القائمة الرئيسية

الصفحات

الحلقة/ 28) السيول تجتاح الكعبة !!



 ( الحلقة/ 28) السيول تجتاح الكعبة !! 

قال الوليد : أي سر تخفيه عنا يا أبا طالب . قال أبو طالب : ها إجلسا، إجلسا يا أبا الوليد، وياعتبة بن ربيعة واسمعا ما رأيت وما قدرت أن أفعل لولا ظهوركما المفاجئ إجلسا . 

ويجلس الرجال الثلاثة، ثلاثة من كبار سادات قريش، يمثل كل واحد منهم بطناً من أعظم بطونها قدراً ومنزلة ( بنو مخزوم ، وبنو ربيعة ، وبنو هاشم ) وينظر الوليد وعتبة إلى صاحبيهما أبى طالب ليبدأ قصته، قال أبو طالب : تعرف قريش كلها أنه وقع بيننا نحن بنو هاشم أصحاب السقاية والرفادة، وبين بني عبد الدار أصحاب الحجابة، وقع جدل وملاحاة بسبب إهمالهم أمر الكعبة وتقاعسهم عن إصلاحها وكسوتها . قاطعه الوليد قائلاً : قلنا هذا ومثله قبل أن تأتي يا أبا طالب . واستأنف أبو طالب حديثه : ولم يفعلوا شيئاً، ولم يفعل غيرهم شيئاً، ولو كنت كما كنت من قبل فى بحبوحة من العيش، لأنفقت كل مالي في هذا السبيل، ولكن قد صار حالي إلى ما تعرفون، ثم كان أن جاءت هذه المرأة (الحمس) تُبخر الكعبة ليلاً في غيبة الناس، فكان ما كان منها .

قال الوليد: أذكر أننا جميعاً خرجنا وفحصنا جدران الكعبة، ووجدنا أن الوهن قد أصابها، وعرضت عليكم أن نهدم ما أصابه الوهن من جدرانها ونعيد بناءه، وكنت أنت ياأبا طالب على رأيي، ولم تقل شيئا أمام القوم، آثرت السكوت وتركت من عارض الهدم يعلو رأيه علينا . 

قال أبو طالب : لم أرد جدلاً معهم، وصرفت همي إلى تدبير ما يجعلهم يقرون بالهدم . قال عتبة وقد فاجأه مسعى أبى طالب : ماذا ؟ كأنك جئت الليلة كما جئت ليال أخرى قبلها لتهدم الكعبة ؟ . قال أبو طالب : على رسلك يا عتبة، مهلاً حتى تسمع ما عندي، فإن لدي من الأمر ما يمسك عن قرب قريب، وما أحسبه يرضيك . قال عتبة والشرر يتطاير من عينه : وما ذاك ؟ لكأن بعض أبنائي قد تواطأ معك على هذا الأمر يا أبا طالب . قال أبو طالب : خرجت في ليلة كهذه حالكة السواد لأطوف بالكعبة، فراعني وأن أقبل عليها بصيص نور عند بابها، فاقتربت لأسمع همهمة أشبه بهمهمة الكهان، وزمزمة كزمزمة السحرة، وكانت صاحبة الهمهمة والزمزمة امرأة كانت تجلس قرب باب الكعبة، وأمامها مبخرة يتوقد فحمها ويتفوح أريج مسكها، ملتحفة بعباءة تلفها وتسربلها، وسرعان ما تبينتها وعرفتها، فليس في مكة من لا يعرف ( حنة بنت مسافر )  وما إن سمع عتبة من أبى طالب اسم زوجته إلا وانتفض كالنسر المتوثب وقال : حنة زوجتي ؟ لا يا أبا طالب، إنك تفتري عليها . وراح الوليد يهدئ من روع عتبة فهو يريد سماع بقية القصة قال : انتظر، انتظر يا عتبة، ثم ماذا يا أبا طالب ؟ 

قال أبو طالب : اختبأت قرب ركن إبراهيم، أشاهد ما يجري، فرأيت عجباً، رأيت حنة قد رفعت رأسها إلى حيث صارت على جدار الكعبة فوق الباب، وإذا بحية عظيمة لها فحيح كفحيح ألسنة اللهب، وأخذت حنة تقول لها ( أيتها الحية، أيتها الآلهة العظيمة، بحق جبروتك وسطوتك وسلطانك على الإنس والجن، إن عندي من الذكر عشراً يطاولون أولاد ضرتي ـ سعدة بنت حكيم ـ ويماثلونهم، أملئ قلب عتبة بن ربيعة بحبي، فلا يملك البعد عني ومفارقة بيتي، أملئ قلبه ببغض ـ سعدة بنت حكيم ـ فلا يطأ عتبتها، ولا يطيق عشرتها، أيتها الحية العظيمة ذاك قرباني، أيتها الحية العظيمة الربانية ألقي به في مسكنك، وامشي به في بئرك أيتها الربة، القيت بسوارين من الذهب تقرباً إليك ) .

