( الحلقة/ 20 ) بزوغ فجر مولده صلوات ربي وسلامه عليه
من كتاب الطريق الي النور للكاتب ا/ محمد مصطفي
**خرج عبد الله بن عبد المطلب، فى عير لقريش متجهة إلى الشمال، يحملون بضائع مكة لبيعها فى الشام، وبعد أن أمضوا مدتهم، وفرغوا من تجارتهم بيعاً، قفلوا عائدين حيث أتوا، وحال سيرهم فى طريق العودة، يرى القوم دابة ـ عبد الله ـ تسير خلف الركب متأخرةً على عكس رحلة الذهاب، فقد كان عبد الله على رأس الركب وفى المقدمة في رحلة الذهاب، فما باله فى العودة يبطئ المسير ؟ ويستأنف القوم سيرهم دون أن يشغلهم ذلك كثيرًا، ويكابد عبد الله نفسه لحاقاً بالركب كي لا يلفت الأنظار إليه، فيسألوه عما أصابه وهو لا يريد ذلك –**
**إنه يخفى شيئا أصابه، ولا يريد أن يعكر صفو رحلتهم، تلك التى بدأ يحس فيها بطول الطريق وعسره بعد أن داهمه الإعياء، والتعب، وتبدى الشحوب على وجهه، وأدرك من معه حين أناخوا للراحة، ما يكابده عبد الله، بيد أنه يتماسك فإذا ما رمقه أحدهم، أظهر أنه مُجهدٌ بعض الشيء ليس إلا، لكن الناظر لوجهه لا يقنع بهذا الكلام، فالرجل حالته غير مطمئنة، ويخفى عبد الله آلامه كى يصرف الناس عنه فيواصلوا المسير ، فالأمل يحدوه أن يصل إلى موطنه مكة، وهناك يطبب نفسه بين أهله –**
**لكن المرض لم يترك له إلا مساحات ضيقة فى الثبات، وسرعان ما تفاقمت العلة التى بجوفه، وسرى الألم فى جسده، ولم يعد يحتمل وغزه، فما إن اقتربت القافلة من أقرب مدينة وكانت يثرب، حط القوم رحالهم طالبين الغوث من أهلها لمريضهم ـ عبد الله ـ ويطلب عبد الله منهم أن يوصلوه بأخواله من – بنى عدى بن النجار – المقيمين فى يثرب .. قال عبد الله : يا إخوانى دعونى فى يثرب أنزل عند أخوالى، ريثما أتعافى مما أنا فيه . قال بعضهم : لن ندعك حتى نطمئن عليك، فلن نستطيع العودة بدونك، إذا علم عبد المطلب والدك بتخلفك عن العير، سيمسكه القلق عليك ويُعيّرنا ويعتبنا لتركك، لن نبرح يثرب حتى تعود معنا –**
**قال عبد الله : لا عليكم بهذا، سأكون بخير إذا تركتمونى أمكث أياما هنا، فما أحب أن تتعطل القافلة عن موعدها، عودوا إلى مكة واخبروا أبى أننى بخير عند أخوالى، وإن هى إلا أيام وألحق بكم، وطمئنوا زوجى ( آمنة بنت وهب) أننى بخير، ولا تذكروا لها مرضى حتى لا تنزعج عليّ ، فيصيبها شيء فى نفسها قد يلحق الأذى بمن فى بطنها من جنين أوشكت أن تضعه –**
**انصرفت القافلة إلى مكة، وخلَّفت وراءها ـ عبد الله بن عبد المطلب ـ يصارع المرض صراعا مريرا، انصرفوا وقد أحسوا فيما بدا لهم من حاله، أنه مشرف على النهاية، ولن يقوى على السير حتى خلفهم، فقد تردت حالته وهذا ما دعاهم يتركونه، ولما حطت العير فى مكة، كان عسيرًا عليهم إبلاغ والده بمصاب وابنه، ورمى كل واحد منهم الأمر على صاحبه، فهم لا يريدون فجعه فى ولده المقرب لديه عن سائر إخوته، وما زالوا هكذا حتى انسل منهم من أخبر عبد المطلب، الذى لم يطق الانتظار حتى يأتيه نبأ عنه – جهّز راحلته على عجل، وانطلق إلى يثرب ليقع بنفسه على ما حدث لابنه، ولما وصلها علم أنه إنما جاء متأخرا، أخبره أخواله من بنى عبد النجار، أنه لم يمكث فى المرض طويلا