القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية ندبات الفؤاد الفصل الحادي عشر والثاني عشر



رواية ندبات الفؤاد

 الفصل الحادي عشر والثاني عشر


تبادلوا النظرات جميعًا ولم يفهموا ما يرمي إليه، حتى لاحظ الغرفة المغلقة وربط الاحداث ببعضها..فانطلق نحوها وبدون سابق انذار اندفع بكل قوته حتى كسر الباب، وهنا كانت الصدمة لهم جميعًا بما فيهم سليم فنطق بكلمة واحدة، ارتفعت نبرته وأثارت الرعب في نفوسهم خوفًا من القادم.


- شــــمــس.


ركضت شمس تختبئ خلف زيدان بخوف، لم ترى زوجها من قبل بهذه الحالة الثائرة فحالته تشبه إعصار تسونامي، حيث اقتلعت قلوبهم من فرط توترهم...


خرج سليم من الغرفة باحثًا عنها بعينيه القاتمة، فاختبئت أكثر منه، وكأن جسد زيدان يمثل حصنها المنيع ضد غضب متهور قد يطالها من زوجها والتي تجهل الآتي منه حتى الآن.


ازدادت أنفاس سليم الهائجة وكأنه في حلبة مصارعة، يصارع من أجل التقاط أنفاسه الأخيرة بعد ضربات موجعة من جميع الجهات، لقد خارت قواه..ولم يعد لدية ذرة تعقل بعد هذه الصدمات ولكنه سيتمسك بأخر ذرة هدوء زائفة قبل الانفجار بها.


- افهم إيه من اللي عملتيه ده...بتعملي اللي أنا رفضته من ورايا ليه؟!


تفوه بها وصوته يحمل قهرًا مزق نياط قلبها لاشلاء، يبدو أنه يجاهد أمرًا ما بداخله، بل ارتجفت نظراته للحظات وهو ينظر في عمق عيناها، يبحث عن دوافعها لتخفي عنه شيئًا هكذا..ولكن الصمت الطويل من جانبها جعله يدور بنظراته عليهم جميعًا..كانت أجسادهم في وضع دفاع وكأنهم يعلمون بما فعلته، انفلتت ضحكة ساخرة صغيرة منه.. بعدما توالت التراكمات داخله وكأن القدر خطط في أجندته رسومات الغدر، رفع يده المرتجفة يضغط بها على جانبي رأسه بقوة وكأنه يريد الفتك بعقله الذي يعمل جاهدًا معطيًا انذارات للخيانة منهم جميعًا..ومع استمرار صمتهم وارتفاع صوت أنفاسهم..خرج صوته الجهور ينفجر بها..


- بقولك ليه عملتي كده..ردي دافعي عن نفسك..افهم ايه من العصيان اللي انتي بتعمليه ده؟!


لم تستطيع الرد عليه..فاقترب يزن خطوة للأمام بحذر، وبصوت هادئ يحاول امتصاص غضب أخيه:


- انت فاهم الموضوع غلط، اهدى علشان نفهمك.


وبحركة غير متوقعه، أرجعه سليم بيده للخلف،  وهو يتساءل بنبرة غليظة تخرج النيران من بين حروف كلماته:


- أنت بتتدخل ليه، كنت بتساعدها في حاجة غلط، مبسوط وأنت بتعمل كده في أخوك؟


هربت الكلمات من يزن، واستمر بالتحديق بأخيه يبحث عن تبرير قوي يستطيع جذب سليم به من كنف الغضب والحقد البادي  بعينيه، ولكن قرر زيدان التحدث بنبرة دافعية استفز  بها سليم.


- شمس معملتش حاجة غلط..علشان تدافع بيها عن نفسها.


رفع سليم يده نحو زيدان يشير بعصبية مفرطة نحوه:


- الله..أنت كمان كنت عارف..وأنا الاهبل اللي عايش في عالم تاني لوحدي.


ابتعد زيدان بعينيه بعيدًا عن مرمى بصر أخيه المعتاب له  وازدادت الفجوة اتساعًا وغلفت مشاعرهما بنيران الكره... انتقلت يد سليم نحو والدته ووالده بالتتابع يسألهم بقلب مفطور ولكن نبرته تعكس ذلك فكانت تحمل الكبر والحقد:


- وأنتوا كنتوا عارفين!.


صمت طالهم وأخمد عقولهم... فأشار على نفسه بصوت يحاول اخفاء نبرة الانكسار به، بعد أن تلقى الخيبات على يدهم وأصبحت نفسه شاردة لا تجد المأوى أمام نظراتهم المحملة بالبرود:


- يعني أنا كنت المغفل الوحيد بينكوا، بتتفقوا عليا...عايش وسطكوا وبتغفلوني..طب ليه؟!


فرك والده وجهه بحزن، وارتمى بجسده فوق الاريكة بعدما فقد القدرة على الاتزان أمام مواجهة حذرهم جميعًا منها ولكن لم يستمع له أحد.


شدد سليم على خصلات شعره بعنف ودار حول نفسه كالمجنون، لا يصدق ما يفعلونه، يتعاملون معه وكأنه عدو..منبوذ..يلقون اللوم عليه..حتى أنه رأى في عيونهم أن غضبه غير مبرر..لا يشعرون به بالمرة..وكالعادة يتجرع الخيبات منهم مرارًا وتكرارًا.


لم يشعر بنفسه سوى وهو يتجه صوب المكتبة التي تحتوي على تحف ثمينه وهو يقوم بتكسريهم واحدة تلو الأخرى..الأمر هنا ليس غضب من زوجته فقط بل منهم جميعًا..فصدره عج بالتراكمات المؤلمة ولم يعد قادرًا على دفنها..فانفجر على أبسط شيء وظهر داخله بما يكنه من مشاعر غير سويه.


اغلقت شمس عيناها برعب، تجاهد الحفاظ على نفسها قبل الانهيار الأخير، لقد جنت ثمار فاسدة من حلم لم يكن أساسه صحيحًا، كانت حياة وهمية خلقتها بدافع الهروب من أخطاء الماضي..لو أنها اعطت لنفسها الفرصة من التعلم من أخطائها لم تعاني ما تمر به الآن... يبدو أن عقلها الباطن كان يشتاق للذة النجاح..فسارت في طريق مزين بورود باطنها أشواك قاسية.


كان جلد الذات يتزامن مع انفعال سليم..تنتظر هجومه عليها في أي وقت..فانتبهت لاقتراب والدته منه تحاول تهدئته..بعد أن القت نحوها نظرة رجاء تستنجد بها كي تتدخل وتهدأ زوجها بعد فشل زيدان ويزن والتزام كلاً منهما الصمت أمام غضبه.


- اهدى يا سليم...شمس معملتش حاجة تسيء ليك يابني...


صرخ بها بعنف:


- انتي بالذات تسكتي، مش كفاية اللي عملتيه زمان..بتبوظي حياتي تاني.


تلعثمت منال وهي تعطي مبررًا كان بغير محله:


- ده حلمها ولازم تكمله..


