الطريق الي النور
( الحلقة/ 46) الكيد يلاحقهم فى الحبشة !!
وتمر أيام وقد اختمرت في الرؤوس فكرة، فكرة شيطانية حيكت للإسلام والمسلمين على السواء، لمن هاجر إلى الحبشة، ولمن آثر البقاء مع الرسول صلوات ربى وسلامه عليه، وكذا للذين يتأهبون للحاق بهم، فليس في أذهان سادة قريش وصناديدها سوى هذا الأمر الذي داهم حياتهم وقلب أمورهم رأسًا علي عقب.
وفي دار الندوة يجتمع رهط من شياطين قريش ليدبروا أمرًا . يقف - النضر بن الحارث - ويقول : حتى متى يا أبا سفيان حتى متى !!، هاجر من هاجر، واستقر أشراف منا تبعوا محمداً في الحبشة، وظل محمد في قلة يُنغص علينا حياتنا ويُفسدها، وإني أرى أن نصنع مع محمد فاصلة الظهر، نرسل منا رسولاً إلى النجاشي، يخوفونه منهم، فيردوهم إلينا أساري .
قال أبو سفيان وقد راق له الرأي ولغيره : ومَنْ نُرسل في سفارة كتلك ؟ قال النضر بن الحارث : لقد كنت أتحدث في هذا مع عمرو بن العاص فقال : " إنه لا يعرف الحبشة وأهلها أحدٌ كما يعرفها هو " . فإذا جعلتم لابن العاص شيئاً من ذهب في تلك السفارة، يقوم بها .
وأرسلوا إلى عمرو بن العاص الذي جاء تيّاهاً بتاريخه الطويل في الرحلات الكثيرة . إلى مصر والشام واليمن والحبشة، واشترط شروطاً . قال : لا أعرف أحداً من العرب أحب إلى بطارقة الحبشة مني، ولا أعلم بمسالك البلاد ودروبها، ولا أحد يعلم ما أعلم أنا، فما أكثر ما تاجرت معهم، وأهديتهم وأهدوني، وملكهم أزوره ولم أجالسه، ولكن القساوسة والبطارقة هم مدخلي إليه . قال أبو سفيان : وهل يفلح البطارقة في إفساد رأيه في المسلمين الذين انتشروا في بلاده ؟ .
قال عمرو : عجباً لك يا أبا سفيان !! . تقول انتشروا كأنهم ألوف . إنهم كما علمت لا يزيدون عن مائة . والآن ماذا تريدون أن يفعل بهم ملك الحبشة ؟ . قال أبى بن خلف : يحبسهم، أو يقتلهم . قال أبو سفيان : ويحك يا ابن خلف أتريده أن يقتل ابنتي رملة وزوجها ؟ . قال أبو جهل : بل يُصفدهم في الأغلال ويُسلِّمهم إلى (أبى عبد الله . عمرو بن العاص) . ونرى فيهم عندها رأياً . قال أبو سفيان : هذا هو الرأي، ما تقول في هذا يا عمرو ؟ .
قال عمرو : أقول إن هذا يكلفكم الكثير الكثير، هدايا كثيرة إلى البطارقة، وأموالاً أكثر لنقلهم على السفين الذي سيبحر بهم حتى أقرب ساحل للجزيرة، هل تجمعون لي هذه الأموال ؟ . قال أبو سفيان : وهل لك حاجة غير الأموال والهدايا ؟ . قال عمرو بن العاص : نعم سأجعل في رفقتي رجلا من خاصتي يعاونني الحديث إذا ما تعثرت . قال أبو سفيان ومن ذاك ؟ . قال عمرو : الوليد بن أمية . قالوا له : فما قولك في عمارة بن الوليد ؟ . قال عمرو في دهشة : الخنير ؟ . قال أبو سفيان : إنه أنهد فتى في قريش، والأحباش يُؤثرون الوجوه المليحة . قال عمرو وقد أزعجه اختيار عمارة بن الوليد : ولكن عمارة خليع، أخشى أن يُحدث حدثاً في بيت النجاشي . قالوا بصوت واحد : لا لا، نكلمه في ذلك .
وعاد عمرو بن العاص إلى داره وقال لزوجته - ريطة بنت منبه بن الحجاج : يا ريطة قد أوفدتني قريش للنجاشي في الحبشة، أكلمه في شأن من عنده من أصحاب محمد . قالت ريطة : ستسافر دوني يا عمرو ؟ . قال عمرو : سآخذك معي، فأنا لا أطيق فراقك . قالت : نِعمَ ما قلت . ومَنْ سيصحبك يا عمرو ؟ . قال : عمارة بن الوليد بن المغيرة . قالت ريطة وقد أدهشها سماع اسمه : ألم تجد غير عمارة يا عمرو ؟ . عمارة يتعرض للنساء، وأخشى أن يبدو منه نحوي ما تكره، وهو كما تعلم كان يرغب في الزواج مني قبل أن أتزوجك .
