الحلقه السادسه عشر والسابعه عشر
( الحلقة/ 16) أصابتهم لعنة الكعبة
من كتاب الطريق الي النور
للكاتب الكبير أ/ محمد مصطفي
ويُطلع أبرهة لأول مرة ابنه (مُسيرك) فكان يتحاشى مشورته لولعه بالحرب وحماسته الزائدة، تلك التى أفقدته الحس الرصين فى الرأى، ولكن إذا ما كان الأمر متعلق بجزيرة العرب فلا مناص من مشورته ـ فمسيرك ولد أبرهة ـ جال وصال سائحاً فى تلك البلاد ويعرف ما لا يعرفه والده أبرهة، يُطلعه على كتاب النجاشى، فكان رد مُسيرك ولده : ملك منهم تنصبه عليهم !! هؤلاء الناس لا يرضون بغير طريقتهم فى الحكم، لا يشرعون فى عمل قبل أن يناقشوه فى ندواتهم، ويستقر عليه رأى الأغلبية – قال أبرهة : إذا جعلنا عليهم ملكا من قبيلة قوية الشكيمة يُذلوا له، وعن طريقه يمكننا أن نحقق كل أهدافنا، من هدم الكعبة، إلى تشتيت شمل أشرافهم، والقضاء على نفوذ مكة بين العرب .
ووجد أبرهة ضالته فى – زهير بن جناب – سيد بنى كْلِب، يتوجه فى القليس ملكا على العرب، ويخرج (زهير ) عزيزا مكرما، ويبقى فى قومه زمناً، ثم يأمره أبرهة أن يذهب إلى مكة ليحصل على مبايعة أشراف قريش لعرشه المزعوم، فقوبل بغير ما تمنى هو وسيده، ويلقى من سادة مكة معارضة شديدة، بدأها (حرب بن أمية) الذى قال له : إنك لا تعلم يا زهير أن قريشا لا تُمْلّك – قال زهير : أنا الآن ملكها، ما تقول فى هذا يا عبد المطلب وأنت سيد مكة ؟ ويأتيه الرد الرافض من عبد المطلب : أقول كما قال لك (حرب بين أمية) إن قريشا لا تُمْلّك ، وإنك لم تأت إلا لتستميل إليك سفهاءنا وتفرق جمعنا بأمر سيدك، الذى توجك ليصرف الناس عن كعبتنا، ويستدرج تجارتنا إلى اليمن، ويعمد (زهير) إلى التهديد قال : ألا تخشى يا عبد المطلب أن يغضب قائد الأحباش أبرهة ؟ فرد ساخراً حرب بن أمية : (الأشرم ) (1)
قال زهير : والله لو ذكرت له ما قلتم لكر عليكم بالسلاح .. قال عبد المطلب : وساعتها أين يكون مكانك يا زهير وأنت من أشراف بنى كلب، فى صفوفنا أو فى صفوف عدو العرب ؟ قال زهير : أنا فى صف هذا التاج الذى وضعه على رأسى، إن لم تملكونى عليكم حاربتكم معه .
ولا ترضى قبيلة (بنى كلب) عما قال سيدها (زهير بن جناب) وما فعل، فلا يمر يوم على ما دار فى ندوة عبد المطلب بن هاشم سيد قريش حتى يعدو فتى مؤمن بعروبته على زهير فيقتله ويبلغ الخبر أبرهة .
ويقول أبرهة لابنه مُسيرك : يقتلون زهيرا وقد ملك أمرهم من قبلى – ويفور غاضبا : من فعل ذلك ؟ يقول مُسيرك : ألم أقل لك يا أبتاه إن هؤلاء العرب لا يُنصبون أحداً إلا إذا اجتمع عليه أشرافهم، لقد طوّفت فى هذه الأحياء وخبرتهم جيداً، إنهم يأبون من يتسلط عليهم، وزهير كان يريد أن يحكمهم بأسنة رماح أعدائهم، رموه بالخيانة وأطلقوا عليه فتى منهم فقتله – قال أبرهة : لأمحونهم من الأرض محوا، ولنسيرن إلى هذا البيت الذى يعظمونه فأهدمه، فلا يكون بيت لله غير القليس – اجمع لى يا مسيرك قواد الجيش –
وأمام حشد من قواده الذين استنفروا رجالهم للحرب، يأمرهم أبرهة بالتحسب لغزو بلاد العرب .
واستعد أبرهة للغزوة الشرسة استعداداً كبيراً، لم يكلفه ما معه من الأحباش ومن أهل اليمن الذين دخلوا فى دين المسيح، بل أرسل إلى سيده النجاشى ـ كالب ـ يطلب منه الامداد والفيلة، ليدخل فى حملته تلك .. الفيلة، لعلمه أن العرب تخشى مقاتلة جيش به الفيلة، فالفرس كانوا إذا أرادوا أن يذهلوا العرب عن أنفسهم فى الحرب جعلوا الفيلة على مقدمتهم، ما أن يراها العرب حتى يفروا، ويسأله أحدهم : لكن المسافة يا قائدنا طويلة، والفيلة لا تحسن السير فى الصحراء .. يقول أبرهة : دربنا ثلاثة منها على حرب الصحراء، وأولها فيلى الأسود الكبير الذى يحمل (هودجى) ثم لا تنسى أيها الرجل أننى بعد أن أنتهى من العرب سأسير شمالا حتى يتصل جيشى بجيش قيصر، وأحب ان يرانا فى هيئة مرهبة حتى لا يطمع فى الأحباش .
