القائمة الرئيسية

الصفحات

قلوب ضائعه الفصل العاشر والحادي عشر والثاني عشر

 


قلوب ضائعه


الفصل العاشر والحادي عشر والثاني عشر

رحل الليل سريعًا حاملًا في جوفهِ الكثير، وتناثرت خيوط النهار تارك بصمتها من الضوء في كُل ما تقع عليه .. وعيناهُ الجاحظة لم تستطع أن تُسدل ستائرها، فكُلما حاول أن يستجيب إليه سلطان النوم، يأتي طيفيها الباكي مُسببًا رحيل السلطان من جديد .. ترك "خالد" النافذة وتحرك لجلب قدح أخر من القهوة عاقدًا العزم على أنهاء دراسة الجدول؛ من أجل أنشاء عمل خاص به. 

فتح باب غرفتهُ ببطء، فهو يعلم نوم والدته، وتحرك بحذر مُعتمدًا على الضوء المُتسرب من النوافذ، وذاك المصباح الخافت في نهاية الردهة، ولكن قبل أن تطء قدماهُ المطبخ كان صوت باب المنزل يُفتح، ليُصاب بالذهول وسُرعان ما تركهُ جانبًا فوالدهُ لن يأتي لذاك المنزل قط.. وهرول إلى الباب لتجحظ عيناهُ من رؤية والدتهُ في غير وعيها وتلك الملابس التي بالكاد تُغطي جسدها، ليُصاب بصاعقة من الضيق من تلك الهيئة، فيُجبر قدماهُ على الوصول إليه، وبصوت حاول أن يكون طبيعيًا : كُنتِ فين يا "صافي".. 

لم تستطع شفتها الرد سوى ببعض الهمهمات، وجسدها ما زال يترنج، ويداه قابضة على المقبض.. 

أخذ بضع أنفاس مُحاولًا السيطرة على غضبة،  ويداهُ تمتد لإسناد جسدها، ويداهُ الأخرى تُخرج مُفتاحها من الباب مُقرنًا هذا بنبرتهُ السابقة : يلا يا "صافي".. وتحرك معاها قاصدًا الحمام، وما هي إلا دقيقة ويداهُ كانت تفتح الصنبور بماء بارد لملأ المغطس لها، وابتعدت للخلف تاركًا الصنبور مُتجهًا إلى حوض الوجه فاتحًا الصنبور الأخر، ويداهُ تغترف من الماء وتنثرهُ على وجهها، وصوتهُ الجامد يُناديها : "صافي".. "صافي".. 

مرت عدة دقائق على ذاك الوضع، قبل أن تشهق بقوة، وحلقها يعود لتحكم في مخارج الحروف، وقدمها تستطيع حمل جسدها دون ميالًا، ويدها ترتفع لإزالة تلك القطرات العالقة بوجهها، وبتعلثُم :"خالد".. 

اغتصب بسمة باهتة، وبهدوء :  هستناكي برة.. وخرج مُغلقًا الباب خلفهُ، مُتجهًا إلى المطبخ من جديد لصُنع قدحين كبيرين من القهوة.. 

**

على الجانب الأخر بنفس الوقت، كانت  "صابرين" تزفر أنفاسها للمرة التي لا تعلم عددها، فقد قضت ليلتها في إنهاء جميع ما لديها من الأقمشة، وقلبت غُرفتها رأسًا على عقب؛ عل هذا يُريح تخبطها، وها قد تسلل الضوء من نافذة الغرفة معهُ الحل الأمثل لذاك الأمر الذي يُرق مضجعها، ولكن ذاك الحل سيترُك جُرحٌ غائر في قلبها وثقوب عدة في حياتها ولكن ما من حل سوى هذا فهي لم ولن تقبل أن تكون بتلك النظرة العاهرة في عيناهُ، ربما خطئها في البداية أنها تركت مقاليد أمورها لما يُعرف بالحب بعدما تجرعت من أكوابهُ الكثير، ليصدع جرس الإنذار مُنبهًا أنها لم تُحب من قبل، فذاك كان أشبه بعلكة الفراولة التي طالما اشتهتا ولكن مع أول مضغة كان جسدها يتحسس ويُصيبهُ الحُمى.. زفير أخر تعبهُ شهيق وعزم قوي يتولد بداخلها، غدًا سترفض في قلب بيتها وجوده ولتحترق في نيران غبائها.. فاقت من تخبطها سريعًا وألقت نظرة راضية على غرفتها ورائحة النظافة تتسلل إلى أنفاسها تاركة القليل من السلام النفسي الذي سيذهب في دربٍ غير دربها.. وضعت الشريط اللاصق على ذاك الغُلاف وتحركت لتُحضر طعام الإفطار لوالدتها.. فتحت باب الغُرفة وتحركت لغرفة والدتها قاطعة الردهة وبنبرة هامسة؛ حتى لا تفزع والدتها : ماما.. وقبل أن تُعيد النداء كان صوت "نعيمة" يعلوا بالجواب : تعالي يا "صابرين".. 

تحركت على الفور من جوار الباب لاتجاه نوم والدتها وبتساؤل : ماما في حاجة تعباكِ؟.. 

-لا يا حبيبتي، مجليش نوم بس.. يلا ساعديني أصلي. 

-حاضر.. وتحركت من فورها لجلب الكُرسي وتثبيتُه؛ من أجل وضعها عليه.. وما هي إلا ثلاث دقائق وكانت تفتح باب الغرفة على مصرعيه؛ لخروج الكرسي ودفعة صوب الحمام.. مرت النصف ساعة  وكانت "صابرين" أنهت وضوء والدتها وتبديل ملابسها، ودفعها الكرسي باتجاه القبلة تاركة والدتها لصلاتها، وتحركت لتضع البيض على الموقد وأنهاء صلاتها قبل شروق الشمس.. 

**

صمت مُهيب يرنو على تلك الغُرفة لا يقطعهُ سوى صوت الأجهزة الطبية.. عينها تنتقل بهدوء بين ذاك الجسد الغافي الذي قرر ترك همهماتهُ منذُ ساعات مُستسلمًا لنوم، وذاك الكهل الغافي  الذي رفض الاستجابة لها والذهاب لمنزلة.. تحركت بهدوء للاختلاء بنفسها، وجلب قدح قهوة لها، وكوب حليب أغلقت باب الغُرفة بحذر يُنافي ذاك التخبط بداخلها وذاك التساؤل يلحُ عليها منذ أمس، على وجه التحديد بعدما أغلقت الهاتف مع والدتها ودخولها غُرفته.. زفرت أنفاسها بتمهل والكثير يموجوا بداخلها ولكن ما يطفو على السطح أن وجودها لا يصح من أجل والدتها على الأقل، لتعقد العزم أنها ستخبر والدهُ بصعوبة حضورها.. أخذت قدحها وكوب الحليب  وعادت للغرفة من جديد، لتفتح الباب بحذر وعينها تسقط على موضع الكرسي ولكن لا أحد، لتدور عينها نصف حركة دائرية لتقع عيناها عليه بجوار النافذة، فتتحرك بخفة على الأرضية، وبهمس : باشا.. 

رفع "توفيق" عيناهُ لها، والقلق يطلُ من حدقتيه... 

بلعت غصة في حلقها، وبثبات اعتادت عليه  :هو كويس.. وتنحنحت بإحراج : ممكن تشرب، وأشارت بعينها لسائل الأبيض في الكوب.. ليصلها الجواب تحريك جفنيه بنعم.. لتتحرك لترك قدحها وجلب  المقعد؛ من أجل الجلوس  أمامهُ ومساعدته.. مرت دقيقة وصمت تام يطبق عليهم قطعتهُ بمرحها : وحدوه.. 

ابتسم بهدوء وهمس بالتوحيد، وبنبرتهُ الرجولية : قولي الي أنتِ عاوزه.. 

زفرت بتمهل قبل أن تشرع في القول :أستاذ "توفيق" أنت عارف كويس أنا بحترمك أزاي ونفسي أعمل أي حاجة أرد بيها جميلك عليا، لكن وجودي الفترة دي صعب.. وتوقفت لبرهة لمعرفة أثر كلماتها عليه ولكن ملامح خاوية كانت الجواب، التقطت أنفاسها من جديد وأكملت : لكن كابتن "حازم" الفترة الجاية محتاج راحة تامة وأنا مش هقدر أتعامل مع الوضع.. 

-طيب.. 

-طيب أيه، يعني حضرتك مش مدايق مني.. 

-طبعًا لا، بس على الأقل خليكي معانا فترة لخد ما نلاقي شخص مناسب.. 

-طيب.. وتلحفت بالصمت وابتعدت بمقعدها لتتجرع  قدحها بعدما أصابهُ البرد، فكان بمرارة العلقم لجوفها...وعينها تُسافر في نقطة ما غافلة عن ذاك الذي استيقظ وسمع حديثهم.. 

