحة. قالت وهي ترفع حاجبها:
جعانة؟! ما انتي شبه أمك… طول عمركم طمعانين، مش مهم أخلاج ولا سمعة… المهم تملوا بطنكم وبس.. صحيح انا هستني ايمن خلفه روح غير اكده
اتسعت عينا ليان، وارتجفت شفتيها:
انتي بتجولي علي ماما اكده ليه عاد.. ماما طيبة
قهقهت الخالة بسخرية:
طيبة؟! دي ال جابت العار للعيلة… بتدافعي عنها كمان ما انتي بنتها صحيح
تقدمت ليان خطوة، لكن دموعها سالت، وهي تهمس بصوت منكسر:
ماما أحسن واحدة… ومش عايزة أسمعك بتشتميها اكده عيب اصلا وحرام عليكي
رددت الخالة ببرود وهي تنهض واقفة:
انتي كمان بتردي عليا.. جبر يلمك يا شيخه اي مبجاش غير الصغار ال يرفعوا صوتهم عليا يلا امشي.. امشي من اهنيه
ثم دفعتها بيدها بقوة، فسقطت الطفلة على الأرض، وارتطم مرفقها بالرخام. انبعثت منها شهقة ألم حادة وفي تلك اللحظة اندفعت ميرا إلى المطبخ بسرعة، وركعت بجانب ليان وهي تحتضنها مردده:
مالك يا حبيبتي؟ إي ال حوصل جومي يا عمري
تشبثت ليان بها وهي تبكي بحرقة:
هي… هي ال وقعتني… وجالت كلام وحش عن ماما
رفعت ميرا رأسها نحو خالتها بنظرة غاضبة، لكن الخالة تقدمت خطوة وقالت باستهزاء:
كمان بتعرفي تشتكي... جبر يلمك يا شيخه
ضمت ميرا الصغيرة إلى صدرها، وأخذت نفسا عميقا لتسيطر على أعصابها، ثم ابتسمت لليان وهتفت:
متسمعيش كلام حد، إنتي أحلى وأطيب بنت
ثم نهضت ميرا وأحضرت طبقا صغيرا، ووضعت فيه بعض الطعام، وقدمته لليان وهتفت؛
خدي ياحبيبتي بالهنا والشفا … وبعد ما تخلصي روحي العبي براحتك في الحديقه
أومأت الطفلة برأسها، ومسحت دموعها، ثم خرجت من المطبخ وهي تحتضن الطبق وبمجرد أن خرجت التفتت ميرا إلى خالتها بعينين تشتعلان غضبا ورددت:
إنتي إزاي تعملي اكده مع طفلة.... ليان ملهاش ذنب في أي حاجة، وبلاش تدخليها في مشاكل الكبار يا خالتي
الخاله بعصبيه:
دي بنت واحدة جابتلنا الفضيحة… وأنا مش هتعامل معاها كأنها أميرة.. لازم تتحاسب هي وبنتها
ميرا بصراخ؛
لع البنت ملهاش ذنب و أنا مش هسمح لحد يهينها جدامي… ولا يلمسها مهما حوصل
ارتفع صوت الخالة وهتفت:
انتي بتزعقيلي يا ميرا.. بترفعي صوتك عليا كمان
ميرا بحده:
أيوه… علشان غلطانة
احتد النقاش، وتحوّل إلى جدال صاخب، حتى ارتفعت أصواتهما في المطبخ، وتبادلتا كلمات قاسية. وأخيرًا، التقطت ميرا نفسًا غاضبا واستدارت خارجة من المطبخ بخطوات سريعة، تاركة خالتها تنظر خلفها بعيون تشتعل وفي المساء كان الليل قد أسدل ستاره على القصر، والهدوء يلف الممرات الواسعة. حيث جلس ركان في غرفته، مستندا إلى الأريكة الكبيرة، وعيناه شاردتان في الظلام، حتى لفت انتباهه صوت خافت عند الباب. التفت، ليجد الباب يفتح ببطء، ووجه صغير يطل من خلفه، عينيه الواسعتين تلمعان في ضوء المصباح… كانت ليان. فـ ابتسم ركان بخفة، وأشار لها بيده:
تعالي يا حلوه.. تعالي
انفرج وجهها بابتسامة بريئة، وركضت نحوه حتى قفزت على السرير بجواره وهي تلهث:
أنا جعانة… مأكلتش من عشر… عشر… عشر ساعات ونص كمان!
ضحك ركان بهدوء وهتف :
عشر ساعات ونص؟!
ليان ببراءه:
اه وطنط ميرا نايمه
ركان بابتسامه؛
دي خالتك يا ليان، جولي خالتو ميرا
ليان بحزن؛
أختي كمان كان اسمها ميرا… بس هي ماتت… هي واحشتني جوي
ساد صمت قصير، قبل أن يزفر ركان ببطء ويقول بصوت منخفض:
ربنا يرحمها يا حبيبتي. يلا تعالي، أنا هعملك واكل
نهض وهو يمسك بيدها الصغيرة، ونزل معها إلى المطبخ. بدأ يحضر لها وجبة بسيطة، بينما هي تجلس على الكرسي تراقبه بعينين متشوقتين و عاد بها إلى الغرفة، ووضع الطبق أمامها، لتبدأ في الأكل بنهم، وهو يجلس على الطرف الآخر من السرير، يراقبها بابتسامة هادئة، وخواطره تهيم بعيدا… "هي أكلت ولا لا؟ يقصد روح، وأفكار كثيرة تتزاحم في رأسه حتي ردد بهدوء:
ليا كولي وانتي بتتفرجي على الكرتون… لحد ما أجي
شغل لها أحد أفلام الكرتون، ثم أخذ طبقا آخر من الطعام، واتجه إلى غرفة روح. ودفع الباب بهدوء، لكن ما إن دخل حتى عقدت الدهشة حاجبيه… كانت روح نائمة على الأرض فـأسرع نحوها، وانحنى بجانبها، يحاول إفاقتها وهو يقول بحدة قلقة:
روح... روح جوومي مالك
فتحت روح عينيها ببطء، ونظرت إليه مردده:
راحت عليا نومه
أبعد يده عن كتفها، وسيطر على انفعاله وهتف :
نايمة على الأرض ليه؟ يلا، جومي… الواكل اهه
جلس أمامها ومد الطبق:
كولي يلا
روح بتعب:
ليان أكلت... هي كويسه
ركان بضيق:
أيوه… متخافيش.. يلا بجا الواكل اهه جدامك
تناولت روح لقمة صغيرة، لكن فجأة، دموعها انهمرت وهي تتذكر ميرا. رفعت يدها تمسح دموعها، لكن شهقاتها فضحتها فـاقترب منها ركان، وصوته منخفض لكنه حاد المعنى:
العياط مش هيفيدك بحاجة… كفاية بجا. مش هتعيشي طول عمرك تعيطي.