ويسير الجيش الحبشى فى أرض العرب، جيش كبير العدد، ضخم العتاد، وأصطحب معه أبرهة النساء، والراقصات الحبشيات والغوانى، للترويح عن الجيش أثناء تحركه، فهو كما زعم أرادها نزهة فى بلاد العرب يقطعها موكب الخراب، الذى حوّله أبرهة إلى دولة متحركة صوب بيت الله الحرام، الذى يرى أن الوصول إليه أمر يسير لن يستعصى عليه، فليس فى طول الجزيرة وعرضها قوة تستطيع التصدى لجيشه، فالعرب قبائل، متناثرة متناحرة، الدم لا ينقطع إهراقه طول العام فيما بينهم، ولم يفطن أبرهة إلى أن زحفه نحو البيت سيوحد صفوف العرب، فهو لم يعرف طبيعة هؤلاء الناس، الذين يتقاتلون على الشرف، ويتبارون فى خدمة البيت الذى عزم على هدمه، فهو دينهم وشرفهم، وكل شيء لهم، ولم يخطر ببال أبرهة أن بيت الله لا يُمس، فإن قدر على العباد فلن يقدر على رب العباد، لكن لسوء حظ الرجل لم يجد حوله من يوقظه ويصرفه عن وهمه الذى توهم، كان جيشاً كثيفاً تعوزه الحكمة والرشاد، فكتب الله عليه السير فى هذا الاتجاه ( الهلاك المحتم ) وهكذا تسير الأمم حين يكون قيادها فى يد الشيطان، وأثناء سير أبرهة فى عمق جزيرة العرب، خرج إليه رجل من ذوى المروءة والشجاعة علم بمقصده، وخشى أن يتقاعس ويجبن ويدع أبرهة يمر على مضاربه، دون أن يدفع الأذى عن بيت الله، فتحل عليه وعلى قومه لعنة الله (ذو نفر ) رغم أن القوة غير متكافئة بالمرة، ورغم علم (ذو نفر ) ورجاله أن المعركة ليست فى صالحهم، إلا أنه تحرك ليصرف العار عن قبيلته مدى الدهر، فوثب (ذو نفر) بمن معه من رجال قبيلته على هذا الجيش الجرار، وكما هو متوقع، انهالت الضربات من جيش أبرهة فلم يستطع الصمود طويلا، ووقع ذو نفر أسيرا فى يد أبرهة الذى اصطبحه معه فى رحلته المشئومة، وفى الطريق علمت ـ قبيلة خُثعم ـ بخبر أبرهة، وتشاور ساداتها فى أمره، واستقر رأيهم على الدفاع عن البيت، واعتراض جيش الطاغية، مهما كلفهم الأمر من تضحيات جسام، فتجهزت (خثعم) قدر ما وسعها ذلك، وجعلت رايتها فى يد ـ نفيل بن حبيب ـ وخرج (نفيل) ليقطع الطريق على أبرهة، وبعد قتال شرس، أبلت فيه (خثعم) بلاءاً حسناً، لم تستطع (خثعم) الصمود طويلا، أمام هذه القوة العاتية، وسرعان ما تهاوت صفوفها من وقع الضربات المتتالية التى حصدت أغلى الرجال، وأشجعهم، وانتصر جيش الخراب على (خثعم) وأخذ (نفيل بن حبيب) أسيراً، كما هو حال ذو نفر، وسجلت خثعم فى تاريخ العرب لوحة شرف، وفداء لكل الذين يقدسون حرمة البيت .
وعلى طول الطريق يتسلل الأحرار من قبائل العرب، التى تستنكر الهجمة الغاصبة على بيت الله، ويدون التاريخ أسماء أبطال الوطنية العربية فى تلك الفترة بحروف من نور ( نفيل بن حبيب ، ومسعود بن مالك وسعد بن عوف ، وحناطة الحميرى ) وقفوا بأسحلتهم البدائية ورجالهم الذين لم يواجهوا من قبل، الدروع والرماح المسمومة والفيلة حتى استشهدوا تحت غبار المعارك، دفاعا عن أرضهم وعرضهم، ولكن جيش أبرهة كان من القوة بحيث أدخل الرعب فى قلوب العرب جميعا، إلا قلوب أشراف العرب، ويخبر الجند أبرهة : أيها الملك تتسلل إلينا قوات شاردة من بطون الصحراء، هلَّا كففنا عن المسير شيئا يسيرا حتى نجهز عليهم، ثم نعاود السير .. ويرد أبرهة على تلك الأصوات: دعوهم فإن موعدهم معى منصرفى من البيت لنؤدبن العرب على طول الطريق حين أفرغ من كعبتهم أدباً تتسامع به الدنيا، لا تُضيعوا وقتا مع هؤلاء الجرذان .
