رواية دمعات قلب الدمعة السابعة والثامنة والعشرون بقلم رباب فؤاد حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج للروايات
جلست(هالة) على فراشها ترتب الملابس النظيفة التي غسلتها في غياب(طارق) الذي يمنعها من القيام بأي مجهود زائد ووافق_على مضض_ أن تقوم هي بالطهي حتى تعود والدتها من رحلة الحج.
وفي هدوء شردت بذهنها بعيداً وهي تتذكر الأيام التالية على معرفة (طارق) بحملها وبحور السعادة التي أغرقها فيها زوجها بحبه وحنانه ورقته معها.
كانت لمعة عينيه وابتسامته العذبة تثير في جسدها قشعريرة لذيذة كلما نظرت إليه وتزيد من دقات قلبها التي تبدو وكأنها تهتف باسمه.
وهو كان لا يألو جهداً في سبيل إسعادها وتعويضها الأيام السابقة...وتعويض نفسه أيضاً.
كانت تشعر بالصدق في عينيه وصوته وهو يهمس في أذنيها بكلمات العشق والغزل.
كما كانت تشعر بلهفته عليها وهو يساعدها بأعمال المنزل منذ أصبح زوجها فعلياً وكأنه يخشى أن يرهقها بطلباته.
كانت تشعر ب(طارق) مختلف...مختلف كزوج وحبيب و...رجل.
وارتسمت ابتسامة واسعة على وجهها وهي تتذكر خروجها معه كزوجة تتأبط ذراعه للمرة الأولى أمام العالم وهو يصحبها وأطفالها في رحلة سريعة إلى الملاهي.
وبعينين حالمتين رفعت كفها اليسرى إلى مستوى نظرها لتتأمل دبلته الذهبية الجديدة التي أحاط بها بنصرها خلف دبلة أخيه التي رفض أن تخلعها.
وبكل الحب الذي تحمله بين شرايينها لهذا الرجل قربت كفها لتلثم دبلته بعمق وهي تهمس ـ"حفظك الله لي ولبنائنا".
ثم أعادت كفها لتتحسس برقة بطنها الذي يحمل ثمرة هذا الحب.
كانت سعادتها بهذا الحمل لا تضاهيها سعادة، سوى سعادتها بحملها الأول.
فحينها كانت سعيدة لأنها ستصبح أماً
ولكنها الآن سعيدة لأنها ستصبح أماً لطفله...لكائن صغير نصفه لها ونصفه له.
لحظتها تذكرته حينما طلب منها ألا تنظر إليه حتى لا يشبهه المولود
وبابتسامة ناعمة نقلت عينيها إلى المنضدة المجاورة لفراشهما، والتي حملت صورة جماعية لها معه ومع أبنائها.
تناولت الصورة ذات الإطار الأنيق وتأملتها قليلاَ
لا تزال تذكر اليوم الذي أصر فيه (طارق) على أن يذهبوا جميعاً إلى المصور ليلتقط لهم صورة جماعية.
حينها برر إصراره هذا بأنه لا توجد صورة تجمعهما سوياً كزوجين، وهذه الصورة بدلاً عنها
ولكن المصور أوقف كل منهما في جانب بينما وقف الأطفال في المنتصف وكأن (طارق) و (هالة) يحيطانهما بالحب والحماية.
وبكل الحب الذي تغلغل في أعماقها لهذا الرجل تحسست ملامحه في الصورة وهي تتأمل نظرة عينيه الحنونة، والتي لا تخلو من نظرة شقاوة تذكرها بإبنها الأوسط (هاني).
