الطريق الي النور
الحلقتان 33 / 34
( الحلقة/ 33) ودخل وحى السماء بيت خديجة !!
وينطلق الرسول إلى داره وقد مسه الفزع، وتراه خديجة في حال يصعب عليها أن تراه في مثله، فازداد قلقها، وخرجت الكلمات من النبي صلوات ربى وسلامه عليه متقطعة مرتجفة : زملوني زملوني . فغطته خديجة، وانتظرت حتى يتمالك نفسه وقالت : خبرني يا محمد ماذا أصابك ؟ . وإن هي إلا لحظات، وانطلق الكلام من فم الرسول، يسرد ما دار في ليلته تلك . قالت خديجة : لعلك خشيت أن يكون أصابك شيء . قال عليه الصلاة والسلام : نعم . قالت خديجة : لا والله، ما يصيبك شيء، إنك تصل الرحم وتعين الضعيف، وتمنع المكروب، وتعين ذي الحاجة .
وتهرع خديجة إلى بيت ابن عمها الشيخ الكبير – ورقة بن نوفل – الذي طوَّف البلاد، وقرأ الأديان، وخبر أمر الرسالات، ما جعله ملاذاً لخديجة في هذا الظرف .. كاهن العرب، درس الإنجيل والتوراة، وكان ورقة إذا جاء بيت خديجة زائراً، ورأى محمداً غض بصره و لا يتكلم معه إلا وعينه على الأرض، وإذا أراد السؤال على محمد، كان يناديه بكلمة – قدوس – استشف ورقة في محمد نبوة منذ أن دخل بيت خديجة – وتحكي له خديجة ما سمعته من محمد، ويرد ورقة كأنما طال انتظاره لسماع هذا : والله يا خديجة إنك لتمسين قلبي بهذا الذي جئتني به مساً يتوق إليه منذ زمن، ويتشوق إليه في كل ساعة من ساعات الليل والنهار .. قالت خديجة : فما تقول في هذا يا عم، فإني والله منذ قال لي محمد ما قال، ما يستقر قلبي من الإشفاق والخوف .. قال ورقة : يا خديجة ليهدأ قلبك، ولتطمئن نفسك، إنها والله اللحظة التي طال انتظار السماء والأرض لها .
قالت خديجة : الأرض والسماء تنتظران ذلك الهاتف الذي هتف بمحمد .
قال ورقة : أجل يا خديجة، لا أحد في مكة لا يعرف حب محمد للعزلة، وميله إلى الإنزواء في غار حراء .
قالت خديجة : وإنه ليقضي رمضان كله، يأخذ طعامه وشرابه، حتى إذا فرغ ما معه واحتاج إلى سواه، عاد إلى مكة أو أرسلت له الغلمان بما أعددت له من الكعك والزيت ما يكفيه أياماً أخرى في الغار – قال ورقة : إن هذه طبيعة ركبَّها الله فيمن يعده لأمر يريده – قالت خديجة والدهشة تسربلها : الله يُعد محمداً لأمر يريده ؟ . قال ورقة وقد دفعه الشوق لسماع ما سمع مرة أخرى عساه يتبين ما لم يتبينه : خديجة . أعيدي عليِّ ما قلتِ .
قالت خديجة : قال لي محمد « إنه كان ذاهباً ذلك اليوم إلى الغار كما اعتاد أن يذهب فيما هو يصعد في جبل، سمع صوتاً يناديه : يا محمد،يا محمد . فتلفت حوله فلم ير شيئاً، فأخذه شيء من الروع، ثم استرد جأشه حتى سمع الصائح يناديه من جديد : يا محمد . وفي هذه المرة ألقي عليه السلام: السلام عليك يا محمد » .
