expr:class='data:blog.languageDirection' expr:data-id='data:blog.blogId'>

نعيمي وجحيمها بقلم أمل نصر بنت الجنوب الفصل الحادي والثلاثون حتي الفصل الخامس والثلاثون كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات

نعيمي وجحيمها

بقلم أمل نصر بنت الجنوب

الفصل الحادي والثلاثون حتي الفصل الخامس والثلاثون

كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات 

 الفصل الواحد والثلاثون 


تصعد درج منزلهم وهي تغني مبتهجة، غير عابئة بثقل ما تحمله ذراعيها ولا بالمبلغ الكبير الذي أضاعته في هذه المشتريات العديدة، ولجت لداخل المنزل بعد ان فتحت الباب بمفتاحها، فوصل صوت غناءها الى والديها الجالسان في وسط المنزل أمام شاشة التلفاز، 

رمقتها إحسان بنظرات متفحصة وهي تقترب لتقبلها من وجنتيها المكتنزتين، وتُلقي التحية نحوهم.

- مساء الفل عليكم، عاملة إيه ياقمر؟

ردت إحسان من تحت درسها:

- كويسة ياختي، انتِ بقى ياحلوة واصلة متأخرة من شغلك ليه؟ وأيه الكياس الكتيرة اللي في إيدك دي؟

ردت غادة مبتسمة وهي تتلاعب في سلسلة مفاتيحها:

- دا كام طقم خروج على جزمة جديدة وكام ازازة ريحة كدة من الغالين .

رددت خلفها إحسان بسخرية:

- كام طقم خروج على جزمة جديدة وكام ازازة ريحة من الغالين، وضيقتِ على نفسك ليه ياحبيبتي؟ ماكنت كملتيهم بكام جزمة جديدة على كام شنطة كمان .

تدخل شعبان والدها أيضًا:

- أو كان جابت المحل كله، هي خسرانة حاجة، مدام في طور غيرها بيصرف على البيت .

التفتت غادة الى والدها الجالس متربع القدمين على كنبة الصالون، وطبق البرتقال فوق حجره ، يتناول منه وهو يتحدث، فردت كازة على أسنانها:

- الفلوس دي من مرتبي يابابا، يعني مخدتش حاجة منك .

أكمل شعبان بلهجته المستنكرة:

- مش بقولك في طور وبيصرف ع البيت، طب حتى لو كان من مرتبك، هو انتِ الفلوس دي جايباها من حرام يعني عشان تبعزقيهم كلهم في يوم واحدة؟

زمت شفتيها لتهمس لوالدتها بغضب:

- عاجبك كدة؟ أديكٍ فتحتي علينا فاتحة ومش هنعرف نسدها، يعني مكانش ينفع كلامك دا ما بيني وما بينك، على الأقل كنت افهمك .

- تفهميني ايه؟ لهو انتِ عندك مواضيع كمان؟

قالتها بهمس إحسان هي الأخرى، فناظرتها غادة بثقة لتردف لها قبل أن تذهب من أمامها نحو غرفتها :

- حصليني جوا وانا احكيلك كل حاجة.

نظرت في أثرها بتفكر إحسان قبل أن تجفل على قول زوجها:

- شوف بت الكل..... سابتني بتكلم واهاتي وغارت على أؤضتها من غير ماتعبرني.

حدجته إحسان بقرف وهي ترى قطع البرتقال الصغيرة  تتناثر من فمه وهو يتحدث، فقالت بنزق قبل ان تذهب هي الأخرى وتتبع ابنتها:

- ماتخليك في الطفح اللي انت بتطفحه، ومالك ومالها.

فغر فاهه شعبان باستغراب وهو يتابع انصراف زوجته وتركه ثم غمغم:

- اما ولية كهينة صحيح. 

...................................


بعد قليل 

وبعد أن شرحت غادة السبب الرئيسي الذي دفعها للشراء اليوم وحكت لوالدتها عما تفعله مرفت معها وتلميحلتها المستمرة لها، سألتها بفرحة ممتزجة بالأمل:.

- ها ياست الكل، فهمتِ بقى ولا تحبي افهمك من تاني؟

قلبت عينيها إحسان، قبل أن ترد بسأم:

- فهمت إيه؟ ما انتِ بقالك ساعة عمالة تحكي وتعيدي وتزيدي، وبرضوا مقتنعتش؟

- ليه بقى ياست ماما؟ هو انا بتكلم أجنبي مثلًا؟ دا حتى كل كلامي واضح وباين زي عين الشمس. 

هتفت بها غادة لوالدتها التي ردت هي الأخرى بحدة:

- هو ايه اللي واضح وزي عين الشمس؟ الولية دي كل كلامها معاكِ عايم وع المتغطي، مافيش حاجة مباشرة عشان اطمن وافرح فرحتك دي واباركلك على المرتب اللي ضيعتيه في يوم واحد .

زفرت غادة لترد بضيق:

- قولي بقى كدة ياست ماما، انتِ اللي صعبان عليكِ الفلوس ومش هامك صورة بنتك ولا لبسها لما يحصل المراد ويتم اللي بتحلم بيه من زمان .

زفرت إحسان هي الأخرى وهي تضرب كفيها ببعض وترمقها بنظراتٍ ممتعضة، وردت:

- يعني انتِ عايزاني اعوم على عومك واصقفلك كمان، طب مش لما اشوف أمارة الأول يابت الخايبة، الكلام الطياري دا مايكلش معايا، مش يمكن تكون الست دي  ليها غرض تأني معاكِ؟ 

صاحت غادة بعدم سيطرة:

- غرض تأني ايه بس ياما؟ دي خلتني اكلم اخوها من التليفون وعرفتني عليه بقصد، دا غير انها ست مش هينة في الشركة ولا حتى موظفة عادية عشان اشك فيها، دي عضو مجلس إدارة وشريكة كمان في مجموعة جاسر الريان، هاتعوز مني انا ايه بس؟

لوت إحسان فمها على زواية بشك ثم قالت بعدم استسلام لألحاح ابنتها:

- برضوا ياغادة تحرصي وتاخدي بالك، لما نعرف ميتها ايه الأول، ونعرف بقى، إن كان غرضها دا بجد ولا وراه حاجة تانية احنا مش فاهمينها.

اشاحت بوجهها عنها حانقة غادة ولم ترد، فهي لم تقتنع بوجهة نظر والدتها، بل هي تكاد تكون متأكدة من صدق نوايا مرفت نحوها.

................................


عاد متأخرًا إلى المنزل، بعد قضاء سهرته في مناقشات ولقاءات مع بعض الشركاء الأجانب، للتباحث على إحدى الصفقات الهامة، يجر أقدامه جرًا وقد بلغ منه الأرهاق والتعب الجسدي مبلغه، كان على وشك الصعود الى الطابق الثاني، ولكنه توقف حينما لمح إضاءة إحدى الغرف القريبة من الردهة، تراجع ليتسحب بخطواتٍ خفيفة نحوها وقد خمن وجودها بالداخل، وصدق تخمينه حينما راَها، فقد كانت متكئة بجسدها على الاَريكة الاَثيرة وتتحدث في الهاتف باندماج مع أحدهم، توقف محله يرسم تفاصيلها الرائعة وهي ترتدي إحدى منامتها القصيرة كاشفة عن ساقيها بسخاء وتتلاعب بخصلة طويلة من شعرها، غافلة عن عيناه المتربصة،

بالطبع تبين صفة المتحدث من الجهة الأخرى في تباسطها وضحكاتها الصاخبة دون تحفظ معه، زفر بضيق من هذا الذي يشاركه اهتماماتها ويستمع لضحكاتها مثله، يعلم أنها انانية منه ولكن وليكن كذلك؛ فهو يعشقها ويريد الإستئثار بها وبكل مايخصها، تدفعه رغبة قوية الى اخذ الهاتف واغلاق المكالمة على الفور ولكن يعز عليه حزنها او غضبها، سخر من حالته وضعفه الاَن أمام هذه الصغيرة وقد كان سابقًا حاد الطباع وخشن المعاملة مع جميع النساء مهما بلغت درجة جمال الواحدة منهن، قطع شروده حينما وجدها تنهي المكالمة، وتهُم لتعتدل بجلستها ، اقترب سريعًا بخطواته الخفيفة، ليجفلها فور أن التفت رأسها، فصرخت زهرة بارتياع قبل أن تبتلع كلماتها في سترته وقد طوقتها ذراعيه ليضمها اليه سريعًا بقوة ليهدهدها ويطمئنها وسقط جالسًا بها على الأرض .

- بس بس اهدي مافيش حاجة، انتِ في حضن حبيبك، ايه يابنتي هو انا لدرجادي خضيتك؟

كان جميع جسدها يرتجف حرفيا بين يديه، حتى شعر بانتفاضتها تحولت لبكاء مكتوم على صدره، دب الخوف في قلبه من حالتها التي استمرت للحظات قبل يخرجها من حضنه عنوة لينظر الى وجهها الذي أصبح كتلة حمراء، مغرقة بالدموع، حاوط بكفيه على صدغيها لتقابل عيناها عيناه، فقال مدعي الحزم رغم الجزع الذي اصبح يعبث بداخله:

- ليه دا كله بقى ها؟ ممكن أفهم، 

خرج صوتها بارتعاش:

- أسفة ياجاسر لو خضيتك مني، بس انا بجد بخاف اوي والله، يمكن تستغربني وتستغرب حالتي، لكن اعمل ايه بقى في جبني؟ 

ضيق عيناه يسألها بتركيز:

- يعني حركة خفيفة زي دي ترعبك بالشكل ده! دا غير خوفك الغير مبرر من الضلمة، هو في ايه بالظبط يازهرة؟ 

ارتشعت شفتيها بعجز أمامه قبل أن تقول اَخيرًا:

- دي عقدة عندي ممن وانا صغيرة، يعني عشان حادثة حصلتلي زمان ممم بلاش والنبي تفكرني انا مش عايزة افتكر دلوقتِ. 

قالت الأخيرة لتنزع وجهها من بين يديه وترتمي داخل أحضانه، شدد بذراعيه ليحتويها ويحتوي خوفها، فقالت هي بصوت مكتوم:

- عارفة ان شكلي غبي ويضحك، بس دي طبيعتي ياجاسر وخالي وستي رقية عارفين عني الحكاية دي .

انتبه على عبارتها فسألها بريبة:

- وخالك ورقية كانوا بيعملوا ايه لما يحصل معاكي كدة؟

ردت بعفويتها :

- ستي كانت بتقرالي قراَن وخالي كان بيضمني ويطبط عليا لحد ما اهدى .

عض على شفتيه يحاول السيطرة على النيران التي اشتعلت داخله ليقول مستنكرًا:

- دا بدل ما ياخدوكي لدكتور يشوف حالتك، ويلاقي علاج مناسب ليكي. 

رفعت رأسها من على صدره لترد بلهجة لائمة:

- انا مش مجنونة ياجاسر ولا عندي حالة نفسية، دا مجرد خوف أو جبن عندي في نفسيتي، وخالي وستي عارفين كدة، وكانوا دايمًا بيعرفوا يهدوني بحنانهم. 

استفزته جملتها الأخيرة، فرد وهو يشدها من ذراعها ليُعيدها لأحضانه مرة ثانية مشددًا:

- انا حنين أكتر منهم على فكرة، وهاعرف احتويكي يازهرة وانسيكي الخوف دا خالص، سامعاني، وبرضوا هاعرف سبب الحقيقي اللي ورا الموضوع ده.

........................


في اليوم التالي صباحًا

اصطفت السيارة بالقرب من مقر الشركة، ترجلت منها زهرة لتلحق بيوم عملها كالعادة، فاصطدمت عيناها بتلك التى رمقتها بنظرة غاضبة والتفت لتكمل طريقها دون مخاطبتها او حتى إلقاء التحية، تنهدت زهرة بسأم منها ومن طريقتها الغبية في الخصام، ومع ذلك عز عليها زعلها وهمت لمصالحتها ، عدت خلفها بخطواتٍ سريعة حتى لحقت بها امام المصعد العام، فجذبتها من ذراعها لتحدثها بعشم:

- اَخدة في وشك وبتجري من قدامي، جرا إيه ياختي؟ دول مكانوش كلمتين دول.

نفضت ذراعها لترد بعنف:

- كلمتين برضوا؟ دا انتِ طردتني من مكتبك ولا اكني حشرة قدامك، عشان بس بسألك سؤال عادي، إكمن خايفة عليكِ وعايزة أطمن. 

كظمت غيظها زهرة وردت ببعض الحلم:

- حتى لو كان غرضك كويس ياغادة، انا ساعتها كنت في حالة ما يعلم بيها الا ربنا ومكنتش متحملة أي سؤال أو أي كلام، يعني كان لازم تقدري.

ردت بحدة غادة:

- تقدير إيه يا ماما؟ دا انت اللي نفسيتك كبرت وما بقتيش شايفة حد قدامك، عربية اَخر موديل، ووظيفة محترمة، ومتجوزة باشاا........ الله يسهلك ياعم، عينك بقى هتشوف ازاي الناس الغلابة؟

بصقت كلماتها والتفتت لتتخذ طريقها نحو الدرج، تاركة زهرة متسمرة محلها، وقد اَلمتها كلمات غادة وتفكيرها ، ومن ناحية قريبة كانت تشاهد منذ دقائق معظم ماحدث حينما دلفت بالصدفة داخل مقر الشركة وانتبهت على وقفتهم الغريبة أمام المصعد، أخرجت هاتفها للتصل بها ، وكالعادة أتاها ردها سريعًا:

- الووو ياقلبى عاملة ايه النهاردة؟.......... بقولك ايه ما تيجي عندي المكتب نرغي شوية.

.....................................


بعد قليل 

كانت جالسة معها على الاَريكة الجانبية بداخل غرفة المكتب الواسعة ذات الزوق العصري، ترتشف من كوب العصير أمامها وجسدها يهتز من الغضب، سألتها الأخرى بمكر:

- ياااه دا انت شكلك متعصبة قوي، هو انتِ خارجة من خناقة يابنتي ولا إيه؟

أجابتها بوجه مكفهر:

- لا عادي ما تخديش في بالك انتِ، شوية كدة وهاروق نفسي، اصل مافيش حد في الدنيا دي كلها يستاهل إني اتعصب ولا احرق في دمي عشانه، صدق اللي قال  "شبعة من بعد جوعة" .

ردت مرفت بابتسامة وقد أطربها كلمات غادة :

- تقصدي زهرة صح؟ عشان ينطبق عليها كل كلامك، بس هي زعلتك في ايه بقى؟

أجفلت غادة من سرعة البديهة لدى الأخرى، والتي خمنت الأسم سريعًا بذكاءها، فقالت بمواربة:

- اهو بقى، عملت اللي عملته، انا مش عايزة احكي ولا اتكلم عشان معصبش نفسي، على واحدة متستاهلش، دي اتغيرت وشافت نفسها اوي بعد ما كانت بتخاف من خيالها وما بتتحركش في أي حتة غير وهي معايا. 

لوت شفتيها مرفت تقول بكيد وابتسامة مستترة:

- حقها بقى ياغادة، مش خلاص وصلت .

حدجتها الاَخيرة بنظرة نارية صامتة قبل أن تشيح بوجهها لترتشف من عصيرها بغيظ، فتابعت مرفت :

- ماقولتليش صح، هو انتوا كنتوا واقفين قدام الأنساسير بتقولوا ايه؟ اصل بصراحة شوفت وقفتكم واستغربت. 

اجابتها غادة بتفاخر:

- كانت بتترجاني عشان اصالحها ، لكن على مين؟ انا ادتهمولها فوق دماغها ولا هامني. 

صمتت قليلًا مرفت بتفكير قبل أن ترد :

- وهاتستفيدي ايه بقى لما تديلها فوق دماغها ياعبيطة؟ دي ممكن تقلب جاسر عليكِ وتخليه يرفدك. 

ناظرتها بخوف تسألها:

- تفتكري هي ممكن تعملها صح؟ بس انا اعرف زهرة وماظنش انها تعملها. 

ردت مرفت بفحيح:

- وماتظنيش انها تعملها ليه بقى؟ مش انتِ بنفسك بتقولي انها اتغيرت؟

ظلت غادة على صمتها تنظر لها بارتياع ، واستطردت الأخرى:

- ما تخافيش قوي كدة، بس انا رأيي انك تروحيلها بنفسك وتصالحيها وتفهميها انه كرم اخلاق منك، وبشطارتك بقى تخليها ترضيكِ وتدعك كمان. 

سألتها بتشتت :

- ترضيني ازاي يعني مش فاهمة؟

ردت مرفت بابتسامة متسعة:

- هاقولك ياغادة ازاي؟

................................


- ماجبتيش البنات معاكِ ليه؟ 

تفوه بالسؤال محروس لزوجته اثناء زيارتها له في قسم الشرطة، والذي كان بحالة يرثى لها، وكأنه كبر في العمر ٢٠ سنة فجأة، أجابته سمية بهدوء لا يخلو من التقريع:

- اجيبهم فين يا محروس؟ انت عايز بناتك يدخلوا القسم على سنهم الصغير ده ويشوفوك بالحالة دي ؟

مصمص محروس بشفتيه يقول:

- قال يعني خايفة على شعورهم قوي، امال لما اًخد حكم، هاتحرميني من شوفتهم خالص على كدة بقى.

شهقت سمية بجزع ترد على كلماته: 

- بعد الشر يامحروس بلاش تفول وتقول كدة الله لا يسيئك،  إن شاء الله تطلع قريب وماتوصلش قضيتك للمحكمة، دي سي الاستاذة نوال مافيش اشطر منها،  والمحامي التاني بتاع الباشا جوز بنتك، كمان بيحكوا عليه قصص في القضايا اللي كسبها قبل كدة.

رد محروس بعد أن أصدر همهمة ساخرة:

- قال الباشا جوز بنتِ قال! هو دا لو هامه الموضوع بجد، كان سكت لحد دلوقتي واكتفى بالمحامي الخايب بتاعه، دا انتِ بنفسك بتقولي باشا؛ يعني يقدر جيب اللي يشيل القضية عني بدل الواحد الف .

تطلعت سمية بدهشة الى هذا الرجل الذي ما زال يصدمها بحجم أنانيته المفرطة:

- جوز بنتك راجل محترم يامحروس، يعني مش هايقبل يلبس قضيتك لحد مظلوم، واهو بيعمل اللي عليه، جايبلك محامي كبارة وموصي عليك هنا جامد، محدش من الواغش اللي في الزنزانة معاك يقدر يقربلك، دا غير انه مسلط رجالته يدور ع الواد اللي وقعك في المصيبة دي، عايز ايه تاني بس؟

همس بانفعال جازًا على أسنانه وعيناه تتنقل كل ثانيه نحو باب الغرفة الجالس خلفها رجل الأمن :

- عايز مزاجي ياختي، دماغي هاتنف*جر ومش متحمل، متخليه يبعت لي حاجة تريحني شوية تبع الأكل اللي بيبعته. 

