التاني والتالت
مرت ٢٠١٠ بسلام ، وبدأت ٢٠١١ ، تمضى الأيام رتيبة فى سلام ، كصفحة ماء هادئة حمدت الله عليه ، قد يكون الروتين مملاً حد الكآبة أحياناً ، لكنه بلا شك أكثر أمانا واستقراًرا ، لم تخل أوقاتنا من الضحك في أحلك الظروف ، ضحكتنا هى أقرب ردود أفعالنا حتى فى المصائب ، لا شئ يمر دون أن نسخر منه ، شعارنا الأوحد {محدش واخد منها حاجة} .
كنت أتحدث إلى شقيقتى "ريهام" عصر أحد الأيام فى السنترال ، وعندما أنتهيت من المكالمة لاحظت أن الصندوق الأثرى بالغرفة مفتوح ، والقفل الأثرى مفقود ، أقتربت فى وجل وفتحت الصندوق ، بداخله سيف فضى ، طمست معالمه أكوام تراب ملتصقة به ، عليه آيات قرآنيه غير واضحة ، قطعة قماش مهترئة ، شموع مستخدمة ، كتاب وأوراق قديمة بها رسوم هندسية ، منديل من قماش ملفوف ومربوط بخيط سميك ، لونه بنى عتيق ، آثرت ألا أفتحه ، وحذاء حريمى أبيض اللون ذو كعب عالى ، كأنه لعرس ، الحذاء قديم لكن أنيق ، من الواضح أنه لم يستعمل قط ، انتعلت الحذاء ، وتمشيت به كطاووس إلى أن ذهبت للمرآة في مدخل الشقة ، رأيته جميلاً فأحببته ، سولت إلى نفسى اقتناءه ، لكنى تذكرت الأمانة فذهبت مرة أخرى إلى الصندوق ، سوف أقص على الحجة "سعاد" ما مررنا به بكل تاكيد ، لكن فى كل الأحوال لن أجرؤ أن أقول لها فتحنا الغرفة ، وبعثرنا ممتلكاتك الخاصة !
خلعت الحذاء وقد اشتهته نفسى رغم قدمه ، لا أعرف لماذا ، وضعته مكانه فى الصندوق وأغلقته ، لكن يبقى السؤال ، أين القفل الأثرى ؟
من أستطاع أن يفتح القفل العتيق ، يستطيع أن يفعل أى شئ ، ورغم أن محتوياته لا تحث على السرقة لعدم نفعها ، إلا أنى قررت أن أنقل ما تبقى من الأمانة التى اضطرتنى الظروف أن أحملها إلى غرفتى كى تكون بمأمن .
بعدها بأيام وأثناء مرورى بأحد المحلات ، أغرمت بحذاء وكان الحب من طرف واحد من وراء فاترينة ، أنا العاشقة للموضة أينما كنت ، عقدت العزم على الادخار حتى استطيع شرائه ، فقد كان باهظ الثمن ، بعدها بأيام اقتنيته ، احب حاجياتى وأحافظ عليها من التلف ، ادخرته لأقرب نزهة قادمة ، بعد أن رأيت الغيرة المتعارف عليها فى عينى ليلى ، والتى نتجاهلها جميعاً ، فأنا أعلم الأختيار بين التغاضى عن عيوب الأصدقاء والتعايش معها ، أو نبقى منعزلين .
وفى يوم من الأيام التى نوينا تناول غدائنا بأحد المطاعم ، تأنقت كعادتى وبقى أرتداء الحذاء الجديد ، أنتظرت أرتداءه ، كما لو أنى مازلت طفلة تنتظر قدوم فجر العيد ، انفردت به فى شهوة أعرفها ، ثم أرتديته بتأن ، لامست جلده الطبيعى الناعم بسعادة ، وذهبت إلى المرآة بغرفة الإستقبال ، تتنقل البنات بين غرفة الإستقبال والمطبخ ، إلى أن استقررن فى المطبخ يلتهمن ما فيه من بقايا طعام كمشهيات قبل الغداء ، تأملت الحذاء مزهوة بنفسى وسألتهن .
- حلو يا بنات ؟
ردت ياسمين بتلقائية :- جميل يا مريم .
- طب حلو على المونتوه ؟
في غيرة واضحة جاء رد ليلى :- لأ يا مريم مش لايق على اللبس ده ، غيريه يا شيخة
فى سذاجة غريبة خلعت الحذاء فى مكانى بجانب المرآة ، وذهبت إلى غرفتى أحضر حذاء أخر للمقارنة ، عدت مرة أخرى بعد مدة لا تتجاوز الدقيقتين ، ثم صرخت واضعة يدى على فمى من هول المفاجأة .
- إيه ده ... مين اللى عمل كده ؟
أسرعت البنات على صرختى مهرولين ، بينما ألسنتهم مازالت تتلوى ببقايا طعام ، ثم ارتسمت الدهشة على وجوههن محدقين في الحذاء ، ساد الصمت بيننا ، لا أحد يتكلم ، يحدقون فى بعضهن البعض فى اندهاش ، الحذاء الجديد مقطع على هيئة دوائر ، دوائر متساوية جداً ! نظرت هند لى فى ذهول.
- إيه ده يا مريم ؟ إيه اللى قطع البووت كده ؟ .
- بتسألونى أنا ؟
أستدركت ياسمين وكأنها تنفى التهمة عنهن .
- والله ما نعرف ، إحنا مش قدامك فى المطبخ ، ثم إنه كان لسه فى إيدك حالا يا مريم وكنتى لابساه برضه حالا !
- أديكى قولتيها ، كنتم فى المطبخ ، مين بقى اللي عمل كده فيكوا بالمقص ؟
- تقصدى إيه يا مريم ، أنتى اتجننتى ؟ هنعمل كده ليه يعنى
- على سبيل الهزار التقيل مثلاً يا هند !
- إيه الكلام ده بس ! ده أنتى دخلتى جبتى البووت التانى من أوضتك ورجعتى تانى مسافة دقيقتين ، هنلحق نعمل كده فيه ؟
- معرفش يا ليلى ، عموما هو الموضوع مننا فينا وحسبى الله ونعم الوكيل فى اللى عملت كده.