قال ورقة : ولم ير هذا الذي كان يناديه – قالت خديجة : لم يره حتى كانت البارحة، كان ساجداً لربه في الغار فجاءه رجل بنمط من ديباج أبيض فقال له : " اقرأ . فقال محمد في خوف : ما أنا بقارئ " فحبس نفسه حتى ظن زوجي أنه الموت، ثم أرسله وفعل به ثلاث مرات، في الثالثة أرسله وقال له ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) . فقرأها محمد وكأنما كُتبت في قلبه كتاباً .
قال ورقة : والذي نفسى ورقة بيده يا خديجة، لقد جاء لمحمدٍ ما كان يأتي الأنبياء – جبريل عليه السلام - ولقد نُبئ محمد منذ جاء – قالت خديجة في ذهول : محمد الأمين نبي ؟ . قال ورقة : عجبت لأمركِ يا خديجة !! . أتدرين ماهية النبوة ؟ . قالت خديجة : وكيف لا أدري وأنا من بيت يعني أشد العناية بالدين، فعمنا – عمرو بن أسد – كان من أصدقاء – زيد بن نوفل – وتطهر مثله، وباعد الأصنام، وأنت يا ابن العم منذ وعيت وأنت على تنصرك، فكيف لا أدرك علامات السماء، وما أراها إلا وقد انسجمت مع محمد بن عبد الله الأمين الصادق الطاهر، الذي يصل الرحم، ويصدق القول، ويحمل الكلأ، ويكسب المعدوم، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، فما سجد لصنم قط، ولا قرب لتمثال وما تعبد لغير الله منذ كان طفلاً – قال ورقة وقد بدا على ملامحه مسحة حزن : ما جاء أحد إلى قومه بمثل ما يقول محمد، إلا وكذبوه، وحاربوه، وليكذبن زوجك، وليؤذين، وليخرجن وليقاتلن – قالت خديجة : وهي فزعة : تقاتله قريش لأنه يقول ربي الله ؟ .
قال ورقة : أجل ولئن أبقاني الله حتى تلك الساعة، لأنصرن الله نصراً يعرفه، وانساب لسان ورقة بن نوفل العارف بالله، العالم بأمر الرسالات، انساب لسانه ينشد شعراً أطلق القلب له العنان .
فإن يك حــقاً يا خديجة فاعلمي حـديثـك إيانـا فـأحـمد مـرسـل
وجـبريل يأتيه وميـكال معهمـا من الله وحي يشرح الصدر منزل
يفـوز بـه مـن فـاز فيهـا بتـوبة ويشـقى به العاني الغرير المضلل
فـريقان منهـم فـرقـة في جنـانه وأخـرى بأحواز الجحيم تعــلل
إذا ما دعـوا بالويل فيها تتابعت مقـامع في هـامـاتـهم ثـم تشعـل
فسبحان من يهوى الرياح بأمـره ومن هو في الأيـام ما شـاء يفعـل
ومـن عـرشه فـوق السموات كلها وأقضــاؤه في خلقـــه لا تبـــدل
وعادت خديجة لتخبر الرسول بقول ورقة فلم تجده، وكان قد خرج لتوه صوب الكعبة يطوف بها، وانطلق ورقة في أثر خديجة، يريد أن يتثبت مما قالت من محمد نفسه، فأدرك محمداً وهو يطوف بالكعبة فقال له ورقة : يا ابن أخي اخبرني بما رأيت وسمعت ؟ . فأخبره الرسول – فقال ورقة : والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر، الذي جاء إلى موسى . ثم هوى ورقة على رأس الرسول فقبلها .
وفتر الوحي، وانقطع عن النبي صلوات ربى وسلامه عليه، وتبدلت الأحوال، من الرهبة والخوف، إلى الشوق واللهفة، بعد أن كان مرتجفاً صار مشتاقاً، وطال انتظار الرسول له مدة تجاوزت ستة أشهر، مات خلالها ورقة بن نوفل ولم يشهد معاودة الوحي .