- وحلمي أنا قتلتيه وقتلتيني.


بصوت منكسر أخبرها جزء ما يكنه بداخله، حافظ على ابقاءه داخله كي لا ينفلت ويجرحها..أو يعلم أحد من اخوانه ويلقون اللوم على والدتهم..يجاهد للحفاظ على مشاعرهم واحدًا تلو الأخر ولكن  كانت الصدمة الكبرى لدية حينما دافع زيدان عن والدته بشراسة:


- انت اخترت طريقك زمان يا سليم بإرادتك..مفيش حد قتل حلمك..بلاش ترمي علينا كل أحزانك..امك مغلطتش وشمس مغلطتش.


- وانا اللي ساكت علشانك..طلعت عارف وساكت ومغلطني كمان.


نطق بها سليم غير مصدقًا مستنكرًا رد فعل أخيه المفاجيء، يبدو ان الغرق في أحزانه أبعده عن عائلته.. يسيرون في اتجاه وهو يمضي في اتجاه معاكس، لقد جاهد الحفاظ على أوجاعه كي لا يحزنه..تذوق مشاعر لأول مرة يمر بها من أجل فقط الحفاظ عليهم..حارب نفسه التي كانت أحيانًا تدفعه للغيرة منه...وبالأخير من يحارب من أجله لا يستحق بل يقف ويتابع من بعيد حزنه دون حتى معالجة جروحه.


صارع زيدان مشاعره المنجرفة نحو أخيه، لن ينسى قط تلك الصفعة التي هبطت فوق وجهه دون مبرر..وكأن الكره هو من دفع أخيه لذلك، لم يستطع السكوت لمعرفته بجبن شمس أمام سليم..وعلاقة والدته المضطربة معه..فاستمر بالحديث.


- اقعد ونتكلم بالهدوء..انت مكبر الموضوع زيادة عن اللزوم.


اقترب سليم منه وعيناه تسرد كم كانت مشاعره قاسية في ذلك الوقت..وبنبرة خافتة للغاية أخبره بكره وحقد:


- مراتي خانت عهد ما بينا..فاهم يعني إيه خانت العهد ما بينا، وبعدين انت بالذات تقعد زي الكرسي..فاهم.. انت مالك أصلاً...موضوع مابيني وبينها.


وقف زيدان بوجهه يواجه طوفان غضبه.


- ياعني إيه وأنا مالي..انت ليه دايمًا بتخرجنا من حياتك.


صرخ به سليم بنبرة غاضبة:


- أنا مبخرجش حد لان مفيش حد اهتم انه يدخل أساساً.


- أنت عايش دور المضحي على طول..زي مانت خسرت احنا كمان خسرنا..


 اختصر سليم المسافة بينهما..وقبض فوق ياقة قميصة بعنف وبنبرة حاقدة سأله: 


- انت خسرت ايه، تقدر تقولي؟!


أجابه بصوت مرتجف خافت من شدة حزنه:


- كفاية ان خسرتك انت.


لم يهدأ سليم قط..بل زادت قسوته وهتف بحنق اتجاهه:


- انت خسرتني بمزاجك مش غصب عنك.


اقتربت شمس منه بقلق بعدما تطور الوضع وأصبح سيئًا للغاية..مدت يدها تقبض على مرفقه..تجذبه نحوها كي يترك زيدان على خير.


- سليم..كلميني أنا.


- إيـــــــه..يا كذابة.


اهتزت مشاعرها، ونهرته بحذر:


-متقوليش يا كذابة.


- احمدي ربنا ان مقولتش يا خاينة..انتي واحدة خاينة للثقة والأمانة.


تراجعت شمس للخلف بصدمة بعدما تجرأ سليم ونعتها بالخيانة راقبت حالته الانفعالية، فعاد الصمت يلجم لسانها من جديد ..اقترب منها بخطوات سريعة تزامنًا مع تراجعها للخلف، فقالت بصوت مرتجف باكي.


- أنا معملتش حاجة غلط..أنا كنت بحقق حلمي اللي أنت منعته عني زمان.


- أنا منعته عنك..ولا ده كان اتفاق ما بينا وانتي وافقتي عليه.


أشار نحوه يستمع لأحاديث لاول مرة يعلمها..فهزت رأسها تؤكد على كلامه.


- ايوه..بسبب غيرتك وقسوتك معايا اضطريت ان أخبي عليك..انت السبب يا سليم في كل ده.


ردد خلفها غير مصدقًا حديثها:


- أنا السبب...اللي عملتيه ده خيانة ليا يا هانم.


 زعق بها ولكنها لم تصمت شمس، بل انطلقت تدافع عن نفسها أمام اتهام بشع طالها.


- دي مش خيانة..عمرها ما كانت خيانة، لما اعمل حاجة نفسي فيها.. ابقى بخونك من انهي اتجاه دي...انت للاسف مش شايف غير نفسك.


اندلعت بصدره نيران لن يقوَ أحد على إخمداها..حتى أن عيناه أصبحتا مخيفتين وتحولتا إلى أعين دموية..


- خيانة في قاموسي..أنتي أنانية ومفكرتيش غير في نفسك وبس..مفكرتيش انتي ممكن تهدي حياتنا بسبب اللي عملتيه.


لم تهتم لِمَ يعانيه..بل استمرت بالضغط على ندبات فؤاده..تعيد  فتح جراح الماضي لتنخرط بالحاضر..ويزداد غيظه الضعف اتجاههم.


- كل حاجة أنت..أنت...مبتفكرش غير في قوانينك ونفسك..عايزني أكون جارية ليك انفذ وبس، عايز تدفني وخلاص، أنت بتهد حياتي من غير ما تحس.


رفع يده وكاد أن يصفعها كي تستفيق من اتهامات تلقيها عليه دون ادنى الشعور بما يتذوقه الآن..لقد كذبت وأخفت..بل رسمت عالم وهمي لها مع عائلته وعاملته كالمغفل..وهذا أمرًا لن يقبل به أبدًا.. بل أنها مست رجولته التي انهارت أمام عائلته بالكامل..يبدو أن حبهما كان زائفًا منذ البداية..ومع استمرار رفع يده لأعلى رفعت يدها لكي تحمي وجهها..فهبط بيده نحو فمه يضغط عليها بأسنانه ينفث عنفه على جسده هو..لن يتحمل أن يترك اثرًا جسدي لزوجته التي اقسم على حمايتها حتى من نفسه.


اقتربت والدته منه وربتت فوق كتفه قائلة:


- يابني اللي شمس تقصده أن الغلط كان من ناحيتك أنت الاول...هو ده اللي دفعها انها تخبي.


التفت برأسه ناحيتها يبتسم بقهر..ثم عاد ببصره نحو شمس وشملتها نظراته لثواني شعرت وكأنها داخل غيوم من الدخان:


- أنتي صح..وأنا هصحح غلطتي حالاً.