فغرت فاهاها وتوسعت عيناها لتتجمد محلها مذهولة للحظات قبل أن تتدارك نفسها، وتنهض فجأة مستئذنة:

- بقولك ايه يامحروس، انا هقوم ياخويا قبل ماتنزل عليا جلطة ولا يحصلي حاجة، بناتك مالهومش غيري دلوقتِ .

...................................


- هو دا بقى المحل اللي كلتي دماغي بيه طول السكة؟

أردفت بالعبارة زهرة وهي تلج بصحبة غادة لداخل المطعم المشهور بأطعمته الرائعة، تلفتت غادة حولها بانبهار وهي تشكر بداخلها مرفت التي أشارت عليها بهذا المطعم قبل أن تجلس على احدى الطاولات أمام زهرة وردت:

- ليكون يعني مش عاجبك ياست زهرة ولا مش قد المقام؟ اهو دا اللي خطر في بالي بقى، ولا انت ندمانة على العزومة اللي ورطتك فيها عشان تصالحيني؟

عبست زهرة بوجهها قليلًا قبل أن تجيبها بعتاب:

- انتِ لسة هاتلقحي برضوا بالكلام، انا بفوتلك ياغادة لكن بزعل والله، مافيش حاجة تجبرني اصالحك بعد الكلام السم بتاع الصبح، غير اني بعزك ياغادة واعرفي دي كويس. 

- ماشي ياستي .

تمتمت بها وهي تتناول قائمة الطعام أمامها وقالت :

- هاتختاري ايه انتِ بقى؟ 

صدح صوت الهاتف الخاص بزهرة فردت بعجالة قبل ان تجيب على المتصل:

- اطلبي انتِ اللي عايزاه، وانا هارد على جاسر .

اخفت أمتعاضها غادة لتضع غيظها في اختيارات الأطعمة التي بالغت في عددها للنادل حتى صدح هاتفها هي أيضًا، فأجابت بغبطة مرحبة وكأنها تقصد لفت نظر زهرة التي انهت مكالمتها سريعًا:

- الوو ياقلبي، عاملة إيه؟ ........... أصوات كتير؟ اَه ما انا قاعدة في مطعم (....) مع بنت عمتي عشان هانتغدى فيه......... ايه مش سمعاني كويس؟......... طب ثواني طيب هاغير مكاني وابعد عن الزحمة شوية ......

قالتها وهي تنهض عن مقعدها تستأذن من زهرة التي أوقفتها بحزم قبل أن تبتعد:

- حاولي ماتتأخريش في مكالمتك عايزين نلحق نتغدى ونروح لكاميليا كمان .

اومأت لها برأسها بسأم قبل أن تبتعد لتجري مكالمتها .

ومن الجهة الأخرى كانت تراقبهم من الطابق الثاني للمطعم وهي تتحجج لغادة بالأصوات في الهاتف حتى جعلتها تبتعد بمسافة كافية لعزلها عن زهرة التي أتى اليها النادل بعد قليل بكوب من عصير فريش، فسألته باستغراب:

- ايه دا؟ بس انا مطلتبش عصير .

اجابها النادل بعملية:

- الهانم اللي كانت مع حضرتك هي طلبت، اخدت واحد مني وبعتني بالتاني ليكِ .

أومأت له برأسها بتفهم ليضعه على الطاولة أمامها وهي في انتظار رجوع غادة والتي كانت مندمجة في الحديث الشيق لمرفت التي مازالت تراقب في الطابق الثاني. 

- ايوة ياغادة زي مابقولك كدة، ماهر راجع بعد كام يوم وانا عايزة اعمل حفلة تعارف لأصدقائي عليه، هاتيجي انتِ طبعًا صح...............

ابتسمت باتساع وهي تستمع الى لهجة غادة المتلهفة، وأسترسالها في الكلمات، فتابعت بمكرها:

- طبعًا ياقلبي لازم تبقي اول الحضور مش انتِ بقيتي صاحبتي........ طيب شوفي بقى انا عارفة زوقك حلو في اللبس وشيك، وانا قاعدة دلوقتِ في محل ملابس بنقيلي كام فستان، تفتكري ايه الألوان اللي تليق عليا؟............

استمرت مرفت باستدارج غادة في الحديث والأخرى أخدتها الفرحة وألهتها عن العزومة وعن الطعام وعن زهرة التي ملت من الأنتظار وكلما حاولت الإتصال وجدته رقمها مشغولًا حتى ارتشفت من العصير لتخفف عنها التوتر والغضب، فغزت ابتسامة الانتصار على ثغر مرفت التي نهت المكالمة مع غادة بعدها بوقت قليل، على وعد باتصالها مرة أخرى لتستشيرها في باقي المشتريات. 


عادت غادة اَخيرًا الى الطاولة التي امتلئت عن اَخرها بالمأكولات التي طلبتها من القائمة، ترتسم على وجهها ابتسامة حالمة تجعلها تطير عن الأرض محلقة:

- هاا اتأخرت عليكِ؟

ردت زهرة بغضب رغم هذا الوهن الذي بدأت تشعر به:

- افندم ياست ياغادة، ما كنتِ مشيتي وسيبتيني أحسن، بتطلعيني ساعة استناكي، دا الأكل نفسه برد ياشيخة. 

ردت غادة ملطفة وعيناها تطوف على المأكولات باشتعال :

- معلش يازهرة كانت مكالمة مهمة اوي والله، بس ايه الأكل الحلو ده؟

قالت الأخيرة لتهجم على الأطباق أمامها تتناول منهم بنهم، استدركت لتسأل زهرة بحرج وفمها ممتلئ عن اَخره:

- انتِ مابتاكليش معايا ليه؟ 

ردت زهرة وهي تتطلع للطعام أمامها بدون شهية وثقل رأسها يزداد شيئًا فشيئًا :

- كولي انتِ وحاولي تنجزي عشان انا بدأت اتعب.

- اكيد تعبك دا سببه جوع والنعمة، كولي الحتة المحمرة دي وانتِ هاتفوقي. 

قالت الأخيرة وهي تمُد إليها بقطعة لحم مشوية، أبعدتها زهرة بيدها وهي تشيح بوجهها عنها.

- ياغادة والنبي ياشيخة ما تغصبي عليا مش قادرة.

قطبت مندهشة غادة من حالة النفور التي لدى زهرة، ثم مطت شفتيها بعدم أكتراث لتكمل هذه الوجبة الدسمة بنفس مفتوحة على اَخرها، حتى اذا انتهت سألتها زهرة وكان صوتها يأتي من جهة أخرى غيرها:

- شبعتي؟

ردت غادة تشير بيدها على امتلاء معدتها:

- ع الاخر، حقيقي اللي شارت عليا بالمطعم تستاهل بوسة، وانتِ يازهرة متشكرة اوي يابنت خالي ياقمر انتِ .

أومأت لها بعيناها بضعف، لتتناول من الحقيبة عدة وريقات من المال بغير تركيز تضعهم في القائمة، دون أن تعير اهتمام لهتاف غادة:

- حيلك حيلك ياعبيطة انتِ، احنا مكالناش بالفلوس دي كلها .

نظرت لها بأعين زائغة وهي تخرج بعض منهم وتضعهم في كفها، وهمت لتقف ولكن جسدها المنهك سقط على المقعد مرة أخرى بعنف، هتفتح غادة عليها بجزع وهي تقترب:

- مالك يازهرة؟ فيكي ايه؟

لم تقوى على الرد، وأنفاسها اصبحت ثقيلة كجسدها، جفناها ينغلقان وتفتحهم بصعوبة، أصابها الجزع غادة وهي تحاول معها بكلمات مضطربة:

- يازهرة قومي خليني اوصلك، قومي يابنت خالي ماتخضتيش عليكِ

حينما لم تجد فائدة من محاولاتها الجديدة وهي تنظر حولها تبتغي المساعدة من احد ما حتى لفتت انظار بعض الأشخاص حولها ليسألوها وقبل أن تجيبهم وصلها الأتصال من تلك التي تشاهد من علو، أجابتها غادة على الفور وكأن اتصالها اتاها نجدة من السماء

- الوو .. ايوه يامرفت الحقيني .

ردت بتصنع تدعي عدم الفهم :

- اللحقك ليه يا غادة في حاجة حصلت؟

ردت سريعًا :

- زهرة يا مرفت مسخسخة معايا وشكلها يخوف لدرجة انها مش قادرة تقوم من مطرحها، وانا خايفة مش عارفة اعمل ايه؟ الناس حواليا بيقولولي نساعدك وناخدها عالمستشفى......

قاطعتها على الفور :

- لا اوعي ياغادة تعملي كدة وتخلي حد غريب يوصلها معاكي، انا لو قريبة منك كنت جيتلك واخدتها لأي مستشفى، بس نصيحتي ليكِ اتصلي بجوزها يجي ويتصرف واخلي مسؤليتك، محدش عارف بنت خالك عندها ايه. 

- يانهار اسود، يعني هايكون عندها إيه؟ انت بتخوفيني ليه اكتر ما انا خايفة؟

اجابتها بثقة:

- انا مابخوفكيش، انا بقولك ع الصح ياغادة، انتِ مش قد جاسر الريان ولا قد غضبه .

انهت المكالمة غادة وهي على اَخرها، وقد جف حلقها وارتعدت أوصالها من الخوف، تلعن دخولها هذا المحل وتلعن الساعة التي أتت بها، وهي تحاول مع زهرة التي التفت بعض النساء حولها لمعرفة ما أصابها، وبحركة سريعة تناولت هاتف زهرة لتضغط على الرقم الأخير ، فجاءها الرد بالصوت الأجش .

- الوو يازهرتي..... لحقتي ترجعي من مشوارك؟

تمالكت نفسها لترد بصوتٍ مهزوز :

- انا مش زهرة ياجاسر باشا، انا غادة. 

وصلها وصوته الحازم :

- وانتِ بتتصلي عليا ليه من تليفون زهرة؟

سقط قلبها رهبة من نبرته، فقالت مدافعة:

- انا اسفة ياجاسر بيه اني بتصل، بس زهرة تعبانة اوي..

- مالها يازهرة يابنت انتِ؟

قالها بمقاطعة حادة أجفلتها لتزيد من رعبها فتمتمت سريعًا تشرح له ماحدث على عجالة،

والأخرى مازالت تتابع من محلها وتراقب، وكما توقعت لم ينتظر جاسر سوى دقائق وأتى على الفور، بقلب ملهوف يشعر به على وشك التوقف، من الخوف عليها.

- ايه اللي حصل؟

اردف بها بحدة بمجرد وصوله، ليفرق تجمع النساء حولها سريعًا ليتفحصها.

خرجت كلمات غادة بلجلجة من فرط خوفها، 

- ااا والله ما اعرف، احنا كنا بنتغدى وفجأة لقيتها سخسخت كدة مني.

لم ينتبه لها ولما تتفوه بها، بعد أن دنى سريعًا من زهرة يحاول افاقتها بقلبٍ ملتاع.

- زهرة، قومي يازهرة، هي ايه اللي حصلها بالظبط؟.

اردف بها بأعين نارية نحو غادة، التي ارتعشت امامه تهز رأسها بعجز:

- والله ما اعرف،  والله العظيم ما اعرف. 

حدجها بغضب قبل أن يدنوا نحو زهره ليحملها غير اَبه بوضعه ولا نظرات الناس حوله، ليغادر بها نحو اقرب مشفى، رفعت غادة الحقائب لتلحق بهم، وفي الأعلى انشق ثغر مرفت بابتسامة متسعة لتتصل بشريكها:

- ايوة يافاضل، اخدت صور كويسة بقى ولا لسة؟

الفصل الثاني والثلاثون 


كان لابد له أن يعلم من البداية، هو ليس غبيًا حتى يغفل عن شئ كهذا، واضحٍ كضوء الشمس الفضاح، ليس غبيًا ليبيت ليلته دون أن يحقق في ماحدث، لقد بدأت الحرب ومن جهة غير معلومة على الإطلاق، من وقت أن اخبره الطبيب بنتيجة فحصها ليجمع الأحجية ويربطها ببعضها فيصل الى النتيجة التي هو بصددها الان، وللمرة الثانية تأتيه الضربة من جهة غير متوقعة، وفي المرتين الضربات تصيبها هي قبل أن تصيبه وما أشدها من ضربات.


تململت هي فراشها قبل أن ترفع رأسها لتبحث عنه فوجدته جالساً في جانب من الجناح الكبير على الاَريكة الوحيدة به، أذهلتها الملامح القاتمة والمرتسمة على وجهه بغضب، حواجبه المنعقدة بشدة تنبئ بالسوء عن ما يبدوا شاردًا فيه، جلسته على غير العادة في هذا الوقت الباكر من الصباح، مكان فراشه البارد بجوارها، جعلها تتسائل باستغراب، منذ متى استيقظ؟ أو أنه لم ينم أصلًا ؟

- في حاجة يا جاسر؟

تفوهت بها لتقطع شروده، فالتفت إليه رأسها لتتبدل ملامحه على الفور، ليجيبها بابتسامة مشاكسة بصوته الأجش:

- طب مش تقولي صباح الخير الأول .

ابتسمت بحرج وهي تعتدل بجذعها لتردد إليه الصباح، وكان رده على الفور أن أتى ليجلس بجوراها يرد على صباحها لها بقبلات رقيقة متتالية على وجهها :

- صباح الفل، والورد، والياسمين، على أحلى زهرة في حياتي .

زحف الدفء في شراينها لينشر فيضان محبته لها  وليُذهب عن عقلها التوتر الذي انتابها منذ قليل، وتابع ليسألها بحنانه:

- عاملة ايه النهاردة بقى؟

أجابته بابتسامة مطمئنة:

- الحمد لله، النهاردة حاسة نفسي كويسة اوي عن امبارح، مع اني مستغربة أوي اللي حصلي فجأة، بعد ماكنت كويسة.

أومأ برأسه ليدفن وجهه سريعًا في تجويف عُنِقها، يتنشق عبيرها بقوة، شعرت هي بتشنج جسده فسألته بحيرة:

- هو انا ليه حساك متغير النهاردة. 

- لزوموها ايه الأسئلة دي بس يازهرة كدة ع الصبح؟

قالها بصوت مكتوم، جعلها تغير السؤال:

- طب هو انا نمت قد ايه بالظبط؟

توقف عما يفعله ليواجه وجهها ويزيح بيده الخصلات المتناثرة على جانبيه، فرد ماطًا بشفتيه:

- اممم بصراحة مش فاكر، بس انتِ نمتِ كتير قوي،

تطلعت عن قرب لوجهه لتسأله بتوجس:

- هو انت فضلت سهران طول الليل جمبي ياجاسر؟

رد متبسمًا لها بحنان:

- وايه اللي يخليني اسهر جمبك بس والدكتور نفسه مطمني عليكِ؟ ياستي انا جالي شوية قلق عادي يعني عشان الشغل.

ظلت صامتة تراقب تهرب مقلتيه عن مواجهة خاصتيها وبعض الحركات الخفيفة لعضلات وجهه والتي زادت من الشك بداخلها لتسأله بإلحاح:

- مش عارفة ليه ياجاسر بدأت اشك انك مخبي عني حاجة.

أهداه ابتسامة رائعة قبل أن يقبلها مرة أخيرة قبلة عميقة على وجنتها لينهض بعد ذلك وهو يرد بلغة غامضة لم تفهمها:

- مافيش حاجة بتسخبى دلوقتِ يازهرة، قومي ياللا فوقي عشان تفطري وتلحقي شغلك معايا .

قالها وذهب نحو حمام الغرفة، غمغمت في أثره مندهشة تردد:

- اروح الشغل معاه! ازاي يعني؟!

................................


وفي الجهة الأخرى 

كانت تنظر في شاشة الهاتف وتقرأ المنشور المكرر على عدة صفحات والمرافق بالصور المؤكدة صحة الخبر، واضعة كفها على فمها بجزع، هذا ما كان ينقصها، الايكفي تحقيق جاسر الريان معها ونظراته المرعبة التي كان يلقيها نحوها بالأمس وكأنها المتسببة فيما حدث، حتى أصبحت تغمغم محدثة نفسها:

- يالهوي عليا، طب وانا مالي خايفة اوي كدة ليه؟ هو انا اللي كنت صورتهم ولا نشرت الصورة حتى؟.... كانت خروجة مهببة، كانت خروجة زفت عليا وعلى سنيني.

- مالك يابت انت بتكلمي نفسك؟

هتفت بها إحسان وهي تلج لداخل الغرفة، رفعت غادة رأسها ترد بهلع:

- ما انا لازم اكلم نفسي يامّا، لازم اكلم نفسي، وشكل اللي جاي مش خير أبدًا يامّا، ربنا يستر ربنا يستر 

نهرتها إحسان غاضبة:

- بطلي تندبي زي غراب البين كدة وفهميني فيه ايه؟

ناولتها غادة الهاتف بصمت لتنظر فيه وتفهم وحدها، قرأت قليلًا في الخبر قبل أن تسألها باستغراب غير مبالية بالخبر نفسه:

- وانت إيه دخلك بقى بالهليلة دي كلها؟ عشان تندبي وتعمليها مناحة؟

تلعثمت قليلًا قبل أن تجيبها بقلق

- ممما انا كنت معاها امبارح في المطعم لما أغمى عليها، وانا اللي اتصلت بيه عشان يتصرف، يعني لو ماكنتش اتصلت بيه انا مكنش حصل دا كله .

ضيقت عيناها بتفكير إحسان قبل أن تقبض على رسغها هادرة بتهديد:

- انتِ كنتِ قاصدة يابت؟

صاحت صارخة:

- والله يامّا ماكنت اقصد، انا اتصرفت كدة من خوفي، لما شوفتها مسخسخة قدامي، هو بقى اللي مقدرش على تعب الغندورة وجه يشيلها بنفسه، انا مالي انا ؟ ماكان بعت السواق أو حد يجي ياخدها بداله.

زادت إحسان من ضغط كفها الغليظة على يد غادة لتؤلمها أكثر وهو تعاود السؤال:

- ولما انتِ واثفة في نفسك كدة؟ بتكشي في هدومك ليه منه؟

صرخت غادة بألم وهي تجيبها:

- بكش في هدومي، عشان نظرته ليا امبارح مكنتش مطمناني، الراجل كان بيزغورلي بعيونه، ونشف ريقي بأسئلته الكتيرة.

دفعتها إحسان للخلف ترد بضيق:

- ومدام متأكدة وواثقة في نفسك خايفة ليه؟ دا انت تروحي الشغل وتروحيلها بيتها عنده كمان، اللي على راسه بطحة هو اللي يحسس عليها ياعنيا.

............................


خرج من حمامه ليجدها أمامه ارتدت ملابسها وتنهي حجابها أمام المرأة، خاطبت انعكاس وجهه أمامها:

- اتأخرت ليه في حمامك مش عوايدك؟

رد عليها مبتسمًا بشحوب:

- وانتِ كمان مش عوايدك تخلصي لبس بسرعة كدة؟

استدارت إليه بابتسامتها الرائعة لترد بمرح:

- واديني عملتها ياسيدي، عشان تعرف ان مراتك مابتحبش الرقاد ولا العيا، وعشان كمان عندي ملفات عايزة اجهزها بسرعة لمديري الراجل الصعب اللي قولتلك عليه قبل كدة .

