![]() |
أغلال_لعنتهُ
الفصل_الواحد_والعشرون والثاني والعشرون والثالث والعشرون والرابع والعشرون والخامس والعشرون
بقلم إسراء علي
كامله على مدونة النجم المتوهج للروايات
الفصل الحادي والعشرون
أتدرين!
الحيرة ما هي إلا وجهٍ مخفي للحُبِ
تظن ذات يوم أن تتمسك بـ مقاليد نفسك
و اليوم التالي تكتشف ما هو إلا محض خيال
و أن الواقع في الحُب يا عزيزتي ما هو إلا أحمق
هرب من عذاب الحياة، ليسقط في عذابٍ أشد قسوة
و هذا ما يُسمى بـ الحيرة في الحُبِ…
تردد عُميّر كثيرًا في حضوره اليوم إلى هُنا، لم يُرد القدوم و لكن إلحاح رفعت جعله يذعن لطلبهِ و يأتي، كيف بـ حق الله يُريد تزويج حوراء له؟ هذا ما يجعله في حيرة شديدة من أمره
تنهد عُميّر و وضع النظارات الشمسية على عينيه و أكمل سيره بعدما ترجل من سيارة الأُجرة و توجه إلى المنزل، فتح الحارس له البوابة و ذلك قبل أن يسأله
-حضرتك عايز مين يا بيه!
-أنا عُميّر، و جاي للأستاذ رفعت
-ليرد الحارس بـ تذكر:أيوة البيه سايبلي خبر، إتفضل يا باشا…
شكره عُميّر و أكمل سيره إلى الداخل، حتى وصل إلى الباب الداخلي للمنزل و دق الجرس، لتفتح خادمة أربعينية و سألته بـ بشاشة
-أنت أُستاذ عُميّر مش كدا!...
أومأ عُميّر بتقول و هي تُفسح له المجال
-إتفضل، رفعت باشا مستنيك جوه…
إبتسم مُجاملة و دخل ثم تبع الخادمة حتى وصلا إلى مكتب رفعت، طرقت الباب ثم دلفت قائلة
-أُستاذ عُميّر وصل…
ترك رفعت ما بـ يدهِ ثم نهض و قال بـ سُرعةٍ
-دخليه بسُرعة و ياريت محدش يدخل
-حاضر…
إبتعدت لتسمح له بـ الدلوف فـ دلف و إلتف رفعت حول المكتب ثم إقترب من عُميّر و صافحه قائلًا
-آسف إني جبتك الصُبح كدا
-هز رأسه و قال:لأ ولا يهمك…
أشار له رفعت ليجلس فـ جلس و هو أمامه ثم قال مُستهلًا الحديث
-فطرت و لا تحب تفطر!
-حمحم و قال:لأ شُكرًا لحضرتك، فطرت قبل ما آجي…
هز رفعت رأسه بـ تفهم ثم قبض على أنفهِ و همَّ يبدأ الحديث و لكنه تراجع و إستبدل بـ سؤالٍ
-تحب تشرب حاجة؟
-نفى قائلًا:لأ شُكرًا برضو، هبقى مُمتن لحضرتك لو دخلنا فـ المُهم على طول…
الحق يُقال، لقد كان مُتوترًا بـ شدة و كاد يُصيبه ضيق تنفس، مُنذ إتصاله صباح الباكر و عُميّر تغدو الأفكار السيئة و تذهب في عقلهِ، رغم أنه يعلم حقيقة مطلبهُ و لكن يظل التفوه بها أصعب مما توقع
إعتدل رفعت في جلستهِ و رسم على وجههِ ملامح الحزم ثم قال بـ صوتٍ قوي و لكنه به نزعة أبوية صعب التخلص منها
-عارف اللي بقوله يا عُميّر مش هيتصدق و لا يدخل عقل بني آدم، بس حاليًا مش عارف أثق فـ حد و اللي أقدر أثق فيه كيان
-قاطعه مُتساءلًا:و أنا دخلي إيه طالما واثق فـ كيان!
-هجاوبك بس لما تسمع نهاية كلامي…
أومأ عُميّر بـ نفاذ صبر و إنتظر باقي حديث رفعت الذي أكمل
-والدك الله يرحمه، كان صديق ليا من أيام الجامعة، يمكن أنت متعرفش
-رفع حاجبه بـ تعجب و قال:أنا فعلًا معرفش
-تنهد و قال مُتوقعًا:طبيعي حتى كيان متعرفش طبيعة علاقتي مع والدك، قُلتلها إن أصدقاء من الكُلية وبس، علاقتي بـ والدك بدأت من أيام الجامعة و كان السبب فـ إني أتعرف على والدة حوراء الله يرحمها
-غمغم:الله يرحمها…
نظر رفعت إلى الخارج و كأنه يستيعد الأيام الخوالي ثم إلتفت إلى عُميّر من جديد و قال مُبتسمًا
-تعرف إنك شبه والدك بالظبط و هو فـ سنك كدا!
-إبتسم عُميّر و قال:جدي قالي كدا
-نفى رفعت قائلًا:مش بس بـ الشكل، دا حتى الصفات…
تساءل بـ صمتٍ فـ أجاب على سؤالهِ الصامت
-متهور زيك بالظبط، بياخد قرارات سريعة و مفكر إنه سهل يعتمد على نفسه، بيتخطى الحدود المرسومة بس بـ عقل و عمره ما عمل غلط فـ حق حد…
فرك عُميّر يده و أصابه إحساس غريب من الحُزن و الإشتياق لوالديه، ليستطرد رفعت حديثه
-كان بيغلط فـ حق نفسه، جدع و شهم، وقف معايا كتير زمان زي ما وقف مع غيري، بيعرف يتصرف فـ الوقت الصح و الأهم…
صمت ليُثير فضول عُميّر و سأله
-الأهم إيه!
-أجاب:إنه بيظهر عكس ما بيخفي، عكس كُل حاجة جواه، رغم إنه كويس بس عايز يثبت إنه غلط…
يبدو أن الرجل يقرأه أكثر مما يعرف هو نفسه، فـ سأله عُميّر بـ إستنكار، يُريد إخفاء تلك الحقيقة الواضحة لعيني هذا الرجل الغريب
-و عرفت دا من مُجرد نظر! أو من والدي بس و إني شبهه!
-أجاب بـ توضيح:عُميّر إيه اللي يجبر شخص إنه يقف مع واحد ملوش صلة بيه تلات أيام لمجرد إنه رئيس أُخته فـ الشُغل!!...
صمت عُميّر، لم يفعل ذلك سوى كـ واجب، إمتنان من أجل شقيقته، لأن نخوته تُحتم عليه فعل ذلك، و لكنه أبدًا لن يُخبره، فـ أحنى رأسه دون إجابةٍ واضحة، ليُخرج رفعت زفيرًا حارًا ثم هتف مُكملًا
-أنا مش راجل أهبل عشان أرمي بنتي لواحد معرفوش، عشان أحميها من اللي أعرفهم
-سأله عُميّر دون أن يرفع رأسه:و ليه مقُلتش كدا من زمان! ليه دلوقتي؟…
كان سؤاله حائرًا يُريد إجابة تُريحه، ربُما وقتها يستطيع أن يتخذ قرارًا صحيحًا، لأجلهِ و أجل الجميع، فـ رفع رأسه و إنتظر إجابة رفعت التي لم تتأخر
-مش سبب مُعين، لكن حقيقي مكنش فيه فُرصة نتكلم فيها عن ذكريات زمان…
بدى عُميّر على وشك الإنفجار و ساقيه تهتز بـ عُنفٍ، ليربت رفعت على ساقهِ ثم قال بـ نبرةٍ رخيمة
-أنا مش بجبرك يا عُميّر، بس صدقني أنا لو مش مضطر مكنتش عرض العرض دا…
همَّ عُميّر ليتحدث و لكن رفعت قاطعه مُكملًا حتى يقطع سبيل التراجع
-مش طالب منك قرار حاليًا، حتى على الأقل لما الأربعين يعدي…
نظر إليه عُميّر نظرة أخيرة مليئة بـ الشك و التردد ثم أحنى رأسه مُحركًا إياها بـ يأسٍ و قرر عدم الرد حتى هو نفسه يجد أرضًا تخوله لإتخاذ القرار الصحيح، حتى لا يندم أو يخسر، أو أن تُظلم حوراء معه، هو غير مُستعد و لكنه يخشى قول ذلك
********************
خرج عُميّر من غُرفة المكتب و ظل واقفًا قليل، يواجه الباب و يُصفي ذهنه من المعركة التي بدأها رفعت مُستغلًا سلاح المشاعر فـ يخسر هو عن جدارة، و تنهد مُخرجًا بعد ما يكتمه، بعد أربعين يومًا قد يحدث فيهم الكثير
-عُميّر!!!...
إلتفت عُميّر مذهولًا على الصوت الأنثوي الضعيف الذي ناداه، ليجدها حوراء، ذُهل و عُقد لسانه أمامها، كانت ضعيفة كـ الشبح الذي يرتدي الأسود، موت والدتها قد فعب بها الكثير
هُنا و فَهَمَ خوف رفعت عليها، بـ الطبع سيأكلوها حية و حتى عظامها لن يسمحوا لأحد أن يرميها، كانت بشرتها البيضاء شاحبة جدًا و ضعيفة، ثلاثة أيام كانت كفيلة لجعلها تنقص في الوزن و خاصةً هي تُعاني من السُكري
إقترب عُميّر منها و حاول رسم إبتسامة خفيفة على وجههِ و قال بـ نبرةٍ رقيقة
-إزيك يا حوراء! عاملة إيه النهاردة!
-هتفت مُجيبة:كويسة…
إحتضنت حوراء نفسها ثم وقفت في مواجهه عُميّر لتسأله بـ حيرة
-هو فيه حاجة ولا إيه!
-أجاب عُميّر مُسرعًا:لأ خالص، أنا جيت أطمن عليكوا
-تمتمت:شُكرًا…
ظلا في مواجهة بعضهما البعض دون حديث يذكر و بدأت حوراء تتململ بـ عدم راحة ليتساءل عُميّر بـ تردد
-مش مرتاحة لوجودي!
-نفت سريعًا:لا أبدًا والله، أنا بس تعبت من الوقفة
-أشار إليها:طب إقعدي، أنا أصلًا ماشي…
توترت حوراء و أرادته أن يجلس قليلًا، تُريد أحدًا معها و إلا ستفقد عقلها لتقول سريعًا تمنعه من الرحيل
-خليك شوية، إفطر معانا
-إعتذر قائلًا:معلش أنا سايب الكافيه لوحده، لازم أرجع…
وجمت ملامحها و أحنت رأسها لأسفل، ليُغمض عُميّر عينيه، لقد بدأ يحيد عن مسارهِ الذي رسمه و بدأ يتخطى الحواجز التي وضعها، بدأ المنطق يغيب و عُميّر آخر يتلبسه أمام تلك البسكويتة الهشة
ضغط عُميّر على مُنحدر أنفهِ ثم قال بـ شبه إبتسامة إستطاع أن يرسمها بـ صعوبة
-هاجي تاني يا حوراء، كُل فترة هاجي عشان أطمن عليكوا
-رفعت رأسها سريعًا و سألت:و كيان!
-أجاب بـ موافقة:و كيان كمان، بس حاليًا لازم أمشي
-أومأت و قالت:تمام، تعالى حتى أوصلك لبره…
تحركت حوراء أمامه فـ أمسك يدها مُسرعًا و قال بـ نفيٍ و قلق
-لأ أنا عارف الطريق، أنتِ تعبانة و لازم ترتاحي
-إبتسمت إبتسامة ضعيفة و قالت:محتاجة أتمشى شوية، زهقت…
لم يُرد المُجادلة أكثر، لقد فَقَدَ القُدرة على الحديث، فـ أومأ، يعرف ما تُعانيه جيدًا، حوراء ستدخل في حالة إنكار إن لم تُحاول إخراج نفسها من هذا الحُزن، يعلم مصابها صعب و قد يكون أصعب ما يُصيبها و لكنها يجب أن تنجو لأجل نفسها و والدها الذي يُلقي بها إليه فقط من أجل حمايتها
و نسى أن يُخبره أن عليه المُراهنة بـ أثمن ما يُملك ليتخطى حاجز القلق عليها، و يبدو أن رفعت نسى أنه لا يمُلك أثمن من حوراء
-تمام…
سارا جنبًا إلى جنب في صمتٍ شبه كئيب قبل أن يتنحنح قائلًا بـ صوتٍ مُؤازر
-حوراء والدك بيمر بـ فترة صعبة، هو محتاجك
-نظرت إليه و قالت:أنا كمان محتجاله…
خرجا إلى الحديقة الداخلية لتضربهما أشعة الشمس فـ أغمضت حوراء عينيها، لأول مرة مُنذ ثلاثة أيام تتعرض لأشعة الشمس المُباشرة و لكن سُرعان ما إعتادت عليها، لتضع يدها فوق جبينها ثم أكملت
-صحيح زعلانة إنه خبى مرض ماما عليا و مشوفتهاش فـ آخر لحظاتها
-قاطعها عُميّر:و مش يمكن دا من رحمة ربنا بيكِ! أكيد ربنا كان عارف إنك م هتستحملي حاجة زي دي، فـ يحصلك حاجة لقدر الله و يبقى والدك خسركوا!...
كان لديه وجه نظر و لكنها كانت أكثر غضبًا و حُزنًا من أن تتفهم هذا حاليًا فـ هتفت بـ تردد حزين
-كُنت عايزة أبقى معاها
-هتف عُميّر بـ صبرٍ:و جايز هي مكنتش عايزاكِ تشوفيها كدا، إحترمي رغبتها…
توقف على مقربة من البوابة ثم إلتفت إليها و قال بـ نبرةٍ جدية
-و كُل دا معتش هيفيد، إدعي ليها و خلي جنبك والدك يا حوراء، آزروا بعض عشان اللي جاي صعب عليه أكتر من صعوبته عليكِ…
زفرت بـ قنوط و إبتلعت رغبة عارمة في البُكاء، لا أحد يفهم ما تشعر به و لن يفهم أحد، إلا أنها رفعت رأسها و أومأت قائلة
-حاضر…
وضع عُميّر النظارة على وجههِ ثم قال قبل أن يخرج بـ نبرةٍ صارمة بها الكثير من الإهتمام
-و خلي بالك من صحتك و نفسك يا حوراء، هاجي أنا و كيان فـ يوم و نتطمن عليكوا
-هتفت بـ توسل:وعد!
-إبتسم بـ إشفاق و قال:وعد…
لوّح لها عُميّر ثم إستدار يرحل و داخلها تدور المئات من الأفكار، بعدما كانت فكرةً واحدة هي ما تشغله، أصبحت حوراء إضافة أكثر قسوة له، و حينما تنشغل الأفكار بـ تلك البسكويتة لن يجد نفسه سوى مُحطمًا للقيود و كسر حاجز التراجع و التردد
********************
إرتعبت كيان لـ ملامح قُتيبة التي إسودت فجأة و تحولت إلى أُخرى قاتمة، شديدة القسوة و تمسكت بـ حافة الفراش تبتغي منه الحماية، و ظنها أصبح يقينًا، زوجها لم يُحب والده قط، أو ربُما بينهما ما يمنعه من حُبهِ، حاولت إستجلاب الكلمات و لكنها تبدو كـ مَنْ فَقَدَ النُطق
تشنجت عضلات جسده بـ نفور و قبض يده حتى لا يفقد أعصابه و السيطرة على النفس ثم قال بـ صوتٍ هادر، أرعدها أكثر
-و ليه لازمة السيرة الزفت دي!
-تلعثمت و قالت بـ توتر:مـ محتاجة، امممم يعني أعرف
-هتف بـ غلظة:مش لازم تعرفِ…
تحرك قُتيبة لينهض و لكن كيان أمسكت به و هتفت بـ سُرعة تستدركه
-رايح فين يا قُتيبة!
-سحب يده و قال:سديتِ نفسي، فـ همشي…
لقوة سحب يده و عدم إتزان كيان، كادت أن تسقط عن الفراش و شهقت فـ إستدركها قُتيبة و أمسك بها قبل أن تسقط ليهدر بـ غضب
-كُنتِ هتتكعوري على وشك، إصطبحي يا كيان…
حدقت به بـ ذهول لذلك التغير المُفاجئ في مزاجيتهِ، بل و غضبه الغير مُبرر منها من وجهة نظرها، فـ إعتدلت كيان و جلست على رُكبيتها فوق الفراش ثم هتفت بـ صوتٍ شبه عال وهي تُحدق به أثناء إرتداءه الثياب
-أنا غلطت فـ إيه! و بعدين بتتكلم بـ الطريقة دي ليه؟ مكنش سؤال يا قُتيبة…
نظر إليها من طرف عينهِ نظرة أسكتتها فورًا ثم إرتدى كنزته و توجه إلى الخزانة يجلب ثياب جديدة قائلًا
-داخل آخد دُش يفوقني…
صفع باب الخزانة لتصرخ كيان بـ مُفاجأة و تابعت خروجه من الغُرفة ثم هتفت بـ صوتٍ عال ليصله
-مش أسلوب دا، و أنا غلطانة إني أعترفتلك أصلًا…
سمعت ضحكته الساخرة بـ الخارج ليستفزها أكثر، و نجح لتضرب على الفراش بـ يدها و هتفت بـ حنق غاضب
-صحيح ميملاش عينك غير التُراب…
عضت كيان أظارفها و الفضول يقتُلها، لا تُريد الضغط عليه و لكن في الوقت ذاته تحتاج لأن تعرف، هذا الكُره الغُير مُبرر لوالده و شخصيته الغريبة تكاد تصل إلى التعقيد، رغم تعامله اللطيف معها و لكن قُتيبة يحمل الكثير من العُقد و الغضب داخله
تنهدت و هي تحك جبينها ثم نهضت هي الأُخرى و إرتدت كنزة له تصل إلى ما قبل رُكبيتها بـ قليل، و حدقت في إتساعها و طولها لتعبس ثم ضحكت، لأول مرة تلحظ ضخامة زوجها الوسيم
جمعت خُصلاتهِا ثم خرجه من الغُرفة و بحثت عنه في أرجاء الشقة أولًا و لكنها لم تجده، ثم توجهت إلى المرحاض لتسمع صوت المياه، زفرت بـ راحة لأنه لم يرحل
حمحمت و طرقت الباب لتسمع صوته يهدر بـ غلظة و فظاظة غير عادية
-متدخليش و إمشي…
رفعت كيان حاجبها بـ إستنكار و غضب قبل أن تقول
-والله!...