قبل دقائق استيقظ "حازم" من نومة على صمت تام يُحيط به، ولكن لم تمضي الثانية إلا وصوتها يخترق صيوان أُذنيهِ بهمس خافت مع صوت ما يحفظهُ عن ظهر قلب، ليبتلع غصة ما في حلقة، ويغمض عيناهُ من جديد وأذنهُ تُكمل التقاط المُتبقي من همسهم، وعقلهُ يعقد العزم على وجودها بجواره، وسخرية لاذعة تجلدهُ "هل ظننتها تكنُ لكَ شيء يا أحمق".. ليفتح عيناهُ وبنبرتهُ الرجولية : "رحمة".. 

فاقت من تحديقها في الفراغ على صوته، فخفق قلبها بقوة، وهرولت نحوه : أيوه يا كابتن.. 

بحزم ثابت : عاوز أروح.. 

-صعب يا كابتن، حضرتك لسه... وابتلعت باقي حروفها مع غضبه المُتفجر كبُركان خامل... 

ارتفع صوتهُ بغضب: شوفيلي مدير المخروبة دي عاوز أروح على مسئوليتي .. 

-يا كابتن ما ينفعش.. وقبل أن تحاول إقناعهُ بالعدول عن رأيه صدع صوت.. 

راقب "توفيق" هرولتها وبريق عينها، وتلك النبرة الجامدة في صوت ابنه، فهو قد علم باستيقاظ عندما وقعت عيناهُ عليه وهو يستمع لاعتذار "رحمة" عن العمل، وبنبرة ثابته : أطلبي الدكتور يا "رحمة".. 

وباعتراض : لكن يا باشا.. 

-اطلبيه يا "رحمة".. 

تحركت بإذعان لضغط على زر استدعاء الخدمة الطبية.. 

**

أنهى "خالد" تحضير قدحي القهوة وشطيرتين من الجبن، فلم يستطع فعل أكثر من ذاك، وتحرك بهم إلى الردهة جالسًا على ذاك المقعد من خشب الاربيسك مُنتظرًا خروج والدتُه، وقبل أن يُغمض عيناهُ مُستمتعًا بمذاق القهوة شعر بحركة قدميها، ليعتدل في جلسته ليضع القهوة والطعام أمامها دون أن تنبث شفتاهُ بأدني كلمة... 

تصحر شديد أحتل حلق "صفية" وشعور عارم بالأسف أحتل رسومها، وبنبرة شبة طبيعية : "خالد".. 

-كلي يا "صافي" وبعدين لينا كلام.. 

رفعت الشطيرة إلى فهما وقطعها ببطء وكأن قواطعها عجزت عن وظيفتها، وسُرعان ما ابتاعت ما في جوفها فهو لا طعم لهُ بفمها، لتحاول تجاذب أطراف الحديث : أنت كويس.. 

لم تستطع ملامح وجه إخراج أدنى تعبير يحتل وجهه، فأكمل بجمود : بقالك كتير مسئلتنيش عن حالي!.. "صافي" الوضع أتغير وأكيد مش أنا الي هتكلم عن مكانتك الاجتماعية وسمعة العيلة، عارف أنك مصدومة والوضع صعب من كل الجوانب لكن لازم نتعايش مع الوضع دا، مش هطلب منك غير بس توفير شوية وتقليل من خروجك، وشغل البيت أنا هقوم بيه لحين لما أتجوز.. وقبل أن يُكمل .. 

كانت تستمع بهدوء لما يقولهُ  ابنها، ولكن تجسدت الصدمة بخبر زواجه ليس رفضًا للفكرة  ولكن خوفًا من أن يدعها كوالدُه  ، وبذهول : تتجوز!.. 

حرك رأسهُ بهدوء اقترن بقوله : أيوه.. لكن الجواز مش موضوعي دلوقتي.. وأكمل قائلًا عندما رأي نظرة التساؤل تقفزُ من عينها... هبيع العربية وهشتري المحل الي قدام العمارة.. 

صدمة أم صاعقة لا يهم فجميع أجزاء جسدها نافرة من هول ما سمعت، ورسومها تحكي الكثير من الاستياء وبنبرتها السابقة : تبيع العربية عشان حتة محل.. أنت أتجننت رسمي يا "خالد"، أنا مش هسمح بكده أبدًا.. 

حاول الحصول على الهدوء فهو يعلم جيدًا عشق والدتُه للمظاهر الاجتماعية، وبنبرتهُ الرخيمة : "صافي" دا الحل الوحيد والا هنشحت... 

كان لواقع تلك الحروف أثرًا مدويًا على عقلها، سرعان ما انبثقت شفتها : روح لـ "توفيق" هو هيتصرف.. 

حرك رأسهُ بلا فائدة؛ فوالدتها دائمًا تُلقي معاناتها على أكتاف الغير، ليكمل بصرامة : العربية أنا عرضتها للبيع، وطبعًا مفيش نادي على الأقل سنة لحد ما الأوضاع تتصلح.. وتحرك إلى غرفته وقبل أن يدلف إلى غرفته  فجر أكثر القنابل قوة : أنا هتجوز مُطلقة ومن منطقة شعبية.. 

لم تدع "صفية" جزء من الثانية يمضي بعد انتهاء ابنها من تلك الصفعات ليزيد الطين بله بقرارهُ المعتوه، وبصياح  مُستنكر : أيه؟... مُستحيل.. 

-خالص يا "صافي" لكن أنا بحبها ولولا وجودها كنا بنشحت دلوقتي، وأغلق الباب خلفهُ غير قابل لرأيها.. 

** 

أنهت "صابرين" صلاتها وتحركت لتطوي المصلاة وتدعها في موضعها، وتحركت لجلب طعام والدتها والدواء.. وبعد خمس دقائق كانت تضع ما بيدها على المائدة، وبنبرة مرتفعة بعض الشيء : يلا يا ماما  الفِطار جاهز.. 

أغمضت "نعيمة" عينها، وحمدت القدير على عطاياهُ، قبل أن تُجيب : تعالي يا" صابرين" محتاجة أتكلم معاكي.. 

قطعت الخطوات الفاصلة بين طاولة الطعام ومقعد والدتها، لتجلس على تلك الأريكة المُقابلة، وباستغراب : أيوه يا ماما.. 

-وبعدين يا بنت بطني؟.. 

-بعدين أيه بس؟.. 

-حالك المتشقلب أنتِ وأختك، كُل وحدة فيكوا فاكرة أني عاجزة ومش هعرف، و... 

لم تدع  والدتها تُكمل وبفزع : بعد الشر عليكِ ، إحنا... 

حركت رأسها بالرفض، اقترن مع قولها : شر ايه يا بنت بطني، لما كل وحدة فيكم وجهها يتلون في اليوم مية مرة، وعينها تلمع زي النجوم وتتكسر زي الزجاج.. وانتظرت دقيقة تُراقب تعبير وجه ابنتها التائه لتُكمل : القلوب ملهاش سلطان لكن سلطان العقل والدين ميغلطش يا بنت عبدالله، ومتنسيش أنك في نظر الناس مُطلقة، لقمة ساهلة لأي حد، عقلك في رأسك تعرفي خلاصك... 

لأول مرة تشعر "صابرين" بتلك المهانة ليس اعتراضًا على والدتها ولكن؛ لأن الكلِمات لمست وترًا أخر قررت تركهُ منذُ مدة، لتنفرج شفتيها عدة مرات باحثة عن قول يُذكر ولكن، حروفها عُقِدة ول يُمكنها فك العُقد.. ليصدع صوت جرس البيت مُنتشلها من ذاك الموقف، فتهرول لطارق.. 

**

توسطت شمس الظهيرة كبد السماء، فكان الجو حارق للغاية، وكأن بابًا من أبواب جهنم فُتِح علي مصرعيهِ.. ارتفعت يدها بهدوء تُزيل قطرات العرق، وتتحرك لتُنهي تبديل تلك الشراشف، ولسانها يتمتم بحنق على تلك العائلة المجذوبة في كُل شيء أب يُجبر ابنه على البقاء، وابن يُصيح كالدجاج رفضًا لمكوث والده، وكلاهما يعتكف بالغرفة كالأطفال.. زفرت بحنق وقدمها تتعثر في السرير لتُطلق صرخة مكتومة من الألم، وتهمس : اللعنة.. وتتحرك صوب سلة الملابس وتضع بها الشراشف المُتسخة وتحملها لتنظيف ومتمتمه بكلمات غير مفهومة.. لتدخل المطبخ وتضع السلة بعُنف بجوار الغسالة وتبدأ بنقل ما فيها إلى الغسالة، وقبل أن تضبط المؤشر صدع صوت "حازم" بالنداء، فتحركت على مضض..  