ابتسمت والدته براحة..وتنفس أخيرًا زيدان ويزن بعد مواجهة حبست أنفاسهم بها داعين الله أن تمر على خير..ولكن الوحيدة التي انتفض قلبها رعبًا وعلمت أنها نهاية حكايتهما هي شمس، وانسدل الستار عن المشهد الأخير لمسرحية وضعت حروفها كي تنهي نتيجة فعلها.


- أنتي طالق.

                               ***


انزوت ليال بفراشها ليلاً..تكتفي بضوء بسيط في الغرفة يمثل لها الأمان الذي اختفى فجأة وانفلت من لجام سيطرتها..وكأن مرسى سفينتها كان وهمًا منذ البداية..اضطربت مشاعرها ودخلت في حالة صعبة من الصراع النفسي..لحظة فارقة جعلتها تتمسك بأرجوحة ذات ثوابت واهية تتمايل بها في الهواء بلا أمان، مازالت النفس تريد ضالتها..بعدما  فقدت قدرة التمييز ما بين الصواب والخطأ. 


خاصم النوم جفنيها..وكأنه اتفق مع ضميرها تاركًا له المساحة في جلدها..كي تغفو من وهمًا تبحر به بلا سترة للنجاة، لقد كانت تتذوق حلاوة النجاح وما تجنيه من خلال كسب مال أكثر، معتقدة بأن المال هو السد المنيع لأي انقلاب قد يزلزل حياتها، فركضت خلفه وتركت إنسانيتها جانبًا..المهم هو تحقيق آمالها.


تبعثرت هنا وهناك في لحظة خابئها القدر لها، ولولا سيف لكانت في وضع لا يحسد عليه..بل كانت ستصبح بوصمة عار للأبد..تذكرت كيف كان لها العون منذ خروجها من قسم الشرطة..ولن تنسى يده التي تمسكت بها حينما كادت أن تسقط  بعد اصطدامها بحجر صغير.

                                ***

- حاسبي.


تمسكت بيده التي حاوطت مرفقها بخوف..لامست ذعرًا كان يقفز من عينيه يخبرها بأنه يحمل مشاعر خاصة اتجاهها ولكنها مازالت تجهل هويتها..ورجحت سبب جهلها هو الحالة التي تمر بها الآن..حالية مزاجية ممزوجة بالندم والحزن والغضب..مشاعر متضاربة تضرب صدرها بعنف ونفسها الضائعة تقف دون ساتر أو حماية تصطدم بواقع أليم.


-شـ..شكرًا.


هتفت بها ليال في تلعثم وخجل انبثق من عينيها..فسارع سيف بالابتعاد عنها..واضعًا يده في جيوب سرواله محتفظًا بلمسة أصابعها الرقيقة فوق يده..لامسة أشعلت خلايا جلده..والهبتها بنيران الحب التائه.


تحركت ليال لأمام.. لا تعلم وجهتها..لا تريد الذهاب لشقتها التي دائمًا تستعيد بها ذكريات وحدتها الاليمة..ولا تريد الاختلاء بنفسها كي لا تنخرط في بكاء يظهر مدى ضعفها..لِمَ تعاندها الحياة وتصر على وحشيتها معها..فلم تجد الأم أو الاخ أو الصديقة التي تركض نحوهم تخبرهم بأحاسيسها المدفونة.


انتبهت حواسها لسيف الذي أخبرها بعرضه وكأنه ينقذها من هلاكها:


- تحبي نشرب حاجة في أي مكان..تهدي لغاية ما تقدري تروحي.


لم تجيب بالايجاب أو النفي..بل وقفت حائرة لا تجيد الاختيار الصحيح الذي يريح نفسها..خوفًا من تفكير سيف اتجاهها..فمازالت تجهل سبب دفاعه عنها وهو يظهر لها الكرة الدائم ناحيتها.


اعتبر سيف صمتها دليلاً على موافقتها..فأشار على الجانب للأخر بنبرة هادئة رزينة تمتص خوفها منه بذكاء:


- في كافية هنا..تعالي نقعد فيه.


تحركت معه كالمسلوبه...تحاول الرفض ولكن لسانها لا يقو على التفوه به..بل شعرت بأن حاجتها الشديدة له تفوق أمر معارضتها النابع من عقلها.


وبعد مدة لا تعلمها..وجدت نفسها تجلس أمامه وجهًا لوجه..يبدو أن مواجهته ستبدأ الآن..لن يصمت لسانه كثيرًا بواقع خبرتها القليلة معه..وتوقعت كلمات قاسية تضرب ضميرها الذي أخمدته لسنين طويلة، فبادرت بالحديث بصوت يحاول التمسك بنبرته الثابتة:


- أنا معملتش كده...أنت سمعت بودانك هي قالت إيه..


قاطعها متفهمًا ما تمر به الآن من تشوش لمشاعرها..لدرجة أنها فقدت الثقة في نفسها.


- عارف ومتأكد من قبل ما هي تحكي..بس ده مش هيمنع ان ده نتيجة لاخطائك.


هزت رأسها بتفهم مرير وهي تبعد بصرها عنه..تخبره في انكسار سيطر على نبرتها:


- صح..كان لازم مدخلش البيت وهي مش موجودة...


زم شفتاه بضيق حينما لم يصل إلى مبتغاه في الحديث معها..واستطرد موضحًا:


- مش بس كده يا ليال..لبسك الضيق..شعرك اللي طالع من طرحتك... مكياجك دي كلها حاجات غلط بتعمليها وبتتمسكي بيها، مع إن شايف ان مفيش مبرر لكل ده.


انهمرت دموعها بحزن ولم تستطيع الرد..شعر سيف بحدته في الحديث معها وهي في الوقت الحالي في حالة غير متزنة..قد تستجيب أو تعاند..فالأمر يشبه بالانتحار الفكري..يلقي الكورة في ملعبها والوقت غير مناسبًا.


وضع النادل العصير واستئذن منهما..فحرك سيف الكوب نحوها متمتمًا بصوت خافت حاني داعب أوتار قلبها المضطربة:


- اشربي..واهدي..احمدي ربنا أنها عدت على خير.

                                  ***

عادت من شرودها وعقلها يعمل بجهد في مواجهة درسًا قاسيًا من أهم نتائجه أن المال لن ينجي الأمان.


أغلقت عيناها واستسلمت أخيرًا للنوم علها تجد مثوى آخر بعد توهم  زعزع استقرارها.

                                 ***

جلست شمس وحدها بغرفتها تضم ركبتيها معًا نحوها..تنظر أمامها بشرود يصطحبه بكاء وشهقات أحيانًا ترتفع وأخرى تنخفض.


لقد انقطع الوصال بينهما، وغلفت القسوة حياتهما، حتى أنها شعرت وكأنه شخصًا آخر أمامها..تلبسه رداء اللاوعي وخرج عن طور تعقله في لحظة فرقت بينهما.


