expr:class='data:blog.languageDirection' expr:data-id='data:blog.blogId'>

رواية نعيمي وجحيمها الفصل الحادي والخمسون حتى الفصل الخامس والخمسون بقلم أمل نصر بنت الجنوب

 رواية نعيمي وجحيمها الفصل الحادي والخمسون حتى الفصل الخامس والخمسون بقلم أمل نصر بنت الجنوب 

❤️💙❤️💙❤️💙❤️💙❤️💙❤️💙

الصفحه الرئيسيه للروايات الكامله اضغطوا هنا  

❤️💙❤️💙❤️💙❤️💙❤️


رواية نعيمي وجحيمها الفصل الحادي والخمسون حتى الفصل الخامس والخمسون بقلم أمل نصر بنت الجنوب 


رواية نعيمي وجحيمها الفصل الحادي والخمسون حتى الفصل الخامس والخمسون بقلم أمل نصر بنت الجنوب 

الفصل الواحد والخمسون 

بأقصى سرعة كان يقود سيارة رئيسه جاسر الريان بعد أن استئذنه متعللًا بحجة التعب الشديد الذي ألم بوالدته مريضة السكر، ويود اللحاق كي يصل بها إلى أقرب مشفى، من وقت أن أخبره رعد صديقه والذي كلفه بالمتابعة عن قرب لهذه المجنونة وهذا الفاســ ق رئيسه، الأصفر شقيق الصفرا، ليجعل الدماء تفور برأسه، فتحركت أقدامه دون استئذانه حتى للتفكير، وهذا الأحسن؛ لأنه لو فكر أو حسبها جيدًا، سيعلم ان ليس له صفة ليفعل ما ينتوي بفعله الاَن، هي ضلع أعوج ولابد له من التقيم لكي يعتدل، متعالية بتخلف يعلمه جيدًا، حمقاء ولا تعرف التميز بين الذهب القشرة والذهب الأصلي، غبية وتستحق الطرق بمطرقة قاسية على رأسها حتى تستفيق وترى الصورة كاملة دون تشويش أو بهرجة خادعة، ورغم كل ذلك فهي لا تستحق... لا تستحق أن تنال مصيرًا سيئًا، وهو الأحمق لأنه يكلف نفسه بهذا العناء الذي لا يأتي من خلفه بنتيجة تذكر، وربما أيضًا قد ينال الأذى أو العقاب الشديد، ولكنه مضطر ولن يغض الطرف عن فعل ما يراه صحيحًا وليحدث بعدها ما يحدث. 


❈-❈-❈ 

جلست متربعة بقدميها على الأرض الرخامية تتابعه بابتسامة بلهاء وأعين منبهرة وهو يصب من الزجاجة الغريبة؛ الشراب في كأسين، احتفظ لنفسه بكأس ودنى يجثوا أمامها بقدم واحدة، ليقدم إليها الكأس الاَخر مردفًا بمرح:

- عارف ان ميرفت ظبطت دماغك باللي حطته في العصير، بس انا برضوا عايزك توصلي للقمة، عشان تحلوي أكتر وأكتر كمان .

تناولت منه الكأس لتتطلع إليه مرددة بدهشة:

- إيه دا؟ هو شكله غريب كدة ليه؟ أوعى تكون بتقدملي حاجة أصفرا؟

سمع منها ليطلق ضحكة مجلجلة في قلب البهو قبل أن ينضم إليها متربعًا على الأرض أمامها هو الاَخر، فتابعت هي بحال الذهول المرتسم على ملامحها المغيبة بقوة:

- إنت ما بترودش عليا ليه؟ لأ قول وجاوب احسن امي تيجي وتديك على دماغك، اصل انت متعرفش إحسان، والنعمة دي شديدة قوي.

ارتشف من كأسه قبل أن يقول بتسلية، متصنع الخوف:

- هي صعبة قوي للدرجادي إحسان؟

- صعبة وبس؟ 

هتفت بها لتكمل بالتلويح بكفيها في الهواء أمامه، بعد أن وضعت الكأس بجوارها:

- يا ختييييي، دي في مرة ضربتني وانا صغيرة بالكف على شي، صوابع إيديها فضلت معلمة في وشي بعدها ليومين، والنعمة زي ما بقولك كدة، يومييببن يومييببن، ودا كله بسبب إيه؟ عشان بس شافتني واقفة مع فهمي بتاع البرشام. 

افتر فاهه لعدة لحظات وعقله الخبيث ذهب لأفكاره غير سوية، فسألها بمكر هامسًا:

- هو فهمي دا بقى كان حبيبك؟

أجفل فجأة على صيحة قوية أطلقتها رافضة:

- حبيب مين يابا؟ دا طول عمره أساسًا هيموت على زهرة بنت خالي، طب انت عارف، لو مكنش جاسر الريان اتجوزها، لكان اتجوزها هو غصب عنها. أنا أعرف أنه هيموت عليها من زمان من ساعة مااتحرش بيها وهي بنت خمستاشر وأكل العلقة من خالها خالد دا سففه التراب والنعمة الشريفة ، انا شوفته بيتف السنة المكسورة من بقه اللي أتملى بالدم والتراب.

ردد خلفها بفضول انتابه بشدة مع الهذيان الذي تتفوه به من كلمات ليسألها:

- هي زهرة دي حلوة أوي كدة؟

- ولا حلوة ولا حاجة. 

صرخت بها قبل أن ترتشف من كأسها متجرعة لذعة الطعم الغريب بعدم اكتراث، ثم ردت متراجعة عن حدتها :

- بس هي ممكن تكون حلوة او الناس هي اللي شايفاها كدة، انما انا بقى اللي عارفاها على حقيقتها، بت هبلة وبتخاف من خيالها، لو الكهربا اتقطعت تجري زي العيلة الصغيرة على خالها وجدتها،  انا بقى ولو شافت تعــ بان

، مش بعيد تجيلها ازمة قلبية من الخوف.... بس هي طيبة.... وهبلة، اصل هي كدة الدنيا حظوظ

صمتت لتنتقل بأبصارها إليه فوجدته يتطلع نحوها ويصغي باهتمام، فتوقفت عن كل شئ تتطلع إلى ملامحه وتوسعت ابتسامة جميلة على ثغرها، جعلته ينتبه إليها بخاصتيه، وهي تردف بهذيانها:

- بس انت حلو قوي وعنيك خضرا أوي.

- أيوة بقى الكاس اشتغل.

هتف بها مصفقًا بكفيه متابعًا:

- كملي بقى يا قمر، مدام رجعتي للمود من تاني 

تجعدت ملامحها فجأة وعقدت حاحبيها بشدة لتستند على كفيها وهي تحاول النهوض برأسها الثقيلة:

- اعيد وازيد في إيه انت كمان؟ انا لازم اروح بيتنا وأقفل على العشة فوق في السطح،  بعد ما أكل الفراخ، واسحب من تحتهم البيض، لامي تطين عيشتي. 

استمر بضحكه ثم نهض خلفها يراقب اهتزازها وترنحها في وقفتها الغير متزنة، ليقف مقابلها ينتظر اللحظة الحاسمة وهي تمسك برأسها، ترفرف بأهدابها وكأن تريد معرفة هويته، او الصورة نفسها مغشيًا على عينيها التي تكرر بغلقها وفتحها عدة مرات، علّها ترى جيدًا، ليزداد التشوش ويزداد الاهتزاز حتى سقطت لتتلقفها ذراعيه قبل وقوعها على الأرض؛ ليحملها بعد ذلك وهو  يخاطبها:

- هخليكي تعيشي ليلة ولا في الأحلام يا غادة، عشان بعدها تجيلي برجيلي، ولا نحتاج لورقة ولا كلام فارغ. 

تذمرت بفطرتها رغم غياب عقلها، معبرة عن اعتراضها بتحريك أقدامها بضعف لتحثه على تركها:

- شايلني ورايح بيا فين يا جدع انت؟ سيبني انزل واروح عند امي بقى، سيبني اروح لإحسان.

تابع اعتراضها ومحاولاتها بتسلية كبيرة وهو يسير بها باتجاه غرفته في الأعلى، وما ان وضع قدمه على الدرج حتى شعر بضربة قوية على رأسه، قبل أن يلتف ساعد كبير على رقبــ ته 

- وصوت غليظ يهتف هامسًا:

- نزل البت من إيدك حالًا ومن غير ما تضرها لا كــ سر رقــ بتك بإيدي في نفس ذات الوقت على طول.

اضطر صاغرًا لإنزالها بحرص تنفيذًا لأمر هذا الرجل الغريب، رغم صعوبة الفعل، فالساعد القوي كان مطبقًا على رأسه ورقبــ ته بقوة، مع شعوره بثقل الجسد الضخم من خلفه .

وما أن انتهى حتى شعر بسحبه للخلف بقوة ليستدير بجسده، فيرى هذا الضخم ملثمًا بغطاء اخفى معظم وجهه ولم يظهر منه سوى عينان واسعتان تبرقان بقوة اثارت بقلبه الأرتياع، وقبل أن يستوعب جيدًا تفاجأ بضربة قوية من رأس الملثم على جبهته افقدته اتزانه ليسقط صريعًا على الأرض كالجثة. 

انتقل بعينيه نحوها ليجدها التصقت رأسها بسور الدرج، تغمغم بهزيان، وهيئة غريبة أثارت تعجبه، فاقترب منها على حذر، عاقد حاحببه بشدة، فزاد اندهاشه مع عدم انتباهها إليه وما حدث منذ قليل، زفر بقوة يغمغم بالسباب، قبل أن يرفعها على كتفه كطفلة صغيرة غلبها النعاس، وسار بها يكمل طريقه، رغم ما ورد برأسه من ظنون تكاد تفتك به، ليتخذ وجهته نحو الباب الخلفي من المنزل، ويخرج كما دخل بهدوئه، وقد تولى صديقه شغل باقي الحراس والعمال.


❈-❈-❈ 


فاردة ظهرها بزهو وفرحة تغمرها بلا حدود في جلستها أمام هذا الحشد الكبير من علية القوم من معارف أبيها كوزراء سابقين أو رجال أعمال وزوجاتهم، ومعارف زوجها المستقبلي من سفراء اجانب وغيرهم كثير في الحفل المحدود على الطبقة المخملية التي تنتمي إليها، أمامها العريس بوجاهته المبهجة من وسامة واناقة لا تقارن، وبجواره أبيه الرجل الذي ينظر إليها بأعين فرحة كزوجة تمناها لابنه العزيز ، وفي الوسط المأذون الذي كان يقوم بتحضيرات البدء في مراسم الزواج، القت نظرة نحو أبيها لترى على ملامح وجهه وكأنه على وشك التخلص من حمل ثقيل، تغاضت عن هذا حتى لا تعكر على نفسها ثم انتقلت نحو خالتها العزيزة لمياء، تشعر نحوها ببعض الإشفاق بعد ان تحايلت عليها حتى ترى بنفسها فرق المستوى الهائل بين نسبها القديم والجديد بهذه السكرتيرة إبنة خريج السجون، جالسة أمامها بوجه مضطرب تحاول السيطرة على انفاعلها، طرطرقت صوت الأسف بداخلها مغمغمة:

- مسكينة يا خالتو!

انتهت منها لترفع رأسها نحو ميرفت التي كانت تلقي إليها بالقبلات في الهواء بفرحة مبالغة لم تعهدها منها قبل ذلك، رددت بداخلها  رغم الإبتسامة التي ترسمها على وجهها نحوها:

- إنتِ كمان تلاقي الغيرة بتنهشك ، وأنا ببدل من جاسر الريان لواحد أحلى منه، وانت زي الأرض البور بقالك سنين على حالتك من ساعة ما اطلقتي من جوزك ، أكيد هتعرفي دلوقتي إن مش حظ وبس، لأ دا بسبب جمالي .

قطعت خاطرها فجأة على صوت المأذون الذي على بمكبر الصوت.

- طب يا اخوانا صلو ع النبي كدة عشان نبدأ بسم الله، 

غمغم المدعوين تنفيذًا لمقولة الشيخ، والذي هم البدء بخطبة قصيرة موجزة كفعل روتيتي يقوم به بفعله دائمًا قبل عقد القران، 

- بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.....

- بليز يا عمو الشيخ، ممكن ثواني توقف.

صدرت بالقرب مقاطعة لقول الرجل فالتف الجميع نحو الشاب النحيف بحلته الأنيقة وقد اتخذ موقعه في الوسط كي يراه ويستمع إليه جميع المدعوين، جحظت عيناها مريهان بشدة وشحب وجهها رغم زينتة حتى قارب شحوب، لتغمغم بصدمة لم تتوقعها ولو بأقصى كوابيسها:

- مارو..

انتفضت فجأة على قول الشيخ له:

- ايوة يا بني انت بتوقفني ليه؟

القى نحوها نظرة خاطفة بابتسامة غير مفهومة قبل أن يقترب من الرجل يجفله بتناول المكبر من يده قائلًا:

- اسف معلش لو هزعجك، هي دقيقة مش هتأخر عليك.

- انت جاي هنا ليه؟ وعايز إيه يا مارو دلوقت؟

صدرت منها بصعوبة تحاول اخفاء ارتباكها الذي ظهر في اهتزاز صوتها، ليجيبها المذكور:

- جاي اعملك مفاجأة يا قلبي .

تدخل والدها بقوله له:

- انت مين يا بني انت؟ وتعرف ميري من فين؟

- دلوقتي هتعرف يا أنكل. 

قالها كإجابة سريعة لأباها، لتضرب ميري بكفها على جبهتها بإحباط، ثم تفاجأ ببدء حديثه الذي كان يوجهه للجميع:

- انا جاي اهني العريس والعروسة النهاردة رغم ان محدش عزمني منهم على فكرة، بس انا عاذرهم، يعني مثلا رائد ميعرفنيش، مش كدة برضوا يا عريس؟

وجهها للاَخير والذي هز برأسه بعدم فهم، والتف لأبيه بجواره ليفهم منه، فتابع مارو بقوله:

- دا بالنسبة للعريس أما ميري بقى...

توقف ليرى رد فعل كلماته على ملامح وجهها المخطوفة وقد باغتها بانتقاء الوقت المناسب أمام المأذون، فلم يعطيها فرصة التصرف لصرفه بذكائها لو علمت بقدومه قبل ذلك، لكن الاَن فهي كالمشلولة لا تستطيع التحرك ولا فعل أي شئ معه وهي محاصرة بالأعين المتربصة لها من الجميع، تدعو بداخلها الا يتهور بقول شى يضر بسمعتها، فقالت في محاولة بائسة وهي ترجوه بنظراتها علّه يستجيب، وسوف تراضيه بعد ذلك بأي شئ يطلبه:

- ألف شكر ليك يا مارو، ربنا يبارك فيك لانك قدرت وجاي تبارك رغم اني نسيتك فعلًا، ممكن بقى تدي الميكروفون لعمو الشيخ عشان يكمل.

توقف يرمقها بابتسامة أربكتها يومئ لها برأسه قائلًا بعجالة:

- تمام يا ميري حاضر

قالها وتراجع لخطواته نحو الرجل الشيخ لتلتقط هي أنفاسها بسماعه الكلام وتراجعه عن فعل ما برأسه، وقبل أن تفرح بفعله وجدته يضع ورقة أمام المأذون قائلًا عبر الميكرفون:

- ممكن يا عمو الشيخ،  تقرأ الورقة دي قبل ما تبدأ.

دب الخوف بصــ درها تتطلع بتوجس نحو ما يشير أليه، لتجد الرجل الشيخ يهتف عبر المايك الذي قربه منه مارو:

- دي ورقة جواز عرفي باسم العروسة؟

ساد الهرج بين الجميع فانتفض أباها صارخًا به:

- إنت مين يا حيــ وان انت؟ ومين اللي مسلطك عليا من أعدائي عشان تخرب فرح بنتي؟

أجابه بهدوء يحسد عليه:

- أنا جوزها يا أنكل وجيت انبه العريس، طب نفترض يعني سكت وسيبتها تتجوز، البيي بقى لو كانت حامل مني، هيتسمى بإسم مين؟ 

قالها ليصمت مضطرًا على صوت الصرخة التي صدرت من لمياء بالخوف على ميري التي أغشي عليها من بينهم، لتردد ميرفت وهي تحتضنها:

- ميري حبيبتي أيه اللي جرالك؟


❈-❈-❈ 


تأنقت بهذا الشكل الذي يرضيه، رغم عدم شعورها بالراحة لذلك، فتدخله المبالغ فيه في كل صغيرة وكبيرة تخصها، أصبح يرهقها بالفعل، تستغرب كيف يجد دائمًا الوقت لذلك؟ رغم حجم المسؤلية الكبيرة والملقاة على عاتقه بعمله مع جاسر الريان، في الطبيعي كانت ستسميه أو كما يبدو في العادي أنه اهتمام، ولكن في الحقيقة هي تشعر به وكأنه حصار .

- استني دقيقة يا كاميليا. 

تفوه بها يوقفها فور خروجهما من المصعد الكهربائي في هذه البناية الحديثة الفاخرة وقبل أن يصلا لباب الشقة المقصودة، تطلعت إليه بتساؤل لتجد هذه النظرة الغامضة وهو يلتهم ملامحها قبل تهبط عيناه للأسفل على ما ترتديه بتأني بطئ جعل القشعريرة تسري بجســ دها ، فارتعشت غريزيًا تنبهه بقولها:

- في إيه يا كارم؟ وإيه لا لزوم النظرات دي؟

ارتفعت عينيه إليها بابتسامة واسعة يغمرها الزهو بدون رد وجذبها فجأة بكفه من خصرها يسير بها الخطوات المتبقية، غير مبالي باعتراضها الذي بدا مرتسمًا على ملامح وجهها بوضوح، حتى توقفا أمام الشقة المقصودة وفتحت لاستقبالها إحدى السيدات مرحبة بهما:

- كارم باشا، اخيرًا شوفناك يا عم؟ دي رنيم هتفرح قوي لما تعرف انك جيت.

- ولسة كمان لما تشوف الهدايا اللي جايبنها هتفرح بزيادة 

قالها ردًا على تحيتها ثم استطرد بالكلمات المنمقة ليعرفها على خطيبته، ويتابع بعد ذلك رد فعل المرأة التي هللت تبارك له بمبالغة شعرت بها كاميليا عن جمال عروسه وفتنتها، فاستجابت لها بابتسامة مغتصبة تهنئ وتتمنى للصغيرة بالعام السعيد، قبل أن يلجا الاثنان معها لداخل المنزل، الذي كان مزدحمًا بالعديد من الأفراد رجالًا ونساءًا من العائلة والأصحاب القريبين للفتاة الصغيرة صاحبة الحفل، وكانت المقابلة الأولى مع والد الصغيرة:

- كارم وصل بنفسه النهاردة عندنا يا نجيب وجايب خطيبته كمان معاه.

قالتها المرأة تنبه زوجها الذي كان مشغولًا بالحديث مع أحد الأفراد، فاستدار إليهما يرحب بعناق رجولي لكارم قبل أن يتجه لكاميليا ويصافحها، والتي كانت تبادله الترحاب بصدمة تعلو ملامحها، فالرجل الأب كان يبدوا في عقده السادس وزوجته بالكاد تتخطى عقدها الثالث، وهذا الإحتفال بميلاد ابنتهما الصغيرة وقد دخلت بعامها السادس. 

بعد الانتهاء والترحيب بمعظم الموجودين بالحفل وتهنئة الصغيرة بتقديم الهدايا لها والتقاط الصور معها ومع والديها وباقي الأطفال.

  وفور ان انفردت به قليلًا، سألته هامسة على الفور بفضول:

- كارم هو قريبك دا صاحب الحفلة عنده كام سنة بالظبط؟

على حاحبيه بابتسامة اظهرت فهمه لمغزى سؤالها فقال يجيبها:

- عنده تلاتة وستين ومراته اتنين وتلاتين سنة .

تدلى فكها وتوسعت عينيها بذهول بتأكيد ما خمنته بنفسها منذ دقائق، لتردد خلفه :

- تلاتين وستين يا نهار أبيض! يعني الفرق ما بينهم يزيد عن الضعف، ودي اتجوزته وهي عندها كام سنة؟

تابع اندهاشها بابتسامة متسلية ليجيبها :

- اتجوزها يجي من عشر سنين، يعني تقريبًا كان عندها اتنين وعشرين سنة، بس السؤال بقى، انتِ إيه اللي مضايقك؟ مدام صاحبة الشأن نفسها مبسوطة وكان الجواز باختيارها؟ مش احسن ما تتجوز موظف كحيان، مرتبه ينتهي على اول الشهر في سداد الديون اللي عليه.

قالها ببساطة أظهرت قناعة ما يتفوه به، لتشعر هي باهتزاز الأرض من تحتها او يكون الاهتزاز برأسها هي نفسها، لا تدري ولكن ما بدا من وقع كلماته عليها، جعله يدرك سريعًا هفوته ليردف لها مصححًا:

- انا قصدي ان دي حرية شخصية في تحديد كل إنسان لاختياراته في الحياة، ومدام الست مبسوطة في جوازها يا كاميليا، يبقى دا المهم .

أومأت برأسها بوجه جامد زامة شفتيها التي عجزت عن الرد ، فقال بلطف بعد طبعه قبلة كبيرة على ظهر كفها:

- انا هروح اجيبلك عصير فريش يروق أعصابك، مش هتأخر عليكِ

ذهب من أمامها وظلت هي تنظر في أثره بشرود عما أردف به من كلمات، كيف غفلت عن هذا الجزء بشخصيته؟ النظرة الفوقية والتي لا ترى سوى من يشبهها، وما دون ذلك لا يستحق الإلتفاف حتى، تنهدت بقوة تمسح بأنامل أصابعها على جبهتها لتخفف من هذا الصداع الذي ألم برأسها على الفور، قبل أن تنتبه على هذه الأعين التي تحدجها بنظرات غريبة تقارب الكراهية!

- اتفضلي يا قلبي . 

انتفضت تستدير إليه وقد أتى لها بكوب كبير من العصير، فتناولته باضطراب لترتشف منه على الفور، وعادت بعينيها مرة أخرى للمرأة ، لتفاجأ بقول كارم وقد انتبه للجهة التي تنظر إليه:

- إيه دا ندا ؟

غمغمت بالأسم مندهشة لتجده يسحبها من خصرها ويقربها من المرأة الجميلة والتي تبدوا وكأنها تماثلها في العمر، ليصافحها مرحبًا:

- أخبارك إيه يا ندى؟ عاش من شافك.

استجابت تبادله التحية على مضض شعرت به كاميليا، وردت بكلمات مقصودة :

- الحمد لله يا كارم، انا كويسة قوي. 

تابع انفعالها مبتسمًا بعدم اكتراث يقول:

- يارب دايمًا كدة، اتعرفتي على كاميليا خطيبتي بقى؟

القت المرأة بنظرة خاطفة نحو كاميليا التي تسمرت محلها صامتة لترد بأغرب تهنئة تسمعها كاميليا

- الف مبروك جميلة وحلوة، أكيد ما جمع الا ما وفق .