ويواصل أبو طالب حديثه : ففاجأتها يا عتبة، فلما رأتني فزعت، فقلت لها : لا تراع، لا تراع يا بنت مسافر، ما أخرجك من دارك في هذه الساعة، أو يدري زوجك عتبة بما تفعلين ؟ قالت في اضطراب ( أبو طالب بن هاشم ) قلت: أجل، أجل . قالت خائفة ( فاكتم عني يا ابن العم، اكتم عني يا سيد بني مناف ) فقلت لها : ألغير الله تتقربين يا حنة ؟ ويحك إنما هي حية !! عاهدناها تخرج من بئر الكعبة، ثم تتشرق على جدارها، فنقذفها بالحجارة، قد رأيتك تصلين لها، تعبدين حية يا بنت مسافر لُعنتى ولعنت حيتك قالت لي ( لا لا، لا تقل هذا فتسخطك قرداً أو حجراً، هي رب الأرباب يا أبا طالب، وقد هديت إليها كما هديتم أنتم إلى عبادة هبل ومناة والعزى . أربابكم هذه لا تتحرك ولا تتكلم وربتي التي أعبدها قد تجسد فيها الأرباب جميعاً، وهي تتحرك وتتلوى وتفح وتحمي عبادها كما تحمي كعبتها، وتجيب المضطر إذا دعاها ) قلت لها : ويحك أبلغ بك السفه إلى هذا الحد، ألم ترينها قد فرت إلى ملجئها حين رأتني قادماً ؟ والله ما أبقاها على الجدار تفح إلا حرارة مجمرتك هذه . قالت لي ( أكتم عني يا سيد بني هاشم أكتم عني ما رأيت ) قلت لها : على ألا تعودي لمثل هذا . قالت ( لن أعود يا سيد بني هاشم لن أعود ) 

ويخرج عتبة من صمته مشدوهاً فيقول : أفعلت ذلك بنت مسافر زوجتي ؟ . قال أبو طالب : ولقد كتمت عنها كما طلبت على ألا تعود إلى مثل فعلتها الأولى، ولكنها عادت يا عتبة، عادت أكثر من مرة تجلس جلستها تلك إلى الحية العظيمة والمجمرة بين يديها، بعد أن تلقى ما جاءت به من نذور في بئر الكعبة، وتظل في ركوعها وسجودها وتوسلاتها تصب لعناتها على زوجك الأولى ـ سعدة بنت حكيم ـ وقال الوليد : وكيف غافلتك يا عتبة في جوف الليل وجاءت إلى الكعبة . قال عتبة : آه آه لعلها تأتي هنا في الليالي التي أكون فيها عند ضرتها سعدة ويمسك عتبة برأسه والغضب يتفصد من جبينه وهو يقول : واذلاه واذلاه زوجي تعبد حية الكعبة، لقد ضلت ضلالاً بعيداً .

قال الوليد : لعمري !! قال عتبة : تعني ماذا يا أبا الوليد ؟ . قال الوليد : كأننا جميعاً لم نضل كما ضلت حنة بنت مسافر، ما أبعد ما بيننا وبين الدين الذي جاء به أبونا إبراهيم .قال أبو طالب : ألا لقد صدق ( زيد بن عمرو بن نفيل ) حين قال في المسجد وهو يرجم الأصنام ( يا قوم التمسوا لأنفسكم ديناً، فإنكم والله ما أنتم على شيء، ما هذه الأحجار التي نعبدها لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع ) .

قال عتبة : ويحكم !! كان زيد لا يحب أرباب قريش، وقد كفر زيد، فهل تكفران مثله ؟ . قال أبو طالب : حين رأيت ما فعلت حنة بنت مسافر، عزمت على أن أترصد للحية فأقتلها، فلم يتيسر لي ذلك، فرأيت أن هدم ما تهرأ من جدران الكعبة كفيل بقتلها، وتذكرت رغبتنا القديمة في هدم الجدار وإعادة البناء قوياً صلباً جديداً، وخوف الكثيرين من أهل مكة أن يصيب الشر من يعرض للكعبة بهدم دفعني إلى التسلل إليها فأضرب فيها بمعولي حتى أهدم جدارها الأيسر، فإذا جاء الصباح، ورأيتم الهدم، تشجعتم وأسهمتم فيه، ونعيد البناء قوياً جديداً .

