القائمة الرئيسية

الصفحات

وقبل أن تبصر عيناك التاني والتالت بقلم مريم غريب كامله علي مدونة النجم المتوهج للروايات

 

وقبل أن تبصر عيناك

التاني والتالت

بقلم مريم غريب

( 2 )

~¤ يا حلو يا مغرور ! ¤~


ما أسهل أن ينجز بنفسه كل الأعمال التي يدفعها إليه والده.. حتى الخطير منها... ما كان سواه بقادرًا على الخوض في كل شيء 


ليس لقوته البدنية فقط، إنما لذكاؤه و خبرته و حسن تعامله و سرعة بديهته.. إخوته منهما ولدًا في سن المراهقة، و الآخر يصغره بعامين.. أي كبيرًا مثله، لكنه أحمق


كثيرًا ما تطغى عليه عصبيته في أغلب المواقف فيخرب كل شيء، لذلك يفضل "سالم" أن يكون عمله بالداخل فقط.. أما الخارج فهو إختصاص "رزق".. و أحيانًا يتطلب تواجده بالداخل أيضًا ... 


كانت عملية تسليم بضائع خاصة بالأسلحة اليدوية و الذخائر، النوع الآخر من تجارة والده المتعلّق بالمواد المخدرة.. يذكر جيدًا يوم أن عرض عليه تولي هذا العمل أيضًا، لكنه رفض بصرامة و أخبره أن لو وقع الاختيار بين تولي هذا العمل و العيش في كنفه، فهو سيغادر مملكته بكل سرور و لن يفكر أبدًا في العودة إليه


و بالطبع وافق "سالم" و لم يعارضه أبدًا، فكما يعلم الجميع، أولاده و عائلته كلهم بكفة.. و "رزق" وحده بكفة أخرى، و دائمًا ما تكون كفة "رزق" هي الراجحة ... 


-تمام يا ريس رجب ! .. قالها "رزق" بصوته القوي و هو يضع أخر رزمة من النقود في حقيبته الكبيرة 


أشار للفتى القادم معه بغلقها و أخذها إلى سيارته خارج الصهريج المهجور ذلك 


لا يزال يتطلع إلى الشريك الخمسيني الذي يرتدي الجلباب و العمامة.. ملابس فاخرة و رائجة بقرى و نجوع الصعيد 


كانت تطوقه حراسة مشددة، و لدهشته أن رآى "رزق" قادمًا بمفرده، ليس معه سوى فتى حضوره مثل غيابه.. كم هو شديد الثقة بنفسه ... 


-مع إن أبوك ماكنش بيعد ورايا يا معلم رزج "رزق" ! .. علّق المدعو "رجب" باسلوب ينم عن فكاهة 


تكلّف "رزق" الابتسامة و رد عليه بفتورٍ : 


-كل ساقطة و ليها لاقطة بقى يا ريس.. صوابعك مش زي بعضها. و أنا مش زي أبويا. أنا ليا دماغ لوحدي.. و بعدين الأصول ماتزعلش. مش بضاعتك تمام و شكيتها بإيدك ؟ 


أومأ "رجب" مؤيدًا : 


-تمام.. شغل أبيض كيف كل مرة 


رزق بثقة أقرب إلى الغرور : 


-إحنا مابنطلعش حاجة أي كلام.. الجزارين سمعتهم سبقاهم 


إبتسم "رجب" مثنيًا على سيرته هو بالأخص : 


-و سمعتك إنت لوحدك كوم تاني يا زينة الرچال. بتفكرني بابوك في شبابه كان عِترة إكده كيفك 


ضحك "رزق" باقتضابٍ و قال و هو يتهيأ للرحيل : 


-أبويا لسا شباب يا ريس رجب 


بادله الأخير الضحك قائلًا : 


-صوح.. هذا الشبل من ذاك الأسد ! 


و تضاحكا مرة أخيرة، ثم قال "رزق" و هو يوليه ظهره ملوّحًا بيده : 


-يلا أشوفك على خير.. إبقى ودَّنا يا ريس 


صاح "رجب" في إثره : 


-و إنت ماتنساش توصل سلامي لابوك ! 


غادر "رزق" المكان منطلقًا بسيارته دون الفتى الذي اعتذر منه ليلحق بميعادٍ خاص، فسمح له "رزق" بالرحيل... و أثناء طريق العودة يفرغ ذهنه تمامًا.. فإذا بالأحداث الأخيرة تعرض عليه


و ها هي صورتها تقفز أمام ناظريه مجددًا 


لقد كاد ينساها... ماذا كان أسمها ؟ .. "ليلة".. كيف له أن ينسى أسمها.. بما أنه هو الذي أعطاها هذا الأسم قبل عشرون عامًا !!! 