ثم ما لبثت أن قربت الصورة من وجهها لتلثم وجهه في الصورة بحنان وتتخيله أمامها وهي تبثه حبها
كانت تفتقده في شدة هذا الصباح، وكأن وجوده معها هو وحام الحمل الجديد
فقد خرج إلى المستشفى بعد صلاة الفجر مباشرة ولم يوقظها كعادته منذ علم بحملها، خاصة وأنه يوم السبت ولن يذهب الأولاد إلى المدرسة
ولهذا فهي تشعر وكأنها لم تره منذ زمن، رغم أنها كانت بين أحضانه طوال الليل
تنهدت في عمق وهي تعيد الصورة إلى موضعها وتسللت ابتسامة شقية إلى شفتيها وهي تتخيل رد فعل(طارق) حين يعلم أنها غسلت ملابسه المتسخة دون علمه؛ وتوقعت أن يهتف بها في عصبية قائلاً ’ألم أقل لك ممنوع الإرهاق أو المجهود الزائد؟ ألم..."
وعلى حين غرة قطع تخيلاتها دخول ابنها(هاني) المفاجئ إلى غرفتها هاتفاً في فزع ـ"ماما...(هيثم) يمسك بطنه ويتأوه من الألم."
ألقت(هالة) ما في يدها ونهضت مسرعة إلى حجرة ابنيها لتجد(هيثم) يتلوى من الألم واضعاً يديه الصغيرتين على جانبه الأيمن فسألته في جزع ـ"ماذا بك يا(هيثم)؟ أين الألم؟"
أشار إلى جانبه الأيمن ولسانه لا ينطق سوى بتأوهاته من شدة الألم, وهذا ما جعل قلب(هالة) يهوي من بين ضلوعها؛ لا بد وأنه يشكو من الزائدة الدودية, إلا أن قلبها دعا الله أن يخيب ظنها وحاولت تهدئة ولدها قائلة ـ"لا تقلق يا حبيبي. إنه مغص عادي وسيزول سريعاً. هل تستطيع تحريك ساقك اليمنى؟"
قالتها وهي تلمس ساقه عفواً فازداد صراخ(هيثم) وأيقنت خطورة الموقف فهتفت ب(هاني) قائلة ـ"أحضر الهاتف فوراً."
وبأصابع مرتجفة ضغطت(هالة) أرقام هاتف(طارق) المحمول لتجد رسالة مسجلة تفيد بأن الهاتف مغلق.حاولت مرة ثانية وثالثة دون جدوى.
وفي يأس ورعب شديدين على فلذة كبدها راحت تطلب رقم المستشفى التي يعمل بها زوجها, والتي ظلت أرقامها مشغولة لفترة بدت لها كالدهر حتى استجاب لها أخيراً وسمعت موظفة الاستقبال تجيبها فهتفت تستنجد بها قائلة ـ"صليني بالدكتور(طارق حفني) بسرعة لو سمحت."
سألتها الممرضة بلهجة روتينية ـ"من أنت؟"
هتفت بها(هالة) في عصبية قائلة ـ"وما شأنك أنت؟ صليني به سريعاً, فالأمر خطير."
لم ترق لهجتها للممرضة التي قالت في ضجر ـ"الدكتور(طارق) في غرفة العمليات و..."
همت(هالة) بالصراخ في وجهها ثانية حينما صك مسامعها صوتاً أنثوياً هادئاً يقول من الطرف الآخر في رقة ـ"ألو...ماذا هناك؟"
استغاثت(هالة) بصاحبة الصوت الرقيق وقالت في لهفة ـ"صليني بالدكتور(طارق حفني) إذا تكرمت. ابني يتلوى من الألم وهاتف(طارق) المحمول مغلق."
حاولت صاحبة الصوت الرصين تهدئتها قائلة ـ"دكتور(طارق) في غرفة العمليات بالفعل. أعطني اسمك وسأجعله يتصل بك فور خروجه, ولا تقلقي فلن أنسى."
تفجرت الدموع من عيني(هالة) واختنق صوتها وهي تقول ـ"صليني بأي دكتور آخر إذاً, أخشى أن ابني يعاني من مغص الزائدة الدودية."
تشبع الصوت الهاديء بلهجة اهتمام وصاحبته تقول ـ"لا تقلقي يا سيدتي, أنا دكتورة(سمر) زوجة الدكتور(طارق). أخبريني بالأعراض التي يعاني منها ابنك يا مدام...ما اسمك؟"
لم يبد على(هالة) أنها سمعت أي مما قيل بعدما اخترقت أذنيها عبارة ’زوجة الدكتور(طارق)‘؛
فقد اتسعت عيناها في ذهول وأفلت حلقها شهقة رغماً عنها وهي تكاد لا تصدق أذنيها.