استفزها الرد كاميليا واستفزتها الإبتسامة الباردة منه فهمت لترد على الإثنان ، ولكن ندى سبقت باعتذراها:

- معلش هسيبكم بقى وامشي، اصل جوزي حبيبي مستنيني. 

قالتها لتذهب على الفور دون انتظار ردهم، والتف رأس كارم بابتسامة عريضة للرجل الذي كان واقفًا بالقرب منهم ، ونظرات الكره بعينيه لا تقل عن زوجته، لينصرفا الإثنان تاركي الحفل حتى قبل إطفاء الشموع والاحتفال، فانتبهت كاميليا على هذا العرج الواضح في خطواته، التفت لتعود لأجواء الحفل لتفاجأ بهذه الإبتسامة الغريبة على وجه كارم وعينيه التي لم يرفعها عن تتبع الرجل والمرأة حتى الخروج. 


❈-❈-❈ 


عادت اَخيرًا من سهرتها وهذه الاحداث المفاجأة التي قلبت الطاولة فوق رأسي ميري التي كانت تتمخطر أمامها بزهو عروس امتلكت الدنيا بكف يدها بهذا العريس الذي يكاد مكتملًا بجميع المميزات التي تتمناها كل امرأة، ضحكت بداخلها وهي تتذكر خروجه المؤسف مع أباه وعائلته وقد تأكد الجميع من صدق مارو، هذا الداهية الصغير الذي علم بخطط ميري، فدبر لها فخ وقعت به بغباءها المعهود فوقعت على ورقة الزواج العرفي وهي سكيرة لا تدري بشئ كما اخبرها بتفاخر كرد فعل طبيعي على خداعها له، حتى الاَن لا تستطيع التوقف عن الضحك بداخلها فهذا التشويق والافعال المباغتة لم تكن تتوقعها على الإطلاق، مشهد ميري وهي مرتمية في حضن خالتها لمياء التي شهدت على فضيحتها كالجمبع ، ومشهد أباها الوزير السابق..

توقفت عن السير فهذا الرجل كاد أن يوقعها على الأرض من الضحك، بصراخه المجنون وجسده النحيل الصغير وهو يريد الفتك بميري ابتلاء الله له كما شبهها أمامهم، ومارو الذي لم يقدر على الانتقام منه بعد حضور أبيه تاجر السلاح المشهور ودفاعه عن ولده، ثم طلب الصلح بزواج ميري بابنه طالب الجامعة لصغير.

تقسم بداخلها ان هذه الإثارة التي شعرت بها اليوم ، ستنعش ذاكرتها بالضحك لسنوات طويلة قادمة.

توقفت فجأة وقد ذهب الهزل ليحل شئ اَخر على ملامح وجهها:

- مين اللي عمل فيك كدة يا ماهر ؟

قالتها بارتياع وهي تخطو نحو شقيقها الذي كان جالسًا امام الخادمة العجوز وهي تلف على رأسه بالاربطة الطبية، لتضمد جرح رأسه في الأمام، بادل شقيقته بنظرة غاضبة ولم يجب لتكرر وهي تقترب لتفحصه:

- يا بني رد عليا، مين اللي عمل فيك كدة؟ وراسك بس المتعورة ولا فيك حاجة تانية؟ توقف لتجول بعينبها على باقي المنزل لتكمل بتساؤل:

- هي البت غادة راحت فين؟

رمقها بنظرة محذرة قبل أن يصرف الخادمة ورعد حارسه الشخصي الذي حقق معه ولم يصل لشئ .

فرد بعد خروح الجميع:

- خلي بالك من كلامك قدام الخدم يا ميري، انا مش عايز تشويه لصورتي كفاية اللي حصلي.

- وإيه هو اللي حصلك؟

سألته باهتمام وهي تجلس بجواره على الاَريكة ، وقال يجيبها:

- مش غادة هي اللي أذتني، دا بني أدم زي الوحش، شكله زي لعيبة المصارعة، هو اللي خبطتني بالروسية القوية دي، بعد ما شل حركتي وامرني أسيبها. 

ضيقت ما بين حاجبيها بشدة لتقول بعدم تصديق :

- مين دا اللي زي الوحش؟ وصفته إيه بغادة أساسًا عشان يجي وياخذها من هنا؟

زفر بقوة ليلتف إليها قائلًا بضيق:

- يا ستي تغور في داهية هي واللي يعرفها، انا مالي انا بالناس البيئة دي، انا راجل بدور على مزاجي وبس يا ميرفت، إن ماكنش عند غادة، يبقى في الف غيرها. 

ربتت على كتفه تقول بتهوين:

- خلاص يا حبيبي ولا يهمك، لكن ما حفظتش شكل البني أدم ده؟

رد ينفخ من أنفه انفاس حارقة كالدخان :

- ما هو دا اللي هيشلني بجد بقى، لأنه كان مخبي وشه وتقريبا ما شوفتش غير عنيه، دا غير اني لما حققت مع كل الحراس والعمال في البيت، كلهم أنكروا انهم حسوا بأي حركة غير طبيعية في البيت ولا حد شافه حتى وهو خارج بيها، الزفت واكنه حافظ المداخل والمخارج ، دخل وخرج من باب الجنينة الخلفي، انا شوفته بنفسي بتصوير الكاميرات. 

تسمرت تتطلع إليه بدهشة تكاد تذهب بعقلها لما يخبرها به من معلومات غريبة لا تستوعب حتى حدوثها فقطعت لتسأله فجأة:

- طب انت سجلت للبنت دي زي ما قولتلك لك؟

- هو انا لحقت يا ميرفت؟ دا انا مصدقت البنت دماغها عليت وكانت هتبقي فل، وقبل ما اطلع بيها لاوضتي طلعلي دا زي العفريت. 


❈-❈-❈ 


في اليوم التالي. 


بشروده الدائم كان جالسًا على كرسي مكتبه يتأرجح به في حركة ملازمة له دائمًا، انفتح باب غرفته لتدلف إليه السكرتيرة الجديدة له، تقدمت لتلقي إليه التحية بابتسامة رائعة بثغرها الوردي:

- صباح الخير يا فندم .

بادلها الأبتسام يرد إليها التحية

- صباح الفل .

اقتربت منه لتضع أمامه الملفات المطلوب التوقيع عليها، القى نظرة سريعة ليرفع راسه إليه سائلًا:

- كاميليا وصلت؟

اومأت برأسها كإجابة فتابع بسؤاله الثاني:

- بلغتيها طيب بالاجتماع اللي هيتم مع جاسر الريان ؟

أجابته بابتسامة متوسعة:

- قولتلها يا فندم وهي بقى وشها اتقلب معرفش ليه؟

رد هو الاَخر يبادلها الابتسام:

- يمكن عشان مكنتش تتوقع ان انتِ اللي تبلغيها؟

زمت شفتيها بشقاوة ترد بهز اكتافها، فتنهد قائلًا لها :

- طب خلاص يا لينا، روحي انت خلصي شغلك بسرعة عشان كلها ساعة وتروحي معانا. 

تمام يافندم. 

هتفت بها تستدير عنه لتخرج، ولكنها توقفت فجأة على ندائه من خلفها وقبل أن تصل لباب الغرفة:

- استني عندك يا بنت انتِ، تعالي هنا. 

التفت إليه لتجده رافعًا أمامها إحدى الأوراق هاتفًا:

- إيه دا يا أستاذة؟ حطالي ديوان شعر في وسط ورق العمل؟

غمغمت بالاعتذار تدعي الحرج:

- أسفة يا فندم ماكنتش اقصد، اتخلبطت معايا في الورق، لو مش عايزها ممكن اخدها؟

- اممم

زام بها ساخرًا قبل أن يدنو ليقرأ المدون في الورقة من كلمات العشق الملتهبة، فصاح بضحكاتها عاليًا وهو يقرأ بهم ، أطرقت هي برأسها تخفى ابتسامتها، ثم قالت :

- ممكن الورقة يا فندم؟

رفع عيناه إليها بنظرة فهمتها جيدًا قبل أن يهتف بها حازمًا:

- امشي يا بت من قدامي حالًا .

سمعت لتركض على الفور من أمامه، فغمغم خلفها ضاحكًا وهو يعود لقراءة متأنية لأبيات الشعر القديمة:

- يخرب بيت شيطانك يا شيخة 


❈-❈-❈ 


في المقر الأساسي للشركة


وبداخل غرفة مكتبه، كانت جالسة أمامه منتظرة أنتهاءه من مراجعة الأوراق التي أمامها تتابعه دون ملل، حتى رفع رأسه إليها مخاطبًا:

- يا زهرة هتفضلي مستنياني لامتى بس؟ روحي يا قلبي وانا هبلغك بكل القرارات اللي هتتاخد في الإجتماع .

ردت بمرواغة وبإشارة للقسم الذي تولت مسؤليته حديثًا بعد أن عينها به ووضع محلها سكرتير رجل بناءًا على رغبتها:

- لا برضوا يا جاسر انا عايزة واشارك بنفسي في أي قرار يخص القسم بتاعي .

اجابها جاسر بتغافل تام عما يدور برأسها من أفكار حول هذه اللهلوبة! وقد أخذت صورة جيدة عنها من وصف كاميليا في الإتصال الذي تم بينهن في الأمس:

- والله انا مش عارف ايه لزوم إصرارك القوي؟ وانتي بتفرفري أساسًا من أقل مشوار في حملك الغريب ده، انا شكلي كدة هسلط والدي عليكِ .

قالت بتراجع مع ابتسامة اعتلت وجهها لتذكرها لعامر وما يفعله معها من تدليل، ضاربًا بعرض الحائط لغضب زوجته الدائم ونظراتها الساخطة نحوهم:

- لا بلاش والنبي، دا ممكن يحكم عليا ويقعدني من الشغل نهائي. 

رفع رأسه لها فاغرًا فاهه بصدمة قائلًا:

- إيه دا؟ انتِ بتخافي من بابا وتعمليلوا حساب أكتر مني يا ست انتِ؟

اومأت تحرك له رأسها بتأكيد، ليترك ما بيده ناهضًا يرمقها بنظرات تحذيريه:

- يعني كمان بتقولي وتأكدي، انتِ قد كلامك دا يا زهرة. 

علمت بنيته مسبقًا فنهضت تحذره هامسة فور أن وصل إليها:

- لأ جاسر بقولك أيه؟ أوعى بجد، وربنا هزعل لو صوتي طلع.

اقترب برأسه منها يسألها بخبث، وقد ارتاحت كفيه على خصرها:

- وصوتك بقى يطلع ليه؟ هو انا هاعذبك؟

ضحكت بصوت مكتوم وهي تحاول دفعه عنها ليبتعد مرددة بحزم مصطنع:

- لا انت فاهم كويس انا قصدي على إيه؟ احنا مبقيناش لوحدنا ، في سكرتير راجل برا الأوضة ودانه تسمع دبة النملة :

كشر بوجهه يرد على كلماتها:

- ودا على أساس بقى انك كنتِ مطيعة واحنا لوحدنا وما فيش سكرتير؟

- ضحكت ترد بمشاكسة:

- ولا عمري هعملها، انت أساسًا قليل أدب. 

افتر فاهه بصدمة وهم ليرد بالفعل وهو يقربها إليه اكثر، ليجفل على طرق الباب، لتناظره هي بشماتة فرد بنظرة متوعدة، قبل أن يتركها ليبتعد مضطرًا كي ينتبه للطارق:

- ادخل .

دلف الشاب الثلاثيني سكرتيره الحديث يقول بعملية:

- الإجتماع على وشك البدء يا فندم، وكل الحضور في انتظارك .

- تمام يا سليم، روح انت وانا جاي وراك .

خرج الرجل وعاد جاسر ليرتدي سترته سريعًا قبل أن يخرج مع زهرة 


وعند غرفة الإجتماعات وقد سبقها جاسر بالدخول واتخاذ موقعه، توقفت زهرة لترحب بصديقتها والتي كانت واقفة محلها قبل بدء الإجتماع الفعلي على مدخل  الغرفة متكتفة الذراعين، وكأنها لا تحتمل الجلوس على الطاولة، فسألتها :

- هو كارم لسة محضرتش؟

اجابتها كاميليا ناظرة بالساعة الملتفة حول رسخها:

- كلها خمس دقايق ويوصل على ما الإجتماع ما يبدأ.

تابعت بالسؤال زهرة:

- طب وانتي واقفة هنا ليه؟ مش تروحي تقعدي في مكانك احسن .

اشارت لها بابتسامة صفراء ترد بسخرية:

- لا اتفضلي انتِ يا حبيبتي اسبقيني، انا معنديش مرارة. 

- مرارة إيه؟

رددتها زهرة بعدم فهم قبل تلتف نحو طاولة الإجتماعات الكبيرة، فتوسعت عينيها بازبهلال وهي ترى هذه الصغيرة والتي خمنت هويتها من الموصفات المسبقة، تطوف كالفراشة وتوزع الأوراق وزجاجات المياه مع النادل وقد سرقت اعين الجميع بنشاطها وجمالها، فخرج صوت زهرة بتساؤل لكاميليا:

- يا نهار اسود، دي مين دي؟

اجابتها الأخرى بلهجة يملؤها الغيظ:

- دي يا قلبي اللي انتِ اتصلتي تسأليني عليها امبارح مخصوص، دي اللهلوبة!.

الفصل الثاني والخمسون 


بعض الأشياء لا تظهر قيمتها سوى بعد أن تفقدها، أو لا تشعر بجمالها إلا من بعد أن ترى القبح في الأشياء الأخرى؛ حينما تنجلي العين من كل الشوائب التي أمامها، وقتها فقط ترى الصورة كاملة وتشعر بالجمال الحقيقي. 


أصوات متواترة وصخب لا تعلم وجهته يطرق أسماعها بخفة، مع ثقل شديد برأسها التي كانت تحركها يمينًا ويسارًا بصعوبة، حتى انكشف النور أمامها مع فتح عينيها لترى صور رسوم كرتونية بألوان زاهية غريبة عنها وعن لون جدران غرفتها المعروفة، قلبت عينيها قليلًا في طريق استعادته لوعيها لتفاجأ بزوجين من الوجوه الصغيرة يحدقان إليها ببرائة فقال أحدهم:

-دي فتحت عنيها يا عمر .

ورد الاخر:

- وبتبصلنا كمان وشايفانا، انا هروح اقول لماما .

تفوه بها الصغير الاَخر ثم اختفى من جوارها ليظل الوجه الاَخر بملامح انثوية صغيرة وجميلة وضفيرتين على جانبي وجهها تتطلع إليها دون كلل أو ملل.

تأوهت من صداع رأسها التي كانت تجاهد لرفعها، لتزداك دهشتها زداد كلما عاد إليها وعيها جيدًا، عن هوية الأطفال وشكل الرسوم الكرتونية والألوان الوردية التي ملأت الأنحاء حولها حتى خرج صوتها اَخيرًا مخاطبة الصغيرة:

- إنت مين؟

هتفت الطفلة مشيرة بحماس صدر مع صوتها:

- أنا روان.

- روان مين؟

رددت خلفها الأسم بعدم استيعاب بملامح متجعدة وهي تحاول النهوض مع اَلام رأسها المتزايدة بقوة، تعصر عقلها إن كانت بحلم أو بشئ اَخر اَخر لاتتذكره.

- صباح الفل، إنت صحيتي يا قمر.

صدر الصوت من مدخل الغرفة لهذه المرأة الثلاثنية ذات الملامح هادئة ونظارة طبية تغطي عينيها، ترتدي ببجامة بيتية مريحة على قدها الرشيق، لفتت نظر غادة التي تأملتها من الأعلى للأسفل حتى سألتها باستغراب وقد تمكنت من الاعتدال بجذعها على الفراش بألأستناد على ذراعيها:

- إنت مين وانا إيه اللي جابني هنا؟

تبسمت لها المرأة بحرج قبل أن تتناول صغيرتها لترفعها من جوارها وتصرفها بأمر:

- اطلعي انت يا روان واندهي خالك من الأوضة التاتية.

عبس وجه الطفلة وهمت بالاعتراض، فحدجتها والدتها والدتها بنظرة محذرة متابعة بقولها:

- اسمعي الكلام ولو لقتيه نايم صحيه وبعدها تروحي تلعبي مع اخوكي في أوضته ومتعتبيش هنا غيرنا لما اندهلك، اخلصي يالا .

دبت الطفلة بقدميها على الأرض زامة شفتيها بغضب طفولي محبب قبل أن تستدير مذعنة لأمر الوالدة .

عقب انصرافها هتفت غادة على المرأة التي جلست بجوارها مكان الطفلة:

- انتوا مين؟ وانا إيه اللي جابني عندكم هنا، هو في إيه بالظبط؟

عادت لوجه المرأة ابتسامتها التي زادها الاضطراب هذه المرة قبل أن ترد:

- طب قبل كل شئ انا حابة اعرفك على نفسي الأول، انا الدكتورة سما استشاري امراض الباطنة، وجوزي يبقى هشام منصور مهندس إنشاءات في الخليج، والأطفال اللي شوفتيهم من شويه دول، يبقوا أولادي، عمر وروان اللي خرجتها انا حالا من أوضتها وانتِ نايمة دلوقتي على سريرها .

- إيه؟

تفوهت بها لتعتدل مستقيمة وقد هبت بها القوة متناسية اَلام رأسها:

- انتي بتقولي إيه؟ انا مش فاهمة حاجة، جاوبيني على طول ومن غير لف ولا دوران، انا إيه اللي جابني هنا؟

- أنا .

قالها خشنة بصوته الغليظ ليُجفلها منتفضة وشهقت بارتياعٍ ازداد مع رؤيتها لملامح وجهه المتجهمة وهو يتقدم بخطواته لداخل الغرفة باتجاهها فصاحت صارخة:

- إنت اللي جبتني هنا؟ يا نهارك اسود هو انت عملت فيا إيه بالظبط؟ دا انا هاوديك في داهية. 

تدخلت المرأة تخاطبها:

- توديه في داهية ليه بس يا بنتي بعد الشر؟ دا هو اللي انقذك ونجاكي .

التفت إليها غادة برأسها بنظرة خاطفة قبل أن ترتد على الفور على إثر صيحته:

- اخرجي برا دلوقتِ يا خلود وسيبينا لوحدنا .

- تخرج فين؟

هتفت بها غادة تتشبث بالمرأة التي نهضت على الفور، فتابع إمام مشددًا

- قولت اخرجي برا يا خلوا واسمعي الكلام. 

همت غادة بالرد باعتراض اَخر ابتعلته على الفور مع هذه النظرة المخيفة التي حدجها بها، فقالت خلود فور تحركها نحو باب الغرفة، طب انا هروح كمان احضر لكم الفطار .

تابع خروج شقيقته ثم التف برأسه نحو غادة التي تراجعت تتكوم على نفسها حتى اَخر التخت تنظر إليه، والرعب ينضح من عينيها، زفر من أنفه مطولا ، ليصك على فكه بقوة تكاد أن تهشمه وبداخله المشاعر متناحرة ما بين إشفاقه عليها وهذه الهيئة المرتعبة لها الاَن كالطفلة صغيرة خائفة من عقاب والدها بعد فعلها للخطأ، تثير بداخله رغبة الحماية والصفح عنها حتى تتعقل وتعرف الصواب وتفعله، ثم هذة الرغبة الأخرى والتي تحثه على عقابها بتكســ ير رأسها اليابس ثم إعادة برمجته من جديد ، ولكن هذا بأي صفة؟

على خاطره الاَخير استفاق يزفر أنفه أنفاس حارقة قبل أن يصل إليها ليجلس على التخت المقابل مبادرًا بالحديث:

- طبعًا إنتِ مخك هيشت منك ونفسك تعرفي إيه اللي جابك هنا؟ بس يا حلوة بقى قبل ما اجاوبك عايزك كدة تعصري دماغك وتقوليلي اَخر مرة تفتكريها كنت فين بالظبط؟ يعني في بيتكم ولا في الشغل ولا في خروجة مع صاحباتك؟

رغم احتقانها من مرواغته لها في الرد على السؤال، وهذا القلق الذي يكاد أن يصيب رأسها بالشلل الفكري لعدم الفهم، ولكنها حاولت التماسك والتركيز علّها تعرف من نفسها ولا تحتاج لتفسيره، صمتت تسعيد التذكر لتأتي صورة مرفت فورًا أمامها وانضمامها معها بالسيارة ، ثم الذهاب للمنزلهم ولقاء ماهر ومشاجرتها معه ثم.......

رفعت رأسها إليه بعد تفكير عميق وقالت بتردد:

- انا كنت عند واحدة صاحبتي ومش فاكرة حاجة تاني.

الحمقاء تجيبه باقتضاب وبعبارة مبهمة وكأنه لا يعرف؟

اقترب برأسه منها يقول كازًا على أسنانه بغيظ:

- يعني مش فاكرة اسم صاحبتك الست ميرفت كمان ولا فاكرة قعدتك مع اخوها الأصفر والعصير اللي شرببتيه قبل ما تروحي عن الدنيا وتعملي دماغ، ولا في حاجة تاني وتاهت عني؟

توسعت عينيها بدهشة لمعرفته بكل هذه الأمور ولكن مهلُا لقد ذكر لها عن العصير، ارتجفت بداخلها تعاود التفكير بتركيز، لترى ثمة صورة واحدة تذكرها بما حدث بعد ارتشافها هذا العصير ولكن بلا فائدة، فهمست سائلة وكأنها تحدث نفسها:

- هو انت ليه بتقول كدة؟ هو العصير كان فيه حاجة ؟

اشتد احتداد نظراته إليها يطحن على أسنانه بداخل فمه،  حتى ارتفعت سبابته أمام وجهها بتهديد اثار فزعها لترتد للخلف قبل أن يجيبها:

- قسما بالله يا غادة، لولا بس اني فاهمك كويس  وعارف إن مشكلتك بس في دماغك اللي عايزة تتنضف من الوسخ اللي عليها، أو لو كان عندي شك ولو واحد في المية بس في أخلاقك، ما كنت ابدا هخاطر بنفسي ولا اجيبك من هناك.

- تجيبني من هناك!

تفوهت بها بتشتت وعدم فهم، ليقوم بإخراج هاتفه ووضعه أمامها معقبًا:

- عايزك تفتحي الفيديو ده وتتفرجي على نفسك كويس بقى عشان تشوفي الهانم اللي دخلتك بيتها كانت عايزة منك إيه هي واخوها؟ وياريت كمان تسألني نفسك، هي الست دي غرضها إيه كل في عمايلها معاكِ دي؟

بصق كلماته ونهض على الفور ذاهبًا من أمامها، فتناولت هي الهاتف بيدٍ مرتعشة لترى ما يتحدث عنه.


❈-❈-❈ 


كم مر على الإجتماع؟ لا تدري.