قال عمرو بن العاص : يا ريطة قد أخذ عليه القوم عهداً بالالتزام، وسأحتاط منه، إنهم يا ريطة رأوا فيه الرجل المناسب لسفارتي، فلا ينكر المرء أن عمارة خطيب مفوه إذا تكلم وشاعراً فصيحاً .
وكانت ريطة على علاقة عشق قديم بعمارة، وكانت تلك العلاقة حديث مكة قبل زواجها من عمرو، لكن ريطة تركته لخلاعته ومجونه، ولم تر فيه الرجل الذي يحسن القيام عليها، ففضَّلت عليه عمرو بن العاص . نعم هو ليس وسيماً قسيماً كعمارة، لكنه سيد من سادات قريش، وتاجر له سمعته وكلمته عند الناس، فآثرت ريطة الجميلة العاقلة ثبات ووقار عمرو، عن نهادة وجمال عمارة الخليع . وتغادر بعثة الحبشة مكة، تغادر في قافلة كبيرة، تحمل الكثير من الجلود المدبوغة الملونة التي يحبها أشراف الحبشة، ويصنعون منها أجمل ثيابهم الجلدية، وأحذيتهم ذات الألوان الزاهية، والتي يبرع المكيون في دباغتها وتهيأتها، ويستأجر عمرو بن العاص، وصاحبه عمارة بن الوليد، يستأجران سفيناً تحملهم بما معهم إلى ساحل الحبشة المواجهة لقرى اليمن على الجانب الشرقي .
على ذلك السفين، وقع بين عمرو بن العاص، وبين عمارة بن الوليد ما أفسد العلاقة بينهما، ليس بينهما وحدهما . بل بين - بني وائل قوم عمرو - وبني مخزوم قوم عمارة ..
وذات ليلة صفا الجو فجلس عمارة وعمرو على سطح السفين يتناوبون الأنخاب، أنخاب الخمر المُعتق، أكثر عمارة من الشراب، ولعبت الخمر برأسه، واكتفى عمرو بالقليل، فهو لا يأمن جانب عمارة، ويقول عمارة : ما لزوجك يا أبا عبد الله تجلس بعيدة عنا تعال يا ريطة . قالت : حتى يأمرني أبو عبد الله . قال عمارة : فقل لها تقترب يا أبا عبد الله . قال عمرو وكله ريب من أمر عمارة : فاقتربي يا ريطة .
وبلا حياء يترامق عمارة وريطة، وتجاسر عمارة واقترب من ريطة، فهب عمرو وأمسكه من ردائه . فقال عمارة وهو يترنح بفعل الخمر : قبليني يا ريطة . قال عمرو غاضباً : ويحك ! . استح يا عمارة . إن لم تكف عن هذا فارقتك إذا نزلنا أرض الحبشة، ولا يعبأ عمارة العابث الثمل قال : افعل ما شئت حين نصل. أما الآن فدع ريطة تقبلني . قال عمرو وهو يدفعه بعيداً عن زوجه : يا لهذا اليوم المشئوم كفاك يا عمارة، هذا واللات هو الخبال بعينه، اخرج هذا الأمر من رأسك . قال عمارة بصوت عالٍ : أنت تعلم يا عمرو أني قادر على قتلك لو أبيت عليِّ ما أريد . .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تكملة ( الحلقة/ 46) الكيد يلاحقهم فى الحبشة !!
ونهض عمارة وقذف بيد عمرو من كتفه، وأمسك هو بمجمع ثياب عمرو ورفعه إلى جدار السفين وصاح : مُرها تقبلني وإلا ألقيت بك في الماء . قال عمرو وقد انخلعت نفسه رعبًا : أو تجسر على هذا ؟ . عد إلى رشدك يا عمارة . ويتمالك عمرو غضبه، فعمارة فتى شديد البنيان، والخمر قد عابثت رأسه . قال عمرو : انزلي إلى جوف السفين يا امرأة، واغتاظ عمارة وقال في هياج : يا عمرو أقسم إن لم تدعها تُقبلني أقتلك، إنك لتعرف أني قادر على ذلك، قل لها تقبلني.
وخشى عمرو تهديد عمارة، فقال بصوت خجول خافت : يا ريطة قبلي ابن عمك . ونزلت ريطة إلى جوف السفين، نزلت بعد أن أذلت زوجها، وأحنت رأسه وذهب عمرو بعاره إلى قرب سور السفين، فأقبل عمارة من خلفه ودفعه إلى البحر وهو يصيح : ها الآن انقطع خبرك يا أعرج .
ولكنه يجد خصمه أمامه إذا جاء الصباح، فذهل عمارة وقال : ويحك، حسبتك في بطون الأسماك، كيف نجوت ؟ .