رفعت عينيها نحوه، ثم اقتربت فجأة وضمت ذراعيها حوله، ورأسها على صدره، وهي تبكي بحرقة:
ياريتني كنت سمعت كلام ابوي … وياريتني كنت فضلت اهنيه في البيت.
تردد لثواني يتساءل هل يضع يده على ظهرها أم لا، لكن قبل أن يحسم قراره، شعر بها تسكن، وأنفاسها تهدأ… كانت قد نامت بين ذراعيه وتنهد ببطء، ثم حملها برفق، ووضعها على السرير، وجلس للحظة يراقب ملامحها النائمة. ورفع يده يلمس خدها بحنان خفي، وهمس:
ياريت مكنش كل دا حوصل.
القي ركان كلكاته ثم غادر الغرفة بهدوء، عائدا إلى حجرته، تاركا خلفه ثقلا لا يزول وفي صباح اليوم التالي، كان ضوء الشمس يتسلل من النوافذ العالية، لينعكس على أطباق الفطور المرصوصة بعناية فوق المائدة الكبيرة. جلس الحاضرون في صمت ثقيل، تنتقل نظراتهم بين أكواب الشاي وأصوات الملاعق الخافتة على الصحون وخطوات هادئة انحدرت من أعلى الدرج، حتى ظهرت روح عند مدخل القاعة، ترتدي ثوبا بسيطا، ووجهها شاحب من أثر ليلة طويلة بلا نوم. ما إن وقعت عليها عين ليان حتى ارتفع صوتها الطفولي بلهفة:
ماما
قفزت ليان من مقعدها، تركض بكل ما تملك من سرعة، وارتمت في حضن روح، فتشبثت بها الأخيرة، وضمتها إلى صدرها بحرارة، وأغمضت عينيها لحظة كأنها تريد أن تحبس هذا الشعور إلى الأبد. لكن صوت أمجد قطع اللحظة، حادا وخاليا من أي دفء مرددا:
اجعدي افطري معانا يا روح… مفيش داعي تمثلي البراءة اهنيه.. يلا علشان ليان
رفعت روح رأسها نحوه، ونظرتها مزيج من الحزن والخذلان لكنها لم ترد. وبخطوات مترددة جلست إلى طرف المائدة، واضعة ليان بجانبها لم يكد الصمت يكتمل من جديد، حتى دخل أحد الحراس على عجل، واقترب من ركان، وانحنى ليهمس في أذنه بكلمات قليلة. تجمدت ملامح ركان، وارتسم الغضب في عينيه والحارس يردد:
سالم… حد أخده المستشفى… ولسه عايش.
شهقت ميرا بصوت خافت، بينما انعقد حاجبا أمجد بحدة، لكن قبل أن ينطق ركان بكلمة، فتح باب القاعة فجأة ودخلت امرأة شابة، تحمل في يدها طفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها خمس سنوات. كان الغبار يعلو ثوبهما، وعينا الطفلة الواسعتان تبحثان بين الوجوه بارتباك، قبل أن تستقرا على ركان وفجأة، أفلتت الطفلة يد المرأة، وركضت بخطوات متعثرة نحو ركان، ثم ارتمت في حضنه وهي تقول بصوت مرتجف مفعم بالشوق:
بابا
اتسعت عينا ركان، وتجمد كل من في القاعة و
الفصل الرابع
روح
كانت روح تقف في مكانها، ملامحها متحجرة من الصدمة، عيناها لا تفارق الطفلة الصغيرة وهي تتشبث بركان بكل قوتها. وابتسامة غير مألوفة ارتسمت على وجهه، ابتسامة دافئة لم ترها روح من قبل، وهو يطوق الصغيرة بذراعيه ويهمس لها:
واحشتيني يا عيون بابا
ضحكت الطفلة ببراءة، ورأسها الصغير مستند إلى صدره، بينما عيناه تلمعان بلمعة نادرة لم يعرفها أحد من قبل. في تلك اللحظة، تقدمت المرأة الشابة وكانت صفا بنت خاله ميرا بخطوات مترددة، وعلى وجهها علامات التعب والسفر الطويل، ووقفت أمام الجميع، ثم نظرت إلى روح وهمست:
حمد الله على السلامة يا روح
تسمرت روح مكانها، تائهة بين ملامحها وبين الطفلة التي لا تزال في حضن ركان. سألتها بنبرة مرتعشة، لم تستطع السيطرة عليها:
انتوا… اتجوزتوا
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي صفا، وعلت ضحكة قصيرة وهي ترد:
صحيح، ما انتي مكنتيش تعرفي عننا حاجة… أيوه اتجوزنا، وخلفنا بنتنا اسمها جنه و
لكن قبل أن تكمل كلماتها، انقطع صوتها فجأة حين ارتفع صوت أمجد حادا كالسيف القاطع:
وهيطلجوا.... بيرتبوا كل حاجة علشان يطلجوا
ساد صمت مشحون، والمرأة أطرقت رأسها، مكتفية بالصمت، بينما ركان انحنى قليلًا نحو الطفلة الصغيرة التي لا تزال في حضنه، وأشار إلى ليان التي كانت تقف مترددة بجوار روح:
بُصي يا جنه… دي ليان. أنا عايزكم تبجوا أصحاب
ترددت الطفلة لحظة، قبل أن تبتسم بخجل، وتمد يدها الصغيرة نحو ليان. اقتربت الأم بخطوات هادئة، ووضعت يدها على كتف جنه بلطف، ثم التفتت إلى ركان بصوت منخفض:
احنا جايين من السفر تعبانين جوي… لو تسمح، نطلع الأوضة نرتاح شوية