وضعت يدها على المقبض و فتحت الباب عليه ثم وقفت على مدخلهِ، لينظر إليها بـ ذهول مُمتزج بـ الغضب، لم يظن أن تلك الخجولة ستفعلها ثم قال بـ حدة
-مش قولتلك متدخليش؟!
-وضعت يدها بـ خصرها و قالت:دا بيتي يعني أدخل فـ أي حتة تعجبني…
لم تعِ أثر الجُملة عليه، كانت ترى معالم وجهه ترتخي بـ غرابة و سحابة من الحنان يغمره و نظراته تبتلعها بـ مشاعر كانت كـ الطوفان في قوتها لتضربها بلا رحمة فـ تُثمل قلبها بـ لذتها
و رغم ذلك. أفسد ذلك الأحمق اللحظة الفريدة، حينما رفع حاجبه و قال بـ إستهجان ساخر
-و من إمتى بقى بيتك! ما أنتِ مكنتيش عايزة تدخليه
-إستفزها لتصرخ:تعبت من جريك ورايا
-هتف ساخرًا:معلش المرة الجاية همشي عشان متعبش سيادتك…
إنتفخت أوداجها غضبًا و حنق، لتضرب الأرض بـ قدمها ثم تقدمت منه و إلتقطت عبوة الصابون السائل ثم قالت و هي تفتحها بـ عصبية
-يا متوحد…
ثم وجهت فوهة العبوة تجاه وجهه و ضغطت عليها ليندفع الصابون السائل في وجههِ و تصيب عينيهِ، مُسببة حرقة صرخ على إثرها و هدر واضعًا وجهه أسفل المياه ليُزيل الصابون
-يا بنت المجنونة، هتعميني…
أكملت كيان دفع العُبوة في وجههِ حتى فرغت ثم قذفته بها قائلة بـ تشفي
-أحسن عشان متبصش لغيري…
شهقت على يدهِ التي قبضت عليها ثم جذبها إلى داخل حوض الإستحمام و دفعها أسفل الماء، ليقول بعدها بـ صوتٍ ثقيل
-عيني مبتشوفش غيرك…
حاولت كيان الهدوء و أقنعت نفسها أن ضربات قلبها التي تعالت ما هي إلا نتيجة المجهود الذي قامت به الآن، و أن إحتراق وجهها أيضًا ما هو إلا محض صُدفة إثر مجهود آخر، ثم لهثت قائلة
-مُمكن نهدى شوية!
-هتف بـ لامبالاة:أنا هادي، أنتِ اللي إتجنيتِ، و عيني كانت هتروح بسببك…
نظرت إلى عينيهِ اللتين إحمرتا بـ فعلتها الطفولية فـ عضت شِفاها السُفلى و قالت بـ حرج و هي تُبعد وجهها عنه
-مكنش قصدي، أنت إستفزتني
-تنهد قُتيبة و سألها:عايزة إيه يا كيان!...
كان يتكئ بـ ساعديه إلى الحائط خلفها و الماء ينهمر عليهما في ظل الصمت عَرَفَ قُتيبة ما تُريده ليُخرج زفيرًا حارًا، جعلها تشعر بـ ما هو مُقبل عليه، فـ نظرت إليه ليهالها ملامحه القاتمة بـ لونٍ أسود مُخيف و تصلب عضلات فكه و كأنها فقدت القُدرة على الإنقباض و الإنبساط، ثم قال و هو يُمسك ذقنها
-حاضر يا كيان، هقولك على كُل حاجة…
رغم الحماس الذي ملأ عينيها، و فضولها لمعرفة المزيد عن حبيبها إلا أنها أحست أنها تضغط عليه و تخطو إلى بؤرة خطيرة، محظورة لا يجب عليها الإنغماس فيها، و لكن فضولها كان أكبر، إلا أنها قالت بـ تردد
-لو بضغط عليك يا قُتيبة بلاش
-ضحك و قال بـ سُخريةٍ قاتمة:لو شايفة نفسك دلوقتي، مكنتيش هتكدبِ الكدبة دي…
عضت شِفاها بـ خجل و أدارت وجهها، ليُعيده إليها ثم قال بـ صوتٍ بدى مُخيف رغم هدوء نبرته و إرتخاء معالمه الحجرية
-الأول ناخد دُش عشان مترديش، و بعدين نحكي…
و كانت مُحقة، هي منطقة محظورة و مُحرمة لم يسمح لأحد بـ دخولها أبدًا، أما هي فـ أفسح لها المجال تاركًا لها مُهمة شديدة التعب، و ثقيلة لا يحملها إلا القوي، تُرى هل ستهرب حينما تعرف عن ذلك الجانب المُظلم؟!
*******************
نبضة تُخبرني أنني أُحبه و هذه الحقيقة
و نبضة تُخبرني أنني أمقته و هذه كذبة
و عقلي في الزاوية يسخر مني…
إنتهت من العمل مُنذ مُدةٍ طويلة و لكنها لم تعود إلى المنزل، رغم أنها في الماضي كانت تنتظر موعد العودة إلى المنزل و لكن الآن، هي لا تُريد العودة، تشُعر بـ شيءٍ غريب يكتنفها مُنذ الصباح
تحديداً مُذ أن سمعت ما دار بين عُبيدة و وقاص، سيتزوج تلك الفتاة المغرورة! تلك التي تدق الأرض بـ كعبيها المُثيري للإستفزاز بـ شكل يزيد عن الحد! تلك التي كُلما رأتها نظرت إليها من طرف أنفها التي تُريد كسره ذات يوم!
و لِمَ لا؟ من سيتحمل فتاة مثلها ذات لسان سليط، عشوائية و الأهم و ما لا تُريد الإعتراف به، أنها سارقة؟!
و عند ذلك الحد تركت القلم الذي كانت تطرق به فوق المكتب و إتسعت عينيها لـ الإتجاه الذي إنحرفت فيه أفكارها، كيف وصل بها التفكير إلى تلك المنطقة التي كانت تمُقتها ذات يوم؟
-لحظة لحظة! كُنت بكرهها!!...
نهضت كِنانة مذهولة و تدجرح القلم ساقطًا على الأرض ثم أكملت بـ شرود ذاهل
-معنى كدا إني معُتش بكرهها!...
وضعت يدها على فمها مدهوشة ثم قالت و يدها ترتفع إلى جبينها
-دا يا نهار إسود بجد
-مكنتش أعرف إن فترة الشُغل معايا هتخليكِ تتجنني و تكلمي نفسك…
شهقت كِنانة بـ فزع و تراجعت، فـ تعركلت بـ مقعدها و كادت أن تسقط و لكنه أمسك بها و قال مُبتسمًا بـ خُبثٍ
-كُل مرة كدا هلحقك من كارثة هتحصلك
-أنت ورايا من إمتى!...
لم يترك خصرها و لم يُعدل وقفتها بل إستمتع بـ إقترابه منها، قد يكون الأخير فـ يُريد أن ينعم به أكثر، و إستمع إلى سؤالها المُتوتر و حدق بـ عينيها الزائغة خوفًا أن يكون سمع حديثها بـ الكامل، و حتى و إن سمعه لم يكن ليفهم شيئًا
قهقه وقاص ثم بدأ في إعادة توازنها حتى لا يسقطا معًا و قال بـ هدوء ماكر
-من ساعة أما بطلتِ تكرهيها
-سألته بـ تخوف:فهمت حاجة!
-أجاب بـ جدية:لأ
-أحسن…
إرتسمت إبتسامة على وجههِ ثم سألها و هو يُبعد يده عن خصرها على مضض
-لسه لحد هنا ليه!
-ها!
-قطب و قال:هو سؤال صعب لدرجادي! بقولك لسه هنا ليه!...
نظر إلى ما فوق المكتب و تلاعب بـ الأوراق ثم رفع بصره إليها و قال
-أنا شايف إن الشُغل خلصان
-تلاعبت بـ يدها و قالت:قُلت مُمكن تكون عايز حاجة…
إرتفع حاجبيه الإثنين معًا و عقد ذراعيه أمام صدرهِ و قال بـ تهكم
-غريبة عُمرك ما عملتيها، أنتِ ديمًا ما بتصدقِ تخلعي
-إمتعضت ملامحها و قالت بـ حنق:الحق عليا إني بهتم، أنا ماشية…
الشركة كانت خالية تمامًا فقط هو و هي الحارسين أسفل الشركة، و كادت أن ترحل و هي تُلملم أشياءها إلا أن وقاص أمسك يدها و منعها ثم تحولت ملامحه إلى جدية بالغة و سألها بـ نبرةٍ قوية
-كِنانة خليكِ دُغري معايا، فيه حاجة ورا قعدتك دي!
-حاولت التملص نافية:لأ مفيش، بيتهيألك…
كانت تُعافر من أجل الفكاك من قبضتهِ و لكنه كان يشد عليها بـ قوة حتى أنها تأوهت، ثم سألها هذه المرة بـ نبرة أشد قوة حتى أنها جمدتها أرضًا
-كِنانة مش هكرر كلامي كتير، خير!!...
هي نفسها لا تفهم، إن أخبرته بـ شيءٍ مُنافي لتعابير وجهها سيكتشفها فورًا، و إن أخبرته حقيقة ما تشعر به من حيرة ستكون أُضحوكته لبقية حياتها، أرادت الهرب و لامت نفسها لشرودها الذي جعلها تبقى و تلتقي به في مواجهةِ هي ليست أهلًا لها
حاولت كِنانة من جديد التملص من يدهِ و من عينيهِ التي تخترقها فـ تختنق كِنانة، و أبت الحديث، جلس وقاص على طرف المكتب و جذبها رُغمًا عنها ثم قال بـ هدوء
-دا ليه علاقة بـ اللي سمعتيه الصُبح!...
إتسعت عينيها في صدمة، أكانت واضحة كُل هذا الوضوح! سُحقًا له و إن كان مُحقًا لن تُخبره أبدًا، ستنفي و تقول كلا، و لكن لِمَ يأبى لسانها الحركة و إطلاق كذبة واحدة بـ كلمةٍ واحدةٍ و هي لا؟
وجدت إبتسامة شقية تشق وجهه فـ إزداد غيظها من نفسها و من نفسهِ فـ هدرت بـ غيظٍ
-لأ ملوش علاقة…
أحست بـ قبضتهِ ترق حول معصمها و بدأت تُداعبها فـ نظرت مذهولة إلى معصمها ثم إليه لتجد إبتسامته تتحول لـ اُخرى ماكرة قبل أن يقول بـ خُبثٍ
-و أنتِ عرفتِ قصدي إيه، ولا فيه حاجة مُعينة فـ دماغك!!...
صمتت كِنانة في داخلها تُريد الإستسلام و إخباره بـ تلك الحيرة و من الخارج لن تسقط لمُتحرش مثلهِ أبدًا، و لكن كيف السبيل و هو لا يدع لها منفذ تهرب منه؟ إنه يحكم الخناق حولها جيدًا و يعرف كيف يضربها في الوقت الصحيح و بـ العبارات الصحيحة
حاولت الهرب من عينيهِ مئات المرات في تلك اللحظات و لكنه كان في كُل مرة يُمسك بها، مرة بعد مرة حتى هُزمت أمام المُتحرش الأشيب و سألته
-أنت فعلًا هتتجوز المُتكبرة دي!...
رأت معالم الإنتصار تعلو وجهه و أرادت تحطيم ذلك الوجه الوسيم و أرادت أن تصفع نفسها لضعفها، إنه يقتحمها في وقتٍ بدأت فيه بـ الضعف و الآن هو يهرب و يتزوج تلك الصهباء المُتكبرة!
مال وقاص بـ رأسهِ و إبتسم إبتسامة خبيثة و قال بـ هدوء مُداعب فـ تبخر الغضب من نفسها و منه أيضًا
-دا اللي كان شاغل بالك من الصُبح!...
ذمت شفتيها بـ تبرم و أدارت وجهها، لينهض وقاص و يقف قِبالتها يحجم الضوء الضعيف عنها ثم أصر بـ نبرةٍ قوية جعلتها تنظر إليه مذهولة
-كِنانة أنا عايز رد واضح، جُملة واحدة و مش أكتر…
مسحت كِنانة على وجهها بـ يدها الحُرة و غطت ذقنها ثم حدقت به و تصنعت الجهل سائلة إياه
-جُملة إيه!...
تحولت معالمه الهادئة، الرزينة إلى أُخرى شرسة، برية و إقترب بـ خطوةٍ كانت الأكثر خطورة من أي وقتٍ مضى و هتف من بين أسنانهِ
-أنا بحاول أسيطر على نفسي، جاوبي!...
تمنعت و أبعدت ناظريها عنه، فـ قبض على ذقنها و أدارها إليه و قال بـ حدة
-كِنانة!! دا تحذيري الأخير، اللي بعده مش هيعجبك
-كشرت عن انيابها و قالت:هتعمل إيه يعني!
-همس مُتخابثًا:زي أول لقاء بينا…
صفعت يده التي على وجهها ثم هدرت بـ حدة
-مُتحرش
-رد عليها بـ تسلية واضحة:حرامية…
نفخت بـ ضيق و إبتسم وقاص ثم رفع وجهها إليه و قال بـ صوتٍ كان من الصعب عليها تجاوزه
-كِنانة معنديش مانع نفضل كدا لتاني يوم، أنا أصلًا كدا مبسوط…
رفعت حاجبها و ضمت شفتيها، حركة بسيطة لفتت إنتباهه و تلك الحمقاء لا تعلم كم يُمارس أقسى ضوابط السيطرة على النفس حتى لا يُخطئ معها فيما لا يُحب، لذلك إستطرد
-لو كان سؤالك إني هتجوز إيزيل و لا لأ، فـ أه يا كِنانة مش هلف و أدور…
بهتت ملامحها و عبست، بل أحست بـ طعنةٍ مُفاجئة لا تعلم مصدرها، و الأكثر أنها حزينة، فـ همست تسأله بـ شرود، غير مُدركة أن همسها خرج و سمعه
-هو أنت فعلًا هتتجوزها و تسبني؟ مش أنت كُنت قُلت هتتجوزني!...
إتسعت عينيه في نفس الوقت الذي إتسعت عينيها، من صدمته ترك يدها و حدق بها مذهولًا، شهقة ثم دفعة و إلتقطت حقيبته و ركضت أمامه
ثوان حتى إستعاب وقاص ما حدث، ليُناديها و هو يركض خلفها
-كِنااانة!!...
إرتعدت لصوتهِ و لكنها لم تتوقف بل زادت من سُرعتها، اللعنة لقد ضعُفت أكثر و هذا لا يليق بها، زادت أكثر و كادت أن تتعثر و لكنها إستعادت توازنها، و فجأة وجدت نفسها تُسحب بـ قوةٍ و تلك القوة أدارتها ثم سألها وقاص لاهثًا
-قصدك إيه بـ سؤالك يا كِنانة!
-حاولت التملص باكية من الخزي:مش قصدي حاجة، لو سمحت سبني
-نفى قائلًا:مش هسيبك غير لما تقولي…
تفادت النظر إليه و حاولت أكثر و لكنه لم يُتركها و هتف بـ نبرةٍ أخافتها، ليست لشدتها أو قسوتها و لكن لـ شيءٍ هي لن تتحمله
-كِنانة لو عندك ليا أي مشاعر و لو واحد فـ المية قولي أه
-زفرت و قالت بـ نبرةٍ خالية من المشاعر:هستفيد إيه!
-قطبت ملامحه بـ عبوس و قال:ساعتها هتخلى عن أي حاجة و هجيلك…
تسارعت أنفاسها و نبضاتها على حدٍ سواء لتهتف قائلة بـ إستسلام مُخزٍ
-مش عارفة، أنا فـ حيرة، قولي أنت دا يبقى إيه!!...