اتسعت ابتسامته قليلًا يجاريها في مزحتها وقد تأكد من ظنه ، زهرة لم تدري بعد بما نشر وما يتناقل على الهواتف عن خبر زواجهم وما حدث أمس حتى أصبح ترند على وسائل التواصل الإجتماعي عنها وعن أبيها ونسبه بهم، فكيف له أن يخبرها ويُطفى شمس ابتسامتها المشرقة، فهذا كثير وفوق قدرة تحملها وتحمله، قطع شروده صوت الهاتف والذي أشارت إليه زهرة بضيق:

- ماتشوف تليفونك دا ياعم اللي ما بطلش رن من الصبح وفلق دماغي.

- طب استنيني عشان نمشي مع بعض.

قالها وتوجه ليتناول الهاتف من فوق الكمود، غافلًا عن غمغمتها من خلفه:

- لتاني مرة بيقولي نمشي مع بعض، هو ناسي ان كل واحد ليه عربيته ولا إيه؟

قالتها وذهبت لتتناول شطيرة صغيرة لفطارها وترتشف فنجانها اليومي القهوة باللبن كما تحب،

في الوقت الذي كان هو يرد فيه على المتصلين من شركاءه في المجموعة ليطمئنهم بردود مقتضبة حتى لا تفهم هي ما يرمي إليه، وعيناه تتنقل حولها كل دقيقة حتى أتاه الإتصال المنتظر، رمقها بنظرة خاطفة يقول سريعًا قبل أن يتوجه نحو الشرفة:

- هاخلص اتصالي وراجعلك.

تطلعت في أثره مندهشة من تكرار جملته لها، حاولت الأنتظار قليلًا ولكن حينما تأخر في جداله بالشرفة، ومع نظرة لساعتها شهقت قائلة:

- بالهوي دا انا اتأخرت جدًا على ميعادي، لا بقى خلص مع نفسك، انا يدوبك اللحق الشغل المتأخر عليا.

غمغمت بعبارتها الاخيرة سريعًا وهي تتناول حقيبتها لتغادر دون أن تنتظره لتتخذ السيارة المخصصة لها بسائقها وتذهب لعملها، أما هو فكان على صفيح ساخن وهو يخاطب محدثه في الهاتف :

- انا فتحت المكالمة على أن المتصل والدك ، مش انتِ يامدام. 

وصله صوتها بصراخ:

- طبعًا مش عايز ترد عليا، وانت ليك عين تحطها في عيني أساسًا بعد ما بقيت ترند انت واللمامة بنت تاجر المخد*رات.

ضم قبضته بقوة ليرد عليها جازًا على أسنانه، يحاول كبح جماح شياطينه مع هذه المستفزة:

- كلمة تاني عنها ياميري، وهاتشوفي وش عمرك ماشوفتيه.

- انت كمان بتدافع عنها.......

قطع صرختها والدها الذي تناول منها الهاتف ليحدثه  قائلًا:

- جاسر يا ريان .

- نعم ياسيادة الوزير.

هتف بها بنفس القوة، ليأتيه رد الرجل الحاسم:

- عايزك تيجي الفيلا حالًا وتقابلني، ولاحضرتك متردد ما تيجي؟

استفزته كلمات الرجل فقال حازمًا:

- مش انا سيادتك اللي اتردد في أي موضوع يخصني، وانت عارف كدة كويس ياسيادة الوزير فهمي حيدر.

- تمام يبقى تيجي حالًا في ظرف ربع ساعة، عشان  انت عارف مشاغلي

قالها فهمي واغلق المكالمة على الفور، زفر جاسر بعنف قبل أن يعاود الرجوع لجناحه، ليفاجأ بذهابها دون انتظاره، رفع رأسه للسماء يتنهد بيأس، يرجوا أن تكون على قدر ما يحدث. 

............................

خرجت من سيارتها لتعدو بخطواتها بنشاط وحيوية نحو الدلوف الى الشركة، لتفاجأ بنظرات الجميع المصوبة نحوها بشكل ملاحظ، شعرت ببعض الأرتباك وهي تتسائل ان كان هناك شئ ما يعيب ملبسها وما ترتديه، ولكنها نفضت الفكرة لتكمل طريقها وهي تظن انها تتوهم، ولكن شكها بدأ يتزايد وهي تسمع الهمهات خلفها من بعض الموظفات والموظفين وهي واقفة في انتظار المصعد العمومي للشركة:

- ودي ليها عين تيجي النهاردة بعد اللي اتعرف ؟ لا وواقفة تنتظر الاَنساسير مع الموظفين الغلابة، تمثيل يابنتي، كهينة أوي وعاملة فيها بريئة، اموت واعرف هي عرفت توقعه ازاي؟ دي وقعة سودة وهاتنزل بيه لسابع أرض، دا كفاية سيرة ابوها اللي مشرف في السجن بتهمة المخد*رات.

هنا وضحت الصورة كاملة، وتأكدت مما ظنته في البداية تخمين، تسحبت بخطواتها مطرقة رأسها بخزي، متجهة نحو الدرج لتصعده على أقدامها بديلا للمصعد، تريد الإختباء، تريد العودة لمنزلها الاَمن مع جدتها وخالها، تريد الأختفاء عن أعين الجميع وعن سماع مايؤذيها منهم، تريد أن تتلاشى نهائيًا.

......................................


ولج لداخل القصر المهيب بعد اختراقه لصف الحرس الأشداء والمنتشرين بكثافة خارجًا، ليتقدم بصحبة مدير مكتب الرجل والذي قابله بابتسامة دبلوماسية بطبيعة عمله، تلقفته ميريهان من وسط القصر وهي تهتف بعدم مراعاة لمكانته أو حتى لمظهرها ومظهره أمام العاملين بالقصر:

- أهلًا أهلًا بالعريس، نورت ياباشا، ماجيبتش ليه العروسة نتعرف بيها، ولا نتعرف بيها ليه؟ ما احنا عرفناها خلاص، ومصر كلها عرفتها وعرفة نسب الباشا اللي يشرف. 

تنحنح الرجل بحرج معتذرًا ليتركهم، فتقدم جاسر  ليجلس على أقرب مقعد وجده أمامه، يتطلع إليها ببرود وهي تصرخ حانقة منه:

- ماترد ياجاسر باشا ولا القطة كلت لسانك، ولا مش لاقي رد بعد ما سمعتك بقت ترند في العالم كله؟

مال بجلسته إليها مستمرًا في بروده صامتًا عن الرد عليها لدرجة كادت أن تصيبها بالشلل من فرط غيظها، حتى قاطع صرختها والدها الذي خرج من غرفة مكتبه ليهدر مستنكرًا:

- كفاية ياميري وارجعي على أؤضتك .

خرج جاسر عن صمته ليرد على الرجل:

- وكفاية ليه يا سيادة الوزير؟ ماتسيبها تخرج طاقة الكبت والقهر اللي جواها، بدل ماتطق ولا يحصلها حاجة 

عادت للصراخ موجهه الخطاب لوالدها:

- شايف ياوالدي بجاحته وقلة أدبه.

نهض جاسر احترامًا للرجل الذي اقترب منه ليشاركه الجلسة؟

- واخد بالك ياسيادة الوزير، انا للاَن ملتزم بسياسة ضبط النفس، ومش عايز أرد عليها احترامًا لسيادتكم.

فغرت فاهاها واشتعلت عيناها ذات العدسات الزيتونية، فكان الرد من الرجل الذي قال مباشرة بدون مواربة:

- سؤال وعايز اعرف إجابته حالًا ياجاسر، هي البنت دي حقيقي تبقى مراتك؟ ولا الموضوع حصل فيه لبس؟ والصور دي كمان بتاعتك ولا لأ؟

صمت قليلًا جاسر وعيناه تتنقل بين الرجل وابنته ثم أجابهم بكل ثقة:

- دا حقيقي فعلًا، زهرة تبقى مراتي على سنة الله ورسوله، والصور التي اتأخدت من غير علمي ولا رضايا، هي كمان تبقى صورنا.

وقع الخبر عليهم واعترافه المتبجح لهم كان كالصاعقة التي أتت فجأة لتزلزل كيانهم، همت ميري بالاعتراض صارخة كعادتها ولكن توقفت فجأة بأشارة من والدها الذي تولى دفة الحديث أمام جاسر مشددًا على أحرف الكلمات:

- إنت واعي للي انت بتقوله دا؟ ولا داري بعواقب اعترافك ليا أنا بالذات بأنك اتجوزت على بنتي، واحدة سكرتيرة لاتسوى وكمان بنت تاجر مخد*رات؟ 

- أولًا حضرتك أنا مسمحلكش تعيب في مراتي، ثانيا بقى أنا بأكدلك إني واعي لكل كلمة قولتها.

قالها جاسر برباطة جأش يحسد عليها، وكان رد فهمي بكل هدوء:

- حلو أوي ياجاسر فتحة الصدر دي، ارجوا شجاعتك بقى تنفعك لما اخرب بيتك وامسح الأسم اللي بناه والدك من سنين بعد فضيحتك ما ملت الدنيا.

صمت قليلًا الرجل قبل أن يستطرد:

- ياأما ترجع لعقلك دلوقتِ حالاً وتكدب الخبر بعد ما تطلق البنت دي ونبدل الموضوع برجوعك لميري بكام صورة حلوين، وكأن شيئًا لم يكن، دا لو انت عايز تنقذ المجموعة.

التمعت عيناها ميري بتشفى واضح أما جاسر فتلقى الكلمات بابتسامة جانبية ساخرة ليرد:

- سيادتك أخدت بالك دلوقتي من الفضايح؟ وبنتك اللي مقضاياها سهر وشرب وحاجات تانية..... دا مأثرش معاك؟ طيب أجيبلك انا من الاخر عشان تبقى على نور، مراتي مش هاطلقها، وان كان على المجموعة فاانا كفيل لإنقاذها أما بقى بخصوص حصتك، فانت تقدر تسحبها وبكل سرور مني لكن.

لوح بسبابته يتابع:

- لكن انك تحاول تلعب معايا وتضرب من تحت الحزام، فانا سيادتك كمان هارد بفايل كبير لصور بنت الحسب والنسب  بنتك وهي بتشرب وبترقص وبتدخل شقة صاحبها العازب في عمارة في قلب مصر الجديدة. 

قال الاَخيرة بمغزى لميري التي هبت منتفضة تعترض:

- وافرض بروح لصديقي شقته، انت إيه دخلك ماانت هاجرني بقالك اكتر من سنة؟

لم يتمالك نفسه وضحك بدون صوت، أما فهمي فقد هدر على ابنته يسكتها غاضبًا:

- اخرسي ياميري

تابع جاسر:

- شوف حضرتك انا بقيت ترند زي ما انت شايف يعني حكاية تانية على حكايتي مش هاتفرق، لكن سيادتك  هتقدر تتحمل ولا الوزارة نفسها هاتتحمل على سمعتك؟

خبط فهمي بكف يده على ذراع المقعد بعنف لينهي الجلسة مع جاسر الذي أفقده اتزانه قائلًا بحسم:

- ميعادنا في اجتماع الجمعية العمومية للمجموعة وانتهى.

- تمام سيادتك.

تمتم بها ناهضًا ليُغادر وما أن استدار خطوتين حتى التف لميريهان قائلًا بأسف:

-  معلش ياميري، هاعفيكِ من الحرج انا واقولهالك بنفسي، انتِ طالق .

قالها والتف يكمل طريقه غير عابئًا بصراخها من خلفه ولا بغضب فهمي وتوعده بالرد

...........................   


بضحكات متشفية سعيدة كانت تقرأ في كلمات المنشور وتنظر للصور بتمعن وهي تخاطب محدثها في الهاتف :

- حلو اوي يافاضل الشغل ده، بصراحة فاجأتني.

اتاها صوت الاَخر بتفاخر:

- عشان تعرفي بس إني صحفي مش هين، الخبر بقى ترند في ظرف نص ساعة وكل الصفحات والمواقع بقت تنقل من صحيفة العبدلله، صاحبك اسهمه بقت تعلى يا فيفي .

صدرت منها ضحكة ذات صوت عالي قبل أن ترد:

- ياللا ياسيدي عد الجمايل، المهم بقى اني بجد سعيدة، ماكنتش اتخيل إن الزخم ده كله يحصل من نشر كام صورة صغيرين في المطعم المشهور ده، قال وانا اللي فكرت ان المشهد دا يحصل في الشركة لما الأنساسير يعطل ولا يقع بيها.

هتف الرجل من محله :

- يخرب عقلك، هو انتِ بجد فكرتي في كدة، لا دا انتِ بقيتي شريرة أوي يافيفي .

رددت خلفه بتأكيد:

- أوي أوي يافاضل، انت لسة أساسًا معرفتش امكانياتي ياحبيبي .

................................


- الحيوانات الأغبية، هي حصلت يشنعوا على أبني. 

هتفت بها لمياء وهي جالسة بجوار زوجها في المشفى وهي تتفقد بعض المواقع المصرية على هاتفها، أجفلت عامر ليسألها بدهشة:

- مين هما الحيوانات يا لميا؟ ومالهم ومال ابنك؟

اقتربت تناوله الهاتف ليرى ماتقصده، وتابعت هي غاضبة:

- هي حصلت يا عامر؟ يطلعوا إشاعات على أبني أنا؟ هما مش عارفين جاسر الريان يبقى مين؟ ولا وضعه إيه في البلد، ولا مراته تبقى بنت مين؟

عقد حاجبيه عامر بشدة واطبق شفتيه ينظر في الهاتف بصمت، واستطردت هي:

- انت لازم تتصرف ياعامر وتعمل اتصالاتك تشوف إيه الحكاية دي؟ ومين البنت دي كمان اللي زقينها عليه، انا متأكدة ان الصور اكيد تركيب، ماتنطق ياعامر، هو انت ساكت ليه؟ وسايبني اتفلق مع نفسي، مش واخد بالك ولا مش مركز في اللي بقوله ولا إيه؟

التفت رأسه يتطلع إليها لعدة لحظات، تترقب هي فيها رد فعله، ثم مالبث ان يفاجأها لينهض من جوارها قائلًا باقتضاب:

- انا هاروح اخلص ورق المستشفى واحجز تذكرتين عشان نسافر، احنا نازلين مصر حاليا.

نهضت هي الأخرى لتتبعه سائلة بدهشة:

- ونسافر ليه ونقطع رحلة العلاج؟ وانت ممكن باتصال واحد تحل كل حاجة، هو فيه إيه بالظبط ياعامر؟

.......................................


عاد الى مقر شركته بصحبة كارم الذي كان يصف له شفهيًا وضع المجموعة وأسهمها التي هبطت بشدة في البورصة، وماترتب على ذلك من وقف لبعض الصفقات نتيجة لحالة عدم الاستقرار، مع اقتراح بعض الحلول السريعة والتي سيتم دراستها الاَن في مكتب الرئيس، والذي فتحه جاسر ورأسه ملتفة للخلف نحو مكتبها الفارغ يتسائل باستغراب عنها:

- هي زهرة مش موجودة على مكتبها ليه؟

أجابه كارم منشغلًا بالنظر في هاتف يده على أسهم الشركة:

- انا عرفت انها حضرت النهاردة. 

- على أساس اننا مش على علم بحضورها يعني ياعم كار.....

أردف بها جاسر قبل أن يقطع كلمته وقد هاله مايراه، انتبه كارم ليرفع رأسه، فتفاجأ هو الاَخر، وهي يرى زهرة على ألاَريكة الجانبية في المكتب، متكومة على نفسها كطفلة صغيرة فاقدة أبويها. 

تحمحم كارم ليتسئذن شاعرًا بالحرج وهو يتطلع الى رئيسيه الذي تسمر محله أمامها:

- اا طب انا هاستنى برا على ماتندهني .

اومأ له برأسه وراقب انصرافه قبل أن يقترب ليجلس بجوارها بقلبٍ ملتاع يسألها:

- إيه اللي حصل؟

رفعت عيناها التي ذبلت من البكاء قائلة برجاء:

- عايزة امشي ياجاسر، عايز اروح عند جدتي .

ضيق عينيه يسألها بلهجة خطرة:

- هو انتِ في حد هنا ضايقك؟

هزت رأسها تكرر بإلحاح:

- ياجاسر بقولك عايزة امشي، احنا ماكنش لينا الجوازة دي من الأول، كل اللي بيتقال من الناس ليها حق فيه، انت نجمة في السما عالية، وانا بنت.......

- إياكِ تكملي يازهرة 

قالها بمقاطعة حادة ليتابع:

- انا اتجوزتك انت بس، وماليش دعوة بأي حد تاتي، وعلى العموم انا كدة فهمت لوحدي .

- فهمت ايه؟

سألت بدهشة، أما هو فانشغل عنها ليتناول هاتفه ليهاتف أحدهم، وفور أن اتاه الرد اصدر أمره بحزم:

- اسمع ياكارم، جمعلي كل فرد في الشركة من أكبر موظف لاصغرهم........ في ظرف دقايق ياكارم .

انهى مكالمته سريعًا ليجدها تسأله باسستفسار:

- هو انت بتجمع الموظفين ليه؟

تجاهل الإجابة ليمسك كفها ويسحبها قائلًا:

- تعالي معايا الأول .

نزعت يده لتتشبث بالأرض معترضة:

- مش هاتحرك في أي حتة غير لما تفهمني الأول. 

تنهد رافعًا عيناه للسماء قبل يقترب منها ليرد وهو يحاوط وجهها براحتيه:

- هاخدك ياستي ع الحمام تغسلي وشك وتطبطي نفسك كدة، و لما نخرج للموظفين تبقى راسك مرفوعة وظهرك مفرود بعظمة.

ضيقت عيناها بتساؤل قائلة:

- ليه يعني؟

- انت لسة هاتسألي يازهرة، تعالي بقى مافيش وقت .

قالها ليتجه بها فورًا نحو المذكور. 

.................................


ضغط على جرس المنزل ولم ينتظر كثيرًا حتى فتح له  الصغير الباب بابتسامته الرائعة وغمازتيه التي تخطف لب قلبه دائمًا، ليهتف له مهللًا بمرح:

- عمو طارق. 

- قلب عمو طارق انت.

اردف بها وهو يقبله على وجنتيه بسعادة ظاهرة، قبل أن يسأله هامسًا:

- عاملة ايه بقى أبلة كاميليا؟ كويسة النهاردة؟

رد ميدو بهمس هو الاَخر مقربًا رأسه وكأنه يفشي له سرًا :

كويسة وعال العال، دي حتى كمان لبست وهاتخرج دلوقت. 

استقام بجسده يسألها قاطبًا بدهشة:

- هاتخرج ازاي يعني؟ وهاتروح فين؟

قالها قبل أن تلتف رأسه على صوتها القريب :

- أهلًا طارق انت وصلت؟

تطلع الى ما ترتديه من ملابس تصلح للخروج ليكرر سؤاله لها:

- انت رايحة فين ياكاميليا؟ وازاي هاتخرجي برجلك دي؟

تقدمت تتعكز على عاكازها بخطوات بطيبئة عرجاء لتجيبه بوجه متجمد:

- عندي مشوار مهم ولازم اعمله دلوقتى ضروري، اوقفها قبل ان تصل للباب هاتفًا بغضب:

- مشوار ايه اللي هاتروحيه بحالتك دي؟ هو في إيه ياكاميليا؟

اجابته قائلة بحدة:

- زهرة اتصلت بيا معيطة وانا لازم اروح اشوفها حالاً.