أومأ ركان برأسه، بينما أخذت الأم يد جنه من حضنه برفق، واصطحبتها مبتعدة، لتصعد بها الدرج بخطوات بطيئة، تاركة خلفها صمتًا مثقلاً بالدهشة والأنفاس الثقيلة وبعد فتره قصيرع في منزل سالم كان مستلقيا على السرير، ملامحه شاحبة وصدره يعلو ويهبط بصعوبة من أثر التعب. فـ جلست رانيا إلى جواره، يدها تتحرك بحذر وهي تضع له الدواء على جرحه، وعيناها تتابعان كل حركة في وجهه جاي رفعت رأسها إليه وسألت بصوت منخفض، لكن في نبرتها بها قلق ظاهر:
عامل إي دلوجتي؟ التعب لسه جامد
فتح سالم عينيه بصعوبة، وزفر أنفاسا متقطعة، ثم قال بصوت خافت لكنه ممتلئ بالغل:
أنا لازم أجتلها… هجتل روح زي ما كانت عايزة تموتني… وهاخد بنتي… وهرجعها ليا غصب عن الكل
شهقت رانيا بخفة، وملامحها امتلأت غضبا وهي تضرب بكفها على حافة السرير مردده:
أنا جولتلك من زمان إنها مش كويسة.... مش بعيد كمان تكون علي علاقة بابن عمها، دا كلهم زي بعض
ارتعشت عينا سالم من الغيظ، وقبض يده على الغطاء وهو يقول بعزم:
انا مش هسيبها… أنا طلجتها خلاص… بس لازم آخد بنتي… وبتاري… لازم اجتلها
اقتربت رانيا أكثر وانحنت بجسدها حتى صار وجهها على مقربة من وجهه، ومدت يدها برفق على وجنته، تمسحها بلمسة ناعمة يكسوها خبث خفي وهمست له:
اهدى… أنا بحبك… ومجدرش أشوفك اكده، لا تعبان ولا زعلان… أنا موجودة جمبك، ومش هسيبك مهما حوصل
أغمض سالم عينيه للحظة، وكأن كلماتها سكبت على قلبه شيئًا من الراحة، ثم فتحهما لينظر إليها بعاطفة مشوشة، وقال بصوت متكسر:
وأنا كمان… بحبك يا رانيا… بحبك جوي والله
ابتسمت بانتصار، وقربت شفتيها من أذنه، ثم ارتمت في حضنه، تلف ذراعيها حوله بإحكام. لكن داخل نفسها، كان الصوت مختلفا تمامًا، همست في سرها بكلمات تغلي بالسم:
والله… لـتموتي يا روح… واخلص منك خالص، وأخلي سالم ليا وحدي
في تلك اللحظة، تلاشت ملامح الحنان من عينيها، وحل محلها بريق بارد قاتم، يخفي وراءه نوايا سوداء لا يعرفها سوى قلبها المليء بالحقد. وفي المساء كان الليل ساكنا، والبيت غارقا في هدوء ثقيل لا يقطعه سوى صوت الرياح التي تتسلل بين الأشجار. في غرفة واسعة في الطابق العلوي، وقف ركان أمام نافذته، عاري الصدر، وسيجارته مشتعلة بين أصابعه. دخانها يتصاعد ببطء، بينما عيناه معلقتان بالأسفل، حيث كانت روح جالسة في الحديقة، منكبة على مقعد خشبي، رأسها محني وكتفيها يهتزان من شدة البكاء... ظل يتأملها للحظات طويلة، تعبيرات وجهه متناقضة بين صرامة يحاول الحفاظ عليها وبين وخزة ألم لا يستطيع الهروب منها حتي عض على شفته بقوة، وكأنه يمنع نفسه من النزول إليها، من مد يده ليمسح دموعها ولطن فجأة، شعر بيد ناعمة تلتف حول خصره من الخلف، وجسد يلتصق بظهره، ثم شفاه دافئة تطبع قبلة سريعة على رقبته. جاءه صوت صفا هامسا ومختنقا بالشوق:
واحشتني جوي يا ركان
تجمد في مكانه، وأمسك يدها بسرعة، ثم دفعها قليلًا بعيدا عنه، ليستدير إليها بوجه عابس وصوت منخفض لكنه حاد:
إحنا مش اتفقنا خلاص على الطلاج؟… أنا هروح أنام في أوضة تانية
مدت صفا يدها بسرعة تمسك كفه بقوة، وكأنها تخشى أن يفلت منها، وعيناها مغرورقتان بالدموع وهي تتوسل:
لا… استنى… أنا بحبك يا ركان… يمكن علاقتنا يبجى ليها فرصة تانية
ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة قصيرة، ثم قال بحدة:
لا… لا تانية ولا تالتة إحنا خلاص… انتهينا مع بعض. وكل حاجة اتفقنا عليها واضحة
اهتزت شفتاها بالبكاء، وأطلقت شهقة متقطعة قبل أن ترد بصوت مبحوح:
بس أنا… أنا مش هجدر أعيش من غيرك!"
أدار وجهه عنها بغضب، وصوته ارتفع لأول مرة:
بلاش كدب يا صفا! إنتي عمرك ما حبيتيني… إنتي كل ال يهمك مصلحتك وبس
اقتربت منه فجأة، دون أن تمنحه فرصة للابتعاد، وألقت بنفسها في حضنه، ذراعاها تطوقان عنقه بقوة، وشفتيها تلهثان على رقبته وهي تبكي وتتمتم بجنون:
والله بحبك… متسبنيش… أنا ضعيفة من غيرك... جسما بالله بحبك. جوي والله العظيم
أغمض ركان عينيه بضيق، وزفر بشدة، كأن أنفاسها تثير داخله خليطا من الغضب والملل، لكن قبل أن يتكلم، فتح باب الغرفة فجأة، وظهر أمجد واقفا مترددا وصوته محرج وهو يقول:
آسف… مكنتش أجصد
تحرك ليتراجع إلى الخارج بسرعة، لكن ركان رفع يده وأوقفه:
استنى… أنا جاي معاك.