قبل دقائق كان "حازم" جالسًا على مقعدهُ المُتحرك، يُريد الحديث معاها ول يعرف بماذا يبدأ، ليظل على تلك الحالة من التردد فتحسمها حنجرتيه القرار وبنداء : "رحمة" يا "رحمة".. 

-أيوه.. 

-كُنتي فين... 

- هكون فين يعني.. 

-طب أعمليلي شاي.. 

-مفيش غير حليب.. 

بنبرة هادرة من غيظه :" رحمة".. 

بابتسامة صفراء : بلا "رحمة" بلا بتاع ، هتشرب حليب تمام، مش هتشرب يبقي أحسن.. وتحركت قاصدة المطبخ، ويدها تعبث بهاتفها؛ للحصول على طريقة ما لصُنع حساء الدجاج ولكن هاتفها نفذ شحنه، لتغمض عينها محاولة جلب الهدوء وتذكر حديث اختها عن تصنيع الدجاج، ولكن الذاكرة لا تستجيب، لتجلس بضيق على مقعد مائدة المطبخ تُراقب الفراغ.. قبل أن تشعر بنداء اسمها، فتبتسم بهدوء : ايوة يا باشا.. 

أكمل "توفيق" الضغط على زر كرسيه المُتحرك، وبمشاكسة قاصدها : الجميل زعلان ليه.. 

رفعت إحدى حاجبيها باستنكار، وردت بعملية : تحب أعملك حاجة أستاذ "توفيق".. 

-لا.. بس لقيتك مدايقة قلت أتكلم معاكي شوية.. 

-شكرًا يا باشا، عن إذنك أنا لازم أمشي، والمستشفى هتبعت تمريض مكاني.. وقبل أن تتجاوز باب المطبخ للخروج.. تجمدت من قولة.. 

راقب تعابير وجهها جيدًا، ليُخبرها : حبتيه وخايفه ول أنا كبرت وخرفت.. 

بدأ الاستنكار والذهول جليًا على وجهها : نعم.. 

-تعالي نتكلم، يمكن دي أخر مرة نتقابل فيها.. 

استجابت قدمها للحركة والعودة المقعد من جديد رغم رفض عقلها هذا : ليه حضرتك قلت كده؟.. 

ابتسم برزانة وبنبرتهُ الرخيمة : كنت بعتبرك بنتي يمكن لأني شفتك شبها، لكن تعاملك برسمية معايا بلاش.. 

-أيوة بس.. وابتلعت حروفها مع.. 

-بس ايه... دماغك راحت فين؟..

-مارحتش لكن أنت شايف الوضع مينفعش، يمكن أنا لحد دلوقتي بقول ليه شخص بمكانتك يساعد بنت زي.. مش غريبة حبتين، لحد ما أقنعت نفسي أنها صدقة منك انك تساعدني أشتغل.. 

-عارفة يا "رحمة" أنتِ شبها في كُل حاجة من زمان رفضت شغلها عندي وقالت مبقبلش صدقة، بس الي متعرفيهوش أن الراجل مبيعملش صدقة مع أنثى الا لو شاف فيها حاجة وأنا شفتها فيكِ خوفت يحصلك زيها لما عرفت حكايتك، لكن أنتِ أقوى منها بكتير.. وأغمض عيناهُ قابضًا على تلك الدمعة العالقة بأهدابه، جامعًا البعض من ذرات الهواء، قبل أن يُكمل.. العين مراية القلب يمكن عينك لحد دلوقتي خايفه  لكن الي بتعملية مع "حازم" ليه دافع تاني أنتِ خايفه منو.. يوم ما طلبت منك تنتقلي معاه هنا قلت لو رفضت يبقي أنا خرفت لكن... 

-الحكاية أكبر من كده لا أنا ول هو ننفع، العقد مبتنفعش مع بعضها.. 

-بس بتقوي بعضها، الشيبة دي مش من فراغ.. 

-صعب، عن إذنك، وتحركت تقاوم دموعها، لتصدم بكرسيه المُتحرك، فتبتسم برزانة وتتحرك بهدوء صوب الخارج لتتوقف على.. 

كان "حازم" يستمع لما قيل، وقبل أن يُخبرها بمكنون قلبه، كانت قررت الرحيل دون عودة، مُلقية نظرتها الغائمة وبسمتها الباهتة بوجهه، لتنفرج شفتاهُ : "تتجوزيني".. 

صفعة حادة نالت من قلبها، على اثرها اهتز جسدها، ولكنها استعانت بتلك القطع الخشبية لثبات، وبجمود : الحكاية ملهاش بداية يا كابتن، واغلقت الباب خلفها بقوة تاركة لعينها العنان..

رانيااااصلاح

قلوب_ضائعة

الفصل الحادي عشر

وتبقى جِراح الروح الأكثر قسوة، فهي دائمةُ النزيف وكأنها لا تعرف طريقًا لشفاء، فتنتظر رياح القدر بغبارُها لتزيد الألم نكاية.. أغلق "حازم" عيناهُ مانعًا ذرات الهواء من العبث بتلك الغيوم المُتجمعة في حدقتيهِ، ولكن كانت لأنفه رأي أخر فقد اعترفت الكثير والكثير من الذرات؛ لتُطفأ ذاك البُركان المُشتعل بداخلهُ من رحيلها.. لو أخبرهُ أحدهم قبل سنوات أن شعور اليتم سيعود ليستوطن روحه من جديد ما كان صدق بل كان أوسعهُ ضربًا، ولكن تلك الحقيقة المُرة أن اليتيم لم ولن يُشفى من جِراح الاحتياج، وهي كانت كمادة لاذعة لشفاء، بها يُشفي الجرح ولكن مع ندبة أعمق في الروح تقيح الجرحُ على أثرها لإخراج ما بداخلهُ من خُبث الدماء.. لترتفع يداهُ لتمسد ذاك الألم النابض من بين أضلُعه، ولكن الألم يزداد قسوة ولهيب العجز يأكُل ما تبقى لديه من معالم للحياة، فهو أيقن أن شُعاع الحياة المُتبقي لهُ قد ولى..

خرج "توفيق" من المطبخ مُحاولًا أثناء "رحمة" عن قرارها، ولكن قد سبق السيف العزم مع إغلاقها الباب، ليعتصر فؤادهُ من الألم برؤية رسوم ابنه النابضة بالألم، ليتبرع قائلًا : لو بتحبها بجد الحقها، وهي عندها الي يخليها ترفض أي حاجة، بلاش تبقى زي تبكي على الي فات كل دقيقة..

لم يستطع  الرد ولكن تلك النظرة المُطلة من عيناهُ أبلغ من كلِمات لا تُعد ول تُحصي، ليدفع مقعدهُ المُتحرك قاصدًا الشُرفة، و قلبهُ يعتصر من الحزن، وما هي الا دقيقة وكان ينتظر خروجها من البناية، لتلتقط عيناهُ رأسها الضائعة بين كتفيها المُتهدلين، خطواتها المُنهكة، وقبل أن تنفرج شفتاهُ عن النداء...

قبل دقائق أنهى "حمدي" تناول إحدى اللفافات من سرواله، وعيناهُ مُثبتة على البناية ينتظر خروجها، و جسدهُ يغلي كالمرجل من فرط الغضب، وعقلهُ يُحيك الألف القصص والتخيُلات السافرة لما يجري معاها مع ذاك الرجلان.. ليستنشق عدة  أنفاس  من تلك المحمولة بين إصبعية ويخرجها بتمهل شديد وكأن ينقصهُ جنون من غِياب العقل، وقبل أن يخرج أخر ذرة من عبق النيكوتين بتلك المادة المُخدرة، التقطت عيناهُ هيئتها مُشعثه الشعر، ووجهها المُنتفخ، ليضع تخمين أقذر من السابق، ويتحرك تاركًا تلك العربة خلفُه..

قبل أن تتحرك قدمها من البناية كانت يدها ترتفع لإزالة ما تبقى من دموعها، لتتوقف بغتة بسبب ظهور ذاك الجسد أمامها، وقبل أن تصب جمام غضبها، كانت شفتها تهتف بذهول : "حمدي"..

كمضخة ضخمة رجت بهدير قلبه، فقد على أثرها التنفُس لدقائق قبل أن ينفض ذاك الشعور، ويرسم بسمتهُ الحزينة ونبرتهُ المُماثلة : كُنتِ فين يا أبله الدنيا مقلوبة عليكِ..

خفق قلبها بقوة، وبلهفة  :  ماما جرلها حاجة؟..

-لا يا ابلة الست نعيمة بخير، لكن..

لم تُفصح شفتها عن القول، فما زالت على أثر الصدمة، ولكن بعينها رأي آخر بالتساؤل..

أجاد رسم قِناع الأسف الذي تركهُ منذُ معرفتهُ بعُهرها، ليُكمل : البت "رضوى" بقالها كام يوم في دنيا غير  الدنيا، ومبتكلش أي حاجة..