رباه ! 


إن رؤيتها أطلقت بعقله طوفانًا من الذكريات المختلفة.. لم يكن يحاول أن ينسى أيًّا منها... حتى لو أراد.. ستظل أمنية عصية على التحقيق.. الماضي كله محفورًا بدواخله.. قد خبأه جيدًا بمكانٍ قصي و تناساه أغلب الوقت 


لكنها هي جاءت اليوم.. ظهرت أمامه كالشبح و ذكرته بكل شيء.. تحديدًا تلك الليلة المعلومة ...


Flash Back ... 


تلك الفترة العصيبة التي شهدها تفتك بأمه، منذ وطأت أقدامهم بيت العائلة هذا.. عائلة أبيه، رغم حداثة سنه و عقليته الطفولية، إلا أنه أبدى تعقلًا في التعامل مع الأزمة التي تجلّت بعلاقة والديه 


أمه دائمًا حزينة، مكتئبة.. في منأى عن الجميع، و خاصةً والده، مع أنه لا يزال ولدًا لكنه منحها الأعذار.. لم تكن الصدمة هيّنة عليها، إذ تكتشف فجأة بأن زوجها و الرجل الذي أحبته لسنواتٍ و ضحت من أجله بالكثير، بل و عصت والدها حتى تحيا معه كزوجة و تنجب منه طفلًا يحمل أسمه


في ثانية ترى زوجة أخرى له و أطفال أيضًا.. شعر بصدمتها، فقد أحس بنفس الصدمة بدوره، لكنه ما لبث أن أفاق منها و تخطاها حين أخذه  والده و جالسه على إنفرادٍ ليلقى على مسامعه الآتي ... 


-رزق.. إنت كبرت و بقيت راجل. لو إتكلمت معاك هاتفهمني صح ؟ 


هز الطفل رأسه أن نعم، فاستطرد "سالم" بجدية : 


-أنا عارف إنك مشوش و متلخبط بسبب الظروف الجديدة حواليك.. عارف كمان إنك مضايق عشان ماما. بس أنا عاوزك تتأكد من حاجة واحدة و تكون واثق فيها أوي.. أبوك عمره ما يقدر يفرط في حتة منه. و إنت مني يا رزق. و أمك.. أمك دي مش مراتي و بس. دي حبيبتي و أظن أنت تعرف أنا بحبها أد إيه ... 


صمت قليلًا كي ما يعطيه وقتًا ليستوعب هذا القسم من حديثه، و لو أنه فهمه جيدًا.. خاصةً الجزء المتعلق بعلاقة الحب التي جمعت أبويه، لا يستطيع أن ينكر مدى حب أبيه لأمه، حيث أنه كان شاهدًا عليه منذ وعى على الدنيا 


لكن للأسف... تلك القصة الغرامية العظيمة مؤخرًا صار يعتريها البرود و يشوبها الهجر !! 


-في نفس الوقت أهلك إللي هنا مني بردو ! .. قالها "سالم" بلهجة أكثر شدة 


-جدتك دلال. تبقى أمي. عمامك يبقوا إخواتي الصغيرين. إخواتك يبقوا ولادي زيك.. أنا عشان خاطرك و عشان خاطر أمك ضحيت ب10 سنين من حياتي بعيد عنهم و فضلت معاكوا في اسكندرية. كنت ليكوا لوحدكوا و بتابع الوضع هنا من بعيد.. بس يا رزق. بعد موت جدك الباشا مابقاش في سبب يخلينا نفضل عايشين في اسكندرية. آن الأوان نرجع للمكان إللي يستحقنا أكتر. وسط أهلنا. أمك مصدومة فيا و أنا مديها العذر.. مع إنها نسيت الحب إللي بينا و كل حاجة. بس أنا مانستش.. مانستش مثلًا إنها جابتلي أغلى حاجة في حياتي.. إنت. إنت إبني الكبير و أول فرحتي يا رزق. أنا لما إتجوزت مراتي الأولانية هانم كنت صغير. يدوب 20 سنة. فضلت 5 سنين محروم من الخلفة. بس لما إتجوزت أمك. مافيش سنة و شرفت حضرتك.. حبيتها فوق الحب ألف.. عشانك. و حبيتك أكتر عشان حتة منها و كل ما أبصلك كأني بشوفها.. إنتوا الاتنين غاليين عندي أوي يا رزق ! 