ويقترب موكب الهلاك من قبيلة ـ ثقيف بالطائف ـ وقد علمت بأمر أبرهة قبل مجيئه، وكانوا قد حسموا أمرهم بينهم، فخرج ساداتها إلى أبرهة فى حالة من الخزى والعار قالوا : أيها الملك، إنما نحن عبيدك، سامعون لك ومطيعون، ليس عندنا لك خلاف، قد علمنا مقصدك تجاه البيت، وليس لنا حاجة بذاك البيت الذى تريد هدمه، فما يعنينا أمره فى شيء، وحتى تقف على صدق نوايانا، نرسل معك مرشداً منا، يدلك على أقرب الطرق المؤدية إليه .
قال أبرهة : حسناً أنتم أناس مسالمون، وادعون، لا تريدون جلب الشقاء على أنفسكم، وأنا لم آت هذه البلاد، إلا لهدم البيت، ليس لى حاجة بغيره، فليأتى معنا الذى أشرتم لنا به .. فخزع من بين أظهرهم من يُدعى – أبو رغال – هان عليه بيت الله، وهانت عليه نفسه، يسعى نحو أبرهة بخطى الذل والمهانة ، منحنى الرأس وقد كره أن يطلع عليه الملأ، ودنا من مقدمى الركب ليكون دليلا لجيش الخراب، ويسأله أبرهة : ما اسمك يا رجل ؟ - قال : أبو رغال . قال أبرهة : لو دللتنا على أخصر الطرق أجزلنا لك العطاء، وأنزلناك فينا منزل المقربين ـ قال أبو رغال : أنا عبدك، سامع لقولك، وطائع لأمرك، وطامع فى القرب من جلالتكم ـ .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
# ***تكملة ( الحلقة 16 ) نهاية أصحاب الفيل بالطير الأبابيل !!***
> ***من كتاب الطريق الي النور للكاتب الكبير ا/محمد مصطفي***
ويسير الجيش صوب غايته الخبيثة، ولما دنت مشارف مكة قال أبرهة لدليله أبي رغال : نعِمَ ما قمت به يا أبا رغال، كفيتنا مشاق الطريق الطويل، لولاك لطال بنا المسير – قال أبو رغال : وهل يسعنى أيها الملك إلا ذلك – قال أبرهة : الآن أوفى لك بما عهدتك .
قال أبو رغال : بل أريد صحبتك أيها الملك، فأنا معك حتى تنجز ما أردت، وعند العودة كافئنى كما تريد، واللات إنى أحب أن أرافقك السير فى تلك الرحلة العجيبة، فأرى ما سيحدث للبيت الذى تعظمه قريش، وأقص على قومى ما ستفعلونه به .
قال أبرهة : لا عليك يا أبا رغال، نصيبك فى الرحلة فى هذا المكان . ونظر أبرهة لمن حوله من الحراس وأمرهم بما أذهل أبا رغال وأفزعه – قال أبرهة وهو يضحك ساخراً : تريد صحبتى طمعاً فى القربى، ماذا تظننى أيها الرجل الأبله ؟ تخون قومك وعشيرتك، وتدلنى على مقدساتهم وائتمنك بالصحبة إلى جوارى ، فو الله من ليس له خير فى قومه، لا يصلح لغيرهم، ونظر إلى حرسه وقال فى حسم : اقتلوا هذا الرجل، قد أخذنا منه ما نريد، وواروا جثته التراب.وأخذ (أبو رغال) يصيح باكيا متوسلاً من أبرهة تركه وعدم قتله، وإن هى إلا لحظات وأنفذ الجند فى صدره الرماح، وطويت بموته صفحة من صفحات الخيانة فى رحلة الطاغية بمنطقة تسمى – المغمس – ويقول أحد مستشارى أبرهة وقد راعة قتل الرجل : أيها الملك، كنت قاسيا على الرجل، ما كان ينبغى أن تقتله وقد كان فى عوننا، وأمام الملأ من الجند، أراهم يتخوفون بطشك بهم .