#الفصل_الثاني_والعشورن
#أغلال_لعنتهُ
كـ المُحيط الهادئ في نعومتها
و كـ أمواج شديدة الإرتفاع في ثوران مشاعرها
و يبقى الغريق أنا في مياهها العميقة…
لم يُعجبه ما تفوهت به كـ ردٍ على فضولهِ، هو يعيش مُراهقة مُتأخرة، حائرًا و لكن يعلم جيدًا أنه يُريدها، أن نفسه تهواها و تُريد عناقها كُل حين و بلا داعٍ، كان شديد الحرص فيما سبق للسيطرة على ما يشعر به و على ما يدور داخله، و الآن ذَهَبت تلك السيطرة أدراج الرياح
حدق بها صامتًا، دون ملامح حتى شكت أنه فَقَدَ حياته فـ تفحصت تنفسه و سألت بـ قلقٍ و توتر
-وقاص أنت لسه عايش!...
أخرجته من ذهوله و ضحك رغُمًا عنه ثم قال و إبهامه يتحسس باطن كفها ثم يصعد إلى معصمها
-للأسف يا كِنانة، لسه عايش عشان أسرق إعترافك…
إبتلعت لسانها و عضت باطن وجنتها ليُمازحها بـ خُبثٍ
-و لو إن السرقة دي لعبتك
-زمجرت بـ حدة:هنبتدي نعك أهو…
إبتسم وقاص ثم قربها أكثر حتى باتت تلتصق به و قال بـ هدوءٍ و نبرةٍ رخيمة
-مسمعتش إجابتك يا كِنانة…
أشاحت بـ وجهها بعيدًا و الخزي يكتنفها بـ قوة حتى أنها كانت على وشك البُكاء، أرادت أن تنشق الأرض و تبتلعها، أو أن تتحول إلى ذرة تراب و تختفي من أمامه، و هو لن يتركها و تعلم ذاك جيدًا
لقد حاولت الهروب كثيرًا و أرادت تجنبه أكثر و في كُل مرة كان يجذبها إليه بـ خيطٍ وهميّ ظنه سعيه وراء دينها له، إلا أنها كانت مُخطئة لقد كان يسحبها بـ خيطٍ أكثر قوة و متانة و أكثر إخافة من دخولها السجن و هو شيءٍ لم تقُم بـ تجربتهِ من قبل
ألا و هو الحُب!!
أعاد وقاص وجهها إليه ثم قال بـ الإبتسامة الوقورة نفسها و نبرتهِ التي تُصيبها بـ الإنزعاج من فرط حلاوتها
-أنا قتيلك النهاردة
-ردت عفويًا:طب بس أسكت عشان معملهاش بجد…
لن تُصيبهُ الدهشة بعد الآن لقد إعتاد كِنانة بـ كُل مساوءها و جمالها الفطري، لذلك قهقه ثم قال بـ صوتٍ هادئ
-و ماله، نشوف مين هيعملها الأول…
أرادت سحب النرد في أرضها فـ رفعت حاجبها و عكست الأدوار ثم سألته بـ مكرٍ و إنتصار و كأنها حشرته في الزاوية
-طب ما تقولي أنت ليه بتحبني!
-مال بـ رأسهِ و قال بـ بساطة:أنا مقولتش بحبك يا كِنانة!...
بهتت ملامحها و خجلت في الوقت ذاتهِ و حاولت البحث عن شيءٍ تُنقذ به الموقف المُخزي و لكنها لم تجد فـ عضت شِفاها السُفلى بـ خجل، و لكن وقاص أكمل بـ نفس البساطة
-أنا محبتش قبل كدا و لا أعرف البنات بتفكر إزاي، أنتِ أول تجربة يا كِنانة أخوضها فـ عالم مفكرتش قبل كدا إني أدخله…
رفعت رأسها سريعًا و نظرت إليه مصدومة فـ أكمل بـ إبتسامة بسيطة و لكنها حملت الكثير من المعاني
-يعني لو أنا مُتقبل كُل عيوبك و مستحملها، و لو مستني أشوفك كُل شوية، و لو بفكر فيكِ أكتر من الشُغل، و لما كُنت فـ خطر و أولويتي إني أحميكِ، و لو أنا مُستعد أرمي جوازي من إيزيل عشانك بـ مجرد كلمة واحدة منك بس…
المشاعر التي تُحاصر قلبها و تجعلها ريشة في مهب ريح مشاعره العاتية، تستمع إليه بـ ذهول حطم مُقاومتها الأخيرة في إنكار إنجذابها له، وقاص الهادئ و الذي إستفزها دائمًا هدوءه، يُخبرها بـ ذات الهدوء أنه يكن لها مشاعر عميقة، قد تكون أعمق من الإعجاب و الحُب
مُستمتع هو بـ ملامح وجهها و تعبيراتها اللذيذة، فـ إبتسم ثم قال و هو يرفع يده المُمسكة بـ يدها و رسم دوائر في باطن كفها
-لو كُل دا معناه الحُب، فـ أه بحبك يا كِنانة…
الكلمة كانت صدمة قوية، رغم أنها عرفت أنه سيقولها بـ صراحةٍ، إلا أنها لم تتحمل ذلك فـ سقطت عبراتها تِباعًا حتى عبس وقاص و غمغم بـ سخط
-لو أعرف إنك هتزعلي مكنتش قُلت
-نفت قائلة:لأ مش بعيط لأ…
رفع يده و مسح عبرة ثم رفعها أمام وجهها و قال بـ ضيق
-أومال يعني السقف بينقط على وشك!
-إنفجرت في البُكاء أكثر و قالت:مش عارفة، مش عارفة…
ذُهل وقاص بـ شدة أمام صوت بُكاءها و توتر هل هي تكرهه إلى هذا الحد الذي يجعلها تبكي الآن بـ هذا الشكل المُثير للشفقة؟ لم يجد ما يفعله سوى قوله السريع
-لو زعلانة، هسحب إعترافي!...
كانت تُخفي وجهها بين يديها و ما أن نطق ما قاله حتى أبعدت يدها عن وجهها و هدرت بـ شراسة
-إياك تعملها
-تعقدت ملامحه و هدر حينها:أومال مالك فهميني!!...
أجفلت كِنانة لغضبهِ المُفاجئ و كادت أن تسُبه و لكنها رأت أنه مُحق، فـ هي لا تفعل شيئًا سوى البُكاء، فـ مسحت عبراتها بـ أكمامها ليقول و هو يسحب منشفة ورقية
-إمسحي فـ المناديل يا معفنة
-سحبتها بـ قوة و قالت:متشتمش…
عقد وقاص ذراعيه أمام صدرهِ و إنتظرها حتى فرغت ثم هتفت و هي تنظر إليه بـ خجل
-آسفة، حبت مشاعر و راحوا لحالهم
-سخر قائلًا:الحمد لله، ربنا سترها و مغرقناش بـ دموعك يا ست أمينة رزق
-هتفت ساخطة:على فكرة دا موقف رومانسي ليه تضيعه كدا ليه!
-أشار إلى نفسهِ و قال ذاهلًا:هو أنا اللي عيطت!
-ردت بـ ثقة:لأ أنا، بس أنا بنت و واجب تتحمل هرموناتي…
رقمها وقاص بـ غيظٍ ثم أخرج تنهيدة حارة و قال بـ إبتسامةٍ مُجبرة
-آسف يا ستي، مُمكن أسمع ردك!...
عادت تنفجر بـ البُكاء من جديد فـ نفخ وقاص بـ نفاذ صبر ثم سحب بعض المناشف الورقية و مدّها إليه و سألها بـ نبرةٍ فاترةٍ
-بتعيطتِ تاني ليه!...
أجابت و هي تمسح وجهها بـ عفوية ناظرةٍ إليه بـ أعين شديدة الحيرة و السعادة في الوقت ذاته، و لمح هناك تلك الحرب الطاحنة التي تدور
-لأني مش قادرة أخبِ إنجذابي ليك أكتر من كدا…
هل هذه الإجابة تكفي؟
********************
خرجت كيان من المرحاض بعد لحظات من خروج قُتيبة لتجده يجلس فوق المقعد شارد الذهن، يبدو كـ كُتلة صخرية لا حياة بها، يُمسك بـ منشفة كانت من المُفترض تقوم بـ تجفيف خُصلاتهِ التي تُقطر عليه الآن و لكنه تقريبًا نسى، أو أهمل مُتعمدًا
إقتربت كيان منه ثم سحبت المنشفة و تفاجئ هو، لتضع يديها على كتفيهِ قائلة بـ صوتٍ حازم
-همسح شعرك عشان ميجيش لك برد…
أومأ بـ فتور و عينيه صلبة تُحدق بـ الفراغ بـ فراغٍ مُماثل، ثم بدأت كيان في تجفيف شعره بـ رقة و حذر، أحيانًا كانت تُداعب فروة رأسه بـ يدها و تُصفف خُصلاتهِ بـ يدها و أحيانًا أُخرى تنحني و تضع قُبلة، تشعر بـ إرتجافة بدنه و لكن عينيه كانت وادٍ آخر مُقفر، خالي من الحياة
إنتهت لتجلس جواره في صمتٍ ليلتقط المنشفة من يدها و أدارها لتوليه ظهرها و بدأ هو الآخر في تجفيف خُصلاتهِا، على الرغم من تجهم ملامحه و جفاف مشاعره إلا أن يده كانت رقيقة، و كأنها تُعامل آنية شديدة الهشاشة
هي سعيدة لن تُنكر ذلك، مفهوم الحُب عندها يتمثل في تلك التفاصيل الصغيرة، لم يكن يُغريها المظاهر الباذخة في الحُب، كانت تشعر أنه زائف و مُمل، و قُتيبة كان الأمثل في تحقيق هذه التفاصيل
مثلًا كان ينتظرها بعد إختبارها و يسألها كيف أبلت،
أو يقوم بـ المُذاكرة لها و تهدئتها،
أو أن يسير معها إلى المنزل و يقفا أمام عربة مُتنقلة تبيع المُثلجات و يشتري نكهتها المُفضلة دون أن يسأل
إعترافاته و تمُسكه المُميت بها، كان هذا بـ النسبةِ لها أعظم درجات الحُب و السعادة و لم تُرِد أكثر من ذلك، حتى بعد زواجهما حافظ على تلك البساطة القاتلة لها
إنتهى من تجفيف خُصلاتهِا، ليُلقي المنشفة بـ إهمال لتستدير إليه كيان بـ صمتٍ، تنتظره يبدأ الحديث، و لم يتأخر فـ سمعت تنهدة رفعت من حرارة الجو من فرط حرارتها و سأل بـ صوتٍ مُظلم
-عايزة تعرفِ إيه!!...
توترت و لمعت فكرة التراجع بـ رأسها و لكنها دحضتها سريعًا و حمحمت قائلة بـ تلعثم
-أي حاجة و كُل حاجة
-إلتفت إليها و قال هازئًا:عايزة تتأكدي أنا بكرهه ليه! عايزة تعرفِ أنا كرهت طفولتي أد إيه! عايزة تفهمي أنا بحارب نفسي عشان مكنش زيه ف يـ يوم؟!...
تراجعت كيان و إرتسمت الصدمة على ملامحها، فـ قبض على يدهِ و هدر بـ صوتٍ مُخيف أخافها بـ شدة
-معشتش طفولة زي اللي كُنت بشوفها فـ التليفزيون، و لا إتربيت فـ عيلة تعرف معنى كلمة الحُب، أنا كبرت و وعيت على ضرب و إهانة و ذُل…
وضعت كيان يدها على فمها و شهقت بـ فزع حقيقي، و لكنه ضحك ضحكة سوداء و أكمل ناظرًا إلى عينيها الدامعة
-معرفش كان ماله يمكن كان مريض أو عنده عُقدة نقص، بس اللي أعرفه إني بكرهه و كُنت بكره أشوفه، وقت رجوعه البيت كان أسوء وقت بعيشه، ببقى مُترقب الضربة هتنزل فين أو هتعاقب على أي ذنب معملتوش…
تقلصت ملامحها بـ حُزنٍ و ألم كبيرين، و إقتربت من قُتيبة تُعانق رأسه إلى صدرها، و إستطرد مُكملًا و كأنه سبح في عالمهِ الأسود
-أمي كانت بتنضرب لو الأكل ناقص ملح، و أنا بنضرب لو قُلت معلش، كان جبار و أنا كُنت أهبل بحاول أرضيه عشان يحبني، بس لما كبرت عرفت إنه مشوه من جوه ميعرفش يحب حد غير نفسه و لا يعيش غير لنفسه…
تمسك قُتيبة بـ يدها التي تربت بها على رأسه و عانقها إلى صدرهِ مُكملًا
-كُنت بشوفه صُدف مع ستات تانية فـ أماكن مشبوهه، كان بياخد تعبي اللي بتعبه فـ الشُغل عشان يصرفه على القرف بتاعه، حاول يخرجني من التعليم بس أنا عافرت و إشتغلت أكتر عشان ألهيه بـ الفلوس و يسبني فـ حالي…
ضحك ساخرًا و رفع بصره إليها ثم قال بـ صوتٍ ساخر، أسود مُحمل بـ مرارة الماضي و علقمه
-هي حتى قالتلي سيب التعليم عشان أرضيه، بس أنا حاربت يا كيان، حاربت عشان نفسي و عشانك، كُنت كُل ما أيأس أفتكرك و أفتكر إنك أملي اللي فاضل
-همست بـ لوعةٍ مُؤلمة:قُتيبة!!
-و لكنه أكمل:دعيت ربنا فـ كُل صلاة و فـ أي وقت إني مخسركيش، و إني أكون أحسن عشانك…
إعتدل و حاوط وجهها ثم قال كأنه يتوسلها و معالم وجهه تتقلص بـ ألم لأول مرة تراه على ملامحهِ
-أنا مش زيه والله، أنا عارف إن فيا عيوب و مش كامل، و عارف إني همجي و إني مُتملك و مُقرف، بس مش زيه و بحاول أكون مش زيه
-أمسكت يده و قالت بـ ألمٍ باكية:قُتيبة أنا مصدقاك
-نفى و أكمل:أنا لما يكون عندي ولاد منك هعاملهم أحسن معاملة، حتى هدخلهم أحسن مدارس أنا لاقيت شُغل حلو هقولك عليه…
وضعت كيان يدها على فمهِ تمنعه من إكمال حديثه و قالت مُبتسمة بـ حُزن شطر روحها إلى نصفين، ألم إعتصر قلبها في قبضةٍ من حديد لمُعاناته الصامتة ثم هتفت
-أنت كُنت فـ يوم بابا اللي خسرته، عاملتني و كأني بنتك تفتكر مش هكون عارفة هتعامل ولادك إزاي!
-سألها بـ لهفةٍ مؤذية:يعني أنتِ مصدقاني؟!!…
أمسكت كيان يده و قَبّلتها ثم إبتسمت و هي تحك وجنتها على باطن كفه الدافئ
-ولو العالم كُله كدبك، أنا هصدقك…
وجدت وجهه المُظلم يُشرق
و إبتسامته المُتيبسة تنفرج بـ سعادة
و يده تقترب و تضعها في مكانها الصحيح، بين ذراعيهِ ثم تأوه قائلًا بـ نبرةٍ أجشة، مُتحشرجة
-كُنت خايف تكتشفِ جانبي الأسود و تهربِ…
بادلته العناق القوي بـ آخر أقوى ثم أودعت وجنته قُبلة و قالت بـ نبرةٍ صادقة، جميلة
-الجانب الأسود دا هو عالمي و أنا راضية بيه…
#الفصل_الثالث_والعشرون
#أغلال_لعنتهُ
هي كـ أول قطرة مطر بعد الجفاف
هي كـ أول زهرة تتفتح بعد إختفاء الألوان
كـ أول فاكهة ناضرة تدخل جوفي تُمحي جوعي
هي كـ أول ورقة شجر تتساقط تُعلن عن بداية عاصفة
و تعاقبت على شتاء قلبي كـ فصول السنة
أليست رائعة هي!!...
-كفاية ضحك و إبتسامات مُتخلفة…
بـ خجل و غضب و وجنتين مُخضبتين بـ حُمرةٍ تؤنبه، تُغظيها إبتسامته و إنتصاره الذي حققه عليها بعدما إمتص منها إعترافها، رغم أن إعترافها كان ساذج غير مُباشر إلا أنها إعترفت و هو فَهَمَ ما توده
و وقاص لم يتوقف عن الإبتسام بل وضع يده على وجنتها لتُجفل و تُبعد وجهها، إلا أنه كان مُصرًا على وضع يده على وجهها، ثم الأُخرى و دنى مُقبلًا جبهتها و هتف و هو يُداعب وجنتيها بـ إبهاميهِ
-يكفيني الإعتراف دا يا كِنانة، و يكفيني إنك عارفة
-تلوت أصابع يدها و سألت بـ غمغمة:عارفة إيه!
-ضحك بـ خفوت و همس:معتش فيه هروب…
عضت شفتيها بـ التناوب ثم رفعت رأسها في جُرأةٍ غريبةٍ عليها في الوقتِ الحالي ثم قالت بـ نبرةٍ مُحتقنة
-ما أنت هتتجوز إيزيل الصفرا
-قطب و سأل:إيزيل إيه!
-هتفت بـ توضيح:الصفراااا…
نظر إليها بـ لوم فـ مطت شفتيها و قالت بـ حنق
-الله! بكدب أنا مش بتنزلي من زور…
تنهد وقاص و أنزل يديه لتُحاوط ذراعيها ثم أردف بـ هدوء مُبتسم
-كِنانة أنا قُلتلك فـ بداية كلامنا لو فيه ذرة واحدة، أو واحد فـ المية من مشاعرك ليا، مش هتردد ثانية و أجيلك
-يعني هتتجوزها و تجيلي!