وما هي الموضوعات التي يتم مناقشتها في هذه الدائرة المغلقة؟ وعلى الطاولة المستديرة وهذا الجمع الكبير من الأفراد رجالًا ونساءًا، بهيئاتهم الأنيقة وثرثرة لا تنتهي من المباحثات التي لم تفقه منها شئ، وكيف تفعل؟ وقد ذهب التركيز بغير رجعة، وهذه الفتاة بحركتها المستمرة في الذهاب والإياب حولها وفي جميع الإنحاء وكأنها احتلت الغرفة وشغلتها بالكامل بنشاطها الدؤب بشكل مستفز وجمال صورتها المبهرة الذي يخطف ألأبصار نحوها كساحرة لجذب العيون ، لقد شتتها بالكامل ما بين النظر إليها والإنتقال إلى زوجها حتى ترى إن كانت تشغله كما شغلتها هي أيضًا أم لا، وهي تراقبه بتحفز إن فعلها، ثم تعود إلى الإجتماع فتقع عينيها على طارق لترى هذه الهمة في الأدلاء برأيه والجدية التامة، فينتابها الفضول، كيف فعلها واستطاع تخطي أزمته وهذه الهيئة المزرية التي رأته عليها منذ شهر، بعد لوعته وعقد قران كاميليا؟ ليعود بهذه الصبية لترفع من ضغط دمها في الحمل وهي لا ينقصها ، أم هو يقصد كاميليا ؟ ذهبت عينيها نحو المذكورة لتجدها تجاهد للإندماج في الإجتماع بتجهمٍ لم تعهده عليها من قبل يعلو ملامح وجهها، اتراكِ تحترقين بالغيرة أنتِ أيضًا يا كاميليا؟ وعلى من؟ على طارق وقد دهستِ على قلبك وقلبه معًا حينما قبلتِ برجل غيره، ولم يعد لديك حق الآن حتى بالتفكير، ام هي الغيرة على الزوج المستقبلي؟ كارم ، لأول مرة منذ استلامها الوظيفة بهذه الشركة تجد نفسها تنظر إليه جيدًا، أنيق بشكل مبالغ فيه، يعمل كالاَلة بلا تفكير أو توقف أو حتى يصيبه التعب او الإرهاق كالبشر العادين، ولكن مهلاً....

ما هذه النظرة التي خطفها نحو الفتاة منذ قليل؟ حينما دنت لتتناول أحد الملفات من أمام إحدى مديري الأقسام؟ إنه يبدوا كخبير بأربع أعين، قد التقط هفوة الفتاة كالبرق، مع أنه لا يفتر عن عمله ولا يغفل لثانية عن كاميليا التي بدأت تشفق عليها بالفعل، بعد رفضها العديدة من الرجال لتوافق عليه متوسمة الخير بأخلاقه، 

وعلى الرغم من خبرتها القليلة في عالم الرجال، انتابها إحساس قوي، أن طارق وبكل ما يُشاع عنه وعن مغامراته مع النساء، لا يأتي نقطة في بحر هذا الرجل!


- قولتلك من الأول بلاش تتعبي نفسك وروحي أحسن.

همس بها جاسر يجفلها عن شرودها، لتلتف إليه سائلة بعدم تركيز:

- تقصد ايه يا جاسر مش فاهمة؟

همس مرة أخرى مستغلًا التهاء الحضور عنه في مناقشة بند ما لإحدى العقود:

- سرحانة من أول الإجتماع وماتدخلتيش في مرة ولو بكلمة تدلي فيها برأيك حتى عشان تحسسي الناس بوجودك 

برقت عينيها في التطلع إليه بنظرات أربكته، شاعرة بأنه أهانها، لتسأله بصدمة:

- يعني انت قصدك إن وجودي زي عدمه يا جاسر؟

أجفل من ردها فارتدت رأسه للخلف يستوعب جديتها في الحديث أم هي تمزح، وما الذي حدث حتى يرى هذا اللوم منها؟ وهو لم يخطئ حينما أمرها بالإنصراف من اجل راحتها، ع الأقل بذكر غيابها افضل من رؤيتها بهذا الشرود وكأنها طفلة بجلسة للكبار تنظر للجميع ولا تفقه من لغتهم شئ، تحمحم يصرف نظره عنها ليعود لوقاره وطلبه لانتهاء الإجتماع:

- طب يا خوانا انا بقول كفاية كدة، ونأجل أي حاجة تانية للاجتماع اللي جاي .

قالها وانتظر انصراف معظم الحضور يتحاشى النظر إليها، مع شعوره بسهام عينيها المصوبة نحوه بغضب، وقد علم بنيتها جيدًا، ألقى نظرة سريعة لمحضر الإجتماع وما دونه السكرتير الجديد،ثم التف إليها كابتًا ضحكته يسألها ببرائة:

- كنتِ بتقولي إيه بقى يا زهرة؟

ازداد بريق عينيها بشراسة على ملامح وجهها التي عبست بدرما محببة إليه رغم كثرتها وما يصيبه في كل مرة خلفها فزوجته العزيزة متقلبة المزاج أثناء حملها، لا تفوت شيئًا دون تحقيق:

- انا كنت بكلمك يا جاسر وانت معبرتنيش. 

مال نحوها يتصنع الجدية في مخاطبتها بإقناع :

- يا حبيبتى انا كنت بفض الإجتماع واصرف الناس عشان افضالك، ها كنتِ عايزة إيه بقى؟

أربكها بذكائه ولهجته اللينة في مهادنتها حتى انساها سبب غضبها فسألته بتذكر:

- انت كنت بتتكلم عن وجودي. 

- وماله وجودك يا قلبي؟

سألها ببساطة وتسلية لرؤية الاضطراب الذي بدا جليا عليها في استعادة انفعالها وقد تبدد بابتسامة رائعة منه.

- انتوا بتتخانقوا ولا إيه؟

هتف بها طارق بالقرب منهم والتفا الإثنان نحوه، فرد جاسر بلهجة خشنة إليه:

- ملكش دعوة خليك في نفسك، وقوم يالا انصرف زي اللي مشيوا

كشر طارق بوجهه إليه قبل أن يلتفت إلى لينا التي أتت تخاطبه:

- طب احنا كدة هنروح يا فندم ولا هنستى شوية؟

- استني شوية. 

أجاب بها طارق قبل أن يلتفت نحو جاسر الذي تحدث إلى لينا:

- خلصتي جامعتك ولا لسة بتدرسي؟

وكأنها كانت في انتظار السؤال، لتردف بالإجابة الطويلة:

- بصراحة يا فندم انا خلصت ومخلصتش في نفس الوقت، لسة عندي دبلومة وبعدها ان شاء الله هقدم درسات عليا ودا بقى هيقعد سنين .

ختمت بتنهيدة طويلة:

- مشوار طويل وربنا يستر.

- ربنا يعينك إن شاء الله ويوفقك، 

قالها ردًا على كلماتها ليلتف على قول زهرة التي تدخلت قولها معهما:

- لا بجد ربنا يعينها، شكلك بتتعبي قوي .

قالتها بنبرة محتقنة لم تخلو من التهكم؛ الذي أسعد الاَخر رغم تصنعه اللا مبلاة معها .

وفي الناحية الأخرى القريبة وبعد انصراف معظم الحضور همت لتنهض، لتفاجأ بكفه يده تمسك بأعلى ركبتها يوقفها، كتمت شهقة لتسألها هامسة بحذر:

- بتعمل إيه يا كارم؟ شيل إيدك حالًا دلوقتِ؟

أجابها بهدوء رافعًا كفه:

- حاضر، بس انتِ ماتقوميش من جمبي غير لما اخلص ترتيب الملفات اللي قدامي، ولا انت هيرضيكِ يعني تخرجي وتسبقي خطيبك.

تسارعت أنفاسها تحدجه بغضب وهو يبادلها بابتسامة واثقة وقد نجح بتشيتها وصرف انتابهها عن الاَخر ،


ضغطت بصعوبة حتى لا تنفجــ ر بوجهه تنهره على تصرفه الغير لائق معها وانتظرت حتى انتهى ليرفع رأسه إليها بابتسامة مستفزة متناولًا كف يدها ليقبلها قبل أن ينهض ويسحبها معه، فتحركت معه اَليًا حتى توقفا أمام جاسر الريان الذي كان يرتدي سترة حلته بجوار زهرة التي عرفت كاميليا من تغير وجهها فاقتربت لتسألها، تاركة زوجها مع هذا المدعو كارم ليتفقا على بعض الأمور بينهم سريعًا، مستغلة انشغال طارق في  الناحية الأخرى مع السكرتيرة الحسناء والتي أتت تناوله بعلبة مياه غازية الاَن:

- إيه مالك؟ وشك مقلوب كدة ليه؟

- لا مافيش حاجة، ما تشغليش نفسك انتِ.

قالتها بإنكار مفضوح وانفعالها الظاهر يبدوا مع تلاحق أنفاسها في صعود وهبوط صــ درها بتسارع، لتزداد زهرة اصرارًا لمعرفة ما بها:

- يا بنتي اتكلمي لو في حاجة تعباكي، شكلك مش مريحني .

أومأت لها برأسها تحاول طمئنتها:

- طمني قلبك انتِ ما فيش حاجة....

قطعت فجأة على صوت الصياح والضحك الذي أتى من ناحية الأخرى وقد فارت علبة الكنز حتى تناثرت فقاعاتها على الأرض وحلة طارق والذي كان يضحك بصوته العالي:

- يخرب عقلك، مش تخلي بالك يا بنت انتِ.

ولينا تتأسف بصوتها العالي بمرح مكشوف:

- أنا اَسفة يا فندم مكنش قصدي. 

التفت كاميليا لزهرة بنظرة تفيض بالغيظ قائلة:

- أنا ماشية عشان ما ارتكبش جريمة. 

قالتها وذهبت بخطواتها السريعة دون حتى انتظار كارم، تابعتها زهرة تنظر في أثرها لتنقل عينيها نحو زوجها الذي أصابته عدوى الضحك مع الإثنان قبل أن يجفل على تحديقها به، فالتف لكارم يدعي عدم الإنتباه، لتغمغم هي بصوت خفيض:

- روحي يا بعيدة ربنا يهدك.


❈-❈-❈ 


على طاولة السفرة التي توسطت الشقة وبصحبة الأطفال الصغار أبناء شقيقته كان يتناول طعام فطوره والذي تأخر على غير عادته، بعد أن استئذن رئيسه لإجازة من عمله اليوم بحجة مرافقته لوالدته المريضة، يلوكه سريعًا بفمه وبغير تركيز أو حتى استجابة لمداعبات الصغار الفرحين بمجئ خالهم للمنزل ومبيته أيضًا، دائما ما يتخطى مشاكله والصعوبات التي تواجهه بالابتسامة والضحك، لا يعير للدنيا همًا، ولا يشغله شئ، إلا هذه المرة فما يحمله بداخله اكبر كثيرًا من تجاوزه، 

يلوم نفسه لاختيارها السير في هذا الطريق الشائك، يلوم قلبه الذي تعلق بالسراب، ولكن ومنذ متى حكم القلب بأيدينا؟

- مش هتدخل تشوفها يا إمام؟ دي البنت مفلوقة من العياط.

هتفت بها شقيقته بعد خروجها من الغرفة، التف إليها يرد بلهجة خشنة:

- سيبها تتفلق أحسن. 

تفاجأت شقيقته برده العنيف فجلست بجواره تخاطبه بدهشة:

- دي مش طبيعتك دي يا إمام؟ عمرك ما كنت قاسي كدة.

رمقها بطرف عينيه دون رد وتابع في وضع همه في تناول الطعام الذي لم يشعر له بطعم على الإطلاق، 

فاقتربت شقيقته برأسها منه تتمعن النظر إليه وابتسامة ذات مغزى بتعمد اثارت انفعاله، ليهتف نحوها :

- عايزة إيه يا خلود؟

همست إليه برجاء :

- صعبانه عليا قوي والله .

زم شفتيه يتطلع إليها بغيظ قبل أن يحسم أمره بالنهوض عن المائدة متجهًا نحو الغرفة الموجودة بداخلها.

اطرق بقبضته على الباب مستئذنًا قبل الدخول إليها، ليجدها مازالت تبكي بحرقة كما قالت شقيقته، تحمحم يقسو بلهجته حتى لا يلين معها:

- واَخرته إيه البكا دا بقى؟ ماخلاص ربنا ستر واديكي خرجتي سليمة. 

تماسكت عن البكاء قليلًا كي تستطيع الرد 

- بعد ما كنت هروح في داهية وشكلي بقى عرة وانا بخرف بالكلام من غير ما احس، منها لله ربنا ينتقم منها .

مصمص بشفتيه ليرد ساخرًا:

- دلوقتي ينتقم منها؟ بعد ما كنتِ معتبراها صاحبتك وما بتحمليش عليها نص كلمة، هي والمعوج اخوها اللي كانت معشماكي بالجوز منه. 

رفعت رأسها إليه صارخة بوجهه بحدة:

- ما كفاية تقطيم فيا بقى يا جدع، مش شايفني منهارة من البكا قدامك، ولا البعيد أعمى ما ييشوفش. 

لوح بقبضته في الهواء امامها يقول من تحت أسنانه:

- لمي نفسك يا غادة، انا على اَخري أساسًا منك .

هتفت غير عابئة بسخطه:ش

- وتبقى على اَخرك ليه بقى؟ ما انبسطتش ولا اتسليت من الفرجة بعد ما سجلت وصورتني بحالتي الزفت دي إمبارح.

الحمقاء دائمًا ما تبرع في إخراج شياطين غضبه، هم لأفحامها برد قاس ولكن صوت بكاؤها الحارق جعله يتراجع، تقديرًا لحالتها وما أصاب كرامتها من امتهان 


زفر يستجدي الصبر وطولة البال ثم اقترب منها فجأة 

يتناول الهاتف ليدفعه بطول ذراعه على الحائط المقابل لها، فنزل متهشمًا لعدة إجراء، انتفضت هي مجفلة على فعلته، فسألته بعدم إستيعاب:

- كسرت التليفون ليه؟ دا شكله غالي قوي. 

- في ستين داهية. 

صرخ بها ليتبع قائلًا لها :

- يا بنت الناس لازم تفهمي كويس إني لما صورتك امبارح، دا مكنش عشان امسك عليكِ ذلة، انا صورت عشان عارف دماغك الزفت ماكنتش هتصدق كلمة من اللي بقولوا ، كان لازم اثبتلك بالصوت والصورة .

صمت يرى رد فعل كلماته عليها مع توقفها عن البكاء وهي تتطلع إليه بصمت لعدة لحظات قبل أن يخرج صوتها بالسؤال:

- طب انت عرفت منين؟

أجفل بسؤالها ليرتبك عن الرد قليلًا قبل أن يجيبها بمرواغة:

- عرفت زي ما عرفت بقى، انت مالك؟ المهم دلوقتِ هتقولي لأهلك إيه عن سبب غيابك؟.

صرخت فجأة تلطم بكفيها على وجنتيها مردفة بجزع :

- يا نهار اسود صحيح، دا انا امي مش بعيد تدفني حية عشان بياتي برا البيت ، يا مصيبتك السودة يا غادة، يا مصيبتك السودة...

- بس يا بت.

هدر بها يقاطعها بعنف، فتابعت هي:

- ما انت بتقولي بس عشان انت مش في مكاني، ما انت لو عندك شوية تقدير ، كنت روحتني على بيت اهلي، مش تجيني هنا على بيت اختك.

ضرب بكفه الغليظة على خزانة الملابس الصغيرة للأطفال بعنف يقاطعها:

- بس بقى الله يخربيتك..... انتِ بتفهمي ازاي يا بنت انتِ، عايزانى اروحك بيت اهلك بدماغك العالية بتاعة امبارح، عشان اجيب لنفسي مصيبة؟ 

بدا على وجهها الإقتناع، فتابع بلهجة مشاكسة :

-ولا انتِ عايزاهم يدبسوني فيكِ؟

زمت شفتيها بغضب وهي تشيح بوجهها عنه، لتلتفت مرة أخرى ولكن على صوت شقيقته الطبيبة:

- هدوا شوية يا جماعة، صوتكم واصل لاَخر الشارع .

ارتفعت رأسه للسماء سريعًا قبل أن يتراجع لشقيقته ليضمها بذراعه الضخمة ليقبلها على أعلى رأسها مردفًا:

- معلش بقى يا ست الدكتور، عملنالك وش وازعجناكِ.

تبسمت له شقيقته بمودة وهي تبادله القبلة على وجنته مرددة:

- ياقلب الدكتورة إنت، يا سيدي ازعجني براحتك، هو انا اطول إمام باشا برنس الحتة يجي عندي ويشرفني ويبات عندي كمان، دا أيه الهنا دا يا ولاد؟

- الهنا على عيونك يارب .

قالها ليتبادل مع شقيقته الحديث المرح، غافلين عنها وهي تراقب هذه الدفء الأسري بين الأخ وشقيقته، لتهبط بعينها على ما يرتديه من بيجامة بيتية كبيرة ناسبت جسده العضلي الضخم ، وقد تحلي عن الحلة السوداء المخيفة والخاصة بعملة، لترى له وجه اَخر غير الذي اعتادت عليه.


❈-❈-❈ 


بجوار حوض زهور النباتات النادرة كان عامر واقفًا يتأملها بتفحص شديد وهو يدور عليها ليستكشف الجديدة منها وألتي أزهرت، فيبحث أيضًا عما التي أصابها المرض حتى يشملها بالرعاية الازمة، وفي خضم إنشغاله انتقلت عينيه بالصدفة لينتبه على رجوع زوجته من الخارج، والتي أخذت مقعدها في انتظاره، تحت المظلة الخشبية الكبيرة بوجه واجم يكسوه الهم، ترك ما كان يفعله واتجه لينضم على الاَريكة الاخرى بجوارها مبادرًا بفتح الحديث:

- اَخيرًا جيتي يا لميا؟ دا انا افتكرتك هتقعدي اسبوع. 

التفت إليه ترد بجمود:

- اسبوع يا عامر! لا يا سيدي اطمن اديني جيت، هي ليلة عدت وخلاص. 

- أممم

زام بها يعتدل بظهره للخلف واضعًا قدمًا فوق الأخرى ليتابع:

- يعني على كدة بقى اطمنتي ع البنت قبل ما تيجي؟

حدقت به بنظرة فهمها عامر جيدًا قبل أن ترد بتنهيدة كبيرة :

- يعني! انا سيبتها بعد ما فاقت وقدرت تاكل وتشرب، بس انت عرفت منين يا عامر؟

سمع منها ليلتوي ثغره على زاوية، استهجانًا من سؤالها:

- ما فيش حاجة بتستخبى يا لميا، وإن كان والدها يعرف يكتم كويس على الصحف والمجلات، فيستخبل هيقدر يوقف الناس عن الكلام، الناس ما بتصدق تلاقي حاجة زي دي، وخصوصًا في الوسط بتاعنا ومركز والدها سابقًا...

أومأت تطرق برأسها لتتهرب من عينيه، واستطرد هو:

- انا مش عايز اقلب في القديم ولا عمري هفرح في حد، خصوصُا مع ناس كان في ما بينا وما بينهم صلة قرابة كبيرة، بس بصراحة، دي النتيجة الطبيعية للإنحلال...

التفت رأسها على الفور إليه بنظرة نارية، ليقابلها هو بعدم اكتراث متابعًا:

- انا قولتلك اني مش فرحان فيه، بس انتِ شوفتي بنفسك ولا هتنكري؟

اشاحت بوجهها عنه رافضة الرد، ليصمت عامر قليلًا ثم نهض من جوارها مغمغًا:

- ع العموم ربنا يعينها وياخد بإيدها هي ووالدها، دا مهما كان برضوا كان في ما بينا وبينه عيش وملح.


❈-❈-❈ 


- جيبتوا المطبخ واتفقتوا على أوضة النوم كمان، بجد والنبي يا خالي؟............ طبعًا الاستاذة زوقها حلو ، انا اعرف واحدة صاحبتي جابت النوع ده، حاجة أصيلة وتعيش........ أكيد طبعًا هاجي واشوف الشقة والجهاز كله، دا انا هموت واشوفها أساسًا......... يا حبيبي يا خالي ربنا يسعدك ويتم فرحك على خير....... انسى مين يا عم؟ قي حد ينسى رقية برضوا؟ كلها كام يوم واروحلها قريب ان شاء الله.

أنهت المكالمة تتنهد راحة واشتياق لهذا اليوم السعيد، وهو زفاف خالها على حب عمره بعد انتظار طال لسنوات وسنوات .

- عرفتي ميعاد الفرح امتى بالظبط؟

همس بجوار اذنها ليجفلها، انتفضت في البداية ولكنها تداركت سريعًا لتلتف بجذعها نحوه وهو جالسًا بجوارها ع التخت يتابع عملها على حاسوبه الخاص، فقالت ساخرة:

- وبتسأل ليه؟ ناوي توجب معاه وتجيبله فرقة زفة مثلًا؟ ولا هتزود الجميلة وتجيب مطرب شعبي يحي الفرح؟

افتر ثغره بابتسامة واسعة اظهرت أسنانه ليردف بمرح قبل أن يرفع الحاسوب ويضعه على الكمود بجواره:

- الله بقى دا الحلوة مزاجها رايق وليها نفس تقلش كمان.

- شيل إيدك عني يا جاسر احسنلك. 

هتفت بها بمجرد اقترابه منها ليرمقها بتساؤل، فردت هي سريعًا:

- ايوة ما تقربليش ولا تيجي جمبي، عشان انا مش طايقاك أساسًا. 

رفع كفيه في الهواء يتسائل بدراما وابتسامة مستترة:

- ليه يا ست انتِ؟ هو انا عملتلك إيه بس عشان تغضبي عليا بالشكل ده؟

برقت عينيها نحوه لتجيب بالضغط على اسنانها:

- من جهة عملت فانت عملت كتير أوي النهاردة، عمال تاخد وترغي مع البت اللهلوبة دي، ولما شوفتها بتتمايص مع طارق السهن دا كمان، بدل ما تشخط فيهم وتوقف المهزلة دي في غرفة الإجتماعات، لا دا انت قعدت تضحك لهم وكأنك بتشجعهم، من غير ما تفكرهم حتى إن دي شركة محترمة وميصحش الضحك كدة بصوت عالي فيها 

كبت ابتسامة ملحة ليرتخي بظهره على الوسادة من خلفه يتطلع إليه بصمت استفزها لتصيح عليه بحدة:

- ما ترد عليا يا جاسر ساكت ليه؟

أجابها بهدوء:

- لا حول ولا قوة إلا بالله، طب عايزانى اقول إيه بس؟ وانتِ مخنــ وقة منها مش عارف ليه، مع ان البنت ممتازة وكل تصرفاتها عادية .

- عادية ازاي يعني؟

أردفت بالسؤال شاعرة بنفسها على وشك الإنفجــ ار من بروده لتكمل:

- انا حاسة البنت دي بتعلب على طارق، وصاحبنا مسلم لها .

اعتدل فجأة وقد ذهب عن وجهه الهزل ليرد بجدية:

- زهرة ارجوكِ ما تغلطيش في لينا، البنت محترمة وانا مشوفتش منها غير كل خير.