بعد قليل 

وبعد أن اصرت على الخروج فاأصر هو الاَخر على توصيلها بسيارته، كانت تتحدث معه بقلق وهي جالسة بجواره في الأمام :

- انا كنت عارفة من الأول انها رقيقة ومش هاتتحمل العالم الغريب دي عليها، زهرة دنيتها كلها كانت مختصرة في خالها وستها، فجأة تلاقي نفسها في مجتمع ما بيرحمش، هي مش قد الضغط دا كله انا عارفاها.

التف اليها يخاطبها برقة:

- واضح انك بتحبيها اوي.

ردت كاميليا وعيناها تتطلع اليه عن قرب:

- انا فعلًا بحبها اوي، بس خايفة عليها أكتر، عشان الجوازة دي ماكنت راضية عنها من الأول، دي عالم مابترحمش ومشاعر البشر عندهم اَخر شئ يفكروا فيه، بس بحلف وديني، لو جاسر الريان مدافعش او اتخلى عنها لكون واقفالوا ان شالله اترفد من شغلي حتى .

صمت طارق ولم يسعفه قلبه على الرد فعيناه والتي كان يحيدها بصعوبة ليلتفت للطريق، تعلقت بهذه المرأة المذهلة والتي مازالت تدهشه قوتها وشجاعتها رغم هذه الحزن الذي يغلف قسماتها وهي تتحدث وكأن الموضوع يمسها هي شخصيًا، هي لغز ولن يهنأ له بال حتى يجد شفرة لحله.

..............................


في الردهة الفسيحة وقد اتى الجميع لتلبية لدعوة رئيسهم في العمل، خرج بها أمامهم بعد ان ذهب عن وجهها بعض الذبول، تجاهد لتنفيذ نصائحه برفع عيناها في وجوه الجميع دون خوف أو خزي في حضرته، استمر في سحبها من كف يدها حتى توقف أمامهم في الوسط ليصيح فجأة بصوت جهوري يصل إلى لأبعد فرد في الردهة:

- أكيد طبعًا سمعتوا ولا قريتوا اللي انكتب عني وعن زهرة في السوشيال ميديا 

صدرت الهمهمات والأصوات المغمغمة من بعضهم قبل أن يوقفها هو بصيحة قوية:

- مش عايز اسمع أي صوت عشان تسمعوا اللي جاي دا مني كويس قوي وتفهموه. 

خيم الصمت بعد كلماته القوية ليتابع :

- انا دلوقت بعلن اهو قدامكم، ان الخبر دا حقيقي، يعني من الساعة دي، أي حد هايحاول يضايق زهرة هانم مراتي، بكلمة حتى لو مش مقصود، انا هاعرف ارد حقها كويس قوي، الأمر دا انا معنديش تساهل فيه، يعني لو حصلت اشغل الكاميرات على أي فرد فيكم عشان اتابع بنفسي، هاعملها واللي معترض على القرار ده، يتفضل يلم حاجته من دلوقت وعلى برا الشركة حالًا. 

صدر من بينهم صوت مرفت باعتراض:

- ايه الكلام دا حضرتك، ازاي يعني تشغل كاميرات وتراقب واللي يغلط بكلمة حتى لو مش مقصودة ترفده على طول، دا يبقى اسمه تعسف.

أجابها بنظرة مستخفة:

- اعتبريه زي ما تحبي تعتربيه، بس وفري اعتراضك بقى، للجمعية العمومية للمجموعة يااا مدام مرفت.

الفصل الثالث والثلاثون 


 اعتبريه زي ما تحبي تعتبريه، بس ياريت بقى توفري اعتراضك لأجتماع الجمعية العمومية للشركة يااامدام مرفت.

لا زالت الكلمات تتردد في راسها بعد أن القاها بتحدي أمام الجميع لتشعر وكأن دلوًا من الماء المثلج سقط فوق رأسها، إهانته المبطنة أخرستها واللجمتها عن الرد عليه، حتى أفقدتها لذة انتشاءها بالنصر بعد أن ملئت الدنيا بخبر زواجه بهذه الفتاة ونسبه لرجل مسجون،

ليقلب الطاولة فوق رأسها الاَن بخبر إعلانه هذا بكل تفاخر أمام موظفين شركته ليجبرهم على احترام هذه الزهرة ، وكأن لا شئ يعينيه في هذا العالم سوى رضاها، حتى وهو يعلم بكم الخسائر والكوارث المترتبة على أعلانه هذا.

فارت الدماء برأسها وجسدها كان يهتز من فرط أنفاعلها حتى أصبحت تضغط بقبضتها على قلمها الصغير بقوة أدت لأنكساره لنصفين فجرح راحة كفها ، ولكنها لم تهتم، فجرح كرامتها اقوى واشد، كرامتها التي دهسها قبل ذلك حينما لفظها كقطة مصيبها الجرب وهي التي تقربت منه وكانت على استعداد لتهبه قلبها وجسدها بل وروحها لو أراد، ولكن قلبه الغشيم رفض بكل قوة، ليتحجج بمبادئ وهمية ليس لها سعر ولا ثمن في قانون المحبين .

انتفضت فجأة على صوت هاتفها الذي صدح أمامها على سطح المكتب وقطع شرودها، لمحت بعيناها اسم المتصلة فتأفافت بقرف، فا اخر ما ينقصها الاَن هو الاستماع لتفاهات هي في غنى عنها، همت لعدم الرد ولكنها استدركت ترد سريعًا لتعلم بااَخر اخبار جاسر الريان مع صهره الوزير، خرج صوتها بنبرتها المصطنعة كعادتها:

- ألوو.... أيوة ياقلبي اخبارك ايه النهاردة؟

اتاها من الجانب عبر الاثير صوت صرختها الباكية:

- الحقيني يا مرفت جاسر طلقني. 

.................................


- طلقتها معقول؟

هتف بالسؤال طارق والذي وصل بصحبة كاميليا ليشهدوا بالصدفة تجمع الموظفين، واعلان جاسر الهام أمامهم بقوة، ثم يصعق الاَن بهذا الخبر المهم من صديقه بعد أن اجتمع به داخل غرفة مكتبه، تاركًا زهرة في الجانب الاَخر من الغرفة مع كاميليا، والذي أجابه باستنكار:

- ومش معقول ليه بقى؟ ماهو دا الطبيعي على فكرة، ولا انت مش واخد بالك؟

- لأ ياسيدي واخد بالي وعارف كويس باللي ناوي عليه من زمان؟ بس ما توقعتش يكون دلوقتى بالذات، انت كدت فتحت عليك جبهة فهمي حيدر في وقت صعب وحرج ، ودي جبهة شديدة أوي وشرسة .

قالها طارق بقلق وكان رد جاسر الحازم :

- تبقى زي ما تبقى، انا أساسًا على اَخري من الراجل ده هو وبنته من زمان، بس كنت بصبر نفسي وبأجل في شئ محسوم، ايه اللي يجبرني استنى أكتر من كدة ولا اتنازل وانفذ شروطه، يا أخي في ستين داهية.

تنهد طارق يمسح بكفيه على جانبي رأسه، ليرد وهو يحاول التخفيف من توتره:

- برغم خوفي وقلقي من اللي كل اللي بيحصل ده، بس بصراحة مديك الحق، الراجل مستفز هو وبنته، لكن كمان ماقدرش انكر إن الضربة شديدة عليهم، ابن ال.....

اللي نشر الخبر قاصد يوجه ضرباته في كذا اتجاه، دا عقل شيطاني يابني، لكن انت معرفتش مين الصحفي ده؟

اظلم وجه جاسر واحتدت عيناه ببريق خطر ليجيب طارق بشر:

- هاعرفه يا طارق وهاعرف اللي زقه عليا وقصد يأذيني فيها، بس كل حاجة وليها وقتها.

اومأ طارق رأسه بتفهم ليكمل على كلماته:

- فعلًا عندك حق ياجاسر، أهم حاجة دلوقتِ انقاذ المجموعة، انا سمعت ان الأسهم في البورصة هبطت جامد .

رد جاسر:

- دا حقيقي، أول حاجة هاعملها هي اجتماع مهم مع المسؤلين والخبرا اللي في المجموعة، وكارم بيقوم باللازم دلوقتِ. 

سهم طارق قليلًا ليسأله بتوجس:

- هو كارم موجود هنا دلوقتِ ؟

اومأ جاسر وهو يهز برأسه المنشغل:

- في غرفة الإجتماعات جوا .

.....................................


وفي الجانب الاَخر

وهي بجوار صديقتها الحبيبة التي كانت تتحدث معها بفرح وزهول، غير مستوعبة حتى الآن ما رأته بعيناها، بدفاع جاسر القوي عنها واعلانه لخبر زواجهم بتحدي للجميع غير مكترث لما يقال ويشاع عن أباها ، النقطة السوداء المصاحبة لها دائمًا، مشاعر مختلطة تنتابها، ما بين الفرح والشعور بالأمان لهذا الإعلان، والقلق والخوف الشديد مما هو قادم .

- آيه يابنتي سرحتي في إيه انا بكلمك؟

هتفت بها كاميليا لتخرجها من شرودها، ابتسمت لها زهرة ترد بحرج:

- لا يعني اصل..... مش عارفة بقى متلخبطة خالص ومش عارفة اتلم على أعصابي لحد دلوقتي من اللي حصل.

اعتلى ثغر كاميليا بابتسامة مرحة وهي ترد عليها:

- تتلغبطي ولا تقلقي ليه بس ياعبيطة؟ دا جاسر باشا ثبت الكل وعمل اللي مكنتش اتخيل في حياتي انه يحصل، انا دلوقتِ بس اتأكدت ان الراجل دا بيحبك وبجد يازهرة. 

ارتعشت شفتيها بابتسامة سعيدة تحاول السيطرة عليها بخجل وقلبها أصبح يضرب بقوة مع سماعها لكلمات كاميليا، فانتقلت عيناها نحوه في الجانب الاخر من الغرفة وهو مندمج في الحديث مع طارق، ليلتفت إليها فجأة وكأنه استمع لنداء عيناها التي التقت على الفور بخاصتيها بحديث خاطف سريع ولكن موجز ، نظرة عاشقة تكفى لاختصار كل كلمات العشق أو حتى أبيات الشعر ، توعدُها بالأمان، وما أجملها من كلمة. 

- تاني برضوا بتسرحي؟

قالتها كاميليا بابتسامة ماكرة لتكمل بشقاوة:

- طب ما اقوم انا بقى واسحب الراجل الغلبان اللي جبته معايا ده عشان يخلالكوا الجو مع بعض.

ختمت جملتها بضحكة مقهقهة، بعد أن زجرتها زهرة بنظرة حذرة خطيرة  وقد تحول وجهها للإحمرار الشديد من فرط انفاعلها وخجلها، ورغم أن صوت الضحكة لم يكون عاليًا ولكنها لفتت انتباه طارق من الجهة الأخرى من روعتها، فضحكتها الصافية تميزت ببحة ناعمة لا تصدر سوى من إمرأة ناعمة مثلها فتجعل من يسمعها يود تكرارها طوال اليوم، التفت جاسر بدوره حينما لاحظ انصراف طارق عنه، وقبل أن يهم بمخاطبته انتبه على خروج كارم اليهم من غرفة الإجتماعات يدعوا رئيسه للبدء في الجلسة، وقد اكتمل عدد الحضور، لتقع عيناه بالصدفة على كاميليا التي لم يراها منذ فترة، وهو لا يجد الوسيلة لمعرفة سبب غيابها مع تحرجه بالأتصال بها، وهذا المدعو طارق لم يجيبه بإجابة واضحة عن سؤاله قبل ذلك، فذهب إليها سريعًا بقلق ليطمئن عليها وقد تفاجأ بإصابتها.

وعلى مقعده اشتد وجه طارق واحتدت عيناه بعجز، كم ود ايقافه عن التقرب إليها وقطع فرصته نحوها ولكن ما الحجة التي يملكها لفعل ذلك؟

ربت جاسر على كتفه بمغزى وصل إليه، لينهض ويتبعه في حضور الإجتماع المهم، ولم يقوى على منع نفسه بإلقاء نظرة اَخيرة نحوهم.

..................................... 


في الحارة 

وعلى كرسيه وهو جالس أمام أحد صبيانه الذي كان يقرأ له المنشور على أحد الصفحات، مال إليه بجسده يسأله بريبة مضيقًا عيناه:

- بتقول مين ياد؟

أجاب الفتى بلهفة:

- بقولك جاسر الريان يا معلمي، دا باشا تقيل اوي، واخباره دايمًا مالية النت.

اومأ بتفهم ليضيف بسؤال ثاني:

- اااه وجاسر ده بقى عربي ولا مصري؟

- بقولك مصري يا معلمي مصري، حتى على طول بيظهر مع الوزرا في فتح المشروعات الجديدة.

عاد بجسده للخلف وهو يستوعب كلمات الفتى بعد ان تناول الهاتف يتمعن النظر في صورها متمتمًا:

- يعني العصفورة اتلم عليها الباشا اللي كانت شغالة عنده واتجوزها في السر بعلم أهلها ، وأبوها الدُغف عمل علينا مسرحية عشان يفهمنا انها اتجوزت واحد عربي، عشان ماحدش يدور ولا يسأل، ماشي يا محروس ال....

- بس اهو ربنا فضحهم يامعلم

رفع رأسه فهمي إلي صبيه يرد بوجه مبتسم وهو يغمز بعيناه :

- عندك حق ياد، وحركة معلمك مع محروس عملت جو وشعللت الخبر، سبحان الله زي ما اكون كان قلبي حاسس. 

استجاب الفتى بابتسامة مع معلمه والذي هدر عليه فجأة:

- خد احفظلي الصور دي في التليفون

صمت برهة ليكمل بعدها مغمغمًا بصوت خفيض:

- اهي حاجة من ريحتها تصبر قلبي وخلاص، ولا يمكن الزمن يحن وترجعي تاني، والنعمة دا مايحصل لكون كاتب عليها وقتي، ان شاالله حتى ولو في شهور العدة.

................................


وعند رقية والتي كانت جالسة بوجه مكفهر وغاضب وصفية تحكي وتصف لها ما حدث وما يقال على حفيدتها مع تشويه لصورتها مستغلين خطأ أباها الذي أدى لحبسه، ولج إليهم خالد عائدًا من عمله ليتفاحأ بهيئة والدته الغريبة عنها .

- مساء الخير 

قالها بتوجس لتزداد حيرته مع ردودهم المقتضبة وصمتهم فجأة عن الحديث، اردف يسألهم وهو يجلس على الكرسي المقابل لهم:

- خير في ايه؟ في حاجة حصلت ياما؟

اومأت والدته برأسها فخرج صوتها كالهمس:

- مافيش حاجة، خير ان شاء الله.

عقد حاجبيه بشدة ليتجه مخاطبًا صفية بانفعال وقد اقلقته نبرة رقية الحزينة على غير عادتها:

- قولي انتِ ياصفية، عشان انا جبت اخري وانتوا عارفين ان ماعنديش صبر.

سألته صفية بدهشة اولًا:

- هو انت مافتحتش نت النهاردة ياخالي؟

احتدت عيناه من ردها الذي احتسبه تهربًا، فهتف بنفاذ صبر:

- وانا مالي بالنت ولا الزفت هو انا فاضي ابص فيه ولا انيل في شغلي كمان، ثم ايه دخل كلامكم باللي بيحصل في النت......

تنهدت صفية تناوله الهاتف صامته بحرج ليفهم وحده، وهو ماحدث فبمجرد رؤيته الصور برقت عيناه بالغضب ليقرأ ماكتب على عجالة قبل أن يرفع راسه هادرًا :

- ماحدش فيكم اتصل بيا ليه وقالي؟ سايبني من الصبح كدا على عمايا والدنيا مقلوبة حواليا. 

ردت رقية بصوت عالي عن الأول:

- ويعني لو اتصلنا بيك كنت هاتعمل ايه ياخالد ، كنت هتسيب شغلك بقى وتجري على ولاد ال........ اللي شنعوا وكتبوا الكلام ده؟

اهتزت رأسه رفضًا يقول بغضب:

- لا طبعا ياما، الكلام دا ماعنديش حيلة فيه عشان يخص الباشا، انا المهم عندي دلوقتِ البت، هايبقى وضعها ايه مع صاحبنا، وكان ايه رد فعله معاها؟ انتوا اتصلتوا تشوفوها؟

ردت صفية بأسف:

- احنا مانعرفش حاجة عنها لحد دلوقتِ، عشان من ساعة ماعرفنا واحنا بنتصل وهي مابترودش.

انتفض خالد عن جلسته بغضب صائحًا:

- وبرضوا فضلتوا ساكتين من غير ماتدوني خبر؟

قالها ليتحرك ذاهبًا، فاستوقفته رقية قائلة:

- خلي بالك من تصرفاتك ياخالد قبل يطلع منك أي فعل، بس لو حسيت ان البنت زعلانة ولا فيها أي حاجة مديقاها، هاتها لحضني على طول يابني ماتستناش،

اومأ لها برأسه قبل أن ينصرف مغادرًا بسرعة، تمتمت رقية بقلق:

- يارب استرها ع البت يارب وطمني عليها والنبي

..............................


أوقف السيارة فجأة ليخرجها من شردها الذي لازمها من وقت أن تركوا الشركة، تطلعت حولها لتقع عيناها على الواجهة المضيئة لإحدى المحلات، التفت برأسها إليه تسأله بدهشة:

- وقفت هنا ليه؟ دا انا افتكرت اننا وصلنا. 

التف بجذعه إليها قائلًا:

- لا ياستي ماوصلناش، بس انا بصراحة بقى طقت في دماغي انعنش نفسي بأيس كريم من المحل اللي قدامنا ده، اوعي تقوليلي انك مابتحبهوش؟

ابتسمت بيأس تقول:

- مافيش فايدة فيك، يعني في البداية قولتلي نتعشى مع بعض ولما رفضت، فقولت تحطني قدام الأمر الواقع، وانت عارف ومتاكد ان دي عزومة ماتترفضش خصوصًا من محل مشهور زي ده .

- حلو أوي 

قالها وهو يهلل أمامها بسعادة طفل صغير قبل أن يترجل من السيارة متجهًا نحوها ليساعدها على السير.

وبداخل المحل 

كان يتطلع بها هائمًا وهي تتناول بملعقتها الصغيرة وتتلذذ بالطعم المدهش حتى قالت له ممتنة:

- يجنن، حلو أوي ياطارق، انا بقالي فترة طويلة ما دوقت حاجة بالطعامة دي .

رد بسعادة لسعادتها:

- بالهنا والشفا.