-ضم شفتيه بـ غضب و قال يائسًا:أنتِ غبية…
شهقت و فتحت فمها ثم ضربت كتفه قائلة بـ حدة
-بتعلمه متك
-دفعها بـ خفة و قال:على الأقل بتتعلمي حاجة…
أخرجت صوت إعتراض من فمها و زفرت، ليُغمض وقاص عينيه ثم قال بـ صوتٍ أجش، عميق
-كِنانة، أنتِ أول تجربة و أول واحدة فـ حياتي، تفتكري هعرف أكدب أو ألعب!
-و أنا أعرف منين إنك صادق!!...
إبتسم من زاوية فمه و أومأ كأنه يوافقها في الرأي ثم قال بـ هدوء
-هتعرفِ فـ كُل تصرف معاكِ، و فـ كُل نظرة، و كُل وعد و كلمة هقولها…
نظرت إليه من طرف عينها و ضمت شفتيها ثم تململت قائلة بعد زفرة ثقيلة
-و لو حسيت بـ شك
-أكملها حديثها مُبتسمًا:لو حسيتِ بـ شك يبقى حقك تهربِ، إمشي و هتديكِ عُذرك…
يُخيفها ليس لبساطة حديثهِ في التخلي عنها بل لثقته التي يمنحها لها في كلماتهِ الواثقة، كلماته التي يُخبرها بها أنه صادق، و أنه لن يخذلها و هذا أكثر إخافة من شخصٍ كاذب
مال بـ رأسهِ ينتظر ردها، و بين ترددها و خوفها مما هي مُقبلة عليه، زفرت و قالت بـ نبرةٍ مُتلعثمة و غريبة عن كِنانة التي تعرفها
-مـ ماشي…
تفاجئت بـ إتساع إبتسامتهِ و حلاوتها المُذيبة لثلوج قلبها كـ حرارةٍ شديدةٍ جعلت وجنتيها تتوردان فـ أحنت رأسها إلى أسفل
وجدت يده تمتد ينتظرها لتضع يدها فـ وضعته بعد تردد و توتر، ليُشابك أصابعه من خاصتها ثم قال بـ صوتٍ جعل قلبها يرتجف، و هي شخصيًا على حافةِ الإنهيار
-الإيد دي مش هتسيبك أبدًا يا كِنانة و لا هتخذلك…
حاربت إبتسامة لتخرج منها كـ أُنثى تسمع لأول مرة عبارات الوعد الغرامي، لتقول بـ قنوط زائف
-أحسنلك يعني
-إلتقط حقيبتها و قال بـ إبتسامة شقية:هخاف حاضر
-أخذت الحقيبة بـ عُنفٍ و قالت:متتريقش
-أومأ مُطيعًا:حاضر…
أحست بـ يدهِ مع كُل خطوة يخطوها إلى الخارج، أن يده تشتد عليها أكثر، تشعر و أنه يُحاول عدم إفلاتها يظن أنها ستهرب و هي ستفعل و لكن ليس الآن، على الأقل عندما ترتوي من القليل من المشاعر، هي لن تكون جشعة بل فقط ترتوي من تلك المشاعر التي لطالما قرأت عنها و رأتها فقط
القليل فقط يُرضي فضولها و ستهرب، هذا إن إستطاعت!
********************
بعد مُنتصف الليل بـ ساعتين
نهضت كيان من الفراش بعدما أزاحت يد قُتيبة عنها بـ رفقٍ و إلتفتت إليه، كان يُشبه الطفل التائه الذي وجد والدته بعد طول عناء، بعد بحثٍ دام سنوات و أخيرًا وجد أمانه بين أحضانها، بكت دون أن يعلم و ليتها لم تُصر على البوح
قصّ عليها قُتيبة بعضًا من الذكريات الشنيعة منها هربه منه لمدةِ ثلاثةِ أيام و عند عودته لاقى عِقابٍ مؤذٍ نفسيًا أكثر منه جسديًا، كان هو والدته يتعرضان إلى العُنف الأسري بـ صورةٍ سادية مُقززة و لم يجدا ملاذًا يهربا إليه فـ إستسلما لمصيرهما العنيف
تنهدت و رفعت يدها تمسح عبرة فرت منها ثم مسحت على وجههِ بـ رقة ثم دنت و قَبّلت جبينه، وجدته يتململ فـ سكنت حتى عاود الهدوء، لتنهض كيان و إرتدت مئزرها الحريري و إلتفت حول الفراش خاصةً أسفل رأسه و سحبت المدّية بـ رفقٍ حتى لا يستيقظ
نظرت إليها بـ تعبيرٍ مُعقد و نظراتٍ حزينة ثم قبضت عليها بـ قوةٍ و أخذتها تُخبئها في مكانٍ يصعبُ الوصول إليه، هو لن يحتاجها بعد الآن، كما تلقت كيان العلاج النفسي هو أيضًا يجي عليه تلقي المُعالجة، إنها الآن أصبحت تفهمه و تفهم بعضًا من سلوكهِ العنيف و اللوم الذي كان يقع على عاتقهِ في كلِ مرة، أصبح من نصيبها الآن
ضمت المئزر و إتجهت إليه تجلس على طرف الفِراش و يدها تجد طريقها إلى وجههِ و تسير عليه بـ رفقٍ حتى وصلت إلى فكهِ الخشن، إبتسمت و حركت أطراف أصابعها حتى وصلت إلى شِفاه السُفلى و همست مُبتسمة شبه إبتسامة
-فهمك أصعب من الرياضة
-أنتِ اللي فهمك تقيل…
شهقت كيان عندما سمعت صوته الناعس و حاولت التراجع من الصدمة و لكنه لم يسمح لها، فـ وضع كفه على يدها التي فوق وجنتهِ ثم فتح عينيه بـ كسلٍ و قال بـ صوتٍ أجش إثر النوم
-رايحة فين!
-عضت شِفاها السُفلى و سألت:صاحي من إمتى!...
كانت مُتوترة أن يعلم بـ سرقتها لمدُيته و ترقبت إجابته التي جاءت بعدما أودع باطن كفها قُبلة بـ خمول
-حسيت بـ حد بيقعد جنبي…
زفرت كيان و حاولت سحب يدها إلا أنه منعها، ثم جذبها من ذراعيها لتستلقي بـ نصفها العلوي فوق صدرهِ لتقول بـ حمحمة
-أحم، يلا عشان تنام
-إيه اللي صحاكِ فـ الوقت دا!...
سألها و يدٍ منه تعبث في خُصلاتهِا فـ تُعيدها إلى الخلف و ظل مُحدقًا بها، لتعبث هي الأُخرى بـ أصابعها على صدرهِ ثم قالت كاذبة
-قلقت و دخلت أشرب
-رفع حاجبه و قال:بتكدبِ، أنتِ مطلعتيش من الأوضة أصلًا
-رفعت هي كِلا حاجبيها و قالت مُستنكرة:والله! و عرفت منين بقى!...
إبتسم قُتيبة و داعب أنفها ثم قَبّله و قال بـ نبرةٍ عميقة
-حاسس بـ نفسك معايا فـ كُل خطوة يا كيان، فـ لما يبعد أكيد هحس…
ذمت شفتيها بـ عدم رضا، ذلك الشخص يتعمد التلاعب بها بـ استخدام الكلمات العذبة و العابثة مثله تمامًا، تنهدت كيان و سألته بـ جدية و إهتمام
-أنت كويس!
-أجابها بـ هدوء غريب:مكنتش كويس أكتر من دلوقتي…
حاوط خصرها و وضع يده حولها مُشابكًا أصابعه مع بعضها لتعبس كيان و تهدر بـ عصبية خفيفة
-على فكرة أنا بتكلم جد
- بـ الهدوء ذاته هتف:و أنا بتكلم جد كمان
-نادته لائمة:قُتيبة!!
-قلبه!...
لن تصل إلى أي شيءٍ و هي في هذا الوضع الخطير، تستشعر حرارة جسده و نبضات قلبه الرتيبة بـ لحنٍ عذب فـ حاولت الهرب و لكنه لم يسمح لها، لتتنهد قائلة بـ إستسلام
-قُتيبة عشان خاطري إتكلم جد شوية…
أطلق قُتيبة زفيرًا حارًا ثم إعتدل في جلستهِ و لم تتخلَ قبضته عنها، ليجلس عاقدًا قدميه أسفله ثم قال بـ صوتٍ جاد و قوي
-كياني أنا لو مش كويس هقول أنا مش كويس، عُمري ما هكدب
-هتفت بـ المُقابل:لأ بتكدب يا قُتيبة، عُمرك ما حسستني إنك موجوع أوي قبل كدا، عُمرك ما شاركتني ماضيك دا…
زفر و أدار وجهه بـ قنوط و لكنها لم تسمح له فـ أعادت وجهه إليها و إستطردت تحت أنظاره الساخطة
-حتى ليلة اللي حصل و وقت ما إتقلبت حياتنا و أنا معرفتش أي حاجة، حتى خليتني أكدب عشانه مش عشانك، ليه يا قُتيبة حاطت نفسك فـ آخر القايمة ليه!
-صرخ بـ حدة:عشان مش هاممني غيرك، عشان لما بتكونِ كويسة بعرف إني هكون كويس، أمانك هو أماني يا كيان، لو هكون مرتاح و أنتِ تعبانة فـ دا قمة العذاب…
لم تُصدق ما تسمعه، ذلك الهوس المُميت بها يجعلها تشعر حقًا أن قُتيبة سيموت يومًا ما إذا إختفت أو تركته و هي لا تُريد له ذلك، فـ هدرت بـ قلقٍ قائلة
-مينفعش أبقى مرتاحة و أنت متعذب، قُتيبة أنا ميهمنيش غيرك
-رد بـ عُنفٍ:و أنا ميهمنيش غيرك…
مسحت كيان على جبهتها بـ حيرة و قلة حيلة ثم قالت و هي تضع يدها على وجنتهِ قائلة في آخر محاولة يائسةٍ لها
-قُتيبة! لازم تفهم إنك محتاج تدي لنفسك حقها شوية، و أنا والله مش هسيبك…
كاد أن يتحدث و لكنها حاوطت وجهه بـ كِلتا يديها ثم أكملت مُبتسمة بـ رجاءٍ
-جُزء من سعادتي لما أشوفك بتعمل حاجة لقُتيبة مش لحد غيره
-تشنجت عضلات وجهه و سأل:و الجُزء الباقي!...
إبتسمت بـ إتساع، إنه حقًا كما وصفته، طفلٌ يحتاج عطفها و حُبها، يأخذ كُل قلبها دون ترك شيء لتعيش به، إعتقدت أنها طفلته و لكنها الآن عرفت أنه هو من كان طفلها، إقتربت من جبهته و قَبّلتها قائلة بـ صوتٍ عذب، إخترق درعه
-و الجُزء الباقي إني جنبك…
وجدت ملامحه تسترخي و يبتسم ثم قال مُمازحًا بعدما إطمئن قلبه
-على فكرة أنا بعمل حاجة لنفسي و أنتِ متعرفيش
-سألته بـ إهتمام:إيه!
-أجاب بـ حماسٍ أسعدها:فيه واحد معرفة، هيفتح مصنع واخد توكيل ماركة عربيات، هبقى شريكه، هو بـ الفلوس و أنا بـ المجهود…
إتسعت عينيها بـ سعادةٍ قوية ثم قفزت في مكانها بـ حماسٍ سائلة إياه بـ عدم تصديق
-بجد يا قُتيبة! أخيرًا هتشتغل بـ شهادتك اللي حلمت بيها!
-نظر إليها بـ سعادة خالصة و قال هادئًا:أنا لو أعرف إنك هتفرحي أكتر مني كُنت قُلت من زمان
-عانقته كيان و قالت:أنا فرحانة لفرحتك
-بادلها العناق بـ آخر قوي و رد:و أنا فرحان بـ فرحتك لفرحتي…
ضحكت كيان بـ قوة ثم نظرت إليه و همست
-أنا بحبك يا قُتيبة…
لم يرد قُتيبة عليها بل أجابتها عيناه في صمتٍ من المشاعر القوية، التي لن تستطيع أبدًا أن تواجهها، و هو يعلم ذلك جيدًا و يُدرك غرقها أمام طوفانه و هذا ما يُسعده، لن يسمح لها أن تطفو أبدًا
كُلما أرادت النجاة منه سيُزيد، سيُغرقها بـ أمواجٍ تُزيد من غرقها في القاع أكثر، هي كيانه و مأمنه و حياته فـ كيف يستطيع التخلي عنها؟
********************
بعد مرور أربعةِ عشر يومًا
قررت حوراء الخروج قليلًا، إنها تشعر كما لو أنها تُشارف على الموت فـ حاولت الحصول على بعض الهواء المُنعش، خاصةً و الشتاء في بدايتهِ و هي لطالما عشقت هذا الطقس
صعدت السيارة مع سائق قد وفره والدها حتى لا تتحرك وحدها ثم طلبت منه الذهاب إلى المقابر لزيارة والدتها أولًا
في طريقها قد إشترت باقة من الورد و نباتات توضع أمام القبر ثم أكملت الطريق إلى المقابر، في كُل ثانيةٍ تمر كانت تشعر بـ خفقان مؤلم، يصعبُ عليها رؤية والدتها في القبر هكذا، قبل ثلاثة أشهر كانت تضحك و تُحادثها مُخبرة إياها أن تتناول دواءها و ألا تُهمله
كانت تبتسم مُخفية ما تشعر به من ألم في كُل مرةٍ تراها، و هذا ما يُخجلها أكثر هي لم تعلم بـ شأن مرض والدتها، مسحت حوراء وجهها ثم ترجلت بعدما وصلا
ترجل السائق أيضًا و حمل معها النباتات ثم ساعدها في وضعها أمام القبر و إنتظر إلا أنها قالت بـ خفوت
-معلش يا عمو صلاح محتاجة أكون لوحدي شوية
-أومأ بـ طاعة و قال:أمرك يا هانم، هستناكِ برة المقابر…
أومأت و إنتظرته يرحل ثم وضعت الباقة التي كانت تعتصرها طوال الوقت و هتفت بعدما قرأت الفاتحة
-كدا تسبيني و تمشي يا ماما من غير ما تقولي!...
إن كانت تنتظر إجابة فـ لن تأتي أبدًا، جلست أرضًا دون أن تأبه لإتساخ ثيابها ثم قبضت يدها على حفنة من الأتربة و قالت تُجاهد بُكاءها فـ خرجت نبرتها مُتحشرجة
-والله مش مُعترضة بس ليه مسمحتليش أكون معاكِ!...
هطلت عبرات فـ مسحتها بـ يدها النظيفة و أكملت و هي تُنظر إلى الأعلى
-عُميّر قالي إن دي أكيد من رحمة ربنا، عشان كان عارف إني مش هستحمل….
ضمت رُكبتيها إلى صدرها و حاوطتهما بـ يديها ثم قالت و هي ترمي بـ رأسها فوقهما
-بس أنتِ وحشاني أوي، و محتاجاكِ أكتر…
دفنت وجهها في رُكبتيها و بكت كثيرًا، و مضى الوقت دون أن تعلم، حتى سمعت صوت بوابة المقابر تُفتح و نظرت إلى الخلف لتجد السائق يدلف مُحرجًا ثم قال بـ إشفاق
-لاقيتك إتأخرتِ يا ست هانم فـ قُلت أطمن عليكِ…
نشجت ثم مسحت وجهها بـ يدها و نهضت ثم قالت مُبتسمة إبتسامة باهتة
-أنا كويسة يا عمو، كُنت بتكلم مع ماما شوية بس
-إبتسم و قال:طب يلا يا هانم، البيه قلقان…
أومأت و نفضت ثيابها بـ إهمال و تحركت خلف السائق، و إنتظرته يُغلق البوابة ثم صعدا إلى السيارة، تحرك صلاح و أوقفته حوراء قائلة
-لو سمحت روح على العنوان اللي هقولك عليك
-تساءل عاقدًا حاجبيه:مش هتروحي!
-لأ، هروح مشوار الأول
-أمرك…
إنطلقا و في طريقهما كانت حوراء شاردة تُفكر كثيرًا و ما أخرجها من شرودها توقف السيارة فجأة، جعل جسدها يهتز و يرتد للأمام، تأوهت و هتفت سائلة
-خير يا عمو!
-إلتفت صلاح إليها و قال:آسف يا ست هانم أنتِ كويسة؟
-أومأت و قالت:أيوة…
نظرت إلى الأمام و حدقت بـ السيارة التي أمامهما ثم سألت بـ حيرة
-هو فيه إيه!
-معرفش، العربية اللي قدام دي وقفت فجأة، هشوف الغبي دا
-حاولت حوراء أيقافه:بلاش يا عمو مشاكل…
و لكنه لم يكن يستمع إليها فـ قد ترجل من السيارة و تبعته هي، تمنع أي شجار يحدث
وجدت من بـ السيارةِ التي أمامهما يرتجل و ظهرت علامات التوتر و القلق على وجههِ ثم سأل سائق حوراء
-أنا آسف جدًا، حصلكوا حاجة؟…
كان شخصًا في مثلِ عُمرِ والدها و يبدو أنه لم يقصد ذلك، تقدمت حوراء إلى جانب السائق و حدقت به و لكنها لم تتحدث فـ هتف الرجل
-العربية عطلت فجأة مني و معرفتش أدي إشارة
-تنهد السائق و قال:محصلش حاجة، حضرتك كويس!...