بعد رحيل العير عن يثرب، فارق الحياة ودفنوه فى ( دار النابغة ) –**
**رجع عبد المطلب إلى مكة مهموماً حزينا، فقد كان لعبد الله مكانة خاصة عنده، وفى طريق العودة دار شريط الذكريات، تذكر يوم القداح حين وقع النذر على عبد الله، وكأن الحادثة لم تبرح إلا أياما قليلة، وتتردد صدى دعواته التى كان يدعو بها لينجو ولده فى ذهنه، لما قال فى نفسه وهو يرمى بالقداح : لو نجا عبد الله فأنا بخير، فها هو عبد الله قد توفاه الله، ولم يتم بعد الخامسة والعشرين من عمره، وفى عودته أخبر عبد المطلب ( آمنة ) زوجة ولده عبد الله الخبر المفجع، حزنت حزنا شديدًا، وركن الهم إلى قلبها، وصار الأسى أنيس وحدتها .**
**ومرت الأيام ثقيلة لا معنى لها بعد فقدانها الزوج الحبيب، ولم تعد تتصور الحياة بدونه، ولكن الله أراد لآمنة بنت وهب تفريجا عظيما من الكرب، فقد جعلها تحمل فى بطنها أفضل خلقه على الإطلاق، سيد البشر وإمام المرسلين، فكانت تبيت الليالى ويأتيها فى منامها مالم تعهده، أو حتى تفهم ما وراءه، غير أن احساساً دفينا كان يلازمها، أنها ستضع جنيناً لا شبيه له على الأرض، هكذا حدثتها الإشارات الروحانية التى لا تعى آمنة تأويلها –**
**رأت ذات ليلة وكانت فى شهرها الأخير، رؤيا أهالتها وأذهلتها، لم تقف على معناها، حتى أتت الأيام وأولتها، رأت آمنة أن ـ نورا شديدا يخرج منها أضاء قصور بُصرى بالشام ـ وآمنة لم تر الشام، ولم تسمع بقصورها، رأت فى تلك الرؤيا شعاعاً من النور يخرج من بطنها، ويسطع على قصور بُصرى بالشام، فينيرها ويحول ليلها نهارا مضيئاً، وانطلقت فى الصباح إلى عرافى مكة، وقصَّت عليهم رؤياها قالوا : إنها لرؤيا حق، ولسوف تضعين من له شأنٌ عظيم –**
**تركت تلك الرؤيا العظيمة أثرها على آمنة، وغادر الحزن قلبها رويدا رويدا، وخف عنها ما كانت تكابد من ألم الفراق على الزوج، وتحول الألم إلى شوق لرؤية هذا المولود، وبدأ الأمل يخترق يومها، والسكينة تؤنس وحدتها، بعد أن كان الإحباط سيد الموقف، وأحاطت بها العناية الإلهية، تحفها برعاية تحس آمنة بوقعها، من خلال هدوء النفس الذى غشيها، وأخرجها من كربها، وفى ليلة أخرى يأتى إليها طائف فى منامها، فى هذه المرة ستكون الإشارة الإلهية فى كامل وضوحها، لا يعوزها تأويل من أحد، يقول لها الهاتف : إنك قد حملتِ بسيد هذه الأمة، فإذا وقع على الأرض، فقولى « أعيذه بالواحد من شر كل حاسد » وتعلق الأمل بآمنة، تنتظر هذا اليوم المبارك، الذى تضع فيه ما بُشِرت به فى منامها وفى إحساس يقظتها، وما تراكم لديها من نفحات روحانية، تصب كلها فى خانة واحدة، أنها ستلد مولوداً له شأن وأي شأن .**
**وفى يوم الاثنين اثنا عشر من ربيع الأول من عام الفيل، وبعد مرور خمسين يوما على حادثة أبرهة، يطل على البشرية أشرف مولد لبنى البشر، محمد صلى الله عليه وسلم، وضعته أمه فى هذا اليوم المبارك من أيام الله، وتأكد لها فى ولادته كل البشائر والإشارت الروحانية، تأكد ذلك حين وضعته ونزل متكئاً على يديه رافعا رأسه إلى السماء على هيئة لم تُر لمولود قط، بل وزاد يقينها فيما قاله الهاتف " إنه سيد هذه الأمة " حين ولد مختونا مقطوع