أخر الاخبار

الحلقة التاسعةمن كتاب الطريق الي النور للكاتب الكبير ا/ محمد مصطفي



 الحلقة التاسعة

 أبرهة الحبشى يثأر لأصحاب الأخدود 


من كتاب الطريق الي النور

 للكاتب الكبير ا/ محمد مصطفي


وأفلت من محرقة الأخدود الرهيبة، رجلٌ يُدعى (دوس ذو ثُعْلبان ) فرَّ على فرس هداه الله إليه واخترق طوق الحراسة الشديدة، وكأنما أراد الله ـ لدوس ذو ثُعْلبان ـ أن ينبئ العالم بما حدث فى اليمن، فيستصرخ مَنْ هم على دين النصارى فى أرض الله، وينطلق فى أثره جنود ذى نُواس، فى مطاردة مثيرة حتى لا يفلت من أيديهم فيفشو الخبر إلى من ينتقم لهؤلاء، ويكتب الله (لدوس) النجاة بعد رحلة شاقة اخترق خلالها الربع الخالى من جزيرة العرب، الذى لا ينجو من عبوره أحد، ويئس جنود الملك من اللحاق به، وخشوا على أنفسهم الهلكة فى فلاة قاحلة لا نهاية لها . 


تركوه وكلهم أسى وحزن لما سيجلبه ذلك من أمور لا تُحمد عقباها،نجا (دوس) بأعجوبة ، وترك خلفه أكثر من عشرين ألفاً التهمتهم نيران الأخاديد، وبعد أن اطمأن لحال النجاة، أخذ يفكر وهو غير مصدق أنه أفلت، وكلما تذكر أهله وهم يتساقطون فى النيران، انخرط فى البكاء الحار وراح يضرب الأرض بكفيه ويقول : كيف أنتقم لهؤلاء، وهل لضعيف مثلى حيلة يثأر بها لأهله وقومه ؟ فما زال به الفكر يجول ويصول حتى هدته بصيرته إلى ما أراده الله ـ أن ليس أمامه سوى الالتجاء إلى قيصر الروم ـ فهو على دين النصرانية، دين الغلام ودين قومه الذين تبعوه، وما موت هؤلاء إلا دفاعاً عن هذا الدين .. ويقطع الطريق فى إصرار وهمة لم يفترا، وجاوز القرى والبلدان، وتخطى بلاد العرب حتى بلغ « القسطنطينية » ودخل على حاشية الإمبراطور (يوسطانيوس) قيصر روما، ويرى ( بطرق القيصر ) فى وجه ( دوس ذى ثُعلبان ) فزعاً ورعباً، ويتبدى للبطرق من ملامح وجه ( دوس ) أنه عربى من بلاد الجزيرة، فسأله البطرق، فقص عليه ( دوس ) ما حدث ـ ولم يتمالك بطرق القيصر نفسه من هول ما سمع، فدخل على القيصر ـ يوسطانيوس ـ وهمس فى أذنه : لقد جاءنا من أقاصى الأرض خبر غير سار .


قال القيصر : من الممالك الخاضعة لنا ؟ - قال البطرق : بل هو من أرض اليمن حدث بها حدث جلل ـ قال قيصر : وما ذاك ؟ قال البطرق : ملك تلك البلاد شق الحفر فى الأرض، وأحرق أهله وقومه ـ ويندهش القيصر (يوسطانيوس ) : يا إلهى جُنَّ والله !! ويحه لِمَ يفعل ذلك ؟ قال البطرق : إنهم دخلوا فى ديننا وأصروا عليه فانتقم منهم بالحرق .


وفجأة هبَّ القيصر وتغير لون وجهه، وصاح فى غضب : فعل ذلك بالنصارى وأنا حامى النصرانية فى الأرض ، كيف يحدث هذا وأنا على ظهر البسيطة : من أخبرك بهذا أيها البطرق ؟ ـ قال البطرق : فى الخارج رجل عربى نجا من المحرقة، وقطع الفيافى إلينا يريد نصرتنا ـ قال القيصر : أدخله لى الآن .


ويدخل (دوس ذو ثُعلبان) ، ويروى تفاصيل المجزرة البشعة، وكان (يوسطانيوس) عالماً بالنصرانية متمسكاً بتعاليمها، فكيف به يرى من ينتمون إليها، ويحدث لهم ما حدث فى اليمن !! ويسترسل (دوس) ويتقطع منه الكلام من فرط البكاء : وطلبوا من الناس أن يعودوا إلى اليهودية، واشترطوا على من يريد أن يحيا فى اليمن أن يخلع عن رقبته عبادة الله، ولا يذكر النصرانية بخير، ولما أبوا ذلك راحوا يزجونهم بأسنة الرماح ناحية الأخاديد المشتعلة .. وينصت قيصر وقد شدّته رجفةٌ ورعشةٌ لهول ما يصفه (دوس) ، ولما جاء ذكر الأطفال وهم محمولون على أيد الجند ليلقونهم فى النار، وضع قيصر يده على عينيه وقال : كفى كفى ! إن هذا لهو العار كل العار، يحدث هذا لرعايا المسيح وأنا أملك ثلثى الأرض .. ما اسمك أيها الرجل ؟ قال : دوس ذو ثعلبان – قال القيصر : انتظرنى فى الخارج حتى آذن لك بالعودة إلى مجلسى –