حدق الرجل بـ حوراء كثيرًا و هذا جعلها تشعر بـ عدم راحة ثم قطع نظراته و تواصل بصريًا مع سائقها و سأله بـ إبتسامة خجِلة
-أنتوا اللي كويسين!...
قبل أن يُجيب السائق نظر إلى حوراء و سألها بـ إهتمام عجيب
-الآنسة الصغيرة كويسة!!...
أومأت حوراء دون صوت و تدخل السائق قائلًا بـ نبرةٍ صلبة
-إحنا كويسين، حضرتك تحب أساعدك!
-نظر حوله و قال:لأ شُكرًا، هدور على أي ميكانيكي هنا
-أتمنى متطلعش مشكلة كبيرة…
هتف بها السائق ثم إستدار إلى حوراء و هاتفها بـ لين
-يلا إحنا يا هانم
-تمام…
إلتفتت حوراء لترحل و لكن صوت الرجل أوقفها من جديد و هو يقول بـ لُطفٍ
-آسف مرة تانية يا آنسة، و آسفة لو كُنت سببتلك أي خوف…
إلتفتت حوراء إليه و نظرت إليه بـ إبتسامة فاترةٍ ثم قالت بـ لا مبالاة
-لا أبدًا محصلش حاجة، يلا يا عمو…
إستدارت عائدة إلى السيارة و إنطلقت بها، و أثناء مرورهما جوار الرجل حرك رأسه كـ تحيةٍ بـ إبتسامة لها فـ إبتسمت بـ إقتضاب و أغلقت النافذة، بينما ظل هو ينظر في إثرهما، و إبتسامته تتلاشى و يحل محلها تعبير مُبهم ثم صعد سيارته و إنطلق بها بعد فترة
********************
طلبت حوراء من السائق العودة مُخبرة إياه أنها ستتأخر و لكنه أبى قائلًا
-مُش مُهم، هستنى حضرتك…
تنهدت حوراء بـ حرارة و غضب، إن والدها يُصرف في حمايتها خاصةً بعد وفاة والدتها، لم يكن هكذا قبلًا، لتومئ بـ قلة حيلة ثم توجهت إلى داخل المقهى
كانت هذه وجهتها التالية تُريد الحديث مع نوح أو عُميّر و إن وجدت كيان فـ لا بأس، ما يهُم أنها تخرج من المنزل، بحثت عن عُميّر في الأرجاء و لكنها لم تجده، بل وجدت نوح يجلس جوار صديقه، و من بعيد خمنت أنه يعمل فـ زفرت بـ ثقلٍ ثم بحثت عن طاولة فارغة و إنتظرته ليفرغ من عملهِ
و على الجانب الآخر
-يا بني والله كدا الحساب مظبوط، إيه اللي ملغبطك!
-حك نوح خُصلاتهِ و قال:كان فيه أوردر على ترابيزة تلاتة إزاي متحسبش
-رفع صديقه حاجبه و قال بـ تهكم:الأوردر اللي بتتكلم عنه دا يا سيدنا كان إمبارح قبل ما تسلم شيفتك، صباح الفل…
تذكر الآن أنه قبل تسليم عمله لآخر كان يضع آخر حساب للطاولة في مُعاملات المقهى المالية أمس، ليضرب نوح جبهته و قال بـ إنهاك مُستنكر ذاكرته الضعيفة
-تمام إفتكرت
-ضحك الآخر و إلتفت:اللي واكل عقلك…
عند إلتفاته وجد حوراء تجلس ناظرة إليهما و حنيما إلتقت عينهما أجفلت و أدارت رأسها سريعًا، ليبتسم بـ خُبثٍ ثم تراجع بـ رأسهِ إلى الخلف و قال بـ مكرٍ و هو ينظر إلى نوح من طرفِ عينهِ
-اللي واكل عقلك وصل و قاعد هناك أهو…
إلتفت إليه نوح بـ جبينٍ متجعد فـ أشار صديقه بـ رأسهِ إلى حيث تجلس حوراء، لينظر تجاه الإشارة، ليجدها تجلس جوار النافذة في ثوبٍ أسود يُثقل قلبه، ثم نهض سريعًا دون أن يلتفت إلى صديقهِ الذي قال مُمازحًا
-طب مين اللي هيخلص معايا الحساب طيب!...
توجه إليها نوح من فورهِ و وقف جوار طاولتها ثم سألها بـ لهفةٍ و سعادة حمقاء جعلته يغضب من نفسهِ، كيف يشعر بـ السعادة لرؤيتها و هي حزينة و مُثقلة الكاهل هكذ؟
-حوراء إزيك!...
إنتفضت حوراء مُجفلة لذلك الغزو المُفاجئ لشرودها و نظرت تجاه الصوت لتجده نوح ينظر إليها بـ إهتمام جعلها تبتسم إبتسامة باهتة و أثناء ذلك قال
-آسف، مكنش قصدي أخضك
-نفت قائلة:لأ أنا اللي كُنت سرحانة…
أشار إلى المقعد أمامها ثم سألها بـ نبرةٍ هادئة
-تسمحيلي أقعد!
-وافقت على عَجل:طبعًا، إتفضل…
جلس نوح فـ سألته حوراء بـ خجل
-بعطلك عن شُغلك ولا حاجة!
-لأ خالص، المهم أنتِ إيه أخبارك…
تنهدت حوراء و تلاعبت بـ عبوة ورقية من السُكر بين يديها ثم قالت بـ نبرةٍ خاملة
-مش عارفة، بحاول عشان بابا، الحِمل عليه تقيل و أنا مش عايزة أتقل عليه أكتر
-إنفرجت أساريره قليلًا و قال:كويس يا حوراء، خليكِ قوية…
همت أن تتحدث و لكنه وضع يده عفويًا على يدها و شدّ عليها ثم قال مُكملًا بـ صوتٍ يؤازرها
-وقت لما خسرت والدتي كان فيه حل من إتنين، يا أتخلى عن عيلتي، يا عن والدي و طبعًا مقدرتش أتخلى عن بابا…
بدت مُهتمة لحديثهِ فـ أكمل و قد خفق قلبه أكثر
-خسارة ماما فـ وقت صعب علينا، كان برضو صعب جدًا عليا و على بابا، فـ كان لازم أكون وقتها واقف جنبه، خصوصًا لما طلب إننا ننزل مصر وإتخلى عن كُل حاجة عشان مقدرش يستحمل العيشة هناك
-ليه مفضلتوش فـ بلد مامتك!
-مط شفتيه و قال:بابا كان هناك عشان ماما، و هي إتوفت فـ مكنش فيه داعي يقعد هناك…
يُشبهها كثيرًا و لكن هُناك فرق، أن نوح إستطاع أن يقف جوار والده، أن يكون قوي لأجلهما، و هي إختارت أن تكون ضعيفة كـ طفلةٍ بكاءة، تنهدت و قالت بـ شبه إبتسامة
-ربنا يرحمها يا نوح، هي زمنها فخورة بيك
-أتمنى دا…
وضع يده الأُخرى على كفيها و ضغط عليهما ثم قال بـ صوتٍ حاني
-حاولي تكوني قوية أنتِ كمان، والدك محتاجك و قلقان عليكِ
-إبتسمت و قالت بـ نبرةٍ حزينة:شُكرًا يا نوح، شُكرًا لأنك جنبي…
وسط حديثهما وقف ظلٍ يحجم الضوء عن حوراء فـ رفعت رأسها سريعًا لترى عُميّر ينظر إليها بـ تعبيرٍ مُبهم و ملامح صلبة، لتهتف بـ صدمة
-عُميّر!...
رمقها بـ نظرةٍ لم تعرف ما هيتها، ثم إلتفت إلى نوح رامقًا يده التي تُمسك كفيها و سأل بـ صوتٍ جامد
-سايب شُغلك ليه!
-نهض نوح و قال:كُنت خلصت
-هتف عُميّر:أنت لسه فـ ساعات شُغلك، لما يجي وقت الإستراحة إعمل اللي عايزه، إتفضل على الشُغل…
بهت وجه نوح، لأول مرة يتحدث معه عُميّر هكذا و لكنه أومأ ثم نظر إلى حوراء و إعتذر لتقول هي سريعًا
-لأ أبدًا، روح على شُغلك، آسفة عشان عطلتك…
إنتظر عُميّر رحيل نوح ثم جلس مكانه و سألها بـ جفاء
-خير حصل حاجة!...
عقدت حوراء حاجبيها و تفاجئت من نبرتهِ الجافة معها و لكنها قالت بـ نبرةٍ قانطة
-لأ مفيش، و على فكرة هو معملش حاجة أنا اللي عطلته، ثم إني كُنت جاية عشان أشوفك بس مكنتش موجود…
و أدارت وجهها بعيدًا عنه، أخطأت حينما أتت إلى هُنا من الأساس، هو عُميّر و لن يتغير، تنهدت الذي أمامها ثم قال مُمسكًا بـ يدها و كأنه يمحو أثر يد الرجل الآخر
-آسف مكنش قصدي أضايقك، أنا فكرت فيه حاجة…
نظرت حوراء إلى يدهِ ثم إليه و لكنه لم يترك يدها، لتمط شفتيها بـ حنق و لم ترد، ليُعاود عُميّر الحديث قائلًا
-خلاص بقى متزعليش، المُهم عاملة إيه!
-زفرت و أجابت:كويسة، عُميّر أنا عايزة أسألك حاجة
-أنصت بـ إهتمام و قال:قولي
-حدقت به طويلًا قبل أن تسأله:هو في إيه بينك و بين بابا؟!...
********************
وقفت على أعتاب البناية و أخرجت ورقة كُتب بها بعض الأشياء و هي تضع يدها على صدرها ثم قرأت بـ تعثر شديد نظرًا لعدم إتمامها تعليمها
-حاجة ليها، متكنش إتغسلت…
وضعتها في حقيبته ثم عبست قائلة بـ حيرة
-و أنا هعرف منين بس! مشوار تقيل على قلبي…
زفرت و نظرت إلى الشُرفة الخاصة بـ الطابق الذي يسكن به إبنها ثم قالت بـ قنوط
-شر لابد منه…
همت تصعد و لكنها تردد قائلة بـ خوفٍ أصابها فجأة
-بس لو قُتيبة فوق، هيشك فيا و مش هعرف أعمل حاجة…
وضعت يدها أسفل ذقنها و فكرت حتى، أخرجت هاتفها القديم و قررت مُهاتفته و معرفة مكانه، بدلًا من ذلك التردد، بعد لحظات أتاها صوت قُتيبة الجاف
-خير في حاجة ع الصُبح!
-تمتمت بـ إستنكار:أعوذ بالله، دي طريقة تكلم بيها أُمك!
-سمعت تنهيدة ثم قال:معلش أصلي مش فاضي
-قطبت و تساءلت بـ تهليل:ليه أنت فين!
-أجاب بـ أقتضاب:مشوار و راجع، عايزة حاجة!
-هتفت سريعًا:لأ خلاص
-طيب سلام…
أغلق قُتيبة الهاتف دون أن ينتظر ردها، لتنظر هي إلى الهاتف بـ غضبٍ و قالت بـ حدة
-يووه! دا زي ما يكون ما صدق إنه قفل فـ وشي!!...
و لكن هذا لا يهم، المُهم أن فريستها وحدها بـ الأعلى، وضعت الهاتف بـ حقيبتها الصغيرة ثم همت لتصعد الدرج قبل أن يوقفها صوتًا ما
-لو سمحت يا فندم، هو قُتيبة شاهين ساكن هنا!!...
إستدارت رجاء إلى مصدر الصوت لتجده رجلًا يُماثلها في السن، و من هيئته الراقية لا يبدو أنه من تلك المناطق الشعبية، لتقطب جبينها و تسأل بـ توجس
-خير أنت مين!
-أردف بعد تردد:أنا معرفة قديمة لمراته…
#الفصل_الرابع_والعشرون
#أغلال_لعنتهُ
المواعيد هتكون يوم بعد يوم عشان حاليا مشغولة بحاجات كتير ❤️
الملاذ لا يكمُن فقط في مكانٍ أو وطن
أحيانًا كثيرة يكون الملاذ شخصًا…
حدقت به رجاء بـ صمتٍ و كأنها إشارة جديدة لها لتسُلك نهجًا أقل خطورة و أكثر فاعلية لتتخلص من كيان دون الإضرار بـ نفسها كما كانت ستفعل
رفعت حاجبها و سألته بـ تعجب و فضول
-تعرفها منين!
-حك مُؤخرة عُنقه و أجاب بـ توتر:يعني تقدري تقولي لما كانت بتشتغل فـ شركة رسلان...
ظهرت علامات عدم الفهم على وجهها فـ أوضح قائلًا
-قصدي لما كانت فـ القاهرة و كدا
-اااااه، عايزها فـ شُغل يعني!
-هتف بـ لهفة:حاجة زي كدا…
لم تجد رجاء ما ترد به فـ صمتت ثم قالت و الشك قد بدأ يُساورها
-أنا طالعة دلوقتي، تعالى إطلع معايا...
توسعت عيناه بـ دهشةٍ و تراجع ثم قال على عجلٍ و هو يبتعد
-لأ وقت تاني، أكيد حضرتك عايزها...
شاهدته يرحل سريعًا دون تعقيب، و ظلت هي تُحدق في الفراغ الذي خلفه بـ سيارتهِ، تستطيع القول بـ أن كيان على علاقةٍ مُشينة بـ ذلك الرجل، لقد كانت مُحقة تلك الفتاة عاهرة تُجيد إغواء الرجال
قبضت رجاء على يدها ثم هدرت من بين أسنانها
-المحروس مش مصدق إنها بتلعب من ورا ضهره، و ديني لأفضحك...
ثم صعدت رجاء الدرج سريعًا و كأنها تأكل درجات السُلم حتى وصلت إلى الطابق، ثم طرقت الباب بـ قوة و هي تهدر
-إفتحي يا محروسة، إفتحي يا مرات إبني...
كانت تطرق الباب و كأنها على وشك تحطيمه حتى أتت كيان راكضة و على وجهها ملامح الفزع، ثم فتحت الباب لتشهق مصدومة قائلة
-الست رجاء!
-ردت بـ سُخرية و ملامح الإمتعاض تعلو وجهها:أيوة يا ختي، إيه مفكرة مش هاجي أطمن على إبني اللي خطفتيه!!...
رفعت كيان حاجبيها ثم تنهدت و قالت بـ نبرةٍ حاولت إخراجها هادئة قدر الإمكان
-العفو، حضرتك فـ مقام والدتي
-هدرت بـ حدة:لأ يا بت أنتِ أنا مش أُم حد غير قُتيبة...
كما هي لم تتغير و لن تتغير، ذلك الحقد الأسود الذي تحمله رجاء في قلبها تجاهها لا يُخيفها أو يُنفرها بل هي تُشفق عليها كثيرًا، لذلك تماسكت كيان قدر المُستطاع و لكن رجاء أكملت بـ همجية
-إيه هتمنعيني أدخل بيت إبني!
-زفرت و أجابت بـ صبرٍ:لأ إزاي، إتفضلب بيت إبنك...
إبتعدت كيان لتسمح لها بـ الدخول و لكن رجاء تعمدت دفعها، و قررت هي الصبر، قُتيبة لا يستحق منها أن تفعل ما لا يليق فـ تنفست تُخرج القليل من غضبها و إنتظرت رجاء لتجلس
نظرت حولها و بحثت عن قُتيبة رغم علمها أنه غير موجود فـ هذا ما كانت تطمح إليه من الأساس و لكن هدفها الأصلي هو إخراج جُزءًا من حقدها على كيان إلا أنها لم تجده فـ إستدارت إليها و سألتها بـ حدة
-أومال إبني فين! طفشتيه!!
-صرت على أسنانها و أجابت:نزل شُغله، نزل شُغله و أكل عيشه
-و هو وشك دا وش خير!...
تحفزت كيان و إعتدلت في وقفتها، الغضب صعب السيطرة عليه في تلك اللحظة لتهدر بـ عُنفٍ
-أنا لحد دلوقتي ساكتة و مش عايزة أقل أدبي عشان خاطر قُتيبة لكن لحد هنا و كفاية أوي يا ست رجاء، لو جاية عشان تهنيني فـ بيتي يبقى الله الغني عن الزيارات دي...
صكت رجاء صدرها و شهقت بـ غضب صارخة
-أنتِ بتطرديني من بيت إبني!
-دافعت قائلة:أنا مقولتش كدا، و لا حتى بتطردك، بس إهانة و مش هسمح بيها
-و تسمحي لما تخطفِ إبني و تغري جوزي يا ****....
تجمد جسد كيان و بهت وجهها ليس لصدق ما قالته رجاء و لكن لتلك الذكرى المُخيفة التي سارت كـ خيطٍ بارد في جسدها، و أكملت الأُخرى هجومها
-دخل السجن بـ سببك و مُستقبله ضاع عشان خاطر واحدة زيك، أنتِ سحراله يا بت عشان يبقى دلدول ليكِ! و لا ماسكة عليه ذلة مجرياه وراكِ بيها!...