ويخرج الرسول صلى الله عليه وسلم ناحية الغار وحوله، يتنسم أي إشارة، أو علامة لمجيئه دون جدوى، وكأن العناية الإلهية قطعت عنه الوحي، ليتحول الخوف إلى شوق والذعر إلى لهفة، فكان لا يفتأ أن يسعى كل ليلة في البيداء، آملاً أن يأتيه جبريل، وفي ليلة مباركة، كان فيها النبي في فراشه متدثراً، جاءه جبريل بقوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ )
وتتابع النزول، فجاءته ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ) وكانت فيها الأوامر الصريحة بالعبادة . ولكن كيف له أن يعرف ؟ . جاءه جبريل ذات ليلة، وكان بأعلى مكة، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت منه عين، فتوضأ جبريل عليه السلام ورسول الله ينظر إليه، ليريه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله كما رأى جبريل توضأ، ثم قام به جبريل فصلى به، وصلى رسول الله بصلاته، ثم انصرف جبريل عنه بعد أن علمه درساً فى العبادة .
ويتواصل النزول، فجاء بقول الله تعالى ( وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) فما كان الله ليودعك، ولا ليهجرك، ولكن لأمر فيه إعدادٌ لك، لتأخذ القرآن على مراحل .
وبدأ النبي دعوته بأهل بيته بعد أن جاءته ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) فكانت خديجة الأوفر حظاً، أول من تلقى النور، فما ترددت لحظة، أسلمت على فورها، وتلاها مولى الرسول الذي يقيم في بيته – زيد بن حارثة – وخشي الرسول أن يفاتح علياً الصبي الصغير، ابن عمه أبى طالب، الذي يمكث في داره حتى لا يُطلع والده أبى طالب ذات يوم، ورأى محمد صلوات ربى وسلامه عليه يصلي بصلاة لا يعرفها، فقال له : يا محمد . ما هذه الصلاة التي تفعل ؟ . قال النبي : دين الله الذي اصطفى لنفسه، وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وإلى عبادته، وأن تكفر باللات والعزى .
قال الصبي علي وقد كبر عليه الكلام ولم يستوعبه : هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاض أمراً حتى أحدث به أبا طالب – فكره الرسول أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره . فقال له : يا علي إذ لم تسلم فاكتم . فمكث الصبى علي تلك الليلة، ثم أوقع الله في قلبه الإسلام، فأصبح غادياً إلى رسول الله، حتى جاءه فقال له : ماذا عرضت عليِّ بالأمس يا محمد ؟ . قال الرسول : تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الأنداد .
ويستقر الإسلام في قلب الصبي الصغير، وبر بوعده، فكتم إسلامه، وكان يخرج في الخلاء مع الرسول، يرقب له الطريق إذا أراد الصلاة، وكان يصلي معه في الدار، ويرقب لهم زيد بن حارثة القادمين، ولكن يصعب في مكة التي تتلاصق الدور فيها، ويعرف الناس ما يدور بداخلها . يصعب إحكام الكتمان فلعل داخل في البيت، مألوف الزيارة، يرى ما يريبه، ويُحدث به من لا يتوقع البوح بما قال، وهذا ما حدث، تطاير شرر من الخبر إلى بيت أبى طالب عم النبي . فقد أطلعت إحدى النسوة اللاتي يترددن على خديجة، أطلعت فاطمة بنت أسد زوج أبى طالب بما رأته يريب في بيت خديجة، ولا تكتم فاطمة على زوجها أمراً يهمه . فقالت لزوجها حين عاد إلى الدار : يا أبا طالب ألم يربك من أمر ولدنا شيء ؟ . قال أبو طالب : يريبني من علي شيء ؟ . وما يريبني منه وهو يلزم ابن أخي ؟ . قالت فاطمة : إني أخاف أن يأتيك من قبل محمد في أمر ابنك ما لا تطيقه . وفزع أبو طالب وقال : ما لا أطيقه !! . ما كان ابني ليخفي عني شيئاً . قالت فاطمة : هو واللات يخفي عنك ما يفعل محمد وخديجة في الدار .