و قام من مكانه قاطعًا المسافة بينه و بين إبنه، دون أن ينهضه من فوق الكرسي المقابل وقف أمامه و ضم رأسه في حضنه بحنانٍ متمتمًا : 


-لحظة ما شوفتك و شيلتك بين إيديا عرفت معنى الضنى أغلى من العين.. و إنت أغلى الغاليين يابني. إنت إللي هاتكون سندي و ضهري لما أكبر. أنا متأكد ... 


و فجأة تقاطعهما لحظة دفع باب المضافة، لتظهر "كوثر" زوجة الأخ الأصغر "ناصر الجزار"... كانت في حالة يرثى لها و هي تلج ممسكة بأسفل بطنها ذات التسعة أشهر و تصرخ بانهيارٍ : 


-إلحق أخوك يا سااااالم. إلحق ناااااااااصر ... 


و صرخت حين داهمها ألم المخاض، بينما ينطلق "سالم" صوب الخارج ساحبًا فرد سلاحه.. تبعه "رزق" دون تفكيرٍ 


لم يستطع اللحاق به تمامًا و غاب عن ناظريه بين الحشد الغفير، لهث "رزق" الصغير و هو يراقب تلك المعمعة الدامية بعينان جاحظتان.. كان قلق على أبيه و إعتزم البحث عنه 


لكنه قبل أن يتخذ خطوة واحدة، شعر بقبضة حازمة تسحبه للخلف.. إكتشف حين صار في لمح البصر خلف واجهة الدار بأن الفاعل لم يكن سوى أمه !!! 


-رايحة فين يا ماما.. إستني بقولك رايحة فين ؟؟؟ 


ثبت قدماه فوق الأرض و أجبرها على الوقوف، فإلتفتت إليه و قالت محاطة وجهه بكفيها الناعمين : 


-يلا يا رزق.. يلا يا حبيبي. هانهرب من هنا ! 


رزق مستنكرًا كلامها : 


-نهرب إيه.. لأ طبعًا. أنا مش هاسيب بابا لوحده 


كاميليا بانفعالٍ : بابا إيه دلوقتي.. إنت مش شايف إللي بيحصل وراك ؟ إنت مكانك مش هنا. يلا يابني إسمع كلامي. يلا نهرب قبل ما حد يشوفنا 


رفض الصغير قائلًا بصرامة : 


-قولتلك مش هامشي.. هنا بيتي و مكاني. و مكانك إنتي كمان جمب بابا و جمبي.. إرجعي يا ماما. مش هاسيبك تمشي 


هزت رأسها للجانبين و سالت دموعها بغزارة، بينما يلاحظ كفها يحط أسفل بطنها و يسمعها تقول تاليًا : 


-هنا في أخ تاني أو أخت ليك.. بيكبر جوايا. أنا أهون عندي أموت نفسي. بس ماولدش هنا طفل يطلع مجرم زي الناس دول.. إنت إبني و أنا مربياك و عارفاك. إنت مش زيهم. بس أنا مش هاسمح أجيب للعيلة دي أطفال يكبروا عشان يبقوا مجرمين.. صدقني عندي إستعداد أموت نفسي يا رزق. صدقني ! 


إنه مجرد ولدًا في العاشرة من عمره ... 


أنى له أن يفهم أو يستوعب كل ما يجري من حوله ؟! 


بل أنى له كل هذا التعقل و الدراية التي أهدته لإتخاذ القرار بهذه السرعة !!! 


-إمشي يا ماما ! .. نطق "رزق" بآلية تامة و هو يفلت يد أمه 


سكتت "كاميليا" عن البكاء و نظرت له بذهولٍ، لكنها سرعان ما قالت بتصميمٍ : 


-مش هامشي منغيرك !! 


رزق باصرارٍ صارم : 


-و أنا مش هاسيب بابا.. إمشي إنتي. و ماترجعيش هنا تاني. سامعاني ؟ إوعي ترجعي و يشوفك ! 


و كأن الكلام يخرج من فم رجلٌ ناضج، و كأنه يدرك تمامًا مفاد الرسالة التي يوجهها إلى أمه... لتذعن الأخيرة إلى كلامه بأسرع ما أمكنها بعد أن فاقت من الصدمات المتوالية 


رمقته بنظرة قوية أخيرة، نظرة وداع.. نظرة ألم و فراق مجللة بالدموع... ثم ولّت مدبرة 


بل هاربة، و قد أطلقت لساقيها الريح و ركضت بسرعة كأنما يلاحقها فكٍ مفترس ... 