أبعد ذراعي صفا عنه بقوة، دون أن يمنحها حتى نظرة أخرى، ثم خطا خارج الغرفة مع أمجد، تاركا إياها واقفة وسط المكان، وجهها غارق في دموع ممزوجة بالقهر فسقطت على طرف السرير، ويدها تمسح دموعها بعصبية، لكن حين رفعت عينيها، وقعت على النافذة… ومن خلالها رأت روح، لا تزال جالسة في الحديقة، والدموع تغطي وجهها فـ اشتعل الغضب في عروق صفا، وضربت بقدمها على الأرض بقوة، وصوتها انطلق كالصاعقة وهي تهمس من بين أسنانها:
ناجصاكي إنتي كمان؟! طلعتيلي منين يا روح؟… هو أنا ناجصاكي فوق كل ال فيا
ثم مالت للأمام، والشر يتطاير من عينيها، وهي تتمتم بحقد أسود:
بس… ماشي… إنتي سهلة… وأنا هخلص منك بسرعة
ومع آخر كلمتها، كان وجهها قد تحول إلى قناع من الجنون، خليط من الحزن والغل، لكن عينيها لم تترك النافذة، حيث ظلت تراقب دموع روح بعطش غريب، وكأنها وجدت هدفا جديدًا سيشفي كل حقدها وفي صباح اليوم التالي، كانت الشمس قد بدأت تتسلل بين أغصان الأشجار، لتبعث الدفء في أرجاء الحديقة. وكانت روح تركض بخطوات متعثرة خلف ليان، التي كانت تجري ضاحكة وصوتها يعلو بالبراءة:
تعالي امسكيني يا ماما… مش هتعرفي
ضحكت روح رغم إرهاقها، قلبها يتقافز مع خطوات طفلتها، حتى تمكنت أخيرا من الإمساك بها بين ذراعيها. وضمتها بقوة، وهي تلهث من الجري:
ينفع اكده يا ليان؟ تعبتيني… مش كل يوم جري جري اكده يا بنتي
ضحكت الصغيرة، ووضعت ذراعيها حول رقبة أمها، قبل أن تقول بعينين لامعتين:
ماما… أنا عايزة أشتري شيبسي… وكمان شوكولاته."
تنهدت روح، وأخفضت رأسها قليلا وهي تقول بصوت حازم:
مينفعش نخرج دلوجتي… خليكِي تلعبي اهنيه وأنا أجيبلك ال انتي عايزاه
أشاحت ليان بوجهها، ونظرت إليها برجاء طفولي، وشدت على يد أمها وهي تكرر:
لو سمحتي يا ماما… عايزة أروح أنا أجيبهم… بلييييز.
ترددت روح وقلبها مثقل بالقلق، لكن إلحاح الصغيرة وعينيها المتوسلتين كسرتا مقاومتها، فابتسمت باستسلام وقالت:
خلاص… ماشي. نروح بسرعة ونرجع على طول
قفزت ليان من الفرح، وصفقت بيديها:
هااااي ماما حلوة... ماما احلي واحده في الدنيا
خرجتا معا من باب البيت الكبير ويد روح مشدودة على يد ابنتها، وقلبها ينبض بلا سبب واضح بالقلق. وما إن تجاوزتا البوابة بخطوات قليلة، حتى توقفت سيارة سوداء فجأة أمامهما، كأنها خرجت من العدم فـ اتسعت عينا روح وتجمدت في مكانها للحظة، ثم انفتح الباب الأمامي بعنف، وخرج منه سالم فـ شهقت وهي تتراجع للخلف، صوتها مخنوق بالرعب:
إنت؟!
وقبل أن تجد فرصة للصراخ أو الهرب، كان قد اقترب بخطوات سريعة، يده ترتفع وفيها أداة معدنية حادة. وضربها بقوة على جانب رأسها، فارتطم جسدها بالأرض، وارتجف صراخها المكتوم وارتجفت ليان وهي تبكي، لكن سالم انحنى بسرعة، انتزعها من يد أمها، وحملها رغم مقاومتها الصغيرة وصرخاتها:
ـ "ماماااا!"
انطلقت السيارة بعدها مسرعة، وغبار الطريق يتطاير خلفها… فيما جسد روح بقي مطروحا على الأرض أمام البوابة، ساكنا، والدماء تسيل من جرحها و
الفصل الخامس
روح
كان الهدوء يخيم على الغرفة الواسعة، لا يقطعه إلا صوت أنفاس روح المتقطّعة وهي مستلقية على السرير، رأسها ملفوفة بضمادات، ووجهها شاحب كأن الحياة انسحبت منه. والى جوارها جلست ميرا، عينان دامعتان تتابعان كل حركة لها، بينما وقف أمجد بالقرب، وبجانبهم كانت صفا تراقب المشهد بصمت ثقيل وبينما يثقل الصمت على المكان، تحركت جفون روح بارتجاف، ثم فتحت عينيها فجأة بفزع، شهقت بصوت مبحوح وقالت:
بنتي...... ليان فين بنتي؟!