آه كم من أحاسيس موجعة تضرب قلبها، وتجعله دون حماية أمام عاصفة قلبت حياتها، لم يكن في مخيلاتها أن الانفصال سيكون نهاية طريقهم..لقد ظنت أن الحب بينهما قادر على هدم أي عواقب قد تعيقهم، ولكن يبدو أنها خاطئة...سطحية في نظرتها، وأعمها العشق عن قسوة الواقع.


مسحت دموعها حينما أنذرها عقلها بأن أمر انتظارها هنا بغير محله..نهضت بجسد مرهق خالي من الحياة بعدما تركها نصفها الآخر والذي كان يمثل لها كل شيء.


جذبت حقيبة كبيرة وبدأت في وضع ثيابها بدموع تنهمر فوق صفحات وجهها..تشوشت الرؤية أمامها كحال تشوش عقلها، لا تعلم أين المأوي من بعده..لن تنكر أن هناك احساس بالخوف من العالم الخارجي الذي ستقابله الآن..ولكن لن يهم فمن تركها في مهب الريح هو السبب في ذلك، هو من قطع وتد المودة والرحمة بينهما، دون أي انتباه أن ليس لها مأوى آخر.


دخلت منال للغرفة بوجه حزين، وما إن رأتها وهي تمليء حقيبتها بالثياب حتى اردفت بنبرة مذعورة:


- انتي بتعملي إيه يابنتي.


- بلم هدومي علشان أمشي.


قالتها شمس بصوت مبحوح اثر بكائها الطويل منذ خروج سليم منذ المنزل، اقتربت منال منعها ومنعتها مما تفعله.


- تمشي فين..ينفع حد يسيب بيته ويمشي.


عاتبتها منال بهدوء، فردت شمس بنبرة يتخللها البكاء:


- مبقاش بيتي خلاص...هقعد هنا بصفة إيه!.


سارعت منال بالتحدث، تنفي حديثها :


- بصفة مرات سليم..يا حبيبتي سليم هيرجع وهينهي الخلاف ده، ميقدرش على بعدك وبعدين ده بيموت فيكي..اخره ساعة ولا ساعتين كمان..ولو الزعل طول اوي هيفضل لبكرة وتلاقيه جاي.


فتحت فمها كي تتحدث وتصر على رأيها لعلمها بشخصيته الجامدة..ولكن طرقات الباب جعلتها تصمت..تراقب دخول يزن مشيرًا بالهاتف أمامها:


- سليم اتصل وقال متخرجيش برة البيت، وتفضلي قاعدة في شقتك.


ابتسمت منال بحزن وهي تقول بصوت يغلبه البكاء:


- شوفتي قولتلك..ده اطيب واحد فيهم هما الكل..بس هو زعلان وحقه يزعل شوية.


- بس مش يطلقني يا ماما.


قالتها شمس وهي تنخرط في بكاء حار مجددًا، جذبتها منال نحوها تربت فوق ظهرها بحنو:


- معلش ياحبيبتي..من زعله بس، بكرة هيرجعلك تاني.


- محدش هيسمحلك يا شمس تمشي، اقعدي...كلها ساعات وسليم يرجع ونتكلم معاه.


أخبرها يزن برزانة..فأومأت له بهدوء وتركت الثياب من يدها، قررت ترك نفسها للأيام تعطيه فرصة أخيرة كي ينقذ حياتهما من هلاك مظلم، فمازال القلب يحيا من أجله..وبُعده عنها يعني دفنه في طيات الالم.


                                  ***

- ارتحت انت كده!.


قالها سيف بضيق من صديقه والذي كان يجلس أمام مكتبه في ورشته..واضعًا رأسه بين يده يخفي وجهه الحزين الغارق في أوجاعه.


- افرض مقعدتش وأصرت تمشي.


رفع وجهه في بطء، وبنبرة تخلى منها الحياة: 


- هتقعد.


طرق سيف فوق سطح المكتب الخشبي المتهالك، قائلاً:


- يا سليم انت هديت حياتك، الغلط من أهلك انهم اتدخلوا في الكلام ما بينكوا كنت خدها بعيد واتكلموا، مكنتش الأمور هتوصل لكده.


- كانت بتتحامي في زيدان مني.


أجابه سليم ببساطة ونبرته محطمه، صمت ساد المكان بعد حديثه..ولكن قطعه سليم بنبرة بالكاد تخرج منه:


- مع أني عمري ما أذتها، طول عمري بحميها، بخاف عليها من أي حاجة، بحافظ عليها بكل قوتي، أنا كنت مغفل يا سيف..كنت عايش في وهم..فسرت حبي ليها على أني بقهرها..حتى شمس طلعت زيهم.


أردف سيف بنبرة هادئة، يحاول امتصاص غضب صديقه المتفاقم داخله وحتى إن أظهر العكس.


- أهلك بيحبوك يا سليم.


رد سليم بنبرة مريرة تشرح كم يتجرع من الألم أضعافه على يدهم.


- لا..مفيش حد فيهم بيحبني وواقف معايا، دول ساعدوها تخبي وتكذب على جوزها..ساعدوها في الغلط، وبيجبوا اللوم عليا..أنا دايمًا الغلط وهما الصح..أنا الوحش اللي بكرههم مع اني بستحمل حاجات علشان راحتهم.


وقف سيف عاجزًا أمام صديقه، ناقمًا على أهله بسبب ترك  جروحه  الماضية دون معالجتها.


- طب اهدا النهاردة...وبكرة اتكلم معها لوحدكوا وفهمها الغلط اللي عملته.


رمقه ببرود ينافي المراجل المشتعلة في صدرة، قائلاً بصوت مختنق يتخلله الحدة:


- مفيش كلام ما بيني وبينها تاني يا سيف، أنت أكتر واحد عارف  لما بقول كلمة مبرجعش فيها..الحياة اتقطعت ما بيني وبينها.


نبرته كانت تحمل الاصرار، لن يقبل بأمورًا خارج حدوده..حتى لو كان ذلك على حساب قلبه ...


دمتم سالمين 💜☕


الفصل نزلته بما ان هو جاهز 

قراءة ممتعة 💜💜💜


الفصل الثاني عشر


فرك يزن وجهه بإرهاق شديد نظرًا لهذه الفترة المليئة بالاجهاد والعمل..حيث قرر سليم الاختفاء لمدة ثلاث أسابيع كاملة، لا يعرفون له طريق، تاركًا إياهم في صخب أفكارهم القلقة، وحالة التوتر التي أصابتهم بعدما انفصل عن شمس في تلك الليلة المشؤومة، حاول الاتصال به مرارًا وتكرارًا، ولكن دائمًا هاتفه مغلق، وكأنه يقطع كل طرق الوصول إليه..حتى صديقه الوحيد سيف أقسم على عدم معرفته مكان اختفائه.


- "هو عيل يعني..براحته".