رفرفرت بأهدابها تستوعب كلماته، ثم همست بلهجة باكية :

- ولما انت ماشوفتش منها غير كل خير؟ ما اتجوزتهاش ليه يا جاسر؟ مدام ممتازة ومحترمة، وحلاوتها تهبل كمان، سبتها ازاي من إيدك دي؟

اقترب ليضمها بذراعه ليرد بلهجة حانية :

- وحتى ولو كانت ملكة جمال، انت برضوا أحلى منها .

التفت برأسها إليه تسأله بتشكك:

- أحلى منها ازاي يعني؟ انتِ بتكدب عليا يا جاسر؟

- واكدب عليكِ ليه؟ أينعم هي حلوة وزي القمر.....

قالها ولم يستطيع إكمالها حينما قاطعته:

- يعني شايفها حلوة وزي القمر يا جاسر .

- بس شايفك انتِ أحلى. 

لحق نفسه سريعًا لينهي الجدال بقبلاتها الشغوفة، متيقيًا ان هذا هو الحل المفيد له ولها .


❈-❈-❈ 


بداخل شرفة غرفتها الحبيبة وبعد أن فاض بها من التفكير المرهق الذي لم يتركها لثانية واحدة منذ تركها الشركة هاربة من حصار كارم وتصرفه الغريب نحوها، وكيد طارق وهذه الفتاة التي تعمل معه ، وكأنه أتى بها قاصدًا لها، 

لقد ملت وتعبت من هذه الحروب والدائرة التي تدور بداخلها دون توقف، وقد خاب ظنها حينما وافقت على غيره هروباً منه، وقد تأكدت مما تحمله بداخلها نحوه، وبما ان النيران تحرفها في الحالتين، كان الأولى هو الأبتعاد وليس التورط وارتباطها بهذا الشخص الغامض؛ والمغلف بعناية تفقدها ميزة اكتشافه وما يخبئه خلف هذا القناع الجميل. 

انتبهت على صوت صفير من خلفها فالتفت لتصعق متفاجئة به داخل غرفتها، تقدمت نحوه تستقبله بغضب:

-إنت إيه اللي جابك هنا؟ وفي اوضتي كمان يا كارم ؟

تطلع بعيناه المتفحصة على ما ترتديه من بيجامة بفماشها القطني الخفيف، ليُظهر انوثتها بنعومة، بربع كم في الأعلى، قصيرة لأسفل ركبتها التي توقفت عينيه عليها قليلًا، قبل أن يرفعهما مضطرًا على صحيتها:

- رد عليا يا كارم، انت دخلت هنا ازاي؟

تبسم يجيبها بهدوء وعيناه تمسح على ملامح وجهها الفتان وشعرها المسترسل على جانبيه بعدم إهتمام ليضيف إليها مزيدًا من السحر ، فخرج صوته يحمل مزيجًا من الإنبهار والإعجاب بقوله:

- قمر يا كاميليا قمر !


الفصل الثالث والخمسون 


تتطلع إلى المرأة بتمعن شديد ، لتتبع اَثار الدموع التي تركت بصمتها على ملامح وجهها في الإحمرار والإنتفاخات العديدة به، رغم غسله بالماء والصابون جيدًا، لقد اتصلت بوالدتها تخبرها بحجة وهمية عن تعبها الذي اضطرها للمببت في منزل صديقتها التي لا تعرف بأرقام أهلها حتى تطمئنهم عليها، ولكن ولمعرفتها الشديدة بطبع والدتها الحاد تعلم أن ما ينتظرها في المنزل ليس بالهين.

- إنتِ خلاص هتمشي وتسيبينا؟

تفوهت بها الصغيرة من خلفها بصدق مشاعرها البريئة، لُتظهر محبة من القلب دون تزيف، رغم معرفتها العابرة بها، مما استرعى انتباهها فجعلها تترك المراَة لتجلس بجوارها تسألها:

- ليه يا قمر؟ هو انتِ عايزاني ابات عندكم من تاني؟

هللت الطفلة بلهفة تقول برجاء:

- ياريت تباتي عندنا على طول، تنامي جمبي هنا ع السرير التاني أو ممكن تباتي مع خالي في أؤضة لوحدكم.

تطلعت لها بدهشة لتعاود سؤالها با ستغراب:

- إنتِ ليه بتقولي كدة؟ وجيبتي منين الفكرة دي؟

- أممم. 

زامت بفمها الذي اغلقته، تحرك رأسها بتلاعب وقد ارتسم على وجهها ابتسامة بشقاوة، لتحثها غادة على المواصلة:

- سكتي ليه يا روان ومش عايزة تجاوبي على سؤال طنت؟

افتر ثغر المذكورة بالضحك تُشير بكفها نحوها:

- أصل انت مش باين عليك طنت خالص، دا خالوا لما دخل بيكي امبارح وهو شايلك على كتفه، كان شكلك زي البيبي ههه

تبسمت بخفة تجاريها رغم زحف القلق إلى قلبها، فانتظرت توقف الطفلة عن الضحك قبل أن تسالها بتوجس:

- هو انا كان شكلي إيه إمبارح يا روان لما دخلت عليكم؟

كورت شفتيها روان بعدم معرفة لتُجيبها:

- انا مش فاكرة غير وهو خالو شايلك، أصله دخلك الأوضة هنا وخرج لنا على طول ، ماما هي اللي قعدت شوية معاكِ وبعدها سابتك تنامي .

اومأت برأسها غادة وقد تخلل داخلها بعض الإرتياح الذي جعلها تنهض لتكمل تجهيز نفسها حتى تغادر بصحبته وصحبة شقيقته الطبيبة التي أصرت لمرافقتها في مقابلة إحسان.


❈-❈-❈ 


تملك منها الغيظ لعدم اكتراثه بغضبها وتغافله المتعمد لعدم الرد عليها، فعلى صوتها بالهتاف هذه المرة :

- رد عليا يا كارم وانا بكلمك، مين اللي سمحلك تدخلي الأوضة هنا ؟

- دخلت لوحدي. 

قالها ببساطة وجالت عينيه على أركان الغرفة يتأملها ببرودٍ زاد من ذهولها وتأجج احتقانها منه ولكن وقبل أن تنفجــ ر بوجهه سبقها بقوله:

- بس استئذنت من رباب الأول. 

- يعني رباب هي اللي دخلتك هنا؟

هتفت بها بلهجة خطرة لتتحرك نحو الباب تبتغي الخروج لتأديب شقيفتها وتوبيخها على حماقة فعلها، فتفاجأت به يتصدر أمامها يوقفها:

-خارجة ورايحة فين يا كاميليا؟ هو انا قربت جمبك ولا لمستك حتى. 

قال الاَخيرة متعمدًا لمسها بكفيه على ذراعيها المكشوفين بمناكفة صريحة جعلتها تنفض ذراعيها وترتد للخلف على الفور لتهدر به :

- متعصبنيش يا كارم وتخرجني عن شعوري ، انا مش عايزة اعلي صوتي عشان والدي ما يسمعش ويبقى منظرك مش كويس.

قصدت بتهديدها التقاط الجزء الحساس بشخصيته ألا وهو صورته البراقة أمام الناس والتي يحرص بشدة عليها، فعبس وجهه على الفور يرد بلهجة جامدة خالية من العبث:

- أولاً انا محدش يقدر يشوه صورتي قدام حد، لأني عارف حدودي كويس، دا غير إني ملمستكيش ولا هددت أمانك بأي فعل يخليكِ تصرخي على والدك ولا أي حد من اخواتك، كل اللي عملته هو حب فضول إن اشوف اوضتك وأشوفك بلبس البيت على طبيعتك ، وافتكر إن دا شئ بسيط جدًا يا زوجتي العزيزة. 

ضيقت حاحبيها سريعًا تستوعب عبارته الاَخيرة قبل أن ترد عليه بانفعال :

- مية مرة أوضحلك يا كارم إني لسة ما بقتش في بيتك عشان أحظى باللقب الكريم، إحنا دلوقتي في حكم المخطوبين، أينعم في عقد قران، لكن لسة برضوا مخطوبين

صمت لبرهة يرمقها بثاقبتيه، فاردًا نفسه أمامها ليضع كفيه بجيبي بنطاله أسفل السترة ورد بعد تنهيدة طويلة:

- ومع ذلك ما فيش في مرة خلتيني اقربلك، رغم إن الحاجات دي بتحصل مع أي اتنين بيحبوا بعض مش بس المخطوبين.

- إنت بتقول إيه؟

هتفت بها بعدم استيعاب قبل أن تفاجأ بدفع الباب من الخارج، ليلج منه شقيقها الصغير، خاطفًا نظرة سريعة نحوها، قبل أن ترتكز عينيه على كارم بصمت أبلغ من الكلمات  ثم أردف باقتضاب:

- ازيك يا عمو.


❈-❈-❈ 

فتحت غادة بمفتاحها لتخطو بخطوات مترددة لداخل المنزل، بخوف يكاد أن يوقف قلبها من مواجهة حاسمة مع والدتها ، بعد بياتها الليلة الماضية خارج المنزل دون أن تتمكن بإخبارها ولو برسالة صغيرة تطمئمها بها ، تحمد الله على رجوعها سليمة ونجاتها بمعجزة من مؤامرة دنيئة دبرتها امرأة أفعى لا تعرف الاخلاق ولا العقاب من الخالق. 

- توك ما راجعة من سهرتك يا بت الكلــ ب

هتفت بها إحسان من قلب المنزل فور أن شعرت بعودتها بعد القلق الذي أكل قلبها منذ الأمس في التفكير والبحث عليها وعما قد يحدث لها بالبكاء والسهر طوال الليل في انتظار خبر عنها، ويتحول كل هذا بمجرد رؤيتها بصحتها سليمة معفاة أمامها، لتنهض عن كرسيها تخلع عن قدمها خفها البيتي تنتوي تأديبها، صرخت غادة بجزع فور رؤيتها هجوم والدتها الكاسح كشاحنة نقل كبيرة على وشك دهسها، فارتدت بخطواتها للخلف مرددة لها بجزع مما قد تفعله بها:

- صلي ع النبي ياما، صلي ع النبي، انا جيالك ومعايا ضيوف. 

دلفت على صيحتها خلود سريعًا لتلتقط ذراع إحسان قبل أن تصل لابنتها التي تراجعت لتتحامى بها من الخلف والأخرى تصيح باندفاع غضبها للوصول إلى ابنتها:

- أنا هكسر عضمك واربيكِ النهاردة يا غادة، عشان ما يبقاش فيكِ رجلين تخرجي بيها أساسًا تاني، مش هسيبك غير لما افش غليلي فيكِ يا بت .

تدخلت خلود في محاولة بائسة لتوقف المرأة عن هجومها علّها تسمع:

- هدي أعصابك يا حجة واسمعي منها الأول، دا انا جاية وشاهدة معاها .

زادت إحسان بمحاولاتها العنيفة تردد بعدم انتباه أو رؤية واضحة حتى لمن تصدها:

- ولو جابتلي عشرين يشهدوا برضوا مش هسيبها بت الجــ زمة  اللي عيارها فلت ولا اكن ليها أهل يربوها.

- يا ست الحجة بس لو تدينا فرصة بس نفهمك ونكلمك 

هتفت بها خلود وهي تتمسك بإحسان بقوة تحاول منعها عن ضرب ابنتها، لتزأر الأخرى بلوعة مزقت أحشائها:

- دلوقتي عوزاني اسمع وافهم! بعد ليلة طويلة عريضة قضتها وانا هموت فيها من القلق والخوف عليها، ولا يكونش كمان فاكراني صدقت الإتصال الخايب بتاعها، ليه يا ختي شايفاني دق عصافير ولا مختومة على قفايا؟

- يا ست بتقولك اسمعي الأول وبعدين احكمي، إنتِ إيه؟ إيدك بتاكلك ع الضرب من غير تفكير، طب حتى اعملي حساب للست الضيفة ونزلي شبشبك لبعد ما تمشي، خلاص شوفتيتي هطير ولا ههرب منك يعني؟

صاحت بها غادة وهي تبتعد عن مرمى الخف المنزلي بحرفنة لاعب كرة قدم في الملعب، فقالت من بينهن خلود وهي على وشك البكاء، وقد خارت قواها سريعًا مع صد إحسان المرهق بوزنها الثقيل ، وهي لم تعد تشعر بذراعها:

- حرام عليكم بقى كفاية وارسو على حيلكم، انا عندي عيال عايزة أربيهم. 

خرجت الاَخيرة بصرخة أجفلت إحسان فارتخى ذراعها بالخف لتتلطع إليها سائلة بدهشة:

- إنت مين؟ وأيه اللي حشرك وسطنا انا وبنتي؟

تركتها خلود لاهثة لتدلك على ذراعها مرددة بيأس:

- أنا الدكتورة خلود أو اللي كنت دكتورة لأني بعد الخناقة الشديدة مضمنش نفسي هعرف اشتغل تاني ولا لأ؟


بعد قليل 

وقد هدأت العاصفة قليلًا كانت الجلسة بين ثلاثتهن بوسط المنزل وقد قصت غادة بالرواية المتفق عليها مع خلود التي كانت تساعدها وتلحقها سريعًا لو أخطأت أو سهت عن شئ ما حتى لا تترك ثغرة يدخل منها الشك بقلب إحسان التي كانت تستمع بوجه واجم بارتياب لحثهم على المواصلة حتى تستطيع التصديق، لتسأل اَخيرًا وهي تتلاعب بالكارت الصغير بيدها:

- يعني انتِ متأكدة انك دكتورة مش حاجة تانية؟

أجفلت خلود من سؤالها الغريب لتُجيب بابتسامة ممتزجة باندهاشها:

- أيوة يا حجة، أمال احنا بنتكلم في أيه من الصبح، ولا كمان مش مصدقة الكارت في اللي ايدك؟ اللي فيه عنوان العيادة وارقام التليفون...

قاطعتها إحسان بحدة توقفها:

- بس البنت دي عمرها ما قالت ان صاحبتها دكتورة، كل كلامها كان مركزها العليوي في الشركة عندهم والعز والهنا اللي هي فيه!

ملاحظتها القوية في هذا الشئ الذي غفلت عنه غادة جعل الدماء تجف بعروقها وقد انعقد لسانها بالرد عن بشئ مقنع فالتفت لخلود باستغاذة تلقتها الأخرى على الفور وتولت الإجابة بسرعة بديهة:

- يا نهار أبيض هو انتِ افتكرتيها باتت عند ميرفت، لا طبعًا دي معاها أخ شاب في البيت يعني مينفعش، الموضوع عندي أنا يا حجة، قابلت غادة في الطريق وانا بقالي سنين طويلة قوي مشوفتهاش، مصدقت بقى لقيتها ومسكت فيها خدتها معايا بيتي اللي ساكنة في مع ولادي بس، عشان جوزي برا مصر بيشتغل، قضينا وقت حلو زي ما حكت غادة وبعدها قعدت تصرخ من المغص الشديد في معدتها وانا بقى اتصرفت من واقع مهنتي واديتها حقنة مهدئة، خدتها المسكينة وراحت في النوم، يعني الغلط عندي أنا.

لهجتها الهادئة المتماسكة والرزينة الجمت إحسان عن الجدال حتى ظهر على وجهها الإقتناع رغم إدعائها التفكير، التفت خلود لغادة ترمقها بنظرة مطمئتة، لتبادلها الأخرى بالإمتنان الشديد.

- بس البت دي عمرها ما قالتلي ان عندها اصحاب دكاترة. 

قالتها إحسان في محاولة اَخيرة لمعرفة المزيد، وجاء الرد من غادة وقد أخذت الثقة:

- دي كانت صاحبتي أيام الثانوي ياما، قبل ما يفرقنا مكتب التنسيق وتدخل هي الطب وادخل انا المعهد زي ما انتِ عارفة .

حل الصمت ولم يُعد هناك داعي للجدال من إحسان حتى شعرت خلود بإتمام مهمتها بسلام، تنهدت بارتياح لتهم بالأستئذان والمغادرة، قبل أن تجفل على صوت سعال قوي اخترق ظهرها من الخلف فانتفضت مخضوضة تلتف برأسها، لتفاجأ بشعبان والد غادة الذي كان خارجًا من غرفته بتغافل تام عما حدث، عقب إستيقاظه من غفوة القيلولة، مرتديًا الفانلة البيضاء ذات نصف كم على بنطاله البيتي ، يهرش بأنامله على جانب رأسه، وهو يتطلع إليها مضيقًا حاجبيه باندهاش، بهيئة أحرجت غادة واستفزت إحسان التي غمغمت بسبة وقحة نحو هذا الغبي الذي خطا حتى اقترب منهن ليتمتم سائلًا ببلاهة :

- إيه ده هو انا احنا عندنا ضيوف؟!


❈-❈-❈ 


- مساء الفل، شكلنا قطعنا عليكم باين ولا إيه؟

تفوهت بها رباب شقيقة كاميليا بمرح غامزة وهي تلج إليها بداخل غرفتها، لتفاجأ بالرد الحاد من الأخرى على الفور:

- وليكِ عين تضحكي وتهزري كمان؟ إنتِ ما عندكيش دم يا بنت انتِ؟ ازاي تسمحيلوا يدخلي الأؤضة من غير استئذان؟ هي زريبة؟

تغير وجه شقيقتها وذهب المرح عنها، فاستنفرتها لترد بدفاعية:

- انا مسمحتلوش يا كاميليا، انا استقبلتوا وكنت هدخلوا الريسبشن عادي ينتظرك على ما ادخل واندهك، لكنه فاجئني لما قال انه داخل بنفسه وراح من غير ما يستنى ردي حتى، أنا جيت وراه على أساس إن اديكي فكرة لو هتغيري هدومك، بس اطمنت لما لقيت الباب مفتوح، وبرضوا عشان الحرج ومبقاش ما بينكم عزول روحت، قولت لميدو وهو ساب مذاكرته وجه على طول .

هدأت فورتها قليلًا لتعاود بسؤالها :

- وابوكي راح فين؟ ما كنتٍ ندهتيه وكان الموضوع هخلص من أوله.

تطلعت إليها رباب بنظرة أربكتها، وقد بدا على وجهها التساؤل، وردت بلهجة متوجسة:

- والدي مش موجود عشان راح يصلي العشا، بس هو يعني.... هو كارم ضايقك ولا حاجة؟

أجفلتها بسؤالها المباغت، ولسان حالها يقول أنها فهمت السبب وراء انفعالها وعصبيتها، فانتفضت كاميليا لتزيح عنها الشكوك برد عنيف:

- لا كارم ولا عشرة زيه حد يقدر يضايقني، انا كنت بقول عشان الأصول، وع العموم حصل خير يا ستي، روحي قدميلوا حاجة يشربها بقى على ما البس واخرجلوا، هو قاعد فين دلوقتي؟

أجابتها رباب وهي تستدير للمغادرة مذعنة للأمر:

- قاعد في الريسبشن مع ميدو. 

تبسمت كاميليا على ذكر شقيقها الأصغر، الذي دلف للتو إليها يحدج كارم بنظرات كاشفة تنقل اللوم بداخلها، وتوبيخ صريخ أخجل المذكور ليخرج متنحنحًا بحرج من أمامه .


❈-❈-❈ 


بهيبة تعدت سنوات عمره المعدودة لأضعاف، جالسًا أمامه متكتف الذراعين، وقد أتقن دور رجل البيت، في غياب والده وشقيقه الأكبر، يراعي الأصول ولا يعجبه الحال المائل. 

- ما قولتليش يا ميدو، إنت في سنة كام بالظبط؟

قالها كارم مبادرًا لفتح حديب معه لفك هذه الجمود من جانب الطفل الذي لا تريحه نظراته، اعتدل بجلسته المذكور، ليجيب بكلمات محددة:

- انا في سنة تالتة، يعني كلها سنتين وادخل إعدادي. 

مط بشفتيه كارم يظهر له الاحترام وقد اثارته الإجابة ليتابع بمشاكسته:

- المهم انك تكون شاطر وواثق من ذكاءك، لسنتين يبقوا تلاتة أو أكتر .

عبس وجه ميدو ولم يتقبل المزاح، ليصمت يحدجه بجمود، ويظل حديث الأعين فقط بينهم، بين رجل يدعي عدم الإكتراث، وطفل يدفعه حدسه البرئ للقلق من هذا الرجل. 

انتبها الإثنان على حضور كاميليا وقد بدلت ملابسها لطقم الخروج لتختطف عين كارم وينسى أمر الصغير  الذي التف لشقيقته وهي تتحدث:

- انا خلصت وجاهزة للخروج. 

أومأ لها برأسه يشملها بعيناه بابتسامة راضية لعدم تخيب ظنه ولو مرة واحدة في هيئتها رغم غلبة البساطة في زوقها، ثم نهض يتابعها وهي تقترب  من شقيقها وتقبله على وجنتيه المكتنزتين وكفها تمسح على رأسه وشعر رأسه الكستنائي الغزير، قبل أن تتحرك  لتغادر معه، ثم التفت فجأة على نداء ميدو بإسمها:

- كوكو.

- إيه يا قلب كوكو؟

قالتها في استجابة لندائه، لتجده اعتدل بجلسته محدقًا بكارم قبل أن يرد على تمهل:

- حاولوا متتأخروش.


❈-❈-❈ 


خارج السيارة كان واقفًا مستندًا بظهره عليها في انتظار عودة شقيقته، بعد أن تبرعت بوقتها للوقوف بجانب هذه المجنونة ومؤازرتها في مواجهة أهلها، يكتنفه الضيق لما قد ينال شقيقته من أذى بعد توريطها في شئ كهذا، ألا يكفي غباءه في أذية نفسه ليُدخل شقيقته الاَن معه؟ 

زفر للمرة المئة وهو ينظر للساعة على يده، وقد تأخر الوقت وتأخرت عن ميعاد عملها في عيادتها، تتنابه رغبة قوية للصعود واكتشاف ما حدث بعينيه، وعقله يمنعه لمنع افتعال مشكلة من العدم ومازالت الرؤية غير واضحة حتى الآن. 

رفع رأسه فجأة ليتفاجأ بها واقفة بشرفة إحدى الغرف لمنزلهم، تتطلع إليه بنظرات غامضة وغير مفهومة، جعلته يقطب جبينه بدهشة وبداخله يود سؤالها عن شقيقته وما الذي تم بالجلسة معهن، ولكنه انتبه على خروج المذكورة من بنايتهم بوجه عادي لا يظهر ضيق ولا حدوث سوء معها، انتظر حتى وصلت إليه ليلتف ويعتلي السيارة في انتظارها، أتت هي لتنضم معه وقبل أن ترتاح جيدًا في جلستها فاجئته بقبلة على وجنته ، اذهلته ليلتف إليها قائلًا بحرج:

- أيه يا ست الدكتورة؟ إحنا في منطقة شعبية لمخ الناس يروح للبعيد وماحدش فيهم يصدق ان انتي اختي.