أما "رزق".. فركض بالاتجاه الآخر عائدًا إلى أبيه.. إلى المكان الذي أختاره... لكن الصدمة عندما عاد 


لم يرى سوى الدماء أمامه، دماء و كسور و جراح كثيرة تحيط به.. و في الوسط هناك رقدت جثة عمه "ناصر" مصابة بطلقاتٍ نارية متفرقة.. إحداهما تستقر برأسه 


من خلفه نساء العائلة قد تجمعن حول الأرملة المكلومة.. زوجة أبيه "هانم" تصرخ باستغاثة : 


-حد يشوفلنا ضاكتور.. حد يجيب عربية ناخدها المستشفى بسرعة ! 


غريزيًا وجد نفسه يقترب بحذر منهن، لم تكن العقول بالرؤوس لحظتها.. حتى هو لا يتذكر كيف وصلت الرضيعة إلى ذراعيه الصغيرين... كانت محاطة بلفافة بيضاء و فمها يصرخ باستمرارٍ 


في لحظات شعر بميلٍ غريب نحوها، و كانت والدتها لا تزال على قيد الوعي بصورة ضئيلة عندما سمعته يهمس مبهورًا : 


-ليلة !

Back ... 


كان قد وصل عند بيته تقريبًا عندما إنفصلت الذكرى فجأة و كأنها شريط قطع وصولًا إلى ذاك الحد ... 


و من جديد عاوده شعور مضمر بالتوتر أزعجه كثيرًا، فتنفس بعمقٍ و هو يفكر بصمت.. لم يتوقع أن تمنحها أمها هذا الأسم... صحيح أنها إبنة عمه 


لكنه فعليًا و منذ تلك الليلة لم يرها و لم يسمع بسيرتها ... 


نرى لماذا عادت الآن ؟ و كيف أصبحت على صورتها التي رآها قبل ساعاتٍ قليلة ؟ 


أسئلة كثيرة... لكنه قطعًا لن يطرحها على أيّ حد.. لأنه و ببساطة لا يظهر للجميع قدرًا كبيرًا من اهتمامه 


هكذا هي شخصيته الغامضة و المثيرة في آن !


__________ 


و كأنه سر قومي.. إذا إنكشف تكون نهايتها... ففي عرفهم علاقات الحب و الغرام مرفوضة حتى لو بين الأقرباء 


و هي لسوء حظها كانت تعجب الإبن الأوسط لكبير العائلة.. "مصطفى سالم الجزار"... أبدى رغبة في الارتباط بها بعد أن تنهى تعليمها المتوسط.. لكنها ردت بالرفض... فأبقى والدها الأمر طي الكتمان إلى حينٍ.. رغم ذلك هيأت نفسها جيدًا للمدى المنظور... لن تقبل بغيره و لو إحترقت البحار و سقطت السموات 


هو فقط من يملك قلبها، تحبه، و لا تترك فرصة تفوت دون أن تلمح له بذلك، و لكنه مغرورًا.. لا يبالي ... 


كان الكاسيت ذو السماعات الصادحة يملأ غرفة "فاطمة إمام الجزار" بألحانٍ سحرية لغنوة السيدة "فيروز".. و كانت بدورها تمسك بصورة على مقاس وجه حبيبها و تنشد الكلمات بصوتها العذب و هي ترنو إلى ملامحه الجميلة بنظراتٍ هائمة ... 


بعدك على بالي يا قمر الحلوين 


يا زهرة بتشرين يا ذهبي الغالي 


بعدك على بالي يا حلو يا مغرور 


يا حبق ومنتور على سطح العالي 


بعدك على بالي يا قمر الحلوين 


يا زهرة بتشرين يا ذهبي الغالي 


بعدك على بالي يا حلو يا مغرور 


يا حبق ومنتور على سطح العالي 


لمحت مصادفة أثناء مرورها من أمام نافذة غرفتها سيارته و ني تقف أمام البيت ... 


أغلقت الكاسيت فورًا و أطلت من النافذة بينما قلبها ينتفض بقوة بين أضلاعها.. الآن عاودها الهاجس الذي إنتابها لحظة أن رأت إبنة العم الجديدة 


حلول أنثى شابة و جميلة في هذا البيت تعني إقامة منافسة و ليست أيّ منافسة.. فتلك التي تدعى "ليلة" ليست قليلة أبدًا، تملك كل المقوّمات الأنثوية التي تجتذب أقوى الرجال عزيمة و ترفع... و هي.. هي تخشى على حبيبها... خاصةً بعد أن سمعت عمها يأمر "رزق" بعد النزاع الذي نشب بالحارة، بأن يعود إليه على جناح السرعة كي ما يتصافا هو و إبنة عمه و أن يعتذر كلاهما للآخر 


سيقفان أمام بعضهما و الله وحده يعلم نتيجة هذا الموقف ... 