اقترب أمجد منها سريعا، محاولا أن يبدو هادئا رغم القلق البادي على وجهه، وقال:
ـاطمني… بنتك كويسة. الحرس جابوها، بس… سالم هرب.. يتريت تكون دي اخر غلطه علشان احنا تعبنا جوي
ارتجفت ملامح روح وانهمرت دموعها بغزارة ورفعت يديها المرتجفتين كأنها تبحث عن ابنتها وقالت:
لازم أشوفها… هي فين؟! أنا السبب… أنا ال معرفتش أحميها... معرفتش أخلي بالي منها... لازم اشوف بنتي
لكن قبل أن يكمل أحد محاولته لتهدئتها، انفتح باب الغرفة بعنف، ودخل ركان بخطوات حادة. كان وجهه متجهما، وعيناه تتلظيان بالغضب، وصوته جاء صارما كالسيف:
أيوه! انتي السبب… انتي السبب في كل البلاوي ال بتوحصل في حياتنا... انا مش فاهم هنفضل اكده لامتي... هنفضل لامتي مستحملين مصايبك وبلاويكي
ارتجفت روح وهي ترفع عينيها إليه وهمست باكية:
ركان… بالله عليك… خليني أشوفها... مره واحده بس ابوس يدك
اقترب منها أكثر، وصوته ازداد حدة:
اهمالك خلاها تتخطف وتتبهدل.... وأنا مش هسامحك. من النهارده… مش هتشوفي البنت غير لما تبجي مسؤولة.. مع اني متاكد انك مستحيل تتحملي مسؤوليه حاجه نهائي
صرخت روح ودموعها تغرق وجهها وهي تتوسل:
حرام عليك! أنا مش جادرة أعيش من غيرها… بالله عليك خليني أشوفها… مش هسيبها لحظة واحده تانيه والله العظيم
لكن عيناه ظلتا جامدتين، قاسيتين لا تلينان، ثم قال ببرود قاتل:
الغلطه الجاية… هتكون بموتك.
استدار ركان بعنف، وغادر الغرفة، تاركا وراءه صدى خطواته يجلجل في صدرها، فيما انهارت روح تبكي بحرقة، تتشبث بالغطاء كأنها تبحث فيه عن دفء ابنتها الغائبه وفي مكان آخر في شقه سالم كان سالم يسير جيئة وذهابا داخل الغرفة، ملامحه متجهمة، والغضب يشتعل في عينيه. صوته دوى كالرعد وهو يصرخ في وجه زوجته:
مستحيل… أنا لازم أنتجم… لازم روح تدفع التمن على ال عملته فيا
جلست رانيا على طرف الأريكة، تنظر إليه ببرود متصنع وهي ترفع حاجبيها بتحدي:
كبر دماغك بجا… البنت أصلا مش عايزاك. ليه ال بتعمله دا
توقف سالم فجأة، عيناه اشتعلتا أكثر وهو يلوح بيده بعصبية:
لع… مستحيل أسيبها…روح هتدفع التمن غالي جووي
لكن قبل أن ينهي كلماته، دوى صوت خبط عنيف على الباب، وارتجت جدران الغرفة مع شدته. و تبادل هو ورانيا نظرات قلقة ثم اندفع سالم نحو الباب، فتحه بعنف… ليتلقى في اللحظة نفسها لكمة قوية أطاحت برأسه إلى الخلف وقبل أن يستعيد توازنه، كان ركان قد أمسكه من ياقة ثيابه، ورفعه بعنف حتى كاد يخنقه، وصوته خرج غاضبا، منخفضا لكنه قاتل:
انا جيت أحذرك… ودي آخر مرة.... أي حركة… حتى لو بسيطة… هتعملها تاني، والله لأجتلك
شهق سالم وهو يحاول فك قبضته، ثم صرخ متحديا:
انا مش سايب بنتي مهما حوصل
اشتعلت عينا ركان غضبا أكثر واقترب منه حتى كاد أنفاسه تلسع وجهه وقال بحدة:
علشان تجتلها زي الأولي؟! اسمعني كويس… أنا مش هاصبر عليك كتير. أي غلطة جديدة… هتكون نهايتك إنت ومرتك. ولو فكرت تقرب من روح تاني… هخليك تشوف الموت بعينك
القي ركان كلماته ثم دفعه بعيدا بعنف ز استدار مغادرا بخطوات ثقيلة، تاركا سالم يلهث من أثر الصدمة وفي صباح اليوم التالي تسلل ضوء الشمس من خلال الستائر الثقيلة التي تغطي نافذة الغرفة الواسعة، ليمتد على السرير حيث كان ركان مستلقيا عاري الصدر، غارقا في نومٍ متعب، أنفاسه هادئة وثقيلة.
وفجأة، شعر بلمسة خفيفة على يده، حركة رقيقة لكنها أربكته. فـ تحرك جفناه ببطء، ثم فتح عينيه ليتفاجأ بالمشهد أمامه… كانت روح واقفة إلى جانبه، وجهها شاحب ودموعها محبوسة في عينيها، أصابعها المرتجفة تلمس يده بخوف فـ اعتدل قليلا و صوته خرج خشناً ومندهشاً:
في اي…؟! انتي بتعملي اي اهنيه... عايزه اي يا روح
ترددت للحظة، ثم رفعت عينيها إليه بتوتر، وصوتها مختنق بالبكاء:
بنتي… بالله عليك يا ركان… هاتلي بنتي. كفاية بجا… خلاص، أنا اعترفت… اعترفت إني غلطت، إني خدعتك وضحكت عليك… اهو حلو اكده
نظر إليها ركان مطولا... عيناه قاسيتان تحملان شيئا من السخرية، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة مرة وقال ببرود:
ياااه… أخيرا اعترفتي.... اعترفتي إنك خاينة… وإن أنا كنت أهبل لما حبيت واحدة زيك. مش ده كان سرنا؟ إننا كنا بنحب بعض؟… وبعد أول مشكلة بينا، روحتي جريتي واتجوزتي الكلب ال اسمه سالم… غصب عننا كلنا ؟ كنتي بتعاندي مين يا روح
لم تتمالك روح نفسها، فصرخت وهي تبكي بحرقة، دموعها تتساقط على وجنتيها:
كنت فاكرة إني بعاندك إنت… بس اكتشفت إني بعاند نفسي وإني ما أذيتش غير نفسي يا ركان… والله ما كنت عايزة أوجعك اكده... انا اسفه