قال أبرهة : لو لم أفعل هذا بالعربى الخائن لفشت الخيانة فى جيشى، حين يرى الناس الخائن يُكافأ، وهذا درس أردت إيصاله لجندى، ذلك أن مصير الخيانة هكذا –
ولما اقترب جيش أبرهة من مكة، وصار على مسافة قليلة من البيت، ضرب معسكراً ضخماً، وأعد عدته من الفيلة والدروع التى تحركها البغال، وأعطى تعليمات مشددة بمنع الدخول عليه، ومنع اقتراب أى عربى من معسكره حتى يدبر أمره مع البيت، وأسرعت قريش إلى الجبال تنظر إلى الجيش الكبير، الذى يغطى وجه الأرض عند مدخل مكة، وهرع الكثيرون إلى دار عبد المطلب سيد مكة، وقد استبد بهم الذعر والهلع .. فقال حرب بن أمية : ما لنا بهؤلاء الناس طاقة، ذلك هو البلاء، إنهم يملؤون السهل – قال عبد المطلب : لا تُجبّن الناس يا حرب بن أمية، لا تهنوا ولم نقارع الأحباش بعد – قال العاص بن وائل : ماذا ؟ نحارب هؤلاء الناس ؟ كيف يا عبد المطلب وليس لنا حصون نحتمى خلفها وندفعهم بالنبل ؟ قال عبد المطلب : يا معشر قريش لا تراعوا ، فلعلنا نصل مع أبرهة الأشرم إلى اتفاق .
قال العاص بن وائل : وأى اتفاق يا عبد المطلب، إنه لا يرضى بغير فناء الناس، ذهب إليه وفد من (تهامه) وعرضوا عليه نصف أموالهم وثمارهم فقال ( إنه لم يأت إلا لخراب مكة وهدم بيتها ) قال حرب بن أمية : الرأى، الرأى أن نخلى له مكة، ونخرج بأهلنا وأموالنا بعيدا عن أبرهة الأشرم وجيشه، ما تقول فى هذا يا عبد المطلب ؟
قال عبد المطلب : ما أقول شيئا ، حتى أذهب وأقابل أبرهة –
وانطلق عبد المطلب ناحية عسكر أبرهة، وأراد أن يدخل عليه، فحال الحراس دون دخوله، فراح يبحث عن طريقة تمكنه من مقابلته، فبينما هو سائر بين خيام الأحباش سمع صوتا يناديه : شيبة ، شيبة ، ويتلفت عبد المطلب يمنة ويسرى حتى أدرك مصدر الصوت ، فإذا هو – نفيل بن حبيب – أسير أبرهة ، يراه مقيدا بالأغلال وقد أعياه الجهد، قال عبد المطلب : مرحباً بك نفيل، ما الذى فعل بك هذا ؟ قال نفيل : تحرشت بهم فكان مصيرى كما ترى، ولكن ما الذى جاء بك إلى هنا ؟ قال عبد المطلب : أردت لقاء الملك . قال نفيل : انصحك ألا تفعل يا عبد المطلب، فلن يرده عن عزمه إلا الله، فلا تُعرض نفسك للهلكة ، دع هذا الأمر لرب الكعبة . قال عبد المطلب : أسدى إلى يا نفيل معروفا ودلنى على طريقة ألقى بها الملك، ودع ما سأقوله له لحينه .
قال نفيل : ما دمت مصراً فلن يتيسر لك ذلك إلا عن طريق – أُنيس – سائس الفيل الأكبر، فهو من المقربين للملك، ودائما ما يستجيب أبرهة لطلبه، قال عبد المطلب : وهل يساعدك ( أنيس ) يا نفيل إذا طالبته ؟ قال نفيل : لقد صحبته فى هذه الرحلة البغيضة، وكثيراً ما تسامرنا، وراق للرجل ما كان منى من حديث، ولا أظنه يرفض لى طلباً هو يسير عليه – قال عبد المطلب : إذنً أفعل يا نفيل .
وطلب (نفيل) من ( أنيس) الإذن بدخول عبد المطلب للقاء الملك، ودخل (أنيس) على أبرهة وقال : أيها الملك فى الخارج يقف عبد المطلب، سيد قريش وصاحب يدها، أعظم الناس شرفا، وأعلاهم مكانة، وأكرمهم نفسا .
قال أبرهة : ائذن له بالدخول وخرج ( أنيس ) بالموافقة، فاستأذن عبد المطلب بالدخول، وأذن له أبرهة، وكان أبرهة يجلس على عرش كبير، سرير بسدائل الحرير، فلما رأى عبد المطلب وكان رجلا وسيما، طويل القامة، تعلوه المهابة والرزانة لمن يراه فى الوهلة الأولى، يُشد إليه ويميل إلى توقيره وتعظيمه ففى عينيه نظرات الجد وفى حديثه ثبات القول، لذا أنزلته قريش منزلا كريما، فلما رآه أبرهة بهذه الهيئة أراد أن يجلسه بجواره على العرش لولا خوفه من انتقاد الأحباش له، فعدل عن ذلك ونزل من سرير العرش، وجلس على الأرض، وأجلس عبد المطلب إلى جانبه فى ترحاب وتبجيل، كانا وليدا اللحظة الأولى ثم قال : نعِمَ السيد أنت أيها الشيخ الجليل ، ما طلبتك ؟
قال عبد المطلب : أغارت طلائعك أمس على مشارف مكة، وساقت أمامها أموال تهامة من قريش وغيرهم – قال أبرهة : صدقت ، كان ذلك بأمر منى – قال عبد المطلب : فحاجتى أن يرد الملك عليِّ مائتى بعير ، أصابه لى فى تلك الغارة – وتغير لون وجه أبرهة بعد سماعه ما لم يتوقع سماعه من سيد هذه القرية، قال فى لهجة غاضبة : أفى هذا جئت تكلمنى !! قد أعظمتك حين رأيتك، وأجلستك فى مكان الشرف بين رجالى ، ولكنى الآن أصغر من شأنك بعد أن رأيتك تحدثنى عن مائتين من الإبل ، ولا تذكر بيتك هذا الذى جئت لأهدمه ، وهو دينك ودين آبائك ، وشرفك وشرف آبائك .