أدرك تماماً أن نفس ليلى تنطوى على كثير من الغيرة ، لم أنس أنها أشترت عدة مرات نفس الأشياء التى أشتريتها أنا من قبل ، الغيرة تحركها ، وهى من اعترضت على أرتدائى إياه ، وجعلتنى أذهب إلى عرفتى مرة ثانية ، ولكن بما أن هذا الحذاء باهظ الثمن ، فلن تقدر على شراء مثيله ، فكان الحل فى اللاوعى هو تقطيعه فى غفلة من البنات ، إنها ببساطة لا تريد رؤية أى منا فى صورة أفضل منها ، لقد قرأت في علم النفس عن مثل حالتها ، مسكينة ، ولكن ما ذنبى أنا ؟
وفى هذا اليوم الغريب خرجنا إلى المطعم فى أجواء أغرب ، نظرات غير مريحة تنظرها كل منا للأخرى ، لن أتمكن من العيش هكذا ، يحب أن أعفو وأسامح ، مع توخى الحذر منهن جميعاً ، إذ كيف ائتمنهن بعد ذلك على نفسى ؟ لم نتحدث كثيراً كعادتنا ، خليط من الحزن والشك والحيرة يسبح بداخل كل منا ، من فعلت هذا ؟ كيف ؟ ومتى ؟ لاحظت نظرات الشك فى عيون كل منهن للأخرى ، ولكن الأهم من ذلك كله ، لماذا ؟ هل توجد بينهن من تكرهنى إلى هذا الحد ؟ لا .. لن أفكر كثيراً ، لقد أخذت حظي اليوم من الكآبة بوفرة ، لابد أن أرتاح كى لا أهلك مخى وأعصابى أكثر من هذا.
بعد أن أنهينا طعامنا ، ذهبنا إلى البيت مباشرة على غير عادتنا ، لم نعلق على شئ ، لم أجرؤ على لمس الحذاء ، تركته مكانه كى ترى من فعلت فعلتها مدى بشاعتها ، أنهينا طقوسنا المسائية من أستحمام وتبادل أخبار أحداث يومنا ، ولكن فى ميعاد مبكر استعدادا للنوم ، أو بمعنى أصح للخلوة ، عندما أغلقت باب غرفتى جلست وحيدة أفكر ، كاد عقلى ينفجر دون الوصول إلى معنى أو نتيجة شافية ! لماذا يا ليلى ؟ أتكرهننى إلى هذا الحد ؟ لم أدرك متى وكيف رحت فى ثبات عميق حتى ظهيرة اليوم التالي.
صرخت هند وبكت في غضب عارم ، علا صوتها بكلمات غير مفهومة في تشنج لم أستطع أن أتبينها ، ليس بحلم أستيقظت وهى تصرخ بالفعل فينا جميعاً ، فتحت علينا أبواب الغرف وأضاءت الأنوار وأستمرت في الصراخ .
- أنا لازم أعرف مين اللى عمل كده فيكوا بقى ؟!
حاولت عينى أن تستوعب الإضاءة الآتية من فوقى مباشرة بعد ظلام دام لساعات.
- وطى صوتك يا هند مش فاهمة حاجة ! حصل إيه ؟
- مين اللى قطعلى المحفظة الجلد بتاعتى كده ؟ دي مقصقصة !
ألقت بالمحفظة المصنوعة من الجلد الطبيعى {باهظة الثمن} في وجهى ، وسط ذهولى وذهول ليلى وياسمين المسرعتان وراءها من غرفتيهما ، بعد أن فزعاً من صراخ هند الذى لا يأخذ هدنة ، المحفظة مقطعة بنفس الطريقة التى قطع بها حذائى بالأمس ! الغالب إنها مقصوصة أيضاً ، لحظات الذهول الآتية من تخبط الأفكار تظهر مرة أخرى على أعيننا ، ما الذي يحدث ؟ من منا التى تجرؤ على فعل تلك الأفعال ؟ هل يمكن لسخافات صغيرة تصدر بين الحين والآخر هز إحدانا أن تكون مصدر إنتقام بكل هذا الغل !
نظرت إلى ليلى أحمل علامة استفهام ؟ ويقين أننا سوف نعرفها ، وعندها لن ندعها تعيش معنا لحظة واحدة ، لا شئ يدوم ، سوف تنكشف قريباً ، إلا أن عيون هند ظلت تتنقل بيننا فى شك.
- مبلمين يعنى؟ مين فيكم اللى بتعمل كده ؟
- دي متقطعة بنفس طريقة تقطيع البووت بتاعى ! كأنها ترنشات صغير ! إيه كل الغل ده ؟
أسرعت ليلى في ردها :- تقصدوا إيه بقى يعنى ؟ هقطع حاجتكوا ليه ؟
- انا ما وجهتلكيش الكلام ، بتردى ليه بقى؟
- أنتى از...........
- إيه يا بنات ، أنا بجد مش مصدقاكوا إزاي بتفكروا كده ؟ بس مين بس اللى يعمل كده ؟ مش قادرة أصدق!
أردفت ليلى :- جرى إيه يا ياسمين إنتى هاتخيبى إنتى كمان ولا إيه ؟
- بصوا بقى، أنا المحفظة دى كانت أكتر حاجة بحبها فى حاجتى، وكانت من أغلى الحاجات عندى، بحافظ عليها ومش بهلكها، اللى عملت كده فيكوا أنا مش هاسيبها.
خرجت هند من غرفتى ، ووراءها ليلى وياسمين فى تتابع على مهل وكأنهن يجررن أرجلهن من الصدمة، أغلقت الباب على نفسى للمرة الثانية ولم أدر ماذا افعل؟ كيف أفكر هذه المرة ؟ بالأمس كنت أتهمهن ، واليوم أنا فى عداد المتهمين ؟
على الأقل أعرف الآن أنها ليلى أو ياسمين ، وبالطبع ارشح ليلى بقوة ، فهى الوحيدة التى تغار من أى شئ ليس بحوزتها ، أو حتى لا تستطع شراءه ، الوقت سوف يثبت للجميع صحة تفكيرى ....
فى الأيام اللاحقة لهذه الأحداث، تغيرت أحوالنا، دخل الشك قلوبنا ولم يعد الأمان صديقا كما كنا من قبل، بل مجرد سكان نتشارك فى الأجزاء المتبقية من الشقة كالمطبخ والحمام، وبعض الأماكن التى نتحاشى فيها التلاقى مثل مكان المرآة التى نتزين أمامها قبيل مغادرة البيت، تزورنا صديقاتنا كل منا على حدة، نستقبلهم فى غرفة "السنترال" وقد أصبحت ملجأنا، نتحدث فى أدق تفاصيل أسرارنا،، حذرين أن تسمع أى واحدة من الأخريات تخوفاتنا وشكوكنا فى بعضنا البعض من فعلت فعلتها لا تتوب ولا تخاف، نقودى تسرق من المحفظة، الفئات الكبيرة فقط ! المبالغ الصغيرة باقية، أخبئ دوما فئات النقود الكبيرة بجيب خفى داخل محفظتى ومع ذلك تختفى النقود، من يعلم بهذا الجيب الخفى فى محفظتى ؟ لا احد يعلم ! لا أحد على الاطلاق ! لابد وأنها تراقبنى أو أنى نسيت، وفتحت المحفظة أمام إحداهن من قبل، ربما .. فقد كنت أستشعر كامل الأمان، ما كل هذا الخبث ؟
ذات يوم خرجت ليلى لتشترى حقيبة يد تشبه حقيبة ياسمين الجديدة، كانت قد ذكرت أنها أعجبتها عندما أشترتها ياسمين، عندما رجعت نظرت إليها ياسمين فى ريبة، رأيتهن من زاوية بعيدة دون أن أتدخل أو ترانى ياسمين، استفزتها نظراتها فسألت.
