( الحلقة/ 27 ) الكعبة تحترق !!
من كتاب الطريق الي النور للكاتب ا/محمد مصطفي
صار البيت الذي ضم خديجة ومحمد أسعد بيوتات مكة، ولا تعرف قريش بيتاً رفرفت عليه الهناءة والرفاءة والرحمة كبيت محمد بن عبد الله، ولكن مكة وأهلها كانوا عن بيت محمد وخديجة في شغل، فقد كانوا عاكفين على تجارتهم في رحلة الشتاء والصيف، مغموسين في الصراع الدامي على أطراف حدودهم، منكبين على أصنامهم حول وأمام الكعبة، ضاربين في الشرك موغلين فيه .
ويقف بيت الله الحرام، كعبتهم شاهداً على هذا الذي يحدث حوله، يقف البيت العتيق ينتظر النجدة التي قرب أوانها، والتي ستخرج من هذا البيت، الذي يضم بين جنباته رسول آخر الزمان، بيت خديجة .
يقف بيت الله الحرام صامداً، بعد أن كابد عناء الزمان على طوله، لم يتغير ولم يتبدل منذ أن شيده سيدنا إبراهيم مع ولده سيدنا إسماعيل عليهما السلام، طوله ثلاثون ذراعاً، وعرضه اثنان وعشرون ذراعاً، وسمكه سبعة أذرع، لم يُسقف وله بابٌ، وظل على وضعه هذا حتى أتت عاديات الدهر عليه، من حرائق وسيول، واضطرت قريش لإعادة بناء بيت الله، وأذن الله أن يشترك الرسول صلوات ربى وسلامه عليه في هذا الحادث الجليل، الذي أثار اهتمام القبائل جميعاً في أرجاء الجزيرة العربية كلها، قبل بعثته عليه الصلاة والسلام بخمسة أعوام .
ويأتي مساء على مكة تستفيق من نومها على صياح الناس، وصراخ المذعورين : أفيقوا يا معشر قريش، أفيقوا يا أهل الحرم، الكعبة تحترق .
ويهرعون إلى دار سيد مكة – الوليد بن المغيرة – ينادونه : يا أبا الوليد، ياأبا الوليد، النار قد أكلت أستار البيت، وأمسكت بالحجارة، وينتفض الوليد من رقاده فزعاً : ويحكم ؟ اجلبوا الماء في الدلاء من زمزم وألقوه على الكعبة، يا معشر قريش ليشترك كل منكم بجهده .
وينطـلق ( ابن الأروان ) إلى دار أبى طالب، ويصيح : يا أبا طالب، ياأباطالب، النار تلتهم البيت، ويهب أبو طالب كالعاصفة خارج الدار : ماذا يحدث ياابن الأروان ؟ ما هذه الحرائق التي أراها والأدخنة ؟ قال ابن الأروان : النار أكلت أستار البيت وأتت بنيانه، قال أبو طالب وهو يهرع نحو البيت : هلموا ادعوا كل قريش ولا تدعوا في مكة نائماً وبيت الله يحترق .
ويتدافع أهل مكة كلهم، رجال ونساء وأطفال وشيوخ، من يحمل دلاء الماء ويُلقي به على النار المتشبثة بالأستار، ومن يحمل المكتل يملؤه تراباً يحثه على النار وسط صراخ الصبية وعويل النساء وصياح الرجال : انقذوا كعبتكم حتى لا تصير طعاماً للنيران، فليعمل كل منكم بجهده، وصاح الوليد بن المغيرة : لا تألوا أيها الرجال جهداً لدفع النار، والله لو تهدمت ما تهابكم العرب بعدها أبداً، أطفئوا النار يا معشر قريش .