بدون تردد استدارت "فاطمة" راكضة للخارج، كانت وحيدة بالشقة في هذه الساعة الشاغرة من النهار.. هبطت بسرعة للأسفل، فإذا بها تصطدم به ... 


-إيه يا بطاطا السرعة دي حاسبي ! .. قالها "رزق" بتفكه و هو يمد ساعديه ليمنع أيّ إحتكاك جسدي بينه و بين إبنة عمه الصغيرة 


اضطربت أنفاسها و هي ترفع وجهها المتوّرد لتحدق به، بينما يبتسم لها بجاذبيته المعهودة قائلًا : 


-مين بيجري وراكي يا فاطمة. لو ماكنتش واخد بالي و خبطي فيا كان بقى إزي الحال دلوقتي.. أقله إيد أو مناخير تتكسر ! 


و ضحك بخفةٍ 


رفرفت "فاطمة" بأجفانها و هي تشعر بقلبها يدق بصخبٍ شديد، لتقول بصوتٍ كافحت ليخرج طبيعيًا : 


-يا سيدي أنا كلي فداك. و لا يهمك.. المهم إنت تكون كويس و بخير دايمًا. ماتتصوّرش بترعب إزاي لما بشوفك بتنزل الماتشات بتاعتك دي. و خصوصًا لما بتسيب نفسك في الأول. ببقى هاتجنن.. قصدي بخاف حد يئذيك !! 


ربت "رزق" على رأسها و قال بلطفٍ : 


-ماتخافيش يا بطاطا.. إبن عمك شديد. و زي ما قولتي. أنا بسيب نفسي في الأول بمزاجي.. يلا بقى شوفي كنتي رايحة فين ! 


و لكن و قبل أن يتجاوزها استوقفته ممسكة بذراعه، جمد محله فسرعان ما تركته مغمغمة بارتباكٍ : 


-و إنت رايح فين كده ؟ 


أجابها بتلقائية : طالع لابويا.. هو مش فوق ؟! 


أومأت له و ردت بهمسٍ : 


-فوق 


-فل.. ألحقه قبل ما ينشغل بأي حاجة ! 


و مضى كالريح مرتقيًا درجات السلم الرخامي، بينما تراقبه "فاطمة" بناظريها متضرعة بخفوتٍ : 


-يارب يشوفها قرد كده.. يارب ! ........................................................................

( 3 )


~¤ مُحرمة عليك ! ¤ ~


بيّد أن لا أحدٌ هنا.. لم يتوقع ذلك بما أنه تلقّى الأوامر قبل مغادرته و سمع أبيه يشدد على أنه سيكون بانتظاره مع إبنة عمه حتى بصفي الخلاف الحرج الذي نشب بينهما في أول لقاء 


كانت الشقة التي يسكن بها "سالم الجزار" بمعزلٍ عن بقية العائلة، على رأس المنزل المشترك.. حيث هجر الجميع إلى هذه الخلوة المريحة للأعصاب، حتى زوجته "هانم" لا يسمح لها بالدخول إلى هنا.. فقط أبناؤه إذا كان الأمر عاجلًا، أو إذا طلب هو أحدهم للمثول أمامه 


و ها هو "رزق" يلج بنسخة المفتاح التي حصل عليها من والده، مضى للداخل باحثًا بعينيه.. رغم الهدوء لكنه إستعد لرؤيتها معه بأيّ مكانٍ هنا 


إنما خاب ظنّه.. عندما تناهى إلى سمعه صوت "سالم" منبعثًا من جهة المضافة الواقعة على بعد أمتار قليلة خلفه 


إستدار "رزق" متجهًا إلى هناك دون ترددٍ، كانت دهشته تزداد مع كل خطوة، إذ ميّز لهجة أبيه المغايرة للعادة.. فهو قلما يسمعه يتحدث بكل هذا القدر من الود و اللطف 


ربما تأكد الآن بأنه لا يتحدث إلا لها هي ... 


لكنه تفاجأ كليًا حين وقف عند عتبة الباب المزدوج و أكتشف بأنه لم يكن يتحدث إلا لصغيرته.. و أخته هو بنفس الوقت ! 