ضحكت خلود وانتظرت حتى أدار محرك السيارة وسار بها ، ثم تكلمت:

- يقولوا اللي يقولوه، اصل انا بقى كان لازم اشكرك على جميلك مع غادة رغم اني معرفهاش بس بصراحة، اسعدني جدا تصرفك بعد ما شوفت بنفسي اللي كان هيحصلها واللي كان منتظرها لو حدث لها السوء لا قدر الله، دي والدتها كانت هتاكلها قدام عيني وبنتها سليمة ومفيهاش حاجة، أمال بقى لو كان ..... يالا الحمد لله إن ربنا سترها .

رمق شقيقته من طرف عينيه دون أن يحيد بنظره عن الطريق، فقال باندهاش:

- غريبة يعني، شايفك بتدعيلها من قلبك ولا اكنها حد من عيلتك، رغم كل اللي حكتهولك عنها وعن دماغها الزفت.

حدقت به خلود بابتسامة ماكرة لعدة لحظات اثارت ضيقه لعلمه بما تفكر فيه، فقال زافرًا:

- بلاش البصة دي عشان عارف اللي وراها، انا ساعدتها اَه وجريت انقذها من غير ما انتظر شكرها ولا أي حاجة منها، يعني متفتكريش اني هموت عليها، لا يا حبيبتي، انا كرامتي فوق أي شئ .

اقتربت شقيقته لترد وهي تُربت بكفها على ذراعه الضخم بحنان:

- عارفة كل اللي بتقولوا مش محتاجة تفسير، بس انا من رأيي إن غادة مجابتش الأفكار دي من نفسها، عندي إحساس قوي إن والدتها هي اللي زرعتها في دماغها، اصل انت مشوفتهاش، دي ست صعبة قوي، ووالدها تافه كده ومعندوش شخصية. 

إلتف إليها رافعًا حاجبه يستوعب ما تفوهت به عن والديها ليقول بما توصل إليه عقله على الفور :

- يعني انتِ قصدك إن امها هي اللي بتحكم؟

اومأت له برأسها كإجابة فتلفت عائدًا لطريقه يغمغم من تحت أسنانه:

- يبقوا هي وامها وابوها عايزين الدق على دماغهم.


❈-❈-❈ 


- إنتِ لسة برضوا مقومتيش من مكانك يا ميرفت؟

هتف بها شقيقها وهو يهبط الدرج متأنقًا بما يرتديه تجهيزًا لخروجه رغم إصابة رأسه، ردت هي متفكهة على هيئته بالضمادة التي تصدرت الرؤية على جبهته:

- وانت خارج كدة يا مجنون ولسة دماغك متعورة مش تستنى ع الأقل لما تنزع القطن واللزقة اللي منورين دول على دماغك.

عبس وجهه ليرد بضيق وهو يقترب منها:

- أمال يعني عايزانى اقعد في البيت عشان اتخنق اكتر ما انا مخنوق، انا عايز اخرج وافك عن نفسي شوية، ع الأقل انسي الصداع اللي مش راضي يخف دا من ساعة ما ضــ ربني الطور دا بدماغه الكبيرة. 

سهمت ميرفت تغمغم بتفكير :

- إلا حكاية البني أدم دا كمان؟ أموت واعرف دا مين دا اللي قدر يعمل معانا حاجة زي دي وفي قلب بيتنا؟ ولا يكونش البت دي ليها حبيب سري وانا معرفش؟

- ليها بقى ولا ملهاش.

هتف بها ماهر بقرف وهو يجلس على المقعد خلفه ليتابع:

- انا خلاص قفلت من البنت دي ومش عايزة اسمع سيرتها تاني، محبش انا القلق. 

اظلم وجه ميرفت وظهر عليه التصميم في ما تتفوه به:

- تحب ولا متحبش يا ماهر، انا مش هفوت الموضوع ده ولا هسيب حد يعلم علينا، دا غير اني مش هتنازل عن غرضي الأساسي في كل ده، وانا شايفة اني اقدر!

اعتدل ماهر يسأل شقيقته باهتمام شديد:

- أيه هو بقى غرضك الأساسي؟ وهتنتقمي ازاي؟ ولا انت قصدك إن لقيتي حاجة في الكلام الأهبل بتاع البت دي؟ وانا اللي كنت فاكرك هتزعلي عشان مكسرتيش عينها.

قال الاَخيرة في إشارة على ما تتطلع به على شاشة الحاسوب التي تحمله فوق قدميها، لتجيبه بابتسامة واثقة:

- مكدبش عليك عشان انا فعلًا كنت عايزة امسك عليها ذلة اخليها تبقى زي الخاتم في صباعي عشان تنفذ اللي اقولها عليه حتى لو غصب ومش برضاها، بس بقى بعد ما شوفت وسمعت باللي هفلتت بيع في التسجيل الخفيف هنا في الصالة، هديت شوية عشان اكتشفت ان لسة في فرصة .

هز رأسه بتعب من كلماتها المبهة وهو ينهض عن مقعده من أمامها:

- فرصة إيه بس يا فيفي؟ انا دماغي مش حمل اللغازك دي، همشي بقى ونخلي الرغي ده لوقت تاني. 

أومأت له برأسها:

- تمام يا قلبي ولا يهمك، روق انت وما تشغلش نفسك. 

لوح لها بكفه قبل أن يغادر لتعود هي لشرودها مرة أخرى تغمغم بتفكير :

- ضلمة ، تعابين، بتاع البرشام !


❈-❈-❈ 


طافت بعينيها على أرجاء المكان الجديد لتستكشفه أو لا داعي لأستكشافه من الأساس، فهي واثقة انها ستنبهر وقد ينعقد لسانها بسقف حلها وهي تتطلع إلى الرفاهية المبالغ فيها، وكم الثراء الفاحش الذي يبدو على رواده، لقد تعودت على هذا في كل خروجاتها معه، ويبدو أن هذا ما يريده هو، أو ربما هذا هو نظامه في الحياة بدون تعمد او سوء نية!

- عجبك المكان يا كاميليا؟

هتف بها يسألها كالعادة فتبسمت إليه برد فعل طبيعي اعتادت هي أيضًا على فعله:

- أكيد جميل ورائع يا كارم، هو انت عمرك أخدتني في مكان اقل من مستوى اللي قبله.

توقفت لتتطلع عليه وترى أثر إطراءها الذي بدا على وجهه بابتسامة الزهو لتكمل بسؤالها الفضولي؛

- كارم لكن هو انت دايمًا كدة؟

تطلع إليها باستفهام فتابعت لتردف بأسئلتها عما تشعر به:

- قصدي يعني..... دايمًا زوقك منحصر في النوع ده؟ البدلة دي ما بتغيرهاش وتلبس حاجة بسيطة تخرج بيها؟ أو مثلًا مفكرتش في مرة تاكل من مطعم شعبي يكون مشهور؟ أو حصل واتطرفت في مشاعرك ووقفت على عربية في الشارع.... 

قاطعها ينفي سريعًا باعتراض:

- لأ يا كاميليا شارع ايه اللي بتقولي عليه؟ دي حاجات ضارة بالصحة أساسًا.... وان كان على إجابة سؤالك، احيانا بغير بس بصراحة قليل عشان اشغالي الدائمة،  ولو ع الأكل حصل أكيد بس مكنش مطعم شعبي بالصورة اللي انت بتقوليها ، لأ دا كان شبابي، وللأكل التيك اوي ايام الكلية.

- كلية إيه؟

سألته لتفاجأ بتغير لونه وشرود خاطف بدا على وجهه قبل أن يستعيد نفسه ليجيب بتماسك سريع:

- انا اللي عايز افهموهلك يا كاميليا، إني إنسان طبيعي وبتصرف بطبيعتي، بس دا اللي اتربيت عليه، انا مش كتالوج في مجلة.

اومأت برأسها له بتفاهم لما يردف به، لتستغل هذه اللحظة وهو يتكلم بهدوء لتضيف بالسؤال الذي يُلح برأسها منذ أيام:

- طب مممكن تقولي عن اللي اسمها ندي دي كانت صفتها إيه في حياتك؟

برقت عينيه فجأة بإجفال لم يثنيها عن الإلحاح للمعرفة:

- وياريت تحترم ذكائي وما تحاولش تنكر، تصرفها معانا يوم حفل عيد الميلاد كان مكشوف اوي .

كانت تناظره بتحدي لم يغفل عنه في انتظار إجابته، ولكنه تمالك ليجيبها بأعصاب هادئة:

- الموضوع مش زي ما انتِ فاكرة، سبب كره ندى ليا نابع من كره زوجها، أصله كان صديقي، بس هو حصلتله مشكلة كبيرة زمان واتهمني فيها زور واتفرقت صحبتنا، يعني ما فيش أي حاجة م اللي في دماغك دي، انا محبتش غيرك انتِ يا كاميليا .

توقف يتناول كف يدها يضغط عليها داخل كفه ليردف:

- عارف اني ممكن اكون ضايقتك الصبح في حجرة الإجتماع،  بس دا من واقع حبي ليكِ، انا حبيتك وبغير عليك بجد.

كان يتحدث بحالة من الضعف لم تشهدها عليه قبل ذلك وكأنه يستجدي منها التصديق، ولكن عقلها الواعي رفض بشدة ، حاولت مجارته قليلًا حتى شعر ببعض الإرتياح فتناول قائمة الطعام يتطلع إليها من جديد قبل أن تسأله:

- جوز ندى دا اللي كان صاحبك؛ اسمه إيه؟

اطبق فمه بضيق قبل أن يجيبها على عجالة قبل أن يشير للنادل لينهي النقاش. 

- اسمه كريم، كريم فوزي، تحبي اطلبك إيه بقى معايا؟

- اطلبلي من اللي انت هتاكله

قالتها سريعًا في الرد عليه، وذهنها مشغول بإعادة ترديد الإسم حتى لا تتناساه:

- كريم فوزي، كريم فوزي!


❈-❈-❈ 


في اليوم التالي

استيقظ جاسر على ميعاده اليومي بعادة من كثرة التكرار جعلته لا يحتاج للمنبه، التف بجواره فلم يجدها على الفراس، نهض يهتف بإسمها حتى استمع صوت المياه بحمام الغرفة، خمن من نفسه استعدادها لتجهيز نفسها للذهاب لمقر عملها معه، فاستغل فرصة انتظارها في النظر سريعًا بحاسوبه، ليتفقد الأخبار الاقتصادية واحوال البورصة، لم يشعر بتأخرها إلا بعد خروجها ونظره بالساعة ليبادرها قائلًا:

- صباح الفل، كل دا تأخير في الحمام؟

اومأت بكف يدها أمامه كإشارة قبل أن ترتمي على تختها منكفئة على وجهها بتعب ظاهر، شعر بالقلق لمشاهدتها بهذا الوهن فانتفض سريعًا ليقترب منها ويطمئن عليها:

- زهرة مالك ، هو انت حاسة بحاجة تعباكي؟

زامت بفمها قليلًا لتردف بصوت مجهد:

- مش عارفة يا جاسر، انا كل يوم بحس بجســ مي مكســ ر كدة ومعاه شوية تعب، بس انا بغلب كسلي واكمل عادي، لكن المرة دي مش قادرة وحاسة ان الموضوع أكتر بكتير .

انتفض عنها مرددًا بفزع:

- يا نهار اسود، يعني انتي ماشية بتعبك دا كل يوم وبتداري، ومفكرتيش تتكلمي غير لما وقعت خالص، عايزة تموتيني يازهرة؟

سمعت صيحته لتردف بالبكاء:

- وطي صوتك يا جاسر ، انا تعبانة أصلًا وفيا اللي مكفيني. 

زاد الإرتياع بقلبه كما ازداد الغيظ منها ومن إصرارها على إرهاق نفسها في العمل يوميًا معه، رغم تشديده  بالنصح دومُا نحوها، جز على أسنانه شاعرًا بالعجز عن التصرف السليم مع حالتها فهذه الإعراض الإنثوية لم يتصادف بها قبل ذلك مع زوجته الأولى، ولم تكن له أخوات حتى يعرف منهن، بحيرة وتفكير سريع هداه عقله ليتحرك ويغادر الغرفة للبحث عن والدته وسؤالها قبل الإتصال بطيببتها الخاصة.


❈-❈-❈ 


بعد قليل 

كان منضمًا مع والده في الطابق السفلي ينتظر خروج الطبيبة من عندها على نار تنهش قلبه في القلق عليها وعلى الجنين أيضًا، يقطع الطرقة بتوتر لم يهدأ ولو لثانية واحدة.

- يابني اهدى خايلتني، اترزع واقعد بقى في أي حتة عشان انا قرفت منك .

هتف بها عامر بنفاذ صبر منه ومن توتره الذي عاد عليه بالقلق أيضًا، لم يحتمل جاسر قول والده فصاح بغير سيطرة على انفعاله:

- مراتي فوق تعبانة بالجنين اللي في بطنها وبتقولي اهدى ، مش قادر تتحمل ابنك في الدقايق القليلة دي يا عامر باشا.

زفر عامر يقلب عينيه بعدم رضا قبل أن يحادثه بمهادنة:

- يا بني يا حبيبي افهم، العصبية دي مافيش منها فايدة، وانا غرضي تصبر شوية على ما تخرج من عندها الدكتورة، وان شاء تطمنك وتطمنا معاك .

صمت يرى فعل كلماته على وجه ابنه الذي صمت يتمتم بالدعاء، فتابع له بلغته الهادئة:

- ممكن بقى تيجي تقعد جمبي كدة، وكمل لها دعا مع نفسك .

تنهد جاسر يغمض عينيه بتعب قبل أن يذعن لمطلب والده وجلس على المقعد المجاور له، فخاطبه برجاء:

- انا بجد مش هقدر اهدى ولا احس براحة غير لما اطمن، ممكن تدعي من قلبك ياوالدي. 

تمتم سريعًا عامر بالدعاء قبل أن يعود لابنه سائلًا:

- يعني متعرفش السبب الحقيقي لتعبها؟

انتفض جاسر يرد بدفاعية:

- والله ما اعرف ياعم، انا صحيت من النوم لقيتها تعبانة وبس كدة.

- بس كدة!

رددها عامر بنظرة ماكرة بطرف عينيه اثارت انتباه جاسر الذي هتف به سائلًا بريبة:

- أمال هيكون في إيه تاني بس؟.... إنت بتبصلي كدة ليه؟

ختم جملته لينتفض من محله على صوت الطبيبة ووالدته وهن يهبطن الدرج بعد خروجهن من عند زوجته وفحصها، اقترب يتلقف المرأة ويوقفها على سؤاله:

- زهرة عاملة أيه يا دكتورة؟

أجابته المرأة الأربعينية بابتسامة مطمئنة:

- خير متقلقش، هي بس ترتاح كويس اليومين دول على سريرها مع الادوية والنصايح اللي دونتها تمشي عليها وربنا يستر إن شاء الله. 

تابع بسؤاله متلهفًا:

- بجد يا دكتورة يعني مافيش حاجة اكتر من كدة؟

- هي بس ترتاح وان شاء الله ربنا يستر. 

قالتها قبل أن تستاذن للمغادرة بصحبة والدته ، فلم ينتظر هو ليصعد الدرج سريعًا إليها. 


❈-❈-❈ 


وفي الغرفة 

وفور أن وصل إليها دلف بخطواته السريعة نحوها مرددًا بقلق وقبل أن ينضم بجوارها على الفراش:

- عاملة إيه دلوقتي يا زهرة؟ انا الدكتورة طمنتني تحت.

أومأت له بصمت وهي مستسلمة للمساته الحانية بكفه يده على أعلى رأسها ثم همست بتردد:

- انت سيبتني لوحدي ليه يا جاسر مع والدتك والدكتورة؟ دي كانت بتسألتي أسئلة محرجة.

قطب جبينه يردد باندهاش من قولها:

- محرجة إزاي يعني؟

وقبل أن تتمكن من إجابته انتبهت على طرق باب الغرفة المفتوح بخفة ليلج منه عامر بابتسامته الودودة دائمًا:

- صباح الفل ع القمر مرات ابني وام الغالي، عاملة إيه يا زهرة؟

بادلته بابتسامة مشرقة منها رغم تعبها لتُجيبه:

- كويسة يا عمي والحمد لله، ربنا يخليك .

- ويخليكِ انتِ كمان، يالا بقى شدي حيلك وراعي لنفسك اليومين دول عشان تقومي، الدكتورة نبهت ع الراحة واحنا لازم نسمع الكلام .

- والتغذية السليمة كمان يا عامر؟

تفوهت بها لمياء بعد عودتها مرة أخرى للغرفة، وردد خلفها زوجها:

- اَه طبعًا التغذية، دا الغذا اهم شئ للجنين والأم، دي حاجة مش محتاجة كلام دكاترة.

نهى جملته عامر ليتفاجأ بهتاف زوجته نحو ابنها:

- وانت قاعد هنا ليه؟ مش وراك شغل بقى ومتأخر عليه؟.

اعترض بهز رأسه من مكاني النهاردة، هقعد جمب مراتي .

صاحت لمياء بوجهه ترد على كلماته باستنكار:

- وتقعد جمبها ليه يا حبيبي؟ الدكتورة طلبت الراحة للأم والجنين، مقالتش الأب كمان معاهم، ثم انت بالذات بقى لازم تقوم من جمبها.

قالت الأخيرة وهي تجذبه من ذراعه وتأخذ هي محله بجوار زهرة، ردد جاسر باعتراض متخصرًا:

- وانا ليه بالذات بقى إن شاء الله؟

- عشان الدكتورة يا حبيبي شددت بالقوي ع الراحة، ولا انت مش فاهم يعني الراحة؟

رددتها لمياء بمغزى اثار اندهاشه مع ضحكة عالية من عامر مما اضطر زهرة لتخبئة وجهها بغطاء فراشها من الحرج، ليتطلع هو نحو والدته بغيظ لا تابه به لمياء، قبل أن يسمع لوالده الذي هتف من بين ضحكاته وهو يسحبه معه:

- تعالي يا حبيبي تعالي، كان لزومو إيه بس تقف في وش القطر؟

انتظرت لمياء وهي تتبادل مع ابنها حرب النظرات الصامتة حتى خرج نهائيًا من الغرفة، لترفع الغطاء عن وجه زهرة تخاطبها:

- قومي يا زهرة عشان تفطري على ما عبده يجيب الدوا من الصيدلية. 


الفصل الرابع والخمسون 


وصلت إلى مقر عملها تجر أقدامها جرًا، ليس تعب؛ ولكنها حالة من الفتور جديدة عليها، وقد تلبستها منذ عدة أيام بعد أن كان الحماس رفيقها دائمًا، في رحلة البحث لإثبات نفسها في المجال الذي تعشقه دون مساعدة من أحد، رجل كان أو امرأة، قبل أن تسقط جبرًا في فخ هذه الدائرة الطاحنة في الصراع مع قلبها الذي خانها لأول مرة، بعد مقاومة استمرت لسنوات، حتى ومع لجوئها لاتخاذ طريقًا مغاير، لتجد نفسها سقطت في بئر اَخر مزدحم بالغموض والمستقبل المبهم مع شخص تكتشف فيه يومًا بعد يوم خيبتها في اتخاذ قرارًا مصيري كهذا، حينما لجأت إليه بالهرب من الاَخر وقد توسمت به الخير مع الفكرة التي ترسخت بعقلها من البداية، وهي عدم تكرار الخطأ بالموت عشقًا إن تركها!

أما الاَخر وقد ظنت أنها نجت من فخه، لم تكن تعلم أن جحيمه في البعد أقوى.

مازال قلبها يأن من الوجع بل وزاده شيئًا اَخر ، وهي الغيرة التي في غير محلها!


تنهدت بثقل وهي تخطو لداخل المصعد لكي تصل إلى وجهتها في الطابق المقصود، والذي يحمل غرفة مكتبها، مقابل غرفته. 

ولكن وقبل أن يتحرك بها للأعلى، فوجئت بها تقتحم المساحة الضيقة لتنضم معها، بهيئتها التي تخطف الأنفاس وهذا الجمال المبهر، ورائحة العطر القوي التي هبت معها لتزكم انفها، تتحدث لاهثة:

- الحمد لله اَخيرًا وصلت. 

قالتها ثم التفت لكاميليا تخاطبها:

- صباح الخير يا فندم. عاملة إيه النهاردة؟

حتى صوتها الناعم يصل إلى المستمع كأنه اَلة موسيقة تغرد وحدها في الفضاء لتطرب الأسماع:

- حضرتك هو في حاجة يا فندم؟ اصل بكلمك وانتِ ما بتروديش عليا:

قالتها لينا في محاولة أخرى للفت انتباهاها وقد أسهبت في الشرود وتجاهلها ، نفضت رأسها كاميليا لتجيبها بلهجة عادية:

- لا اطمني يا لينا مافيش حاجة، أنا بس سرحت في حاجة كدة تخصني.... لكن انتِ إيه أخبارك بقى؟ مستريحة في الشغل هنا معانا؟

سألتها بمغزى تقصده، وكانت إجابة الأخرى بتطويل كعادتها:

- الحمد لله يا فندم، الشغل هنا على قد ما هو كتير، بس برضوا الواحد مبسوط عشان لما بأدي فيه بإخلاص بلاقي نتيجة لجهدي، ميزة الشغل هنا،  إن فيه تقدير للموظف من رئيسه. 

طحنت بداخلها وقد علمت بمقصدها جيدًا فقالت متابعة بفضول وابتسامة صفراء ارتسمت على وجهها:

- يعني انتِ قصدك إن مستر طارق كويس معاكِ  ومبسوطة معاه؟

رفعت رأسها لينا عن بعض الملفات التي كانت تراجعها سريعًا، لتجيب بابتسامة حالمة:

- جدًا يا فندم جدًا. 

قالتها وتوقف المصعد فجأة لتسأذن للخروج ، متغافلة النظر عن كاميليا التي نست نفسها وضغطت على شفتيها بأسنانها حتى كادت أن تدميها من الغيظ، لتخرج بعدها زافرة بحريق قبل أن تنتبه على الورقة التي سقطت منها في أثناء سيرها السريع فخطت حتى اقتربت تتناولها بظنٍ انها تخص العمل ، ورغبة شريرة تدفعها لفش غيظها بها كموظفة مهملة في عملها،  هذا إن صدق تخمينها، لتُفاجأ بمحتوى المكتوب في الورقة  بعد أن ألقت نظرة سريعة وشاملة في القراءة، لترفع رأسها بعد ذلك مغمغمة بقهر:

- وكمان بتجيبلوا اشعار يقراها، ودا انت اللي كتباها ولا هو اللي كاتبهولك؟ ماشي يا طارق!


❈-❈-❈ 


استيقظت من نومها على أثر الحركة من حولها، فتحت عينيها لترى خياله وهو يخطو لداخل الغرفة بالفنجان الكبير بيده، حتى وصل إلى الكنبة الجانبية في الركن القريب والتي أصبحت مقره منذ وعكتها الاَخيرة وإصرار لمياء على ابتعاده عنها وعدم مشاركته لها النوم على التخت.