وانتفض أبو طالب، وراعه قول فاطمة فقال : ويحك . ماذا يفعلون ؟ . قالت فاطمة : يصلون صلاة لا نعرفها، كأن محمداً قد تنصر، أو تهود .
قال أبو طالب : ومن قال لك ذلك ؟ . قالت فاطمة : قالته إحدى القرشيات اللائى يترددن على خديجة – قال أبو طالب : ويحك وماذا قالت ؟ .
قالت فاطمة : قالت لي : " إن محمداً إذا صلى في صحن الدار قعد ولدنا علي، أو قعد زيد يرصد له " . لماذا يفعلون ذلك إذا لم يكن لشيء تنكره قريش !! .
قال أبو طالب : فاكتمي الأمر إذاً حتى أتثبت منه .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
_____________________________________________
( الحلقة/ 34 ) البلاغ ينادى أصحابه
ويقتفي أبو طالب أثر النبي صلوات ربى وسلامه عليه، وأثر علي ابنه حتى شعب ـ أبى دب ـ في مشارف مكة، ورأى عن بعد محمداً يصلي، وولده الصبي علي ينظر له كي لا يفاجئه أحد – فباغته قائلاً : يا علي . ما هذا الذي تفعل ؟ . رأيتك تنظر لابن عمك حتى يصلي هذه الصلاة التي لا نعرفها، فإذا فرغت قمت ففعلت فعله ؟ – وفي ارتباك وتردد جاهد الصبي نفسه لإخراج الكلمات التي لابد من إخراجها : يا أبت، آمنت بالله، وبرسول الله، وصدقته بما جاء به، وصليت معه لله واتبعته – قال أبو طالب في دهشة : آمنت بالله وبرسوله !! . ومَنْ رسول الله ؟ . قال علي : ابن عمي محمد – قال أبو طالب موجهاً الكلام إلى محمد الذي يقف خلفه : أي قول هذا الذي يقوله ولدي يا محمد، ما هذا الدين الذي جئت به ؟ . قال الرسول : يا عم هو دين الله الذي بعثني به، وإني أدعوك إلى التوحيد، وترك عبادة الأوثان – واسترسل الرسول يُبين لعمه جوهر رسالته، ويحثه على الإيمان بالله، لكن عمه لا يترك نفسه تستجيب لذلك، فالعصبية الجاهلية مطبقة على أنفاسه، ويخشى أن تضيع هيبته ومكانته جراء فعل كهذا، فقال في حسم : أترك دين آبائي ؟ . لا يا محمد، لا !! . أما ديني فإن نفسي غير مشايعة على تركه، وما كنتُ لأترك ما كان عليه عبد المطلب، ولكني لا أمنعك أن تختار لنفسك يا محمد، فانظر ذلك الذي تقول إنك بعثت به فأقم عليه، فو الله لا أسلمك ما كنت حيا حتى يتم الذي تريد .
ووجدها الصبي علي فرصة لينتزع في لحظات الصفاء تلك بين العم وابن أخيه موافقة على اتباع هذا الدين الجديد ـ قال علي : فدعني يا أبت ألزم رسول الله وأتبع دينه – قال أبو طالب : لاشد ما تحب ابن عمك يا علي، أما إنه لم يدعك إلا إلى خير، فالزم جانبه .
وعاد أبو طالب إلى داره، ليجد الخبر قد سبقه إلى فاطمة زوجه، قالت له في لهجة حادة : أين ابني ؟ . قال أبو طالب : وما تصنعين به ؟ . قالت فاطمة : أخبرتني مولاة لي أنها رأته مع محمد وهما يصليان تلك التي لا نألفها في شِعب أبى دب . قال أبو طالب : اسكتي يا إمرأة – قالت فاطمة في غضب : أترى ابنك صبأ صار نصرانياً، أو يهودياً !! . قال أبو طالب : في حزم وعنف معاً : اسكتي ودعي عنكِ هذا، فهو والله أحق من آزر ابن عمه، ولولا أن نفسي لا تطاوعني على ترك دين عبد المطلب لاتبعت دين محمد، فإنه الحليم، الأمين الطاهر .