- فى إيه يا ياسمين ؟ اجيبلك صورة أحسن ؟
- أنا مش هرد عليكى، بس عيب كده، عيب اللي بتعمليه، الأول تقطعى بووت مريم وبعدين تقطعى محفظة هند، عشان نتلبخ فيهم وما نفكرش في حاجة تانية؟ دلوقتى بتسرقى فلوسنا ! لأ وإيه برافوا عليكى، الفكة مش مقامك، خشى على التقايل، حلوة الشنطة دى، مش غالية شويتين عليكى؟ ولا إيه؟ طب لما تسرقى مصروفى الشهرى أنا أعيش بإيه؟ ليه كده يا ليلى؟ ومع ذلك أنا مش هقول لهم يمكن ترجعى لعقلك وربنا يتوب عليكى ؟
تركتها ياسمين متجهة إلى غرفتها، أحست ليلى بدوار مفاجئ بعد أن كشف سرها، استندت إلى الحائط فى وهن إلى أن وصلت إلى غرفتها، تلاقت أعيننا فنظرت إليها بعتاب حقيقى ولم أنطق بكلمة واحدة، مع ذلك أسرعت لأسندها إلى غرقتها، رفضت بقوة وأزاحت يدى بعيداً وهى تبكى ! أعرف ظروفها المادية جيداً، وأعرف أنها مثل كل البنات، تريد أن ترتدى أحدث الملابس وأن تمتلك ما نمتلكه، لكن هذا لا يعطيها مبرراً لسرقتنا وخيانتنا.
وبدأت حقبة جديدة أعيشها فى قلق وشك، لا أفارق حقيبتى ليلاً أو نهاراً خشية السرقة المستمرة التى لا تتوقف، لكن رغم كل الظنون راودنى إحساس أن ردة فعل ليلى لا تنم على أنها الفاعلة، أعرف هذه النظرة العميقة في عينيها، نظرة مظلوم عز عليه تخوين الأصدقاء، فلم يستطع الدفاع ولم يقاوم إحساس المرارة، هل هذا ممكن؟ أم أنى طيبة القلب أكثر مما ينبغى؟ أحسست بالشفقة عليها وأحسست بالخجل من نفسى، من الأكيد أنها تغار ولكن من غير الممكن أن تسرق! ليست ليلى؟ كما أنها ليست بهذا الذكاء الذى يجعل منها مراقبة وسارقة محترفة، ليست ليلى ولا هند؟ هل من المعقول أن تكون ياسمين؟ وهى التى تشوه الحقائق حتى تنوء بنفسها عن الصورة الكبيرة؟ أم أن هند من فعلت بحذائى ما فعلت ثم قطعت محفظة نقودها لتنتفى الشبهات عنها تماماً؟
فى صباح اليوم التالى غادرت المنزل متجهة إلى الكلية، تخطيت بضعة حوارى وشوارع ضيقة حتى أصل إلى الشارع الرئيسى، مررت على دكان الحج أمين فوجدته مغلقاً، ثم رأيت "عماد" بالقرب منه، لا أعرف لماذا أحس بشعور مختلف تجاهه، أرغب فى التحدث معه، ربما فضولى الذى أعانى منه يريد أن يعرف أكثر عن هذه الشخصية المنطوية، أو ربما مجرد فراغ عاطفى.
تجاهلت إحساسى واستقللت تاكسى إلى الجامعة، أفكر كثيراً دون جدوى، تقترب المسافة من الجامعة. والذى تلزمنى التركيز لبضع ساعات يترتب عليها مستقبلى، وهديتى لأبى، يعلن السائق عن الوصول، أفتح حقيبتى التى لم تعد تفارقنى ليلاً نهاراً لأفتح المحفظة.
- معاك فكة ٢٠٠ لو سمحت ؟
أقولها بثقة قبل أن أفتح "السوستة الخفية" التى تأوى الفئات الكبيرة من النقود، فما أملك من فكة لن يكفى أجرة التاكسى.
- أشوفلك يا أبلة
لم أجد من النقود ، فقط بعض الفكة المنثورة.
- يا نهار اسود ؟
- فى حاجة يا أبلة ولا إيه ؟
- مش لاقية الفلوس ! أزاى بس يا ربى ؟
لم يعلق وأخذ ينظر نحوى فى ريبة، وأنا أنفض المحفظة والحقيبة بلا أمل، لملمت كل ما أملك من فكة حتى أكملت حقه، نزلت فى شرود مع ما تبقى من أعصاب إلى مبنى الكلية، لا أستطيع التركيز، ذهبت النقود كما تذهب الآشياء! أين تذهب؟ لم تمس أيد غريبة هذه الحقيبة! أنا شديدة التأكد من هذا! منذ أن بدأت نقودى فى الأختفاء، وأنا أضع حقيبتى بجانبى، حتى أثناء نومى المتقطع كى أشعر بأى أيد غريبة ؟ تذكرت .. إحداهن كانت بغرفتى ليلاً، نعم أنا متأكده، لكنى لم أكن أقوى على فتح عيناي، فقد كنت فى نعاس جاهدت لأحصل عليه، ونسيت أن أسألهم عندما أفقت، أم ترانى كنت أحلم ؟ هل أصاب عقلى شيئا ؟ هل أصابنا جميعاً مرض عقلى ؟
دخلت مبنى الجامعة لكنى لم أذهب لحضور أى محاضرات، ذهبت إلى مكان هادئ بالكلية يكاد لا يمر به طلبة إلا القليل، عند شجرة عجوز تنزوى بنفسها بعيداً عن الزحام، أردت أن التقط أنفاسى مستندة برأسى إليها، حاولت أن أتذكر ما أنفقته فربما كنت مخطئة، ووسط كل هذا رأيت "عماد" ماراً أمامى، وبدون أن أعى نادته رغبتى الداخلية التى لم أقاومها.
- عماد ..... عماد.
تنبه وأخذ ينظر حوله فصحت.
- عماد ... أنا مريم ... أنا هنا ... على شمالك
قمت وعبرت بضع خطوات لأكون بمقربة منه وأبتسمت، وكأننى نسيت ما بى من تشتت، لا أرى إلا عينيه، نظر لى فى حياء، وأبتسامة خافتة ووقف.
- إزيك يا مريم ؟
- الحمد لله ... أنت عامل إيه ؟
- الحمد لله.
أبتسم ونظر للأرض، وبدونا كحبيبين لمن يرى، أو هكذا تمنيت عندها لمحت بعض زميلاتى في الكلية عن بعد يحدقن بنا فلم أبال، وأكملت حديثى.