كان "سالم" يجلس فوق مقعده الوثير الأشبه بكرسي العرش، و كانت إبنته "سلمى" البالغة من العمر ثلاثة عشر عامًا تجلس فوق قدمه تبكي بحرقة بينما يهدئها و يقبل رأسها و يربت على كتفها بحنانٍ ... 


-خلاص بقى يا سلمى. عشان خاطر بابا كفاية عياط.. هاتشوفي هاعملك فيهم كلهم إيه ! 


تمخطت الفتاة الرقيقة في منديلًا قدمه لها والدها، لتقول ردًا على كلماته بصوتٍ كالأنين : 


-محدش من إللي تحت عمل معايا حاجة.. هو مصطفى بس. مصطفى مسكني من شعري جامد و زقني. و زعقلي و كان هايضربني بس أمي لحقته .. 


زم "سالم" شفته و هو يستعرض السبب الذي دفع إبنه الأوسط لفعل ذلك بأخته، و بما أنها لاقت التعنيف المناسب فلم يشأ أن يزيد عليها.. فواصل إسلوبه السلس معها و قال بتفاهمٍ : 


-طيب يا حبيبتي مش أنا قلت قبل كده اللبس ده ماينفعش تظهري بيه قصاد حد تاني ؟! 


و أشار إلى فستانها عاري الكتفين و القصير ... 


-حتى لو وسطنا هنا في البيت.. إنتي مابقتيش صغيرة يا سلمى. و آه هنا إنتي وسط إخواتك و عمامك. لكن ماتنسيش إن في "علي". إبن عمك.. مايصحش يشوفك كده. إنتي صغيرة أنا عارف و هو مايقدرش يبصلك بصة مش كويسة. بس لازم تتعودي على كده عشان لما تكبري أكتر و تبقي أنسة حلوة كده محدش يقدر يبص عليكي و لا يشوف حتة منك حتى 


إزدردت الصغيرة لعابها و هي تفكر بكلام والدها، ثم صاحت فجأة و كأنها تلقي عليه بحجة : 


-بس إنهاردة أنا شوفت ليلة بنت عمي ناصر الله يرحمه لما جت.. كانت لابسة فستان ضيق و عريان.. كانت مغطية كتفها بس 


إنقلب تعبير وجهه في هذه اللحظة عندما تذكر الصورة التي رآى عليها إبنة أخيه... تمهل للحظاتٍ قبل أن يقول لها بحزمٍ : 


-ليلة كانت عايشة في مكان مختلف عن البيئة بتاعتنا.. بس طالما جت هنا كل إللي إتعودت عليه هايتغير. و هاتشوفي بنفسك ! 


ثم إبتسم باللحظة التالية بخفةٍ، و قال و هو يمسح لها بقايا دموعها : 


-خلاص بقى إحنا إتفقنا إننا هانسمع الكلام و مش هاتلبسي الهدوم دي تاني.. أما بالنسبة لمصطفى ف حسابه معايا و الليلة مش هاتعدي إلا و هو جاي يبوس على راسك و يتأسفلك يا ست البنات.. يا حبيبة أبوكي إنتي 


نجح بسهولة أن يضحكها بمداعبته الحنونة، فتلقائيًا رمت ذراعيها حول عنقه و ضمته بشدة.. فبدوره عانقها و هو يضحك بوقارٍ 


في جهة أخرى كان "رزق" لا يزال هناك... على مقربة منهما يراقب ما يجري في صمتٍ.. وصولًا إلى ذلك الحد 


تنحنح بخشونةٍ، فتباعد كلًا من الأب و الإبنة.. نظرا معًا نحو "رزق"... ليقول "سالم" داعيًا إياه بصلابة : 


-خش يا رزق.. تعالى ! 


إنصاع إلى أبيه و دخل بخطواتٍ ثابتة، كان يبتسم لأخته.. ما إن وصل قريبًا منها حتى إنحنى ليقبلها على خدها قائلًا : 


-لوما.. وحشتيني. بقالي يومين مش بشوفك ! 


ردت الفتاة لأخيها الابتسامة و قالت برقةٍ : 


-إنهاردة كان أخر يوم إمتحانات و كنت بذاكر لوحدي في الأوضة 


-إممم. عشان كده متشيكة و لابسة فستان يعني.. بس ده فستان مايتلبسش حتى في أوضتك يا لوما. عيب يا حبيبتي. مش عاوز أشوفك بحاجة زي كده تاني إتفقنا ؟ 


أومأت له بوداعة، فغمز لها تلك الغمزة المزدوجة بعينيه ... 