فالمتحدثة لم تقل’زميلة الدكتور(طارق)‘ أو حتى زوجته السابقة, بل قالت ’زوجة الدكتور(طارق)‘...
وفي رد فعل سريع لصدمتها خرج صوتها متحشرجا يقول ـ"أنا(هالة شوقي), زوجة دكتور(طارق)."
وكان آخر ما سمعته هو شهقة دهشة من حلق(سمر) قبل أن تغلق سماعة الهاتف في عنف.
**************************************
الدمعة الثامنة والعشرون
28 -
اندفع(طارق) في سرعة ولهفة إلى شقته عبر بابها المفتوح وهرع إلى غرفة الأولاد ليرى(هيثم) راقداً على فراشه وطبيب الإسعاف يفحصه في دقة، بينما وقفت (هالة) إلى جواره ودموعها تغرق وجهها الشاحب الذي رفعته إليه للحظة ثم ما لبثت أن أدارته بعيداً, ولم ينتبه(طارق) لذلك إذ خاطب طبيب الإسعاف قائلاً ـ"أنا دكتور(طارق حفني) والد(هيثم), ماذا به؟"
رفع الطبيب رأسه قائلاً بالإنجليزية ـ"التهاب بالزائدة الدودية. لا بد من إجراء جراحة عاجلة."
قال(طارق) بثبات ـ"أنا جراح وسأنقله إلى المستشفى الذي أعمل به."
وأشار إلى(هالة) بلهجة آمرة قائلاً ـ"ابق أنت هنا بصحبة(هاني)و(هند) و..."
قاطعته بإصرار وتحد قائلة ـ"ابني لن يذهب للمستشفى وحده, سأترك(هاني) وأخته عند جارتي؛ لقد تركتني منذ قليل لتجيب الهاتف."
حاول الاعتراض قائلاً ـ"ولكن صحتك..."
قاطعته ثانية وهي تقول بلهجة لم يعتدها ـ"حبي للقادم لن يكون أكثر من حبي لإبني البكر، ولن أحتمل الجلوس هنا وابني في غرفة العمليات".
عقد حاجبيه للحظات وهو يتأمل نظرتها المتحدية التي تعمدت أن ترمقه بها، قبل أن يقول ـ"حسناً..أعدي حقيبة (هيثم)".
مسحت دموعها بكبرياء وأنامل مرتجفة وهي تومئ برأسها إلى حقيبة صغيرة مجاورة ـ"لقد أعددتها بالفعل. هيا بنا".
وبمجهود نفسي خارق حاولت السيطرة على أعصابها كي لا تفقدها أمام طفلها الذي يتلوى من الألم، وجلست على الأريكة الخلفية لسيارة (طارق) بينما وضع ابنها رأسه في حجرها وترك كفه بين كفيها وكأنما تشحنه بقوة حنانها.
كان القلق يبدو جلياً على ملامح (طارق) الذي يتابعهما بعينيه عبر مرآة السيارة، وكلما التقت عيناهما لمحت في عينيه تساؤلاً إليها عن سر نظرتها المحنقة له، لكنها كانت تتعمد تجاهله وهي تسمعه يتصل بالمستشفى ويطلب بتوتر تجهيز غرفة العمليات له والإتصال بالدكتور (سامي)، ثم سمعته يسأل ابنها عن حالته ومدى الألم وموضعه ومتى بدأ، إلى أن وصل بسيارته إلى المستشفى الذي يعمل به.
وما أن أوقف السيارة أمام باب الطوارئ بالمستشفى حتى لمحت (هالة) ممرضين يهرعان نحوها ويتعاونان على حمل الصغير برفق ووضعه على فراش متحرك دفعاه إلى داخل المستشفى ومن صالة الطوارئ إلى مصعد العمليات الذي ابتلع الممرضين والفراش وفوقه (هيثم).