- أنا شفتك النهارده على فكرة بس كنت ماشى بسرعة وباصص فى الأرض قلت بلاش أنده عليك كان شكلك مستعجل.
- لا أوعى تعملى كده، أنتى عارفة المجتمع هنا مقفول ومبيفهموش البنات اللى زيك، خلى بالك تتفهمى غلط.
- عندك حق
- كان فى حاجة عايزة تقوليها ؟
- لا متشغلش بالك
- تعالى يا مريم ممكن نقعد مكان ما كنتى قاعدة ، أنا مش هعقد كتير ، قوليلى مين مضايقك ؟
- إيه عرفك إنى مضايقة !
- شكلك باين عليه
- بصراحة يا عماد بيحصل حاجات غريبة معايا، قصدى معانا كلنا
- إزاى؟
- فى واحدة من البنات حرامية ، مش عارفة يعنى الحرامية دى بانت على آخر السنة ليه ، بس مش كان المفروض تبان من زمان ؟!
- طيب واحدة واحدة احكيلى.
سردت له ما حدث ، بدا عليه الأهتمام والقلق لكنه لم يعطنى إجابة شافية.
- هااا ... إيه رأيك بقى ؟
- مش من البنات يا مريم
- يعنى عفريت ؟
- أنا مش هقدر أقول ده من إيه بالضبط ، بس كل اللى أقدر أقوله خلى بالك من نفسك كويس.
- حاضر
لم أقتنع بما قال عماد ، أحسست بشئ غامض لكننى أكتفيت بهذه الكلمة المريحة لجميع الأطراف {حاضر}.
- صحيح أنت هنا بتعمل إيه ؟
- خطيبتى بتدرس هنا فى آداب وساعات بعدى عليها.
- أنا آسفة جداً عطلتك معلش.
- لأ مفيش حاجة خالص ، أنا مش متأخر عليها أنا بجيلها بدرى عن ميعادها.
- يا بختها.
لا أعرف كيفية السيطرة على عقلى الباطن، كيف يحق لى قول شئ كهذا ؟ أبتسم عماد فى خجل كعادته وهم بالقيام.
- أنا همشى دلوقتى وهبقى أطمن عليكى
- صحيح أنا مش معايا رقم تليفونك.
- متقلقيش أنا هوصلك.
تفهمت خوفه على مشاعر خطيبته أو خوفه منها.
- طيب تمام.
- سلام وخلى بالك على نفسك وبلاش ثقة فى أى حد
- حاضر .
ودعته بأبتسامة خافتة ترسم أحباط لا أدرى ماهيته، ولا كيف تجرأ واقتحم الموقف؟ هل أحببته؟ ليس حد الحب بالتاكيد، لكنى كنت أريد التقرب وحسب، على الأقل الآن، على الأرجح تمنيت مثيله أو أردته سنداً لى، ربما فقدان أبى أحد الأسباب، أو كيمياء القلوب اللعينة، الأن لم يعد لدى أختيارات، فقط المضى قدماً ونسيان هذا الشعور السخيف كلما قابلته، كانت رؤيته كفيلة بإراحة عقلى مما يحدث فى البيت، على الأقل لساعتين من الزمن أو أكثر قليلاً.
في أحد الأيام نهضت من نوم مشوش غير مستقر، وبعد أن أغتسلت ذهبت إلى المطبخ أصنع الشاى بالحليب الصباحى، حملت الشاى خارج المطبخ وخرجت لأجد ياسمين أمامى تضع يدها على رقبتها وتنظر إلى فى ذهول.
- السلسلة الفضة بتاعتى اللى بحبها ، اللى كان فيها مصحف، فاكراها ؟
- مالها ؟
- ضاعت !
- تلاقيها هنا ولا هناك ، دورى عليها كويس.
- دورت .. قلبت الدنيا، أفهمى يا مريم، السلسلة كانت فى علبتها لحد أمبارح بالليل، وأنتى عارفه أنا بحبها قد إيه، وأنا باتفرج عليها أمبارح وبشيل الخواتم الفضة رحت لبستها ونمت، أنا متأكدة، لبستها ونمت، لما صحيت ملقيتهاش فى رقبتى !
- دورى فى هدومك يمكن القفل فلت ووقعت فيها.
- دورت يا مريم، نفضت نفسى ! قلعت هدومى ولبستها تانى !
- طيب تعالى معايا ندور فى الأوضة تانى يمكن وقعت ومشفتيهاش.
دخلنا الغرفة على أمل أن نجدها فلم يكن لها أثر، تبخر أملى بعد وقت لم أحسبه وأرتسمت علامات الحيرة والتساؤل على وجوهنا، كنا قد قطعنا أياماً بغير كلام، فقط تحيات عابرة مقتضبة، فى طريق ذهابها إلى المطبخ رأتنا هند داخل غرفة ياسمين. فنظرت إلينا وقررت أن تتحدث أخيراً.
- صباح الخير
- سلسلة ياسمين الفضة اللى بتحبها .. فاكراها ؟
- أنهى دى؟ آآآآه آه أفتكرتها، اللى فيها المصحف، مالها ؟
- ضاعت !
- إمتى ؟
جاوبتها ياسمين :- لبستها بالليل وصحيت مالقيتهاش فى رقبتى !
لم تجبنا هند مما آثار شكوكى وحيرتى للمرة المليون، فقط نظرت نظرة ذات مغزى وظلت تحدق فى الأرض طويلاً، ثم رحلت، لم تتناول إفطارها، فقط أرتدت ملابسها وبعد دقائق كانت بالخارج، لم نفهم تصرفها، لم تتكلم، أتراها تعرف شيئاً ؟ أم أنها تذكرت شيئا آخر، مرت علينا ليلى وكأنها لا ترانى، فقط ألقت تحية الصباح على ياسمين وذهبت إلى المطبخ ثم إلى غرفتها، وأغلقت بابها !
لا أستطيع أن أفهم أو أستوعب ما يحدث الآن ! تبدلت أحوالنا، ليست ياسمين إذن ! هل هى ليلى؟ ام أصابتنا هلوسة وأصبحنا نسرق بعضنا البعض؟ من فيهن ياترى تلك الممثلة البارعة؟ أين ذهبت هند؟
ذهبت أنا الأخرى إلى غرفتى، أعد ما تبقى من نقود وما أمتلكه من أشياء فى قنا، ما بال الأشياء تختفى فجأة ولا تعود؟ أين تذهب ومن التى تأخذها ولماذا؟ هل نفحص الحقائب إذن؟ أفحص حقائبى أنا أولهم، لعلى مصابة بمرض عقلى يجعلنى أسرق ولا أشعر؟ لابد أن أعرف الحقيقة.
تمنيت لو أن أسمع صوت عماد أو أقابله حينها، ففى وجوده ترتاح نفسى وتستقر، وكأنه قد خدر كل ما بعقلى وقلبى من قلق، حتى ولو فترة قصيرة من الوقت....