إبتلعت كيان لُعابها الجاف و لم تجد ما ترد به، بل لم تجد القُدرة و ظلت صامتة، فـ إقتربت رجاء منها و لكزتها في صدرها قائلة بـ حدة و إشمئزاز
-و مش إبني و لا جوزي لوحده اللي بتعملي معاهم كدا، المحروس اللي أنتِ بتخوني قُتيبة معاه جه هنا و لما لاقاني طلعالك جري عشان محدش يقفشكوا...
أعادت تلك العبارة الحواس لكيان التي صرخت بـ جنون و هي تُحدق بـ رجاء بـ عدم تصديق
-أنتِ بتخرفِ بتقولي إيه! لأ لحد هنا و كفاية
-صرخت رجاء بـ حدة:نعم يا عُمر!! أنتِ مفكرة إني مش هكشفكوا! وديني لأفضحك
-كفاية فضايح، كفاية فضايح، منك لله...
تحركت كيان و فتحت باب الشقة ثم أشارت لرجاء المذهولة لتخرج قائلة بـ وجهٍ مُكفهر
-مش همنعك تزوري إبنك، بس طول ما هو مش موجود مش هستقبلك، أنا آسفة بس مش هستحمل كلام تاني
-شهقت رجاء بـ جنون:بتطرديني يا حرباية يا خطافة الرجالة! وديني ما هعديها و يا أنا يا أنتِ...
تحركت رجاء و خرجت من الشقة بـ خطواتٍ غاضبة حتى هبطت الدرج و لسانها يصُب سباب و لعنات سيسمعها الجميع، فـ أغلقت كيان الباب و جلست خلفه تبكي بـ قوة
لقد أعادت ذكريات قاسية حاولت نسيانها، ذكرى تجلدها بـ سياطٍ لاذعة
*******************
أغلق الباب خلفه و مضى إلى الداخل يُصفر بـ إستمتاع، سعيد جدًا بِمَا حدث، الآن هو لا يعلم ما الصفة التي تجمعهما و لكنه حتمًا سيتقدم لخطبتها و ربُما يتحدث مع والدته الآن
-بالك رايق يعني! ربنا يروق بالك أكتر و أكتر…
و ها هي والدته جالسة في الظلام، ليتوقف وقاص قليلًا في مُفاجئة ثم إبتسم و إقترب قائلًا بـ حرارة
-أمين يارب، ربنا يسمع منك يا ست الكُل، بالله عليكِ كثفي الدُعا الفترة دي…
نظرت إليه والدته بـ تعجب، ليفترب وقاص مُضيئًا الأضواء ثم جلس جوارها واضعًا رأسه على كتفها فـ ربتت على وجنتهِ و سألته بـ حنو و سعادة
-طب قولي فرحان كدا ليه يا ولا!...
أمسك وقاص يد والدته و قَبّلها ثم قال و هو يتنهد تنهيدة طويلة، سعيدة
-وافقت يا ست الكُل
-قطبت جبينها و تساءلت:مين دي؟ و مش فاهمة قصدك إيه!
-ضحك وقاص ثم هتف مازحًا:يعني خلاص هكمل نُص ديني و هتشوفي أحفادك بيتنططوا قدامك…
ساد الصمت لفترةٍ طويلةٍ و لم يجد وقاص رد، فـ رفع رأسه و سألها
-أنتِ نمتِ ولا إيه!!...
نظر إليها ليجدها تنظر بـ دهشة إليه و عيناها تدمعان دون أن تسقط قطراتها و قالت بـ نبرةٍ مُتهدجة
-بلاش هزار سخيف، كُنت هصدق…
نهض وقاص و جثى على رُكبتيهِ أمامها ثم أمسك كِلتا يديها و قَبّلهما بـ التناوب و قال بـ إبتسامة زادته وسامة
-لأ صدقي يا حبيبتي، خلاص لاقيت اللي قلبي دقلها
-نشجت قائلة:بجد يا وقاص هتطمني عليك!
-مازحها قائلًا:أنتِ فعلًا هتحتاجي تتطمني عليا كُل يوم لما أتجوزها…
سحبت يدها ثم ضربت ذراعه قائلة بـ نزق مازح
-بلاش تُقل دم…
ضحك وقاص بـ قوة و كانت لأول مرة تراه يضحك هكذا بعد فترةٍ طويلةٍ مُنذ وفاةِ والده، و تلك الفتاة إستطاعت سرقة قلبه و إعادته جمال ضحكته، لابد أنه يُحبها كثيرًا حتى يصل إلى تلك الدرجة من الضحك
إبتسمت و جذبته يجلس جوارها ثم سألته بـ فضول أمومي و حماس لم يخفَ عليه
-قولي بقى مواصفاتها إيه! إحكيلي عنها يا واد…
تعمقت إبتسامة على شفتيهِ و جلس مُضجعًا و وضع قدميه فوق الطاولة ثم نظر إلى السقف و قال بـ شرودٍ و كأنه يراها أمامه
-جميلة و شقية، لسانها مبرد بس مبتتخطاش حدودها، كمان مبتسمحش لحد يتخطى حدوده معاها، عارفة هي عايزة إيه، طيبة و باباها كان شغال فـ الشركة…
تحمست والدته أكثر، لأول مرة تراه يتحدث بـ هذا الشغف عن فتاةٍ ما، فـ سألته و فضولها يأكلها أكثر
-اسمها إيه!
-أجاب:كِنانة
-تلألأت عينيها و قالت:الله اسم جميل عايشة فين!...
تردد وقاص قليلًا و لكنه حمحم و إعتدل جالسًا ثم قال بـ صوتٍ شبه مُنخفض خوفًا من ردةِ فعلِ والدته
-من منطقة شعبية
-تفاجئ حينما قالت:مش مهم أهم حاجة إنها متربية…
زفر وقاص بـ راحةٍ ثم ضحك و قال صادقًا
-جدًا، و بتعمل خير كتير، حتى أنا إستفدت من وراها
-تساءلت بـ تعجب:إزاي يعني!...
حك خُصلاتهِ لا يجب أن تعلم والدتها بـ أنها سارقة، و لكن حسنًا لقد أعادت قدرًا من المال، و ذلك يعني أنها فتاة جيدة أليس كذلك! و أليس القلب حينما يهوى يرى شوك الورود ربتة تُخرج أوجاعه!
نظر إلى والدتهِ التي تنتظر رده فـ أجاب بـ حرصٍ
-يعني بتساعد أي حد محتاج، و كمان أنا كانت بتساعد الناس بـ اسمي فـ باخد ثواب
-هتفت والدته مبهورة:بسم الله ما شاء الله، ربنا يحفظها…
ربت وقاص على ساق والدته ليس تأمينًا لحديثها و لكنه يواسيها بـ الخفاء، ما خفى كان أعظم، و ليتها تعلم كيف تعرف على ذلك الخير، كما أخبرته سابقًا إنها سارقة نبيلة
إنها حقًا سارقة، لم تسرق المال فقط بل سرقت قلبه أمام عينيهِ و لم يجرؤ على الإعتراض
قاطعته والدته حينما سألته
-و ناوي على إمتى!
-سألها بـ تعجب:ناوي على إيه!
-عاتبته:جرى إيه يا وقاص! مش هتتقدم و لا ناوي تسيبها!
-يا ست الحبايب دا أنا بقولك هكمل نص ديني
-أومال إيه!...
تنهد وقاص ثم شرح لها موضحًا بـ إبتسامةٍ خرقاء
-كُل دا قرار فردي يعني لسه هي متعرفش أي حاجة، فـ هفاتحها و أكلم والدها و نيجي نتقابل بعدها و نعمل خطوبة على طول
-ضمت فمها في ضيق و قالت:يعني لسه هستنى كتير
-قَبل جبينها و قال:مش كتير ولا حاجة، أنتِ إستنيتِ كتير و مجتش على كام يوم، بس يارب توافق…
شهقت والدته و قالت بـ نبرةٍ شبه عالية و هي ترفع حاجبها
-و هي هتلاقي أحسن منك فين!
-تأوه وقاص و قال ضاحكًا:بلاش شُغل الحموات دا من قبلها كدا، صدقيني يا ماما كِنانة بنت كويسة بس كان فيه شوية عقبات مش عارف هي عرفت تتخطاها زيي ولا لأ…
أومأت بـ تفهم ثم ربتت على صدرهِ و قالت بـ حنو و إبتسامة جميلة
-لو بتحبك و ريداك يا بني هتعمل كُل اللي تقدر عليه عشان تمسك إيدك، و طالما قلبكوا صادقة فـ حُبها ربنا هيكرمكوا…
رفع يدها و قَبل ظاهرها فـ ربتت عليه من جديد و أكملت بـ تحذير رغم حنو نبرتها
-أهم حاجة إتقِ ربنا فيها و خليك راجل، بنات الناس مش لعبة و ربنا يُمهل و لا يُهمل
-رد وقاص بـ صدقٍ:ولو أنا مش عايز ربنا يبارك هروح أتقدم! أنا إتقيت ربنا عشانك و عشان أخويا و حياتي و قبلهم خوفي من ربنا، هاجي دلوقتي و أعك الدنيا!
-عارفة يا بني والله بس بفكرك…
مال وقاص على كتفها و أغمض عيناه و إبتسم، تُرى أي تعبير سيكتسح ملامحها حينما يُخبرها بـ حديثهِ مع والدته اليوم!!
********************
صعد الدرج بعد يومٍ طويل و شاق من العمل، رغم أنهما لم يُنهيا التحضيرات الأولية و لكن كُل هذا مُرهق، التخطيط و العمل و البناء و رسم الخطط و طريقة العمل المُستقبلية خاصةً و قد أنهك عقله ليتذكر ما قام بـ دراستهِ
إلا أنه سعيد أصبح يشعر و كأنه بدأ في تحقيقِ حلمٍ ظن أنه فنى مُنذ زمنٍ، ظن أنه لن يكون سوى ذلك العامل في مصنع لقطع الغيار فقط، له سابقة تمنعه من التقدم لعملٍ مرموق
و هو يئس و ترك و لكنه لم يندم لحظة واحدة، لم يشعر و كأن حُلمه هي من حطمته بل تحطم سابقًا على يدِ من يُقال له والده
جلس قُتيبة على الدرج يستريح لقد كان قلقًا طوال اليوم رغم إنشغاله و لكن حديثه مع كيان عن ماضيهِ يُخيفه حقًا، يخاف أن تتركه بعدما تذوق معها النعيم، يخاف أن تخشاه و تخشى نفسه السوداء و جانبه السيء
يخشى أن يظهر في وقتٍ ما و تُلقبه من جديد بـ "القاتل" و خشيته تحولت إلى هاجس من القلق و الخوف من فتح باب المنزل و يجده فارغًا، يجدها هربت و تركته من جديد و هذه المرة ستكون نهايته
نظر إلى باب ملاذه و لكنه تحول فجأة إلى هوة فارغة و هو يدور بـ عقلهِ أنها ليست بـ داخلهِ، قبض على يدهِ و تخاذل من جديد و فَضّلَ الجلوس، حتى سمع صوت الباب يُفتح و كيان تطل منه قائلة بـ خوفٍ
-قُتيبة قاعد كدا ليه! أنا فكرت حصلك حاجة…
لمعت عيناه و لاحظت كيان إشراقه الغريب و لكن صوته كان مُنهكًا حينما قال
-ليه! خُفتِ ليه!
-أجابت بـ حيرة و هي تتكئ إلى سور الدرج:كُنت مستنياك فـ البلكونة و شوفتك جاي، إستنيتك تطلع إتأخرت، فـ خُفت يكون حصلك حاجة…
لم تكد تُنهي ما تقول حتى في لمحِ البصر وجدته أمامها يُعانقها بـ قوةٍ ساحقة حتى كاد أن يُحطم عظامها، و رفعها عن الأرض ثم دفن وجهه في تجويف عُنقها و قال تحت صدمتها التي أكلت لسانها
-شُكرًا يا كيان…
الحيرة تكتنفها و لكنها وجدت نفسها تُحيطه بـ ذراعيها خاصةً و هي تستشعر ضربات قلبه القوية ثم قالت بـ نبرةٍ مُتعجبة
-بتشكرني على إيه!
-زاد من عناقهِ و قال بـ صوتٍ أجش:لأنك مهربتيش…
زاد قلقها و ربتت عليه بـ شدةٍ ثم قالت تُهدءه بـ صوتٍ جميل
-هو فيه حد بيهرب من ملجأه يا قُتيبة!...
أحست بـ تصلب جسده و تشنجه كذلك ضربات قلبه التي إزدادت، فـ إبتسمت و قالت مُبعدة إياه و لكنها لم تتخلَ عن وجهه فـ حاوطته بـ يديها
-قُتيبة أنا هنا و هفضل هنا، أنا كدبت عليك إني مش بحبك و ههرب منك، بس لاقيت نفسي مينفعش أهرب
-سألها بـ صوتٍ ثقيل:يعني بتحبيني!
-إبتسمت من زاوية فمها و قالت بـ قلة حيلة:و هو أنت سبتلي إختيار تاني…
أمسك يدها التي على وجنتهِ و أودع باطنها قُبلة ثم نظر إلى عينيها بـ عينيهِ الهائجتين بـ مشاعر مُخيفة و قال بـ عُنفٍ رغم نبرته المُتعبة
-مكنش فيه إختيار تاني من الأساس
-أومأت و قالت:مكنش ينفع يبقى فيه إختيار تاني…
جذبها في عناقٍ آخر رفعها عن الأرض و هي تقبلت ذلك بـ صدرٍ رحب، ثم قالت بـ نبرةٍ مازحة
-طب يلا الأكل جاهز، تاكل و تنام…
أبعدته كيان بـ رفق ثم أمسكت كفه و تفاجئت لقوة يده و لكنها لم تتحدث، بل سحبته إلى الداخل، حينها إستطاع قُتيبة أن يتنفس و كأنه على وشك الغرق و هي من جذبته إلى سطح المياه
جلس أمام الطاولة بعدما تحمم و أبدل ثيابه ثم إنتظر كيان لتضع الطعام و جلست حواره، نظر قُتيبة إلى الطعام ثم سألها بـ قنوط
-إيه دا! مش دا اللي طلبته، أنا طالب ديك رومي…
رفعت كيان حاجبها لتغيره السريع و لكنها أجابت بـ صلف
-إطلب زي ما أنت عايز، بس أنا أعمل اللي أقدر عليه
-بس أنا الراجل!
-كشرت عن أنيابها و هسهست:يعني إيه إن شاء الله!
-رد بـ عناد:يعني أنا رئيس جمهورية البيت دا…
رفعت كيان حاجبيها أكثر و إستعدت لتُمطره بـ وابل من الحديث و لكنه أكمل بـ شقاوة و عبث
-و أنتِ رئيسة جمهورية قلبي، يعني آكل اللي تعمليه من غير ما أفتح بوقي…
رُغمًا عنها وجدت الإبتسامة تشق وجهها و شرعت في الأكل كما فعل هو ثم بعد لحظاتٍ قالت
-على فكرة منستش، بس ملاقتش و لو كُنت لفيت أكتر مكنتش هلحق أعمل الغدا…
نظر قُتيبة إليها مُبتسمًا و ضحك ثم قال و هو يقترب بـ مقعدهِ منها
-بحبك يا كيان
-تفاجئت و لكنها قالت:و أنا كمان بحبك…
بعد مُدةٍ قصيرة
كانا يجلسان فوق الأريكة يُشاهدان التلفاز، يضع قُتيبة رأسه على ساقيها و هي تُداعب خُصلاتهِ حتى قالت كيان بـ صوتٍ جامد
-مامتك جت هنا النهاردة…
تشنج قُتيبة و صر على أسنانهِ حتى تلوى فكه و لكنه سأل بـ صوتٍ هادئ إلا إنه إمتزج بـ بعض الخشونة
-كانت عايزة إيه!
-بتسأل عليك
-خرجت ضحكة هازئة و قال:ما هي كلمتني، لازمته إيه تيجي!...
صمتت كيان و لم ترد، لينهض قُتيبة سريعًا، يعلم والدته جيدًا لن تأتي إلى هُنا في غيابهِ سوى غرضٍ واحد، و هي كيان ليُمسك يدها و يسألها هادرًا
-قالتلك حاجة يا كيان!
-ترددت كيان و قالت:لـ لأ…
أمسك ذراعيها و هزها ثم هدر بـ صرامة و صوتٍ جهوري
-كيان متحوريش
-زفرت و أبعدته ثم هتفت:قُتيبة صدقني مفيش حاجة، بس قولتلها تيجي فـ الوقت اللي أنت موجود فيه
-يبقى عملت حاجة…
كاد أن ينهض و لكن كيان منعته لتقول هي بـ صرامة هذه المرة ناظرة في عينيهِ
-مهما كانت دي مامتك و مهما تعمل حقها يا قُتيبة، أنا فـ نظرها أغريت جوزها و سرقت إبنها طبيعي أنها متكنش طيقاني، بلاش تزود الصدع بينا
-صرخ بـ جنون:بس هي عارفـ…
قاطعته كيان و هي تضع يدها على فمه ثم قالت بـ نبرةٍ مُرتجفة رغُمًا عنها
-بلاش تفتح ماضي، عشان خاطري أنا بحاول أقفل أي باب، بلاش تهد اللي بنيته…
صمت أمام إرتجافها و خوفها، ليزفر بـ عُنفٍ ثم جذبها إلى صدرهِ يُعانقها و كان هذا العناق يُبدد أي خوف و غضب، كان عناق دافئ يُخبرك أنه لا بأس فـ أنا جوارك
********************
ظلت أصابعه تطرق الطاولة في إنتظار إيزيل التي تأخرت، ثم نظر إلى فتاتهِ التي تُلون في دفترها و ربت على رأسها فـ رفعت أسيل نظرها إليه و إبتسمت ليبتسم عُميّر لتسأله
-هي ماما مش هتيجي ولا إيه!