صمت قليلًا قبل أن يلح عليه فضوله ليقول بتردد:

- انا لاحظت يعني ان الأخ كارم قعد معاكي فترة طويلة اثناء انشغالي في الإجتماع مع جاسر، 

رفعت إليه أنظارها لتفاجأه بسؤالها:

- هو انت ليه ماقولتلوش على إصابتي لما سألك؟

احتدت عيناه ليأسر أنظارها لحظات مترقبة لرده، قبل أن يجيبها بتحدي:

- ومش هاقول ياكاميليا، أي سؤال يسألوا عنك مش هاجاوب عليه، عشان يخلي عنده دم ويميز بقى.

ابتسمت من قلبها قبل أن تضيف بمكر انثوي امتزج بحزنها:

- يميز ليه؟ مش يمكن يكون رايد الحلال وعايز يدخل البيت من بابه؟

- كدة خبط لزق!

قالها بغضب وقد اشتعلت عيناه ببريق خطر وهو يسألها:

- ولو هو حصل وطلبك فعلًا؟ 

مطت بشفتيها تجيبه بالحقيقة:

- هاكدب عليك لو أنكرت، بس هو فعلًا لمح بكدة .

دفع الملعقة من يده بعنف حتى سقطت على الأرض الرخامية أسفلهم فأصدر صوتها دويًا لفت نظر بعض الأفراد حولهم، حتى أتى النادل يتناولها ويبدلها بملعقة أخرى، ليأخذ وقته قليلًا في تمالك نفسه قبل أن يستطرد بضيق:

-- اشمعنى هو؟ ليه دايمًا تحسسيني ان الباب اللي مقفول في وشي انا دايمًا مفتوح على آخره لصاحبنا ده؟ 

صمتت تشيح بوجهها عنه قبل أن تجيبه بنزق وتوتر :

- وافرض يعني زي ما بتقول كدة، دي مافيهاش زعل كل حاجة نصيب، وكارم أساسًا راجل دوغري ومالوش في اللف والدوران، 

صمت يخترقهاً بعيناه المتفحصة ليزيد من ارتباكها ثم اقترب بجذعه يسألها بتذكر:

- ولما هو دوغري وانا راجل مش تمام في نظرك، صاحبنا ده اللي مسجلاه على تليفونك ب هي ، محله ايه في الإعراب عندك.

اَلمتها كلماته وتصور نظرتها إليه بهذا السوء، لتبتلع الغصة المؤلمة في حلقها وتجيبها دون تفكير:

- هي مش راجل، دي تبقى أمي .

أجفلته إجابتها المباغتة لتأتي الاَن في إجابة عن السؤال المُلح بداخله من فترة، فسألها بتوجس:

- طيب هو انا ممكن أسألك؟ واقولك ليه؟ 

بابتسامة لم تصل لعيناها، ردت تمازجه بمرارة:

- ليه إيه؟ عشان مسجلاها بضمير الغائب زي ما قولت عليها انت قبل كدة؟ ولا عشان استكرت عليها أعظم صفة تنولها الست، لما تبقى أم؟

تنهد بعمق يجيبها:

- كله يا كاميليا كله.

صمتت أمامه قليلًا بتفكر قبل أن ترد بحسم:

- انا هاجاوبك على كل أسئلتك ياطارق، بس دا لما تسمع الحكاية كلها عشان انا عايزاك تعرف. 

قالتها كاميليا لتسرد أمامه:

"حكاية نبيلة عبد الواحد، الفتاة الريفية التي تزوجت من ابن بلدتها صابر المنسي على عمر السابعة عشر، لينتقل بها من بلدتهم الصغيرة الى المدينة الكبيرة المزدحمة، نبيلة لم تكن فتاة جميلة وحسب، بل كانت فاتنة جاذبة للأنظار لها أينما تكون، في بداية زواجهم كانت الحياة على أسعد ما يكون، مرتب الوظيفة الحكومية كان اكثر من كافي للزوج الذي كان يصرف على زوجته الجميلة الصغيرة ببزخ كي يدللها بكل ما تشتهي به نفسها، متنعمًا بالسعادة معها فقد كان يعشقها بكل جوارحه، وهي أيضًا كانت ترى فيه مثال للرجل الحقيقي وزوج تحلم به كل الفتيات، ولكن مع الوقت لا شئ يدوم، والمال الذي كان أكثر من كافي في البداية اصبح بالكاد يكفي مع انجاب الأولاد ومصروفاتهم المستمرة وغلاء المعيشة، زادت الهموم وزادت الشكوى المستمرة لقلة المال وضيق الحال ومع مرور السنوات رويدًا رويدًا أصبحت الحياة لا تحتمل، 

لم يدخر صابر جهدًا في المحاولة على قدر أمكانياته القليلة بالعمل بوظيفة أخرى بجوار وظيفته، لكسب رضاء الزوجة الساخطة دومًا، ومع ذلك لم يفلح، وكانت الضربة القاسمة حينما حملت خطأ كما تسميه بطفلها الاَخير ، الذي رفضته حانقة في البداية ولكن مع صبر الزوج عليها ووعد ابنتها الكبرى كاميليا والتي كانت في هذا الوقت تدرس في الجامعة لمساعدتها في تربيته، تقبلته على مضض، ليزداد بمجيئه الاعباء والمصروفات، ويزداد سخطها لأضعاف، حتى جاء هذا اليوم حينما حضرت فرح لإحدى قريباتها في بلدتهم، والتقت بابن عمها المغترب منذ سنوات في آحدى دول الخليج والذي كان حلمها وهي فتاة صغيرة بوسامته ورجولته ، ليعود جامعًا ثروة لا بأس بها من المال، انبهر بجمالها وشبابها ، ف نبيلة ف هذا الوقت كانت بالكاد تخطت الثامنة والثلاثون ، وضعها برأسه الرجل ليسوق عليها افراد من عائلتها لإقناعها بالزواج به، وترك الزوج الفقير وأولاده ، في البداية كان الرفض قاطعًا ولكن مع الإغراءات المستمرة وضيق حالها مع زوجها، استسلمت في النهاية، لتتختار المال والزوج الوسيم وتتخلى عن عائلتها الصغيرة حتى طفلها ذو العام الواحد"

- سابت ميدو على سنة واحدة؟ طب ازاي والدك قبل يطقله أصلًا؟

سألها طارق مذهولا بوجه متأثر ، وردت هي بجمود متحاشية شعور الخزي الذي يكتنفها مع ذكر القصة:

- الست لما تقرر تنفصل عن زوجها بتعرف كويس ازاي تخرجه عن شعوره وينطق بكلمة النهاية، وقصة الراجل ده عرفناها لما اتجوزت تاني يوم بعد انتهاء عدتها. 

ظل على صمته يعطيها الفرصة لتتابع  باسترسالها:

- على فكرة انا روحتلها بيتها بعد ما اتجوزت، كنت عيلة صغيرة بقى وفهمي على قدي، وشوفت جوزها، الراجل كان أكبر من ابويا بعشر سنين ومع ذلك كان شكله أصغر بكتير، في الأول عذرت والدتي لما شوفت الفرق الهائل في عيشتها برفاهية في فيلا كبيرة وراجل وسيم وعذرت ضعفها، لكن لما كررت الزيارة اكتشفت اخلاقه الزفت وانه بيخونها مع أي واحدة حتى لو خدامة، ولما قولتها، وواجهتها باللي سمعته وشوفته بعيني، سدت ودانها وزعقتلي.

- هو دا اللي خلاكي تقاطعيها بعد كدة؟

اومأت برأسها وهي تخبره نصف الحقيقة، ف السبب الحقيقي كان هو تحرش الرجل بها هي نفسها، حينما رأها اول مرة بمنزله صدفة، واعجب بها لدرجة اظهرت الرغبة في عيناه، ف كاميليا كانت صورة مصغرة من والدتها، تختلف عنها فقط في لون العيون، ف الوالدة تتميز عيناها بلونها شديد الخضرة.

- الله يخرب بيت غبائي، اختار الأم من قبل ما اشوف بنتها؟ اقسم بالله كنت هاغير رأيي، 

قالها بفجر اثار اشمئزازها وهو يقيمها من رأسها لأخمص أقدمها، ثم سلامه الغير مريح ليُبغاتها بقبلة مقرفة على وجنتها مدعي انه في مقام والدها، حتى شعرت بيداها التي امتدت تلامس لاجزاء من جسدها، فركضت شاكية نحو والدتها التي كانت في المطبخ في هذا الوقت ، والتي نهرتها غاضبة لتتهمها باختلاق القصة.

- اخلاق الجواري .

تفوهت بها دون تفكير لتجده يسألها قاطبًا حاجبيه:

- بتقول ايه ياكاميليا؟

رددت تجيبه بالشرح:

- بقولك ان والدتي فضلت تبقى جارية لراجل غني بفلوسه رغم أخلاقه الزفت، على انها تبقى ملكة في بيتها الفقير مع عيلتها اللي بتحبها

ظل على صمته وهو يتطلع إليها بشعور امتزج بين الإشفاق على فتاة تلقت اكبر صدماتها في هذا العمر الصغير والأعجاب الشديد بشجاعتها وتقبلها حمل المسؤلية برعاية اسرتها وشقيقها الطفل الصغير .

................................


- اخيرًا جيتي يازهرة؟

هتف بها خالد وهو يتلقفها من وسط الردهة بعد انتظاره لها على اعصابه لمدة قاربت الساعة، ردت هي بابتسامة مطمئنة وهي تحاول التخفيف من توتره:

- ياخالي والله كويسة ماتقلقش، 

هتف منفعلًا:

- ولما انتِ كويسة وبخير، قافلة تليفونك ليه؟ دا ستك هاتموت من القلق عليكِ .

افتغر فاهاها لتغلقه سريعًا بكفها، متذكرة بأسف تقول:

- انا أسفة والله ياخالي، بس النهاردة كان يوم صعب من أوله، دا غير الإجتماعات المهمة اللي قام بيها جاسر وانا كنت بساعده فيها بحكم وظيفتي .

ضيق عيناه ليتطلع بتفحص إليها وكفيه وضعهم على جانبيه خصره ليسأله بدهشة:

- انتِ بتكلميني وكأنه يوم عادي في شغلك، طب واللي اتنشر عنك وعنه ومالي النت بقى؟ مش واخدين بالكم منه؟

ابتسمت ساخرة وهي ترد:

- مش واخدين بالنا ازاي بس ياخالي؟ دا اترتب علي اللي بتقوله مصايب فوق دماغنا.... تعالي معايا احكيلك تعالي .

هتفت بجملتها الأخيرة وهي تتناول ذراعه لتسحبها معها للداخل، فاعترض متشبثًا في الأرض:

- انتِ هاتاخديني في دوكة، مش تقوليلي الأول ، المحروس جوزك سابك وراح فين دلوقتِ؟

ردت وهي تتنهد بيأس:

- ياخالي جاسر برا، بيتابع مع فريق الأمن الجديد اللي هايكلفه بتأمين الفيلا، مش بقولك هوليلة كبيرة ، تعالي ياعم احكيلك وانت تفهم 


بعد وقت ليس بقليل

انتهى من اصدار الأوامر، وتوزيع المهام، كما اطمئن بنفسه بعد أن قام بجولة تفقدية حول مداخل ومخارج المنزل، ووضع كاميرات المراقبة، كان يصعد درجات السلم الأمامي، بخطوات مثقلة من التعب والارهاق، رأسه على وشك الأنفج*ار ، كل عضله بجسده تأن للراحة، مع القلق المتزايد بداخله، يريد الأستلقاء على سريره، ليغفى ولو قليلًا، حتى يستطيع المواصلة ومجابهة ماهو اَت، تفاجأ بخالد والذي كان خارجًا بصحبة زهرة على مدخل المنزل، اقترب ليحيه بابتسامة مرحبة :

- خالد باشا، انت هنا من امتي ياعم؟

رد خالد ممازحًا وهو يصافحه بمرح:

- انا هنا من زمان، انت اللي باينك مش عايز تشوفني ولا تقعد معايا؟

استجاب له جاسر يرد بابتسامة عاتبة:

- حرام عليك، هو انا كنت اعرف انك موجود اساسًا، على العموم احنا في بيتها، تعالي نقعد ونتساهر كمان.

رد خالد بابتسامة ممتنة رغم مرحه:

- لا ياسيدي أجلها لوقت تاني انا يدوبك اروح، دي رقية متحلافالي لو اتأخرت. 

ابتسم له جاسر مع محاولات اثناءه عن الذهاب ولكن خالد أصر بعد اطمأنانه على زهرة، وقد سردت له ماقام بفعله جاسر من أجلها، ختم توديعها بقبلة كبيرة على رأسها ليأمرها بالذهاب في أقرب وقت لجدتها لطمئنتها، 

وفي الداخل سقط جاسر على أقرب المقاعد التي وجدها أمامه، مغمضًا عيناه بقوة ليفتحها فجأة مجفلًا على قبلتها خفيفة على وجنته، قبل أن تبتعد سريعًا.

سألها مستفسرًا للتأكد :

- دي كانت بوسة؟

هزت رأسها نفيًا بابتسامة مستترة، فرفع حاجبه بمكر مردفًا قبل أن يعود لوضعه:

- ماشي .

هذه المرة بمجرد اقترابها لتضع قبلتها في الجهة الأخرى ، قبض عليها من كتفيها :

- قفشتك

قالها لينطلق ضاحكًا معها ليرد لها هداياها بأضغافهم ككل مرة على وجنتيها وجميع وجهها، قبل أن توقفه قائلة بجدية:

- استنى بس ، اصل انا بصراحة من الصبح مش لاقية فرصة اشكرك بعد اللي عملته معايا، انا بحبك اوي ياجاسر.

مع سماع جملتها الاَخيرة كاد قلبه أن يتوقف من الفرح، سهم يتطلع إليها لحظات دون صوت أو حركة، يكتفي فقط بابتسامة سعيدة وهو يكرر سماعها في أذنه   ليتوقف أخيرُا مقتنصًا قبلة عاشقة من شفتيها التي أردفت بالجملة المحببة على قلبه، قبل أن يقطعها فجأه على رنين هاتفه بالصوت المميز لرقم والده، تناوله ليرد سريعًا:

- الوو.. ايوة ياوالدي ........ بتقول ايه؟ ....... يعني انتوا خلاص على وصول ؟ .......... تمام ترجعوا بالسلامة 

انهى المكالمة وتغيرت ملامحه ليعود لقلقه في انتظار القادم، سألته برقة واضعة راحتها على ساعده بحنان :

- عمي عامر راجع من السفر؟

رفع رأسه إليها ليجلى عن عقله الأفكار السيئة في حضورها، فابتسم ليقترب منها قائلًا بمشاكسة؛

- ماتأجلي الأسئلة وخلينا في الكلام المهم، الحلوة بقى كانت بتقول ايه؟

ضحكت ترد بخجل:

- ماخلاص بقى ياجاسر، هي شغلانة.

شدد من ضمها يأمرها بحزم محبب لتزيد من ضحكاتها الصاخبة بمرح:

- ببلاش غلاسة بقى وقولي .

- هههه لا مش هاقول عشان انت مستغل.

الفصل الرابع والثلاثون 


-  ميري حبيبة قلبي؟

هتفت بها فور أن دلفت اليها بداخل غرفتها، لترتمي بجوارها على التخت مرددة بأسى تدعي اللوعة على رؤية انهيارها المفاجئ:

- حبيبتي مالك بس؟ ليه تزعلي وتقهري نفسك بالشكل ده؟

اعتدلت ميري بجذعها تصرخ باكية:

- عشان اتذليت ياميرفت، انا ميري الناس تمسك في سيرتي ويتقال ان جاسر رماني وفضل عليا الجربوعة دي انا يا مرفت؟

قالتها لتنخرط في بكاءها مرة أخرى، شددت عليها مرفت بذراعيها تُظهر التعاطف في صوتها:

- طب بس ياقلبي ماتزعليش وتقهري نفسك، انت كدة ممكن يحصلك حاجة وحشة لقدر الله، ماحدش هينفعك. 

خرجت من أحضانها قائلة بغيظ اختلط ببكاءها:

- يامرفت انا اتهنت واتداست كرامتي، جاسر الغبي ماهمهوش منظري ولا منظره، لما فضل واحدة زي ده انا مشغلهاش عندي خدامة، خلى ناس متسواش تفرح وتشمت فيا، بقى انا ميري يحصل فيا كدة.....؟

انقطعت كلماتها بوصلة جديدة من البكاء والأخرى تقوم بوظيفتها على أكمل وجه، في التربيت على ظهرها بحنو زائف، حتى هدأت لتسألها بفضول ينبع من حقدها:

- طب والدك بقى، مش سامع باللي بيحصل معاكِ عشان يتصرف ويوقف كل واحد عند حده؟

- عدلت ميريهان بشعرها للخلف ويدها تمسح بالمحرمة الورقية على وجهها لترد ببعض الثبات:

- والدي شايف وفاهم كل حاجة، بس انا مقدرش اتكلم معاه، لأنه للأسف مش طايق يسمع صوتي من ساعة المواجهة مع جاسر ، لما قالوا اني بشرب وبسكر وبروح عند مارو شقته في مصر الجديدة. 

تطلعت إليها مرفت بتفحص لتسألها بتوجس:

- مارو دا اللي كنتِ بترقصي معاه صح؟

اومأت لها ميري برأسها كإجابة، فتابعت مرفت سؤالها بهمس متردد:

- وانتِ فعلًا روحتي معاه شقته؟

هتفت ميري بانفعال

- وافرضي يعني روحت كام مرة، وهو ماله أصلًا؟ ولا هو قرف وخلاص؟

ابتعلت مرفت ما بحلقها من كلمات موبخة، فهذه الغبية تستحق كل ما يحدث معها، فقالت بمهادنة:

- انتِ حرة يا روحي وانا مالي يعني؟ المهم بقى انا سمعت ان خالتو لميا وعامر الريان رجعوا من السفر، هو الكلام دا بجد؟

اجابتها وقد بدأت تستعيد تماسكها:

- دا حقيقي ياروحي، دي حتى خالتو اتصلت بيا كمان، وانا كلمتها وانا منهارة على اللي عملوا ابنها معايا وباركتلها على النسب اللي يشرف!

انتبهت مرفت واشتعلت عيناها بالحماس لتسألها:

- وكان رد فعلها ايه ميري؟ قالت ايه ها؟

أجابتها ببعض التشفي:

- كانت ساكتة ومش عارفة ترد عليا بكلمة واحدة، بس انا فاهمة كويس قوي، بعد السكوت دا فيه ايه؟ دي خالتوا وانا عارفاها. 

افتر ثغر الأخرى بابتسامة سعيدة قائلة بمكر:

- دي شكلها على كدة هاترحب بمرات ابنها الجديدة جامد.

ردت ميري وهي تبادلها ابتسامتها الخبيثة:

- أكيد ياقلبي، وخلي الأستاذ جاسر بقى يشرب ويشوف نتيجة اختياره اللي هايخسف بيه وبشركته الأرض، ولسة كمان لما والدي يتحرك، انا متأكدة انه مش هايسكت. 

مطت شفتيها بابتسامة منتشية وقد أطربتها الكلمات قبل أن تجفل فجأة على صيحة ميريهان الغاضبة:

- بس انا بقى هاموت واعرف ابن ال...... اللي نشر الخبر الزفت ده، دا ولا كأنه كان قاصدني انا .