يذكر ذات مرة قالها لوالدته من شدة غضبه المكتوم، لن ينكر أن قلقه على أخيه الغائب تفاقم بشدة، بكاء والدته من ناحية، وصمت شمس الدائم وكأنها إنسانة أخرى يلعب فوق أوتار تماسكه أيضًا...ناهيك عن عزلة أبيه الدائمة منذ مغادرة سليم للمنزل..وأسئلة يزن عن أبيه التي لا تنتهي..تراكمت مشاعرهم المعقدة وهو لا يمتلك أي قدرة على حلها، يختار الصمت كطريق للهروب، حيث كان غير مدركًا ردة فعل أخيه..لقد ظن أنه سيثور ويغضب كعادته...وبعدها تزول عاصفته، ولكن يبدو أن سليم مازال يعيش في كنف الماضي، وأن ما فعلته شمس ليس سوى القشة التي قسمت ثباته..بل أنها كانت الدفعة القوية التي جعلته يتخلى عن كل شيء، وترتب على ذلك معرفتهم جميعًا لأهميته..بعدما ترك مسؤولية المنزل وإدارة المحلات فجأة لهم.


ارتمى يزن بجسده فوق فراشه بعد ليلة طويلة قضاها حتى الصباح يتابع الفواتير الخاصة بالمحلات..ومن فرط التراكمات بالمحل لم يستطع متابعة الباقي، وطلب المساعدة من زيدان الذي اعترض وثار وكعادته وضع اللوم كله في كافة سليم.


اندفع الباب بقوة، فرفع يزن رأسه يطالع زيدان الواقف أمامه بوجه غاضب، وصوت خشن يسأله:


- قولتلي عليا الدور في انهي محلات.


زفر يزن بحنق مجيبًا: 


- هبتعهم في رسالة.


التفتت زيدان نحو الباب مغادرًا..ولكنه عاد واستكمل حديثه بضيق:


- يزن أنا بجد مبفهمش في الشغلانة دي، كمل أنت النهاردة.


انتفض يزن من مكانه، قائلاً باعتراض:


- لا..أنا منمتش من امبارح حرام عليك شغل المعرض والمحلات فوق راسي، شيل معايا شوية.


كور زيدان يده بغضب، وجز فوق أسنانه بعنف:


- نفسي اعرف سليم باشا اختفى فين، وسايبنا متبهدلين كده..أنا حاسس أنه بيعقابنا.


التوى فم يزن بتهكم واضح:


- حاسس مش متأكد..سليم فعلاً بيعلمنا الادب.


- يبقى مجنون..بيعلمنا الادب في الشغل والفلوس وفي اسم قعد سنين يبنى فيه.


أنهى زيدان حديثه بعصبية، غير مدركًا أن خيبة الأمل التي يمر بها أخيه تفوق المال والحفاظ عليه.


قطعت والدتهما حديثهما وهي تدخل للغرفة، بوجه حزين ومتعب:


- كلمت أخوك يا يزن..رد عليك.


- تليفونه لسه مقفول.


جلست منال فوق أقرب كرسي، بعدما خارت قواها وضعفت حيث انهار السند التي كانت تحتمي به:


- ياترى أنت فين يابني، قلبي واجعني عليه.


هبط زيدان بمستواه نحوها، قائلاً بنبرة هادئة:


- ان شاء الله هو كويس، متقلقيش.


فرت دموعها من مقلتيها حزنًا:


- يارب يابني يااارب.

                               ***

تحرك سليم ببطء يغلق التلفاز، بعدما فشلت محاولاته كي يهدأ من اندفاع أفكاره واضطراب مشاعره، رغم مرور ثلاث أسابيع إلا أنه لم يتأقلم مع الوضع الجديد والذي أقسم على المضي به دون الرجوع عن قرارته الجديدة، ومن أهمها الابتعاد عنهم بقدر الأمكان..


لقد تفاقم صدره بخيبات الأمل التي يتجرعها على يدهم دون الاهتمام به، وكأن دمه غريب عنهم، فلم يعد لديه أي صبر لـتحمل نظراتهم الباردة..وأحاديثهم الموجعة.


منذ تلك الليلة وهو قرر الابتعاد..وبدأ في استئجار شقة بعيدة عن منطقتهم، تاركًا عمله لعدة أسابيع بعدما نصحه سيف بذلك، فحاجته للهدوء والراحة هي المفتاح لأي ضغط نفسي يمر به الآن، ولكن يبدو أن سيف لا يدرك حجم أوجاعه، أو حجم ذكريات ماضيه التي كرهها وبغض التفكير بها.


حتى وإن تركته ذكرياته، لن يتركه ما فعلته شمس بحقه، فأكثر ما يألمه هو كلماتها الأخيرة التي تفوهت بها عن قصد، وكأنها إنسانة أخرى غير التي عشقها..واقسم على قوة رابط حبهما، لم يخطر بباله ما تفعله من تخطيط بمساعدة أهله، ولولا شكوكه لكان في عالم الاوهام ينعم بحب زائف.


فرك وجهه بضيق حينما عاد لنفس النقطة، كاد أن يجن من التفكير، لم يجد دافعًا واحدًا لها كي تفعل به هكذا، عاملته كالمغفل وهذا أكثر ما يوجعه، بل كانت تنظر في عينيه بحدة وكأن دفيء عيناها اختفى فجأة واحتل مكانه صقيع بارد، هل أخطأ في حبه الشديد لها؟!، أم أنه زاد في حجم خوفه عليها؟!، حقاً لا يعلم سوى أنها من وافقت منذ بداية زواجهما على مبادئه ولم تعترض..لِمَ تغير كل شيء الآن؟


وأثناء اندفاع سيل من الاسئلة، تذكر ليلة زفافهما وما حدث بها.

                              ***

دخلت شمس بفستانها الابيض البراق، ذو الفصوص اللامعة المتناثرة فوقه بحركة عشوائية، لقد صمم خصيصًا لها..فكان ملائمًا لجسدها وأظهرهه كحورية جميلة بجسدها الممشوق.


راقبت تفاصيل شقتها بهدوء، وابتسامة خفيفة تزين ثغرها المزين بلون أحمر لامع حدد شفتاها بطريقة أثارت غيرة سليم، ولكن مع تدخلات والدها ووالدته جعله يصمت بغير رضا، لن تنسى نظراته المراقبة للشباب الموجودين بالزفاف، ولا يده المحيطه دومًا لها، وكأنه يصك مليكته عليها.


لن تنكر أن مشاعرها الرقيقة ثارت بفرحة عارمة، حينما شعرت به يكتنفها بحماية وخوف، وكأن ذلك الجليد بدأ في الذوبان وهي داخل أحضانه.


وفي ظل صخب تفكيرها المنصب حوله، انتفضت بذعر حينما وجدته يحاوط خصرها ويجذبه نحوه، حتى التصق ظهرها بصدره، فلم يرحم توترها الظاهر له، بل الصق فمه بعنقها ينثر قبلاته فوقه بهدوء أشعل مشاعرها.


ابتلعت لعابها بتوتر وهمست بصوت متقطع من فرط خجلها:


- سـ...سليم.


- نعم.


رد بصوت خافت للغاية، وأنفاسه الحارة تلفح بشرتها الرقيقة.


- آآ...أنا عايزة أغير الفستان.