كانت تريد الركوب مع صغيرها لكنه وضع كفه على ظهرها وهو يقودها بهدوء نحو مصعد آخر مجاور هامساً ـ"لا يمكنك ركوب المصعد مع (هيثم) لأنه يفتح داخل صالة العمليات".
وكأنما أصابتها لمسته بتيار كهربائي مبعثه الإشمئزاز الذي زاد من شعورها بالغثيان، لكنها تماسكت كيلا تحرجه في ردهة المستشفى. وما أن أُغلق باب المصعد عليهما حتى أزاحت يده عنها بضيق وهي تشيح بوجهها في غير اتجاه وقوفه.
أدهشه موقفها فعقد حاجبيه وهو يلمس كفها ويسألها بتوتر ـ"(هالة) ماذا بك؟ نظراتك وحديثك يصيبانني بالتوتر. حالة (هيثم) ليست خطيرة والحمد لله، وسيكون معي صديقي (سامي). حبيبتي لا تثيري قلقي عليك. يكفيني ما أنا فيه".
رمقته بنفس النظرة التي تذبحه وهي تبعد كفها عنه قائلة بلهجة ساخرة لم يعتدها ـ"حبيبتك؟؟ لا تقلق، فحبيبتك بخير.. ركز فقط في عملك وفي أمانة شقيقك الراحل".
زاد من انعقاد حاجبيه وهم بسؤالها عما تعنيه لولا أن سبقه المصعد بفتح أبوابه إيذاناً بوصولهما إلى الطابق الذي يحوي غرف العمليات.
ولأول وهلة إثارتها رائحة المعقم القوية التي زكمت أنفها وزادت من غثيانها بشكل كبير، لكنها واصلت تماسكها وهي تدور بعينيها على غرفة العمليات وتهم بسؤاله عن صغيرها، إلا أنه ابتدرها وهو يشير في اتجاه آخر قائلاً ـ"سأدخل لغرفة التعقيم الآن ومنها إلى غرفة العمليات، وأنت اجلسي على هذه المقاعد هناك حتى نخرج".
سألته بلوعة ـ"ألن أراه قبل الجراحة؟"
منحها ابتسامة باهتة وهو يربت على كتفها قائلاً ـ"حبيبتي إنهم يعدونه الآن للجراحة بالفعل. استودعيه عند العلي القدير وادعيه أن يفك كربك".
شعرت بغصة في حلقها وشعور متناقض يكاد يقتلها في تلك اللحظة.
ففي هذه اللحظة الحرجة من حياتها كانت بحاجة إلى صدر حنون تفرغ فيه توترها وتشعر بالاطمئنان لمجرد سماع دقات قلبه المحب...
لكن الشخص الوحيد الذي كانت تتمنى أن تلقي بنفسها بين ذراعيه هو نفس الشخص الذي كان شيطانها يوسوس لها بإلقائه من نافذة الدور الثالث.
شعور متناقض بين الحب والكراهية امتزجا داخلها بشكل خانق، زادته رائحة المطهر التي تميز المستشفيات.
شعور استغرقها ولم يخرجها منه سوى حركة (طارق) على ذراعها، والتي جعلتها تجفل للحظة تأملت فيها وجهه الذي عشقت ملامحه يوماً قبل أن تهمس كالمغيبة ـ"استودعتكما الله الذي لا تضيع ودائعه".
وما أن غاب (طارق) داخل صالة العمليات ذات الباب المتأرجح حتى شعرت بالأرض تميد من تحتها فاستندت إلى الحائط في ضعف وأسبلت جفنيها لكبت دموعها التي تهدد بالنزول عند أول كلمة تسمعها أو تنبس بها..
وتناهى إلى مسامعها في تلك اللحظة صوت خطوات أنثوية تقترب منها وتتجاوزها لتقف أمامها وتحجب عنها الباب الذي غاب خلفه (طارق) قبل قليل.