مرت ٢٠١٠ بسلام ، وبدأت ٢٠١١ ، تمضى الأيام رتيبة فى سلام ، كصفحة ماء هادئة حمدت الله عليه ، قد يكون الروتين مملاً حد الكآبة أحياناً ، لكنه بلا شك أكثر أمانا واستقراًرا ، لم تخل أوقاتنا من الضحك في أحلك الظروف ، ضحكتنا هى أقرب ردود أفعالنا حتى فى المصائب ، لا شئ يمر دون أن نسخر منه ، شعارنا الأوحد {محدش واخد منها حاجة} .
كنت أتحدث إلى شقيقتى "ريهام" عصر أحد الأيام فى السنترال ، وعندما أنتهيت من المكالمة لاحظت أن الصندوق الأثرى بالغرفة مفتوح ، والقفل الأثرى مفقود ، أقتربت فى وجل وفتحت الصندوق ، بداخله سيف فضى ، طمست معالمه أكوام تراب ملتصقة به ، عليه آيات قرآنيه غير واضحة ، قطعة قماش مهترئة ، شموع مستخدمة ، كتاب وأوراق قديمة بها رسوم هندسية ، منديل من قماش ملفوف ومربوط بخيط سميك ، لونه بنى عتيق ، آثرت ألا أفتحه ، وحذاء حريمى أبيض اللون ذو كعب عالى ، كأنه لعرس ، الحذاء قديم لكن أنيق ، من الواضح أنه لم يستعمل قط ، انتعلت الحذاء ، وتمشيت به كطاووس إلى أن ذهبت للمرآة في مدخل الشقة ، رأيته جميلاً فأحببته ، سولت إلى نفسى اقتناءه ، لكنى تذكرت الأمانة فذهبت مرة أخرى إلى الصندوق ، سوف أقص على الحجة "سعاد" ما مررنا به بكل تاكيد ، لكن فى كل الأحوال لن أجرؤ أن أقول لها فتحنا الغرفة ، وبعثرنا ممتلكاتك الخاصة !
خلعت الحذاء وقد اشتهته نفسى رغم قدمه ، لا أعرف لماذا ، وضعته مكانه فى الصندوق وأغلقته ، لكن يبقى السؤال ، أين القفل الأثرى ؟
من أستطاع أن يفتح القفل العتيق ، يستطيع أن يفعل أى شئ ، ورغم أن محتوياته لا تحث على السرقة لعدم نفعها ، إلا أنى قررت أن أنقل ما تبقى من الأمانة التى اضطرتنى الظروف أن أحملها إلى غرفتى كى تكون بمأمن .
بعدها بأيام وأثناء مرورى بأحد المحلات ، أغرمت بحذاء وكان الحب من طرف واحد من وراء فاترينة ، أنا العاشقة للموضة أينما كنت ، عقدت العزم على الادخار حتى استطيع شرائه ، فقد كان باهظ الثمن ، بعدها بأيام اقتنيته ، احب حاجياتى وأحافظ عليها من التلف ، ادخرته لأقرب نزهة قادمة ، بعد أن رأيت الغيرة المتعارف عليها فى عينى ليلى ، والتى نتجاهلها جميعاً ، فأنا أعلم الأختيار بين التغاضى عن عيوب الأصدقاء والتعايش معها ، أو نبقى منعزلين .
وفى يوم من الأيام التى نوينا تناول غدائنا بأحد المطاعم ، تأنقت كعادتى وبقى أرتداء الحذاء الجديد ، أنتظرت أرتداءه ، كما لو أنى مازلت طفلة تنتظر قدوم فجر العيد ، انفردت به فى شهوة أعرفها ، ثم أرتديته بتأن ، لامست جلده الطبيعى الناعم بسعادة ، وذهبت إلى المرآة بغرفة الإستقبال ، تتنقل البنات بين غرفة الإستقبال والمطبخ ، إلى أن استقررن فى المطبخ يلتهمن ما فيه من بقايا طعام كمشهيات قبل الغداء ، تأملت الحذاء مزهوة بنفسى وسألتهن .
- حلو يا بنات ؟
ردت ياسمين بتلقائية :- جميل يا مريم .
- طب حلو على المونتوه ؟
في غيرة واضحة جاء رد ليلى :- لأ يا مريم مش لايق على اللبس ده ، غيريه يا شيخة
فى سذاجة غريبة خلعت الحذاء فى مكانى بجانب المرآة ، وذهبت إلى غرفتى أحضر حذاء أخر للمقارنة ، عدت مرة أخرى بعد مدة لا تتجاوز الدقيقتين ، ثم صرخت واضعة يدى على فمى من هول المفاجأة .
- إيه ده ... مين اللى عمل كده ؟
أسرعت البنات على صرختى مهرولين ، بينما ألسنتهم مازالت تتلوى ببقايا طعام ، ثم ارتسمت الدهشة على وجوههن محدقين في الحذاء ، ساد الصمت بيننا ، لا أحد يتكلم ، يحدقون فى بعضهن البعض فى اندهاش ، الحذاء الجديد مقطع على هيئة دوائر ، دوائر متساوية جداً ! نظرت هند لى فى ذهول.
- إيه ده يا مريم ؟ إيه اللى قطع البووت كده ؟ .
- بتسألونى أنا ؟
أستدركت ياسمين وكأنها تنفى التهمة عنهن .
- والله ما نعرف ، إحنا مش قدامك فى المطبخ ، ثم إنه كان لسه فى إيدك حالا يا مريم وكنتى لابساه برضه حالا !
- أديكى قولتيها ، كنتم فى المطبخ ، مين بقى اللي عمل كده فيكوا بالمقص ؟
- تقصدى إيه يا مريم ، أنتى اتجننتى ؟ هنعمل كده ليه يعنى
- على سبيل الهزار التقيل مثلاً يا هند !
- إيه الكلام ده بس ! ده أنتى دخلتى جبتى البووت التانى من أوضتك ورجعتى تانى مسافة دقيقتين ، هنلحق نعمل كده فيه ؟
- معرفش يا ليلى ، عموما هو الموضوع مننا فينا وحسبى الله ونعم الوكيل فى اللى عملت كده.