وتأتي النار على أستار الكعبة وما كان بداخلها من كنوز، ولكن البنيان يظل قائماً بعد أن استطاعت قريش في حماستها من إخمادها، ويهدأ الدخان حولها رويداً رويدا، ليكشف عن ضحيته، اسودت حجارتها، وتهرأ ملاطها، ونظر الناس إليها وقد أحزنهم المشهد، أهذه كعبتنا التي كنا نطوف حولها وهي زاهية في ردائها ؟ ولا يجد سادة مكة وأشرافها مناصاً من الاجتماع للتشاور فيما يفعلونه إزاء هذا الضرر الذي لحق ببيت الله .
اجتمعوا في دار الندوة لبحث الموقف، وتزعم الوليد بن المغيرة سيد قريش الندوة وقف أمامهم وقال : إنما وقع ما وقع بتساهلنا مع من يطوفون حول الكعبة على هيئة زرية، لا ترضى رب هذا البيت، الحَمْسُ الذين يطوفون عرايا، والنساء يحومن حولهن بالمباخر، وجذوات النار، كان يجب أن نتصدى لهذا كله في حزم، ثم قام أبو طالب وقال : وما احترقت الكعبة إلا بشرر طار من مبخرة إحدى نساء الحمس( الحَمْسُ : هو الشدة فى الدين والصلابة، ونساء الحمس أى تلك النسوة اللائى كن يطوفن حول الكعبة بالمباخر )، قال الوليد فرت هاربة خلف الجبل بعد أن رأت ما فعلت حتى ما يدري أحد ماذا جرى لها ؟ لم يعثر أهلها على أثر لها !!
وقال أمية بن خلف : يا أبا الوليد نكسو الكعبة بأغلى ما لدينا – قال الوليد : يا ابن خلف تكسو ماذا ؟ تكسو بناءاً اسودت أحجاره وتهرأت وأوشكت على السقوط، الأجدى أن نعيد بناء الكعبة، فقام عائد بن مروان وقال : ماذا ؟ نعيد بناء بيت الله ؟ لم نؤمر بهذا يا ابن الوليد !! قال الوليد : فننتظر ماذا يا عائد بن مروان ؟ تنتظر حتى تتساقط الكعبة حجر حجر ولا يبقى منها غير القواعد التي أقامها أبونا إسماعيل مع إبراهيم !!
قال عائد : عندها نعيد البناء قوياً سليماً كما نريد له أن يكون – قال الوليد وقد أحس أن رأي عائد سرى في عقول من في الندوة : ويحكم ؟ وأي فرق بين أن نشرع في ذلك من اليوم، وبين أن ننتظر حتى يتهاوى البناء ؟ لا أرى والله فرقاً !! قال عائد بن مروان : لا يرضى ربنا على ذلك . قال الوليد : وما يدريك يا ابن مروان أن ربنا لا يرضى ؟ وانسل من بين المنصتين للحوار أمية بن خلف قال : لو أنه يرضى يا أبا الوليد لا جتمعت كلمتنا على الهدم وإعادة البناء قال الوليد : ويحك يا ابن خلف، أليس هذا الذي حدث للبيت إشارة عن رضا ربنا عن الهدم والبناء ؟ قال أمية بن خلف : لست أراه كذلك . وقال عائد بن مروان : يا أبا الوليد نعرض الأمر على سادات مكة كلهم، فإن أقروك على رأيك أسهمنا معك فيما تريده للكعبة .