جعلها تستدير لتقف أمامه، فطالعها بعيون تنذر بنفاذ صبره وقدرته على التحمل أمام جمالها الفتان، كانت مرهقته وستظل هكذا بملامحها الرقيقة والتي تنم عن براءتها.


مد يده وداعب خصلات شعرها، وأرجعهم للخلف حتى تظهر ملامحها كاملة له، لم يترك تفصيلية بوجهها وإلا دقق بها، ازدادت وتيرة أنفاسها، واحمرت وجنتاها خجلاً منه، فعادت وكررت حديثها بلطف:


- قولت إيه!.


- انتي مستعجله ليه..هنغير هدومنا ونعمل كل حاجة.


كانت مجرد فكرة للهروب من عينيه المراقبة لها في كل حركة تصدرها، حتى أن شفتاها ارتجفت قليلاً من شدة خجلها، لم يكن في حسبانها تلك اللحظة، كل ما في مخيلتها هو الزواج به فقط، اما هذه اللحظة كانت ترفض التفكير بها بكل تفاصيلها، تركت نفسها لرياح الحب الهادئة، وقررت أن تستمتع بوجوده جانبها.


 ولكن لو يدرك مدى ثوران مشاعرها لاشفق عليها وتركها تهرب منه تأخذ أنفاسًا طويلة بعدما حبست أنفاسها تحت يده الممسكه بها في قوة وكأنه يخشى الابتعاد عنها.


- أنا مش مستعجلة كل الحكاية إن ياعني الجو بقا حر فاجأة.. صح.


كانت تتحدث دون انقطاع، تهذي بأي كلمات قد تساعدها في الهروب منه، ولكنه شدد على خصرها وقربها منه أكثر، مداعبًا شفتاها بتمهل داعب أوتار قلبها الغض.


- امال أنا ليه حاسس أن الجو حلو.


- بجد.


قالتها بتعجب زائف وزاغت نظراتها عندما هز رأسه لها بمكر.


- طيب يلا نقعد نتكلم، انت قولتلي اول ما ندخل بيتنا هنقعد نتكلم الاول.


- مستعجلة ليه، ممكن نأجل الكلام لبكرة.


هزت رأسها برفض، وأصرت على قولها:


- لا نتكلم دلوقتي.


ابتعدت عنه بعدما سمح لها بمسافة صغيرة، ومدت يدها تعانق أصابعه وهي تجذبه خلفها نحو الصالة، تحركت بحذر بسبب ضخامة فستانها من الأسفل، وخلفها سليم يتحرك بخطواته الواسعه، فكاد أن يصطدم بالطاولة الموضوعه بجانب عمود رخامي، حذرته برقة:


- حاسب الفازة هتقع من على الترابيزة.


التوى فم سليم ساخرًا:


- إيه ده، أنتي طلعتي منهم، لايمكن المس النيش والـ...


- لا لا..طبعًا، كل الحكاية إن دي هدية غالية عليا اوي، وبعدين دي جايلي مخصوص بمناسبة جوازي.


جذبت انتباهه فسألها:


- مين اللي بعتهالك!.


اردفت بابتسامة واسعه:


- واحدة من أصدقاء الفيس، بص هي لفة كده بنت خالة واحدة من صحابي، بتحب رسمي اوي، كنت رسمتلها قبل كده تابلو صغنن وفرحت به، فقررت تهاديني.


- امممم، واحدة من الفيس.


تفوه بتلك الجملة وهو يهز رأسه بتفكير، وقد أصابته الحيرة في التحدث في بعض النقاط هو لن يقبل بها بعد الزواج، ولكن لن يصمت، فلن يتحمل أن الهدية المقبلة تكون من رجل متابع لها.


راقب يدها وهي تربت فوق يده بحنو:


- مالك يا سليم!.


لاحظت قليلاً حدة ملامحه، بعد أن كانت ملامح وجه مرتخيه وهادئة، فعبست بوجهها وطالعته باستفهام.


- من ضمن الحاجات اللي عايز اتكلم معاكي فيها، هو الموضوع ده يا شمس.


عقدت ما بين حاجبيها أكثر، وانتظرت استكمال حديثه والذي كان يحمل كلمات اضطرب قلبها اثرها:


- أنا مش عايزك ترسمي على الفيس.


- ليه يا سليم؟!


همست بها ولمحة من الانكسار لاحظها سليم بنبرتها.


- علشان بغير عليكي، أنا مش هستحمل اشوف معجبين ليكي..ولا حد بيشكر فيكي وفي جمالك، مش هستحمل الاقي هدايا من رجالة تيجي على بيتي...


- الاكونت بتاعي كله بنات.


قالتها باندفاع، فقاطعها متحدثًا بجدية اخافتها:


- حتى لو كله بنات..معرضة أن اي ولد يدخل يكلمك وأنا بقولك مش هستحمل يا شمس.


- مش هتستحمل ليه؟! هو أنا مستاهلش تيجي على نفسك علشان خاطري، الرسم ده حاجة أنا بحبها.


ذرفت الدموع من عينيها مجددًا لقد خيرها من قبل،  وها هي المرة الثانية توضع في خانة اليك..رغم أن الموقف هذه المرة يختلف تمامًا.. الخيار هنا في بداية حياتها معه، وفي ليلة زواجهما التي طالما حلمت بها.


- وأنا بحبك..بحبك فوق ما تتخيلي، لكن مش هقدر اسكت واشوف حد بيشكر فيكي، شمس أنتي ليا لوحدي، مش عايز حد يشاركني، ولا حاجة تشغلك عني.


- هو أنا لما أعمل حاجة بحبها ابقى كده ببعد عنك.


- لا بس انك تواظبي ترسمي على الاكونت بتاعك دي حاجة هتشغلك عني، وأنا أناني في حبك، ارسمي في بيتك براحتك مش هقولك لا، بس على السوشال ميديا لا يا شمس.


كانت كلماته حادة كالسيف، تقطع كل أفكارها التي تحاول الوصول لحلاً يرضيهما معًا، شعرت بمدى عجزها أمامه، اعترافه بحبه للمرة الثانية على التوالي جعل قلبها ينبض بعنف له، ولكن عقلها يدفعها نحو واقع كلماته التي تحدد مستقبلها بخطوطه هو.


شعر سليم بترددها، فاقترب منها أكثر مختصرًا المسافة بينهما، مقبلاً ثغرها دون مقدمات، لم يفصل قبلته رغم يدها التي تحاول إبعاده عنها بضعف، يدرك مدى ترابط فؤادهما، وأجاد اللعب على هذه النقطة..فهمس من بين قبلاته لها:


- هتهدي حياتنا علشان خاطر حاجة زي دي.


سمح لها بالابتعاد، فركزت ببصرها عليه، تحاول قراءة الغموض المسيطر على عينيه، ولكن هناك وميض بالحب ينير طريقها معه، بالتأكيد لن تخلق مشاكل معه في بداية زواجهما، خاصةً هو لم يرغمها بالقوة، بل يطلب منها بهدوء وحكمة.