ابتلعت مرفت ريقها بتوتر وهي تشيح بوجهها عنها بتهرب حتى التفت إليها تجرها لحديث غيره:

- على فكرة ياميري صحيح نسيت اما اقولك، مش انا هاعمل حفلة بعد كام يوم كدة.

سألتها مندهشة:

- حفلة بمناسبة ايه بقى؟ هو انت مش عيد ميلادك كان قريب؟

عادت لطبيعتها تتكلم بأريحية وقد نجحت بصرف ميريهان عن حديث الصحفي والنشر:

- يابنتي ما انا مش عملاها لعيد ميلادي، انا عملاها لماهر ، اصل راجع في خلال يوم ولا يومين، اهو بقى منها حفل تعارف له ومنها احنا نعمل حاجة جديدة، نبين فيها جمالنا واناقتنا، أكيد أنتِ هاتحضري يا ميري، دا انت ملكة الأناقة والحفلات.

عضت ميري على شفتيها، وقد اكتنفها التردد وهو تتسائل

- طيب هي الناس مش هاتمسك سيرتي عشان متطلقة جديد؟ ولا بقى يشمتوا فيا زي اصحابي الأندال؟

ردت مرفت بتشدق لتقنعها:

- مين دا اللي يجرؤ يتكلم ولا يشمت فيكِ بحرف؟ هو انتِ ناسية انك بنت مين ولا صاحبتك اللي عاملة الحفلة نفسها تبقى مين؟ دا اللي يلمح بكلمة بس ، وحياتك عندي لكون طرداه شر طردة، دا انت حبيبتي  واللي يمسك و يمسني 

- قلبي بافيفي .

فالتها ميري بفرحة وهي تلف عليها ذراعيها لتضمها، والأخرى تردد ضاحكة:

- دا انتِ اللي قلبي يا روحي انتِ.

...........................


من الشرفة المتهالكة بالمنزل القديم، كان الفتيات الثلاثة يتطلعن للأسفل بانبهار وهن يتابعن شقيقتهن التي تترجل من السيارة برفقة رجلين من الحراس الشخصين، بشكل مهيب لفت أنظار المارة وسكان الحي هناك، شهقت صفية مخاطبة رقية الجالسة محلها وشط الصالة بمرح:

- يالهوي ياستي ع المنظر، بنت بنتك نازلة من العربية وحواليها الحرس ولا اكنها وزيرة ولا مرات المحافظ

هتفت رقية بين ترديدها بالآيات القراَنية والأدعيةالحافظة:

- كبري يابت وخمسي في وش كل راجل ولا ست شافوها ولا صلوش ع النبي.

طاوعتها صفية تردد بالاَدعية الحافظة وهي تراقب مع شقيقاتها دلوف زهرة لداخل المبنى. 

بعد قليل 

كان الفتيات الثلاثة ومعهم سمية والدتهم ملتفين حول زهرة المستندة برأسها على حجر جدتها وهي تمسد بكفها على شعرها بحنان، هي في أشد الحاجة اليه الان، مع هذه العواصف الدائرة برأسها من قلق وخوف وترقب لما سيحمله لها الغد، تعلم أنه متمسك بها ولكن أيضًا لا تدري الى متى سيظل كذلك، امام هذه الحروب الطاحنة التي تقابله بسببها.

- طب انتٍ قلقانة ليه بس يازهرة؟ مش جاسر باشا وقف كل واحد عند حده في الشركة ونصرك قدامهم؟

هتفت بالسؤال سمية، وأومأت لها زهرة بعيناها تتنهد بقنوط دون رد، فتدخلت صفية تقول:

- اما أمرك غريب يا أبلة زهرة، يعني بدل ما تبقي سعيدة وفرحانة دلوقتِ باللي حصل وجه في صالحك، تبقي زعلانة كدة وشايلة الهم.

تطلعت إليها زهرة بنظرة غامضة ثم ردت بابتسامة باهتة:

- معلش يا صفية بقى، اصل شكل اختك كدة خدت ع النكد وما بتعرفش تفرح .

خاطبتها سمية بعدم رضا:

- بعد الشر عليكِ ياحبيبتي من النكد ولا الكلام الفارغ، انتِ بس عشان متهابة، لكن بكرة لما تاخدي على الجو هاتحسي بجد ياحبيبتي ان ربنا كرمك. 

اكملت على قولها صفية:

- اه والله يا أبلة ، دا انت ربنا بيحبك قوي عشان كدة بيكرمك، طب بذمتك ماخدتيش بالك من نظرات الناس وعيونهم اللي كانت هاتتلقع عليكِ وعلى عربيتك ولا الحراس كمان، دول وأكنهم بهوات بالبدل واللبس الأوبهة.

استجابت لها زهرة بابتسامة ودودة قبل أن تجفل على لكزة على ذراعها من بقبضة رقية وهي تسألها:

- اه صح يامنيلة انتٍ، جاية على حارتك بالحرس ليه؟ هي المنطقة غريبة عنك؟

اعتدلت بجذعها لتخرج عن صمتها وتجيب جدتها 

- مش من دماغي والله ياستي، جاسر هو اللي اصر على كدة، دا حتى كمان شدد الحراسة على بيتنا وعليه هو شخصيًا.

ضيقت عيناها رقية بريبة فلحقتها سمية تقول:

- هو أدرى بظروفه ياجماعة، دا راجل كبارة واسمه مش هين في البلد، المهم بقى ياست زهرة فوقي كدة وقومي اتنشطي في قلب المكان، دا خالك موصيني على شوية اكل اعملهم ع الغدا النهاردة انما ايه عظمة،اصله هايجيب في ايده الاستاذه نوال، يعني القعدة هاتكمل بجمعة الحبايب

...............................

شدد عامر من عناق ابنه بحرارة واشتياق، يقبله على رأسه ويريت على ظهره بخشونة محببة الى جاسر والذي كان متشبثًا به هو الاخر، يشعر وكأنه طفلًا صغير وجد حصنه الاَمن بعودة والده، فمتى كان السند متمثلًا في القوة فقط، في حضن الأباء، حتى في ضعفهم نجد قوتنا.

ابتعد اخيرًا عنه وعيناه تتلفت حوله في البهو يتمتم هامسًا:.

- هي فين دلوقتِ؟ مش شايفها يعني.

قالها بإشارة على والدته، عبس وجه عامر وهو يجلس على أريكته يقول بضيق:

- قاعدة في الجناح بتاعها فوق، مش طايقة تشوف وشي ولا تكلمني، من ساعة ما حكيت لها وهي واخدة موقف مني ومنعزلة، كل ما اجي اقرب منها، تصرخ في وشي وتسيب المكان كله.

زام بفمه جاسر ليرد وهو يمسح بأنامله على ذقته الخشنة بتوتر:

- لما انت مش طايقاك وواخدة منك جمب وبتصرخ فيك، امال انا هاتعمل معايا ايه بقى؟

تنهد عامر بقنوط يقول بأسف:

- بصراحة يا حبيبي ربنا يعينك، والدتك واخدة الموضوع قوي على كرامتها وصورتها اللي اتهزت وسط الناس، ورافضة أي منطق للحوار معاها، واللي زود كمان هو طلاقك لميري بنت اختها. 

كز على أسنانه جاسر يقول بغيظ:

- وطبعًا أكيد الزفتة هي اللي اتصلت بيها وسخنتها زيادة عليا.

اومأ له عامر براسه، فغمغم جاسر ببعض الكلمات الحانقة، قبل أن ينهض متنهدًا بيأس:

- انا رايح لها، هاجرب حظي معاها واحاول، ربنا المعين.

- ونعم بالله ياحبيبي، انا جاي معاك.

.............................

بشرفة غرفتها الواسعة والمطلة على الحديقة الخلفية بالمنزل كانت جالسة محلها ساكنة كالبركان الخامد، الذي يتنظر الفرصة فقط ليطلق حممه المشتعلة نحو الجميع دون تفريق، تتطلع نحو الأشجار والخضرة أمامها تارة ثم تعود لمتابعة الاخبار في الهاتف، ورسائل الأصدقاء المتعاطفة والشامتة بشياكة، والتعليقات الساخرة، انتبهت على الرائحة المميزة لعطر ابنها مع صوت خطواتهم خلفها حتى شعرت به يطبع قبلة كبيرة فوق رأسها ، مرددًا بصوت دافئ:

- حمد الله ع السلامة يا ست الكل.

حدجته بنظرة نارية دون أن ترد قبل أن تعود برأسها للأمام ، تبادل جاسر مع والده نظراتهم بيأس قبل أن يجلسان مقابلها على مقاعدهم.

تكلم عامر يخاطبها:

- وبعدين بقى يا لميا؟ دي مقابلة تقابلي بيها ابنك بعد غياب شهور عنه؟

التفت برأسها اليه قائلة بحدة:

- لا ما انا سيبتلك الزوق والحنية، مش انت بقى ابوه الحنين اللي بيداري عليه، حتى لو كان بيعمل مصيبة من غير ما يقدر العواقب اللي وراها.

صمت عامر عن الرد وقام جاسر بالنيابة عنه:

- مصيبة ايه يا أمي لقدر الله؟ دا جواز وعلى سنة الله ورسوله. 

برقت عيناها الخضراء تناظره بتحدي:

- بجد، طيب ولما هو كدة ياجاسر باشا، خبيتوا عليا ليه ها؟ اتجوزتها في السر ليه قبل ما سيرتكم تبقى على كل لسان .

أجابها بقوة:

- للتوضيح ياأمي، انا ما اتجوزتش زهرة في السر ، انا بس ما أعلنتش، يعني تفرق، وبخصوص اني ما قولتلكيش فا انتِ عارفة السبب كويس.

- اهاا قصدك بنت خالتك اللي انت عملت بأصلك وطلقتها امبارح .

قالتها بسخرية أثارت غضبه فقال :

- والله يا أمي انتِ عارفة كويس ان بعمل بأصلي، زي ما بالظبط عارفة ومتأكدة ان طلاقي من بنت اختك، كان هايتم في أي وقت.

تخلت عن لهجتها العادية لتصيح بغضب:

- اه ومالقيتش غير امبارح عشان تتممه، دا بدل ما تلم فضيحتك مع بنت ال......

- لو سمحتي ياأمي ماتغلطليش. 

قاطعاً بحدة هادرًا ليتابع:

- مش انا اللي بعمل الفضايح، لو عايزة تشوفي الفضايح بجد ، تعالي شوفي صور بنت اختك وهي بتشرب وترقص، ولا شوف صور الرجالة اللي كانت بتصاحبهم ، ولا اقولك تشوفي صورة الولد الاًخير طالب الجامعة وهي بتزوروا في بيته وهو عازب لوحده. 

لم تتأثر لمياء في شجارها بالقول:

- وانت بقى بشطارتك حبيت تأدبها فقومت عملت زي الدبة اللي قتلت صاحبها لبست نفسك في بنت تاجر المخد*رات...

- كفاية ياأمي. 

هدر بها ضاربًا بكفه على سطح الطالوة ، نهرها من جانبه عامر بصوت ضعيف ومجهد:

- بلاش الكلام ده يالميا عشان خاطري

ردت هي :

- وبلاش ليه؟ هو انا جيبت حاجة من عندي، مش دا الخبر اللي مالي الدنيا هنا .

ناطحها جاسر بالقول:

- حتى لو كان يا أمي، انا مايهمنيش غير زهرة

قالت لمياء وهي تشتعل من الغيظ:

- يعني برضوا بتتحدى الكل بحتة بنت زي دي، بتعاند نفسك ولا مين بس باجاسر؟

زفر مطولًا يشيح بوجهه عنها فتابعت هي سؤاله بتهكم:

- ماجبتهاش ليه بقى معاك؟ كنت خلتنا نتعرف بالنجمة. 

رد جاسر غير مبالي بغضبها:

- مش هاجيبها ياست الكل ولا هاخليكِ تتعرفي عليها غير لما ابقى متأكد انك مش هاتهينيها ولا تعمليها وحش. 

همت لترد بسخرية ولكن انتبهت على عامر الذي كان يمسك بقلبه، فاننفض الأثنان بلهفة عليه:

- عامر مالك؟

- مالك ياوالدي؟ حاسس بحاجة؟

رفع رأسه اليهم قائلًا :

- اطمنوا ماتقلقوش، انا بخير ان شاء الله 

٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠

بنصف نومة ونصف جالسة كانت مستلقية على فراشها تراقب أمامها الهاتف الذي وضعته على وضع الصامت كلما أضاء بمكالماته التي لا حصر لها منذ الأمس، من وقت أن تركته بعد أن افصحت وحكت ما أقسمت بطمسه ودفنه بداخلها قديمًا، وعقلها الان يدور في دوائر الحيرة دون توقف، لا تصدق كيف فعلتها في لحظة ضعف لتنبش بأظافرها على جراحٍ قد ظنت بعقلها العقيم أنها اندملت وطابت، لماذا تشعر الان بقرب تهدم اسوراها؟ لماذا تعطيه بيدها منفذ كي يتسلل بخبثه إليها؟ وهي الأعلم بحقيقته وما يمثله هو بهيئته المتأنقة أشد كوابيسها رعبا!

تنهدت مثقلة وهي تعود برأسها للخلف تستعيد ذكرى قديمة انحفرت بداخلها كنفش حجر فرعوني أصيل.

" حينما ترجلت بسيارة الأجرة قريبًا من هذا المحل المشهور، لتزفر متأففة بضيق بعد أن حسمت قرارها ولانت تحت إلحاحها لتقابلها به، حينما ولجت أليه بداخلها لم تبحث كثيرًا، فقد انتبهت عليها بعد أن لوحت لها الأخرى بلهفة لتجلس معها على احدى الطاولات في جانب المحل بجوار الجدار الزجاجي الذي يكشف لها الخارج بكامله، صافحتها بحرارة تقبلها وتعانقها غير مبالية بنظرات رواد المحل حولها أخفت كاميليا امتعاضها وتجملت بالزوق معها على مضض حتى جلست، لتبدأ نبيلة في سؤالها:

- ها ياحبيبتي عاملة ايه؟ كويسة كدة وكويسين خواتك، الواد ميدو عامل ايه؟ خس عن الأول ولا لساته مكلبظ؟ أكيد مكلبظ صح؟

كانت تومئ برأسها مغمعمة بإجابات روتينية معتادة، حتى أتت على ذكر أخيها الصغير فلم تحتمل:

- مالك انتِ بميدو إن كان كبر ولا خس ولا تخن؟ يخصك في إيه؟

توقف سيل الأسئلة بحلق نبيلة لتخرج منها تنهيدة حارة قبل ترد بأسى:

- يعني زعلانة عشان بسأل عليه؟ خلاص ياستي مش هسأل لو كان دا هاريحك .

زفرت بضيق تشيح بوجهها عنها فهذه المرأة تتعمد بمسكنتها اخراج مارد الغضب منها بطرفة عين، وهي التي تجاهد للتماسك.

- أنا لو مش واثقة فيكِ وفي قلبك الحنين انتِ وابوكي ماكنتش هاسيبه؟

أردفت بها نبيلة فالتفت رأس كاميليا إليها بحدة، واستطردت الأخرى:

- انا عارفة اني اتصرفت بأنانية، لكن ما عملتش الحرام .

اشتعلت عيناها كاميليا بنيران الغضب ولكن نبيلة تابعت:

- يمكن ضعفت لكن مين مش بيضعف في الزمن ده؟ سمير ابن عمي كان هو حلمي وانا صغيرة، لكن لما سافر واتقدملي ابوكي رضيت بيه وعيشت معاه راضية ومتحملة ظروفه كمان، بس بقى لما رجع ومدلي ايده من تاني بدنيا حلوة وظروف مرتاحة مقدرتش ارفض.....

- كفاية يا ماما.

هتفت بها كاميليا توقف استرسالها بعدم احتمال، تداركت نبيلة نفسها، لتهادنها بلطف:

- اشربي عصيرك طب الأول وماتتعصبيش، انا بتكلم معاكِ عشان انتِ كبيرة وعاقلة.

زفرت حانقة كاميليا قبل ان تتناول كوب العصير الكبير، علّه يهدا ولو قليلًا انفعالها، راقبتها قليلًا نبيلة بصمت قبل أن تسألها:

- عاملة ايه في شغلك الجديد؟ بيقبضوكي كويس؟

تمتمت تجيبها:

- عادي يعني، المرتب مش كبير بس كويس بالنسبة لموظفة جديدة بعقد مؤقت. 

قالت نبيلة بنبرة خفيضة غامضة:

- اممم، يعني على كدة لسة الظروف مزنقة معاكم في البيت. 

تركت كاميليا كوبها تضعه بعنف على الطاولة لتسألها مضيفة عيناها:

- ممكن تجيبي من الاخر وتقولي انتِ عايزة؟ عشان بصراحة بقى المقدمات بتاعتك دي دايمًا بيبقى وراها حاجة.

فجأة التمعت عيناها نبيلة تجيبها بحماس:

- عريس ياكاميليا، زي القمر وغني، يعني هايعيشك برنسيسة، وكل اللي انتِ تشاوري عليه هايجيبه تحت رجليكِ بس انت توافقي. 


عقدت حاجبيها بشدة لتسألها بدهشة:

- عريس مين؟ ودا يعرفني منين؟

ردت نبيلة متابعة بحماسٍ اشد:

-فاكرة لما نزلتي مع ابوكِ من سبوعين جنازة عمك اسماعيل في البلد، شافك هو باللبس الأسود هناك وعينه كانت هاتتطلع عليكِ، فضل يسأل بنت مين لحد اما عرف انك بنتي، جاني وكلمني مع عمك سمير ولما شاف صورك في الالبوم اتأكد من ظنه وطلب ايدك. 

افتغر فاهاها للحظات تستوعب قبل ان تسألها ليتأكد ظنها:

- طلب إيدي من جوزك؟

- ايوة يا كاميليا ماهو يبقى ابن عمه.

- كمان ابن عمه!

هتفت بها غير قادرة على التحكم بعضبها لتكمل:

- هو انتِ عايزة ايه ياست انتِ بالظبط؟ يعني مش كفاية غدرتي بجوزك وسبتيه بعياله، كمان عايزة تحصريه على بنته؟ هو انتِ جنسك ايه؟

التفت بعيناها نبيلة حولها قبل أن تهمس ضاغطة على أسنانها:

- هدي شوية الناس بقت تنتبه على صوتك، ثم ايه لزومها العصبية دي كلها؟ دا انا رايدة مصلحتك يابت، 

عريس غني هايشيلك انتِ وأهلك لو اتشرطتي عليه بمهر كبير او حساب في البنك، مش بدل الشغل والمرمطة وفي الاخر برضوا فقرا، ما تفكري بعقلك شوية، وإن كان على قربه من جوزي، يبقى نخبي ياستي ونتصرف، يابت دا انت الوحيدة في عيالي اللي طلعتي شبهي واخدة جمالي ومتعلمة كمان، وربنا جايبلك الفرصة الحلوة بدري اوي، يعني اقفشي فيها بقى.

- أنا مش شبهك.