ويجمع قيصر بطارقته ومستشاريه ومعاونيه وقواده ووزراءه، ويعطى الأمر قدره أهميةً، ويعرض لهم خطته فى الهجوم على اليمن، فاستوقفوه قائلين : إن اليمن بعيدة عنا، وفى التحرك إليها مشقة للجند – فصاح فيهم : بربكم اجعلوا لى وسيلة لأنتقم من هذا الذى قتل رعايا المسيح . فأشاروا عليه : إن عاملك فى الحبشة (النجاشى) على ديننا، وتحت سلطاننا، وهو قريب من اليمن، يفصله بينها وبينه عرض البحر، مره ينزل سخطنا على ملك اليمن، ويأتيك بذى نواس فى الأغلال – قال القيصر يوسطانيوس : نِعمَ الرأى ما أشرتم .


وأمر باستدعاء دوس ذو ثعلبان، وكتب كتاباً للنجاشى فيه : ( انصر دوس ذو ثعلبان ) من قيصر الروم ، وأرسل مع دوس من يحرسه حتى يبلغ أرض النجاشى، ومنحه العطايا والهدايا .


وفى الحبشة حط وفد قيصر الذى يرأسه (دوس ذو ثعلبان) وأمام النجاشى (كالب) أخرج دوس كتاب قيصر وقال قائد الحرس المرافق لدوس : إننا جئنا بأمر القيصر فى شأن ما حدث فى اليمن، ودوس هذا سيُطلعك على الأمر كله، وتلك الرسالة من القيصر يوسطانيوس .


ويفتح النجاشى (كالب) الكتاب، ولا يجد فيه سوى جملة صغيرة : (انصر دوس ذى ثعلبان) ونظر النجاشى فى دهشة إلى دوس وقال : ماذا وراءك يا دوس ؟ ويحكى دوس الحادثة المروعة ، ويسمع النجاشى (كالب) لتفاصيل المحرقة وتتبدى من وجهه علامات الغضب ويصيح : ويلتاه ! يحدث هذا على مقربة منى ولا أدرى، والله لأنصرنك يا دوس، انتظرنى فى الخارج حتى أرسل إليك، ويجتمع النجاشى (كالب) برجلين من أفضل رجاله، اختارهما لقيادة الحملة، وقال لهما : إننى لم أجد خيرا منكما لقيادة هذه الحملة لنصرة ضحايا اليهود باليمن، وينظر النجاشى إلى أحدهما ويُدعى ( أرياط ) ويقول له : أما أنت يا أرياط فقد عهدتك محارباً صلباً تهزم الجيوش فى كل موقعة تخوضها ، حتى لقد ألف رجالك النصر تحت رايتك .. قال أرياط : ما أنا أيها الملك إلا عبدك، أضرب بسيفك، وأعادى من عاداك، وأسالم من سالمك – قال النجاشى : فاضرب اليهود ضربة من ضرباتك المُحطمة ، لا تبقى منهم على أحد، واذكر ما فعلوا بإخواننا نصارى نجران ومأرب وصنعاء، يوم حرَّقوهم فى الأخاديد، واذكر ما فعلوا بالنساء، والأطفال والشيوخ ، ذلك يوم النقمة يا أرياط – قال أرياط : سأبيد يهود اليمن إبادة شاملة كاملة أيها الملك – قال النجاشى (كالب) : هذا ما قدّرت، إنهم أصحاب خدعة فلا تنخدع لمن يزعم لك أنه اعتنق النصرانية، فإنما يفعلون ذلك إذا رأوا أنهم بغيره يقتلون، أو ينفون من الأرض – قال أرياط : ستسمع منى ما يرضيك أيها الملك .


وينظر النجاشى للرجل الثانى إلى جوار ( أرياط) ويوجه الكلام إليه قائلاً : وأنت (يا أبرهة) ماذا تحب أن أسمع عن أفعالك فى اليمن ؟، أنت أكثر قوادى تديناً وأعرفهم بالفتيا، وأقدر الناس على إعادة دين الله فى أرض اليمن - قال أبرهة: سأنزل بهم سخط الله، ولن أكون إلا سوط العذاب المسلط على المارقين، وما أن نُنصر على اليهود حتى أقوم ببناء الكنائس فى كل قرى اليمن، لتعلو بين أركانها كلمة الحق، وصيحة الإيمان – قال النجاشى (كالب) وقد رضى عنهما : هذا ما آمله منكما، ولست أخشى عليكما من عدوكما، ولكنى أخشى عليكما من الفرقة بينكما –