ولم يقر سادات مكة رأي الوليد بن المغيرة، واكتفت قريش بما كست به الكعبة من الخز والديباج، وطوى الناس صفحة الخلاف حول بناء الكعبة، إلا ما كان من أبى طالب، فكان على رأي الوليد بن المغيرة، ولكنه لما رأى الجمع على خلافه نأى بنفسه جانباً عن الملاحاة والجدل، وآثر كتمان ما استقر في قلبه وعزمه، حتى يتحين الفرصة، ومرت الأيام وأبو طالب يتربصها، فهو يريد أن يضع قريشاً أمام أمر واقع، فيضطرهم لهدم الكعبة ثم تقوم عملية البناء، فلجأ إلى حيلة خفت عن رؤوسهم، أخذ سلماً كبيراً وحمله على كتفه وأمسك في يده معولاً وخرج إلى الكعبة متسللاً في جوف الليل، وتحرى عدم رؤية أحد له، واختار ليلة باردة من ليال الشتاء في مكة، الظلام يطوي بيوت البلدة كلها في معطفه الأسود الثقيل، والسكون يريم على أم القرى، ليلة نامت فيها النجوم وغاب عن سمائها القمر، اختارها لمسعاه الذي عزم، ولكن عيون مكة لا تخفي عنها خافية، فقد راب – عتبة بن ربيعة – ما رآه من إبى طالب، يخرج من داره في ساعة منكرة يحمل سلماً وبيده معولاً، ماذا يريد أن يفعل بهما وهو متجه إلى الكعبة ؟
لكن عتبة لم يدر ما يدور في خلد أبى طالب الذي عزم على تهديم إحدى حوائط الكعبة فإذا أفاقت مكة ورأتها متهرأة، اضطرت لهدم بقيتها وإعادة البناء قوياً سليماً، .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
___________________________________________________________
تكملة ( الحلقة/ 27 ) الكعبة تحترق !!
___________________________________________________________
ويعود أبو طالب دون أن يفعل، ويخرج في الليلة الثانية، ويترصد له عتبة الذي أبلغ سيد مكة – الوليد بن المغيرة – بما رابه من أبى طالب ليلة أمس، ويسأله الوليد الذي خرج معه يرقب سير أبى طالب : أواثق أنت يا عتبة مما رأيت ليلة أمس ؟ قال عتبة : يا أبا الوليد، أو كنت أجشمك ما أجشمك الليلة من متاعب السراة في ساعة منكرة كهذه لو لم أكن واثقاً مما رأيت ؟
قال الوليد : صدقت يا عتبة ما أحسبك تفعل شيئاً كهذا إلا لأمر جلل .
قال عتبة : أجل ورب هذه البناية، لقد رأيته أمس ينسل من داره وقد حمل على كتفه سلماً من خشب ومعول، ثم قصد الكعبة فنصب سلمه قرب بابها، ثم هم بالصعود إلى ظهر الكعبة، ثم رأيته وقف فجأة، يتلفت حوله في حذر، كأنما سمع حثيث ثوبي، أو وقع قدمي، فنزل عن سلمه خائفاً يتوجس وعاد إلى بيته مسرعاً يتلفت خلفه في كل خطوة ملهوفة يخطوها هناك .
قال الوليد : وهل رآك ؟ قال عتبة : كلا لم يرانى، وحين كان معنا في دار الندوة هذا الصباح حسبته سيذكر ما كان منه البارحة، ولكنه كتم سره ولم يتكلم .
قال الوليد : ولم تسأله ؟ قال عتبة : إنك يا أبا الوليد لتعرف إكبارنا له، كما تعرف قريش كلها مدى إكباره للكعبة واحتفائه بكل ما يمسها من قريب أو بعيد، يا أبا الوليد ألم نسمه ريان بني هاشم، لهذا استحيت أن أسأله . قال الوليد : عجبت لما يفعل، أكان معه أحد من أولاده ؟
قال عتبة : كلا . قال الوليد : فهو يخفي أمره عن الناس جميعاً . قال عتبة : هذا ما أظنه، ولهذا كلمتك فيما رأيته منه، وجئت بك الليلة لتشهد كما شهدت . قال الوليد : والله إني لأستحي أن أتجسس على سيد من سادات قريش، لنعد يا عتبة ونسأله في الغد عن أمره . قال عتبة : وما يدرينا أنه ساعتها سينكر . قال الوليد : ما اعتدنا من بني هاشم الكذب . قال عتبة : لن يكذب، ولكنه سيخرج بالصمت عن لا ونعم، والرأي أن نكمن وراء الكعبة إلى أن يأتي منسلاً بالسلم والمعول فنفاجئه بظهورنا ونسأله خافي أمره فلا يملك أن يخفيه .