قال عبد المطلب بلهجة الواثق من نصر الله : أيها الملك ، أما الإبل فأنا ربها ، وأما البيت فإن له رب سيمنعك – قال أبرهة فى استغراب : وأنتم لِمَ لا تمنعوه منى ؟ قال عبد المطلب : رأينا أن ربنا أقدر على ذلك منا – قال أبرهة : ردوا على الرجل إبله، قد علمت أن المال قرة عيونهم – ولا يترك عبد المطلب قولا كهذا دون رد .. قال : أيها الملك إنك لا تعرف ماذا سأصنع بالمئتين من الإبل، إنما آخذها لأنحرها عند الكعبة قرباناً إلى الله تعالى .
ويخرج عبد المطلب ليحلق الإبل، ويزينها ويرسلها هدايا إلى البيت العتيق، ثم يأمر الناس أن يتفرقوا فى شعاب الجبال ورؤوسها هربا من جيش الأحباش، وإشفاقا من معرة الأسر والسبى، ولكنه قبل أن يتبع أهله ، مضى بخطى الواثق المطمئن إلى الكعبة، وأخذ بحلقة بابها ، وأنشد يقول :
اللهم إن العبد يمنــــع ... .... .... رحـــله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهــــــــم .... ..... .... ومحالهم غدوا محالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا ..... ..... .. فأمــــــــــر ما بدا لك
وفى صباح اليوم التالى، خرج أهل مكة، وجلسوا على الجبال القريبة ينظرون فى أسى وحزن، بعد أن أخليت مكة إلا من جيش الأحباش .
صف أبرهة الفيلة الثلاث وترك بقية الفيلة فى الخلف، التى وضع على رأسها الدروع، ووضع فى المقدمة الفيل الضخم الأسود، الذى يمسك برباطه السائس – أنيس – وأعطى أبرهة إشارة البدء لأنيس الذى سحب الفيل، وجعله فى مواجهة الكعبة، والكل ينظر فى ترقب وحذر، وفجأة ينسل (نفيل بن حبيب) من أسره فى غفلة من حرسه، وهو مقيد اليدين، ويتقدم مسرعا ناحية الفيل، الذى قد أُعطى لتوه أمر الهجوم، ويتعلق نفيل بأذنه ويقول هامساً : يا خلق الله ارجع راشداً من حيث جئت، فإنك فى بلد الله الحرام، ارجع راشدا فإنما ذاك بيت الله –
ويبرك الفيل مكانه ولا يقوم، ويصيح أبرهة : اضربوه بالسياط ، وامسكوا نفيلا واصرفوه عن الفيل – ويضربون الفيل ، ويقتاده (أنيس وآخرون) ولا يتحرك، فإذا وجهوا رباطه ناحية الشمال هب واقفا ثم تحرك ، وإذا وجهوه جنوبا تحرك أيضا، وإذا أعادوا وجهته ناحية الكعبة برك ثانية على الأرض ويصيح أنيس : أيها الملك، برك الفيل، لا يريد القيام ، ويصرخ فيهم أبرهة : ويحكم أيعجزكم الفيل وأنتم ساسته، انهضوه واقصدوه إلى البيت – ولكن الفيل برك مكانه لا يريم، وبركت مثله بقية الفيلة، وتتواصل المحاولات مع الفيل لدفعه ناحية الكعبة دون جدوى، وأهل مكة ينظرون من فوق الجبال لما يدور للفيل ، ويتعجبون ، وبينما هم على هذا الحال إذا بأبرهة يصيح : يا معشر الأحباش لن يعيدكم عن دفع ما عجز عنه الفيل، تقدموا إلى البيت فاهدموه، تقدموا، تقدموا وإنهم لفى ذلك، وإذا بالجو يظلم شيئا فشيئا ، وإذا بسحاب كثيف يبدو من بعيد ، من ناحية البحر، ورأى الناس سحاباً ليس كالسحاب، وغماماً لا كالغمام ،رأوا سحاباً حياً يخفق بأجنحته خفقا، وتعلو صيحات أبرهة لما رأى ما رأى : يا معشر الأحباش اجتمعوا على نظام، لا تتفرقون –