فتحت عينيها في بطء لتجد أمامها شقراء فاتنة في أواخر العشرينات من عمرها ترتدي معطفاً أبيضاً وتبتسم في وجهها قائلة بهدوء ـ"لا بد وأنك مدام(هالة), أنا(سمر)."
لم تكن(هالة) بحاجة لأن تعرفها (سمر) بنفسها.
صحيح هي أجمل مما توقعت، لكن ملامحها لا تزال كما هي
فهي تحفظ تلك الملامح جيداً منذ رأتها بصور زواجها من (طارق) قبل نحو عام
الزواج الذي ظنته انتهى ولم يعد له بقايا
لكنها فوجئت اليوم بأنها كانت واهمة، وأنه لم ينته كما ظنت.
وأكثر ما أثارها هو أنها آخر من يعلم
وكأنها لا قيمة لها في حياته
لا كزوجة، ولا حتى كصديقة كما اعتادت أن تكون
ولم تكن (هالة) بحاجة إلى انتظار المزيد,
فقبل أن تنبس (سمر) بحرف أو حتى تستمع لمواساتها الرقيقة كانت معدتها المضطربة قد أعلنت التمرد وهي تنقبض في عنف وتقفز إلى حلقها فوضعت كفها على فمها في سرعة وهي تقاوم مشاعر الامتعاض بداخلها,
وأدركت(سمر) ما بها فصحبتها إلى حمام السيدات وتركتها تفرغ معدتها في عصبية.
وبعد أن غسلت(هالة) وجهها بالماء البارد خرجت لتجد(سمر) بانتظارها وعلى شفتيها ابتسامة هادئة وهي تقول ـ"لا تخافي, ابنك معه اثنان من أفضل جراحينا, والحالة ليست خطيرة كما تتخيلين. تعالي معي إلى الاستراحة, يبدو أن أعصابك متوترة."
أومأت(هالة) برأسها في إنهاك قبل أن تضع كفها على معدتها وكأنها تهدئها قائلة ـ"معدتي هي الأخرى متوترة بسبب خوفي عليه، ولذلك أتقيأ كثيراً رغم أنها فارغة من الأساس."
صحبتها(سمر) إلى استراحة قريبة وأجلستها قبل أن تجلس إلى جوارها قائلة بود ـ"كنت أتمنى أن نتعارف في ظروف أفضل من هذه, ولكنها إرادة الله أن نتقارب الآن, وأشعر أننا سنصبح صديقتين؛ من كلام(طارق) عنك أشعر أنني أعرفك منذ زمن."
منحتها(هالة) ابتسامة منهكة وهي تقول ـ"أنا الأخرى كنت أريد التعرف إليك عن قرب لأعرف من استطاعت سرقة قلب(طارق)."
اتسعت عينا (سمر) في دهشة من تعبير (هالة) ووصفها بأنها سرقت قلب (طارق) لكنها تغاضت عن ذلك وتنحنحت في حرج وهي تخلل شعرها بأصابعها الرشيقة قبل أن تقول ـ"لماذا أشعر أن خبر عودتي لـ(طارق) كان مفاجئاً لك؟"
أجابتها(هالة) ببساطة قائلة ـ"لأنه كذلك بالفعل."
حاولت (سمر) تبرير عودتهما بارتباك قائلة ـ" ل..لقد جاءت عودتنا بشكل غير متوقع منذ أسبوع واحد فقط."
قفز إلى عيني(هالة) مشهد(طارق) وتوتره في الفترة الماضية وشروده الطويل حتى وهي إلى جواره،
كان يتحجج بضغوط العمل ووجود مؤتمر في الفترة القادمة قد يدفعه إلى الغياب عن البيت لفترة
وتذكرته وهو يعتذر لها بعد عيد الأضحى مباشرة للغياب لثلاثة أيام مقبلة واضطراره للسفر إلى هذا المؤتمر في الإسكندرية.
اعتراها لحظتها شعور غريب بالمهانة.
إذاً فقد كذب عليها بشأن عودة(سمر) إلى عصمته,
كان معها يستعيدان ذكريات زواجهما ولم يخبرها بذلك
وكأنها لا تعنيه بشيء
ولكن لماذا؟!
