( الحلقة/ 22) الطفل محمد صل الله عليه وسلم يعود إلى أمه
من كتاب الطريق الي النور
للكاتب ا/محمد مصطفي
**حطت القافلة فى مكة، قافلة مرضعات بنى سعد، وتوجهت حليمة إلى ـ آمنة بنت وهب ـ فى دارها، ولم تصدق آمنة نفسها، رأت صغيرها ـ محمد صلوات ربى وسلامه عليه ـ يتكلم كأحسن ما يكون الكلام لابن العامين من العمر .. التقفته تحتضنه بلهفة حارة، تواصل فيها التقبيل والعناق ممزوجا ببكاء الفرح، وينساب دمع الأم الحانية آمنة بنت وهب، على خديه الشريفتين وبيديه الصغيرتين يمسح عبرات أمه الدافئة وهو يداعبها كأنما الملاك يحلق فى أجواز الكون، لحظات تهتز لها السماء والأرض، لحظات هى بعمر الزمان طولا، وبعد أن تماسكت آمنة واستردت ثباتها إثر موقف الأشواق واللهاف ذاك، نظرت لحليمة السعدية نظرة ود وامتنان، وخرجت كلمات الشكر للمرضعة حليمة، وأرسلت آمنة إلى جده عبد المطلب ليجزل لها العطاء نظير تلك الرعاية التامة، وفجأة لم تتمالك حليمة نفسها، أجهشت بالبكاء – وتتعجب آمنة لبكائها !! قالت لها : ما يبكيك يا بنت أبى ذؤيب، إنك والله أحسنتِ صنعا بولدنا ؟ – قالت حليمة : ناشدتك الله دعى لى محمدا، فأنا تعلقت به تعلقا شديدا ومتبركة بجواره، ولن أقوى على الحياة بدونه، والله إنه ليعز على قومنا فى بنى سعد فراقه عنهم –**
**قالت آمنة : دعيه يا حليمة يجلس بيننا حتى يعرف أهله، ويعتاد عليهم .**
**قالت حليمة : أخشى عليه الأمراض التى سادت فى مكة، جراء كثرة ورود الأخلاط عليها، وكما ترين حاله، فأنا ساهرة على راحته، والصبية فى باديتنا ألفوا اللعب معه – قالت آمنة بعد أن أحست استمساكا به، ورأت بأم عينيها استرعاءا منها، وأدركت خوفاً عليه كخوف الأم أو يزيد. **
**قالت فى اطمئنان : فليكن معك، ولن يكون حاله معنا بأفضل من حاله فى بنى سعد . **
**رجعت به حليمة والفرح يغمرها تقول لزوجها : قد استجاب الله دعائى، ها قد رد إلينا اليتيم محمدا –**
**وبعد أشهر من رجوعه، حدثت الحادثة التى غيرت مجرى التاريخ كله، تلك الحادثة التى لم تستطع بنو سعد الوقوف على معناها، ولا أهله فى مكة، ولكن لما نزل أمر الله وقف الجميع على معناها الجليل .**
**فى ذات يوم من أيام الخريف، الذى تبدو فيه البادية على أروع وأجمل حالاتها، خرج الصبية كعادتهم إلى ما وراء التلال، يتقاذفون بالجندل لعبتهم المفضلة، وكان فيهم محمد وعبد الله ابن حليمة، وبينما هما فى لهوهم البرئ مع الصبية، أقبل رجلان لم يألف الصبية هيئتهما ولا وجهيهما، وكان بيد أحدهما قسط من ذهب، يلمع فى الشمس الرفيقة، وأمسك الثانى وكان يحمل سكينا ماضيا، أمسك بيد محمد فأضجعه فى رفق، فهرب الصبية الباقون إلى غير بعيد، إلا ما كان من عبد الله، فقد حمله خوفه على أخيه محمد التصدى لهذين الرجلين – فقال عبد الله لهما : ما أربكما إلى هذا الغلام، فأنه ليس لنا، هذا ابن سيد قرشى، وهو مسترضع فينا، وماذا يرد عليكما قتله ؟**
**قالا : ليس عليه من بأس – قال عبد الله وهو فى غاية الذعر : فلماذا تفجعونه هكذا ؟ قالا : ليس عليه من ذلك بأس – قال عبد الله : إن كنتما لابد قاتليه فاختارا منا أى من شئتما، فيأتكما مكانه فاقتلاه ودعا هذا الغلام فإنه يتيم –**
**قالا : إنه لا بأس عليه مما نفعل به ولا عليكم –**
**فانطلق عبد الله حتى كان مع أصحابه ينظرون إلى ما يفعل الرجلان بصاحبهم محمد، واندهش الأطفال وروَّعوا من المنظر المخيف الذى تبدى لهم، وراح يقول بعضهم لبعض : ألا ترون إلى ما يفعلان مع محمد، يا إلهى إنهما شقا صدره ما بين الثديين إلى العانة ولا نرى دماء – وقال آخر : وهذا الذى أخرجاه من الصدر، كأنها مضغة سوداء، ألقيا بها بعيدا –**
**وانتاب الصبية هلع وخوف من بشاعة ما يرونه ومن غرابته، وظلوا يرقبوا ذلك المشهد المخيف عن كثب ويقول أحدهم وهو ينظر : أخرجوا أحشاءه، لِمَ يفعلان هذا ، إنهما يقتلانه بالسيف ومحمد لا يشعر بشيء ، نسمعه لا يتكلم ، وقال آخر : كيف ؟ إنه يبتسم – ويقطع تهامس الصبية الخائفين صراخ عبد الله : ماذا يفعلان بأخى ، أسرعوا إلى الحى نستصرخهم على هذين الرجلين ، وصاح الصبية خلفه : لنسرع هيا –**
**وأسرع الصبية إلى ديار بنى سعد، واندفع عبد الله إلى أمه حليمة – قال لها : هيا أسرعى يا أماه رجلان يصرعان محمدا – وسرعان ما انتشر الخبر فى بادية بنى سعد ، وهرول الجميع إلى مكان الحادث ، بعد أن حكى الصبية القصة ، وانطلق الحارث وزوجه حليمة مسرعين إلى حيث نجدة محمد ، فوجدا محمدا مكانه هادئا أشد ما يكون الهدوء ، وعلى وجهه تلك الابتسامة الوادعة التى ميزته على طول حياته، فظنت حليمة ومن معها من بنى سعد أن الصبية قد كذبوا فيما أخبروا ، فلا هو صريع ولا به دماء ولا حتى عليه أى علامة تشى بفزع أو خوف – ولما كشفت حليمة قميصه لتتفحص محمدا ، رأت أثر الشق الذى حكاه الصبية بين صدره إلى منتهى عانته كأنه الشراخ .**
**خافت حليمة على محمد خوفاً شديداً ، وقالت لزوجها : لعلهما من الجن ، دعنا نُرجع الولد إلى أمه ، فأنا لست مطمئنة على حياته بعد الذى حدث ، وتوجهوا به إلى مكة واضطرت حليمة لإرجاعه خشية أن يحدث له مكروه، فتكون العاقبة وخيمة – حطت به فى مكة، وذهبت إلى دار آمنة أمه وقالت لها : هذا ابنك محمد معافا صحيح البدن، ليس به شيء ، قالت آمنة فى استغراب : عجباً لأمرك يا حليمة !! منذ شهور ألححتى عليِّ برجوعه إليكم وها أنتِ الآن تُرسله على عجل، أو حدث شيء لمحمد أفزعكم ؟ قالت حليمة بلهجة تخفى من وراء الكلام كلاما : لا شيء ، لم يحدث شيء ، وأحست آمنة أنها تخفى شيئا ما فقالت : استقسمك باللات ، أحدث لمحمد مكروه ؟ قالت حليمة تحت وقع الإلحاح كل شيء حدث ، وحكت القصة بتمامها .. قالت آمنة : أخفتِ عليه من الجن ؟ قالت حليمة : نعم .**
**قالت آمنة : لا والله، والله لقد رأيت عند ولادته منادى ينادينى فى المنام يقول لى : قولى أعيذه بالله الواحد من شر كل حاسد ، والله ما يصيبه شر – ثم قالت : دعى لى محمداً فأنا أولى به –**
**ولم تطلب حليمة ثمناً ولا أجراً لما قامت به، وهمت لتغادر الدار فأمسكت بها آمنة، وأكرمتها أيما إكرام، وأعطتها فضلا عن ذلك زاد الطريق ومؤنته، وغادرت حليمة وزوجها الحارث مكة، مُخلفين وراءهما خير الأطفال وخير الصبية التى دخلت بنى سعد . **
**ودخلت ـ حليمة بنت أبى ذؤيب ـ التاريخ ، وزوجها ـ الحارث بن عبد العُزى بن رفاعة، وابنهما عبد الله، والشيماء أخته ـ دخلوا جميعا التاريخ من أرحب أبوابه، وكتب القدر على حليمة أن تسهر على سيد البشر، وتلك آية عظيمة من الله، أن يجعل خير خلقه يمر بالأطوار البشرية الطبيعية، ويُشرف البسطاء أمثال حليمة فى إعداد البذرة المباركة، التى أنبتت شجرة ضخمة تعانقت أغصانها بعنان السماء ..**
**صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .**
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تعليقات
إرسال تعليق