-ممكن يكون دور برد..

-لا يا أبلة، شكل حاجة من أيهم حصلتها  في المدرسة وعاوزين نوديها لدكتور نفساني..

فزع أحل بعينها على تلك الصغيرة، لتُسارع بفتح حقيبتها، وشفتاها تُخبرهُ : هكتبلك رقم دكتور كويس... وقبل أن تُكمل كانت تسقُط في براثن سُلطان النوم..

ألقى "حمدي" نظرة على المكان من حولها قبل أن يحملها ويضعها في سيارتهُ مُنطلقًا إلى ما لا يعرف..

كانت عيني "حازم" تجحظ أكثر من ذي قبل، ويداهُ تقبض بقوة على مقعدهُ المعدني، ونبرة قاسية تُفارق حنجرتيهِ كالقذيفة : "رحمـــــــة".. لتبحث عيناهُ عن الهاتف طالبًا رقم أخيه، ليبدأ بدفع مقعدهُ بكُل ما لديه من قوة..

**

أخر ما يُمكنُنا توقعهُ هو أول صفعة تمرُ بنا  وهو ليس صفعة فحسب، بل ضربة لا مثيل لها من سواط العشق الضائع.. حُبِست أنفاسها لوهلة وأغمضت عينها لتأكد من وقوفهُ أمامها وقبل أن تُبدي رفضًا لوجوده ببيتهم، فقد عقدت العزم على الرفض، لتنفرج شفتها بحروف اسمه ما بين الكثير والكثير : "خالد"..

لم يستطع المكوث دقيقة أُخرى في البيت بعد حوارهُ مع والدتهُ، ليجد نفسهُ يأتي إلى منزلها دون تردد، وبنبرتهُ : ممكن أدخل..

نظرت حولها عدة مرات ليس للاختباء من حالها ولكن لذاك المُداهمة الغير محسوبة من هجوم جيوش الغير، وقبل أن تُجيب بأي شيء، كان صوت والدتها الجواب : مين يا "صابرين"؟..

أجلت حنجرتيها سريعًا، ولكن ليس لديها بطاقة تعريف لوجوده، ليتبرع هو بالدخول : مساء الخير..

غريب يقتحم بيتك، و يُلقي ترحيبًا، فما من مفر سوى الجواب والجود بكرم الضيافة، وعيناهُ تُرسل الكثير لابنتها مع قولها : اتفضل يا ابني..

رجفة قوية مرت بسائر جسدها، وقطرات العرق تتجمع بقوة، وبنبرة شبة ثابتة : أستاذ "خالد" مديري في المجلة..

حركت "نعيمة" عينها بغموض، فهي دائما لا تُهين فتياتها أمام أحد، وبنبرتها : شوفي الأستاذ يشرب أيه..

حركت رأسها بنعم، وهي تعلم أن بعد رحيلهُ ستأخذ الكثير والكثير من غضب والدتها ، وبهدوء : تشرب أيه؟..

كان "خالد" يُراقب تعابير وجوههم من طرفًا خفي، وبهدوء لا يُنافي تلك النظرات : شاي..

هرولت للمطبخ تحتمي به من كُل شيء فالقادم لا يُبشر بالخير، لتبدأ بإعداد الشاي واخراج بعض المخبوزات بجواره.. لتمر الخمس دقائق، لتحمل صنيه وتتحرك بارتجاف نحو الردهة ولسانها يُتمتم بالكثير، لتجحظ عينها؛ والدتها تبتسم بانشراح، وضحكاتهُ الرجولية تملاء البيت، لتقف كالبلهاء تُحدق بهم، لتفق من شرودها على صوت والدتها بالتقدم... تحركت لتضع ما بيدها، وعينها ما زالت بجحوظها، وقبل أن تنحني قليلًا لوضع ما بيدها، كان..

خرج صوت "نعيمة" بابتهاج : قدمي الشاي لخطيبك..

هل فقدت قدرتها على السمع أم  أن خيالات عقلها والأحلام تتجلى بقوة؟!..

ليصدع صوت "خالد" : لا خطوبة ايه نمشيها جواز على طول..

لتُجيب "نعيمة" بهدوء : الرأي لـ "صابرين"..

ليُكمل بمرحة : والسكوت علامة الرضا مش كدة برضو..

صل إليها حديثهم كالضباب هو والدتها يقررون زواج رفضتهُ، لتنجلي حنجرتيها بتساؤل : خطوبة ايه؟..

لم يدع لها مجال القول، ليُكمل : أهي زي هنتجوز أمتي؟..

لتُجيب "نعيمة" بقليل من التوجس من هيئة ابنتها :" صابرين"..

ولكن "خالد" لم يدع لها مجال للجواب، فنهض على الفور نحوها مُتمتمًا : بعد إذنك يا طنط اتكلم معاها..

نظرة خاطفة من عينها نحو  عيني والدتها تطلب منها العون، ولكن عينيها كانت غافلة في غيوم السعادة فتلك البسمة الضائعة من وجهها قد عادت لتهزم خطوط الزمان.. لتبتلع تلك الغصة في جوفها كأشواك، وتمضي قدمًا نحو دربٍ لم تعرف هل هو الخير أم لقبٌ أخر سيُضاف لأحزانها.. لتمر دقيقة كانت تقف أمامهُ مُنكسه رأسها تُراقب خطوط الأرض من أسفل قدمها، تتمنى أن تختفي مثل ذاك الخط أسفل إحدى الأغطية.. لتُجلي صوتها وبانهزام مرير أقسى من سابقه همست بما يقتُل روحها : موافقة..

هل جواب الموافقة بذاك الميثاق مؤلم لهذا الحد أم هو يتوهم؟.. لا يعرف ولكن هيئتها تلك طعنتهُ في مقتل، ليبحث بين حروفهُ عن شيئًا يُعيد إليه المفقود : "صابرين"..

-أرجوك بلاش تقولها حاجة وأنا مُتنازلة عن أي حاجة في حقي، دموعها عينها تنفُر من رِبطها، لتخرُج حروفها مُهتزة؛ بفعل دموعها : بلاش تكسر فرحتها..

لو كان القتل مُباح لفعلهُ على الفور، فهيئتها تلك بهمستها كـطير مذبوح أخر شيء يتمنى رؤيته، ليُخبرها بنبره رخيمة : أنا بحبك يا "صابرين" وأسف على الي حصل إمبارح..

حلم أخر من أحلام الأمس يطفو على سطح يومها، وبصدمة ونبرة مُهتزة من عدم التصديق : يعني مش هتأذيني زي ما قولت.. ويأتي الجواب في ابتسامة صادقة احتلت عيناهُ بجدارة رافعه بين ستائرهُ السوداء رايات الفرح، وإيماء خافت من الرأس اقترن بقوله : نتجوز أمتي، معنديش مانع النهاردة..

تسربت ضحكاتها بإستحياء، و رأسها تهتز بالموافقة.. ليترفع صوتهُ بجنون مع حركة قدميه  :ما تزغرطي يا طنط... وقبل أن تخطو قدماهُ الخطوة الثانية كانت ترانيم الفرح تنتقل من شفتها لقلبه..

تمتمة ناعمة بالحمد ودمعة هاربة من براثن الزمن، اقترنت بيدي "صابرين" تلتف حول عُنقي والدتها...

ارتفع صوت الهاتف بالرنين، ليُجيب "خالد" بلهفة : "حازم".. ولكن دقيقة كانت كفيلة بقلب وجههُ رأسًا على عقب، ليُتمتم بفزع: ايه.. مسافة الطريق وأكون عندك.. ليتحرك على عجل مُتمتمًا بالاعتذار.. أسف يا طنط حصل ظرف طارئ ومضر أمشي..

-خير يا ابني..

-مش عارف، بس ممرضة أخويا أتخطفت..

صرخة حادة شقت الجدران : بنتي..

فر التساؤل : بنت أيه يا ماما..

-هو "خالد توفيق الرماح"، و "رحمة" ممرضة "حازم الرماح"..

صدمة تجلت في وجه كلاهما، ليقطع تلك الرسوم الفزعة، هرولت "خالد" للخارج، هامسًا : أن كُل شيء سيكون على ما يُرام..

**

شبح أم جان!.. كلاهُما الأكثر رُعبًا لدى أحدهم رغم اعتناقه سن الرشد فكيف لطفل لم يبلغ إدراك العقل التام ببعض الهمهمات من الذكر لتحصين من كينونة ما يطفو في خياله وأمام عينة في كُل صباح ومساء.. صرخة حادة شقت جُدران روحها المُتألمة من فعل مُشين لم يصل لها يزورها في كل دقيقة وكأن عينها لا ترى سوي انتفاض جسدها  وهرولت ساقيها رغم اهتزازهم.. عاود جسدها للارتعاش من جديد، وخيط دافئ يتسلل بانكسار أسفل ملابسها ليُبلل الشراشف...