ولكن النظام كان قد انفك عقده، وملك الرعب نفوس الرجال، وهم يرون تلك الطيور الصغيرة، ولها مناقير الطير وأكف الكلاب، تحصدهم بحجارة دقاق، كانت تحملها فى مناقيرها وأرجلها، لا تمس شيئا إلا هشمته تهشيما، حجارة صغيرة، انهمرت عليهم كسيل الحمم، ما أن تمس الجسد إلا ويتساقط اللحم وكأنه الشواء، حجارة صغيرة ولكنها جمرات ملتهبة، وعلت صرخات الجيش المتناثر، وملأ الضجيج أرجاء المكان، وانطلقت الاستغاثات : النجاة ، النجاة ، هذه البلدة ممنوعة ، الغوث ، هلكت الحبشة ، هلكت الحبشة ، ولم تدم حملة الطير طويلا ، بل هى لحظات ، صبت فيها عليهم جام غضب الله، وقفلت عائدة من حيث أتى الله بها، لتترك جيش أبرهة حطاماً، قتلى منتشرون حول : الكعبة بأعداد غفيرة ، جرحى مشرفون على الموت، وإمعانا فى العذاب المهين لم يمت أبرهة لتوه، بل كان ممن شملهم الموت البطيء، ليزداد العذاب عليه أضعافاً، ففر وهو متهتك الجسد، رفعوه على جواده لا يعرف له وجهة قاطعا الصحراء باحثاً عن نجاة وأنّى له وقد سقط لحم صدره، وبان عظمه، وانسلخ جلد رأسه، يتخبط ألماً، حتى اختار له القدر مكانا يسقط فيه من جواده صريعا، بالقرب من الطائف بعد أن انفجر صدره، ليقذف بقلبه على الأرض، وينتهى طاغية أراد أن يحارب الله، فجعل الله من نهايته عبرة وسجَّل القرآن تلك الواقعة لتكون تحذيراً إلى يوم القيامة، لمن تسول له نفسه المساس بهذا البيت .. بسم الله الرحمن الرحيم ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ،أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ، تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ) صدق الله العظيم .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
# **( الحلقة/ 17) أبناء أبرهة فى دائرة الجحيم !! **
## *من كتاب الطريق الي النور للكاتب الكبير ا/ محمد مصطفي *
**اندحر جيش أبرهة حول الكعبة، وتناثرت أشلاؤه فى جزيرة العرب، وتحقق وعد الله فى حماية بيته، وزاد تعظيم البيت فى نفوس العرب .. بل وأعظمت العرب قريشاً .. وقالوا : الله قاتل عنهم، وكفاهم مؤنة عدوهم، ثم أنشدوا :**
**تنكلوا عن بطن مكة إنها ... كانت قديما لا يــرام حليبها**
**سائل أمير الجيش عـنها ... ما رأى ولسوف يبنى الجاهلون علــيها**
**ستون ألفا لم يثوبوا أرضــهم ... ولم يعش بعد الإيـاب سقيمها**
**وتحولت الواقعة إلى تقويم، يؤرخ به الناس أيام الزمان، بعد أن كانوا يؤرخون بحروب العرب القديمة، صاروا يقولون ـ قبل عام الفيل بكذا، أو بعد عام الفيل بكذا ـ وكان العهد بأول صفحات هذا التقويم وأنصعها، ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم فى هذا العام، عام الفيل، ليبزغ بذلك أول ضياء فى رحلة الطريق إلى النور .. وبدأت لعنة الله تحل على من بقى من الأحباش باليمن، فلم ينج أحباش اليمن من سخط الله، فقد ترك أبرهة خلفه ابنه ( يخسوم ) على حكم البلاد، ولا يمضى على يخسوم وقت طويل بعد سماعه النبأ ويلحق بأبيه الطاغية إلى الجحيم، إثر مرض عُضال أصابه، ويلى العرش أخوه الأصغر (مسروق ) الذى فى عهده تكون نهاية الجميع .**
**يوم ظهر فى عهد ـ مسروق ـ فتى من سلالة الملك تُبع اليمانى ملوك اليمن الأصليين، وحفيد ذى نواس صاحب محرقة الأخدود، يُدعى (سيف بن ذي يزن) أرسله الله فى تلك الفترة، ليكون قصاصه سبحانه وتعالى على يديه، القصاص الإلهى من بقايا الأحباش باليمن، أولئك الذين عثوا فى الأرض فساداً، وتجرءوا على حرمة بيت الله الحرام .. وضع ـ سيف بن ذى يزن ـ هدفاً محدداً نصب عينيه، استرجاع عرش آبائه، وكأن القدر بالمرصـاد يطـوى بـين جنباته حكمة وعـتها الإنسانيـة فى كل مراحلها ـ أن الله يُهلك الظالمين بعضهم ببعض ـ فحينما طـغى أجداد سيف، وحرَّفوا شريعة التوراة، وفعل كبيرهم ذو نواس ما فعل بالنصارى ضحايا الأخدود، أرسل الله لهم جبابرة الأرض فى زمانهم ـ الأحباش ـ ليُخلِّصوا البلاد والعباد من بطشهم، ولما تحولت مسيرة الأحباش عن نصرة المظلومين، إلى البغى والعدوان والتجرأ على الله، احتسوا الكأس نفسه، أرسل القدر لهم ما ظنوا أنه قد انتهى نسلهم، حفيد التتابعة – سيف بن ذى يزن – الذى سيؤلب البلاد عليهم .