أسلمها التفكير إلى حالة من القيء ثانية فهرعت إلى الحمام و(سمر) حائرة لا تدري ماذا تفعل.
وعندما عادت(هالة) أخيراً وهي تترنح من الإنهاك ابتدرتها(سمر) قائلة باهتمام ـ"سيلتهب حلقك هكذا, سأحضر لك شراباً دافئاً ليهديء معدتك."
أشارت(هالة) بكفها قائلة ـ"كلا, لا داعي لذلك."
أصرت(سمر)على دعوتها قائلة ـ"لا مجال للرفض, سأحضر لك شاياً. هل تشربينه بالسكر أم دايت؟"
أجابتها(هالة) بتهالك قائلة ـ"سكر خفيف."
وعندما عادت(سمر) بالشاي سألت (هالة) باهتمام ـ"ولكن أين(هاني) و(هند)؟ لقد أخبرني(طارق) أن والدتك مسافرة للحج, فأين تركتهما؟"
تنهدت(هالة) في عمق قبل أن تجيبها قائلة ـ"عند جارتي, عندما علمت بمرض(هيثم) طلبت مني أن أترك الصغيرين عندها مع أبنائها."
ارتشفت(سمر) قليلاً من كوبها وهي تحاول التغلب على دقات قلبها المتسارعة في مواجهة ضرتها قبل أن تقول بهدوء ـ"لقد طلبت من(طارق) أكثر من مرة أن يقدمني إليكم على أنني زميلته بالمستشفى فقط لكنه كان يخشى أن يستنبط أي من الولدين حقيقة علاقتي به. ولا أخفي عليك, فقد شعرت بأن زوج أمي خطفها مني مثلما اختطف الموت أبي وتوقعت أن يشعر أبناؤك تجاهي بنفس المشاعر لو أدركوا أنني زوجة عمهم."
أومأت(هالة) برأسها في صمت وهي تنظر في ساعة يدها بقلق ثم قالت بتوتر ـ"هل تأخروا بالداخل أم يهيأ لي فقط؟"
ربتت(سمر) على كتفها بتعاطف قائلة ـ"المفروض أن يكونوا في مرحلة خياطة الجرح الآن, لا تقلقي. ريثما تنتهين من شرابك سيكون(هيثم) في غرفته بإذن الله."
ارتشفت(هالة) قليلاً من الشاي الدافيء الذي انساب عبر حلقها إلى معدتها الخاوية وكأنه يكوي كل مكان يمر به، ثم ما لبثت أن سألت شريكتها في زوجها قائلة ـ"هل سيُحقن(هيثم) بمخدر كلي؟"
ابتسمت(سمر) قائلة ـ"كلا.لا بد وأن تكون المعدة فارغة لمدة لا تقل عن 12ساعة قبل الحقن بالمخدر الكلي, أما في حالات الجراحة المفاجئة كالزائدة الدودية والولادة القيصرية يكون التخدير نصفياً و..."
وانطلقت(سمر) تشرح لـ(هالة) مزايا المخدر الكلي و النصفي وكأنها تشرح لطلبة كلية الطب, والأخيرة غائبة بعقلها بعيداً, والغليان يتزايد بداخلها؛
ترى ماذا قال عنها أيضاً لزوجته الحبيبة؟
هل أخبرها أن زواجهما أصبح حقيقياً؟
وهل أخبرها أنه سيصبح أباً لطفل من زوجته الأخرى؟
وفي عقلها أضاء مصباح قوي أنار لها ما لم يكن واضحاً من قبل؛
فالأمر كله لم يتعد كونه مجرد تمثيلية سخيفة صدقتها كالبلهاء,
فيخبرها (طارق) بأنه طلق(سمر) حتى يستدر عطفها، ويصر على أنه أخطأ حين تزوجها تاركاً زوجته الأولى بحثاً عن سراب,
وحين يتحقق حلمه وتحمل(هالة) يعود هو إلى حبيبته ليستمتع بحبه وبحياته التي يريدها لنفسه.