واقتربا من الكعبة ويسأل الوليد : وأين نختبئ حتى لا يرانا يا عتبة، أجابه : وراء ستر الكعبة . قال الوليد : نعرف أن ثياب الكعبة لا تخفي وراءها شيئاً كأنما بقى للكعبة ثياب !! قال عتبة وهو يهامسه : ما هذا بخطئنا يا أبا الوليد إنما ذلك فعل بني عبد الدار، لهم الحجابة ولا نراهم يحسنون القيام عليها، مر على آخر كسوة لها ما يدنو من العام، تلك التي جمعنا فيها من أموالنا حين احترقت أستارها، وأوكلنا لبني عبد الدار صنع كسوتها تلك التي تمزقت .
قال الوليد وهو يحاول خفض صوته فلا ينكشفا لأبى طالب : ليت الأمر يا عتبة يقف عند حد الكسوة، ألا ترى جدرانها التي تهرأ بعضها ولم يتحرك أحد ليكسوها ويصلح أمرها، ويعيدها إلى ما كانت عليه من الرواء والبهجة أيام أجدادنا .
قال عتبة : أنعجز عن أن نكرم الكعبة كما أكرمها الأجداد يا أبا الوليد ؟ . قال الوليد : إذا كان الصباح دعونا الناس .. وينقطع الحديث فجأة . يرى الوليد من مخفاه ما يقطع همسه فيقول : ها هو يا عتبة، إنه قادم إلى الكعبة . قال عتبة وهو يتستر خلفه : اختبئ . اختبئ يا أبا الوليد بعيداً عن باب الكعبة فقد رأيته المرة السابقة يتحرى الباب , ويضع سلمه قربه.
ويقترب أبو طالب والسلم على كاهله، والمعول في يده، فإذا صار عند باب الكعبة، نصب سلمه واستعد للصعود، لم ير عتبة بن ربيعة، ولا رأى الوليد بن المغيرة، ولكنه ما هم بالصعود حتى سمع حس حركة وراء ظهر الكعبة، فوقف ليعرف حقيقة ما سمع، ثم ظهرا له . فاجأه الوليد : أبو طالب ؟ . عجباً ما جاء بك الساعة يا أبا طالب إلى الكعبة ؟ قال أبو طالب : عمت مساءً يا أبا الوليد، وعتبة بن ربيعة معك ؟ قال عتبة :جئنا لنطوف يا أبا طالب، وأنت ؟ ويقرأ أبو طالب في وجههما التجسس عليه، وبدا الإرباك على حالهما فقال لهما : أتحبان أن أزور لكما سبباً من الأسباب يسكتكما عني ؟ لا والله لا أفعل . قال الوليد وقد مسه الحرج : لا عليك يا أبا طالب، إنما خشي عتبة عليك ما كان منك بالأمس، فقال لي ما قال هذا الصباح، فلا يداخلنك من وجودنا الساعة شئ يغضبك .
نظر أبو طالب إلى عتبة وقال : كنت أنت إذن يا عتبة من سمعت حسه ليلة أمس . قال عتبة : أجل يا أبا طالب . قال أبو طالب : وجئتما الليلة لتعرفا الأمر ؟ . قال الوليد وقد تبدت الحيرة من وجهه : إن كان الأمر يخصك وولدك وأهلك فلا تقل شيئاً . قال أبو طالب : إنه ليخص أيضاً كل قريش غيور على الكعبة ومآثرها وما جبلنا عليه من حبها واحترامها، وتوقيرها شعاراً لدين إبراهيم .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
الكاتب الكبير/ محمد مصطفى🌹🌹
تعليقات
إرسال تعليق