-طيب يا ست سلمى ! .. قالها "سالم" متنهدًا و هو ينزل إبنته عن قدمه 


أعجبته ملاحظة "رزق" المترفقة بأخته، فكر أنه لو كان فعل "مصطفى" مثله لكان أفضل.. لكنه ما لبث أن تجاوز الأمر كله و تخطاه قائلًا : 


-يلا بقى على تحت.. إنزلي غير فستانك ده و شوفي هاتعملي إيه. أنا كمان شوية و نازل عند تيتة دلال. إبقي تعالي أقعدي معانا يا حبيبتي 


أذعنت الفتاة لوالدها و إنطلقت تعدو بتوثبٍ 


ليبقى "رزق" الآن بمفرده.. وجهًا لوجه مع أبيه ... 


-هاه ! .. لقلق "رزق" محطمًا الصمت و هو يهز كتفيه بحركة تنم عن الحيرة 


حتى الآن لم يبدو على محيا الأخير سوى المعالم الجوفاء.. إلى أن هب واقفًا فجأة و هو يدفع بطرف الشال الثمين الذي يغطي كتف عباءته الداكنة ... 


-إقلع ! .. هتف "سالم" بوجومٍ دون يرتد له طرف 


علّق "رزق" مشدوهًا : 


-نعم ! أعمل إيه ؟!! 


كرر "سالم" بصوتٍ أكثر حدة و صرامة : 


-بقولك إقلع هدومك يالا !!! 


كيف له أن ينقلب هكذا بلحظة ؟ ... رباه.. علام ينوي أبيه بالضبط !!! 


-هو في إيه بس يابويا ؟! .. تساءل "رزق" باقتضابٍ 


سالم بجمودٍ مهدد : 


-مش هاكرر الكلام ده تاني ! 


إنه لأول مرة يأنس من والده تصرفات كهذه.. حرفيًا كان هذا وجهًا يراه للمرة الأولى... لكنه مع ذلك لم يخافه.. لم يكن يفقه معنى كلمة خوف أصلًا و كله بفضل أبيه 


تنفس "رزق" بعمقٍ و إتخذ وجهه تعبيرًا قاسيًا.. مد يده اليسرى لينتزع الساعة أولًا، ثم رفع أنامله الصلبة و شرع يفك أزرار قميصه.. خلال لحظة كان قد خلعه و ألقاه أسفل قدمه، لم يحيد بناظريه عن عيني والده ثانية واحدة 


و عندما جاء ليسحب طوق خصره أشار له "سالم" حتى يتوقف : 


-بس.. كفاية كده ! 


تصلّبت يداه فوق إبزيم الطوق و ظل يحدق في أبيه بسكونٍ هكذا ... 


ليتقدم الأخير صوبه على مهلٍ و هو يقول : 


-لحد إمتى ؟!! 


قطب "رزق" حاجبيه جاهلًا ما يرمي إليه والده... بينما يقف الآن أمامه مباشرةً، كان يمسك بيده عصى ثمينة يتوكأ عليها أحيانًا.. رفعها فجأة و وكزه برأسها المدبب بصدره المليئ بالكدمات المتفرقة 


كتم "رزق" آنة متألمة و هو يشد على فكيه بقوة، فكما إعتاد.. مهما بلغ به الألم يتحمله، بل و ينشده في كثير من الأوقات ... 


-أنا عاوز أعرف أخرتها إيه في إللي بتعمله في نفسك ده !!! 


كان السؤال الذي طرحه "سالم" مدخر منذ وقتًا طويلًا، و ها هو يفصح عنه الآنه بكل فضولٍ و إلحاح ... 


-جاوبني يا رزق.. أنا عمري ما سألتك عن حاجة بتعملها. بس إللي بيحصل ده زاد عن حده. الخطر إللي بتركبه و بتسيب له نفسك ده.. إنت كده بتنتحر. عاوز إيه يعني ؟ عاوز تموت ؟!!! 


كانت إشارة صريحة لإتحاته فرص النيل منه وسط حلبة المصارعة... يعلم "رزق" أن الجميع لديه نفس التساؤلات حول تلك العادة الغريبة.. لكنه نوى منذ البداية أن يحتفظ بالأسباب لنفسه ... 


-مش غريبة ! .. قالها "رزق" مغمغمًا بسخرية، و أردف بنفس الاسلوب : 


-خايف عليا و أنا بلعب على الحلبة.. و مش خايف لما بتبعتني مشاوير الشغل. في الحالتين فيها موتي يا معلم سالم ... 