خطت خطوة أقرب منه، ثم جلست عند حافة السرير، قبضت على يده برجاء، وصوتها متوسل:
بالله عليك… سامحني بجا… وارحمني… ابوس إيدك يا ركان
سحب ركان يده منها بقسوة، وعيناه تلمعان بمرارة قديمة:
مستحيل… مستحيل أسامحك. الغلط ال عملتيه عمري ما هنساه. بس… ممكن أوريكي بنتك… بشرط
ارتفعت عيناها بسرعة إليه، لهفتها فضحتها، وقالت دون تردد:
موافجه… موافجة من قبل ما أسمعه مهما كان الشرط موافجه
لكن قبل أن يكمل حديثه، انفتح باب الغرفة فجأة، ودخلت صفا، زوجته، وقد تجمدت عيناها على المشهد... روح جالسة قريبة منه، وهو نصف عاري على السرير فـ ارتسمت على وجهها ملامح غضب وصدمة، وصوتها ارتفع حادا:
انت اي ال جابك اهنيه وبتعملي اي مع جوزي وهو بالمنظر ده
ارتبكت روح بشدة ونهضت واقفة بسرعة، والدموع ما زالت تلمع في عينيها فـ أدار ركان وجهه نحوها بإشارة صارمة وقال ببرود:
اطلعي بره يا روح
تجمدت في مكانها للحظة، ثم انسحبت مسرعة من الغرفة، كأن قلبها يسحب معها، وتركت خلفها صمتا ثقيلا فـ اقتربت صفا من السرير بخطوات غاضبة، عينها لا تفارق ركان وهتفت :
هي كانت بتعمل اي دي... انت بتعمل فيا اكده ليه عاد.... انت عارف إني ما عايزة حاجة في الدنيا غيرك… أنا بحبك يا ركان
ابتعد عنها قليلًا وهو ينهض من السرير، نظر إليها ببرود قاطع:
بس أنا مش عايزك. ومهما حاولتي تأجلي الطلاج… إحنا هنطلج.. أنا مش هكمل معاكي، ومهما حوصل… الموضوع انتهى يا صفا
تجمدت الكلمات على شفتيها، بينما هو التقط قميصه من الكرسي المجاور وارتداه بهدوء، ثم غادر الغرفة بخطوات ثابتة، تاركا إياها واقفة وحدها، غارقة بين كبريائها الجريح وحب لم يجلب لها سوى الهزيمة. وفي المساء كانت أجواء العشاء في القاعة الكبيرة مشحونة بالتوتر، الصمت يسيطر على الجميع كظل ثقيل. حيث جلست العمة التي وصلت للتلو الي الصعيد شامخة كعادتها، تحدق في الأطباق أمامها دون أن تلمسها، بينما جلست ميرا بجوارها، نظراتها متنقلة بين أمجد المتوتر بشكل واضح، وبين الكراسي الفارغة التي لم يشغلها بعد كلا من ركان وروح وأمجد كان يحاول أن يبدو طبيعيا لكنه لم يستطع إخفاء ارتباكه، أصابعه تعبث بكوب الماء أمامه بلا وعي، وعيناه تتجنبان أي نظرة مباشرة. حيث رفعت العمة رأسها نحوه، ثم قالت بصرامة هادئة:
هو فين ركان وروح؟... ليه مجوش لحد دلوجتي؟ ميعرفوش إني رجعت من السفر ولا اي عاد
ازدرد أمجد ريقه بصعوبة، وصوته خرج متقطعاً:
جايين… جايين دلوجتي يا عمتي
رمقته ميرا بنظرة حادة وحاجباها ارتفعا بدهشة وهي تقول باستغراب:
مالك يا أمجد؟ شكلك متوتر جوي… في حاجه
وقبل أن يتمكن من الرد، فتح الباب على وسعه، ودخل ركان بخطوات ثابتة، تتبعه روح بخجل ظاهر في ملامحها. وتوجه مباشرة إلى عمته، وانحنى وقبل يدها قائلا باحترام:
آسف يا عمتي اننا اتأخرنا
حدقت ميرا فيه بعينين مليئتين بالشك وقالت بسرعة:
كنت فين كل دا يا ركان
لم يجبها فورا... بل التفت إلى روح التي وقفت إلى جواره، ثم مد يده وأمسك يدها أمام الجميع، ونظرة التحدي في عينيه واضحة. ابتسم بخفة وهو يعلن بصوتٍ عالي:
باركولنا… أنا وروح اتجوزنا.
تجمد المكان في لحظة صادمة، كأن الأنفاس جميعها انحبست و
الفصل السادس
روح
كانت الغرفة غارقة في فوضى عارمة... المرايا المحطّمة تعكس شظايا الغضب، والكراسي مقلوبة، والأواني متناثرة على الأرض. ووسط ذلك الخراب، وقفت صفا، شعرها مبعثر، ودموعها تغرق وجهها، وهي تصرخ بصوت مبحوح:
مستحيل… مستحيل أسمح لحد ياخده مني… مش هسيبه، مش هسيبها تاخده.. ركان ليا لوحدي
اندفعت يداها بقوة إلى الطاولة القريبة، ودفعتها بعنف حتى ارتطمت بالحائط، فتبعثر ما عليها. وبينما هي تواصل ثورتها المجنونة، انفتح باب الغرفة بهدوء، ودخل ركان. ووقف عند العتبة، عيناه الباردتان تتأملان المشهد وكأن ما يراه لا يعنيه. وقال بصوت خافت، لكن قاطع:
هتقتنعي امتى يا صفا إننا مش هنكون مع بعض؟
التفتت إليه بسرعة، بعينين حمراوين من كثرة البكاء، ثم اندفعت نحوه بجنون. ألقت بنفسها بين ذراعيه، تضغط على صدره وتشهق:
لا… لا يا ركان… متجولش اكده أنا بحبك، بحبك جوي… مينفعش تسيبني، مينفعش
حاولت أن تتشبث به أكثر، كأنها تخشى أن يذوب من بين يديها، لكن جسده ظل جامدا، متصلبا لا يبادلها العناق. وبعد لحظات صمت ثقيل، دفعها برفق بعيدا عنه، وعيناه لا تحملان سوى قسوة حاسمة:
الموضوع انتهى يا صفا… المأذون هييجي بكره… عشان نطلج.