قال أبرهة : لا تخشى هذا أيها الملك، فلقد عملت مع القائد ( أرياط) فى أكثر من مكان، ولم تنشب بينى وبينه فرقة من أى لون – قال كالب : لقد حرصت على أن أجعل لكما سلطات على الجيش متساوية، فلا يقر أحدكما أمراً إلا بموافقة أخيه، فإن اختلفتما فأرسلا إلي . قال أرياط : لن نختلف أيها الملك ، وإذا رأيت أخى أبرهة يرى رأيا لم أره وافقته، وإن لم يرضن، قال كالب : هذا ما آمله منكما، ولكن احذرانى، فإنى إن غضبت على أحد منكما خالف عن إرادتى وما نصحت لكما به، أنزلت عليه من العقاب ما يتمنى معه أنه لم يولد قط –


ويأمر النجاشى – كالب – بتجهيز جيش قوامه يفوق السبعين ألفا، وأن ترافق الحملة على اليمن رجال الدين ورجال السياسة، ويُحمل الرجال على متن السفن .. وقبل أن تغادر الحملة شواطئ الحبشة قال النجاشى: يا أرياط لن أنعم بنوم حتى تأتينى بذى نواس فأسلمه إلى القيصر – يوسطانيوس – فى روما وأحسن مرافقة المسكين الضحية الذى لولاه ما عرفنا ما حدث للمؤمنين (دوس ذوثعلبان ) فقد أنجاه الله لهذه المهمة، وإذا انتهى الأمر قوموا على أمر اليمن باسمى، ومعك دوس مرشداً أمنياً، يعلم الدروب والطرق والقرى باليمن .


وتحمل السفن على متنها، هذا الجيش الضخم، وتمخر عباب البحر، ويحط على شواطئ – عدن – جيش جرار لا قبل لذى نواس به، واعتلى مقصورة القيادة ( أرياط) وعن يمينه مساعده ( أبرهة) الذى يقود الفرق المتحركة لبراعته وخفته فى تطويق العدو .


وإن هى إلا أيام، ويأتى صباح يوم على اليمن وقد حوصرت من الجيش الحبشى من كل مكان، وأيقن (ذو نواس) وحاشية السوء من اليهود، أن ساعة القصاص قد دنت، وبدأ الهجوم الشرس، وحاولت قوات ذى نواس عبثاً دفع الحشود الهادرة دون جدوى، واستمر القتال نهاراً أو بعضه حتى انهارت صفوف اليمنيين اليهود، ولم يستطع جيشُهم الصمود أمام جحافل الأحباش التى صبت جام غضبها على أولئك الجند، الذين زجوا بالعزل الآمنين فى أتون الأخاديد المشتعلة .


وتشتت شمل اليهود البغاة، وسقطت رايتهم وفرَّ مقاتلوهم فى كل اتجاه هرباً من هول ضربات أبرهة، الذى أقسم للنجاشى أنه سينزل بهم سخط الله، ولم يدعهم ينعموا بالفرار، راح يلاحقهم مُنزلاً بهم القتل أينما حلوا .. ودوس ذى ثعلبان إلى جانب أرياط منتشياً بما يراه، ولم يصدق نفسه حين تحقق له ما تمنى، وتحولت الحرب إلى مطاردة رهيبة، تلاحق فيها قوات الأحباش الفلول الفارة فى كل اتجاه ويسأل أرياط : دلنى على مكان ذى نواس يا دوس، أريده حياً، ويقلب دوس النظر إلى أبعد مدى يمكنه الرؤية منه، وينطلق بجواده باحثاً فى اتجاه قدَّر فيه وجود الملك، حتى إذا عثر عليه عاد إلى أرياط وأخبره : ها قد وجدته، إنه فى تلك الناحية من الطريق المؤدى إلى الساحل، وعلى فوره أمر أرياط مجموعة الحركة السريعة بملاحقته .


استمرت المطاردة حتى أوغل ذو نواس بجواده فى البحر، ويمتنع الجواد عن مواصلة السير فالماء أوشكت أن تغمره، وعلى اليم يقف أرياط وجنده ينتظرون من ساروا خلفه، واستيأس ذو نواس الفكاك فنزل من جواده، وسبح فى الماء ثم أخرج خنجراً من جرابه وطعن به نفسه، ومال أمامهم صريعاً غريقاً،


قالوا لأرياط : لم نستطع أن نحول بينه وبين الانتحار،عاجل نفسه بقتلها .


وسيطر الأحباش على اليمن تحت قيادة (أرياط) ومساعده (أبرهة) وتحولت اليمن لولاية نصرانية خاضعة للنجاشى (كالب) فى الحبشة، بعد أن انتقم الله لضحايا الأخدود : الذين خلَّد الله ذكرهم فى القرآن، وصاروا رمزاً للفداء والتضحية فى سبيل إعلاء كلمة الله .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .


ملحوظة:


هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة ..  هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.


محمد مصطفى

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
CLOSE ADS
CLOSE ADS
close