قالتها حادة بعند، فقابلتها نبيلة بضحكة مستهجنة ترد:

- والنبي ايه! طب بصي في المراية الأول وانت تتأكدي. 

شعرت بالقهر وهذه الحقيقة لطالما ازعجتها لدرجة جعلتها تكره المرأة والنظر فيها، تكره أن تصبح مثلها وتكره أن تكون شبهها، انتقلت عيناها للخارج لترى زوجها هذا الرجل الصبياني، بحلته الرمادية جالسًا في انتظارها على مقدمة السيارة يرمق النساء المارة بنظرات متفحصة وقحة والعلكة في فمه، هذا الملعون وكأنه يعود بالزمن للخلف عائدًا، عكس اباها الذي يتقدم به العمر يوميًا ويزداد شيبًا وتجعدًا ومرض، وكأن الزمن يكافئ الحقير، ويدهس بعنف على الطيب المسالم. 

ضاق بها فضربت بكفها على سطح الطاولة وقد تهاوى كل تماسكها:

- انا مابتكلمش ع الشكل، انا بتكلم ع الشخصية، انا عمري ما هابقى زيك يانبيلة واسلم نفسي للي يدفع أكتر، عمري ما هاتجوز واحد يخوني ابدًا يا نبيلة، ولا هارضى باي راجل يتجوزني بس عشان شكلي ولا جسمي .

تبسمت نبيلة ترد باستخفاف:

- يبقى عمرك ماتتجوزي، لأن الكلام دا ينطبق على واحدة عادية، مش واحدة في جمالك ياعين أمك،

بتتبتري على النعمة اللي وهبهالك ربنا، طب خليكِ بخيابتك دي، وبكرة يدور بيكِ الزمن ياكاميليا وتتمني واحد زي عمك سمير دا، يصرف عليكِ ويدلعك عشان جمالك.

انتفضت من شرودها، واحتدت عيناها لتتذكر وعيدها الذي وفت به منذ سنوات طويلة، حينما اجتهدت وثابرت في عملها حتى وصلت لأعلى المناصب بمجهودها فقط لا لشئ آخر، لتفرض احترام نفسها على رؤوس كل من يراها

نزلت بعيناها على الهاتف الذي مازال يضئ بالاتصال ولكن برقم اخر وشخص اَخر، تطلعت به قليلًا ثم حسمت أمرها، لتجيبه:

- الوو.... اهلا ياكارم

...............................   


انتبهت زهرة وشقيقاتها وهن يعددن مائدة طعامهم التي يتم تجهيزاها بفرش ورق الجرائد على الأرض على دلوف خالد وخلفه نوال خطيبته واصوات شجارهم تسبق خطواتهم

يعني مش مافيش فايدة فيك، هو انت عايز تشلني يا خالد؟.

- لا اله إلا الله، هو انا يابنتي عملتك حاجة؟

- في ايه ياجماعة ايه؟ بتتخانقوا ليه بس؟

هتفت بالسؤال زهرة قبل أن يقترب منها خالها يرحب بها ويقبلها أعلى رأسها بحنانه المعتاد، غير مكترث لغضب خطيبته التي تبادلت التحية مع زهرة وباقي افراد العائلة بحرارة رغم عبوس وجهها .

جلس خالد بجوار والدته يضم زهرة بذراعيه كالعادة ثم قال بمشاكسة مخاطبًا خطيبته:

- طب برضوا كلام؟ بزمتكم دا وش تقابل بيه الناس؟ ضاربة بوزك شبرين ليه فقر؟

شهقت نوال بغيظ وهمت لترد ولكن رقية سبقتها:

- فقر في عينك يا قليل الحيا، ماتلم نفسك ياواد بدل ما المك.

تأوه خالد بميوعة مصطنعة أثارت ابتسامة مستترة كبحتها نوال قبل ان تعود لغضبها:

- اضربيه تاني والنبي يارقية، خليني افش غلي ياشيخة. 

- من عنيا ياحبيبتي، انتِ تؤمري ياغاليه. 

قالتها رقية لتزيد على ضربه بعضة كبيرة على لحم كتفه لتنطلق الضحكات من الجميع، حتى خالد جسده ارتخى عن المقاومة قبل أن يتمكن من القول اَخيرًا من بين ضحكاته:

- جرا ايه ياست؟ هو انتِ ماصدقتي؟

هزت رأسها رقية بتشفي وقالت زهرة مخاطبة نوال:

- دا واضح انه معصبك قوي يااستاذة، مدام طلعك عن شعورك كدة؟

ردت نوال قائلة ببؤس:

- دي كلمة غيظ دي قليلة والنعمة، الباشا خالك عاملي فيها دنجوان، مافيش مشوار اخرجه معاه الا مايهزر مع 

أي واحدة يشوفها قصاده، نروح مطعم يهزر مع البنت الشيف، نروح المحل يهزر مع البنت الموظفة، لو روحنا أي مكان يااختي، يلملي البنات المايصة حواليه وتلاقي ضحكهم يجلجل باستفزاز كدة، دا حتى دلوقتِ واحنا داخلين الحارة، شوية بنات رايحين الدرس مجرد بس ما بصلهم بعنيه، ضحكهم بقى واصل لاَخر الشارع، بيعملهم ايه مش فاهمة انا .

- أديكِ قولتِ بنفسك، مجرد بس ما بصيت لهم، يعني دا مش ذنبي ياناس؟ ربنا ميزني عن بقية الخلق بالجاذبية، يمكن عشان شخصيتي المرحة أو شكلي الحلو ،بجد مش عارف.

هتف بها خالد بمرح، فلكزته مرة أخرى رقية تقول ساخرة:

- لتكونش فاكر  نفسك رشدي أباظة ياواد ولا الحلوة التاني ده كمال الشناوي.

عادت الضحكات الصاخبة مرة أخرى، فرد خالد:

- خلاص يارقية عند زمن الأبيض واسود ووقفتي، طب قولي حد من الجداد زي احمد عز كدة او يشبهني فعلًا.

شهقت زهرة بجواره تزامنًا مع قهقهات شقيقاها، فلف خالد ذراعهِ حول عنقها بهزار ثقيل معتادة عليه يردد:

- ايه يابت؟ بتتريقي عشان قولتي احمد عز، طب بذمتك مش أحلى من جوزك المحفلط ده، قولي.

زاد بضغطه وهي تردد ما بين ضحكها:

- لا طبعًا جاسر احلى.

هتف خالد مرددًا:

- يابت ال..... وبتقوليها في وشي كمان، مش انا كنت فارس احلامك ولا نسيتي .

زامت ففك ذراعه عنها لتجيب وفور ان فعلها والتقطت انفاسها قليلها، عادت تردد له بغيظ قبل ان تتحامي في جدتها :

- وبرضوا جاسر أحلى.

لتزاد الجلسة صخبُا مع هتافه المستنكر وضحكاتهم التي كانت تصل لخارج بنايتهم

............................


عادت الى منزلها مساءًا بعد أن قضت يومها المميز مع اسرتها المحببة، لمحت شبحه في غرفتهم والإضاءة خافتة، جالسًا باكتاف متهدلة دون حركة وكأنه تمثال من الشمع، انتفضت في البداية بخوفها الفطري من الظلام قبل أن تضغط على الكابس الذي أضاء جميع الغرفة وركضت اليه فورًا تسأله بجزع :

- ايه مالك ياحبيبي؟ هو انت تعبان؟

لم يرد ولكنه أوقفها ليحتضن خصرها بذراعيه بقوة ويتنفس بألم، شعرت به لتحيط بذراعيها على رأسه وتخللت أناملها بخصلات شعره،صامتة حتى تكلم هو اَخيرًا :

- انا دلوقت بس عرفت قيمة الأخ، دلوقتِ بس عرفت ان حظي وحش عكس ما كنت مفكر بقالي سنين. 

سألته بصوتها الرقيق:

- بتقول كدة ليه ياجاسر؟ 

شدد بذراعيه عليها جيدُا قبل أن يجيب وكأنه يحدث نفسه:

- لو معايا أخ كنت هاسيبلوا الجمل بما حمل واكتفي بيكِ لوحدك، لو عندي أخ كان هايشيل معايا مسؤلية اسم والدي اللي بناه بعمره كله، يعلم ربنا ان عمر ما يهمني أي فلوس أو مناصب، كل اللي يهمني هو أسم ابويا وبس.

قالت بتوجس وأناملها مازالت تتخلل شعر رأسه:

- في حاجة جدت جديد في الشركة؟

أجاب بصوت مكتوم بحضنها:

- بكرة هاتنعقد الجمعية العمومية للمجموعة بحضور والدي الرئيس الفعلي . 

زحف الى قلبها الخوف وهي تشدد من احتضانه وتمتم داخلها:

- استر يارب. 


..... يتبع

حابة اشكر كل حد فيكم هناني على عيد ميلادي وعيد ميلاد الصفحة بنت الجنوب 

نلتقي على خير حبايبي كونوا بالقرب🌹

الفصل الخامس والثلاثون 


بخطوات مثقلة كانت تتقدم نحو غرفته حاملة بيدها أقراص الدواء لعلاجه في ميعادها هذه الساعة رغم احتقانها وكل ما تحمله من غضب نحوه ونحو ابنها بعد شعورها بالغدر منهم؛ حينما أقصوها في شئ هام كهذا يخص سمعة العائلة وصورتها أمام الجميع، هي تعلم بإصرار ابنها إذا أراد شيئًا ووضعه نصب عينيه، لا يهدأ حتى يناله، لكن أن يصل حجم تطرفه إلى هذه الدرجة لم تتخيل، أو ان يساعده أباه ويبارك خطوته دون علمها، هذا فاق كل احتمالها، وهي التي كانت بجواره في رحلة علاجه التي قطعها ولم يكملها، اهكذا يكون تقدريهم لها، تنهدت بعمق ما تحمله من حزن بداخلها منه قبل أن تطرق باب غرفته وتلج بداخلها إليه، بعد أن سمعت إذنه بالدخول، دلفت بخطوات مترددة تخاطبه بجمود:

- صباح الخير، انا جيبتلك الدوا عشان دا ميعاده.

ابتسم بعشق وهو يقف بنصف الغرفة أمامها يتمم على أزرار قميصه المنشي، فزوجته العزيزة مهما بلغ غضبها وادعت عدم الإهتمام ، لا تغفل عن أدق تفاصيله، فقال يشاكسها:

- يعني فاكرة ميعاد الدوا ومش فاكرة الفطار؟ هاشربه ازاي على معدة فاضية بس يالميا؟

برقت امواجها الخضراء فقالت بقلق متناسية غضبها:

- هو انت فعلا مافطرش ياعامر؟ وبتلبس وخارج كمان ؟

استدار عنها ليتجه نحو المرأة يضع عطره ويقول بلهجة ماكرة لائمة:

- وانتِ تشغلي نفسك ليه بقى؟ وانتِ مش طايقاني ولا طايق حتى تشاركيني أوضة واحدة؟

زمت شفتيها تكتم غيظها وانفاسها تهدر من خلفه، فهي الأدرى بزوجها وطريقته في اجتذاب تعاطفها نحوه، همت لتتركه غير مبالية ولكنها انتبهت على ارتعاش كفيه في لف رابطة عنقه:

- استنى ياعامر .

قالتها واقتربت منه لتلفها بيدها، ابتسم لها بجانبية، وهي يتطلع لها عن قرب وهي متحاشية النظر إليه فسألته بوجهها العابس:

- هو انت تعبان النهاردة؟ مش بعادة يعني ايدك تترعش في ربط الكرافت؟

أجابها بابتسامة حانية:

- وليه ماتقوليش اني بمثل عشان اشوف لهفتك عليا؟

كبحت إبتسامة ملحة وقالت بجدية:

- لو حاسس نفسك تعبان، بلاها من حضور الإجتماع دا ياعامر، انت قلبك لسة تعبان .

- واسيب ابني لوحده؟

اضطربت واهتزت كفيها من عبارته البسيطة، فقالت وهي تنهي ما تفعله لتشيح بوجهها عنه تدعي القسوة:

- وهو ابنك صغير، ولا مكانش عارف بعواقب عملته؟

زفر عامر بسأم وهو يتناول سترة حلته ليرتديها وقال بحسم:

- ابني مش صغير يا لميا، بس انا مش هاسيبه يواجه التيار دا لوحده، حتى لو غلطان انا برضوا في ضهره.

تنهدت بحرارة وهي تتطلع أليه مستندة على حافة الكمود ثم قالت:

- خليك في ضهره ياعامر، وافضل كدة ساير فيه من غير ما توجهه ولا تنصحه، سيرتنا بقت على كل لسان، ابن عامر الريان، ساب بنت الوزير وراح اتجوز سكرتيرة ابوها تاجر مخد*رات، 

رقمها بنظرة عاتبة قبل ان يدنو ليتناول سلسلة مفاتيحه من جوراها، ورد قبل أن يتحرك ويتركها:

-  هو حر في اختياره يالميا، بنت وزير ولا بنت غفير، أو مهما كانت صفة البنت، انا بقى أهم حاجة عندي اشوفه مبسوط، دي تكفيني. 

قالها وانصرف من أمامها، تاركها للأفكار السوداء التي تغرق بها دون رحمة، حتى انتبهت لأقراص الدواء فتذكرت لتتناولهم وتهتف راكضة للحاق به:

- استنى ياعامر خد علاجك، استنى انت مافطرتش أساسها.

.......................................


بداخل سيارتهم التي كانت تقطع الطريق ذهابًا الى الشركة، يدها بيده وكأنه يستجدي منها القوة بصمت عبر رجاء نظراته لها، وهي لا تبخل عليه بمؤازرته، وقد قضت ليلتها كاملة بالدعاء المستمر وغمره بفيض حنانها الذي كان في أشد حاجته إليه بالأمس، والان اقتربت ساعة الحسم التي سيترتب عليها أحداث القادم، وصلت السيارة اَخيرًا لمقر الشركة، لتترجل منها معه ويدها مازالت بيده، لافتين انظار الجميع حولهم وكأنه يتحدى بها العالم، غير أبه بما يقال أو يحدث ، دلف بها لداخل غرفة مكتبه فتفاجأت بوالده عامر الريان شخصيًا على كرسي الإدارة الذي احتله جاسر سابقًا ويبدوا عليه الإنهماك في عمله على بعض الأوراق أمامه، تباطئت خطواتها حتى تشبثت بالأرض غير قادرة على مواصلة التقدم، نظر لها جاسر عاقدًا حاجبيه باستفسار، فرمقته بنظرة مترددة قبل أن تجفل على هتاف عامر المرح:

- إيه ياعرايس، هاتفضلوا واقفين كدة مكانكم كتير؟

رفعت ايه أنظارها برهبة جعلتها تستسلم لسحب جاسر لها اَليًا حتى وصل بها إليه، يقدمها:

- عامر باشا، احب اعرفك على عروستي. 

توسعت عيناها وزاد قلبها في خفقانه وهي ترى عامر الذي نهض عن مقعده تركزت عيناه عليها، فقال لها بلهجته المداعبة:

- ومالها بقى مكسوفة كدة ليه؟ هو انا غريب؟ ولا انتِ مش عايزة تسلمي عليا؟

ذهب بعض التوتر عنها ولكن حل محله الخجل الشديد وهي تسبل أهدابها عنه ولم تقوى على الرد عليه، فضحك الرجل من قلبه وهو يخاطب ابنه:

- لا طلعت صياد بابن الريان وعرفت تنقي، بس مش كدة بقى، انا لازم اسلم عليها واتعرف عليها كويس .

سحبها جاسر وهو يردد لوالده بابتسامة تفضح بهجته من الداخل:

- براحة ع البنت يا عامر ياباشا، شوية شوية عليها عشان تاخد عليك .

تناول عامر كفها يصافحها بحرارة مشبعة بمشاعر تُضَخ بداخله الاَن، نحو هذه الفتاة التي أعادت ابتسامة سعيدة لوجد ابنه، حتى تخلى عن وقاره وعنجهيته المعتادة وهو يقدمها اليه وكأنه طفل صغير وقد حصل على جائزته.

- الف مبروك يابنتي، وسامحيني إن يكون اول لقاء مابينا هنا في المكتب. 

قالها مخاطبًا لها، فخرج صوتها بهمس خجول:

- مما تقولش كدة ياعمي، انا عارفة من الأول بظروف تعبك وسفرك، ربنا يخليك ويبارك فيك يارب. 

ربت براحته على ظهر كفها قائلها بحنان:

- ربنا يبارك فيكِ انتِ يازهرة، وعلى العموم انا مش ناسي وهاعوضك انتِ وجاسر، بس نخلص الأول من المشاكل اللي احنا فيها دلوقت 

اكتنفها الإرتياح على الفور بقوله، فكلماته المطمئنة وصلت اليها بصدق إحساسه، اما جاسر والذي اسعده قول أبيه، وترحيبه بزهرة، لم يسعفه الظرف السئ بالتعبير عن امتنانه فقال لوالده بتوتر:

- ماقولتش ياولدي، الإجتماع النهاردة هايتم بحضور فهمي ولا هايبعت مندوب عنه؟

رد عامر بعدم اكتراث:

- يجي أو يبعت أي حد من عنده، في الحالتين مش فارقة، المهم ان الإجتماع خلاص يدوبك نص ساعة ويبدأ، يالا بقى جهز نفسك يابطل، انا هاسبقك. 

قالها وتحرك على الفور مغادرًا، تشبثت زهرة بكف جاسر توقفه قبل اللحاق بوالده:

- هو انا هاحضر معاكم الإجتماع ؟

نفى برأسه قبل أن يقبلها على أعلى رأسها وقال :

- كارم هو اللي هايتولى المسؤلية النهاردة، ريحي نفسك انتِ وادعيلنا بالتوفيق. 

.....................................


بعد نصف ساعة 

كان بدء الإجتماع الكبير، الذي ضم الشركاء ومسؤلي المجموعة مع عامر رئيس المجموعة وابنه جاسر، وعدوهم الاقوى والشرس، الوزير فهمي حيدر في لفتة نادرا ماتحدث، فعلها الرجل خصيصًا كي يرى بأم عينيه تأثير النتيجة الحاسمة في القضاء على الصرح الكبير لعامر الريان انتقامًا منه ومن ابنه وقد أعد غدته بتفاهمات واتفاقات سرية مع باقي الشركاء، زهرة والتي لم تطاوعها قدميها للجلوس والراحة على مقعد مكتبها ، كانت تقطع الغرفة ذهابًا وأيابًا بلا هوادة وفمها يردد بالأدعية بلا توقف، يتاَكلها الفضول لمعرفة ما يجري في الغرفة المغلقة وعلى طاولة الإجتماع المصيري، ترجوا الا تكون النهاية لهذا الكيان العظيم وتُذكر هي كطرف أساسي ضمن أسباب سقوطه، 

- انتِ واقفة عندك بتعملي ايه؟

انتفضت مجفلة لتلتف نحو لصاحبة الصوت تخاطبها بهمس عاتب:

- حرام عليكِ ياغادة خضتيني، مش تديني تنبيه الأول. 