أدرك تماماً أن نفس ليلى تنطوى على كثير من الغيرة ، لم أنس أنها أشترت عدة مرات نفس الأشياء التى أشتريتها أنا من قبل ، الغيرة تحركها ، وهى من اعترضت على أرتدائى إياه ، وجعلتنى أذهب إلى عرفتى مرة ثانية ، ولكن بما أن هذا الحذاء باهظ الثمن ، فلن تقدر على شراء مثيله ، فكان الحل فى اللاوعى هو تقطيعه فى غفلة من البنات ، إنها ببساطة لا تريد رؤية أى منا فى صورة أفضل منها ، لقد قرأت في علم النفس عن مثل حالتها ، مسكينة ، ولكن ما ذنبى أنا ؟
وفى هذا اليوم الغريب خرجنا إلى المطعم فى أجواء أغرب ، نظرات غير مريحة تنظرها كل منا للأخرى ، لن أتمكن من العيش هكذا ، يحب أن أعفو وأسامح ، مع توخى الحذر منهن جميعاً ، إذ كيف ائتمنهن بعد ذلك على نفسى ؟ لم نتحدث كثيراً كعادتنا ، خليط من الحزن والشك والحيرة يسبح بداخل كل منا ، من فعلت هذا ؟ كيف ؟ ومتى ؟ لاحظت نظرات الشك فى عيون كل منهن للأخرى ، ولكن الأهم من ذلك كله ، لماذا ؟ هل توجد بينهن من تكرهنى إلى هذا الحد ؟ لا .. لن أفكر كثيراً ، لقد أخذت حظي اليوم من الكآبة بوفرة ، لابد أن أرتاح كى لا أهلك مخى وأعصابى أكثر من هذا.
بعد أن أنهينا طعامنا ، ذهبنا إلى البيت مباشرة على غير عادتنا ، لم نعلق على شئ ، لم أجرؤ على لمس الحذاء ، تركته مكانه كى ترى من فعلت فعلتها مدى بشاعتها ، أنهينا طقوسنا المسائية من أستحمام وتبادل أخبار أحداث يومنا ، ولكن فى ميعاد مبكر استعدادا للنوم ، أو بمعنى أصح للخلوة ، عندما أغلقت باب غرفتى جلست وحيدة أفكر ، كاد عقلى ينفجر دون الوصول إلى معنى أو نتيجة شافية ! لماذا يا ليلى ؟ أتكرهننى إلى هذا الحد ؟ لم أدرك متى وكيف رحت فى ثبات عميق حتى ظهيرة اليوم التالي.
صرخت هند وبكت في غضب عارم ، علا صوتها بكلمات غير مفهومة في تشنج لم أستطع أن أتبينها ، ليس بحلم أستيقظت وهى تصرخ بالفعل فينا جميعاً ، فتحت علينا أبواب الغرف وأضاءت الأنوار وأستمرت في الصراخ .
- أنا لازم أعرف مين اللى عمل كده فيكوا بقى ؟!
حاولت عينى أن تستوعب الإضاءة الآتية من فوقى مباشرة بعد ظلام دام لساعات.
- وطى صوتك يا هند مش فاهمة حاجة ! حصل إيه ؟
- مين اللى قطعلى المحفظة الجلد بتاعتى كده ؟ دي مقصقصة !
ألقت بالمحفظة المصنوعة من الجلد الطبيعى {باهظة الثمن} في وجهى ، وسط ذهولى وذهول ليلى وياسمين المسرعتان وراءها من غرفتيهما ، بعد أن فزعاً من صراخ هند الذى لا يأخذ هدنة ، المحفظة مقطعة بنفس الطريقة التى قطع بها حذائى بالأمس ! الغالب إنها مقصوصة أيضاً ، لحظات الذهول الآتية من تخبط الأفكار تظهر مرة أخرى على أعيننا ، ما الذي يحدث ؟ من منا التى تجرؤ على فعل تلك الأفعال ؟ هل يمكن لسخافات صغيرة تصدر بين الحين والآخر هز إحدانا أن تكون مصدر إنتقام بكل هذا الغل !
نظرت إلى ليلى أحمل علامة استفهام ؟ ويقين أننا سوف نعرفها ، وعندها لن ندعها تعيش معنا لحظة واحدة ، لا شئ يدوم ، سوف تنكشف قريباً ، إلا أن عيون هند ظلت تتنقل بيننا فى شك.
- مبلمين يعنى؟ مين فيكم اللى بتعمل كده ؟
- دي متقطعة بنفس طريقة تقطيع البووت بتاعى ! كأنها ترنشات صغير ! إيه كل الغل ده ؟
أسرعت ليلى في ردها :- تقصدوا إيه بقى يعنى ؟ هقطع حاجتكوا ليه ؟
- انا ما وجهتلكيش الكلام ، بتردى ليه بقى؟
- أنتى از...........
- إيه يا بنات ، أنا بجد مش مصدقاكوا إزاي بتفكروا كده ؟ بس مين بس اللى يعمل كده ؟ مش قادرة أصدق!
أردفت ليلى :- جرى إيه يا ياسمين إنتى هاتخيبى إنتى كمان ولا إيه ؟
- بصوا بقى، أنا المحفظة دى كانت أكتر حاجة بحبها فى حاجتى، وكانت من أغلى الحاجات عندى، بحافظ عليها ومش بهلكها، اللى عملت كده فيكوا أنا مش هاسيبها.
خرجت هند من غرفتى ، ووراءها ليلى وياسمين فى تتابع على مهل وكأنهن يجررن أرجلهن من الصدمة، أغلقت الباب على نفسى للمرة الثانية ولم أدر ماذا افعل؟ كيف أفكر هذه المرة ؟ بالأمس كنت أتهمهن ، واليوم أنا فى عداد المتهمين ؟
على الأقل أعرف الآن أنها ليلى أو ياسمين ، وبالطبع ارشح ليلى بقوة ، فهى الوحيدة التى تغار من أى شئ ليس بحوزتها ، أو حتى لا تستطع شراءه ، الوقت سوف يثبت للجميع صحة تفكيرى ....
فى الأيام اللاحقة لهذه الأحداث، تغيرت أحوالنا، دخل الشك قلوبنا ولم يعد الأمان صديقا كما كنا من قبل، بل مجرد سكان نتشارك فى الأجزاء المتبقية من الشقة كالمطبخ والحمام، وبعض الأماكن التى نتحاشى فيها التلاقى مثل مكان المرآة التى نتزين أمامها قبيل مغادرة البيت، تزورنا صديقاتنا كل منا على حدة، نستقبلهم فى غرفة "السنترال" وقد أصبحت ملجأنا، نتحدث فى أدق تفاصيل أسرارنا،، حذرين أن تسمع أى واحدة من الأخريات تخوفاتنا وشكوكنا فى بعضنا البعض من فعلت فعلتها لا تتوب ولا تخاف، نقودى تسرق من المحفظة، الفئات الكبيرة فقط ! المبالغ الصغيرة باقية، أخبئ دوما فئات النقود الكبيرة بجيب خفى داخل محفظتى ومع ذلك تختفى النقود، من يعلم بهذا الجيب الخفى فى محفظتى ؟ لا احد يعلم ! لا أحد على الاطلاق ! لابد وأنها تراقبنى أو أنى نسيت، وفتحت المحفظة أمام إحداهن من قبل، ربما .. فقد كنت أستشعر كامل الأمان، ما كل هذا الخبث ؟
ذات يوم خرجت ليلى لتشترى حقيبة يد تشبه حقيبة ياسمين الجديدة، كانت قد ذكرت أنها أعجبتها عندما أشترتها ياسمين، عندما رجعت نظرت إليها ياسمين فى ريبة، رأيتهن من زاوية بعيدة دون أن أتدخل أو ترانى ياسمين، استفزتها نظراتها فسألت.