**
**جمع سيف أشراف اليمن وساداتها، بعد أن عقدوا العزم على استرداد حكم اليمن من الأحباش، وتشاوروا فيما بينهم، بغية الوصول لأنجع السبل لذلك، فمن قائل : نحمل السلاح، ونعلن التمرد فى أرجاء اليمن، فتثور الناس وتنقض خلفنا على الطاغية ـ مسروق بن أبرهة ـ لكن هذا الرأى لم يلق قبولاً لدى عقلاء القوم، لعلمهم أن المنازلة لن تكون إلا فى صالح الأحباش، الذين يفوقونهم عدداً وعدة –**
**ومن قائل : اغتيال الملك (مسروق) والانقضاض على سدة الحكم فى الوقت الذى يثور فيه الشعب على الجند، فيقع الأحباش تحت وقع الضغطين، تصفية الملك من ناحية، واشتداد التذمر من ناحية أخرى ، لكن ذوى الرأى لم يعتمدوا هذا الخيار، ذلك أن كلفته فى الأرواح عالية –**
**واقترح البعض : خروج ـ سيف بن ذى يزن ـ سليل ملوك اليمن، يستصرخ النصرة من إحدى مملكتى الدنيا ـ الفرس ، أو الروم ـ عله يجد العون من إحداهما على إخراج الأحباش من اليمن –**
**ويستقر الرأى على الاقتراح الثالث ، على أن يكون بقيه المنتفضين جاهزون وعلى أهبة الاستعداد، ريثما يصل المدد الخارجى، هكذا وصل بهم الأمر، طلب العون الخارجى لإزاحة الأحباش عن اليمن، وشرعوا فى إعداد المقاومة من الداخل، وتحرك سيف قاصدا بلاد الروم ، يعرض على قيصرها حاجته، فقد سمع عنه الكثير الذى دفعه للاستنجاد به، فالقيصر رجل متدين، لا يقر الظلم، ولا يرضى به بديلا عن العدل.**
**قطع سيف الطريق إلى أرض الروم، فإذا حط فيها، استأذن فى الدخول على القيصر وأذن له، حتى إذا وقف أمامه قال : أنا سيف بن ذى يزن سليل ملوك حمير، سادة اليمن الأقدمين، وأنا من نسل ـ تبع ـ الذى ينتهى نسبه إلى (ربيعة بن نصر) – ولم تعرف الدنيا القديمة ملكا للعرب سواه، وأراد قيصر أن يتبين أمره، فأمر بطارقته أن يأتوه بأهل الأنساب فى بلاطه، يسألون الرجل أمامه، ليستوثق من صدق ما قال، ويأتى فى حضرة القيصر، عرافو الأنساب، وتبدأ المساءلة، يسألونه عن أفرع السلالة التبعية، وعن خفايا القصور التى لا يعرفها سوى الملوك، ويجيبهم سيف بما يؤكد صدقه، بل ويخرج لهم كتابا لا يحمله سوى الملوك، ويطمئن قيصر لصدقه، ثم يشرع فى سماع الضيف : حاجتى أيها الملك استرداد ملك آبائى، فقد أغار علينا الأحباش، وسلبونا ملكنا، فهل أجد عند جلالتكم ما يعيننى على ذلك ؟**
**قال قيصر : أولستم الذين حرقتم النصارى من أهل ديننا فى الأخاديد، وجنيتم بفعلتكم الآثمة الشنعاء على أنفسكم، وأثرتم غضب الناس عليكم، فكان مصير أمركم ما تشكون منه الآن –**
**قال سيف : أيها الملك إنما هى فعلة أحد ملوك سلالتنا، وقد استنكرتها اليمن كلها، فهل تأخذ اليمن بجريرة ملك طاغية لوث اسم التتابعة حكام البلاد –**
**قال القيصر : ولكن لا حاجة لى باليمن، وهى بعيدة عنى، والأحباش الذين فيها أو خارجها، هم عمالى على الأرض، وليس بينى وبينهم من العداوة التى تدفعنى لفعل ما تريد، فهم على دين المسيح دينى .. **
**غادر ـ سيف بن ذى يزن ـ قصر الإمبراطور البيزنطى ـ قيصر روما ـ مهموما حزيناً كاسف البال، بعد هذا اللقاء الفاتر الذى لم يصب فيه شيئا، ويراه أحد الغساسنة من أهل الشام الذين يعملون فى بلاط القيصر ، وعرف فى هيئته وتقاسيم وجههه، سمة ملوك العرب الجنوبين، تقدم نحوه وراح يسأله : من أى البلاد أنت أيها السيد ؟ قال سيف : أنا سليل ملوك حمير أسياد اليمن، أُدعى ـ سيف بن ذى يزن ـ واسترسل فى سرد أسماء الآباء والأجداد التى لا تغيب عن السائل الغسانى، فالرجل تمتد جذوره لهذه البلاد التى نزح منها العرب بعد حادث ـ سيل العرم ـ قال الغسانى : فأنت من سلالة الملك تبع إذن – قال سيف : أجل – قال الغسانى : وأية حاجة كنت تريدها من القيصر – قال سيف : أردت معاونته لى لطرد الأحباش من بلادى – قال الغسانى : إن أمرك لعجيب !! تطلب من النصارى أن ينصروك على النصارى أبناء ملتهم !! قال سيف : ظننت الأمر غير ذلك، حسبت أن قيصر سينصف المظلوم أياً كانت ديانته – قال الغسانى : يا ابن الملوك، القياصرة لا يزنون الأمور هكذا، إنما هم يعتبرون أنفسهم حماة العقيدة النصرانية فى الأرض، ويعتقدون فى استدامة سلطانهم ما داموا قائمين على الدين ونصرته، ولعل القيصر رأى حرمة دينية فيما طلبته فنأى بنفسه عنها، لذا لم تلق دعوتك عنده آذاناً صاغية، ولكن والله أراك تطلب حقا سُلب منك، ولن تجدنى غير ناصح أمين، اذهب إلى ـ النعمان بن المنذر ـ فى الحيرة، لعلك سمعت به، فهو من ملوك العرب الذين ينتهى أصلهم إلى اليمن، فهم أولى الناس بك –**
**قال سيف : نعم أعرف الملك النعمان، ولكن هل للنعمان بأس لمقاتلة الأحباش ؟ الأحباش قوة لا يُستهان بها – قال الغسانى : يا ابن الملوك، الملك النعمان عامل ـ كسرى ـ وعميله على بلاد الحيرة وما حولها، وله مكانة خاصة عنده، وأحسب أنه لو أراد عونك فلن تُعجزه الحيلة، عندها سيعينه كسرى على ما يريد، ولست أرى غيره أولى بنصرتك –**
**وينصرف سيف بن ذى يزن، قاصداً بلاد الحيرة، يلقى سيدها النعمان بن المنذر، ملك الحيرة الذى ذاع صيته فى شمال الجزيرة، وكان المناذرة أحفاد ـ عمرو بن عامر ـ سيد قبائل الأزد اليمنية يعيشون على أطراف دولة الفرس، وكانوا موالين لهم خاضعين لسلطانهم –**
**دخل سيف على النعمان الذى أحسن ضيافته، عرض عليه الأمر، وخاضا فى حديث عن الآباء والأجداد، وراق للنعمان حديث سيف، ومال إلى معاونته، فقد اشتم فى الرجل رائحة الملوك، وتنبأ له خيراً، ورأى فيه ملكاً عظيم الشأن، ستلقى به الأيام فى سدة الحكم، ولو صدقت تلك النبوءة ليكونن للنعمان يد على اليمن إذا أسهم فى تحقيقها .. قال النعمان : اعلم يا سيف أن ليس لى طاقة بمقاتلة الأحباش فجيشهم كبير العدد عظيم العدة – قال سيف : رجالك على رجالى يمكننا فعل شيء مع المباغتة – قال النعمان : لا تُدار هكذا الأمور، فلا يمكننا أن نضرب الصحراء ونخوض معركة خافية النتائج، بين دفتى القدر ، علينا خوضها وهى مرئية النتائج مأمونة العواقب محسومة سلفاً ـ قال سيف : وكيف يتسنى لنا ذلك ؟**
**قال النعمان : إن لى وفادة كل عام عند كسرى، امكث معى حتى يحل أوانها، ثم ترافقنى فى خرجتى ونعرض على كسرى أمرك، لعلنا نجد النصرة عنده – قال سيف : ومتى أوان الوفادة ؟ قال النعمان : بعد ثلاثة أشهر من الآن .**
**وينزل سيف بن ذى يزن ضيفا عزيزا مكرما فى بلاد الحيرة عند النعمان، حتى إذا جاء موعد الوفادة السنوية، خرج مع النعمان فى موكبه الحاشد إلى (المدائن) عاصمة فارس، حاملا معه الهدايا الثمينة، وجباية العام من القبائل التى يخضعونها لسلطان الفرس، قطعان ضخمة من الإبل والماشية، يقودها العبيد والحرس، وفى ركن قصى من الموكب السائر هوادج تحملها الإبل، عليها أجمل ما جادت به أسواق النخاسة، من الغوانى والجوارى الحسان، التى يهبها النعمان لسيده كسرى بمناسبة العيد السنوى لتجديد عهد الولاء والقسم أمام مراذبة الإيوان الفارسى .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .**
**ملحوظة:**
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى