القائمة الرئيسية

الصفحات

الطريق الي النور ( الحلقة/ 32 ) التقاء خبر السماء بالأرض !!

 


الطريق الي النور

( الحلقة/ 32 ) التقاء خبر السماء بالأرض !!

ويخلص أبو بكر إلى رأي، يرى فيه المنحى والصواب، بعد أن أجهد عقله في اعتمال الأخبار في هذا الدرب، راح يحدث نفسه : لِمَ لا يكون محمد هو النبي المنتظر . ما أرى أحداً أحق بالنبوة منه، ما يخرج من فمه إلا الصدق كل الصدق، وما يكون النبي إلا صادقاً، أميناً، رفيعاً، وفياً، وعهدت قريش فيه كل ذلك . هكذا جالت بأطياف أبى بكر الأحاسيس .

لقد صدق ابن أبى قحافة وصدقت مشاعره تجاه الأمين محمد، وليس في مكة من لا يعرف عنه غير هذه الصفات التي تحلى بها، وعلى رأس محامده بره بأهله ووفائه لهم، وليس أدل على وفائه وحسن صلته للرحم من هذا الموقف، الذي تبدي منه في وقت الشدة تجاه عمه، الذي رباه وأحسن رعايته . 

فحين حلت سنوات القحط بمكة، وساءت أحوال أبى طالب، وضاقت به سبل العيش ـ قلت موارده وتوقفت تجارته، وعسر عليه سد نفقات بيته وهو ذو عيال، لم يتحمل محمد أن يرى حال عمه هكذا، وعنده ما يقدمه ـ

ذهب إلى عمه العباس، واقترح عليه أن يأخذا من أبناء أبى طالب ما يخفف عنه العبء، فانطلقا إلى دار أبى طالب، ولم يكن ساعتها في الدار، فلما عاد أبو طالب حكت له زوجه – فاطمة بنت أسد – ما دار قالت : قال محمد إنه يريد أن يخفف عنا يا أبا طالب، فقد أجدب الناس، وهو والعباس أحق بني عبد المطلب بأن يرفعا عن كاهلك بعض ما يثقله – فسر أبو طالب لهذه اللفتة الحانية من ابن أخيه البار وقال : صدق محمد وبر والله يا فاطمة، ولكني لا أريد أن أثقل عليهما .

قالت فاطمة : يا أبا طالب أنت كثير العيال، قليل النفقة، ولا يشينك أن يخففا عنك حتى تذهب أيام الجدب، ويعود الرخاء، وتنطلق بتجارتك كما اعتدت أن تنطلق إلى الشام وإلى اليمن قال محمد : (( إنه يريد أن يأخذ أحد أولادنا، ليكون معه في داره كولده، ويأخذ العباس ولداً ثانياً )) .

قال أبو طالب وقد تملكه شعور بالفرح والرضا على سعى ابن أخيه لهذا الأمر: ما أبرك يا محمد . قالت فاطمة : فما تقول في هذا يا أبا طالب ؟ لقد طابت نفسي والله بما عرض عليك،  فمحمد في بحبوحة من العيش، والعباس كثير المال قليل العيال . قال أبو طالب : ما ترين أنت يا فاطمة ؟ قالت : أعرف شدة تعلقك بعقيل، فما أحسبك تفارقه – قال أبو طالب : إنه أصغر أولادنا يا فاطمة – قالت : فمن نترك لمحمد، ومن نترك للعباس ؟ . قال أبو طالب : إذا تركا لي ولدي عقيل فليأخذا من شاءا عداه .

ويعود في اليوم الثاني محمد والعباس، ويأخذ محمد علي ليكون معه في داره ويختار العباس جعفراً .

وتسير الأيام في بيت خديجة، الذي احتوى بين جنباته الصبي – علي بن أبى طالب – وصار من أهل البيت، تسير بهم الأيام هنية رضية، لا فرق في هذا الدار بين خادم وسيد، زيد مولى خديجة أهدته لمحمد بعد زواجهما وصار كابن له، وميسرة العبد، يلتفون حول الطعام والتسامر، لا يفرقهم سوى النوم ـ .. بدأت حياة النبي صلوات ربى وسلامه عليه في السنوات الأخيرة له قبل تمام الأربعين، تأخذ أطوار غير مألوفة له، كثر تأمله في الله، وزاد تدبره في الكون، وصار أكثر ميلاً للخلوة، وبدأ يستشعر دفعاً تجاه التقرب إلى الله، فراح يستجلب من كلمات الحمد والثناء أعذبها وأعلاها مقاماً، فمازال به التودد هكذا إلى الله حتى قادته فطرته الطيبة إلى عبادة إلهامية، اختار لها مكاناً مناسباً – غار حراء – كهف صغير يسع بالكاد فردين على قمة جبل النور يقع شمالي شرق مكة ويبعد عنها حوالي خمسة كيلو مترات، وفي صعوده مشقة بالغة، يحتاج فيها الصاعد استعمال يده ورجليه في بعض الأحيان، وعلى قمته يقبع الغار، غار (حراء) على أرض مسطحة مستوية على أطرافها بركة لا ينقطع الماء عنها أبداً، ويسود المكان هدوء لا تسمع فيه صوتاً سوى للريح إذا اشتدت أو ارتطمت بفتحتي الغار الأمامية والخلفية، ويغطي الغار الصغير كومة من الصخور، ورغم ضيقه إلا أنه كان فضاءاً رحباً، واسعاً، احتوى خشوع النبي ربى وسلامه عليه، ولولا فتحتا الغار الأمامية والخلفية، ما طاق المكوث فيه طويلاً، الأمامية تطل على شعاب مكة البعيدة، والخلفية تطل على الكعبة، فكان يحلو له النظر والتأمل منها على بيت الله في تلك الليالي الخوالي المقمرة، وتتصل خلوته في الغار أيام عدة من كل عام، ترسل فيها خديجة له الصبيان ومعهم الطعام والشراب .

وكانت تلك هي بداية الشحنة والتمهيد لنزول الوحي، وازداد تعلقه بالخلوة، خاصة في أيام رمضان من كل عام، يداوم على ذلك أياما، ثم يعاود حياته في مكة، وكان يحس وهو في الطريق إلى الغار، كأنما صوت يناديه، ويلزمه الصوت في ذهابه وإيابه، ويلتفت إليه فلا يجد محدثاً، ورويداً وريدا ينجلي الصوت وتتضح كلماته، فإذا هي أصوات تلقي عليه السلام قائلة « السلام عليك يا محمد » وينظر لمصدرها فلا يجد غير شجر وحجر وأرض، وهم من يلقوا عليه السلام، علموا أنه النبي المنتظر، الذي أوشك أوانه على الظهور .

وفي هذا العام 610م حيث يجرى التغيير فى الحكم،ليرتقى هرقل الأول عرش بيزنطة حاضرة العالم آنذاك .. كان هناك حدثا إنسانيا عظيما يتم فى خفاء،لم يتجاوز من علموا به يوم وقع،سوى بضعة أشخاص يُعدون على اليد الواحدة .. بعثة محمد بن عبد الله ليكون رسولاً نبياً للعالمين .. يوم أتم الأربعين من عمره .. وفى هذا العام تأخذ خلوته التعبدية فى ـ غار حراء ـ شكلاً آخر،فطال مكوث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، داخل الغار شهراً كاملاً، الأمر الذي لم يفعله من قبل، وكان ينزل على فترات متقطِّعة،يوافي أهله ويتابع عمله،وكان يأخذ من الطعام والزاد الشيئ الوفير، ما يقلل على الصبيان مشقة توصيله للغار ـ غار حراء ـ البعيد النائى عن مكة .. ثم يعاود مكوثه في الغار، وكلما رأى رؤيا في منامه تحققت في نهاره، بوضوح تام، كفلق الصبح، حتى إذا كانت ليلة السابع والعشرين من رمضان، تلك الليلة المباركة ، وفيها الرسول الكريم في أعلى حالات خشوعه وتعبده، استعدت السماء وتهيأت الأرض لحدث جلل ..

وفي مكة استبد الخوف بالجميع، وتعلقت العيون بالسماء . الصواعق، والرعود، والنيازك تحيل لحظات حياتهم، رعباً وخوفاً دائمين . وينادي صائح : يا معشر قريش، إنها نهاية هذه الدنيا، إنها هلاك الخلق، الشهب تتساقط لاحقة، الجبال تهتز كأنما هي في قبضة قبيلة الجن، أهل السماء علينا غاضبون، امضوا يا معشر قريش، دعوا مساكنكم واخرجوا إلى الفضاء، إلى الفضاء يا أهل مكة، اطلقوا عبيدكم، واذبحوا لآلهتكم حتى ترضى .

ويهرعون خارجين من مكة، وقد ركبهم ذعرٌ شديدٌ، لم تر مكة ليلة كتلك الليلة التي لا نهاية لرعودها، وبرقها، وصواعقها . هرعوا إلى كاهنهم – عمرو بن أمية – صاحوا : يا ابن أمية انظر لنا ما حدث، وما يحدث ؟ . إنك تزعم لنا أن بينك وبين السماء أسباباً، فكلم من في السماء يا عمرو . 

قال ابن أمية وكان مرتجفاً : ويحكم لقد حاولت هذا وفشلت، لم أستطع الاتصال بمن في السماء . قالوا والذعر يتخطفهم : ولِمَ يا عمرو . طالما زعمتَ لنا أن لك فيها أصحاباً ؟ . قال عمرو : قد كان لي ما تقولون، ولكن هذا الذي يحدث الليلة، يؤكد لي أنه قد هلك كل من في السماء، لو كان بقي فيها أحد لم يهلك لوسعني أن أتصل به، بل إن عتاة الجن لا يستطيعون الساعة إلى السماء وصولاً . 

قالوا : وما يمنعهم ؟ . قال عمرو بن أمية : لست أدري، كأنما يحجز الجن عن السماء، شيئ مهيب جليل، كأنما امتلأت السماء حرساً شديداً، ما يقترب جني حتى يلحقه شهاب ساقط، ألا ترون تلك الشُهب لا تحرق الأرض، ولا تمس أحداً بشر، إنما هي ترصد الشياطين التي تحاول أن ترقى إلى السماء تتسمع ما يدور فيها .. ولم يدر أهل مكة أنها الليلة التي رُجمت فيها الشياطين في السماء حتى لا تتسمع الخبر القادم .. بسم الله الرحمن الرحيم ( وأنَّهُ كان رجالٌ من الإنسِ يعوذون برجالِ من الجنِّ فزادُهم رهقاً ، وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لَنْ يَبعثَ اللهُ أحداً ، وأنا لمَسْنَا السماءَ فوجدناها مُلِئَتْ حرساً شديداً وشُهُباً ، وأنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنها مَقاعِدَ للسَّمعِ فمن يَستَمِعِ الآن يجد لهُ شِهاباً رَصَداً ، وأنَّا لا ندري أَشرٌ أُريد بمن في الأرضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ ربُهُم رَشَداً ) .. 

 وعند الغار حيث الرسول يقبع بداخله، إن هي إلا ساعة من زمان ويرى الرسول المنهمك في تعبده أمام فتحة الغار رجلاً، يلبس الأبيض من الثياب، وعلى وجهه مهابة ووقاراً، وبيده إناء من ديباج فيه كتاب، أخذ يدنو من النبي حتى فزع منه فزعاً شديداً، فلما اقترب إليه قال بصوت له نبرات رنانة : يا محمد اقرأ ومد له الكتاب الذي بيده . فقال محمد،وهو مرتعد خائف: ما أنا بقارئ .. وكيف له بالقراءة وهو أمي، لا يقرأ ولا يكتب، ويمسك بالنبي وقد خرت قواه وانفلت ثباته، ويضمه إليه ضمة شديدة كادت من عنفها أن تخرج روحه قائلاً : يا محمد اقرأ . ويجيبه النبي نفس القول : ما أنا بقارئ. ثم بغته غتة  قوية قائلاً : يا محمد اقرأ . ويرد عليه النبي المنخلع رعباً : ما أنا بقارئ .. ثم يكرر الضمة للمرة الثالثة، وهو يقول نفس ما قال . ويرتجف النبي بين يديه وهو يهتز هزاً ، ويقول وقد أعياه الثبات : ما أنا بقارئ، ويعاود الملك الكلام مسترسلاً في هذه المرة، ليسمع النبي محمداً كلاماً لم يسمعه من قبل، كلام غير كلام البشر { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } 