- فى إيه يا ياسمين ؟ اجيبلك صورة أحسن ؟
- أنا مش هرد عليكى، بس عيب كده، عيب اللي بتعمليه، الأول تقطعى بووت مريم وبعدين تقطعى محفظة هند، عشان نتلبخ فيهم وما نفكرش في حاجة تانية؟ دلوقتى بتسرقى فلوسنا ! لأ وإيه برافوا عليكى، الفكة مش مقامك، خشى على التقايل، حلوة الشنطة دى، مش غالية شويتين عليكى؟ ولا إيه؟ طب لما تسرقى مصروفى الشهرى أنا أعيش بإيه؟ ليه كده يا ليلى؟ ومع ذلك أنا مش هقول لهم يمكن ترجعى لعقلك وربنا يتوب عليكى ؟
تركتها ياسمين متجهة إلى غرفتها، أحست ليلى بدوار مفاجئ بعد أن كشف سرها، استندت إلى الحائط فى وهن إلى أن وصلت إلى غرفتها، تلاقت أعيننا فنظرت إليها بعتاب حقيقى ولم أنطق بكلمة واحدة، مع ذلك أسرعت لأسندها إلى غرقتها، رفضت بقوة وأزاحت يدى بعيداً وهى تبكى ! أعرف ظروفها المادية جيداً، وأعرف أنها مثل كل البنات، تريد أن ترتدى أحدث الملابس وأن تمتلك ما نمتلكه، لكن هذا لا يعطيها مبرراً لسرقتنا وخيانتنا.
وبدأت حقبة جديدة أعيشها فى قلق وشك، لا أفارق حقيبتى ليلاً أو نهاراً خشية السرقة المستمرة التى لا تتوقف، لكن رغم كل الظنون راودنى إحساس أن ردة فعل ليلى لا تنم على أنها الفاعلة، أعرف هذه النظرة العميقة في عينيها، نظرة مظلوم عز عليه تخوين الأصدقاء، فلم يستطع الدفاع ولم يقاوم إحساس المرارة، هل هذا ممكن؟ أم أنى طيبة القلب أكثر مما ينبغى؟ أحسست بالشفقة عليها وأحسست بالخجل من نفسى، من الأكيد أنها تغار ولكن من غير الممكن أن تسرق! ليست ليلى؟ كما أنها ليست بهذا الذكاء الذى يجعل منها مراقبة وسارقة محترفة، ليست ليلى ولا هند؟ هل من المعقول أن تكون ياسمين؟ وهى التى تشوه الحقائق حتى تنوء بنفسها عن الصورة الكبيرة؟ أم أن هند من فعلت بحذائى ما فعلت ثم قطعت محفظة نقودها لتنتفى الشبهات عنها تماماً؟
فى صباح اليوم التالى غادرت المنزل متجهة إلى الكلية، تخطيت بضعة حوارى وشوارع ضيقة حتى أصل إلى الشارع الرئيسى، مررت على دكان الحج أمين فوجدته مغلقاً، ثم رأيت "عماد" بالقرب منه، لا أعرف لماذا أحس بشعور مختلف تجاهه، أرغب فى التحدث معه، ربما فضولى الذى أعانى منه يريد أن يعرف أكثر عن هذه الشخصية المنطوية، أو ربما مجرد فراغ عاطفى.
تجاهلت إحساسى واستقللت تاكسى إلى الجامعة، أفكر كثيراً دون جدوى، تقترب المسافة من الجامعة. والذى تلزمنى التركيز لبضع ساعات يترتب عليها مستقبلى، وهديتى لأبى، يعلن السائق عن الوصول، أفتح حقيبتى التى لم تعد تفارقنى ليلاً نهاراً لأفتح المحفظة.
- معاك فكة ٢٠٠ لو سمحت ؟
أقولها بثقة قبل أن أفتح "السوستة الخفية" التى تأوى الفئات الكبيرة من النقود، فما أملك من فكة لن يكفى أجرة التاكسى.
- أشوفلك يا أبلة
لم أجد من النقود ، فقط بعض الفكة المنثورة.
- يا نهار اسود ؟
- فى حاجة يا أبلة ولا إيه ؟
- مش لاقية الفلوس ! أزاى بس يا ربى ؟
لم يعلق وأخذ ينظر نحوى فى ريبة، وأنا أنفض المحفظة والحقيبة بلا أمل، لملمت كل ما أملك من فكة حتى أكملت حقه، نزلت فى شرود مع ما تبقى من أعصاب إلى مبنى الكلية، لا أستطيع التركيز، ذهبت النقود كما تذهب الآشياء! أين تذهب؟ لم تمس أيد غريبة هذه الحقيبة! أنا شديدة التأكد من هذا! منذ أن بدأت نقودى فى الأختفاء، وأنا أضع حقيبتى بجانبى، حتى أثناء نومى المتقطع كى أشعر بأى أيد غريبة ؟ تذكرت .. إحداهن كانت بغرفتى ليلاً، نعم أنا متأكده، لكنى لم أكن أقوى على فتح عيناي، فقد كنت فى نعاس جاهدت لأحصل عليه، ونسيت أن أسألهم عندما أفقت، أم ترانى كنت أحلم ؟ هل أصاب عقلى شيئا ؟ هل أصابنا جميعاً مرض عقلى ؟
دخلت مبنى الجامعة لكنى لم أذهب لحضور أى محاضرات، ذهبت إلى مكان هادئ بالكلية يكاد لا يمر به طلبة إلا القليل، عند شجرة عجوز تنزوى بنفسها بعيداً عن الزحام، أردت أن التقط أنفاسى مستندة برأسى إليها، حاولت أن أتذكر ما أنفقته فربما كنت مخطئة، ووسط كل هذا رأيت "عماد" ماراً أمامى، وبدون أن أعى نادته رغبتى الداخلية التى لم أقاومها.
- عماد ..... عماد.
تنبه وأخذ ينظر حوله فصحت.
- عماد ... أنا مريم ... أنا هنا ... على شمالك
قمت وعبرت بضع خطوات لأكون بمقربة منه وأبتسمت، وكأننى نسيت ما بى من تشتت، لا أرى إلا عينيه، نظر لى فى حياء، وأبتسامة خافتة ووقف.
- إزيك يا مريم ؟
- الحمد لله ... أنت عامل إيه ؟
- الحمد لله.
أبتسم ونظر للأرض، وبدونا كحبيبين لمن يرى، أو هكذا تمنيت عندها لمحت بعض زميلاتى في الكلية عن بعد يحدقن بنا فلم أبال، وأكملت حديثى.