رفع الغطاء عن مكان نومته بإهمال ليضعه على احد المقاعد المجاورة، وتناول الوسادة ليضعها خلف ظهره بعد أن مد بأقدامه عليها ليضع عليهما الحاسوب لينشغل به كالعادة قبل الذهاب إلى عمله.

اعتدلت بجذعها لتجلس مستندة بذراعيها تتأمل عبوس وجهه وتجهمه بابتسامة متسلية، وهي الأعلم بكم ما يحمله من غيظ بداخله الاَن، مع ضغط لمياء ومشاكسة عامر الدائمة له.

نهضت لتسير على أطراف أصابعها بنية واضحة لمفاجأته، ولكن وكالعادة بهذا الحس البوليسي الذي يملكه فاجأها بالتفاف رأسه إليها بحدة وترقب، ليفتر فاهه بابتسامة بمفاجأتها رغم بؤسه بعد ذلك :

- كنت عايزة تخضيني صح؟

ارتخت ذراعيها عما كانت تنتوي لتردف إليه بإحباط:

- واعملها ازي دي وانت ولا كأنك مركب ردار في قفاك من ورا؟

أطلق ضحكة مدوية بصوته العالي أسعدتها ليرد معقبًا على عبارتها:

- يا حبيبتى ما انا كذا مرة اقولك ماتحاوليش، أنا عندي ودان بتجيب دبة النملة وحاسة شم اقوى منها كمان، وانتي يا قلبي مكشوفة قوي بالنسبالي مهما حاولتي.

تبسمت تقول برضا ما تشعر به بعد أن انزاح عبوس وجهه وتجهمه:

- مكشوفة مكشوفة يا سيدي، اهم حاجة انك ضحكت. 

سمع منها ليشتد وجهه مرة أخرى ويعود لتجهمه، وكأن بقولها قصدت تذكره، فالتف عنها لينكفئ على حاسوبه مرة أخرى، ليرد بلهجة جامدة:

- الف شكر يا ستي على مجهودك .

صدمها قوله ليثير الغضب بداخلها، فاقتربت لتجلس بجواره على طرف الكنبة ترد بغيظ:

- متشكرين يعني إيه بقى؟ فيه إيه يا جاسر؟ هو انا ليه حاساك كدة شايل ومعبي مني من يوم ما تعبت؟

رمقها بنظرة حانقة قبل أن يومئ بعينيه لها بتنبيه قائلًا:

- طب حسبي يا ماما وانت قاعدالي ع الطرف، لتتزحلقي بضهرك ولا تميلي كدة غلط، فتيجي طنت لميا تجيبها فيا .

تقربت لتزحف أكثر بجواره على قصد تقول بمناكفة مع ابتسامتها:

- طب ما توسعلي طب شوية عشان مقعش ولا انت عايزانى اقع؟

ارتفع حاجبًا واحدًا باندهاش من فعلها الجرئ والمفاجئ ، ليرد متصنعًا الحزم يكتم ابتسامة ملحة:

- إبعدي يا ست انتِ أحسنلك، مش ناقص تحرشات ولا مصايب على اول الصبح، انا راجل ماشي في حالي وجمب الحيط.

سمعت منه لتنفـ جر ضاحكة حتى مالت بظهرها للخلف، فلحقها على الفور بذراعيه، مرددًا بلهفة حقيقية:

- امسكي نفسك شوية بقى يا زهرة، أنا بتكلم بجد والله. 

اوقفت ضحكها لتجيبه وهي تعتدل بجلستها:

- يا جاسر ما تخافش اوي كدة، أنا لو مش كويسة ماكنتش هاجي ولا اغلس عليك، طب دا انا كنت عايزة اقولك كمان ان اقدر اروح معاك الشغل النها.......

- إيييه؟

تفوه بحدة يقاطعها قبل أن تكمل جملتها ليصيح بارتياع حقيقي:

- دا مش هزار بقى وانتِ قاصدة بجد، فيه إيه يا بنتي؟ أهم حاجة دلوقتي صحتك انتِ والطفل يا زهرة الشغل مش هيطير.

مالت نحوه قائلة بنعومة لأقناعه:

- يعني انت محنتش لقعدتي معاك في المكتب؟ ولا قهوتنا اللي بنشربها مع بعض في كل بريك، انت تاخدها سادة وانا اخدها باللبن كالعادة؟

تسمر ينظر لها باشتياق، فكل هذه الأشياء التي ذكرتها لا تأتي شيئًا بجوار شعوره بالقرب دائمًا منها وتحت عينيه التي لا تمل من النظر إليها عبر الشاشات كل دقيقة. 

- أممم

زامت بفمها المغلق تهز رأسها بتساؤل وترقب، ليأتي قوله الحاسم؛

- لأ يا زهرة، قولنا ما فيش شغل يعني ما فيش شغل، وانسي الكلام ده دلوقتي خالص أحسنلك.

ردت بمجادلة لقوله:

- أيوة بس انا حاسة بنفسي كويسة النهاردة واقدر اخرج معاك واشتغل كمان، أصل بصراحة بقى قرفت من النوم والحبسة في البيت وانا مش متعودة على كدة.

طحن أسنانه بغيظ من إصرارها الذي أدى للنتائج التي هم بصددها الاَن، فقال يذكرها:

- تاني برضوا عايزة تعملي اللي في دماغك يازهرة؟ طب افتكري الخوف اللي كان هيوقف قلبي لتحصلك حاجة انت ولا الطفل ساعتها، ولا افتكري حتى عمايل لميا وتحكماتها ولا انت مش واخدة بالك اني لسة بنام ع الكنبة ها؟ 

خرجت الاَخيرة بغيظ شديد جعلها تبتسم بتسلية فقالت تجفله ببساطة ما تتفوه به:

- طب ما تيجي مكانك هو انا منعتك، ما انا بقول اهو إني خفيت.

تدلى فكه ليضغط عليه بكف يده وقد بالغت في استفزازه:

- إنتي عايزة تجننيني يا زهرة؟ بقولك لميا وتحكماتها ولا تريقة السيد الوالد كمان عليا في الطالعة والنازلة، الناس دي ضميرها مش سالك، عشان تبقي عارفة. 

انفعاله مع ما يتفوه به من كلمات وهو يُظهر حجم معاناته، جعلها تضحك بلا توقف لتزيد من عصبيته مع تحكم هائل حتى لا يغلق فمها بقبلة كبيرة يفرغ بها اشتياقه لها الذي يؤرق مضجعه وهو معها وبنفس الغرفة ولا يستطيع الإقتراب منها.

انتفض فجأة على صوت طرق على باب غرفته، وقد خمن وحده بالطارق قبل أن يصدر صوتها:

- يا جاسر، يا زهرة هو انت صحيتوا يا ولاد ولا لسة؟

أشار لها بسبابته لتفهم وحدها ليهمس من تحت أسنانه:

- شايفة نتيجة عملك واللي وصلتينا ليه؟

اومأت بكفيها أمامه باستسلام مع ابتسامة مستترة وهي تنهض ذاهبة لتختها لتنضم بالفراش مرة أخرى كطفلة مطيعة، وهو يتابعها بغيظ ضاغطًا بأسنانه على شفته السفلي، قبل ينهض على الطرق المتواصل ويقوم بفتح الباب لوالدته مع غمغمة واضحة :

- ما اديني جاي يا ستي، هو انتِ مصدقت رجلك وخدت على الأوضة ولا إيه؟

- صباح الخير يا عيون ماما. 

تفوهت بها لمياء على عجالة بقبلة على وجنته كتحية فور رؤيته، لتلج سريعًا بداخل الغرفة، فذهبت عينيها على الاَريكة أولًا كاطمئنان قبل الإنتقال إلى الناحية الأخرى عند زهرة، لتبادرها بالسؤال الإعتيادي:

- عاملة إيه النهاردة يا زهرة؟ حاسة نفسك كويسة؟

اعتدلت تجيبها بابتسامة ودودة لرعايتها الدائمة لها طوال الأيام السابقة:

- كويسة والحمد لله، دا انا حتى لسة كنت بقول لجاسر. 

التفت إليه لمياء لترمقه بنظرة مرتابة رغم مخاطبتها لزهرة:

- والله، وكنتٍ بتقوليله إيه بقى؟ 

لوح بكفيه أمامها بقلة حيلة يردد لها باندهاش:

- يعني هتكون بتقولي إيه بس يا ماما؟ هو انتو ليه كدة نيتكم بقت وحشة ناحيتي؟

حدجته بطرف عينيها متجاهلة الرد عليه، لتتجه للأخرى  قائلة بجدية:

- طيب ياللا قومي يا زهرة اغسلي وشك وفوقي على ما اروح انا وانبه على الخدم يحضروا الفطار عشان تاخدي الدوا في ميعاده، وما تنسيش ان النهاردة ميعاد الدكتورة عشان تشوفك .

أومأت لها بحرج فخرج صوتها على تردد وعينيها تنتقل نحو جاسر تبتغي الدعم 

- لا ما انا بقول نأجل زيارة الدكتورة النهاردة عشان ....

- عشان أيه يا زهرة؟

سألتها لمياء باهتمام لتجد الرد جاءها من الخلف حيث قال جاسر:

- خال زهرة وستها جاين النهاردة يشوفوها بعد الضهر،  ومعهم نوال خطيبته، أنا عزمتهم امبارح وهرجع من الشغل بدري أن شاء الله واستقبلهم.

التفتت إليه لمياء صامتة قليلًا بتفكير قبل أن تحسم أمرها قائلة:

- اه وماله يأنسو ويشوفوا طبعًا، عن إذنكم بقى  

تابعتها زهرة حتى خرجت لتهمس لجاسر:

- هي زعلانة؟

نفى بهز رأسه على ثقة يجيبها قبل أن يجفل منتفصًا على صوت والدته التي عادت مرة أخرى إليه هاتفة من مدخل الباب:

- وانتِ صحيح يا جاسر كفاية واقوم بقى، اتأخرت على شغلك .

اومأ لها يحرك رأسه بأعين متوسعة بذهول ليلتف بعد ذلك لزهرة التي وجدها خبئت وجهها بين كفيها غير قادرة على التوقف من الضحك بصوت مكتوم .


❈-❈-❈ 


خرجت بعد انتهاء دوام عملها من الشركة، لتجده واقف بجوار سيارة رئيسه، يعطيها ظهره بتعمد لعدم النظر إليها ، وقد بدا واضحًا انه انتبه على خروجها ليأخذ حذره سريعًا كباقي الأيام السابقة، من وقت معروف عمله معها بإنقاذها مرتين، الأولى كانت بإنقاذها وسمعتها من براثن الخطيئة والوقوع فيها على غير وعيها، والثانية بفعل شقيقته حينما ذهبت معها تؤازرها في مواجهة والديها.

تذهب وتجئ أمامه ولا مرة حدثها أو ناكفها كعادته، أو حتى يلقى على مسامعها من هذه الاغاني الممتزجة بغزله، وهي التي ظنت بأنه سيأخذها فرصة ليزيد على أفعالها معها، ولكن لماذا يكتنفها الحزن الاَن وقد رحمها مما كانت تضيق به سابقًا؟ لماذا تشعر وكأن شيئًا ما ينقصها؟! وكأن بتجاهله لها قد ترك فراغًا لم تحسبه من قبل!

حسمت قرارها هذه المرة مبادرة لفك هذا الجمود ، وجسرت نفسها لتقترب وتحدثه رغم وقوفه مع صديقه عبده السائق .

- السلام عليكم ممكن كلمة يا إمام .

أجفل من فعلتها حتى أن لسانه انعقد عن الرد والذي تكفل عبده به باستيعاب سريع :

- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، طب انا هروح اجيبلي حاجة اكلها يا صاحبي ومش هتاخر .

القى كلماته الرجل وهو يغادر من جوراهما ليخرج صوت إمام اَخيرًا بعد أن تحمحم يجلي حلقه:

- اهلا وسهلًا، احنا تحت الخدمة .

لهجته الرسمية وعدم النظر لعينيها مباشرةً مع هذا التجاهل المسبق جعلها تبتلع غصة مريرة بحلقها ، وقد تأكدت من صدق التخمين الذي طرأ برأسها فخرجت كلماتها بصعوبة:

- انا نزلت في نظرك صح؟ 

سألها متفاجئًا:

- ليه بتقولي كدة؟ هو انتِ شوفتي مني حاجة تأكد كلامك ده؟

أومأت برأسها وقد غشت عينيها سحابة خفيفة من الدموع على وشك النزول، لتردف بصوت مبحوح:

- مش لازم تقول ولا تبين، رد فعلك نفسه واجتنابك حتى النظر إليا، يأكد الفكرة اللي في دماغي، بس انا ممكن تكون فيا كل العبر ، إلا ان اكون هاملة او ساهلة، والدليل إن انتِ شوفته بنفسك، لما حطولي في العصير اللي يقدر يلغي عقلي لما ما قدروش يميلو دماغي .

اَلمه عن حق ان يراها بهذا الضعف أمامه، حتى ان قلبه كان يصرخ بداخله لكي يربت على حزنها ببعض الكلمات المهونة كي بثبت لها بالفعل انه يعلم بصحة ما تتفوه به بدون قولها ، ولكن كرامته الاَبية الجمت لسانه عن الرد ، فليس هو من يقبل على نفسه باستغلال معروفه لكن يصل لغرضه او مثل ما قالت وبدون أن تدري بإصابة الحقيقة، أن يأخذها فرصة.

أوقفت شروده بقولها الاَخير:

- على العموم انا جيت اقولك بنفسي اللي محشور في زوري، وانت حر بقى، سلام .

أنهت لتتحرك دون أن يوقفها ليزداد يقينها اكثر بما رأته في عينيه، ولكنه أجفلها فجأة بالنداء بإسمها من خلفها:

- غادة. 

التفت إليه ناظرة بتساؤل، ليجيبها بكلمات محددة وغير متوقعة منه:

- وقت ما تحتاجيني ولا تعوزيني في أي وقت انا تحت أمرك، ماتتكسفيش من طلبك ليا في أي شئ، انا  اعتبرتك في مقام خلود دلوقتِ .

أومأت برأسها بحركات غير مفهومة له مع صدمتها بكلماته المفاجئة ثم ما لبثت أن تلتف سريعًا لتطلق سراح دموع في أقصى خيالها لم تظن ان سيأتي هذا اليوم لتهطل منها بسبب سماعها لهذه الكلمات منه، يبدوا أنها أصبحت منبوذة من الجميع، صديقاتها التي خسرتهم في الركض خلف السراب، ثم هو وقد ظهر معدنه الحقيقي معها في أشد أوقاتها احتاجًا .


❈-❈-❈ 


على مكتبها كانت يدها تتلاعب بقلمها لترسم خطوط وهمية بشرودها، فمنذ أن علمت بإسم الرجل زوج المرأة التي حدجتها بكره في حفل عيد الميلاد الذي حضرته، وهي لم تهدأ بالبحث على حذر، والحديث مع بعض الأفراد أقاربه التي التقتهم في مناسبات عدة قبل ذلك ، او حتى مفاتحة المرأة الشابة زوجة الرجل العجوز والدي الطفلة صاحبة عيد الميلاد، ولكن لا شئ أتى بنتيجة تذكر، لا أحد يعلم عن كارم سوى أنه كان على وشك التخرج من كلية الشرطة وحدثت معه مشكلة ادت لخروجه، فيبدوا ان المذكور ووالديه يتكتمون جيدًا على امورهم الشخصية، كذلك لم تعلم عن المدعوة ندى سوى بقرابتها لكارم بصفتها إبنة عمته، وزوجها صاحب المشكلة التي يقتــ لها الفضول لمعرفتها، علمت أنه يعمل في دولة أخرى ولا يجئ للبلد سوى في الاَجازات مع زوجته!

يكتنفها شعور قوي بالعجز وقلة الحيلة وبحثها الذي ينتهي دائمًا بالفشل، وقد استغلت أيام سفره للخارج منذ عدة أيام لتأدية بعض المهام الخاصة بعمله، بالنيابة عن جاسر الريان الذي لم يقوى على السفر وترك زوجته في وعكة حملها، فجاءت كل محاولتها دون جدى، ولكن يبقى خيط الاَخير هو المتبقي لها رغم خطورته ولكن ما المانع من المحاولة قبل عودته من سفره؟....  حتى لو كان هذا الخيط والدته!

أجفلت من شرودها فجأة على صوت غريب وكأنه صرخات، انتفضت من محلها لتخرج وتستطلع بنفسها الأمر. 

بعد خروجها من غرفتها وضح الصوت أكثر وتزايد حتى علمت بمصدره في جهة الغرفة الخاصة بطارق، إرتجف قلبها من الخوف لتعدوا بخطوات مسرعة كالركض غير مبالية بمظهرها، فكل ما يهمها الاَن هو الإطمئنان عليه، وأن تراه سليمًا معافًا، توقفت فجأة برؤيته خارجًا من الغرفة ويسند بذراعيه هذه المدعوة لينا لتتبين من رؤيتها أنها هي من كانت تصرخ:

- اااه هموت مش قادرة. 

- خلاص يا لينا اتحاملي على نفسك شوية، كلها دقايق واوصل بيكِ المستشفى. 

كان هذا قاله في التهوين على الفتاة قبل أن تقع عينيه عليها، وينتبه على وقفتها متخشبة وسط الرواق، فهتف يفيقها من زهولها:

- كاميليا تعالي سنديها معايا أرجوكي وساعدينا .

أجفلت بندائه لتقترب منهما وتسندها من الجهة الأخرى فسألته مندهشة لهيئة لينا المزرية وهي تتأوه بألم شديد ظهر على ملامح وجهها التي تغضنت بشدة:

- هي مالها وبتصرخ كدة ليه؟ 

أجابها طارق بتشتت وعينيه تقيس المساحة المتبقية نحو المصعد، فصراخ الفتاة مع ميله للأسفل بطوله الفارع حتى يقترب من مستوى قصرها يجعل الأمر مرهق بالفعل عليه:

- معرفش يا كاميليا والله ما اعرف، انا خرجت من مكتبي على صوت صريخها ده وهي بتضرب بكفوفها على سطح المكتب اللي كانت قاعدة عليه .

عادت بالسؤال كاميليا إلى لينا نفسها:.

- إيه اللي حصلك ما كنتِ زي الحصان الصبح ؟

أجابتها الاَخيرة وهي تضرب باقدامها على الأرض من الألم وصوت باكي :

- معرفش معرفش، كان ألم بسيط في البداية وبعدها اتطور بالشكل القوي والغير محتمل ده، انا مش قادرة مش قادرة. 

فاض به طارق ليتوقف فجأة متمتمًا بضيق:

- إحنا كدة بالمنظر ده مش هنوصل للصبح حتى، إبعدي كدة يا كاميليا. 

- أبعد ليه؟

سألته المذكورة باندهاش لتفاجأ به يدنو للأسفل ثم يقوم برفع لينا بين ذراعيه مرددًا:

- كدة أحسن بقى عشان اخلص 

قالها ليعدو بسرعة وكأنه لا يرفع بيده شئ، شهقت متفاجئة بغيظ ولكنها تمالكت لتلحق بيه مرددًا:

- أنا كمان جاية معاكم، عشان اطمن بنفسي 


❈-❈-❈ 


- أهلا وسهلا يا حجة نورتينا. 

قالها عامر في بداية ترحيبه برقية بجلسته معها وخالد وخطيبته نوال، بادلته رقية التحية بابتسامتها المشرقة دائمًا:

- دا نورك يا باشا، البيت منور بأهله واصحابه.

طب انت عارفاني بقى يا حجة؟

قالها عامر بعفوية ليفاجأ بشهقة عالية من رقية مع ردها إليه:

- طبعًا عارفاك، لهو انت فاكرني كبيرة في السن ولا مخرفة عشان جدة يعني وعندي حفيدة لأ يا باشا، دا انا متجوزة على ١٤ سنة يعني مش بعيد اطلع اصغر منك

- ماما!

هتف بها خالد بصدمة ولتنبيه والدته أما عامر فاطلق ضحكة عالية دوت بقوة نحوهم ليقول بعدها:

- مالكش دعوة يا عم انت، خليك مع البت الحلوة اللي جامبك دي، وسيبنا انا والحجة ما تتحشرش بينا.

قالها بإشارة لنوال التي أصابتها عدوى الضحك هي أيضًا، أما خالد فزفر لفعل والدته التي رمقته بتحدي غير مكترثة، قبل تعود لعامر الذي شاكسها بمرح:

- طب بقولك إيه يا ست رقية ، ما تجيبي تاريخ ميلادك وانا اجيب تاريخ ميلادي وتشوف مين فينا الأكبر. 

ردت رقية بسرعة بديهة:

- تاريخ إيه ؟ بقولك إني على اتجوزت على ١٤ يعني سننوني في الشهادة تسنين عشان المأذون يكتب كتابي، دا يمكن اطلع اصغر من كدة كمان 

ضحك من قلبه عامر مع رده لها:

- لا دا انت شكلك زكية اوي ومحدش بقدر يغلبك.في الكلام.

همت رقية للرد لكن الكلمة توقفت على لسانها وهي ترى لمياء وهي تهبط الدرج وتقترب منهم ، لتتمتم لعامر بعفوية:

- يا ختيي مين الست الحلوة ام عيون خضرا دي؟ هو جاسر له أخوات؟

برقت عينيه عامر سريعًا مع ابتسامة مستترة واقترب منها ليهمس لها بتحذير:

- اخته مين يا ست؟ دي والدته، حاولي بقى ما تقوليش كدة قدامها لتشوف نفسها عليا وانا مش ناقص. 

استجابت له تهمس هي الأخرى:

- عندك حق الستات بتسمع كدة وتسوق فيها .

- بيتوشوشوا في إيه دول؟

غمغم بها خالد بدهشة وهو يرى الإندماج السريع ببن عامر ووالدته، لينتبه فجأة على اقتراب لمياء لتصافحه مرحبة بمودة رغم جمودها الإعتيادي، ثم ابتسامة متوسعة لنوال قبل أن تذهب لعامر ورقية للترحيب بها هي الأخرى قبل نزول ابنها من الطابق الثاني بصحبة زوجته التي شددت عليها بالنصائح المهمة سابقًا، حتى لا تؤذي نفسها والجنين مع لهفته وفرحة بمجئ أهلها .


❈-❈-❈ 


على إحدى مقاعد الإنتظار بالمشفى كانت جالسة تتابعه وهو يقطع الطرقة الصغيرة ذهابًا وإيابًا دون هوادة، وقد تبين خطورة وضع الفتاة بعد ان أجمع الأطباء بصحة التشخيص الأولي لضرورة إجراء سريعًا لأستئصال الزائدة الدودية قبل أن تنفجر بها ويتفاقم الوضع، ليأخذ القرار نيابة عنها وعن الإتصال بأحد أقاربها ويوقع بنفسه على الإجراءات.