ترك كلماته تتردد في الغرفة كطعنة نازفة، ثم استدار وغادر بخطوات ثابتة، بينما صفا تهوي على الأرض، تتشبث بالهواء وتصرخ وفي مكان اخر في غرفه ليان الصغيرة كانتنائمة بطمأنينة بجوار أمها حيث جلست روح إلى جانبها، عيناها محمرتان من شدة البكاء، ودموعها تتساقط في صمت على خديها. فـ مدت يدها تتحسس شعر ابنتها برفق، كأنها تخشى أن تفقدها من جديد، ثم غطت فمها بكفها تخنق شهقة حارقة وفجأة، انفتح الباب بهدوء، ودخلت ميرا..... وقفت للحظة عند العتبة، تتأمل المشهد، ثم تقدمت بخطوات بطيئة، وفي عينيها مزيج من السخرية والمرارة. ورفعت حاجبها وقالت بنبرة باردة:
أهه… في الآخر انتي ال كسبتي يا روح.
رفعت روح رأسها بسرعة، والدموع لم تجف بعد، وقالت بصوت مبحوح:
ـ لا… لا يا ميرا… انتي فاهمة غلط جسما بالله
ضحكت ميرا ضحكة قصيرة بلا فرح، واقتربت أكثر، ثم انحنت قليلا نحوها وهمست بحدة:
انك تسمي بنتك الله يرحمها على اسمي… دا مش هيشفعلك عندي. الغلطة ال عملتيها مش بتتمحي… وكفاية بجا، كفاية تدمرينا أكتر من اكده. كفاية ال عملتيه.
ارتجفت روح ومدت يدها وأمسكت بيد ميرا برجاء ودموعها تتساقط بغزارة:
سامحيني يا ميرا… والله ما كان جصدي أوجعك… أنا آسفه.
لكن ميرا سحبت يدها بقسوة، وعيناها تلتمعان بغضب مكتوم، وصوتها خرج كالنصل:
الغلطة الجاية منك… أنا ال هجتلك بنفسي.
ثم استدارت وغادرت الغرفة بخطوات سريعة، تاركة روح غارقة بين دموعها، تحتضن ابنتها النائمة كأنها تحتمي بها من تهديد يخيم كالسيف فوق رأسها وفي المساء كان الليل قد أرخى سدوله على الدار، والهدوء يخيّم على أركانها، لكن غرفة العمة كانت تغلي بالصوت والجدال حيث جلس أمجد على طرف الكرسي، ملامحه مشدودة، بينما وقفت عمته أمامه، يديها معقودتان على صدرها، وعيناها تلمعان بالحدة فقال بصوت متوتر لكنه حاسم:
خلاص يا عمتي بجا … مش هتجوزها، الموضوع انتهى. فركشت الخطوبة.
شهقت العمة بغضب، وصفقت بيديها بقوة مردده:
ازاي يعني؟! ليه من غير سبب؟ مش كل مرة يا أمجد! دي المرة الرابعة… رابع خطوبة تسيبها من غير ما تدي حتى مبرر.. ليه اكده يا ابني ال بتعمله دا
رفع أمجد صوته لأول مرة، وقد اشتعلت ملامحه بالغضب المكبوت وهتف:
علشان مش عايزها.... علشان تعبت.... كل مرة تضغطوا عليا أوافج أخطب وأنا مش عايز… بس المرادي لا... مش هسمع كلامكم تاني، انتهى
ضاقت عينا العمة، واقتربت خطوة منه، وصوتها ارتفع متحديا:
هتنسي امتى ال حوصل زمان؟
تجمدت ملامح أمجد لوهلة، كأن صاعقة نزلت على رأسه. ارتبك و ارتعشت يداه، ثم قال بصوت خافت يحاول أن يخفي اضطرابه:
نسيته… نسيته خلاص.
صرخت العمة بعناد وعيناها تحدقان فيه بحدة:
لا… منسيتش! وعمرك ما هتنسى. مدام لسه بتحبها… سامحها يا ولدي.
ارتفع صوته هذه المرة كالعاصفة، وهو ينهض واقفا، يلوح بيديه بعصبية:
اسااامح؟! أسامح في إي؟! أسامح واحدة جالتلي إني خاين وكداب؟ إني مش أمين عليها؟ أسامح واحدة صدجت كدبة رخيصة وخطة فاشلة اتعملت عليا؟! أسامح ال رمت كل الذنب ليا وسابتني أتحمل لوحدي.. كاني انا الشيطان والحقيقه غير اكده
ارتعش صوته وهو يردد الكلمات الأخيرة، والغضب يتقاطع مع ألم قديم لم يندمل وظلت العمة صامتة لبرهة، تراقب شرارات العتاب التي تفجرت فجأة من قلبه فتنفس أمجد بحدة، ثم استدار نحو الباب وقال بصوت مبحوح:
أنا مش هسامح… الموضوع دا اتجفل من زمان، من ناحيتي ومن ناحيتها.
مد يده ليفتح الباب ويغادر، لكن العمة أسرعت وخطت نحوه، أمسكت بيده لتوقفه، وقالت بصوت مرتعش هذه المرة، كأنها ترجوه:
ميرا… ميرا فعلا لسه بتحبك يا أمجد. وكل ال بتعمله، كل الغضب دا، من كتر ما هي متشتته ومش عارفه تعمل اي
توقف أمجد وتجمد في مكانه، وترددت أنفاسه المضطربة. لم يجب للحظات، ثم التفت إليها ببطء، عيناه تكسوهما مرارة عميقة وقال بصوت هادئ لكن حاسم:
حتى لو بتحبني… خلاص. هي بنت عمي… وبس.