الحبل السرى من قبل أن يمسه بشر، قالت لما رأت الآيات تتجلى أمامها : أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد ـ فسمع النسوة اللائى حولها يساعدنها فى الولادة هذه الكلمات فتعجبن تعجبا شديدا ـ من أين أتت آمنة بهذه الكلمات التى لا تعرفها العرب، ولا ينطقون بمثلها ، تلك كلمات غير معهودة النطق فى هذا الزمان، ولا هى معروفة إلا لعلماء الأديان السماوية، فمن أنبأ آمنة بنت وهب هذا القول، وهى من هؤلاء البسطاء الذين لا يدركون من الأمور إلا ما يحيط بهم من سماع حديث عصرهم، ولا شأن للعرب فى زمانهم بالتوحيد، ولا بالإعاذة، سواء من شيطان أو حاسد، تلك التى نطقت بها آمنة حين وضعت مولودها، كلمات غريبة على من عاش فى هذا المكان من الدنيا فى ذاك الزمان، فقول آمنة أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، ضربت مؤشراً خطيراً فى حومة تعجب النسوة حولها، اللائى أذهلهن أمر ولادتها، وخرجن وكلهن دهشة واستغراب لما حدث فى دار عبد الله بن عبد المطلب –**
**وانطلقت إحدى النسوة إلى عبد المطلب، وقالت : يا سيد قومه، لقد أنجبت آمنة زوج ابنك مولودا ستزين به بطحاء مكة كلها، اسرع إلى الدار وانظر بنفسك واطلع عليه – قال عبد المطلب : وما العجيب الذى أدهشكن فيه ؟ أو ليس كغيره من المواليد التى يلد للعرب كل يوم أمثاله الكثير ؟ ! قالت : لا واللات يا سيد قريش، هل سمعت أن مولودا ينزل على الأرض متكئا على يديه، رافعا رأسه إلى السماء ، مختونا مقطوع الحبل السرى !! قال عبد المطلب : أو هذا حدث حقا لوليدنا محمد ؟ قالت المرأة : أو سميته محمدا ؟ والله إن لأمر هذه الولادة عجب العجاب، ما سمعنا العرب من قبل تسمى محمدا . قال عبد المطلب : والله إن لابنى هذا لشأن، ولأسمينه محمدا .. .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .**
ملحوظة: هنا: قال صلى الله عليه وسلم « أنا دعوة أبى إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمى أنه يخرج منها نور أضاءت منه قصور الشام » رواه أحمد ، والحاكم بإسناد صحيح وقال ابن كثير : وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام ولهذا تكون الشام فى آخر الزمان معقلاً للإسلام وأهله. .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين ..
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
# **تكملة الحلقة ( 20 )!! **
## **من كتاب الطريق الي النور للكاتب ا/ محمد مصطفي**
**انطلق عبد المطلب مسرعا نحو دار آمنة، ونظر إلى المولود وقلبه يفيض سروراً، باهجاً تغمره أحاسيس عدة، فها قد أبدله الله بمن يدخل على حياته البهجة، عوضا عن ابنه عبد الله، الذى حز فراق فقدانه فى قلبه، ويبتسم عبد المطلب وهو ينظر إلى الوليد، وتغمره أحاسيس بأنه سيكون سيد قومه، وذا شأن عظيم، ويدنو عبد المطلب منه، ثم يحمله برفق وحنان، ويقرب وجهه من فيهه ليطبع على وجه سيد الخلق وليده قبلة حانية، ويسير به مزهوا تجاه بيت الله الحرام، حتى إذا كان على بابه فتحه، ودخل بوليد بنى هاشم جوف الكعبة مختليا عن الناس ، ثم تضرع إلى الله بالدعاء الحار :**
**الحمد للهِ الذى أعطانـــــــى ... هذا الغلامَ الطيّبَ الأردانِ**
**قد سـادَ فى المهِد على الغِلمان ... أعيذُه بالبيتِ ذى الأركان**
**حتى يكونَ بُلغة الفـتيــــان ... حتى أراه بالغ البنيـــــان**
**أعيذه من كل ذى شنـــان ... من حاسدٍ مضطرب العـنان**
**ذى همةٍ ليس لــه عينـــان ... حتى أراه رافعَ اللســـــان**
**ثم خرج به وفعل كما تفعل قريش بمواليدها ، أسلمه إلى النسوة اللائى يكفئن البُرمة ويطلقون الأناشيد المألوفة لتلك المناسبات، فأخذنه من عبد المطلب، واحتفين به، وضربن الدف حوله، حتى إذا كان المساء بيّتْنَهُ فى فراش، بين جنباته وسادتين قد ارتفعتا عن مستواه، ثم وضعن البرمة الخشبية على الوسادتين اللتين بينهما الوليد محمد، وتركنه وحده فى غرفة كما جرت بذلك العادة، ولما كان الصباح، دخلن عليه فوجدن البرمة قد انفلقت وهى مكانها، ووجدنه مفتوح العينين، شاخصا بصره إلى السماء، فهرعن مذعورات إلى جده عبد المطلب : ما رأينا مولوداً مثلة قط !! وجدناه قد انفلقت البرمة فوقه دون أن تسقط عليه، ووجدناه مفتوح العينين !!**
**قال عبد المطلب :احفظنه فإنى أرجو أن يكون له شأن، أو أن يصيب خيرا .**
**أحاطت الخوارق الإلهية ميلاد الرسول الكريم فى مسقط رأسه بمكة ، ولم يُحرم العالم الخارجى يوم ولد من تلك الخوارق ، فانطلقت الإشارات من السماء، منذرة بتحول سيحدث للعالم بعد هذا اليوم، ففى يوم ميلاده خرج عالم من أحبار يهود، وصعد على ربوة عالية، وأخذ يصيح فى أهل يثرب بأعلى صوته على مشارف المدينة : يا معشر يهود، يا معشر يهود، يا معشر يهود .. فإذا اجتمعوا إليه قال : طلع الليلة نجم أحمد الذى ولد به – وانفض اليهود دون أن يلتفتوا لندائه .**
**وفى المدائن عاصمة الفرس، جاءتهم الإشارة من السماء، تنبئهم بالحدث الجلل، ذاك الذى وقع فى أرض العرب، وله ما بعده، ففى اليوم الثانى لمولده صلى الله عليه وسلم استيقظ كسرى من نومه فزعاً مذعوراً، يُطلق الصياح المدوي : يامرازبة فارس، يا حكماء المدائن، اجتمعوا إلى من فوركم .. وهو يسرع الخطى فى هلع لم يألفوه من ملك الملوك، متجها فى ارتباك شديد إلى كرسى الإيوان، على حال غير حاله المعتاد أن يروه، فى أبهة الطلة وهدوء المنظر، وترتيب طقس الخروج، من ضرب الطبول ، ودق الناقوس، ونفخ البوق .. اليوم دخل مجلسه خائفاً، حتى الزينة التى كان يخرج فيها على قومه من فرط عجله لم يتزين، وثب من فراشه إلى كرسيه، واندفع بدورهم الأمراء والوزراء نحو القاعة، مسرعين مهرولين من وقع صرخاته المضطربة : يا مرازبة فارس ، يا حكماء المدائن .**
**وإن هى إلا لحظات وانتفض البلاط الفارسى كله، حول كسرى، وقفوا فى خشوع وصمت، يصغون لما يريده كسرى المضطرب اليوم .. قال فى حدة : ائتونى بمن له تابع من الجن ممن عندهم للرؤيا تأويل، فقد رأيت البارحة رؤيا أفزعتنى، ولم أر شبيها لها فى منامى ـ قال وزيره الأول : وما الذى رأيت أيها الملك ؟ قال كسرى وقد بدا عليه الشرود : رأيت إبلاً صعابا، تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت فى بلادنا – قال وزيره : إنها لرؤيا عجيبة ! وإنها لتخفى وراءها شيئا لا نعلمه، وبينما هما يتحدثان عن الرؤيا وإذا بالمرازبة من حاشيته تدخل مسرعة نحو القاعة، يدفعون بالحراس دفعا ليشقوا طريقهم إلى كسرى فى عجالة، ومن خطورة ما معهم من أخبار أسقطوا لائحة الانتظار المعمول بها، لجدية الأمر الذى بشأنه جاءوا، وعلى رأس الحضور ثلاثة من قصاصى خبر الفرس قالوا : أيها الملك أمر مروّع وقع !! ائذن لنا فى عرضه على جلالتكم، ويقطع كسرى حديث محاوره ويقول : فليتحدث واحد منكم وليذكره الآخر إذا نسى ، قال أحدهم : انطفأت نار الفرس، خمدت وانتهت نار الأجداد، كارثة يا مولاى، زالت من الوجود النار التى بقيت مشتعله ألف سنة .**
**قال كسرى فى غضب : ما لهذا اليوم العكر، لم أفرغ من الرؤيا بعد، حتى جاءنى ما هو أفظع منها، وبينما هم فى ذلك وإذا بهزة ضخمة ارتج على إثرها كل الإيوان والقصر، وساد المكان فوضى عارمة، وفزع الناس أشد الفزع فى مجلسه، بعد سماع أصوات ارتطام وتهدم ووقوع بنايات، وصرخ كسرى فيمن حوله : ماذا يحدث لنا فى هذا اليوم العجيب، ما الذى يدور حولنا ؟ وإن هى إلا لحظات ويعود الناس حوله أدراجهم، وبدأت الوفود ترد إلى مجلسه بالأنباء السيئة .**
**أراده الله يوم ذل وامتهان لكسرى – سعوا إليه قائلين : زلزال أيها الملك، زلزال ضرب البلاد –**
**وسرعان ما انتشرت الأخبار المفزعة، وتناقلتها الناس فى البلاط والبلاد، ذلك الذى حدث لإيوان كسرى، تهدم وسقط منه أربع عشرة شرفة، كانت نصيب الإيوان من الزلزال الذى ضرب البلاد على طولها، وابتلع بحيرة ( ساوة ) فى جوفه، وصارت أثرا بعد عين، ولم يتمالك كسرى نفسه، صاح : لن يهدأ لى بال حتى تأتونى بأحكم علماء فارس، وأعظم كهانها، ليطلعنا على تفسير ما يحدث فى هذا اليوم –**
**وعلى فورهم أتوا بعالم زمانهم (عبد المسيح بن مرو بن حيان بن نفيلة) الذى ينحدر من أصول غسانية من عرب الشام، كان راهبا نصرانيا، على دراية كاملة بالديانات، قدَّمه إلى كسرى وزيره الأول قائلا : هذا الراهب له تابع من الجن يأتيه بنبأ السماء، وله علم بالرسل الأقدمين ودياناتهم، كما أن له معرفة بأحوال الفرس والعرب – قال كسرى : ماذا ترى أيها الراهب فيما حدث لنا، من تحطم الشرفات الأربع عشرة للإيوان، واختفاء بحيرة ـ ساوه ـ بعد تسرب ماؤها إثر الشقوق، وخمود نار الفرس ؟ -**
**قال عبد المسيح : ذاك أيها الملك، أن بالأمس ولد فى بلاد العرب نبى آخر الزمان .**
**قال كسرى : وأى علاقة تلك بمولده وما حدث فى أرضنا ؟ قال عبد المسيح : الأربع عشرة شرفة ، أى بقى على ملك فارس أربعة عشر ملكا، بعدها يزول سلطان الفرسى من الوجود – قال كسرى : أى حديث هذا الذى تقول أيها الرجل، أكبر ممالك الأرض تنتهى بعدى بأربعة عشر ملكا .**
**قال عبد المسيح : نعم أيها الملك، ما حدث بالأمس من ولادة النبى العربى، أعقبه ذلك الذى حدث فى أرضنا، فلما سألت تابعى من الجن وأعوانه ممن يسترقون السمع أجابونى بالقول " إنها إشارات السماء بدنو أجل ملوك فارس "**
**ذاك أيها الملك أن عهد هذا النبى الخاتم، ستسقط فيه الإمبراطوريات الكبيرة، كبلادنا والروم، ليحل العرب حاملى لواء النبى محلهم – قال كسرى فى اندهاش : أين أنا من هذا اليوم إن صدقت نبوءتك أيها الراهب، لا زال أمامى وأمام أبنائى الملك المديد أربعة عشر ملكا لا زالوا فى الطريق، وما أدرانا ما هى تلك المدة ؟