ولكن ماذا عنها هي؟
وماذا عن هذا الجنين الذي تحمله بين أحشائها؟
هل تنازلت عن كرامتها وقبلت به زوجاً وحملت طفله بين أحشائها لينتهي بها الأمر مجرد زوجة ثانية؟؟
مجرد ضرة؟
وليتها ضرة عادية
إنها ضرة سعت لتزويج زوجها في البداية
واليوم يرد لها الجميل باستغفالها واستغلالها لينجب منها الطفل الذي عجزت حبيبته عن إنجابه
ألهذه الدرجة وجدها تافهة ورخيصة حتى أنها هرعت إلى أحضانه بمجرد أن أشار لها بإصبعه؟
تزايد بداخلها الشعور بغبائها ووقوعها ضحية خطة محكمة استغل بها براءتها وسذاجتها وطيبة قلبها.
وللحظة كرهت نفسها وقلبها وحتى جنينها الذي كانت سعيدة بحمله حتى هذا الصباح
جنينها الذي تسبب لها في هذا الذل حتى قبل أن يولد.
ولولا إيمانها بالله لفعلت أي حركة مجنونة للتخلص من هذا الحمل كيلا يكون سبباً في ذلها
أما قلبها، فهي قادرة ومستعدة لأن تطأه بقدميها وتسحقه إنتقاماً منه لأنه وضعها في هذا الوضع
ومع تصاعد الغليان في رأسها وهي تتذكر سعادة(طارق) بحملها, قفزت معدتها إلى فمها ثانية فهرعت إلى الحمام في اللحظة ذاتها التي خرج فيها(هيثم) من غرفة العمليات بصحبة عمه ونُقل إلى غرفة نظيفة بنفس الممر وهو بين النوم واليقظة.
دلفت (سمر) إلى الغرفة خلف (طارق) الذي كان لا يزال يرتدي ملابس العمليات الخضراء وعينيها معلقة بوجه (هيثم) الشاحب الذي تراه لأول مرة، ثم همست لزوجها باهتمام ـ"كيف كانت الجراحة؟"
أجابها بنفس الهمس وهو يعدل من وضع الغطاء على ابن شقيقه قائلاً ـ"الحمد لله..لقد أفاق بالداخل ولكنه تحت تأثير المسكن الآن".
اقتربت من الفراش بحذر وهي لا تزال تتأمل الصغير قبل أن ترفع عينيها إلى (طارق) قائلة بابتسامة خفيفة ـ"ألم تقل أن أحدهما يشبهك؟ (هيثم) لا يشبهك البتة".
تلفت (طارق) حوله بحثاً عن (هالة) وهو يقول في سرعة ـ"أنت قلتها..أحدهما. غالباً يأتي الطفل الأكبر أشبه بوالده، مثلما كان (حازم) رحمه الله أشبه بوالدي. (هاني) هو شبيهي، لكنه ورث عناد أبيه".
ثم سألها في قلق ـ"أين(هالة)؟"
أجابته وهي تداعب شعر (هيثم) الأسود الناعم في حنان قائلة ـ"في الحمام؛ المسكينة مصابة بحالة قيء هستيري من فرط خوفها على ابنها."
ثم أردفت وهي تواجهه بعينيها قائلة ـ"لقد كنت على وشك إعطاؤها مضاد للقيء و..."
قاطعها زوجها في حدة قائلاً ـ"كلا, من الممكن أن يؤذي الج..."
قطع عبارته فجأة حين أدرك أنه قال أكثر مما ينبغي, خاصة حينما لمح انعقاد حاجبيها وشحوب وجهها وهي تسحب أصابعها سريعاً من شعر (هيثم).
وفي نفس اللحظة دلفت (هالة) إلى الغرفة واتجهت من فورها إلى صغيرها تتفحصه والدموع تطفر من عينيها.
ولم يخف عن عيني (طارق) النظرة العدائية التي رمقت بها (سمر) ضرتها وكأنها لبؤة شرسة تختلف تماماً عن الرقيقة التي كانت تمسد شعر الصغير في حنان قبل قليل.