ثم حرر يده من قبضتها، وفتح الباب وغادر بخطوات ثقيلة، تاركا عمته واقفة في مكانها، يعتصرها الغضب والحسرة، بينما يتردد صدى كلماته في الغرفة كجرس خافت يغلق أبواب الماضي إلى الأبد وفي غرفه ركان كان يقف عند الشباك، ساند كفه على حافته الباردة، وعيناه مثبتتان على الحديقة. في الأسفل، جلس أمجد على المقعد الخشبي، ظهره منحني كأنه يحمل جبالا فوق كتفيه، وملامحه غارقة في حزن لا يخفيه الليل. ظل ركان يتأمله بصمت، حتى رأى أمجد ينهض ببطء، ثم شق طريقه نحو سيارته.... لم تمض دقائق حتى دوى صوت المحرك، وغابت أنوار السيارة في عتمة الطريق وقبل أن يغرق ركان أكثر في أفكاره، قطع الصمت طرقات خفيفة على الباب، ثم انفتح بحذر، لتدخل روح بخطوات مترددة.وصوتها خرج مرتجفا:
أحضرلك الواكل… تحب آجيبه اهنيه ولا هتنزل تحت
لم يلتفت ركان نحوها، ظل يحدق في الفراغ خارج النافذة، ثم تمتم ببرود عميق:
مشي… أمجد مشي.... من وجت ال حوصل زمان… وهو مش جادر يتخطى. بيبان جدامنا إنه قوي وكويس، بس في الحقيقة… هو تعبان
ارتجفت عيناها، ونظرت إليه بحزن عميق، ثم همست:
حقكوا عليا… أنا آسفه
ابتسم ركان بسخرية لاذعة و أخيرا التفت إليها وهو يحدق في عينيها بحدة:
دا اعتذار رقم كام؟ عشره؟ عشرين؟ كفاية اعتذارات يا روح… علشان مش هنخلص..... انتي عارفه… أنا ممكن أسامحك على أي حاجه. إلا حاجه واحدة… ال عملتيه في أمجد
انهارت دموعها فجأة، رفعت يديها بتوسل مرتعش:
طب جولي… أعمل إي؟ أعمل إي علشان تسامحوني؟
اقترب أكثر وصوته هابط لكنه جاف كالثلج:
ولا حاجة… ولا حاجة في الدنيا هتخليني أسامحك يا بنت عمي
تحرك ركان نحو الباب بخطوات ثابتة، لكن قبل أن يمد يده للمقبض، اندفعت روح تمسك يده بكل قوتها، دموعها تنهمر على وجهها وهي تلهث:
بالله عليك… كفاية! أنا مش جادرة أستحمل كل دا… آه أنا غلطانه… آه أستاهل… بس اجتلني! اجتلني وريحني بجا
توقف ركان للحظة، عيناه انكسرت فيهما و. مد يده الأخرى ببطء، ولمس خدها المبلل بالدموع بحركة رقيقة على غير العادة. صوته خرج هامسا، لكنه كالسهم:
الموت راحة… خصوصا ليكي. وأنا مش هديكي الراحة دي أبدا
أدار ظهره مستعدا للخروج، لكن كلماتها التالية أوقفته كالصاعقة:
انت… انت لسه بتحبني يا ركان؟
تجمد مكانه وعضلاته تصلبت، وعيناه اتسعتا بدهشة لم يفلح في إخفائها فـ استدارت روح لتواجهه ودموعها تلمع تحت ضوء خافت، أعادت السؤال بجرأة يائسة:
أيوه… لسه بتحبني. كل دا ال بتعمله… مش علشان ال انا عملته… ولا علشان حياة الكل اتدمرت بسببي. لا… دا علشان لسه بتحبني
لم تكد تكمل جملتها حتى تحرك ركان فجأة، انفجر فيه الغضب المكبوت منذ سنين. ورفع يده وصفعها بقوة، فارتد رأسها للجانب، ووقع الصمت الثقيل في الغرفة وأمسك يدها بقسوة جعلتها ترتجف، وصوته انطلق كالبركان:
مش كل الناس أنانيه زيك يا روح وأكبر غلطة في حياتي… إني حبيتك. وياريتك تموتي… وتريحينا كلنا
دفعها بعيدا عنه بعنف، فسقطت على الأرض، جسدها يرتعش ودموعها تتساقط بغزارة ورفعت رأسها بخوف وانكسار، وفجأة وقعت عيناها على الطاولة القريبة… حيث لمع مقبض سكين صغيرة تحت ضوء المصباح وبقيت عينها معلقة بها، بينما صدى كلمات ركان الجارحة ما زال يتردد في الغرفة، يخنق أنفاسها وفي عتمة الليل، كان الحرس يتجولون في حديقة البيت، خطواتهم الثقيلة تتردد على الأرض المبللة بالندى. تبادل أحدهم همسًا مع رفيقه، وهو يلتفت حوله بقلق:
أنا متأكد… سمعت صوت دلوجتي
قهقه الآخر بسخرية، وهو يزيح غصن شجرة عن طريقه:
ـيا ابني، ما هو مفيش حاجه… أهه كل حاجه ساكتة و
لكن فجأة، توقفت خطوات الأول، إذ شعر بقدمه تدوس على شيء غير معتاد وتجمد في مكانه و قلبه يخفق بقوة ثم انحنى ببطء وأزاح بيده ما يحجب الرؤية… وفجأة اتسعت عيناه من الفزع.. كانت ليان… ملقاة على الأرض، وجهها الصغير ملوث بالدماء، وجسدها الصغير غارق في حمرة مرعبة فـ ارتعشت أنفاس الحارس وهو يجثو بجانبها، يمد يده المرتجفة ليتحسس عنقها، يبحث عن نبض… يقترب أكثر ليتأكد من أنفاسها… لكن لا شيء وتراجع ببطء، وصوته خرج مختنقا بالذهول والرعب:
دي… ماتت و
لاتلهكم القراءه عن الصلاه وذكر الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
أدخلوا واعملوا متابعة لصفحتي عليها كل الروايات بدون لينكات بمنتهي السهوله من هنا 👇 ❤️ 👇
تعليقات
إرسال تعليق