**
**وتوهم كسرى فارس الذى يُدعى ( الموبذان ) حين ظن أنه أمام عمر مديد لمملكته، فلم يكن يعلم الغيب، لا هو ولا عبد المسيح، فما أن مات ـ الموبذان ـ هذا إلا وتصارع على ملك فارس أبناؤه ، ففى أربعة سنين فقط توالى على حكم الفرس عشرة ملوك من جملة الأربعة عشر، وتلك كانت علامات النهاية، نهاية الأكاسرة ودولتهم تلك النهاية التى بدأت بمولد الرسول . **
**قال كسرى : وما قولك أيها الراهب فيما حدث للبحيرة من انشقاق قعرها ونضوب ماؤها، وخمود نار الفرس المقدسة ؟ قال عبد المسيح : البحيرة هى رمز الحياة، الحياة التى أخذت تفارق مملكتنا، والنار رمز المجوسية التى ستنطفئ كما انطفأت النار – قال كسرى الموبذان : لم يبق أيها الراهب سوى أن تضع لى تأويلا لرؤياي التى رأيتها بالأمس – قال عبد المسيح : وما رأيته بالأمس ؟**
**قال كسرى : رأيت إبلا صعابا، تقود خيلا عراباً، قد قطعت دجلة وانتشرت فى بلادنا – قال عبد المسيح : ذاك أيها الملك أن أتباع هذا النبى الذى ولد بالأمس فى بلاد العرب، سيسيرون فى الأرض شمالا، ويخضعون أطراف مملكتنا التى يحرسها المناذرة، سبخضعونها لسلطان دينهم، ثم ينطلقون من أرض المناذرة صوب مملكتنا التى ستسقط فى أيديهم، حين يحل أوان الملك الرابع عشر، أمدك الله بالعمر المديد .**
**هكذا وضحت لكسرى فارس ـ الموبذان ـ الإشارات السماوية، وأيقن أن وراء هذه الأحداث الجسام، التى جرت للإيوان وللبحيرة وللنار، وكذا الرؤيا، أن السماء وضعت على الأرض البارحة مولودا، هو ذلك النبى الذى ما فتأ كهان النصارى وأحبار اليهود وعرافو فارس يبشرون بقدومه، وأن زمانه قد أطل، نبى العرب ونبى آخر الزمان ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ**
**وفى اليوم السابع لميلاد النبى محمد، نحر عبد المطلب وأعد وليمة عظيمة تشريفا، واحتفاءاً بمحمد، اجتمع عليها سادة وأشراف مكة، يشاركون كبيرهم . فرحته بوليده، ولما فرغ القوم من طعامهم، خاضوا فى حديث سامر، عن تلك العلامات التى رافقت مولده، حتى إن الكثيرين ممن استغربوا له كانوا على رأى عبد المطلب، فى أنه سيكون ذو شأن عظيم، تزهو به قريش على العرب .**
**وأثناء تسامرهم فى حديثهم هذا، إذا بسؤال لم يلتفت إليه أغلبهم رغم أهميته، سأل أحد الجالسين عبد المطلب، قال : يا سيد قريش ، أرأيت ابنك هذا الذى أكرمتنا على وجهه ما سميته ؟ قال عبد المطلب : سميته محمدا – قال الرجل : ولِمَ اخترت له من الأسماء ما لم تسم العرب بها قط ؟ فما عرفت العرب اسم محمد ذلك الذى سميت – وأراد الرجل أن يعرف من عبد المطلب دافعه وراء ذلك الاسم الدخيل على العرب فى زمانهم .**
**قال عبد المطلب : ذلك يا ابن أخى أننى كنت مرتحلا فى عير كبيرة لقريش، وكانت آمنة زوجة ولدى وأم المولود فى الأشهر الأخيرة من حملها، وكانت وجهتنا بلاد الشام، وضعنا فيها تجارتنا، وقبل أن نهم بمغادرتها، التقانا راهب من نصارى الشام، بعد أن علم أننا من الجزيرة، ولكن من أى البلاد فيها ؟ لم يكن يدرى ، فخصنى الراهب بالسؤال ، لما رأى القوم يجلوننى ويكبروننى فقال الراهب : من أى بلاد العرب أنتم ؟ فقلت : من مكة – فقال : إننا الآن فى انتظار النبى الذى سيخرج من بلادكم، وهذا زمانه – قلت له : قد سمعت من بعض من عندهم علم من الكتب الأولى مثلما تقول أيها الراهب، بيد أننا فى مكة لا نعير مثل هذا القول اهتماماً كثيراً، ونعدها نبوءات لرجال صالحين لا نُعوّل عليها – فقال لى الراهب : إنها نبوءة صدق، ولسوف يتحقق .. فصدق يا أخا العرب كل من قال لك ذلك، واسم ذلك النبى محمد .**
**واستطرد عبد المطلب فى سياق رده على السائل : أحسست والله بالصدق فى كلام الراهب، وكل من سمعه ممن كانوا معى، وقع كلامه فى قلوبهم نفس موقعه فى قلبى، لما حملته نبراته الصوتية من أناة ووضوح بيان، حتى إن كل من خلف امرأته حاملاً عزموا على تسمية من سيولد لهم باسم ـ محمد ـ فكنت أنا ( وسفيان بن مجاشع ، وأحيحة بن الجلاح ، وحمران بن ربيعة ) فلما رجعنا مكة من ذكرتهم لك سموا ما فى أرحام نسائهم باسم محمد – فقد طمع كل واحد منا بعدما علمنا بأنه زمانه فى بلادنا، أن يكون مولوده هذا النبى القادم من مكة .**
**وبعد طول مكوث فى مجلس عبد المطلب، الذى لا يمله القرشيون، بدأ التناقص فى الجمع رويدا رويدا، ينصرف المدعوون، يقبلون على عبد المطلب يصافحونه مودعينه بعدما أتموا واجب المشاركة فى الاحتفاء بالوليد، الذى أدخل السعادة على آل عبد المطلب، فإذا لم يبق إلا نفر قليل ممن آثروا مواصلة الحديث مع سيد مكة لبعض الوقت، سأل عبد المطلب أحدهم : متى ستأتى قافلة مرضعات بنى سعد ؟ يجيبه أحدهم : إن هى إلا أياما ، وتكون قافلة المرضعات فى مكة، فذاك، أوانهم، فإنهم يفدون إلى مكة فى العام مرتين، وقد مضى على آخر وفادة لهم ستة أشهر ، لعلهم الآن فى طريقهم إلينا – قال عبد المطلب : حسناً ، أدعو الله أن يقع نصيب ولدى فى يد مرضعة تسكن نفسه إليها، ويُقبل على لبنها ويقنع به ، فيشتد عوده مبكراً .**
**وصدق حدس الرجل حين قال لعبد المطلب ولعلهم فى طريقهم إلينا، فقد كانت بالفعل قافلة المرضعات قد خرجت من بادية ـ بنى سعد ـ قاصدة مكة فى رحلتها الثانية لهذا العام، وكأن القافلة على موعد مع القدر، لتشرف بصحبة أفضل مولود عرفته البشرية – نسوة بصحبة أزواجهن، اعتدن القيام بهذه الرحلة مرتين فى العام، بغية الحصول على نافلة من معين، وفضل من مال ، علها تعينهم على احتمال أثقال الحياة فى تلك البادية الفقيرة البعيدة، وقد ذاع صيت مرضعات بنى سعد فى هذا الزمان، الذى كانت تحكمه عادات ومعايير خضعت لها الظروف الحياتية فى مكة . فجرت العادة بمكة تسليم المواليد إلى مرضعات بنى سعد .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .**
**توضيح: علي الهامش : حدث أنه في انتظار المراضع دفعت آمنة بنت وهب بوليدها إلى (ثويبة) جارية عمه أبى لهب ، فأرضعته أياماً ريثما ترد المرضعات إلى مكة كما أرضعت من بعد عمه حمزة فكانا أخوين ، وظل النبى صلى الله عليه وسلم يحفظ لـ (ثويبة) خير الود ويصلها ما عاشت إلى أن ماتت فى السنة السابعة من الهجرة . **
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تعليقات
إرسال تعليق