حتى الاَن لا يستوعب عقلها جرأته في القيام بهذا الفعل ، وكأن الفتاة يخصه أمرها بشدة، بداية من حملها على ذراعيه ثم إمضاء الإقرار الروتيني لإجراء العملية، ثم هذا القلق الكبير في انتظار خروجها من غرفة العمليات 

- يارب يارب .

تمتم بها في أثناء سيره بالقرب منها،

فخرج صوتها إليه بمؤازرة رغم احتقانها من الداخل:

- براحة شوية يا طارق، وخلي عندك أمل في الله.

التف إليها يردد برجاء:

- ونعم بالله يا كاميليا ونعم بالله .

هتف بها واستند بجسده على الحائط المجاور لها يغمض بكفه عينيه وقدمه في الأسفل تهتز بعصبية ودون هوادة، ليرتد فعله عليها بانفعال لم تقوى على إخفاءه فهتفت به:

- على فكرة الموضوع مش مستاهل القلق دا كلها ، دي عملية عادية جدًا وبتتعمل كل يوم .

إرتفعت عينيه إليها محدقًا بغضب ليسألها بحدة:

- هي ايه اللي عادية وبتتعمل كل يوم يا كاميليا؟ هي تسريحة شعر ولا منوكير هتحطه في أيديها؟ دي واحدة قاعدة في اوضة العمليات وبين إيدين ربنا.

حدته المفرطة جعلتها تكمل بلهجة على وشك البكاء :

- انا بحاول اهديك يا طارق مش قصدي تريقة ولا تهكم، ثم أني بصراحة كمان مستغربة الوضع ، ازاي يعني احنا اصحاب الشغل اللي نبقى معاها في حاجة زي؟ لازم أهلها يعرفوا عشان يجيوا ويشوفوا بنفسهم دي بنتهم .

تنهد قانطًا ورأسه للسماء قبل أن يعود إليها بقوله:

- لينا ملهاش حد يا كاميليا غير والدتها ، ودي ست مريضة سكر بنسبة عالية، يعني ممكن تدخل في غيبوبة من الخوف عليها بمجرد ما تسمع بس .

سهمت قليلًا باستيعاب امتزج بدهشتها لمعرفته لأدق التفاصيل عن هذه الفتاة، ويبدوا أن الأمر بينهم قد فاق توقعها، ولكن جيد ! فهو يستحق من تهون عليه والفتاة شخصية رائعة وتستحق شخص رائع مثله، 


شعرت باهتزاز كرسيها بعد سقوطه بثقل جسده  على الكرسي المجاور لها ، فتكتفت بذراعيها تدعي عدم الإنتباه رغم شعورها بدفئ مفاجئ وصوت أنفاسه الهادرة بتوتره يصل إلى أسماعها بصخب؛ تتمنى الا يتوقف ولا يذهب هذا الدفء ولا أن ترحل من أنفها رائحة عطره وقد اشتاقت لها بشدة.

توقفت عن هذيانها وهذه الأفكار الغريبة لترتفع كفها على رأسها بتعب وصداع قوي ألم بها فجأة ودون استئذان.

ويبدوا أن هيئتها لفتت انتباهه بجوارها أو أنه كان يفعل مثلها بالمتابعة، فسألها:

- إيه مالك يا كاميليا؟ هو انتِ كمان حاسة نفسك تعبانة ولا انت مش متحملة جو المستشفيات؟

- لاا ما تشغلش نفسك...

قالتها وهي تحرك رأسها بنفي لتصطدم عينيها بخاصتيه وقد تفاجأت بقرب وجهه منها وهو يتطلع إليها بقلق، تمالكت لتشيح بوجهها عنه متحمحمة، ثم تتكوم على نفسها بتشبيك كفيها على حجرها، يلفها الإرتباك وسهام عينيه المسلطة عليها تزيدها تشتتًا، انتفضا الإثنان على فتح باب غرفة العمليات أمامهم وكان السبق لطارق ليصل إلى الطبيب ليطمئن على وضع لينا.


بعد قليل

وبعد أن شهدوا بنفسهما على استقرار الحالة ، وقد اخبرهم الطبيب بنجاح العملية، عادا إلى مقاعد الإنتظار مرة أخرى ليجلس هذه المرة متمتمًا بالحمد وكلمات الشكر بارتياح غمر قلبه بالفعل .

- مكنتش اعرف انها غالية عندك قوي كدة؟

قالتها وهي تعود لجلستها على المقعد المجاور، فرمقها بنظرة غامضة ولم يرد، فتنهدت بضيق لتدخلها في ما لا يعنيها، فقالت تسأله على حرج:

- طب احنا كدة نتصل بوالدتها بقى؟

اجابها سريعًا باعتراض:

- لا يا كاميليا، برضوا مش هتصل بيها، انا هنتظر لما تفوق وتبلغها هي بنفسها، كدة الخبر هيبقى أسهل بكتير عليها، لو انتِ عايزة ممكن تروحي ، لكن انا مش هتحرك من هنا.

أطبقت بشفتيها بغيظ حاولت كبته بصعوبة مع قولها:

- دا انت بينك بتحبها وغرقان في العشق كمان.

حرك رأسه باستفهام رغم فهمه لما تقول :

- هي مين؟

مالت نحوه تحدجه باستنكار لمرواغته قبل أن ترد :

- بلاش يا طارق تلف وتدور معايا في الكلام، يعني هكون بتكلم على مين؟ على لينا طبعًا...

تكتف يقلدها ليحدق بها بصمت احرجها وزاد باضطرابها لتلتف بجذعها عنه تود لو تنشق الأرض وتبتبلعها، من أمامه، فتدخلها الأحمق قد زاد عن الحد المسموح، همت لتستأذن مغادرة حتى  ترحم نفسها وتكتفي بهذا القدر من غباءها ولكنه أجفلها بقوله:

- لينا زي اختي!

- هه قديمة .

صدرت منها سريعًا بدون بتفكير فجعلته يبتسم بمرح، لتكتم شهقة حماقتها سريعًا وهي تعود لتبتعد بوجهها عنه، وتلعن بداخلها سيل غباءها الذي يفيض منها اليوم بلا توقف.

أشفق قلبه عليها فهتف بإسمها لتلتف إليه:

- كاميليا ممكن تبصيلي؟

لم تجيبه وظلت على وضعها وكأنها لم تسمع، ولكنه أعاد بطلبه:

- ثواني بس عايز احكيلك حكاية؟

تسمرت رافضة النظر إليه ولكنه ألح بطلبه حتى رفعت رأسها لتجده رافعًا كفه أمامها يشير على الثلاث اصابع الأولى يقول:

- احنا كنا تلاتة ، انا وجاسر وصاحبنا التالت كان اسمه رمزي، مدرسة واحدة، جامعة واحدة وقاعدة واحدة، حتى بيوتنا كانت واحدة برضوا، على الرغم ان رمزي مكانش من وسطنا، وعيلته كانت اسرة متوسطة الحال، بس بيتهم بقى كان اكتر قعادتنا فيه عشان دفا الأسرة اللي كنا مفتقدينه مع انشغال اهالينا أنا وجاسر دايمًا، واللي كانت بتعوضه والدة رمزي بطيبتها وحنانها معانا ومعاملتنا احنا الاتنين زي ابنها بالظبط، الست الطيبة دي بقى جابتلنا طفلة جميلة أخت لرمزي واحنا شباب كبار كدة في ثانوي ، نفس عيون رمزي لكن اَية في الجمال،  كانت بتكبر قدام عيونا 

وبقت الكتوتة بتاعتنا ودلوعتنا احنا التلاتة، حركتها كانت كتيرة أوي وشقية زيادة عن اللزوم ومبتقعدتش على حيلها أبدًا دا غير ذكائها الشديد، رمزي بقى لما كان بيدلعها يقولها إيه.......

قطع بنظرة معبرة جعلتها تعقد حاجبيها بتفكير ثم خمنت بابتسامة تجيبه:

- اللهلوبة! 

أومأ برأسه ليظهر صف أسنانها الأبيض مع ابتسامة متسعة بارتياح، لتسأله بعد ذلك بتذكر:

- يانهار ابيض يعني الحكاية دي كلها كانت على لينا؟ أمال هو فين رمزي ده؟ انا عمري ماشوفته؟

تبدلت ملامحه الضاحكة لأخرى حزينة فجأة ثم أجابها:

- رمزي مات في حادثة عربية مع والده ولينا مكنتش مكملة ساعتها العشر سنين .


الفصل الخامس والخمسون 


لا يشعر بالألم سوى من مر به .

ومن يرى مصائب الخلق تهُن في نظره مصائبه


كانت تذرف الدمعات بلا توقف، تمسح بالمنديل الورقي ولا يجف السيل المتدفق بغزارة لمدة طالت لما يقارب النصف ساعة، حتى جعلته يزفر قائلًا:

- ماتخلنيش اندم اني قولتلك يا كاميليا. 

ضغطت بعينيها قليلًا تحاول تمالك نفسها حتى تمكنت من الرد اَخيرًا بصوت متهدج من فرط ما تشعر به:

- أصلها صعبت عليا أوي ، والغريبة ان ما يبانش عليها خالص .

تنهد طارق يجيبها بكلمات قاصدًا كل حرف منها:

- ماهي مش دايمًا المظاهر بتبين معادن الناس يا كاميليا، ممكن اللي تفتكريه دهب يطلع قشرة، أو إن تبهرك لمعة الماس جميلة قدامك وفي الاَخر تطلع إزاز يجرحك. 

وصلها مغزى كلماته لتتوقف الدموع على الفور فرفعت رأسها إليه لتواجه خاصتيه بعينيها وتجيبه مباشرة وبدون مواربة:

- ومين قالك ان اختياري كان بناءًا عن إعجاب بمظاهر أو انبهار .

ضيق بعينيه يستوعب كلماتها ليسألها بحيرة يكتنفها غضب مستتر:

- أمال كان بناءًا على إيه يا كاميليا؟

أسبلت أهدابها ثم رفعتهم سريعًا لترد بشبه ابتسامة غير مفهومة:

- ما فيش فايدة من الكلام يا طارق، عشان انا عارفة إني مهما شرحت ماحدش فيكو هيفهمني. 

- عشان كدة بنتفذي اللي في دماغك على طول من غير ما تحكي ولا تاخذي رأي حد؟ حتى لو كانت زهرة أقرب الناس إليكِ؟

تفوه بسؤاله ولم ينتظر كثيرًا حتى أجابته:

- زهرة بريئة وطيبة جدًا، ومشاعرها مش حمل العقد اللي جوايا، أنا اتكيفت على الوحدة حتى لو سط الناس كلها، اسراري جوا قلبي وما فيش داعي أن ازيع بيها.

بهزة خفيفة برأسه اومأ لها بتفهم ليكمل بقوله:

- ومع ذلك بتحكي لوالدتك !

هذه المرة اعتلت وجهها إبتسامة حقيقية رغم الأضطراب الذي ظهر في صوتها:

- قالتلي صحيح على اتصالك بيها، بس هي إيه ذنبها يا طارق؟ العيب فيا انا ، انا المعقدة.... هي مالها؟

برقت عينيه بشدة وتدلى فكه بدهشة قاربت الذهول ليردف بعدم تصديق:

- مالها ازاي يعني؟ هو انتِ بتهزري ولا بتتكلمي جد؟ مش هي دي الست اللي حكيتلي عنها برضوا ؟ ولا و

دوكها كانت واحدة تانية؟

- لأ هي يا طارق.

قالتها كإجابة عن سؤاله ثم تابعت بتنهيدة من العمق:

- بس برضوا أمي، يعني مهمها حصل ما بينا وانا شيلت في قلبي منها، دا مش هينفي صلة الدم اللي مابيني وبينها .

زفر يلتف عنها بتعب، فهذه المرأة تبدوا وكأنها بحر من الألغاز لا ينتهي أبدًا، مهما حاول واعتقد أنه وصل لفك شفرتها وفهمها، يعود لنفس نقطة البداية.

- هي لينا بتكتب شعر؟

قالتها لتأخذه من شروده، بإعادة جذب انتباهه لها، هز برأسه كاستفسار لعدم تركيزه في ما تفوهت بها،  فتابعت بإعادة السؤال:

- بسألك عن لينا لو بتعرف تكتب شعر، أصلي اتفاجأت بورقة وقعت منها الصبح، كنت فاكراها من اوراق العمل، لكن لما قريت استعجبت بصراحة. 

رغم علمه بتهربها من الحديث بفتح غيره ولكنه ابتسم على السيرة ليرد بمرح:

- وتلاقيكِ افتكرتيها كتباهولي انا او انا كاتبهولها صح؟

أومات بخجل لم تستطع إخفاءه، وقد زحف اللون الوردي على وجنتيها على الفور، فقال بابتسامة متسعة وقد اسعده ما يتخفى خلف حيائها من غيرة بدت من رد فعلها:

- لا انا راجل شاعر عشان اكتب، ولا هي بتعرف تجمع كلمتين على بعض حتى.

- أمال إيه؟

سألته باستفسار تشوبه حيرة التقطها هو ليردف ضاحكًا:

- ما هي دي بقى الخيبة التقيلة اللي صاحبتنا عايشة فيها، الهانم هتموت على واد شاعر أهبل كدة، هتجنن واعرف بتحب فيه أيه؟ دا لا شكل حلو ولا هيئة كويسة أو حتى بيعرف يفكر أساسًا،  طب انتِ قريتي الشعر بتاعه:

عادت إليها ضحكتها الجميلة والتي دائمًا ما تنجح في إسعاده رغم كل ما يراه منها، لتقول:

- بصراحة في البداية كنت متغاظة قوي ومخدتش بالي عشان كانت نظرة سريعة، لكن بعدين لما قرأت تاني بتركيز، كنت بضحك في مكتبي زي العبيطة ، تشبيهات للحبيبة غريبة جدًا

أكمل على قولها بعفويته:

- اسكتي يا ختي اسكتي، دي شايفاه حاجة محصلتش قبل كدة، وان طريقته في الشعر دي بكرة يتسجل معاها في التاريخ على إنه نابغة عصره أو كفلتة من فلتات الزمان .

- كا أيه؟  

رددتها خلفه لتنطلق في موجة من الضحك بلا توقف، لتصيبه عدوى الضحك هو الاَخر معها، في مشهد عجيب جمع بين البكاء والقلق ثم الضحك المفرط الذي ينسى معه الإنسان همه، متخليًا ولو لدقائق عن واقعه البائس .


❈-❈-❈ 


عادت إحسان من الخارج لتصفق خلفها باب المنزل بقوة أظهرت حجم ضيقها ولفتت نظر ابنتها التي انتبهت عليها بجلستها على الكنبة المجاورة للنافذة التي كانت تنظر بها للخارج، وهي متكورة وضامة بيديها ركبتيها إلى صــ درها، فقد أجفلتها من شرودها أيضًا!

- أووف يا ساتر،  يا منجي من المهالك، عليِنا ووطي نفوسنا يارب، عليِنا ووطي نفوسنا. 

رددتها عدت مرات مما اضطر غادة لسؤالها:

- إيه اللي حصل؟ انتي فيه حد ضايقك ولا حاجة؟

رمقتها بنظرة حانقة وهي تجلس على المقعد أمامها تزفر بضيق في قولها:

- وعايزاني اقول ولا اتكلم ليه؟ ما يمكن تفتكريني بعايرك ولا حاجة.

علمت بمقصدها لتُشيح بوجهها عنها على الفور،  مما جعل إحسان تهتف وهي مشتعلة غيظًا.

- لويتي بوزك من قبل ما اتكلم حتى! طب اسمعي مني الأول،  وروحي شوفي بنت خالك، زهرة اللي كنتِ بتقولي عليها خايبة وما تعرف تخطي خطوة من غيرك، اهي الخايبة يا ختى بعد ما سيطرت ع الباشا جوزها وخلته زي الخاتم في صباعها، أهي لفت كمان دماغ اهله اللي كانوا رافضين الجوزارة وبقوا سمن على عسل مع رقية وخالد، ودلوقتي يا حبيبتي عازمينهم عندهم، والسنيور خالها واخد خطيبته معاه بنت المستشار،  شوفتي يا بت البنات الناصحة بتعرف تخطط وتظبط ازاي؟

التفت إليها غادة برأسها عن المشاهدة لخارج النافذة كي تسألها:

- وانتِ عرفتي منين بقى بنصاحة بنت اخوكي عشان تيجي كدة بشرارك ونارك؟

- نار لما تلهفك. 

تفوهت به إحسان غاضبة من حديث ابنتها البارد معها لتجيب بصياحها:

- برضوا لا عاجبك الكلام ولا مصدقاه، طب انا عرفت من سمية مرات ابوها، قابلتها في السوق من شوية وسألتها عن الرقية، راحت الولية مدلوقة في الكلام معايا، قال وإيه؟ الباشا ابن الباشا عرض على سمية كمان هي وبناتها يجوا معاهم، بس المحروسة بقى اتكسفت ما تدخل عليهم كدة بعيالها من غير جوزها ابو البنات، روح يا محروس إلهي تخيييب.

هتفت بالاخيرة رافعة كفيها إلى السماء مما جعل غادة ترد مستنكرة الدعاء على الرجل بدون سبب :

- طب وانتِ بتدعي على خالي ليه دلوقتِ؟ هو الراجل كان عملك حاجة؟

ضربت إحسان بكفيها الغليظان على جــ سدها الممتلئ، تهدر من تحت أسنانها:

- عشان دايمًا كدة مضايقني وفارسني، مافيش مرة نصفني ولا عمل معايا حاجة تريحني، لكان معايا أخ عدل ولا جوزني حتى جوازك عدلة، لأ وكمان يشرب ويعك الدنيا وبرضوا حظه نار.

قابلت غادة صياح والدتها الذي اعتادت عليها، بصمت ونظرة خاوية من أي رد فعل، لتزيد إحسان بصراخها:

- في إيه يا بنت؟ مالك بقيتي تنحة ومبلمة في نفسك كدة ليه؟ إيه البرود اللي انتِ بقيتي فيه ده؟

بتنهيدة طويلة خرجت من عمق ما تحمله بداخلها، حدقت بها غادة ولسانها على وشك الرد وإفحام والدتها بسرد ما حدث معها حتى كادت أن تخسر أعز ما تملك في سبيل اللهاث وراء الاَمال الكاذبة والخادعة، وسعي دئوب بلا فائدة مع رزق مقدر بيد الله وحده، ولكن 

تراجعت عن ما انتوته لتنهض من أمامها بلا رد، متجاهلة حتى النظر إليها رغم ازدياد صراخ والدتها وسبابها المعروف بالكلمات النابية.


وصلت لغرفتها لتغلق بابها عليها، وتكفي نفسها عن الجدال مع والدتها، ولكن وقبل أن تصل جيدًا لتختها، رأت رنين هاتفها الصامت وهو يُضئ بشاشته، اقتربت لتصعق وهي ترى إسم المتصل، غلى الدم بعروقها لتتناوله سريعًا وترد بعنف:

- وليكِ عين تتصلي كمان يا بجهة يا عدي.......

- اختشي ولمي لسانك يا غادة واسمعي مني الأول.

أتتها بمقاطعة حادة من الجهة الأخرى لتزيد من اشتعالها مع تذكر ما حدث معها لتصيح هادرة:

- مين اللي يختشي يا باردة بعد عملتك السودة اللي عملتيها معايا؟ دا انا بقى عندي إحساس انك واحدة من إياهم ولا اقول قــ وادة أحسن، انا شايفة إن دا اللي يليق على وضعك، انت واخوكي ال.......

ختمت بلفظ نابي على المدعو ماهر شقيقها، لتفاجأها الأخرى بصوت ضحكتها المقيتة قبل أن تقول لها:

- وانتِ بقى اللي شريفة وصفحتك بيضا؟ بقولك إيه يا غادة، قبل ما تسخني زيادة كدة، حابة انبهك، ان الطور اللي دخل وخدك من عندنا، نسي يا قلبي ما يخلصك بالكامل، أصله مكانش يعرف إني كنت واضعة كاميرات عالية الجودة صورت وسجلت كل الهبل اللي كنت بتعمليه بدماغك العالية.

- إنتِ بتقولي إيه؟

تمتمت بها غادة وبرودة زحفت لأطرافها سريعًا، حتى عادت ترددها مع صمت الأخرى وهي تبتلع في ريقها الذي جف لمجرد التخيل:

- بتقولي إيه يا ست انتِ؟ أنت بتخرفي،  ولا الأكيد هو إنك بتكدبي أكيد بتكدبي.

عادت الأخرى بصوت ضحكتها الكريهة مرة أخرى تردف لها باقتضاب:

- اسمعي يا غادة،  انا هقفل معاكِ وابعتلك شوية صور حلوين كدة يفكروكِ بنفسك، وبعدها هبتعلك عنوان الكافيه اللي هقابلك فيه بعد ساعة من دلوقت، واياك تتأخري دقيقة، عشان ما ترجعيش بعد كدة تندمي.

صمتت لحظات معدودة ثم أكملت: بتحذير:

وإياكِ يا غادة اياك، تجيبي الطور صاحبك ده معاكِ، ساعتها مش هتلومي إلا نفسك.

بصقت كلمتها وأغلقت، لتصل لغادة بعد ذلك الصور المتواترة على الفور،  رفعت كفها لتكتم شهقة ارتياع من فمها، وهي تتطلع إلى صورها كالمخمورة تضحك ، وتميل بجزعها، ويضمها المدعو ماهر بذراعه كفتاة متساهلة، ومرة أخرى وهي متربعة أيضًا ترتشف بكأس الشراب معه، وترى بعدها العديد من الصور، حتى تهاوت أقدامها ولم تعد تحملها لتسقط بثقلها على أرضية الغرفة، ويسقط معها قلبها من الرعب


❈-❈-❈ 


تحت المظلة الخشبية الكبيرة في الحديقة، إجتمعت الأسرتين بجلسة عائلية حيث الهواء الطلق ومشاهدة تريح العين للون الأخضر أمامهم وتبهج الروح برائحة الزهور المنبعة من الأحواض القريبة للعديد من الأنواع المختلطة بين المصرية بالأنواع المعروفة والغربية بالأنواع النادرة منها، عامر والذي اندمج مع رقية ظل قريبًا بمقعده الخشبي بجوار مقعدها المتحرك والذي حصلت عليه بعد أن تيسر الحال قليلًا مع خالد في عمله الجديد، فأتى به إليها قبل أن يضع قرشًا في تشطيب شقته، ولمياء رغم تحفطها الدائم، كانت جالسة بالقرب منهم تتابع وأبصارها على الجميع خصوصًا هذا المتعوس الذي يجلس في الناحية الأخرى، وعينيه لم يرفعها عن زوجته التي اندمجت مع خالها في حديث مطول بحماس ولهفة بينهما لم تفتر لثانية رغم إشتراك خطيبته معهما أحيانًا، بقلب ألأم أشفقت عليه، وعلى حزمها معه طوال الأيام الماضية، واضعة صحة الزوجة وحفيدها نصب أعينها، ولكن وبنظرة للبؤس المرتسم على وجهه تشعر أنها زادت من الضغط عليه، لعدة لحظات قليلة لم تتعد الثواني ولكن ومع تذكرها لصحة الحفيد التي كانت مهددة بتعب والدته، وهي في أشد الإشتياق إليه، اشتد عزمها على المواصلة وقسى قلبها لتصرف نظرها عنه وتلتف للحديث المرح بين عامر حبيبها ورفيق عمرها، ورقية هذه المرأة الراضية وروحها الرائعة رغم جلوسها قعيدة منذ سنوات كما علمت من جاسر .