-أجاب:لأ جايه، معقول زهقتِ من بابا!
-نفت بـ قوة:لأ، بس ماما وحشتني أوي، و عايزة ألعب مع أسعد…
قطب عُميّر بـ تشويش، يتذكر هذا الاسم و لكنه لا يتذكر هوية صاحبه، فـ سألها
-أسعد مين!
-أجابت أسيل و هي تُلون:أخو أنكل وقاص…
مط شفتيه بـ إمتعاض، لطالما كره المدعو وقاص، قُرب إيزيل منه كان يُصيبه بـ الغضب و الغيرة و على ما يبدو أنهما لا يزالان مُقربين، حمحم عُميّر و سأل أسيل
-هي ماما بتروح هناك على طول!
-نفت دون النظر إليه:لأ مش كتير، بس أنا اللي بطلب منها عشان أسعد بيلعب معايا كتير…
لوى شدقه بـ ضيق و لكنه لم يجرؤ على الحديث، بل تنهد و داعب رأس أسيل ثم نظر إلى الخارج، ليجد إيزيل تقترب، تحفزت حواسه و تحفز لِما هو مُقبل عليه و إنتظرها حتى إقتربت من الطاولة
بـ مجرد أن إقتربت لاحظتها الصغيرة أسيل لتصرخ بـ سعادة قائلة
-ماماا، إتأخرتِ كدا ليه!
-عانقتها إيزيل و قالت:كان عندي مشوار…
نهض عُميّر و وضع يديه في جيبي بِنطاله و إنتظرهما حتى تفرغا، لتترك إيزيل صغيرتها بعد لحظاتٍ ثم مدت يدها تُصافح عُميّر قائلة
-إزيك يا عُميّر عامل إيه!
-صافحها مُبتسمًا:الحمد لله، إقعدي
-عدلت من وضع حقيبتها و قالت:معلش مش هقدر، مستعجلة…
و لكنه لم يترك يدها بل تحولت نبرته إلى أُخرى جدية و إنمحت إبتسامته ثم هتف
-إيزيل، في حاجة مُهمة محتاج أتكلم معاكِ فيها
-توجست إيزيل و سألت:فيه حاجة ولا إيه يا عُميّر!...
أومأ عُميّر فـ زاد قلق إيزيل التي تُمسك يد إبنتها ثم قالت بـ تردد
-طب ينفع نتكلم قُدام أسيل! شكل الموضوع كبير
-تنهد و أجاب:لأ مينفعش، عشان كدا جبتك الكافيه عندي…
لم ينتظر عُميّر فـ جذب أسيل لتجلس على الطاولة التي كانا يجلسان عليها، ثم إنحنى و أمسك يديها الصغيرتين و قال بـ إبتسامة
-حبيبة بابا، ينفع تقعدي هنا تلوني عما أتكلم مع ماما شوية
-حاضر…
أومأت الطفلة مُوافقة ليُقبل عُميّر وجنتها بـ عُمقٍ ثم نهض و واجه إيزيل قبل أن يردف
و هو يُشير بـ يدهِ إلى إحدى الطاولات الفارغة و القريبة من خاصة أسيل
-تعالي نتكلم هناك…
أومأت و تقدمته بـ تعجرفها الفطري ثم جلست و جلس أمامها، لا يدري كيف يبدأ حديثه و بِمَ يُخبرها كي يقصر الطُرق و يُنهي أي تردد و لكنه لم يجد، كُل ما خرج منه كان تنهد أثار قلق إيزيل أكثر فـ سألته
-هو حاجة كبيرة أوي! حد من البيت جراله حاجة!
-نفى و وجد نفسه يقول فجأة:كيان إتجوزت…
ذُهلت و رفعت حاجبها ثم تراجعت في مقعدها قائلة بـ حيرة و شبه غضب
-منا عارفة يا عُميّر و قُلتلك سبب عدم حضوري ليه
-اه صح…
عقدت ذراعيها أمام صدرها ثم قالت بـ نبرةٍ غاضبة رغم هدوءها
-أنت جايبني هنا عشان تقول دا ولا إيه!
-نفى بـ قوة:لأ طبعًا
-حينها جُن جنونها فـ هدرت:أومال إيه يا عُميّر متجننيش…
أمام غضبها لم يهتم عُميّر و لم يثِر بل ظل هادئًا حتى قال وهو يدنو بـ جسدهِ إلى الأمام و قال بـ نبرةٍ غريبة و مُتباعدة كأنها تخوض فـ الماضي وحدها
-منكرش إني لسه بحن ليكِ و بحن لوقتنا لبعض ساعات، و ساعات الندم بياخدني و بقول لنفسي هيجرى إيه لو إستنينا و متسرعناش فـ خطوة الجواز و إتمهلنا فـ خطوة الطلاق، كان زمنا لسه زي ما أحنا…
صُدمت إيزيل لحديثهِ الغير متوقع و فغرت فمها، ألا يعرف أن الندم يأكلها هي الآُخرى! تحرك حلقها بـ صعوبة و قالت بـ صوتٍ باهت
-مش هيفيد الكلام دا دلوقتي بـ حاجة
-إبتسم ضاحكًا بـ سُخرية و هتف:عارف، و عارف إننا مينفعش نرجع لأننا هنعيد الماضي بـ حذافيره و اللي هيتظلم تاني هي أسيل…
صمتت إيزيل و إنتظرت حديثه، هي صدقًا لا تجد ما تقوله و إن كان تود العودة فـ هو مُحق لن يتكرر سوى ماضٍ بئيس لا تُريد عيشه مرةً أُخرى، فً أكمل عُميّر و هو ينظر من النافذة البعيدة
-مينفعش نوقف حياتنا يا إيزيل لازم نكمل، حتى لو لسه فيه بينا مشاعر
-نبض قلبها و سألت بـ صوتٍ أجوف:قصدك إيه يا عُميّر وضح كلامك!!...
إلتفت إليها و إبتسم إبتسامة أوجعتها و أيقنت منها أن ما سيتفوه به سيُؤلمها و قد كان فـ هتف بـ صوتٍ لا ينُم عن شيء
-أنا هتقدم لواحدة بعد فترة من دلوقتي و حبيت تكونِ أول واحدة تعرف…
#الفصل_الخامس_والعشرون
#أغلال_لعنتهُ
الحبُ من بعيد يبدو كـ نسيمٍ هادئ يخترق مسامك و يملأها بهجة
و لكن عندما يُصيبك، تكتشف أنه ليس سوى إعصارٍ هائج يسحق عظامك…
يبدو أنها لم تستعب ما قاله نظرًا لصمتها و ملامحها التي تحجرت، بينما عينيها مُثبتتان عليه، فـ أعاد عُميّر حديثه بـ صوتٍ هادئ شبيه بـ خرير المياه
-أنا هتقدم لـ
-قاطعته إيزيل بـ جفاف:سمعتك أول مرة…
لم ينفعل بل أومأ و إنتظرها تتحدث، حتى بـ الفعل تحدثت و هي تحك أسفل عينها اليُسرى
-و المطلوب مني!
-مط شفتيه و رفع كتفيه قائلًا:مش مطلوب منك حاجة…
رفعت كِلا حاجبيها بـ سُخرية ثم قالت بـ نبرةٍ أكثر سُخرية و إيذاءًا
-أومال عرفتني ليه! خايف على مشاعري لما أعرف!...
سُخريتها لم تُغضبه بل عَلِمَ منها أنها تُخفي حُزنها أو خيبة أملها، بل هتف بـ نفس الهدوء المُثير للغضب
-بعرفك بـ حُكم العشرة و إنك أُم بنتي
-هتفت بـ صلف و هي تلتقط حقيبتها:و دي شيء ميهمنيش، حياتك الخاصة معدتش تهمني، أهم حاجة متأذيش بنتي…
نهضت تحت أنظار عُميّر القاتمة، خيبة أمل تُحيط به وَدَّ لو رفضت فـ يجد عُذرًا قويًا يمنعه من الزواج بـ أُخرى و لكنها حطمت آماله، ظل جالسًا و لم ينهض في حين تحركت إيزيل و قبلها هتفت بـ نبرةٍ خالية من المشاعر، جافة كـ حلقها تمامًا
-مبروك مُقدمًا…
و أخذت أسيل دون حديث و دون أن تترك أسيل لتوديع والدها، و حدق عُميّر بهما حتى رحلتا تمامًا، زفر بـ غضبٍ تملكه هو يخشى على تلك الصغيرة منه و يخشى إفساد ما بناه سابقًا
أراد الفرار و إستغل بـ كُلِ أنانية مشاعر إيزيل ليجعلها طوق نجاته، و شيءٍ بسيطٍ من براعم الأمل أن يعودا و لكن من يخدع؟ لا سبيل لعودتهما
نهض عُميّر ثم قام بـ تنظيف الطاولة من بقايا أسيل و أطفأ أضواء المقهى و رحل، يسير في الطُرقاتِ الخالية ينشد بعض الهدوء و لكن صورة البسكويتة تلوح في الأُفق، ستأُذى و هو يعلم جيدًا ذلك
********************
سارت إيزيل بـ سرعةٍ لا تتناسب مع حذاءها العالي و الصغيرة أسيل خلفها تتذمر قائلة
-يا ماما براحة مش قادرة أجري…
تنبهت إيزيل لِما تفعله فـ تباطئت خطواتها ثم قالت مُعتذرة و هي تنظر إلى طفلتها
-آسفة يا حبيبتي، هنركب العربية أهو…
بدأت سيارتها تظهر في الطريق و بـ جوارها يقف شخصًا ما، ترددت و خافت أن يكون ذلك القذر من جديد و لكنها أبت أن تكشف ما تشعر به، يكفي تلك الصدمة التي ضربها بها عُميّر مُنذ قليل
كاذبة إن قالت لا تهتم بل هي تهتم و كثيرًا، و كاذبة إن خدعها الأمل بـ طلبهِ لعودتهما تعلم أنه مُستحيل، لا زالت تُكن المشاعر له و هو أيضًا كما إعترف لها إلا أن عودتهما مُجددًا تعني فشلًا جديدًا و هي لا تود ذلك، و لا تود أذية صغيرتها
إقتربت بـ حذر و ما أن ظهرت هوية الواقف في الظُلمة حتى تنفست الصعداء و محت كُل تعبير مُؤلم و خُذلان على وجهها و رسمت إبتسامة مُتقنة، إبتسامة مليئة بـ الصلف ثم قالت بـ نبرةٍ مُتعجبة
-أنت لسه ممشتش!...
إعتدل عُبيدة في وقفتهِ ثم نظر إلى ساعةِ يدهِ و قال بـ رزانة و جدية
-مينفعش أسيبك ترجعِ فـ وقت زي دا لوحدك
-أشارت إلى السيارة بـ عينيها و قالت بـ لؤم:معايا عربية، اللي إنت كُنت ساند عليها من شوية…
ضحك و حك مُؤخرة عُنقه بـ حرج ثم قال مازحًا
-بس أنا ممعيش عربية، توصليني و تاخدي حق الأجرة…
ضحكت إيزيل ضحكة حزينة و أومأت، لتفتح الباب و تُساعد أسيل على الصعود و التي رحبت بـ عُبيدة، ثم أغلقت الباب و ما أن همت لتصعد مقعدها أوقفها عند مرورها بـ مُقدمة السيارة و أمسك يدها
نظرت إليه إيزيل بـ تعجب و حدة إلا أنه لم يتراجع، بل نظر إلى عينيها بـ قوة و كأنه يخترق روحها و وصل إلى سبب تغيرها ثم سألها
-مالك!
-رفعت حاجبها و سألت بـ إستنكار:مالي إزاي!...
إقترب منها عُبيدة و لم يهتز لنبرتها المُتعجرفة بل وضع يده على وجنتها ثم همس دون أن يحيد عن عينيها الغريبتين بـ نظرةٍ لم يعهدها منها أبدًا
-ضايقك بـ كلمة!
-جفلت و تراجعت:هو مين!...
و لم يسمح لها بـ أن تبتعد أكثر، فـ أمسكتها يده جيدًا و هتف بـ قوة جعلت عينيها ترجفان لولهة
-متجاوبيش سؤال بـ سؤال…
نظرت إيزيل إلى طفلتها التي تُتابع الحوار بـ أعين فضولية فـ حاولت الإبتعاد من جديد و لكنه لم يسمح لها، لتهدر إيزيل بـ غضبٍ
-أسيل شيفانا، عيب كدا
-لم يرف له جفنٍ و رد بـ برود:مظنش إني متخطي حدودي…
نظرت إلى يدهِ المُمسكة بها بـ حاجبٍ مرفوع، ثم دفعت يده التي على وجنتها و هتفت بـ سُخرية
-و إيدك بتعمل إيه!
-أجاب بـ بساطة:ماسكك عشان متقعيش
-زفرت بـ حنق و قالت:الوقت متأخر يا عُبيدة، عايزة أمشي
-مط شفتيه و قال:لما أعرف فيه إيه
-صرخت:قُلت مفيش
-و في المُقابل قال بـ قوة:كدابة…
صُدمت من فظاظته و من المُفترض أن ترد و لكن بدلًا من ذلك بدأت عبراتها بـ النزول واحدة تلو الآخرى و كانت هذه أكبر صدمة لها الآن، لماذا تبكي؟ و علي أي شيءٍ تبكي! أأوجعها فكرة مُضي عُميّر في حياتهِ قدمًا دونها! أكانت شديدة الثقة بـ أنه لن يستطيع حُب أُخرى غيرها! تحولت كُل تلك الثقة فيما مضى إلى أسئلة عاجزة عن إيجاد إجابة لها
توسعت عينا عُبيدة و صُدم لبُكاءها المُفاجئ إلا أنه أيقن أن ذلك الشخص هو سبب بُكاءها، شعور غريب من الغضب ضربه لبُكاءها من شخصٍ كان ذا يوم زوجها، ألم تتخطاه!
لم يعرف عُبيدة ماذا يفعل لمواساتها فـ قال بـ قنوطٍ
-كُل حاجة هتكون بـ خير…
نظرت إليه مذهولة من بين عبراتها ثم سألت بـ دهشة و هي تمسحها
-تفتكر!...
مط شفتيه و رفع كتفيه دلالة على جهلهِ فـ ضحكت بـ حُزنٍ، ليمد عُبيدة يده بـ منشفة ورقية ثم قالت
-متقولش حاجة مش متأكد منها…
جذبها لتجلس فوق الأرض و تبعته هي بـ هدوءٍ لا يهم إتساخ ثيابها، يكفي ألا تراها صغيرتها، إنتظر تفرغ من تجفيف عبراتها و سألها بـ صوتٍ مُتباعد
-لسه بتحبيه!...
دُهشت لسؤاله و لكنه سؤال منطقي فـ حين أنها تبكي لمعرفتها بـ زواجهِ من أُخرى و من وجهةِ نظرهِ عودتها بعد مُقابلة طليقها، فـ أجابت بـ إستسلام
-حتى لو بحبه، إحنا فـ مرحلة مينفعش فيها نرجع
-سألها بـ إصرار:و لو كان ينفع كُنتِ هترجعِ!!
-أجابت بـ صدقٍ:لو رجعت كُنت هتأذي، كُنا هنأذي بعض، تاني…
قالت الكلمة الأخيرة في تخاذل و صوتٍ فَقَدَ نغمته، ليقول بـ هدوءٍ و جدية
-يبقى فكري فـ مُستقبلك يا إيزيل، طالما الندم و الإفتراضات مش هتنفع يبقى نرمي ورا ضهرنا…
تلاعبت بـ المنشفة بين يديها فـ أكمل عُبيدة و هو ينظر إلى الظلام أمامه
-لو كان خير مكنش فيه مخلوق على وجه الأرض هيقدر يمنعكوا عن بعض، لو أنتوا قدر بعض…
لمعت فكرة في رأسها جعلتها ترفع رأسها و تنظر إليه تسأل نفسها
"ماذا لو لم يكن حقًا قدرُها من البداية؟"
********************
إرتمت على الفراش خلفها و ظلت مُحدقة بـ شرودٍ أمامها، لقد أذهلها عُميّر بـ حديثهِ و ظنت أنه يُمازحها إلا أن نظرته و نبرته كانت أشد جدية من أي وقتٍ مضى
"عودة إلى وقتٍ سابق"
تراجع عُميّر في جلستهِ لسؤالها المُفاجئ، ربُما لاحظت حوراء زياراته المُتكررة لهم بـ داعٍ أو بـ دونِ واحدٍ، و تخمينًا آخر أن والدها أخبرها فـ قرر المُراوغة قليلًا و هتف بـ صوتٍ ممطوط
-بساندكوا يا حوراء
-ردت حوراء بـ نُزق و ضيق:معرفتك بيا متستدعيش كُل دا، خصوصًا مُعاملتك معايا متدلش إنك بتحبني
-رفع حاجبه و قال بـ هدوءٍ:مُعاملتي ليكِ عشان بتستفزيني، ثم مين قالك إني مش بحبك!...