ويوافق الوليد بن المغيرة أبا طالب على رأيه ذاك، ولكن عتبة وقد أغضبة أن أبا طالب قد اطلع على ما تفعل زوجه من عبادة حية والتنكر لآلهة قريش، فأشاع في مكة، أن لبني هاشم هدفاً لهدم الكعبة غير إعادة بنائها . فقال : إنما يريدون أن يسلبوا بني عبد الدار الحجابة فيجمعوها بين أيديهم مع السقاية والرفادة . 

وقدروا، وقدر الله غير ما قدروا، وينظر عقلاء مكة إلى الكعبة المشرفة، وقد صارت في حالة تثير في النفوس الإشفاق، وما أقامها إبراهيم قوية صلبة إلا لتبعث في نفوس الناس جميعاً المهابة والتوقير .

وتمر الأيام حتى جاءت ليلة أخرى بعد عام من ليلة الحريق، هب فيها القرشيون من سباتهم فزعين مذعورين على صيحات : السيل، السيل الهادر ينحدر من الجبال المحيطة بمكة، أدعوا ربكم يا معشر قريش أن ينجي الكعبة من هذا السيل . 

ويخرج الوليد إلى الناس صائحاً : يا معشر قريش قاوموا هذا السيل الجارف جهدكم كى لا يصدع جدران بيت الله .

وصاح أبو طالب : أيها الناس، أيها الناس أسرعوا إلى المسجد، وينادي بأعلى صوته : يا أبا الوليد أوقع شر بالبيت يا أبا الوليد ؟ . قال الوليد في غمرة الإنفعال : يوشك السيل أن يجرفه، أسرعوا وحولوا الماء بعيداً، وضعوا حول الكعبة سياجاً حتى لا تتساقط جدرانها .

ويفشلون في تحويل السيل المندفع بعيداً عن الكعبة . وتقتحم المياه الهادرة دائرة المسجد، وتصدم الكعبة صدمات شديدة، بعد أن جرف السيل كل شيء أمامه ويتهدم الكثير من بيوت مكة، مما لم يصلب للماء المتحدر من صبب، وتذهب مع الماء المُزبد خيام الخزاعيين المقيمين أسفل مكة في حلف قريش، ويرفع الناس، النساء والذرية إلى أعالي الجبال، ويعودون على أمل حماية الكعبة المشرفة من عدوان الماء عليها، فإذا بالحرم كله مغمور بالماء، والكعبة وسطه كقارب لا يظهر منه سوى شراعه، فلا يملكون إلا الدعاء، والابتهال ثم ينحسر الماء بأمر الله، ويخف القرشيون إلى بيتهم المقدس، ليروا ما أصاب البناء من السيل العنيف، فإذا بجدران الكعبة قد تصدعت، وبابها الخشبي قد تهاوى على ضربات السيل، فاندفع الماء إلى داخلها، وأفسد ملاطها، وأغرق كنوزها مما يهدى إلى الكعبة .. قال أبو طالب : صدق الوليد بن المغيرة وأبر لما أراد أن نهدم الجدران لنعيد البناء من جديد . ثم صاح في الناس : يا معشر قريش قد آن أن نجدد عمارة البيت، ونشد بنيانه ونرفع بابه .

واجتمعوا في دار الندوة كعادتهم، كلما حزبهم أمر، لمدارسة الموضوع . ولا مراء في أن الشيطان قد اتخذ مجلسه في هذا الاجتماع ليفتن الناس، ويردهم إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، ففي وجوده بينهم صرف للهمم عن بناء الكعبة، الأمر الذي يعرضها للزوال، وزوالها من مكة ضياع أبدي لدين إبراهيم، ولم تكن تفوت إبليس فرصة كهذه أبداً، اتخذ صورة رجل من أهل نجد، وجلس في زمرة بني عبد الدار، فهم حملة لواء المعارضة في الهدم وإعادة البناء . وتكلم أبو طالب قال: قد كنتم يا معشر قريش، قد كنتم تنتظرون علامة من ربكم على هدم البناء المهترى وإعادته قوياً صلباً مهيباً، فها قد جاءتكم العلامة، الحريق الذى تسببت فيه بأمر الله امرأة من الحمس في العام الماضي فشمل ستر الكعبة وملاطها، ثم جاء السيل فجرف من حجارة الكعبة ما يهدد بانهيارها في أية لحظة . يا قوم وأدركوا العلامات، أدركوا العلامات فقد تواترت .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .

ملحوظة:

هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة ..  هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.

محمد مصطفى


تعليقات

التنقل السريع
    close