- قولتي إيه يا شمس، هتسمعي كلامي.


- خلاص اللي أنت عايزه.


قالتها بهدوء ينافي انكسار أحاسيس رقيقة متعلقه بأحلامًا لم تتخيل قط التخلي عنها، فاستمر هو بالضغط عليها.


- الاتفاق اللي بنتفق عليه بيبقا عهد بينا، اوعي في يوم من الأيام تعملي حاجة أنا قولت عليها لأ. 


وقفت حائرة أمام كلماته بعدما شعرت بتحذير طفيف بنبرته ولكنها لم تبالي وقالت ببسمة صغيرة:


- حاضر.


  ولصغر سنها لم تدرك حجم التنازلات التي وافقت عليها دون تفكير،  كانت تلهث خلف حبها الذي طالما حلمت بتحقيقه وبناء عش وردي يجمعها مع حبيبها الأول والأخير،

فاعتقدت أن فقدان فارس أحلامها سيكون أكثر المًا من دفن أحلامها، نعم وافقت...وافقت إرضاءًا له، و لقلبها النابض من أجله.

                              ***

عاد من شروده على اتصال هاتفي من سيف، كالعادة يطمئن عليه وكأنه طفل لا يجيد الجلوس وحده..فأجاب سليم بنبرة فاترة:


- خير يا سيف، دي المرة التانية تتصل عليا.


- ماتيجي تقعد معايا في الورشة، في حبة شغل جاي انما ايه لوز.


عقد سليم حاجبيه بعدم فهم، قائلاً:


- هو أنا مالي بالشغل بتاعك!.


- مش أنت بتحب الدوشة بتاعت الورشة وزيت العربيات والشحم.


أجابه ببساطة محاولاً كتم ضحكه، فرد سليم بتعجب ساخر:


- هو أنت بتعزمني على جاتو، مالك يا سيف أنت كويس!.


- أنا زي الفل، تعال أنت بس نقعد مع بعض.


- هنزلك بس هعدي على المحل الكبير الاول اشوف الشغل ماشي ازاي.


- كفارة يعم، هستناك.


                             ***


وقف زيدان أمام محلهم الرئيسي بسيارة الشرطة، ثم هبط منها متوجهاً نحو العمال بالداخل بوجه عابس:


- صباح الخير، في جديد.


جذبه عم سعيد جانبًا، قائلاً بنفاذ صبر:


- بص يا باشا اللي بتعمله ده ميرضيش ربنا.


شعر زيدان بالقلق من نبرته، فقال بجدية:


- ليه يا عم سعيد.


- كل يوم والتاني، جايلنا بعربية الشرطة وتقف قدام المحل، سمعتنا بقت في الارض، والمبيعات بتقل.


أنهى حديثه بنبرة حادة، فقال زيدان موجها يده نحوه:


- ياااه ده كله بسببي.


- ايوا يا باشا، يمكن أنت متفهمش بأمور شغلنا...


قاطعه زيدان بحنق:


- بس بس..مش أنا السبب، همشي وخلي يزن يجي يشوف الشغل هو، سلام.


غادر زيدان تحت أنظار سعيد حيث كان غير راضيًا بالمرة لأفعاله: 


- يارب ترجع يا سليم باشا، اخواتك مدلعين على الاخر.

                               ***

قبضت شمس فوق حقيبتها الكبيرة وهي تتحدث بالهاتف بصوت خافت ومجهد:


- يعني لما ارجع هلاقي كل حاجة جاهزة يا طنط.


استمعت شمس للطرف الاخر بتركيز، مع استمرار تحريك رأسها بالإيجاب لحديث الاخرى، أنهت الاتصال مع تنهيدة عميقة تخرج من صدرها المشحون بالمشاعر المتناقضة.


رفعت رأسها تلتقط بعض من الانفاس لتعيد مجرى الهواء لصدرها مجددًا، ولكن الجو به حالة غريبة تمنعها من التنفس، وكأن هناك حبل يلتف حول عنقها يضغط بهدوء عليها، رجحت أن تلك الحالة سببها ما تمر به الآن، من خذلان واضح ذاقته على يد سليم بعد اختفائه لمدة ثلاث أسابيع، لقد ظنت أنه سيعود ويتراجع عن قراره المتهور بحقهما، تمسكت بالحب المشترك بينهما، وقررت الحفاظ على منزلها..وحياة أنس، مجددًا  توضع نفسها في خانة التنازل، تجلس كشاه يتركها القطيع فجأة في غابة شديدة الظلام فتنتظر عودتهم بخوف.


رغم أنها جرحت بطلاقه لها، إلا أنها اعطته أسبابه، ولكن أي أسباب تلك تجعله يتخلى عنها بهذه السهولة، هو لم يدرك بعد حجم كلمة أنهت حياتهما، لا يفكر بهما..بل بنفسه أولاً.


رغم أنه هذه الفترة كانت طويلة جدًا عليها، يلعب الانتظار فوق هيكل ثباتها الواهي، إلا أنها مفيدة لها، الوحدة جعلتها تعيد التفكير بنقاط سلبية بشخصيتها شعرت بالسأم منها، لن تتنازل بعد حتى وإن ذاقت مرارة وجع الفراق الأبدي بينهما، سترسم طريقًا لها بقواعدها هي، ستبحث عن راحتها وأحلامها التي فقدتها من أجل من لا يستحق، بل أنه تجرأ ووصفها بالخائنة، هل هو مدرك لحجم كلمته؟، أم انها كانت كلمة غاضبة خرجت دون وعي منه!.


ابتسمت ساخرة تزامنًا مع سقوط دموعها الغزيرة، مازالت تفكر به بحماقة، تعطي له الاسباب، تفكر بشعوره حينها، تتوق  لعودته وكأنها طفلة صغيرة تنتظر قدوم والدها بشغف.


الجلوس هنا أكبر خطأ قد تقترفه بحقها، لن تترك نفسها لتكهنات جديدة حول عودته، حتى أنها وصلت لمرحلة إن عاد لن توافق بالعودة إليه بعد هجره لها بهذه الطريقة المهينة لها.


أحكمت غلق الحقيبة وقررت التحدث مع منال بعدما طلبت منها أن تساعد أنس في أخذ قسط من النوم أثناء الظهيرة كعادته دومًا.


جهزت نفسها وهي تهبط درجات السلم وصولاً لشقة منال...حتمًا ستكون مناقشة طويلة لن ترضخ بها إلا لقواعدها هي ولن تتعاطف إلا لاجلها.

                               ***

بعد انقطاع دام لاسبوعين، عادت ليال لعملها مجددًا، حيث فكرت مليًا بهذه الفترة بأمر عودتها للدورس مجددًا بعد نكسة مرت بها أثرت في نفسيتها، بل تركت مخاوف سببت لها ذعر دائم بداخلها، في بادئ الأمر تجاهلت مشاعرها وراحت تمشي بطريقها الذي رسمته منذ البداية فمن الصعب التخلي عنه، ولكن كلما أقدمت أمام باب شقة تقف أمامه حائرة عاجزة، هناك خوف يتغلغل داخل قلبها بسبب ما تخفيه تلك الأبواب..حيث مرت بلحظة فارقة كادت أن توصمها بالعار للأبد.