- أنا شفتك النهارده على فكرة بس كنت ماشى بسرعة وباصص فى الأرض قلت بلاش أنده عليك كان شكلك مستعجل.
- لا أوعى تعملى كده، أنتى عارفة المجتمع هنا مقفول ومبيفهموش البنات اللى زيك، خلى بالك تتفهمى غلط.
- عندك حق
- كان فى حاجة عايزة تقوليها ؟
- لا متشغلش بالك
- تعالى يا مريم ممكن نقعد مكان ما كنتى قاعدة ، أنا مش هعقد كتير ، قوليلى مين مضايقك ؟
- إيه عرفك إنى مضايقة !
- شكلك باين عليه
- بصراحة يا عماد بيحصل حاجات غريبة معايا، قصدى معانا كلنا
- إزاى؟
- فى واحدة من البنات حرامية ، مش عارفة يعنى الحرامية دى بانت على آخر السنة ليه ، بس مش كان المفروض تبان من زمان ؟!
- طيب واحدة واحدة احكيلى.
سردت له ما حدث ، بدا عليه الأهتمام والقلق لكنه لم يعطنى إجابة شافية.
- هااا ... إيه رأيك بقى ؟
- مش من البنات يا مريم
- يعنى عفريت ؟
- أنا مش هقدر أقول ده من إيه بالضبط ، بس كل اللى أقدر أقوله خلى بالك من نفسك كويس.
- حاضر
لم أقتنع بما قال عماد ، أحسست بشئ غامض لكننى أكتفيت بهذه الكلمة المريحة لجميع الأطراف {حاضر}.
- صحيح أنت هنا بتعمل إيه ؟
- خطيبتى بتدرس هنا فى آداب وساعات بعدى عليها.
- أنا آسفة جداً عطلتك معلش.
- لأ مفيش حاجة خالص ، أنا مش متأخر عليها أنا بجيلها بدرى عن ميعادها.
- يا بختها.
لا أعرف كيفية السيطرة على عقلى الباطن، كيف يحق لى قول شئ كهذا ؟ أبتسم عماد فى خجل كعادته وهم بالقيام.
- أنا همشى دلوقتى وهبقى أطمن عليكى
- صحيح أنا مش معايا رقم تليفونك.
- متقلقيش أنا هوصلك.
تفهمت خوفه على مشاعر خطيبته أو خوفه منها.
- طيب تمام.
- سلام وخلى بالك على نفسك وبلاش ثقة فى أى حد
- حاضر .
ودعته بأبتسامة خافتة ترسم أحباط لا أدرى ماهيته، ولا كيف تجرأ واقتحم الموقف؟ هل أحببته؟ ليس حد الحب بالتاكيد، لكنى كنت أريد التقرب وحسب، على الأقل الآن، على الأرجح تمنيت مثيله أو أردته سنداً لى، ربما فقدان أبى أحد الأسباب، أو كيمياء القلوب اللعينة، الأن لم يعد لدى أختيارات، فقط المضى قدماً ونسيان هذا الشعور السخيف كلما قابلته، كانت رؤيته كفيلة بإراحة عقلى مما يحدث فى البيت، على الأقل لساعتين من الزمن أو أكثر قليلاً.
في أحد الأيام نهضت من نوم مشوش غير مستقر، وبعد أن أغتسلت ذهبت إلى المطبخ أصنع الشاى بالحليب الصباحى، حملت الشاى خارج المطبخ وخرجت لأجد ياسمين أمامى تضع يدها على رقبتها وتنظر إلى فى ذهول.
- السلسلة الفضة بتاعتى اللى بحبها ، اللى كان فيها مصحف، فاكراها ؟
- مالها ؟
- ضاعت !
- تلاقيها هنا ولا هناك ، دورى عليها كويس.
- دورت .. قلبت الدنيا، أفهمى يا مريم، السلسلة كانت فى علبتها لحد أمبارح بالليل، وأنتى عارفه أنا بحبها قد إيه، وأنا باتفرج عليها أمبارح وبشيل الخواتم الفضة رحت لبستها ونمت، أنا متأكدة، لبستها ونمت، لما صحيت ملقيتهاش فى رقبتى !
- دورى فى هدومك يمكن القفل فلت ووقعت فيها.
- دورت يا مريم، نفضت نفسى ! قلعت هدومى ولبستها تانى !
- طيب تعالى معايا ندور فى الأوضة تانى يمكن وقعت ومشفتيهاش.
دخلنا الغرفة على أمل أن نجدها فلم يكن لها أثر، تبخر أملى بعد وقت لم أحسبه وأرتسمت علامات الحيرة والتساؤل على وجوهنا، كنا قد قطعنا أياماً بغير كلام، فقط تحيات عابرة مقتضبة، فى طريق ذهابها إلى المطبخ رأتنا هند داخل غرفة ياسمين. فنظرت إلينا وقررت أن تتحدث أخيراً.
- صباح الخير
- سلسلة ياسمين الفضة اللى بتحبها .. فاكراها ؟
- أنهى دى؟ آآآآه آه أفتكرتها، اللى فيها المصحف، مالها ؟
- ضاعت !
- إمتى ؟
جاوبتها ياسمين :- لبستها بالليل وصحيت مالقيتهاش فى رقبتى !
لم تجبنا هند مما آثار شكوكى وحيرتى للمرة المليون، فقط نظرت نظرة ذات مغزى وظلت تحدق فى الأرض طويلاً، ثم رحلت، لم تتناول إفطارها، فقط أرتدت ملابسها وبعد دقائق كانت بالخارج، لم نفهم تصرفها، لم تتكلم، أتراها تعرف شيئاً ؟ أم أنها تذكرت شيئا آخر، مرت علينا ليلى وكأنها لا ترانى، فقط ألقت تحية الصباح على ياسمين وذهبت إلى المطبخ ثم إلى غرفتها، وأغلقت بابها !
لا أستطيع أن أفهم أو أستوعب ما يحدث الآن ! تبدلت أحوالنا، ليست ياسمين إذن ! هل هى ليلى؟ ام أصابتنا هلوسة وأصبحنا نسرق بعضنا البعض؟ من فيهن ياترى تلك الممثلة البارعة؟ أين ذهبت هند؟
ذهبت أنا الأخرى إلى غرفتى، أعد ما تبقى من نقود وما أمتلكه من أشياء فى قنا، ما بال الأشياء تختفى فجأة ولا تعود؟ أين تذهب ومن التى تأخذها ولماذا؟ هل نفحص الحقائب إذن؟ أفحص حقائبى أنا أولهم، لعلى مصابة بمرض عقلى يجعلنى أسرق ولا أشعر؟ لابد أن أعرف الحقيقة.
تمنيت لو أن أسمع صوت عماد أو أقابله حينها، ففى وجوده ترتاح نفسى وتستقر، وكأنه قد خدر كل ما بعقلى وقلبى من قلق، حتى ولو فترة قصيرة من الوقت....
تعليقات
إرسال تعليق