وسكتت فاطمة بنت أسد أم علي، ولم تتكلم مع أحد عن حال ولدها، خشية عليه من قومه .
وظل أمر الإسلام سراً، لا يخرج عن بيت النبي ( زوجه خديجة، وبناتها رقية، وأم كلثوم وزينب، وفاطمة ) اتبعن أبيهم، في تلك الفترة كانت رقية وأم كلثوم لم يمض على زواجيهما من عتبة وعتيبة ابنا أبى لهب عم النبي سوى أشهر، وكانتا يقضيان النهار في بيت أبيهما، يتزودان من الإيمان المفقود في دار الزوجية، وعواقب إفشاء الأمر تهدد بيتهما بالهدم، فلن يرضى كبير كأبي لهب في قريش، أن يصاهر من صبأ وترك دين الآباء .
وتخرج الدعوة عن نطاق بيت النبي، لتكون من نصيب أوفى أصحابه له ( أبو بكر ابن أبى قحافة )، الذي جاء لتوه مسرعاً من الشام، كان في تجارة له، ثم قطعها حينما رأى تلك الرؤيا التي قصها على راهب نصرانى بجنوب الشام، كانت بينهما صلة ود وتزاور ـ قال له أبو بكر : رأيت كأن القمر قد غادر مكانه في الأفق الأعلى، ونزل على مكة حيث تناثر إلى قطع وأجزاء، تفرقت على جميع منازل القرية وبيوتها، ثم تضامت هذه الأجزاء مرة أخري، وعاد القمر إلى كيانه الأول، واستقر في نهاية الأمر في حجري – قال الراهب : لقد أهلت أيامه يا ابن أبى قحافة، قد أهلت أيامه .. قال أبو بكر من تعني ؟ . قال الراهب الذي طالما سألتني عنه كلما حطت أسفارك عندنا – قال أبو بكر وقد فهم ما يعنيه الراهب : النبي المنتظر ؟ . قال الراهب : نعم . وستؤمن به، وستكون به أسعد الناس .
وانطلق على فوره أبو بكر إلى مكة، وتحسس أخبار محمد من بعض الموالي الذين لا يكتمونه، وإذا به يرى رؤيته تتحقق، فقد أمسك ببعض المتناثر همساً من الكلام، أن محمداً يزعم بين أهله أنه رسول من ربه ؟ . بدين جديد ينبذ عبادة الأوثان، فيلتقيه ويفاتحه في استحياء خافت : يا أبا القاسم، ما الذي بلغني عنك ؟ . وفي هدوء يقول النبي : وما بلغك عني يا أبا بكر . قال أبو بكر : إنك تدعو إلى التوحيد، توحيد الله، وزعمت أنك رسول الله . قال الرسول : نعم يا أبا بكر أنا ذلك، إن ربي جعلني بشيراً ونذيراً وجعلني دعوة إبراهيم، وأرسلني إلى الناس جميعاً .
قال أبو بكر : ماذا أفعل لأصدِّقك ؟ . قال النبي : تنطق بالشهادتين، فتقول " أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله " . ونطق بها أبو بكر عدة مرات، نطق بالشهادتين ليكون أول من صدَّقه وآمن به من خارج أهله.
وتخطو الدعوة مرحلتها الأولى في سرية وتكتم، تلتمس طريقها وتتحسسه وسط ظلمات مكة، فيحمل أبو بكر الصديق على كاهله عبء التبليغ الفردي، وساعده موقعه في قومه، فكان رجلاً ألوفاً فى قومه محبوباً سهل المعاشرة، وكان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش لما كان فيها من خير وشر، وكان تاجراً ذا خلق ومعروف، وكان مجلسه لا يخلو من محبيه، يأنسون لكلامه ويستمتعون بحديثه، ووجدها أبو بكر مدخله إلى قومه، فتهامس بدين الله في أذن من توسم فيهم خيراً، وأوصى من لانت قلوبهم أخذ الحيطة والحذر وكتمان الأمر .