رفت جفونها في صدمةٍ غير متوقعة و وضعت يدها على فمها فـ صحح عُميّر و هو يضغط على شفتيهِ
-على الأقل زي اُختي الصغيرة...
أصابها الحرج لِما قاله فـ أدارت وجهها بعيدًا، ليتنهد عُميّر و قال بـ نبرةٍ أجشة، ناعمة
-مش قصدي أحرجك يا حوراء، بس أنا فعلًا مش بكرهك
-لوحت بـ يدها و قالت:أيًا كان، أنت مجاوبتش على سؤالي...
تحرك حلقه بـ صعوبةٍ و ضم شفتاه يمتنع عن الرد فـ سألته حوراء بـ وضوحٍ تام تضغط عليه
-كون صريح معايا عشان مش هقبل بـ نُص إجابة أو كدبة...
تلك البسكويتة تضغط عليه، كان يُحارب نفسه طوال الفترة الماضية، أراد الهروب و عدم التفكير إلا أنها لا تسمح له، تُطارده إما بـ ذكرى جميلة و ناعمة كـ وجنتيها الوردتين الآن إما بـ ظهورها المُفاجئ و المُبعثر لأفكارهِ كما الآن
و ما بين هذا و ذاك، كان حائرًا و مُتشددًا، إما الفرار أو الوقوع في شِباكها و لكنه لا يُريد إيذاءها، يُريدها نقية، شقية كما تعود أن يراها، سيكذب إن قال أنها لا تُحرك شيئًا داخله، شيئًا مجهول لا يعرف هويته، هو يُصدق أنهما لا يليقان بـ بعض ليس منها و لكنه لم يعُد يصلح لأمور الحُب لقد تاب و صام الهوى مُنذ زمنٍ
-طول مُدة سكوتك بـيأكدلي إني على حق، عُميّر عشان خاطري أنا بحاول أصفي أفكاري و أفوق، مش عايزة حيرة، لو عايز تساعدني و تساندني خليك صريح...
زفر عُميّر بـ عُنفٍ ثم مشط خُصلاتهِ الطويلة و بعثرها ثم قال بـ قنوطٍ غاضب
-حوراء أنا طلبتك من والدك...
تجمدت و كأنها إنفصلت عن العالم أجمعه، و عيناها تعاقبت ما بين الضيق و الإتساع في مُحاولةٍ لتحليل عبارته، صدقًا ما يقول! لقد تقدم لخطبتها! هكذا بـ هذه البساطة!
سُحقًا ماذا يحدث، لسانها شُلَ عن الحديث و ضربات قلبها أصمّتها عن ضوضاء المحيط حولها، و ظلت نظرتها مُعلقة بـ وجههِ غير معلوم المشاعر
الصفير بدأ يهدأ و بدأت تستعيد حواسها فـ همست بـ صدمةٍ كبيرة
-بتقول إيه!
-غمغم بـ صوتٍ أجوف:عارف إنها صدمة، بس دي الحقيقة، هنتخطب قُريب يا حوراء...
كانت هذه القشة الأخيرة التي جعلتها تنهض فجأة دون ردٍ واحد ثم إلتقطت حقيبتها و قالت بـ تعثر دون أن تنظر إليه
-إتأخرت و لازم أمشي...
و تحركت أمامه دون أن يُحرك ساكنًا، و كـ تعثر كلماتها، تعثرت في سيرها و هب لمُساعدتها و لكنها كانت إعتدلت سريعًا و ركضت إلى الخارج
"عودة إلى الوقت الحالي"
لم تتذكر كيف وصلت إلى المنزل و من صادفته في طريقها، فقط صعدت إلى غُرفتها و ظلت جالسة تُحدق من النافذة حتى غيرت وضعتيها مُنذ قليل
طرقات جعلتها تنهض و تجلس، ثم سمحت لـ الطارق بـ الدخول فـ ما كان سوى والدها، إبتسمت بـ شحوب و قالت
-تعالى يا بابا...
أغلق الباب خلفه و إقترب ثم جلس على حافة الفراش رابتًا على رأسها ثم سألها بـ حنو
-عاملة إيه يا حبيبتي!
-أجابت بـ إقتضاب:كويسة
-بتاكلي كويس...
أومأت دون فتح فمها، فـ تنهد رفعت و قال بـ نبرةٍ عادية لا تنُم عن شيء
-عُميّر كلمني و قالي إنك عرفتِ...
نظرت إليه مطولًا دون أن تنبس بـ بنت شفة، ثم تنازلت و قالت بـ نبرةٍ خفيضة و قانطة
-كُنت ناوي تعرفني إمتى! و لا لما أتجوز!
-تأوه رفعت بـ حُزنٍ و قال:يا بنتي لولا إني خايف عليكِ كُنت قُلتلك من زمان، من أول ما طلب، بس أنتِ كُنتِ شايفة إن الوقت يسمح!
-ضيقت عينيها و سألت:و هو طلبني منك إمتى!
-أجاب بـ إقتضاب:قبل موت والدتك بـ حاجة بسيطة...
شهقت و وضعت يدها على فمها بـ صدمةٍ، ليقترب رفعت أكثر و إستمر في كذبتهِ التي كانت شبه حقيقية
-بعد موت والدتك خُوفت عليكِ يا حوراء، عشان كدا وافقت على طلبه، على الأقل لو مُت مش هبقى قلقان عليكِ
-صرخت بـ بُكاء:متقولش كدا، حرام عليك...
عانقها رفعت بـ قوة و قبّل رأسها عدة مرات ثم قال بـ نبرةٍ أبوية تفيض عاطفة و حماية
-دي حقيقة فـ حياة كُل واحد، بس مينفعش أسيبك يا حوراء و أنا مش مطمن، و هو كان بيجي عشان اتكلم معاه و أفهم منه...
حاولت حوراء الحديث و لكنه سبقها قائلًا
-طبعًا مفيش حاجة هتم من غير موافقتك...
ربت على خُصلاتهِا و أبعدها عنه يُنهي هذا الحديث و أي مُعارضة قد تخرج منها هاتفًا
-هسيبك تفكري، بس فكري بـ عقلك مش بـقلبك...
قَبّل جبينها ثم ربت على وجنتها و قال بـ إبتسامة حانية
-تصبحِ على خير...
لم تجد القُدرة على الرد، بل فضلت الصمت و بعد خروج والدها إرتمت فوق الفراش من جديد، و ناشدت النوم علها تجد فيه إجابة تُخرجها من حيرتها
**********************
بعد مرور يومين
في المساء
كانت كِنانة تقف أمام المرآة تتطلع بـ هيئتها و تتحقق للمرة التي فقدت عدها لثوبها الذي ستسقبل به عريسها المُغفل، بـ الطبع مُغفل و هل يعقل لإنسانٍ سويّ الفكر أن يتقدم لسارقة و تلك السارقة سرقت شركته!
فاجأها أمس صباحًا حينما طلب حضورها إلى المكتب من فورِ وصولهِ، تعلم أن وراء هذا الإستدعاء مُصيبة
"دلفت إلى المكتب بعدما طرقت طرقات مُهذبة و سمعت صوته يسمح لها بـ الدخول، بـ الطبع بعد الإعتراف تغيرت الكثير من الأشياء، للأسوء من وجهةِ نظرها ألا و أولها هو تهذيبها معه و كان الإستئذان قبل الدخول أولى خطوات تهذيبها
رفع رأسه ما أن دلفت و سُرعان ما إرتسمت إبتسامة على وجههِ، إبتسامة جعلت قلبها يخفق بـ غرابةٍ، رفعت كفها و ضربت موضع قلبها هامسة بـ حدة
-إثبت، إثبت يخربيتك…
و كان هو يُشاهدها بـ إستمتاع من فوق نظارته، لمحته كِنانة فـ حمحمت بـ خجل، نزع وقاص نظارته الطبية و أشار لها بـ يدهِ أن تقترب قائلًا
-قربِ يا كِنانة
-همست بـ نزق:كدا حلو
-شاكسها قائلًا:لا مش حلو
-نفخت و هتفت:لأ حلو، أنت اللي مش واخد بالك…
إبتسم من زاوية فمه ثم إضجع في جلستهِ و قال مُتأرجحًا في مقعدهِ بـ إستمتاع
-عارفة لو أنا اللي قُمت هيحصل إيه!
-رفعت حاجبها و تساءلت بـ سُخرية:هيحصل إيه!...
رغم خوفها مما قد يُقدم عليه إلا أنها ناطحته بـ عناد، و ما أن همَّ بـ النهوض، حتى إنتفضت في وقفتها ثم صرخت و هي تقترب
-متقومش، خلاص أنا جاية
-قهقه وقاص:شاطرة…
إقتربت كِنانة بـ غضبٍ و وقفت أمام المكتب ثم سألته من بين أسنانِها
-هه أديني جيت
-لفِ تعالي
-هدرت بـ حدة:لأ كدا كتير…
هددها بـ نهوضٍ مُزيف فـ صرخت بـ غضب و إلتفت مُذعنة حول المكتب لتقف جواره، ضحك وقاص و قال بـ إريحية
-أيوة كدا إسمعي الكلام عشان منتعبش
-هتفت بـ إشمئزاز:يا ستار، دمك تقيل بجد…
تلك الفتاة بـ نكهة الليمون و النعناع المُنعشة، شقاوتها و تمردها اللذيذ يُضفيان البهجة على حياتهِ المُملة، إبتسامة جذابة إرتسمت على وجههِ و هتف بـ نبرةٍ أذابها كما الجليد تمامًا في شمسِ صيفهِ الحار
-أنتِ جميلة أوي يا كِنانة، عشان كدا مكنش سهل أخرج من فخك…
قصف قلبها داخل ضلوعها حتى بات تنفسها صعب، كيف و متى و لماذا يفعل ذلك،
كيف يدور بها حول العالم و هما بـ مكانيهما؟
و لماذا تتعاقب فصول السنة معه في اللحظة الواحدة؟
و متى هي وقعت في عشقِ كلماتهِ و باتت تنتظرها؟
كادت أن تبكي و لا تدري لماذا و لكنه يجعلها في حالةٍ يصعُب تفسيرها، أمسك وقاص كِلتا يديها مُلتفًا لها بـ مقعدهِ كي يكون في مواجهة المجنونة ثم سألها بـ نفس الإبتسامة الأخاذة
-مبترديش ليه!...
حاولت نزع يدها و لكنه تمسك بها كـ العلقة فـ زفرت قائلة و هي تُدير وجهها بعيدًا عنه حتى لا يرى إحمرار وجنتيها
-معنديش كلام أقوله…
كان ينظر إليها مبهورًا و كأنه يرى إمرأة لأول مرة، تنهد وقاص الوقت يمر و هي تكاد تفلت منه، فـ حمحم قائلًا بـ نبرةٍ خبيثة
-عندك فُستان لونه خوخي!...
إلتفتت إليه مذهولة، غيرُ قادرةٍ على إستيعاب ما تفوه به فـ سألته بـ غباءٍ
-بتقول إيه!
-أعاد سؤاله بـ قهقه:عندك فستان لونه خوخي!...
الغباء يرتسم على ملامحها و الأكثر غباءًا سؤاله الذي يلا معنى، حاولت سبه لمُزاحهِ الثقيل و لكن ملامحه المُصرة على الإجابة فـ زفرت بـ حنق و أجابت
-أه عندي، ليه!
-إتسعت إبتسامته و قال:حلو إلبسيه بكرة الساعة تمانية
-نعم!!...
ملامحها كانت على وشك الإنفجار من الغباء الذي يتفوه به، و ذلك الهراء الذي يرمي به، فـ هتف و هو يضحك
-اللي سمعتيه يا كِنانة
-هدرت من بين أسنانها:بلاش هزار
-إرتسمت الجدية على وجههِ و هتف:مش بهزر، إلبسي الفستان الساعة تمانية…
تراجع وجهها و حاولت التفكير فيما قد يكون و لكن عقلها قد نست كيف تستخدمه، فـ سألته بـ غباءٍ يوازي غباء هُراءه
-ليه!
-قبض على يدها أكثر و هتف:هزورك أنا و الوالدة شوية
-لم تفهم فـ سألت:ليه!
-أجاب بـ صبرٍ:و هو اللي بيجيب والدته معاه فـ زيارة بيكون ليه!
-أجابت بـ بديهية:عشان يتقدم…
إبتسم وقاص و كأنه نال مُراده، لتتسع عيناها فجأة و تستوعب ما يقصده فـ صرخت رُغمًا عنها من الصدمة
-أنت جاي تتقدملي!
-ضحك وقاص بـ قوة و قال:لو عايزة الشركة كُلها تعرف من دلوقتي، أنا معنديش مانع…
شهقت و ضمت شفتيها عندما إستدركت نبرتها العالية، و كذلك ضربات قلبها ثم هتفت بـ خجل و رفض
-لأ مينفعش إحنا لسه معرفناش بعض
-رد بـ بديهية:و فترة الخطوبة معمولة عشان نتعرف على بعض…
حسنًا هو مُحق و لكنها لا تزال تخشى تلك الخطوة فـ غمغمت بـ إعتراض
-لأ يا وقاص مش هينفع، أنا مش مستعدة
-داعبت أصابعه يدها و قال بـ بساطة:منا قُلتلك النهاردة عشان تلحقي تستعدي بكرة
-هتفت بـ عصبية:أنا مبهزرش…
تفهم وقاص ترددها فـ نهض دون أن يترك يدها ثم قال بـ نبرةٍ بطيئة و مُحببة
-كِنانة! مبدأ الإرتباط مش فـ قاموسي و مش هعمل حاجة حرام، و طالما واثق من مشاعري ناحيتك فـ ليه التردد!...
أدارت وجهها بعيدًا و عضت شِفاها السُفلى، ليهتف بـ صرامة لطيفة لا تليق سوى بـ وقاص مُحيي الدين
-كِنانة بُصيلي و خليكِ صريحة معايا، إيه اللي مخوفك!...
لم تلتفت إليه و هو لم يُجبرها بل مد رأسه ليكون في مُحيط بصرها، فـ زفرت و نظرت إليه قائلة بـ تردد
-أ أنا يا وقاص اللي مش واثقة فـ مشاعري…
لم يغضب بل إبتسم إبتسامة هدأتها بـ غرابة و قال بـ نبرةٍ رزينة جعلت الدفء يسري في جسدها بعد الصقيع الذي ضرب مشاعرها بـ إقتراحهِ
-فاهمك و عارف خايفة من إيه، بس أنا عُمري ما هجبرك على حاجة يا كِنانة و وقت أما تقولي مش عايزاك و فـ قلبك حد تاني هبعد
-أجفلت سائلة إياه:هتتخلى عني بسهولة!
-لوى شدقه و دار بـ عينهِ ثم قال بـ جدية:لأ طبعًا، أنا بديكِ الأمان عشان توافقِ عليا…
إبتسمت كِنانة للغرابة فـ تهللت أساريره و أكمل حديثه بـ ثقةٍ و نبرةٍ مُطمئِنة
-حاولي عشاني، و صدقيني فـ ظرف شهر كمان و أنتِ اللي هتسلميني قلبك…
مطت شفتيها بـ قنوط و لم تجد ما تقوله سوى أذعنت - تحت بند لم تجد مفر- و هي بـ الطبع كاذبة
-إبقى إركن العربية بره المنطقة بتاعتنا
-قهقه و سألها:ليه الشارع ضيق!
-أجابت نافية بـ إبتسامة:لأ عشان ولاد الحارة عندنا أشقية و هيدمروها
-أومأ موافقًا:حاضر هركنها بعيد…
و ما كان عليها سوى أن تبتسم أمامه، من ذاك الذي يدعي الآخر بـ السارق؟ "
و في الوقت الحالي، هي ترتدي ثوبها الخوخيّ و تبرجت مُضيفة إلى ملامحها جمالًا آخر و تتأكد من هيئتها، حسنًا هي لا تهتم بما قاله و أن ترتدي ذلك اللون القميء، و لكنها يجب أن تنال إعجاب حماتها
ها هي تعترف أنها تقبل به في حياتها، لتصرخ صافعة وجهها
-بت يا كِنانة لسه قدامك مرحلة التفكير، أنتِ لسه موافقتيش…
و سقط قلبها مع صوت جرس الباب الذي يُعلن عن وصولها، سمعت صوت والدها الذي كاد أن يطير من سعادتهِ بعدما أخبرته بـ هذا الخبر و لكنه أخبرها كما تُذكر نفسها الآن
"هنفكر"
كِلاهما يعلمان أنهما وافقا من قبل أن يأتيا
-خليكِ أنا هفتح، متطلعيش…
و هل عليها أن تستمع، كـ فتاةٍ تقدم شابٍ رفرف لها قلبه خرجت مُتسللة و من خلف الستار لمحته هو والدته يدخلان، شهقت بـ خجل و لكنها لم تجرؤ على الإختباء و إبعاد ناظريها عن وسامته في حلةٍ رمادية اللون
أجفلت حينما إلتقت نظراتها بـ نظراتهِ و غضبت ما أن رأت إبتسامتهِ المُنتصرة لإرتداءها الثوب الخوخيّ ثم إستطاعت قراءة ما تقوله شفتاه دون صوت
-تبدين فاتنة…
ذلك الأرعن…