وبدأ عهد التنزيل، بدأت الآيات تتنزل لهداية الناس، بدأت الإنسانية تخطو نحو طريق النور، في هذه اللحظات العظيمة في تلك الليلة المباركة، وبعد أن فرغ الملك الذي جاء في صورة هذا الرجل الذي ضمه الثلاث، أخذ يعلمه في تلاوة ندية الكلمات القدسية العظيمة، نزلت عليه كالقطر قبل الغيث، واختفى الرجل الجليل المهيب الطلة، وانساب جسد النبي، مسترخياً أمام الغار، لا يقوى على الحراك من هول ما رأى، ومن عجب ما سمع، متأملاً للحظات ما دار بينه وبين القادم تلك الكلمات العذبة الحلوة التي تلاها على مسامعه، وارتعدت فرائصه حائراً ليس عنده تفسيراً واضحاً لما حدث .

وهناك في بيت محمد، كانت خديجة تشعر بشيئ ما حدث له خفق قلبها فجأة واهتزت أوصالها، وأحست بقلب الزوجة المحبة المخلصة، أن هناك أمرا ما جرى له، فأرسلت غلمانها ناحية الغار، يتحسسون خبره، في الوقت الذي توجه فيه الغلمان إلى الغار، كان محمد قد غادره، متوجهاً صوب مكة من طريق غير طريقهم، وحط الغلمان أمام الغار فلم يجدوه، فانطلقوا حول الغار يميناً ويساراً دون جدوى، وكان محمد وقتئذ قد دنا من الطريق الخلفي لمكة، يعدو مسرعاً تجاه الكعبة، وفجأة سمع صوتاً من السماء ينادي : يا محمد، يا محمد، فرفع النبي رأسه إلى أعلى، فرأى ما أدهشه وأخل ثباته، رأى أعجب مشهد يمكن أن يراه إنسان، رأى جبريل جالسا على عرش في الهواء، تمتد أجنحته البيضاء في الأفق فتملأ ما بين المشرق والمغرب، فلا يلتفت النبي التفاته إلا ويرى جبريل بأجنحته يحجب عنه رؤية السماء، وأخذ يناديه : يا محمد أنت رسول الله، وأنا جبريل – ومن شدة خوف الرسول وفزعه، تسمَّر في مكانه، وإن هي إلا لحظات وانجلى البياض ليسفر عن السماء، وتنفس الرسول الصعداء ـ هذه ليلة عظيمة، ليلة مباركة، داهمته العجائب فيها ألواناً، في هذه الليلة الكريمة، كان البلاغ المبين، والاختيار الصريح له، ليقوم بالرسالة العظيمة، وكان اللقاء الأول له بجبريل، والذي لم يتكرر بمثل هذه الصورة الجلية، وعلى هيئته الحقيقية إلا عند سدرة المنتهى ـ فى رحلة الإسراء والمعراج ـ حين رأى الرسول (جبريل، رئيس الملائكة) على خلقته التي خلق الله كما حدث له الليلة، حين رأى جبريل يفترش السماء بأجنحته الضخمة، ويدنو من الأرض ليخاطب محمداً بصوت ارتجت له الأرض، ويصف القرآن الكريم تلك اللحظات، في أجلى العبارات، وأرفعها بقوله تعالى ( والنجمِ إذا هوى ، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم وما غَوَى ، وما ينطقُ عن الهوى ، إنْ هو إلَّا وحيٌ يُوحَى ، عَلَّمَهُ شديدُ القُوَى ، ذُو مِرَّةٍ فاستوى ، وهو بالأُفُقِ الأَعلى ، ثُم دَنَا فَتَدَلّى ، فكان قَابَ قَوسَينِ أو أدنى ، فَأوْحَى إلى عَبْدِهِ مَا أوحَى ، ما كَذَبَ الفُؤَادُ ما رأى ، أفَتُمَارُونَهُ على ما يَرَى ، ولقد رَآهُ نَزْلَةً أُخرى ، عِند سِدْرةِ المُنْتَهَى ، عِندَها جنةُ المَأوَى ) صدق الله العظيم .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .

ملحوظة:

هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة ..  هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.

محمد مصطفى

تكملة ( الحلقة/ 32 ) التقاء خبر السماء بالأرض !!

ويهرعون خارجين من مكة، وقد ركبهم ذعرٌ شديدٌ، لم تر مكة ليلة كتلك الليلة التي لا نهاية لرعودها، وبرقها، وصواعقها . هرعوا إلى كاهنهم – عمرو بن أمية – صاحوا : يا ابن أمية انظر لنا ما حدث، وما يحدث ؟ . إنك تزعم لنا أن بينك وبين السماء أسباباً، فكلم من في السماء يا عمرو . 

قال ابن أمية وكان مرتجفاً : ويحكم لقد حاولت هذا وفشلت، لم أستطع الاتصال بمن في السماء . قالوا والذعر يتخطفهم : ولِمَ يا عمرو . طالما زعمتَ لنا أن لك فيها أصحاباً ؟ . قال عمرو : قد كان لي ما تقولون، ولكن هذا الذي يحدث الليلة، يؤكد لي أنه قد هلك كل من في السماء، لو كان بقي فيها أحد لم يهلك لوسعني أن أتصل به، بل إن عتاة الجن لا يستطيعون الساعة إلى السماء وصولاً . 

قالوا : وما يمنعهم ؟ . قال عمرو بن أمية : لست أدري، كأنما يحجز الجن عن السماء، شيء مهيب جليل، كأنما امتلأت السماء حرساً شديداً، ما يقترب جني حتى يلحقه شهاب ساقط، ألا ترون تلك الشُهب لا تحرق الأرض، ولا تمس أحداً بشر، إنما هي ترصد الشياطين التي تحاول أن ترقى إلى السماء تتسمع ما يدور فيها .. ولم يدر أهل مكة أنها الليلة التي رُجمت فيها الشياطين في السماء حتى لا تتسمع الخبر القادم .. بسم الله الرحمن الرحيم ( وأنَّهُ كان رجالٌ من الإنسِ يعوذون برجالِ من الجنِّ فزادُهم رهقاً ، وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لَنْ يَبعثَ اللهُ أحداً ، وأنا لمَسْنَا السماءَ فوجدناها مُلِئَتْ حرساً شديداً وشُهُباً ، وأنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنها مَقاعِدَ للسَّمعِ فمن يَستَمِعِ الآن يجد لهُ شِهاباً رَصَداً ، وأنَّا لا ندري أَشرٌ أُريد بمن في الأرضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ ربُهُم رَشَداً ) .. 

وعند الغار حيث الرسول يقبع بداخله، إن هي إلا ساعة من زمان ويرى الرسول المنهمك في تعبده أمام فتحة الغار رجلاً، يلبس الأبيض من الثياب، وعلى وجهه مهابة ووقاراً، وبيده إناء من ديباج فيه كتاب، أخذ يدنو من النبي حتى فزع منه فزعاً شديداً، فلما اقترب إليه قال بصوت له نبرات رنانة : يا محمد اقرأ ومد له الكتاب الذي بيده . فقال محمد،وهو مرتعد خائف: ما أنا بقارئ .. وكيف له بالقراءة وهو أمي، لا يقرأ ولا يكتب، ويمسك بالنبي وقد خرت قواه وانفلت ثباته، ويضمه إليه ضمة شديدة كادت من عنفها أن تخرج روحه قائلاً : يا محمد اقرأ . ويجيبه النبي نفس القول : ما أنا بقارئ. ثم بغته غتة قوية قائلاً : يا محمد اقرأ . ويرد عليه النبي المنخلع رعباً : ما أنا بقارئ .. ثم يكرر الضمة للمرة الثالثة، وهو يقول نفس ما قال . ويرتجف النبي بين يديه وهو يهتز هزاً ، ويقول وقد أعياه الثبات : ما أنا بقارئ، ويعاود الملك الكلام مسترسلاً في هذه المرة، ليسمع النبي محمداً كلاماً لم يسمعه من قبل، كلام غير كلام البشر { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } 