التقطت أذني "جميلة" تلك الصرخة الحادة فهرولت صوب غرفة ابنتها، وبلهفة أضأت المصباح وتحركت لتضمها، ولسانها ينفرج  عن التساؤل : مالك يا  ضنايا.. والصمت جوابها من تلك الرجفة المُنتقلة إليها من جسد الصغيرة، لترتفع يدها لرؤية وجها ابنتها الشاحب وقبل أن تهمس بحرف كانت صغيرتها تسقُط في جُب اللاوعي.. لتفزع من رؤيتها فتهرول للهاتف؛ لتطلب العون من زوجها، ولكن لا جواب.. لتدع الهاتف وتهرول لنافذة؛ لتُطلب العون الأخر من أخيها ولكن شرفة بيتهم مُعلقة، فتركض للخروج من البيت طالبة العون من ابنة غريمتها... دقيقتان كانت الفيصل من ترك شقتها والنزول لطابق الأرضي لتطرق الباب بكُل ما لديها من قوة، مُنتظرة الجواب، ويدها الثانية تضغط على الجرس.. 

قبل دقيقتان بالأسفل، حاولت "صابرين" مُحاربة خوفها؛ لتُطمئن والدتها، ولكن لقرع الباب رأي أخر جعل الرُعب يدُب في أوصلها، فتهرول بفزع، لتمر دقيقة من فتح الباب والتعب الشديد يحتل رسومها طاغيًا على فزعها؛ فزوجة عمها لا تأتي ألا في مصائب الدهر لشماتة، ولكن بفزع هذا مصدر التعجُب الشديد، وبتساؤل : في ايه؟.. 

حروف نافرة من حلقها فخرجت مُشعثه لا توحي بالمعنى الذي تُريدُه : "رضوى"... نامت.. أغمى عليها.. 

لن تدع  لها مجال لاستكمال فهرولت على الدرج، قاصدة غُرفة الصغيرة، لتفزع من هيئتها وجه شاحب يُضاهي الموتى، وشفاه أقرب لبياض الثلج.. لتجلس بجوارها مُحاولة إفاقتها، ولكن لا فائد، لتبدأ برفع الشراشف ولسانها يُتمتم : يلا نوديها المُستشفى، وانحنت لتحملها بسهولة؛ فجسد الصغير ضعيف للغاية، لتهرول على الدرج وصوت أنفاسها يصل لمن في الحارة.. 

**

ظلام دامس بعبق رائحة الجيف، يُثير بالجسد النفور والغثيان، ولكن مع تلك الرائحة التي لا يتحملها بشر قرر "حمدي" المضي قدمًا، فتلك الغُرفة في إحدى البنايات القديمة بحارة أخرى، كانت أسهل شيء يُمكن الحصول عليه، فهي غُرفة تحت الأرض تُعرف "البدروم"، لا تحتاج سوى لبعض النقود والحصول عليها، ولكن تلك الرائحة النافذة لم تُثنيه عن الرحيل منها، ليُكمل سيجارتهُ بانتشاء غريب، وعيناهُ تُسافر لذاك الجسد العاري أمامهُ، لا يسترهُ سوى رقعة قُماشية مُهترئ، ليُكمل أنفاسُه وطواحين عدة تدور في رأسه ما بين مؤيد ومعارض لما فعلهُ، ليسقُط المُعارضين في بئر أن هذا هو الصواب لنيلها دون قيود، أخذ نفسًا أخر قبل أن يُلقيها أرضًا، وبنبرة فجة لا تحمل من الرحمة مثقال ذرة : قومي.. وقدماهُ تركُلها بعُنف في خصرها.. 

سُلطان الظلام يجمع ستائرهُ ويرحل ببُطء شديد، وعينها لا تستطع الانفراج، ولكن تشعر بالرطوبة الشديدة أسفل جسدها، فتأن  بخفوت ضائعة، وعينها ما زالت تُجاهد للاستيقاظ، لتُفتح عينها على ذاك الشُعاع الضوئي الباهت الموجة نحوها، فتعود لغلق عينها من جديد، ومع تحرك يدها شعرت بُعري جسدها ففزعت بخوف وحاولت الجلوس من فورها لكن جسدها اللعين خانها، وبفزع :أنا فين؟.. ودارت عينها سريعًا لتجد جُدران صفراء باهتة، وعناكب عدة في جميع الزوايا، و.... وبرعب شديد.. "حمدي" لا يرتدي من ملابسهُ سوي سروال قُطني... دقيقة أم عشر لا يهُم سوى نيران تضرب بأحشائها وخيط من المياه الحارقة يُفارق عينها وبحروف لا تعرفُها وكأنها لم تعرف الكلم يومًا : هو... فين... ازاي.. لتنشق غُمة الصمت عن حنجرتيها وتصرخ بكُل ما لديها من قوة.. أاااااااااااااااااه... 

قهقهة رجولية تُفارق شفتيه، وبهمس كفحيح الأفعى : مسمعش صوتك والا فيديو صغنن هينور الحارة كُلها.. والست الوالدة مش هتستحمل السفيرة عزيزة... 

حركت رأسها بالموافقة ، ودموعها لا تتوقف عن الهطول وبرجاء : بلاش ماما والنبي وأنا هعمل الي أنت عاوزوا... 

ليُكمل بتلك النبرة السابقة : ماشي بس لو صوتك طلع متلوميش إلا نفسك... ليتحرك خطوة للأمام جالبًا ملابسها؛ ليُلقيهم بوجهها مُكملًا.. البسي مش طايق أشوفك.. 

حركت رأسها بنعم ويدها مازالت مُتشبثة بتلك القطعة القُماشية، والأخرى  تجمع ملابسها بانكسار وخذي شديد.. ليصل إليها حروفه الساخرة : أخلصي عشان أروحك ولو فتحتي بوقك متلوميش الا نفسك... وبتهكم.. يا أبلة.. 

حركت رأسها بنعم وملوحة عينها تكوي وجنتيها بلهيب مُشتعل، ولكن ما باليد حيلة فما عات دموعها تُجدي نفعًا سوى نكاية بالجُرح الذي لم ولن يندمل سوى بموتها... 

**

من قال أن العجز يعني عدم الحركة فقط فهو أثم ول سبيل لشفاعتهُ.. مرت الساعتان ببطء مُقيت وكلاهُما ينتظر أن تنتهي تلك الزجاجة الدوائية من السكب في عروقها من خلال تلك الإبرة المعدنية  المُثبتة بمعصمها.. دقيقة تتلوها أخرى وتلك المادة البيضاء لم تنتهي بعد، والطبيب اخبرهم بالتشخيص المبدئي إعياء شديد وفقر في الدم، وعندما علم بصمتها قرر أن يعود إليها مرةً أخرى بعد الانتهاء من تلك الزجاجة.. وهي هي قاربت على النفاذ، لتهرول "صابرين" من تلك الغرفة الكبيرة المُسماة بعنبر لاستضافة عدد لا بأس به من الحالات في مكان واحد، ومع كل خطوة تخطوه تتقلص معدتها أكثر من ذي قبل فهذا يبكي، وتلك تتحدث، وأخرى تُلقي عبارات المواساة، ونظرات الاشمئزاز تطل من عين تلك.. بلعت غصتها المريرة وخرجت من باب الغُرفة عينها تبحث عن أحدي العاملين في مجال للتمريض، لتعثُر على أحدهم فتهرول صوبها، لتُخبرها بنفاذ المادة الدوائية لجلب الطبيب.. 

قلوب_ضائعة

رانيااااصلاح 

الفصل الثاني عشر 

تخبُط.. 

حيرة.. 

أثم.. 

الكثير والكثير مما يحلُ بنا عند حلول المصائب، ولكن هل تلك المصائب تملُك نفس القوى أم بدرجات متفاوتة أم كُلٌ منا يرى من وجهة نظرة.. وتبقى هل قائمة على مدى الدهر فما من فجيعة تُزهق الروح قبل البدن بقادرة على التصدي لها.. 

مضى الأسبوع كلمح البصر لدي العاشقين، وببطء السنين العُجاف لدى قوم يوسف، ولأن  شمسُ الصباح وقمرُ الليل الأفل في بعض الليالي يمُر دون الوضع بالاعتبار أي حالة تلك يكُن عليها العِباد.. لذا فقد اعتكفت "رحمة" في الأيام السابقة بغُرفتها مُتخذة من ذراعها التي وقعت عليها يوم عودتها حُجة للبقاء في غُرفتها. 