-رزق !!! .. صاح "سالم" زاجرًا إياه بتحذيرٍ 


ليرد الأخير بعينٍ قوية : 


-إيه بقول حاجة غلط.. إنت مش سامع نفسك يابويا ؟ جايبني و مذنبني زي العيال الصغيرة و بتحاسبني على تفاهات. كان ممكن أسمع منك لو ماكنتش سقط في قاع اسوأ و أقذر من كده. هايحصل إيه أكتر من إللي أنا شوفته معاك و في شغلك.. ما ترد ؟؟!!! 


يصمت "سالم" في المقابل متفاجئًا بردود إبنه.. لم يتخيّل بيوم أن يسمع منه ذلك و أن يلقي بوجهه بكل الحقائق بهذا الشكل... حتى أنه يعجز الآن على قول كلمة واحدة.. فقط بقى يرمقه بغرابةٍ هكذا 


يفرج "رزق" عن ابتسامة مريرة و هو يستطرد لما طال السكوت : 


-أنا عمري ما فتحت بؤي.. عمري ما حسستك إني ناقم على الحياة دي. بالعكس. قبلتها و إختارتك من الأول.. ماتردتش لحظة و أنا بختارك ... 


-قول بقى إنك ندمان ! .. قاطعه "سالم" بحدة 


-صحيح كنت لسا عيل صغير.. بس دلوقتي يا رزق. لو ظهرت في حياتك تاني و خيّرتك هاتختارها هي صح ؟ 


لم يترك له فرصة الرد عليه و تابع بتهديدٍ و ذلك الألق الشيطاني يبرق بعينه : 


-و لا ليه تستنى لما تظهر و جايز مايحصلش.. تحب أدوّرلك عليها ؟ لو قلت آه أوعدك بكرة خبرها هايكون عندي ! 


أحتقن وجه "رزق" إنفعالًا، ذكّره بعنفٍ مكبوتٍ : 


-إنت وعدتني.. مش هاتتعرضلها طول ما أنا جمبك ! 


إنزوى فم "سالم" بابتسامة خبيثة و قال بلهجة مستخفة : 


-ماتخافش. أنا عند وعدي. سالم الجزار مايقولش كلمة ألا و ينفذها لو على رقبته ! 


و لفت نظره ما يتدلى من قلادة "رزق".. نظر فإذا به يرى خاتم، على الفور تعرف عليه، ذلك الخاتم الذي يعود لزوجته الثانية و حب عمره، كان قد سقط من يدها في تلك الليلة المشؤومة و عثر عليه "رزق" و من يومها يحوزه ... 


-لسا محتفظ بده ؟! .. قالها "سالم" و هو يرفع كفه ملامسًا الخاتم 


لكنه و قبل أن يمسَّه قبض "رزق" على معصمه بقوةٍ مغمغمًا من بين أسنانه المطبقة بشدة : 


-ماتلمسش ده.. إوعى تلمسه !!! 


و تبادلا نظرة تحدي شديدة الوطأة دامت للحظاتٍ طويلة، خال أحدهما الآخر بأن المنزل كله سينفجر من حجم التوتر المتفاقم بينهما.. لكن ما لبث "رزق" أن أتفصل عنه فجأة 


يحني جزعه ليلتقط قميصه، ألقى به فوق كتفه و سحب ساعته.. رمى والده بنظرة غضبٍ يغلفه خذلان عميق، ثم قال كلمته الأخيرة : 


-فلوس بضاعتك تحت في شنطة العربية.. و أنا إنهاردة Off. سلام يا كبير ! 


و أولاه ظهره ماضيًا إلى الخارج ... 


سرعان ما تلاشى من أمام ناظريّ "سالم".. مع ذلك بقى بمكانه حتى سمع باب الشقة يصفق بعنفٍ كبير، تيبست ملامحه بمسحة ألم مجهول المصدر 


كل شيء إلا هو.. كل شيء إلا "رزق"... ماذا فعل ؟ ماذا قال و كيف نطقه.. بعد كل الذي مرا به.. لا يمكن أن يخسره بأيّ شكل... لا يمكن أن يخسر الإبن و الرجل و الصديق و العمر الذي يتمثل فيه كليًا 


ما فائدة حياته دون "رزق" ؟.. ما من فائدة على الإطلاق ..................................................................

يتبع ... 

نكمل إن شاء الله ♥️

تعليقات

التنقل السريع
    close