- شوفتي بقى يا ست رقية اهو احنا بقى لما بنتجمع في العطلات النادرة بنقعد هنا ونشوي بقى، طعم الأكل وهو مشوي في الهوا اللي بيرد الروح ده بيبقى يجنن.

تفوه بالكلمات عامر وهو يلوح بكفيه لها على الأجواء حولهم، قابلت كلماته رقية باستخفاف تجيبه:

- إنت قصدك على الفراخ المحمرة دي ع الفحم واللحمة اللي بتتحط في سياخ زيها، والنعمة ولا بتخش في زمتي بنكلة حتى، كذا مرة الواد خالد يجيبلي منها ويقولي هتعجبك ياما وطعمها حلو ياما دا انا شريها بالشئ الفلاني من المطعم الفلاني، اتشجع كدة وانا باكل في الأول ومكملش حتتين واسيبهم، أنا ميدخلش في دماغي غير الحتة اللي تبقى متمرغة في الدهن والسمن البلدي.

أنهت رقية لتجد عامر افتر فاهاهه وظهر على وجهه شغفه بالحديث ليردف لها:

- انت بتتكلمي جد؟ طب ماانتيش خايفة على صحتك من الدهن الكتير ده ولا السمن البلدي؟ دا فظيع .

- بس حلو واللي يتعود على الأكل بيه ميضرهوش أبدًا، 

يا راجل دا كفاية انها بتخلي للأكل ريحة ولا الطعم إيه بقى مقولكش، الطور اللي قاعد هناك دا ، مهما يبعد ولا يجيب أكل من برا ، ماييرهوش غير اللقمة البيتي بتاعتنا، واهو ماشاء الله ربنا يحرصه، لكن البت الهبلة دي، عودت نفسها ع النواشف، من صغرها وهي ماكلش دي يا ستي ودي تقيلة على معدتي يا ستي، لما بقت زي ما انت شايف كدة، بتتعب على اقل حاجة. 

قالتها في إشارة لابنها وحفيدتها لتكمل بعدها:

- بس انا وصيت نوال على أكل الواد وهي قالتلي انا هاعمل زي ما انتِ بتعملي يا خالتي بالظبط والسمنة البلدي مش هتخلى من بيتي أبدًا. 

انبهر عامر بشدة وارتسم الطعام وهذه النوعية التي تذكرها رقية أمام عينيه حتى شعر بالرغبة الشديدة لنتاوله على الفور متناسيًا مرض قلبه، أما لمياء والتي شدها الحديث فقالت سأئلة بدهشة بعد أن خطفت نظرة سريعة نحو نوال الجالسة برزانة رغم ابتسامتها كأستاذة بالفعل :

- هي نوال كمان بتحب النوعية دي من الأكل التقيل؟

أجابتها رقية بضحكاتها :

- لأ طبعًا ولا كانت تعرفه، بس انا بقى خلتها تتعود على الأكل ده لما كانت تيجي عندي زيارات وعلمتها عليه، لحد اما بقت متستغناش عنه حتى وهي في بيتهم ووسط أهلها، انا قاعدة وانتِ قاعدة اهو البت دي هيتبرى منها ابوها قريب .

سمع منها عامر وانطلق ضاحكا بصوته المجلل لفت انتباه الجميع حوله وهو يقهقه حتى أدمعت عينيه، ليردف اَخيرًا بعد توقفه لزوجته:

- انا كمان يا لميا، نفسي قوي في الأكل التقيل ده.

تبسمت إليها لمياء بابتسامة صفراء ترد على كلماته:

- يا حبيب قلبي، طب انت مش واخد بالك، من كلام  الست رقية؟ دي بتقولك اللي متعود عليه، انت بقى متعود عليه؟

كشر بوجهه لها ليعود إلى رقية التي رفعت كفيها في الهواء إليه قائلة:

- أنا بقى متعودة بقى عليه


❈-❈-❈ 


- يا بت بسألك اللي في بطنك دا واد ولا بت؟ قولي وما تخبيش.

هتف بها خالد لزهرة بلهجة جدية وهو يشير بيده إلى ما تحمله بأحشــ ائها، وكانت الإجابة بضحكة عالية وهي تنقل بنظرها إلى زوجها قبل أن تعود إليه:

- والله ما اعرف، إنت ليه مش عايز تصدقني يا طيب، ما انا قولتلك، لو طلع ولد إن شاء الله هسميه خالد.

- ولو طلع بت؟

سأل بها لينعقدا حاجبي جاسر بدهشة ويتدخل بالحديث بعد طول صمت وهو جالس بالقرب منهم، دمائه تغلي بداخله منها ومن ضحكاتها مع خالد هذا الذي يسرقها منه في كل مرة يجمتعا به ويستأثر باهتمامها، ألا يكفيه ما يعانيه وحده هذه الأيام ببعدها عنه رغم قربها، وحرمانه من لمســ ها حتى لو بين أصابع يده.

فخرج قوله ساخرًا بغيظ:

- نسميها خالد برضوا؟

ضحكت نوال ومعها زهرة بعد سماع جملته، ورد خالد بابتسامة زادت باستفزازه وهو يرتخي بظهره على المقعد من خلفه واضعًا ذراعه على كتف زهرة:

- لا طبعًا يا عم متسميهاش ولا تتعب نفسك، انا اللي هسميها واختار الأسم بنفسي.

إستجاب له جاسر بابتسامة ازدادت بسخريتها ليجيبه:

- كان على عيني يا خالد باشا، بس المشكلة بقى إن الطفل دا بالذات محجوز. 

أخفض صوته يكمل بهمس ويده تشير بخفة للخلف:

- الست الوالدة والسيد الوالد حددوا الأسامي، سواء للولد أو البنت، ومش راضين يبلغوني انا ولا ومراتي عشان ما يبوظوش المفاجأة!

- مفاجأة!

تفوهت بها نوال تكتم ضحكاتها، وهي ترى وجه خالد الذي عبس كطفل صغير أُخذت منه لعبته، بعد أن ألجمه جاسر بحجته، والذي أكمل :

- معلش خيرها في غيرها، مش انت برضوا فرحك قرب، يعني مش بعيد نفرح بعوضك إن شاء الله، قبل ما يجي النونو التاني بتاعنا، وابقى سمي الواد وسمي البنت،  حد هيشاركك يا عم؟

تدخلت معهما زهرة وقد أثرت بها كلمات جاسر:

- يا نهار أبيض، دا اليوم المُنى والله يا خالي دا اللي اشيل فيه ولادك على إيدي، ربنا يقرب البعيد يارب .

تمتمت نوال ومعها خالد الذي ضم زهرة إليه ليقبلها على أعلى رأسها يقول:

- حتى لو جيبت ميت عيل، انتِ البكرية بتاعتي وأول فرحة عيني، ولو انتِ مش واخدة بالك يابت؟

أردف بكلماته مشددًا عليها بذراعيه وهي مستجيبة لها بتأثر شديد، حتى إذا نزعت نفسها منه اصطدمت عيناها بعيني جاسر التي كانت تطلق شرار الغضب المستتر رغم جمود وجهه، لفها الإرتباك وعدم الراحة فنهضت متحجة بالإطمئنان على الطعام وما يعُده الخدم، وذهبت مغادرة للهرب من عينيه المسلطة عليها. انتظر لدقائق قليلة لينهض هو الاَخر:

- طب يا خوانا عن إذنكم بقى عندي اتصال مهم ولازم اعمله.

- اتصال إيه دا اللي حبك دلوقتي بس يا عم جاسر؟ 

سأله خالد بتشكك، ليجيبه جاسر ببساطة:

- شغل ياعم، شغل، عن إذنكم. 

قالها وانصرف مغادرًا بخطواته السريعة من أمامهم، ليغمغم من خلفه خالد:

- باينه قوي حركاته القرعة، أكيد رايح وارها.

ردت نوال ضاحكة:

- مافيش فايدة، انتوا الاتنين عاملين زي العيال اللي بتتخانقوا على عروسة قماش، دا يقول بتاعتي، ودا يقول بتاعتي، بس انت كياد أوي.

تبسم لها رافعًا حاجبه بمرح، ليزيد بداخلها البهجة مع شعورها بسعادته بعد اطمئنانه على زهرة واستقرار الحال معهما اخيرًا وقد اقترب ميعاد زفافها به ولم يتبقى سوى إسبوع، 

أجفلت لتلتف رأسها معه للخلف فجأة على أصوات الضحكات العالية لعامر ورقية، حتى لمياء تخلت عن جمودها قليلًا وقد أصابتها عدوى الضحك مثلهم ولكن برزانة لا تحيد عنها .


❈-❈-❈ 


وإلى زهرة التي كانت في طريقها إلى الخروج للحديقة، بعد أن أشرفت على قائمة الطعام الذي سيقدم بعد قليل، لتفاجأ بقبضة حديدية على رسغها وتجذبها للخلف، وقبل أن يصدر صوت شهقتها وجدته يحذرها بسبابته ، أومأت لتستسلم مضطرة لسحبه حتى دخل بها لغرفة المكتب،  ليخرج صوتها اَخيرًا:

- في إيه يا جاسر؟

  اقترب برأسه منها يحدجها بنظرة مخيفة وهي تتراجع للخلف برأسها على قدر ما تستطيع وقد حاصرها بينه وبين الجدار خلفها ليهدر مع أنفاسه المتهدجة بنبرة هادئة مريبة:

- اتقي شري يا زهرة انا على اَخري .

- وانا عملتلك إيه؟

قالتها بعفوية قبل أن تنتفض على ضربه للجدار خلفها بكف يده:

- ما تسأليش وتستفزيني، تسمعي الكلام وبس .

أومأت رأسها بمهادنة لتجتنب شره:

- حاضر حاضر.

سمع منها ليتبع بقوله:

- بقك دا ما يتفتحش بالضحك تاني أبدًا سامعة؟

- عايزني مضحكش خالص؟!

سألته بدهشة ليردد لها بإصراره:

- أيوة ما تضحكيش خالص.

اومأت تطيعه حتى تنتهي وقفتها، ليُكمل كازًا على أسنانه من الغيظ:

- وإياكِ اَلاقيكي لازقة جمب خالد، تروحي في أي حتة بعيد عنه فاهمة ولا لأ؟

عادت لعفويتها:

- بس دا خالي؟

- ما تقوليش خالي ولا زفت، تسمعي كلامي دلوقت وانتِ ساكتة.

أومأت مرة أخرى بعدم اقتناع، لتردف بسؤالها:

- في أوامر تانية؟

تسمر يطالع وجهها الجميل باشتياق وبداخله يود أمرها بألا تتجمل أكثر في عينيه، ألا تزداد فتنة بوضعها الجديد بحمل طفله، ألا تبتعد عنه ولا تخاطب أحد غيره، وألا يبتسم ثغرها الجميل لسواه أبدًا. 

- مش كفاية بقى يا جاسر اتأخرنا عن الناس برا.

قالتها تفيقه من شروده، ليهدر غاضبًا:

- مالكيش دعوة بالناس. 

للمرة الألف تومئ بمهادنة لهذا المجنونة حتى يفك حصاره عنها فقد طالت وقفتهم:

- حاضر تمام، مش هاتبعد شوية بقى خليني أمشي ولا اقولك انا عايزة اروح للحمام.

- إيه؟

- عايزة اروح الحمام يا جاسر.

اخيرًا شعرت بدخول الهواء لصــ درها، بعد إبتعاده عنها، لتتحرك مبتعدة عنه بحذر، حتى اقتربت من باب الغرفة تذهب سريعًا من أمامه وقد نجحت بحيلتها للهرب منه، فتتركه يضرب بكفه على الجدار خلفه، ليخرج غضبه المكبوت .


❈-❈-❈ 

توقفت أمام اللوحة المدون عليها باللغة الفرنسية إسم الكافيه الذي وصفت عنوانه بالدقة إليها في رسائل الهاتف، تطلعت بها لدقائق وهي تفكر بالأنسحاب والتراجع عن اللقاء بهذه الأفعى، مع شعور الخوف الذي يعتريها بقوة من المقابلة، أو الذهاب إليه لطلب النجدة، كي يحميها، فعل في المرة السابقة، وتؤازرها شقيقته الحنون برقتها، ولكن ومع تذكرها لقوله لها في الصباح، حينما أخبرها أنه تحت أمرها في أي طلب، كما أخبرها أيضًا أنها في مقام شقيفته!

عند خاطرها الاَخير، هزت رأسها لتستفيق من أفكارها وتحركت لتدخل وتواجه ما ينتظرها .

ولجت إلى داخل المكان الفاخر متوجهة على الفور لسؤال النادل عنها كما أخبرتها، ليسحبها الرجل معه حتى توقف بها أمام طاولة المذكورة في إحدى الجوانب المختصرة

مائلة بجلستها على الطاولة، مريحة مرفقها على السطح ، وبين إصبعيها سيجارة تدخن بها، لتعتلي زواية فمها ابتسامة نكراء أصابت غادة بالإشمئزاز منها، وقد رأت بها الوجه الحقيقي لهذه الحيــ ة، فجلست بدون تحية تسالها بقرف فور انصراف النادل:

- أفندم عايزة أيه بقى مني؟ مش كفاية اللي عملتوه معايا إنتِ واخوكي؟

- واحنا إيه اللي عمالنا؟ 

قالتها لتقطع كلماتها فجأة وتطفئ سيجارتها في المطفئة قبل أن تتابع:

- احنا ملحقناش نعمل أي شئ يا قلبي، بعد ما دخل شجيع السيما بتاعك وضرب لنا كرسي في الكلوب، وبوظ كل حاجة 

حدقت بها غادة بصدمة تتأمل هذه الملامح الشيطــ انية، المرأة التي كانت تظنها في يوم من الأيام صديقتها، ترى الاَن اَخيرًا وجهها الحقيقي دون رتوش أو تزيف لمعدنها الصدئ وهي تخبرها بكل بساطة عن ما خططته لها كلقمة سائغة لإخيها، فخرج صوتها بأنفاس متهدجة:

- يعني انتِ كمان عندك البجاحة وبتعترفي بنفسك ع اللي كنتِ هتعمليه فيا انتِ واخوكي بعد اللي حطيتهولي في العصير؟ قد كدة شرف الناس ملوش قيمة عندكم ؟

حدجتها ميرفت بنظرة مستخفة ترد بلهجة هادئة لم تتخلى عنها:

- لأ يا غادة مالوش قيمة عندي، عشان أكيد كنت هراضيكِ بقرشين، بس بعد ما تنفذي اللي هطلبه منك .

عادت غادة برأسها للخلف ترفرف بأهدابها تستوعب السهولة التي نطقت بها الكلمات، وشبه ابتسامة غريبة ارتسمت بذهول اكتنفها لهذه النوعية التي تراها ولأول من البشر، فردت ساخرة:

- وكمان كنتِ هتديني قرشين تراضيني بيهم؟ دا إيه الكرم دا يا ست ميرفت؟ دا انتِ يتعملك تمثال يا شيخة .

خرجت الاَخيرة بغيظ لم تأبه به الأخرى لتزيد بضغطها:

- اتريقي براحتك يا غادة، بس عايزة افكرك يا قلبي بالسبب اللي خلاني اطلبك النهاردة مخصوص، بعد ما بعت الصور. 

تذكيرها بالصور أعاد إليها الخوف الذي كانت تناسته للحظات قليلة، لتحدق بها باستفهام يشوبه الأرتياب، التقطته ميرفت لتكمل بفحيح:

- ايوة يا غادة، تفتكري كدة لو فيدوهاتك دي وانتِ بتتطوحي وتهلفطي  بالكلام الأهبل في حضن اخويا اللي طبعًا هعرف اتصرف ومجبش شكله، لو وصلت لأهلك أو للناس في الحارة عندكم، هيقولوا عليكِ إيه ساعتها؟ لأ وصورتك ماسكة الكاس كمان، دي إثبات رسمي...

- انت عايزة إيه؟

هتفت بها غادة قاطعة بحدة استرسال الأخرى، وقد برعت في زرع الفزع بقلبها من مجرد التخيل، فتابعت بنفس الحدة:

- هو إنتِ حكايتك إيه بالظبط؟ تلفي عليا وتصاحبيني وتعملي خطط عشان توقعيني، لا وتمسكي عليا صور وحاجات، انا عايزة افهم؟ هو انتِ شغالة مع المنظمات اياها دي اللي بتوقع البنات؟ انا قولت من الأول انت شكلك قــ وادة.

زجرتها بنظرة محذرة غاضبة رغم سخريتها من التخمين المبالغ فيه:

- بطلي قلة أدب... واسكتي بقى عشان انا هجيبلك من الاَخر.

صمتت برهة تتابع وجه غادة المترقب لتردف بكشف أوراقها:

- انا لا تبع منظمات ولا الكلام الأهبل بتاعك، انا كل يشغلني هو بنت خالك وجوزها. 

هتفت غادة بارتياع مرددة الأسم، وكأنها تتأكد من مقصدها:

- زهرة!

تبسمت لها الأخرى تُظهر أنيابها للتأكيد على قولها:

، أيوة زهرة، عايزة اعرف أيه سرها مع الضلمة اللي قولتي عليها، والتعابين، والبني اَدم ده بتاع البرشام حكايته أيه معاها؟ 

سمعت غادة لتشهق لاطمة على خديها بعنف سأئلة برعب:

- يا نهار اسود..... وانتِ مالك بالحاجات دي؟ هو انتِ عايزة تأذيها بجد؟

تبسمت لها بجانبية ساخرة تؤكد مرة ثانية بهز رأسها:

- اه يا غادة عايزة أذي جاسر الريان باذيتها هي، وانت هتساعديني زي ما كنتِ بتساعديني كل الأيام اللي فاتت دي، بداية من المطعم لو تفتكري؟

قالت الأخيرة بغمزة متابعة الشحوب الذي بدا على وجهه الأخرى، وقد افتر فاهها بالصدمة حتى ظنت أنها تجمدت محلها، لتتابع الطرق على الحديد الساخن:

- انتِ بتكرهيها زي ما انا بكرهها وبكره جوزها.

- انا مبكرهاش .

هتفت بها سريعًا غادة وقد انفك جمودها عقب استيعاب الصدمة لتكمل باكية:

- انا عمري ما كرهتها، انا كنت بس بغير منها عشان هي واخدة محبة الكل وانا لا، عندها أهل وانا معنديش رغم ان انا اللي معايا الأب والأم وهي لأ، في أي مكان نمشيه مع بعض تختطف العيون نحوها حتى لو لابسة شوال، وانا اكون لابسة واشيك وأحلى منها، ومحدش يشوفني، انا عمري ماكرهت بنت خالي ولا هرضى أبدًا بأذيتها، منك لله يا بعيدة منك لله.

أنهت لتدخل نوبة من البكاء الحارق مع تذكرها لكل ما مضى، باستغلال هذه المرأة لها في أذية أقرب الناس إليها، وهي تسير معها كالبهيمة المغمضة عينيها.

انتظرت عليها قليلًا ميرفت تتابع بكاؤها بسخرية صامتة حتى ضافت بها  لتُصمتها بضرب سطح الطاولة بينهم، بكف يدها هادرة بهمس

- كفاية بقى اقفلي الحنفية دي وبطلي فضايح......

أجفلتها لتوقف غادة عن البكاء مضطرة فتابعت لها:

- انا معنديش وقت للفرجة كدة كتير، خلصي بقى وانجزي، مين بتاع البرشام ده؟ وايه حكاية الضلمة والتعابين؟

ضغطت بعينيها الباكية غادة ترفع رأسها إلى السماء تلتمس القوة، لتعود إليها تقول بحرقة:

- هو إنتِ جنسك إيه يا شيخة؟ إيه اللي ما بينك وبين جاسر الريان يخليكِ تغلي بالشكل ده على واحدة حبها؟ ذنبها إيه تاخدي انتقامك من جوزها فيها؟ وغرضك أيه  بمعرفتك عن الحاجة اللي بتخوفها؟

استطاعت ميرفت السيطرة على غضبها بصعوبة رغم براكين الحمم التي تسري بداخلها وقد ضغطت غادة بكلماتها على جرح قلبها الملتهب ولن يلتئم الإ بجرح مثله وهي مُصرة على فعل ذلك مع جاسر الريان، تمالكت فخرج صوتها بحزم:

- ملكيش دعوة باللي غرضي فيه، انتِ تجاوبي وانت ساكتة.

توقفت غادة عن البكاء لترد بقوة:

- تعبك هيجي على فشوش، عشان لو بخصوص الضلمة والتعابين فدا كان بسبب حادثة قديمة وأكيد نسيتها دلوقت، وأما بقى فهمي بتاع البرشام، فدا راجل بلطجي وهربان من حكم قضية للمخــ درات، وان شاء الله يتقبض عليه قريب .


❈-❈-❈ 


أوسمة، ميداليات متنوعة بين الفضية والذهبية، كؤوس عدة للفوز بالبطولات، معظمها لرجل الكبير رحمه الله، والأخرى مدونة بإسم كارم حتى توقفها قبل خروجه من كلية الشرطة، هذا يعني كان ممتاز في الدراسة ودائم الحصد للبطولات، إذن ما الذي حدث؟ كي يأخذ غضب معلميه حتى ينهوا مستقبله بجرة قلم وهو ابن رجل منهم ؟ تنهظت تجسر نفسها فالمهمة ليست بالهينة مع المرأة والدته، دخول المنزل نفسه له هيبة غريبة جعلت قلبها ينقبض داخل صــ درها ، ليس به من الدفء الأسري او العائلي إطلاقًا. 

ظلت محلها تتأمل في حائط البطولات والناشين حتى استمعت لصوت المرأة المتفاجئ بحضورها:

- كاميليا معقول! دا انا مصدقتش الخدامة لما قالتلي .

التفت إليها المذكورة بابتسامة أجادت تصنعها:

- ليه بقى يا طنت؟ هو انا غريبة عن البيت ؟

- غريبة دا إيه؟ دا انت ليكِ في البيت أكتر ما ليا .

قالتها المرأة في بداية ترحيبها قبل أن يتصافحان ويتبادلان الحديث الودي والأسئلة الروتينية في هذه اللقاءات، ثم كانت الجلسة بينهم على كنب على الصالون الكلاسيكي. 


تكملة الرواية من هنا


بداية الرواية من اولها هنا


❤️💙❤️💙❤️💙❤️💙❤️💙❤️💙

الصفحه الرئيسيه للروايات الكامله اضغطوا هنا  

❤️💙❤️💙❤️💙❤️💙❤️


تعليقات



CLOSE ADS
CLOSE ADS
close