وبدأ عهد التنزيل، بدأت الآيات تتنزل لهداية الناس، بدأت الإنسانية تخطو نحو طريق النور، في هذه اللحظات العظيمة في تلك الليلة المباركة، وبعد أن فرغ الملك الذي جاء في صورة هذا الرجل الذي ضمه الثلاث، أخذ يعلمه في تلاوة ندية الكلمات القدسية العظيمة، نزلت عليه كالقطر قبل الغيث، واختفى الرجل الجليل المهيب الطلة، وانساب جسد النبي، مسترخياً أمام الغار، لا يقوى على الحراك من هول ما رأى، ومن عجب ما سمع، متأملاً للحظات ما دار بينه وبين القادم تلك الكلمات العذبة الحلوة التي تلاها على مسامعه، وارتعدت فرائصه حائراً ليس عنده تفسيراً واضحاً لما حدث .

وهناك في بيت محمد، كانت خديجة تشعر بشيئ ما حدث له خفق قلبها فجأة واهتزت أوصالها، وأحست بقلب الزوجة المحبة المخلصة، أن هناك أمرا ما جرى له، فأرسلت غلمانها ناحية الغار، يتحسسون خبره، في الوقت الذي توجه فيه الغلمان إلى الغار، كان محمد قد غادره، متوجهاً صوب مكة من طريق غير طريقهم، وحط الغلمان أمام الغار فلم يجدوه، فانطلقوا حول الغار يميناً ويساراً دون جدوى، وكان محمد وقتئذ قد دنا من الطريق الخلفي لمكة، يعدو مسرعاً تجاه الكعبة، وفجأة سمع صوتاً من السماء ينادي : يا محمد، يا محمد، فرفع النبي رأسه إلى أعلى، فرأى ما أدهشه وأخل ثباته، رأى أعجب مشهد يمكن أن يراه إنسان، رأى جبريل جالسا على عرش في الهواء، تمتد أجنحته البيضاء في الأفق فتملأ ما بين المشرق والمغرب، فلا يلتفت النبي التفاته إلا ويرى جبريل بأجنحته يحجب عنه رؤية السماء، وأخذ يناديه : يا محمد أنت رسول الله، وأنا جبريل – ومن شدة خوف الرسول وفزعه، تسمَّر في مكانه، وإن هي إلا لحظات وانجلى البياض ليسفر عن السماء، وتنفس الرسول الصعداء ـ هذه ليلة عظيمة، ليلة مباركة، داهمته العجائب فيها ألواناً، في هذه الليلة الكريمة، كان البلاغ المبين، والاختيار الصريح له، ليقوم بالرسالة العظيمة، وكان اللقاء الأول له بجبريل، والذي لم يتكرر بمثل هذه الصورة الجلية، وعلى هيئته الحقيقية إلا عند سدرة المنتهى ـ فى رحلة الإسراء والمعراج ـ حين رأى الرسول (جبريل، رئيس الملائكة) على خلقته التي خلق الله كما حدث له الليلة، حين رأى جبريل يفترش السماء بأجنحته الضخمة، ويدنو من الأرض ليخاطب محمداً بصوت ارتجت له الأرض، ويصف القرآن الكريم تلك اللحظات، في أجلى العبارات، وأرفعها بقوله تعالى ( والنجمِ إذا هوى ، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم وما غَوَى ، وما ينطقُ عن الهوى ، إنْ هو إلَّا وحيٌ يُوحَى ، عَلَّمَهُ شديدُ القُوَى ، ذُو مِرَّةٍ فاستوى ، وهو بالأُفُقِ الأَعلى ، ثُم دَنَا فَتَدَلّى ، فكان قَابَ قَوسَينِ أو أدنى ، فَأوْحَى إلى عَبْدِهِ مَا أوحَى ، ما كَذَبَ الفُؤَادُ ما رأى ، أفَتُمَارُونَهُ على ما يَرَى ، ولقد رَآهُ نَزْلَةً أُخرى ، عِند سِدْرةِ المُنْتَهَى ، عِندَها جنةُ المَأوَى ) صدق الله العظيم .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .

ملحوظة:

هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة ..  هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.

محمد مصطفى

تعليقات

التنقل السريع
    close