فنال الأوفياء له أوسمة السبق، فكانوا هم السابقون الأولون – عثمان بن عفان، الزبير بن العوام، عبد الرحمن بن عوف، سعد بن أبى وقاص، وطلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو، وأبو عبيدة بن عامر الجراح، وأبو سلمة – يصطحبهم أبو بكر الواحد تلو الآخر إلى حيث حبيبه محمد، ينطقون بالشهادتين أمامه، ويعاهدونه على المضي قُدماً خلف ما جاءهم به من الله، وانطلق هؤلاء بدورهم إلى أهليهم وذويهم يزفون إليهم بشرى النجاة، ويهدونهم إلى الخير، ومن يرون فيهم قبول الأمر فأسلم على أيد هؤلاء، ثلة من خيرة رجال ونساء مكة من الأحرار، والموالي، والفقراء، وبرزت أسماء هؤلاء في الصفحة الأولى للبلاغ – سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وزجه فاطمة بنت الخطاب، وكيف يغيب الهدى عن مثل هذا، وهو أولى الناس به، فأبوه زيد رفع مشعل التوحيد وهداه عقله وقلبه إلى الله، دون أن يأتيه نبي أو كتاب، وأم الفضل زوجة العباس عم الرسول، وأبو سلمة بن عبد الله المخزومي، والأرقم بن أبى الأرقم . شريف من أشراف قريش، وأوقف داره لخدمة الدين الجديد، وجعلها مقراً سرياً، يلتقي فيه الرسول مع أتباعه حتى صارت دار الأرقم المنعزلة عن مكة عند جبل الصفا، مقراً للدين، ومدرسة للوحي، وتتابع دخول الفوج الأول من المؤمنين سراً، على خوف من ملئهم أن يتعرضوا لهم بأذى، أو يتعرضوا لرسولهم، وتكون الضربة في أول الولادة، فتصيب موضعاً يوجع البلاغ في مهده .
وتتبدى فيوض السماء على من أراد الله له السكينة والاطمئنان، ولو لم يصلهم مبلغ فالله مبلغهم وهاديهم : فيهب خالد بن سعيد بن العاص، فتى من أبناء ثراة مكة، يهب من نومه فزعاً لرؤيا رآها .
يرى في منامه أنه على وشك السقوط في الهاوية، فيدركه محمد ويمسك به، ويخلصه من الوقوع فيما رأى أنها الهلكة، ولا يجد نفسه في صبيحة يومه إلا منطلقاً إلى من أنقذه في منامه – محمد صلوات ربى وسلامه عليه – ويجد عنده استكمال الرؤيا في حال اليقظة، وكان سعيد قد سمع همساً أنه يدعو إلى دين جديد، فأيقن أن ما فعله محمد به في منامه هو ما سيفعله به حين يسمع منه ماهية هذا الدين، فسأل النبي : إلامَ تدعو يا محمد ؟ . قال الأمين : أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأن تخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع . و أدعو إلى الإحسان إلى والديك، وألا تقتل ولدك خشية الفقر، وألا تقرب الفاحشة ما ظهر منها وما بطن، وألا تقتل نفساً حرم الله قتلها إلا بالحق، ولا تقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن . وأن توفي الكيل والميزان بالقسط، وأن تعدل في قومك ولو حكمت على ذوى قرباك، وأن تفي بما عاهدت .
وها قد تحقق لخالد بن سعيد بن العاص ما رأى، ومحمد يمسك بتلابيبه قبل الوقوع في الهاوية، هاوية الشرك والكفر، اللذان عليهما القوم من قريش، وتنزل الكلمات على صدره برداً وسلاماً، وسكينةً، ويقول خالد للنبي : إنك ما دعوت إلى حق . ويشهد الشهادتين .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تعليقات
إرسال تعليق