تقضي نهارها في هروب تام بإغلاق عينها، وليلها في البُكاء الصامت على ما حل بها، فخروج الصوت في ذاك الأمر جريمة لا تُغتفر بحق أهلها.. فتلحفت بالصمت والبرود التام، والتزمت الخنوع فهي تعلم عاجلًا أم أجلًا سيعرف الجميع ما حل بها.. أغلقت عينها في مُحاولة واهنة للهروب من ضوء الصباح المُتسرب من كُل جُزء في البيت على غير العادة، ولكن اليوم يختلف؛ فهو عقد قران أختها.. لهيب مُشتعل يتسرب لأنفاسها مع كُل شهيق تقوم به، فتُغمض عينيها أكثر فتحملها الذكرى لذاك اليوم... ( توقفت عربة "حمدي" على مدخل الحارة، وبنبرتهُ الفجة :سلام يا أبله، ولما اتصل تردي.. لم تجد رد غير الصمت ورأسها تتحرك بإيماء سريع بالموافقة، فتمتد يدها إلى الباب لتفتح، وقدمها تتلاقى بها الأرض بصفعة قاسية، فيختل توازنها لجزء من الثانية، فتستعيد رباط جشائها وتُكمل دربها نحو البيت الذي يفصلها عنهُ طريق محفوف بالأشواك والنيران تضمُر في مُنتصفه، لتقطع الطريق بتشتُت وضياع وعقلها يوبخها على القدوم، فوالدتها لا تستحق ذاك الاثم، ولكن ما باليد حيلة، فهي تحتاج لعِناق يُخبرها أنها.. هل تستحق الإخبار؟.. لتبلع أشجار الصبار وتدخل البيت، برأس لا تُفارق الأرض، لتتجمد أمام والدتها، وتستعيد جيوشها الفارين، وابتسامة زائفة ترنو من حلاوة الروح عند تيقُن الهزيمة، همست :هل أنتِ بخير؟.. لتتحرك عيني والدتها في صعود وهبوط دائم على هيئتها ولهفة السؤال تطفو في الأرجاء : كيف؟.. لتدع لقدمها المجال في الحركة، و الانحناء بعد دقيقة على رأسها : كان يتوجب عليا الذِهاب إلى المستشفى فقد حدث عجز طارئ في الطاقم الطبي... لتهرول إلى الحمام قاصدة إزالة جلدها إن أمكن... لتمر فوق الساعة وما زالت المياه تنهمر فوق جسدها المُدنس بالخطيئة كأسواط من سقر.. أغلقت الصنبور وحين تحرُكها لــ ارتداء  ملابسها سقطت أرضًا على يدها، فكانت تلك القشة التي قسمت ظهر البعير، فانفجرت في بُكاء مرير قطعهُ صوت والدتها : هل حدث مكروه؟... لتُسرع من فورها  بالجواب: لا، فقط سقطتُ على يداي فتألمت، دقيقة وأتى بحقنة الأنسولين.. لتمر الدقائق والدتها تفترس وجهها، وسؤال صريح : ألم يتم أختطافك؟.. قهقهت بمرارة قبل أن تُجيب : وهل من عاقل يخطف أحدهم بضع ساعات دون حفنة من الأموال؟.. لتُكمل والدتها :ولكن "خالد الرماح" أتى هُنا وبعد مدة رن هاتفهُ من أخيه وأبلغهُ أنهو تم إخطتافك.... لم تعرف بماذا تُجيب فأكملت قهقه : يا ألهي أختطاف، ربما ظن ركوبي إحدى حافِلات النقل الفارغة إختطاف، تبًا لرفاهية.. وسُرعان ما اعتذرت طالبة النوم، لتهرول لغُرفتها قاصدة الاختباء من عيون والدتها...).. أفاقت من شرودها على رنين هاتفها، لترتفع يدها ببطء، وتُجيب على الهاتف : أيوه يا دكتور... 

ليأتيها الجواب بــ قهقهة سمجة : ومالوا دكتور دكتور يا أبله.. 

أغمضت عينها قاصدة التحلي بالهدوء، فلا حاجة لها بالنقاش في أمر حُسِمَ من قبل، وبحروف تدل على الصبر : أتفضل.. 

أكمل "حمدي" وضع أخر قطعة من المادة الخضراء التي أمامهُ في تلك اللفافة، ليرفعها لشفتاهُ وبطرف اللِسان يلعق نهاية اللفافة فيتأكد من تمام تكوينها عند النظر مرة أخرى، وحنجرتيهِ تصدع بتهكُم : عاقلة يا ابله عاوزك بعد فرح العروسة.. 

ستقتلهُ لا مُحال أم تقتُل نفسها؟.. ولكن هو لا يستحق أن تمضي يومًا في السجن من أجله، وتدفع أنفاسها إكرامًا لروحهُ السافرة.. أغمضت عينها بقوة وكأنها تُريد سقوط جفونها داخل تجويفهم، وبحروف مُتعثرة : مينفعش، ماما... 

قهقهة بقوة، قبل أن يُكمل : لا يا ابلة دماغك متروحش لبعيد، أنت عاوزك في بيتي وأهو يبقي حلال، بعد فرح السنيورة هتوافقي.. وسُرعان ما أغلق الهاتف لاعنًا قلبهُ الأحمق، هو يُريد إذلالها وليس تكريمها... ليسقُط في نوبة من نوبات اللاوعي مع لفافتُه... 

شهقة حادة فارقت حنجرتيها، قبل أن تسقُط في غيبوبة اختيارية لنوم.. 

**

تتضارب المشاعر، ويزداد التخبُط، فقلوب الأمس كانت كارهة، وقلوب اليوم شبه مُمتنة... ظلت عيني "جميلة" مُحدقة في ذاك المشهد الذي أمامها... 

اتسعت ابتسامة "صابرين" أكثر من ذي قبل، ويدها تمسد شعر "رضوى" ويدها الأخرى تضمها، وبحنان فطري يتعلق بصلة الدم قبل تعاطُفها مع تلك الفجيعة التي حلت بالصغيرة : متزعليش يا حبيبتي أنتِ شاطرة وربنا بيحبك.. 

ليأتي جوابها بالبُكاء : لا.. ربنا لو بيحبني مكنش.. وتوقفت الكلمات بحلقها مع.. 

اعتدلت في جلستها وأخرجت الصغيرة من أحضانها، ويدها تحولت لتمسك يد الصغيرة، وبنبرة مُحفزة : ربنا بيحبنا كُلنا يا "رضوى" وبيحبك أوي كمان... وانتظرت دقيقة لتلمح التساؤل في عينها، فـ أكملت :ربنا لما بيحب حد بيجبلوا شوية مشاكل صغننة بس بيخلي معاه طاقة كبيرة أوي أوي عشان يحل المشاكل دي، وأنتِ كان معاكي طاقة كبيرة أوي وجريتي، ومخوفتيش يبقي دي طاقة من ربنا ول لا... 

بوادر الاقتناع تتجلى في عينيها الصغيرتان : أيوه يا ابله.. 

-يبقي نقول الحمد لله، ونفكر مع بعض أزي نخلي المدرس الشرير دا يمشي من المدرسة، ومزعلش أميرة حلوة تانية.. 

وبفرح : بجد هيمشي.. 

حركت رأسها بنعم، وبمرح : هيمشي ومش هيجي تاني خالص، بس تبقى شاطرة وتخلصي أكلك كلوا، وكمان تبقى صحبتي وتقوليلي لما حد يدايقك ماشي... 

-ماشي يا ابله، بس أنتِ هتمشي.. 

-همشي، بس طنط "نعيمة" معاها تليفون كبير أوي تقدري تلعبي بيه كُل يوم ونتكلم سوى  لما أجي ليها بليل إيه رأيك... 

صفقت الطفلة بحماس في إعلان صريح للموافقة، سُرعان ما تراجع مع... 

ارتفع صوت "جميلة" بالنداء : تعالي كُلي يا "رضوى".. 

راقبت "صابرين" تبدل معالم الصغيرة، فبادرت قائلة : ماما "جميلة" موافقة، وكمان معاها مُفتاح الشقة "رحمة" سابتو ليكِ معاها، عشان تدخلي على طول من غير ما تخبطي.. لتتحول عينها بترقب إلى زوجة عمها تخشي رفضها... 

راقبت "جميلة" خوف ابنتها منها فاعتصر قلبها حُزنًا، وابتسامة شاحبة تُجاهد رسمها : أيوه يا حبيبتي، يلا كلي وأبقى أنزلي.. وتحركت للخارج مُتعثرة في خذيها؛ فقد قضت سنوات عمرها لا يشغلها سوى "نعيمة" وبناتها، والأن لم يُقدم لها أحدًا العون سوى... وارتفعت عينها تُزيل قطرة تعلقت بأهدابها، وألقت بجسدها على أقرب مقعد وعينها تُطالع الجُدران بشرود ضائع.. 