حتى توته تغيبت عنها لاسبوعين هي الاخرى، تختفي عن نظراته هو بالأخص، لن تستطيع مجابة اللوم الدائم بنظراته، وكأنه جلاد يملك سوط من نوع خاص يضرب ضميرها الغافل دون رحمة!.


كانت فترة بسيطة ولكنها نفعتها بالتأكيد، حاسبت نفسها بهدوء، وقررت أن تتمسك بعادات مجتمعها و أمور دينها بعدما ظنت أنها ليست إلا قيود تعيق حياتها، ولكنها اقتنعت أن الحرية الزائدة في كل شيء عائق يصعب التخلص منه.


أحكمت حجابها جيدًا وكانت اولى خطواتها في التغيير، وهبطت لشقته كي تستكمل عملها، مدت يدها كي تتطرق الباب، فوجدته مواربًا عبست بوجهها وحركته بهدوء حتى ظهر صوت فاطمة الغاضب تتشاجر مع أخرى لا تعرفها ولكن تبين من الحديث أنها والدة زوجها السابق.


- بقولك إيه يا حبببتي دي مقدرة ابني في المصاريف، عجابك خديهم، مش عاجبك وفرتي.


ردت فاطمة بغضب:


- هو انتي بتعزمي عليا، ده واجب ابنك انه يتحمل مصاريف بنته، هو فاكر أنه طلقني خلاص هيخلع.


ضحكت منيرة ساخرة:


- قولي أنه حكاية المصاريف دي حجة منك، بقولك إيه رجوع ابني ليكي تاني مستحيل.


صىرخت فاطمة بتحذير:


- بقولك أنا مش هسكتلك تاني، زمان كنت بسكت لكن دلوقتي لا، وبعدين مين قالك أن عايزة ارجعله هو أنا ارضى ارجع للق.رف تاني.


شهقت منيرة بصدمة، قائلة :


- احنا ق.رف يا قليلة الرباية، طيب ليكي أخ اشتكيله.


جذبت حقيبتها بعنف وذهبت باتجاه باب الشقة، فتراجعت ليال للخلف نحو الدرج ومثلت كأنها تقدم نحو باب الشقة، رأتها منيرة فشملتها بنظرات غامضة من اسفلها لاعلاها توترت ليال قليلاً منها، ودون إرادة منها ابتسمت ابتسامة مجاملة لها، لاحظت اقترابها منها و ثم خرج سؤالها بفضول من فمها:


- أنتي مين يا حبيبتي!.


- أنا ليال ساكنة فوق، وبدي توته درس.


أجابت ليال ببساطة جعلت منيرة في حالة من التفكير اللحظي، بعدما راودها شعور بضرورة قهر تلك الوقحة فاطمة، فمدت يدها تحركها بطول ذراع ليال، وبنبرة خبيثة سألتها:


- هو أنتي متجوزة ولا مخطوبة.


شعرت ليال بربكة بسيطة منها، ومن نظرتها التي ارعبتها، فعينيها تحمل قوة وقسوة لم تراهم من قبل.


- أنا لسه متجوزتش، ولا مخطوبه..عن اذنك ادي توته الدرس.


- معقوله في حلاوة كده وتتساب لوحدها، هي الرجالة حصلهم إيه!.


ابتسمت ليال بمجاملة وداخلها لم يرتاح قط لها، ردت بتهذيب وأصرت على الابتعاد:


- شكرًا عن اذنك.


غادرت سريعًا واتجهت صوب شقة فاطمة ودخلت كي تهرب من نظرات تلك السيدة، وما إن أغلقت الباب، حتى رأت فاطمة بوجهها تضع يدها بخصرها تسألها بشيء من الترقب:


- هي كانت عايزكي في إيه!.


- هي مين؟!


ردت ليال ببلاهة بسبب اضطرابها، فقالت الأخرى بضيق لاحظته ليال:


- ام طليقي كانت عايزكي في ايه!.


توترت ليال في بادئ الأمر وقالت:


- مكنتش عايزني في حاجة، أنتي كويسة!.


زمت فاطمة شفتاها بضيق، واستمرت بالتحديق بها، مما اربك ليال الواقفه أمامها كالمذنبة وهي لم تفعل شيء.

 

                                   *** 

- إيه عايزة تمشي يا شمس.


وقفت منال مذعورة لا تصدق ما تقوله، وعيناها تنتقل بين شمس وحقيبتها الكبيرة الموضوعه بجانبها بحسرة، هزت الاخرى رأسها بصمت وطالعت منال بنظرات يكمن خلفها إصرار لن تعود عنه أبدًا.


فعادت منال تجلس أمامها مجددًا تتحدث بحزن:


- تمشي تروحي فين يابنتي.


- اروح بيت أهلي!.


استنكرت منال حديثها:


- ابوكي باعه يا شمس.


قاطعتها شمس قائلة :


- واشترى شقة في اسكندرية، هروح اقعد فيها.


- وليه، ما بيتك موجود أهو يا حبيتي.


قالتها منال ببسمة بسيطة ونبرة يندثر منها الرجاء واللطف، فردت شمس بانكسار:


- مبقاش بيتي، سليم طلقني..لازم ابعد عنكوا، علشان هو يرجع بيته.


- هيرجع بيته صدقيني وهيرجعلك بس هو زعلان..


قاطعتها شمس مجددًا، ترفض التفكير حتى في ذلك الأمر مرة ثانية، أعطته فرصة كانت احتمالها صفر، ولن تركض خلف أحلام واهية مرة أخرى.


- يرجع ولا ميرجعش مبقاش فارق.


كانت نبرتها تحمل برود أخاف منال بشدة، يبدو أنها عزمت على أمرًا تخفيه عنها، شعرت بهدم منزلها فوق رأسها، تفرق أولادها، وانعزل زوجها بغرفة وحده يعاقب نفسه على ما مر به ولده، وها هي شمس تقطع آمالها التي كانت تظن أن الحياة ستعود من خلالها.


- يعني مش هشوف أنس تاني.


-  عايزة اطلب منك طلب، وياريت توافقي وتساعديني فيه، وتوعديني انك تنفذيه.


اضطرب قلب منال وهي تستمع لحديث شمس، بينما على باب المنزل كانت تقف نهى تستمع لحديثهما بوجه مصدوم، وعيون متسعه لا تصدق..طلاق سليم وشمس، أيعقل؟!


تحركت صوب باب المنزل الخارجي ورفعت هاتفها تخبر والدتها بما سمعته!.


- ماما مش هتصدقي زيدان مكنش بيرد عليا الفترة دي ليه ...


دمتم سالمين 💜☕

بداية الروايه من هنا 👇👇👇


من هنا


تعليقات

التنقل السريع
    close
     
    CLOSE ADS
    CLOSE ADS