وفي صمت نقلت(سمر) بصرها بين بطن(هالة) ووجه(طارق) في عصبية واضحة قبل أن تترك الغرفة في حنق واضح.
إلا أن (طارق) لم يعرها إنتباها وهو يقترب من (هالة) ويهمس لها بحب ـ"حبيبتي..إنه بخير والحمد لله. لا داعي لدموعك الآن".
مسحت دموعها بأصابع مرتجفة مرتبكة وهي تسأله بصوت مختنق ـ"لماذا لا يجيبني إذاً؟"
مد يده ليربت على كتفها في تعاطف قائلاً ـ"لقد أفاق من المخدر أمامي وعرفني، لكنه الآن تحت تأثير مسكن قوي لأنه لن يحتمل الألم".
أبعدت كفه عنها في ضيق وهي تقول ـ"من فضلك ابتعد عني".
تجاهل ضيقها وهو يتحسس وجنتها بكفه قائلاً بتوتر ـ"(هالة) ماذا أصابك؟ نظراتك وكلماتك وأسلوبك معي متغير منذ الصباح. ماذا حدث؟"
رمقته بنظرة حادة شعر فيها بكراهية غريبة إستنكر أن تصدر عنها وهي تبعد يده عنها في حدة وتقول من بين أسنانها ـ"قلت لك ابتعد..نحن في مكان عام".
زفر في ضيق واستغفر ربه بصوت خفيض قبل أن يرجوها قائلاً ـ"حسناً سأبتعد..ولكن أرجوك اجلسي وأريحي ظهرك...فهو لن يستيقظ الآن".
انحنت تقبل جبهة صغيرها بعد أن مسحت بكفها حبات العرق التي تغرق جبينه قائلة بلهجة غريبة ـ"أخبرتك من قبل أن حبي للقادم لن يكون أكثر من حبي لإبني البكر".
هم بمجادلتها ثانية حينما سمع طرقاً خفيضاً على باب الغرفة أعقبه صوت صديقه (سامي) وهو يقول بلباقة ـ"حمداً لله على سلامة (هيثم) يا سيدتي".
رفعت (هالة) عينيها إليه بدورها قبل أن تقول بامتنان ـ"أشكرك يا دكتور على عنايتك بابني".
قلب (سامي) كفيه وهو لا زال عند باب الغرفة وقال ـ"أنا لم أفعل سوى واجبي..والدكتور (طارق) هو من أجرى الجراحة".
لاح شبح ابتسامة منهكة على شفتيها وهي تقول ـ"هذا لا ينفي أنك تستحق الشكر".
شعر (طارق) بالغيظ وهو يراها تتجاهله تماماً أمام زميله، ولكن (سامي) لم يمنحه الفرصة للإعراب عن هذا الضيق وهو يقول له في سرعة ـ"دكتور (طارق)..أريدك في مكتبك الآن من فضلك".
أخرج طارق غيظه في غطاء الرأس المعقم الذي يحيط بشعره الكثيف، فنزعه في عنف وهو يستدير إلى زوجته ثانية ويهمس لها ـ"سأكون بمكتبي في الجهة الثانية من نفس الطابق. إذا احتجت شيئاً اطلبيني، وسأحاول العودة سريعاً".
أشاحت بوجهها بعيداً عنه ولسان حالها يقول ’لن أحتاجك بإذن الله‘، لكنها لم تنبس بحرف وتركته يخرج من الغرفة مع زميله في حنق ويغلق الباب خلفه.
حينها فقط تهاوت جالسة على اقرب مقعد لتعلن انهيارها تماماً بعد يوم من الضغط العصبي القاسي الذي لم تتوقعه يوماً.
🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹
ادخلوا بسرعه حملوه وخلوه علي موبيلاتكم من هنا 👇👇👇
وكمان اروع الروايات هنا 👇
انضموا معنا على تليجرام ليصلكم اشعار بالروايات فور نزولها من هنااااااااا
🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺
تعليقات
إرسال تعليق