بـالغرفة... تعلقت عيني "صابرين" بالباب لبضع دقائق، قبل أن تستعيد تركيزها، وتُلقي نظرة مُشجعة مع قولها :خلصي بسرعة، عشان ننزل نلبس سوى.. أنا هروح  أغسل أيدي وأستناكِ.. وتحركت للخارج بتعثُر؛ فالأيام الماضية قضتها شبه مُقيمة بمنزل عمها بجوار ابنته، ولم تنكر نظرات زوجتهُ الحانقة في بداية اليومان وسُرعان ما تبدلا في اليوم الثالث، نعم تحسنت عِلاقتها بها ولكن توتر السنوات الماضية لم يُمحى ببضع دقائق.. توقفت بجوارها، ويدها ترتفع بتردد لتربت على كتفيها وبهدوء : هيرجع.. 

ارتفعت عيني "جميلة" الغائمة بعواصفها، والضياع قد بلغ مبلغهُ وافترش جسدها بعرشهُ المُخملي ، وبنحيب تخللهُ صوتها : معرفش يا "صابرين" مش بعادة عمك يختفي الفترة دي كلها، قلبي بيقولي أن جرالو حاجة.. 

تأثرت روحها بتلك الجالسة أمامها، وبكلمات شبة قادرة على الربت : الغايب حجتوا معاه، ممكن "رضوى" تنزل معايا تحت.. لتجد الجواب إيماء خافتة من الرأس دون صوت يُذكر... 

**

حالة من الغيوم تنتشر ببيته، وتتصادم بقوة مع اقتراب اقترانهُ بها.. ألقى "خالد" نظرة راضية على تلك الغُرفة التي قام بتبديلها قبل يومان رغم رفضهما الصارم، فوالدته تشع بالرفض لكونها لا تستحق، وهي تشع بالحنق فترى ذلك تبزير وهو على وشك بدأ مشروعه الجديد.. تحرك خطوة للأمام ليأخذ بذتُه السوداء من الدولاب ويرحل سريعًا، فيخشى بشدة أنتشار الفوضى بغرفته، أغلق  الباب بالمفتاح الخاص به، وتوجه نحو غرفة أخرى؛ ليضع بذتهُ بها قبل أن ينطلق لبيت أخيه؛ فبعد رحيل "رحمة" وعدتها الغامضة رفض أخيهِ رفضًا قاطعًا مكوث أحدًا معهم بالبيت، وتوجب عليه الحضور يوميًا كُل صباح ومساء ساعتان لإنهاء حاجتها من الطعام والاغتسال وما شابه.. زفر بغيظ ليس من ذهابه، ولكن من كيفية إقناع والدتهُ بركوب سيارة أخيه بجوار والدهُ.. ظل يُفكر بالأمر عدة مرات مُحاولًا الوصول لحل يُرضي الطرفان، ليهرول للخارج فلم يتبقى الكثير على موعد عِلاج كلاهما، ولكنهُ توقف عن الحركة بفعل... 

رغم اعتراضها على زواج ابنها من تلك، الأ أنها لن تدع مجال لتراجع، نعم هي وافقت مُجبرة على جلبها للبيت، ولكنها لن تدعها تهنئ قط.. أنهت وضع أخر ماسك على بشرتها لتظهر بأفضل هيئة، ليس لنفسها فقط ولكن لإثبات لــ "توفيق" أنها لا تُبالي، لتستمع لخطوات خروجهُ من البيت، فهرولت صوبة وبتساؤل :علي فين؟.. 

بدأ في العد لثلاث للحصول على الهدوء، قبل أن يُجيب : للباشا، ساعتين بالكتير وهكون موجود، أرجوكي يا "صافي" بلاش مشاكل.. 

رفعت حاجبيها بضيق، واحتقن وجهها بحمرة الغضب : أنا بعمل مشاكل يا "خالد".. طبعًا ما هي السنكوحة اختيار "توفيق" ولازم تحرضك ضدي.. 

حرك رأسهُ بلا فائدة، ويداهُ تمتد لفتح الباب قارنًا هذا بقولة : "صابرين" اختياري أنا، ومفيش حد يقدر يحرضني ضدك، واقترب مُقبلًا رأسها قبل الخروج، مُلقيًا قنبلة مُدوية : هنروح بعربية "حازم" وفي وجودوا ومع الباشا.. ليُسارع بإغلاق الباب فيُقسم أن أنفهُ قد التقطت رائحة احتراق.. 

**

ضجيج مرح يـتقافز في أرجاء البيت  كظبي لتو تعلم الحركة.. هرولت "صابرين" لداخل قاصدة أنهاء ما تبقى من الطعام، لنجد والدتها تُقابلها بلوم.. لتتنحنح بحرج مُضيفة :معلش" رضوى".. 

حركت "نعيمة" رأسها بتفهم، ونبرتها مُشجعة :يلا بسرعة حطي الصينية في الفرن، مفيش وقت.. 

وكأن جوابها التحرُك نحو تلك الصينية لوضعها في الفُرن، فقد قضت ليلتها أمس في تجهيز أصناف عدة .. أبتسم بسعادة مع تشغيل نيران الفرن، لتنفرج شفتها قائلة : هروح أخد دُش تكون طابت.. وهرولت صوب غُرفتها لأخذ ما تُريد.. 

دقيقة وكانت تتحرك صوب نافذة غُرفتها لتفتحها لدخول ذرات الهواء بُحرية، ولسانها ينطلق بمُشاكسة : "رحمة".. قومي بقا بقالك أسبوع نايمه.. 

دفعت "رحمة" غِطائها، وجلست باستسلام : خير على الصبح يا عروسة.. 

بسمة حالمة تجسدت على رسومها تاركة بصمة ناعمة من السعادة، لتُكمل : يارب بقا.. 

قهقهت بقوة مُضيفة بمُشاكسة : فينك يا "خالد".. 

-قومي يلا.. 

-هقوم ليه.. 

-ساعديني.. 

-دا على أساس أن البيت متقلبش أربع خمس مرات في يومين، والأكل متجهزش مثلًا.. 

-متبقيش رخمة.. 

-تو... عاوزه أشوف الفستان وأنا هقوم.. 

حركت رأسها رافضة قبل أن تُجيب : أبدًا، حد قالك تقضيها نوم.. وأخذت ملابسها وهرولت صوب الحمام، مُضيفة :ماما مستنياكِ برة.. 

راقبت رحيل أختها بسعادة، ولسانها ينفرج بتمتمة شاكرة لرحمان، ويدها ترتفع لتجمع خُصلات شعرها في كعكة دائريها، وقدمها تدع الفراش لتستقبل الأرض في عِناق طال، لتطوف عينها على ارجاء الغُرفة بحنين غريب يملأهُ الشجن، لتتسمر عينها على النافذة، فوق القُرص الذهبي الزاهي بنفسة بالقُرب من كبد السماء، لتنطلق دعوة حارة مِحملة بالرجاء الخالص :يا رب.. تحركت للخروج من الغُرفة عاقدة العزم على تقبل وضعها بذاك الحمدي في مُقابل عدم كسر هامة والدها الراحل، لتدور عينها بالردهة بذهول خافت؛ فقد تغير الطلاء لأخر، وتغير الأثاث، مُضيفًا بهجة هادئة، لتنفرج شفتها بصياح : نونا .. يا نونااااا... ليأتيها الجواب، فتهرول صوب المطبخ راسمة الكثير من الحنق، لتفجر براكينها الواهية : نونا.. في المطبخ من غيري، ماشي أنا هروح... لتتوقف الكلِمات بحلقها مع... 

تهللت أسارير "نعيمة" فور استماعها لنداء صغيرتها، فقد كاد تفقد عقلها من مكوثها بغرفتها الفترة السابقة، وكلما حاولت الحديث أخبرته أنها بخير فقط إعياء وأنهاك، ولكن قلبها يرفض التصديق؛ فعيني ابنتها كانت مُحملة بالعواصف مُتخبطة في ظلام روحها.. دارت عينها سريعًا على  جسد ابنتها، وبنبرة مُفتعلة بالحزن : هتروحي فين؟.. أنا زعلانة منك.. 

تجسد الذُعر، وبشهقة تُناسب الموقف : يا خبر.. بقا نونا تزعل مني... لا ملكيش حق.. المهم أنا جعانه أوي ومحتاجة حاجة من الي في الفرن.. 

حركت "نعيمة" رأسها بالنفي القاطع مع تأكيد قولها : لا.. 

-طيب.. وأمالت على والدتها أكثر وبهمس : أنتو غيرتو البيت أمتي؟.. 

-من يوم لما نمتي نوم أهل الكهف.. 

-والفلوس منين؟.. 

- بعت الحلق والسلسلة... 

-نعم!... وبهياج : دول بتوع بابا ازاي تبعيم؟.. 

بلهجة ناهرة :"رحمة".. 

-يا ماما أنا مقصدش بس.. 

-مبسش دا بتاعي ولأختك.. 

-خلاص "صابرين" تجي معايا نجبهم.. وتأخد فلوس الكرسي.. 

-خلي فلوسك معاكي أنا مموتش يا بنت عبدالله.. اخلصي طلعي الصينية... 

-حاضر.. وامالت قليلًا لتُقبل وجنتي والدتها مُعتذرة : متزعليش مني.. 

**

مرت ساعات النهار سريعًا، وبدأ الليل المُهيب بــــ أسدال ستائرهُ السوداء، ولكن ليس بظلام دامس بل بالكثير من حبات اللؤلؤ، وهلال من الماس، يخطُف الألباب وكأن السماء أعلنت موافقتها الضمنية لما يحدُث فوق الأرض أو على وجه الدقة ببيتهم، فقد كان حفلًا بسيط للغاية 

فــ الأنوار كانت لا تتعدى بوابة البناية الرئيسية وقليل من البالونات تم وضعهم بشكل لائق يتناسب مع أجواء عقد القِران.. بسمة راضية وضِعت على قلبها قبل أن تحفُر عينها بالسعادة .. وضعت "رحمة" قدمها أرضًا لترتدي حذائها، لسانها ينطلق : بقا حلو أوي.. 

صفقت "رضوى" بحماس وبهجة رحلت عن عينها منذُ أيام : حلو أوي يا "رحمة".. 

ارتدت حذائها، وهرولت لتُقبل الصغيرة، وبنبرة مرحة تُقلد صوتها : حلو أوي يا "رحمة".. فين السكر بتاعي.. 

ظلت عيني "نعيمة" تُراقب ابنتها بسعادة، وعينها ترقق بها الكثير من الغيوم السعيدة، ليبتهج لسانها بالدعاء والحمد.. 

رأت تأثر والدتها، فهرولت نحوها تضمها بذراعيها، وبمشاكسة : هقعد في معاكِ بعد ما تمشي الحجة، واهو نستجم شوية.. 

قهقهت بسعادة :لا متقعديش وأنا هفرح... 

-أيعقل عاوزة تخلصي مني!.. 

والجواب كان إيماء والدتها بالموافقة، وقبل أن تُلقي كلِمات أُخري، كان قرع الباب يعلوا مُطالبًا بالجواب، لتهرول سريعًا مع قولها لصغيرة :استعجلي الحجة.. 

دقيقة وكانت تفتح الباب، وبمشاكسة :كدة يا عم "صابر" تسبني.. 

ليبتسم بدورة مُكملًا :وأنا اقدر برضو.. 

-لا تقدر حتى رمتلي العيال.. وارتفعت يدها لتُزيل دمعة زائفة من عينها.. 

عجز عن كبت ضحكاتُه، ليضيف : يلا بلغيهم أنهم وصلوا.. 

-عونيا يا راجل يا عسل، بس بقولك... لتتجمد الحروف بحلقها، وتعجز عن إصدار أدنى رد فعل.. فقد رأتهُ.. ليصدع عقلها :وسيم للغاية... وقلبها يدُق طبول الفرح من رؤيته يبتسم بتلك البذة الرمادية... دقيقة وعادت إليها قواها، وترتفع يداها لفتح الجانب الأخر من الباب لتُمكن  الكرسي المُتحرك من الدخول، وابتسامة عملية ترنو على صفحات وجهها مع عبارات الترحيب المُعتادة، ولم تمضي الدقيقة الأ ووجهها يتحول لأية من آيات العذاب، وسُحُبها تتجمع مُهددة بالتصادُم.. بلعت غصة في حلقها مع دخول  قاتلها البناية وبسمتهُ الخبيثة تتجسد بكل سفور بوجهها.. ليبدأ جسدها بالدفاع عن تلك اللحظة؛ فهي لا تُريد إفساد يوم أختها.. ابتعدت مُسرعة صوب مقعد والدتها، ودفعتهُ قليلًا ليكُن بمواجه الداخلين... 

مضت نصف ساعة أو أكثر والأجواء مشحونة بشدة ما بين شُحنات إيجابية تضامُن مع الزواج، وأخرى حانقة من فردًا واحد، يمتعض بشدة ويصدر الكثير من التأفُف، وعيني "خالد" تُلقي باعتذار سريع... 

راقب "صابر" تقافز تلك الشُحنات، ليُقرر قطع الصمت بإحدى عِبارات الترحيب : نورتوا.. 

لم يدع "خالد" مرور تلك الكلمة مرور الكِرام بل سارع بوخز والدهُ لتحدُث.. ولكن لطرقات الباب رأي آخر.. هرولت "رحمة" صوب الباب مُتمته بالدعاء على ذاك المأذون الذي تأخر تاركًا إياهم مع السيدة الحانقة.. لتفتح الباب سريعًا وبلهفة الترقُب : أخيرًا يا شيخنا، تعالى بسرعة.. 

لتمر خمسةَ عشر دقيقة دون حديثًا يُذكر سوى من ذلك الشيخ الذي يخطُب منذ دخولهُ البيت بفضل الزواج.. مما أدى إلى تملُل الجالسين، لتخرُج عبارات "رحمة" بمُشاكسة : يا شيخنا العريس نام.. يلا وحيات عيالك.. لتبتلع المُتبقي من حروفها، فور شعور جسدها بتحديق فوق المُعتاد، لتُسارع عينها بالتهرُب في شتى الأركان عدا رُكن جلُوسه، لتنفرج شفتها بتمتمة مُتعلثمه قليلًا : هشوف العروسة.. وهرولت سريعًا؛ لتُهدئ من صخب قلبها واحمرار وجنتيها؛ فمع تحركها وقعت عينها عليه بجوار والدتها، ونظرات عيناهُ تُلقي لها الكثير، ببريق خاطف يسلبها حق التنفُس، و شفتاهُ تنفرج بأربع حروف اختذلهم ليُصبحوا العالم لها.. التقطت يدها إحدى زجاجات المياه من المطبخ، وتجرعت الكثير قبل أن تدعها وتذهب لأختها، فتُحبس أنفاسها من هيئتها.. فُستان طويل من اللون الفضي، يضيق من فوق جبالها لينزل باتساع لأسفل قدمها، والكثير من الفصوص اللامعة فوقهُ بانحناء مُغوي يُبرز تفاصيلها، وقليل من الكُحل العربي ليُبرز بركتي العسل.. تحركت بسعادة ولسانها ينطلق بعبارات المدح، وترتفع يدها لتحضنها بقوة  هامسها : حلوة أووووي.. وسُرعان ما عادت لجنونها : بسرعة العريس مستني.. دقيقة.. اثنان وكانت يداها تدفع اختها دفعًا للوصول للمأذون لتأكد من موافقتها.. لتمر دقيقة أخرى والمأذون يصدع بإحدى العِبارات المُحببة للقلوب العاشقين : بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير.. لتنفرج شفتها تاركة المجال للسانها ليُبدي سعادتهُ بــ "زغروطة" حُبست على أثرها أنفاسها لتخرُج في رقص فرح لهم.. لتتوقف لاهثة بعد انتهائها، تلتقط ما يُبقيها على قيد الحياة، ليصل لأُذنيها همسهُ : تتجوزيني.. ليصدع الباب من جديد بالطرقات للمرة التي لا تعلم عددها، وقبل أن تتحرك لفتحه، كانت الصغيرة سبقتها، ليصل لأُذنيها أبغض صوت على وجهة الأرض.. ليتراهُ يعينها في ثوان.. يتقدم من والدتها حاملًا الصغيرة، ولسانهُ ينفرج بعبارات المُباركة، ليميل قليلًا على أذني والدتها، وإحدى عيناهُ تُرسل لها نظرات تقتُلها حيه، ليبتعد وابتسامة تُزين ثغرهُ، و صوتهُ البغيض يرتفع : متجمعين عند النبي إن شاء الله.. وبما إن النهاردة فرح الأستاذة، فلازم يبقي الفرح فرحين، وابتسامة عاشقة حقًا تتجسد في عيناهُ : أنا طالب القُرب منك يا ست "نعيمة" في الأنسة "رحمة"... 

صمت مُهيب يرنو عليهم، وكأن الطير حلق فرق رؤسهم بداية من "رحمة" التي انفرج لسانها بالحمد فالله لن يكشف سترها ويُخذي والدتها، مرور بـ "توفيق" الجامد.. متوقفًا عند "حازم" المذبوح كُليًا فقد وصل إليهِ حمدها على عرضه.. ليقطع تلك الوجوه الصادمة صوت "نعيمة " رغم رفضها لكنهُ أخ لزوجة أخ زوجها، ولكن همسات ابنتها بالحمد كانت لها رأي أخر لتُحرك رأسها بالجواب المقرون بقولها : علي بركة الله.. 

رانيااااصلاح

قلوب_ضائعة

تعليقات

التنقل السريع
    close