قال عمرو وهو يضحك ساخراً من فشل عمارة : حسبتني لا أحسن السباحة . قال عمارة : هذا والله ما كنت أظن، قال عمرو : سبحت حتى أخذت بحبل السفين وارتفعت فظهرت عليها، إنما أردت قتلي ؟ . قال عمارة وقد أغضبه نجاة عمرو : لا لا، بل أردت أن ألهو ساعة، فاغفرها لي يا أبا عبد الله .
قال عمرو : واللات لا أغفرها لك أبداً . قال عمارة : ليتك غرقت إذن، أنا والله لو علمت أنك تحسن السباحة ما فعلت .
واضطغنها عمرو بن العاص لعمارة، وأقسم في نفسه : والله لأسعين في هلاكه ولو كان ذلك في آخر يوم لي على الأرض، وتصعد ريطة إلى ظهر السفين محاولة تهدئة عمرو قالت : إنما أراد عمارة أن يلهو .
فرد عليها عمرو في غضب شديد لما رآها من ملاينتها لعمارة : إنما تقولين ذلك من عُجبك به، ولولا أننا مقبلون على أرض غريبة لطلقتك، أما هو فلن أدعه يعود إلى مكة حياً، ستعلم قريش أينا الفاتك ذو المكر .
ورسي السفين في الحبشة، ونزل منها داهية العرب، وماكرهم، وصاحب الحيل عمرو بن العاص، ومعه صاحب اللسان العذب الناعم، عمارة بن الوليد الفاسق الخليع .
وبدأ عمرو جولته باستمالة البطارقة ليكونوا له عوناً عند النجاشي، وأعطاهم ما أعطى من الهدايا، ثم عرج إلى البطرق الأكبر، وخصه بالثمين من العطايا وقال له : ماذا أنتم فاعلون بالمسلمين الذين نزلوا أرضكم ؟ . قال البطرق : وماذا نفعل بهم وقد قبلهم النجاشي إلى جواره، وأوصى بهم خيراً بعد أن علم أنهم فروا من بطش أهل مكة ؟ . قال عمرو في غضب : زوروا عليكم القول، واستخفوا بكم، ما ضيَّقنا عليهم إلا بعد أن فرّقوا بين المرء وزوجه، وشتتوا العشائر، وأهانوا الآباء والأجداد، واستهزءوا بالمقدسات كلها .. قال البطرق : ولكنهم قالوا غير هذا، فإنهم أرادوا أن يحملوكم على دين التوحيد، وترك عبادة الأصنام، وأنتم أبيتم ذلك وعذبتموهم واضطررتموهم للفرار إلى أرضنا . قال عمرو : هؤلاء أصحاب محمد لا يعجبهم أي دين، كل الأديان عندهم باطلة سوى دينهم، فإن كانوا اختلفوا معنا لأننا نعبد الأصنام، فماذا تقول في رأيهم في المسيح ؟ .
واستطاع الداهية أن يحمل البطرق على كرههم، فقال البطرق غاضبًا : وماذا يقولون في المسيح ؟ . قال عمرو : يقولون قولاً عظيمًا . قال البطرق : أينكرون المسيح يا عمرو ؟ . قال عمرو : ليت الأمر يقف عند الإنكار، إنهم يقولون إن المسيح بشر مثلي ومثلك . قال البطرق في صوت هادئ كأنما مس عمرو بكلامه وتراً حساساً عندهم : لا أخفي عليك فهذه المسألة نختلف فيها نحن النصارى، فمنا قائل ببشريته، ومنا قائل بإلوهيته، وأرى من الأفضل ألا تفتح هذا القول أمام النجاشي، حتى لا يضرب الخلاف في اللاهوت أرض الحبشة كما ضرب أرض بيزنطة .
قال عمرو : وظننت أنك والبطارقة ستكونون عون لي عند النجاشي . قال البطرق : ومن قال لك أننا لن نفعل، ولكن هل ذهبت إلى البطارقة ومنحتهم العطايا والهدايا ليتحمسوا لأمرك ؟ . قال عمرو : نعم فعلت أيها البطرق وأعطيت كل واحد نصيبه من هدايا قريش، وخصصتك عنهم لمكانتك عند النجاشي (أصحمة بن أبجر بن سيلينوس) . . قال البطرق : فالأمر إذن سيكون في صالحك، وسنجتمع كلنا على رأي واحد . أن نسلمكم المسلمين في الأغلال، ويقوم رجال من الحبشة أشداء على اقتيادهم إلى مكة حيث تريد، على أن تدفعوا إليهم نفقة الطريق وتكرموا وفادتهم . قال عمرو والبش يتبدى من وجهه لسماعه كلام البطرق هذا : هذا واللات ما أمّلت فيه .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى

تعليقات
إرسال تعليق