لوكت غادة بالعلكة داخل فمها وهي تخطو لتجلس على المقعد المقابل للمكتب قائلة بتهكم:

- تنبيه! انتِ عايزاني ازمرلك مثلًا؟ في ايه يازهرة؟ مش صوتي انا اللي عالي ياحبيبتي، دا انت اللي كنت سرحانة واكنك في دنيا تانية

تطلعت لها زهرة وهي تتنهد بقنوط قبل أن تجلس خلف مكتبها أمامها، وتابعت غادة تسألها بفضول:

- ماقولتليش بقى، انتِ قاعدة كدة أعصابك ومتعصبة ليه؟

أطرقت برأسها زهرة تدعي الانشغال بأحد الملفات أمامها، فقالت باقتضاب:

- يعني، موضوع كدة شاغلني .

لوت ثغرها غادة وهي ترد بغيظ :

- بتداري ليه؟ ما الشركة كلها عارفة ان النهارده في اجتماع مهم للشركا الكبار في مجموعة الريان، بس انتِ اكيد عارفة سبب الإجتماع ده  

ظلت زهرة على صمتها لحظات ترمقها بيأس، فهي الأعلم بغادة وسبب مجيئها في هذا التوقيت إليها، هذا وقد أعادت غادة السؤال بإلحاح:

- يابت ماتقولي، هو سر حربي؟

- عايزانى اقول ايه ياغادة بس؟ هو انا هاتدخل كمان في الأمور الكبيرة دي

هتفت بها منفعلة قبل أن تزفر بضيق وتُشيح بوجهها للناحية الأخرى، لتزيد من سخط الاخرى، قبل أن تستقيم منتبهة وقد لمحت بعيناها، خروج فهمي حيدر الوزير المعروف لها من شاشة التلفاز، بخطوات مسرعة يقطع الرواق بوجه مكفهر ومعه بعض الرجال.

- ايه دا؟ مش دا الوزير يابت يازهرة؟

قالتها غادة فالتفتت لها زهرة بتشتت وحيرة، حتى انهار جدار صمودها فتركتها راكضة نحو غرفة الإجتماع الذي بدا انه انفض مع خروج ألأفراد تباعًا منه

- بت يازهرة ، استني يابت هاتروحي فين؟ طب خُوديني معاكي يخرب بيتك .

تفوهت بالكلمات غادة وهي تضرب بأقدامها على الأرض بغيظ، لعدم تمكنها من اللحاق بها ومعرفة ما يجري.

.............................


وصلت لمدخل الغرفة الشاسعة، فتباطئت خطواتها بتردد، ثم أطرقت رأسها بخجل مع النظرات المتفحصة لها بفضول من رجال ونساء تبينوا هويتها في طريقهم للخروج، ولجت للداخل فتسارعت أقدامها قليلًا نحو الطاولة التي لم يتبقى عليها سوى عدد قليل وعلى رأس الطاولة كان عامر يأخذ وضعه وبجواره كارم وطارق من جهة والجهة الأخرى كان جاسر الذي التقطها عيناه على الفور وكأنه شعر بوجودها، أومأ لها لتكمل بوجه مشرق بشكل اثار دهشتها، بلغ إلى أسماعها كلمات التهنئة التي كانت توجه لعامر من بعض الأفراد ومنهم ميرفت والتي كانت ترسم ابتسامة بعرض وجهها وهي تخاطب عامر بنعومة وود تبدلت لنظرة غامضة نحو زهرة بمجرد أن اعطت ظهرها للجلسة ومن عليها، جعلت زهرة تتطلع لها بحيرة، قبل أن تجفل على قبضة على كفها لتسحبها وتقربها سريعُا لتجلس بجواره، رغم اندماجه في الحديث وتلقي التهاني مع والده 

طرقت بأنامل كفها الحرة على كف يده القابضة على يدها، أسفل الطاولة، فالتفت إليها سريعًا ليرى التسائل بعيناها ولكنه فاجأها بغمزة جريئة منه جعلتها تغلق  فمها عن الكلام او السؤال وحتى رفع رأسها وقد اصطبغ وجهها بحمرة الخجل، فانتظرت حتي انحسرت الغرفة عليهم، ليجفلها جاسر وهو يفقد أتزانه المعروف وقفز سريعة نحو والده ليقبله على رأسه بحرارة مهللًا:

- حبيبي ياعامر باشا، ربنا يحفظك ويخليك ليا يارب.

صدحت ضحكة مجلجلة من عامر وهو يدفعه عنه قائلًا بمرح:

- طب خلاص يابني بقى، بلاش شغل الشحاتين ده.

- ياجماعة ماتفهمونا ايه اللي حصل؟ 

هتفت بها زهرة مذهولة مما تراها أمامها ، أجابها طارق بحماس:

- انتِ لسة مافهمتيش يازهرة، الراجل اللي قدامك ده ، قضى على فهمي حيدر بالقبضة القاضية، اموت واعرف عملتها ازاي؟

وجه الأخيرة نحو عامر الذي تلاعب بياقة قميصه يردد 

بزهو:

- ياجماعة مش لدرجادي، دي حاجة بسيطة يعني؟

- ياجامد. 

هتف بها جاسر ضاحكًا قبل ان يعود لمكانه بجوار زهرة، تدخل كارم هو الاخر متخليًا عن تحفظه الدائم:

- لا بجد حقيقي ياعامر باشا، احنا نفسنا نعرف منك، قدرت ازاي تتصرف بالسرعة دي وتعرف بنية الوزير فهمي. 

صمتت زهرة منصتة لعامر الذي تلاعب بالشباب قليلًا قبل أن يجيبهم كي تعلم مالذي حدث وقلب الحال هكذا من النقيض للنقيض:

- اولًا ياحبيبي انت هو، انا عرفت نية فهمي بحكم العشرة، دا شريكي بقالوا سنين طويلة، يعني فاهم طريقة لعبه كويس قوي، كنت متأكد انه هايلف ع الشركا المهمين معانا عشان ينضموا في صفه لما ينسحب من كيان المجموعة، وساعتها تبقى ضربة قوية فعلًا خصوصًا لما ينضملهم البقية اللي أكيد مش هايستنوا لما تغرق المركب ويغرقوا معانا.

تدخل جاسر يقول:

- اه ياوالدي، بس انا كلمت معظمهم وطمنتهم على مستقبل المجموعة لو انسحب منها فهمي وهما أكدولي انهم في صفي. 

- كانوا بيخدعوك ياحبيبي. 

قالها عامر لتزداد دهشتهم ويلفهم الصمت الذي قطعه هو مستطردًا، المعلومة دي انا عرفتها من واحد عزيز عليا منهم، فهمي كان بيحضر لكيان جديد يضمهم فيه بعد ما يوقع مجموعتنا، بس على مين؟ انا جبت مكانوا جوكر .

ردد طارق مهللًا:

- ايوة بقى، ومش أي جوكر، دا مصطفى عزام، يعني يمسك التراب يحولوا لدهب دي ضربة معلم بجد.

جذبت زهرة جاسر من قماش قميصه مستدركة تحاول الفهم فسألته هامسة؛

- مصطفى عزام مين؟ قصده على جوز الممثلة المشهورة؟

اومأ لها جاسر بعيناه لتشهق فاغرة فاهاها بعدم تصديق ، رمقها بتسلية قبل أن ينتقل بعيناه نحو والده مخاطبًا:

- بس انت برضوا مقولتش، اقنعت مصطفى يشاركنا ازاي مكان فهمي؟

أجابه عامر بصبر رغم شعوره بالإجهاد وبعض الاَم صدره التي اعتاد عليها في الفترة الأخيرة:

- مصطفى ابن سوق وعارف ان اسمنا مسمع، وهو مش غبي عشان يضيع فرصة زي دي لأجل عيون فهمي المتخلف، طبعًا لما كلمته فرض شروطه، وانا وافقت عليها من غير تفكير، اسم مصطفى عزام هو اللي لجم باقي الشركا عن الإنسحاب ورا فهمي، ماهو كل واحد فيهم تهمه مصلحته في الأول والاَخر

- طب هو مصطفى فرض شروط مجحفة:

سأله جاسر بتوجس، وكانت إجابة عامر بجدية:

- مش لدرجة مجحفة، هي المسؤليات هاتزيد حبتين في المرحلة الجاية، نسبته هتبقى أعلى من فهمي طبعًا ، وعلى العموم دي اتفاق مبدئي يعني لسة مافيش عقد اتمضى ، بس حتى لو أصر يعني ، احنا برضوا قدها ولا ايه ياعم جاسر؟

رد جاسر بثقة مؤكدًا:

-  طبعًا ياباشا، قدها وقدود كمان.

- على بركة الله .

تمتم بها عامر وهو ينهض عن كرسيه، فاهتز قليلًا قبل أن يلحقه جاسر ويسنده بساعده وسأله بقلق:

- انت تعبان ياولدي؟

ربت عامر على كف ابنه المتشبثة بهِ قائلًا بابتسامته المعهودة:

- لا ياحبيبي ماتقلقش نفسك انت، انا بس تعبت من القعدة، بقالي شهور مااشتغلتش. 

- طب اجي معاك أوصلك.

قالها جاسر وهو يهم للتحرك معه، فدفعه عامر بطرف كفهِ قائلًا بنزق:

- ياعم اوعى، خليك انت في شغلك وانا السواق هايوصلني، هي حكاية. 

توقف جاسر يرمقه بابتسامة ممتنة وهو يراقب انصرافه مع أصدقائه حتى التفت على سؤال طارق من خلفه:

- تفتكروا ياجماعة، لو فهمي حيدر نجح في مخططه وأنشأ الكيان بتاعه ده، كان هايسميه إيه؟

- أكيد كان هاسميه ميري .

قالها جاسر وانطلقت ضحكات الرجال الصاخبة لخارج الغرفة، أما زهرة فكانت تُخبئ بكفها على فمها، حتى لا يخرج صوتها بيننهم

..............................


- يانهار اسود ياميرفت، هو إيه اللي حصل بالظبط؟

سألتها ميري بجزع عبر الهاتف، تتحامي بغرفتها من غضب والدها العاصف وهي تستمع لصياحه بالمنزل على الخدم بالسباب، وتكسيره لكل ماتطاله يده، أجابتها الأخرى بصوت متأثر:

- للاسف ياميري، عامر الريان خدع الكل وجاب شريك جديد مكان والدك .

هتفت ميري بعدم تصديق:

- شريك جديد! دا مين دا اللي اتجرأ وقدر يعملها، مين اللي دا وصل بيه غباءه انه ياخد نصيب والدي في مجموعة هو من اكبر مؤسيسينها؟

كبحت ميرفت ابتسامة ملحة وجاهدت ليخرج صوتها بنبرة عادية لتجيبها:

- ماهو ماخدتش نصيبه يا ميري، والدك هو اللي انسحب من دماغه، وعامر كان عامل حسابه ومجهز مع مصطفى عزام.

- ايه، مصطفى عزام؟ 

شهقت بالأسم متفاجئة لتكمل بغيظ:

- ياولاد الإيه، يعني مصطفى عزام يجي وياخد مكانه في المجموعة بعد ما والدي يمشي؟ مكانش ينفع بقى يبقى شريك ووالدي معاهم.

قطبت ميرفت لتسألها مندهشة:

- ميري هو انتِ بتقولي ايه؟ وزعلانة على ايه بالظبط؟

وصلها صوتها الغاضب قبل أن تنهي المكالمة:

- زعلانة على كله يا ميرفت، انا كدة حظي هباب ، دايمًا الفرص الكويسة بتطير من إيدي 

اغلقت معها لتطلق العنان لنفسها في الضحك، وهي تغمغم ساخرة:

- غبية فعلًا.

...........................


بغرفة مكتبه وبمجرد ان أغلق بابها عليهم رفعها عن الأرض يغمرها بقبلاته المجنونة غير عابئ باعتراضها الواهي، ولا مقاومتها؛ والتي على غير العادة لم تكن قوية، فقد وصلها مايشعر به وتعاطف قلبها معه ضد ارداتها:

- كفاية ياجاسر بقى احنا في المكتب، كام مرة هاقعد افكرك .

رد بصوت مفعم بمشاعره القوية نحوها:

- عادي ياستي، فكريني تاني وتالت ورابع ولمية مرة حتى، انا راجل نساي أساسًا. 

قال الاَخيرة مشددًا عليها بذراعيه ليدفن رأسه في حجابها، وكأنه وجد اَخيرًا أمانه بين يديه، استكانت قليلًا تنتظره حتى أنزل أقدامها على الأرض فقال وهو وهو يكبح جماح نفسه:

- لولا بس اننا في المكتب، وعشان عارفك بتزعلي لما ازودها،

- دا على أساس ان انت كدة مزودتهاش. 

قالتها ساخرة فانطلقت ضحكة رجولية صاخبة منه وهو يجبر نفسه على الابتعاد عنها، حتى وصل ليجلس على حافة مكتبه فقال بمكر:

- طيبة اوي انت يازهرة، وفكرك محدود اوي في حكاية ازودها دي.

استدركت للمعنى المبطن خلف كلماته ، فعبست بوجهها كي تخفي حرجها ولكزته بقبضتها على صدره بخفة تعنفه قائلة:

- بلاش تلميحاتك السخيفة دي عشان انا مش غبية عشان مفهمش.

تبسم يتناول قبضتها ليقبلها بحنان صامتًا، فقالت هي :

- لدرجادي انت فرحان ياجاسر. 

تنهد بعمق وشردت عيناه قليلًا قبل يجيبها :

- كلمة فرحان دي قليلة جدا عن اللي حاسس بيه، وخصوصًا بعد اللي عرفته من والدي، رغم غيظي الشديد طبعًا من حجم اللي كان بيتدبر من ورايا، لكن معلش الجايات اكتر من الريحات. 

قال الأخيرة بمغزى لم تفهمه زهرة فقالت بفطرتها:

- ريحات بقى ولا جيات، خلينا دلوقتٍ في اللي جاي، الرجل جوز الممثلة اياها دي، امتى بقى هاتقابله ولا تتمم معاه إجراءات الشراكة. 

أردف يجيبها وهو يلتف لخلف مكتبه ليجلس على مقعده:

- أكيد قريب طبعًا، بس لما اشوف والدي واشوف مواعيدهم مع بعض، المهم بقى جهزي انتِ نفسك.

عقدت حاجبيها بشدة تسأله باستفسار:

- اجهز نفسي لإيه؟

رد بجدية وهو يضم كفيه يستند بهم على سطح المكتبه أمامه:

- عايزك تبقي جاهزة يازهرة، عشان ناوي قريب قوي أعلن عن خبر جوازنا قدام العالم كلها، مش بس الشركة هنا.

توقفت قليلًا تستوعب جملته المبهمة ثم سألته بنبرة خفيضة بحرج:

- ودا هايحصل ازاي وانت عارف يعني.... بموضوع والدي واللي اتنشر عنه.

عاد بجسده لخلف الكرسي يذكرها بلهجته المسيطرة قائلًا:

- انا قولت قريب يازهرة، يعني على ما يجي اليوم ده ، اكيد هاكون لقيت حل.

اومأت برأسها تستأذن في الانصراف، لتكبح تدفق الأسئلة العديدة برأسها. 

.......................


في اليوم التالي .

وبجوار رجل الأمن المكلف حديثًا منه، وحارسه الشخصي إمام، في غرقة مغلقة وحدهم ، كان ينظر بتركيز في الشاشة التي أمامهم للقطات محددة يشير إليها الرجل:

- اهو ياباشا زي ما انت شايف، هو دا الواد اللي جاب العصير لزهرة هانم، ودي الست اللي كان بيتكلم معاها، أكيد هي اللي حطت المنوم.

ضيق عينان الصقرية بتركيز في هيئة الفتى ذو الجسد النحيف، والمغطى نصف وجهه بقناعِ طبي، فقال بتركيز:

- انت متأكد انه مش شغال في المحل ياعوني.

اجابه الرجل بثقة:

- طبعًا يافندم انا فرزت العمال كلهم، لكن الهيئة دي ماشوفتهاش على أي واحد فيهم،  واضح جدًا ان الموضوع كان مدبر من الألف للياء، بدليل ان الولد والست مقلعوش الكمامة نهائي من وشهم .

مسح بأطراف أنامله جاسر على ذقنه الخشنة بتفكير، واستطرد الرجل:

- انا حاسبت مدير المطعم وحاسبت كل اللي اتعاون مع الولد ده أو الست، بس المشكلة اللي عقدت الدنيا فعلا هو موضوع الكمامة ده، عرفوا يستغلوا هاجس المرض المنتشر كويس قوي، 

ظل صامتًا جاسر ينقر بأصابعه على سطح المكتب الصغير، وعيناه انتقلت للمرأة الملفحة بسترة ثقيلة وكاب يخفي شعرها وكمامتها في الامام، لتُخفي شخصيتها بالكامل، فقال اَخيرًا للرجل :

- اسمع ياعوني الست دي أهم من الولد نفسه،  عايزك تعيد على شرايط الكاميرات من تاني وتجيبها من قبل ما تدخل المحل، مش عايزك تهدى غير لما تجيبلي معلومة مهمة عن الست دي تدلني عليها.

...........................


على باب منزلها توقف يلتقط أنفاسه، كي يتماسك ويهدئ من ثورة هذا الغبي بصدره، لقد فعلها إذن وأتى؛ بعد أن استبد شوقه إليها به حتى كاد أن يطيح بعقله، منذ اخر مرة قابلها وحكت إليه مالم تقوى على البوح به لشخص آخر غيره، وهو في حيرة تكتنفه بلا رحمة، أمواج من الأمل ترفعه في محيط عشقها ليشعر بامتلاكه العالم بين يديه، وأمواج أخرى غادرة تسقط به ظلمة عقلها اليابس الحجري، فتوشي له بالقلق مع عدم ردها على مكالماته العديدة طوال الايام الفائتة، ليحسم أمره اَخيرًا بمواجهتها لكي تعود لرشدها أو أن يفعل ما يمليه قلبه عليه ويضعها أمام الأمر الواقع، نعم هذا ما سيحدث، لقد حسم أمره واتخذ القرار.

تنفس مطولًا قبل أن يضغط على الجرس، ولكنه تفاجأ بفتح باب المنزل أمامه، خبئت ابتسامته سريعًا وهو يتبين هيئة الرجل المنمق أمامه، وهو يخرج اليه بابتسامة مهذبة كعادته لافظًا اسمه وكأنه سؤال

- طااارق؟

هم ليقارعه الاخر بالسؤال، ولكنه ابتلع جملته فور أن رأى المرأة الخمسينة بصحبة صاحب البيت أباها وهي خلفهم في الداخل، رأسها فقط التي ظهرت إليه، بزينة وجهها التي زادتها فتنة على فتنتها الطبيعية، ولكن تهرب عيانا وتغير ملامحها لتوتر بدا جليًا عليها، اظهرا إليه ماكان يخشاه ليُنبؤه حدسه بصدق وتأكيد:

- لقد فعلتها، نعم لقد خطت بيدها على حكم اعدامها واعدامه وفعلتها !


..... يتبع

توقعاتكم ياحلوين، تفتكروا هايحصل ايه في الحلقات اللي جاية؟  


تكملة الرواية من هنا

تعليقات



CLOSE ADS
CLOSE ADS
close