( الحلقة 12/13 ): كنز الكعبة داخل بئر زمزم
من كتاب الطريق الي النور للكاتب الكبير ا/ محمد مصطفي
وراحت سمراء تسترجع تلك الكلمات الغريبة، فجمعت عُقال فكرها، وصوبت تركيزها فى تلك الرؤيا العجيبة التى يروي أحداثها زوجها عبد المطلب ثم قالت : فى المرة الأولى قال ( احفر برة ) ولا تُحفر إلا الآبار ـ برة إذن بئر ـ أما طيبة فليست معروفة لدينا، لكن ما جاء بعدها فسَّرها، ذلك يا عبد المطلب أنه قال لك ( احفر زمزم ) فلعله يكون اسم ذلك البئر الذى يأمرك بحفره، وحين سألتَه يا عبد المطلب أين هو ؟ قال ( بين الفرث والدم ) أوليس ذلك منحر قريش، ذلك الذى بين الصنمين ـ إساف ونائلة ـ حيث تنحر قريش هناك ذبائحها، إذن فالبئر هناك .
فرد فرحاً عبد المطلب وسعد بزوجته التى أوقفته على معانى كلمات الرؤيا التى حيرته: آه والله يا سمراء ، ما تقولينه حقاً هو ما أراد الطائف إيصاله لي، ولكن ماذا يقصد بقرية النمل ؟ تعال إذن يا سمراء نقترب أكثر من منحر قريش بين الصنمين، وسيتبدى لنا ما خفى عنا .. ولما اقتربا من ـ إساف ونائلة ـ نظرا أسفل الصنمين، حيث آثار الذبح من الدماء وبقايا أحشاء الذبائح، ودققا النظر على ضوء القمر المكتمل ليلتها، وفجأة صاح عبد المطلب : وجدتها يا سمراء ، أترين ذلك النمل الذى يسرى فى هذا الشق أسفل الصنم إساف، إن مصدره قرية النمل الذى أوحى بى إليها الطائف .
أجابته سمراء : صدقت والله، والغراب الأعصم يا عبد المطلب لا يفارق نزوله هذه البقعة التى بها قرية النمل فقاطعها قائلا : الآن يا سمراء اكتمل لدى الأمر، وأدركت ما أراده الطائف منى، جاءنى به على ثلاث ليال متعاقبه، فأنا الآن مأمور بحفر ( بئر زمزم ) الذى طمره الجراهمة أثناء فرارهم من خزاعة، الآن يا سمراء حط فى دارى هذا الشرف العظيم دون سائر الدور فى مكة، فالناس فيها نسوا زمزم واستيأسوا أثره، واستحال عليهم العثور عليه .
قالت سمراء : والكثير منهم حتى لا يعرفه ولا يدرى بأمره شيء .
قال عبد المطلب : يا سمراء قد خصنى الله بهذا الأمر العظيم ـ قالت سمراء : ليس بعجيبٍ على رجل مثلك أن يصطفيه الله عن سائر قومه، فقد عهدتك تنفر ما يعبد القوم من الأصنام، ودائماً ما كنت أسمع منك إنكاراً لها، وتخفى فى نفسك ما ترى فى إعلانه اغضابا لقومك الذين أسلموا قيادهم للأصنام حول البيت التى كما تقول دائماً ـ إنما لا تنفع ولا تضر (1) ـ
قال عبد المطلب وقد أعجبه من زوجه هذا : اخفضى صوتك يا سمراء، فلو سمعك أحد من قومنا لقالوا إننا صبئنا، ولن يكون لنا بعدها مكان بينهم، فو الله ما بغضت شيئا فى حياتى كبغض هذه الأصنام التى نحتها الإنسان بيده ثم وضعها ليعبدها وقد ضربت فى الأرض كثيراً، أبحث عن الحقيقة حتى ذهبت فى ذات مرة إلى دير أحد الرهبان على مشارف يثرب لأعلم منه حقيقة النصرانية، فلم أجد عنده إلا غيبيات، ولكنى وجدته على أى حال رجلا صالحا يدعو إلى المحبة ومكارم الأخلاق، ولولا أنه يتكلم عن معبود من البشر مثلنا لتبعت دينه، فآثرت بعد أن طوفت كثيرا أن أبقى على ما تبقى من دين إبراهيم وإسماعيل، بإقرار وحدانية الله ، وإخلاص العبادة له بالطريقة التى أعتقد أنها صحيحة ، دعينا يا سمراء من هذا ، فأنا الآن أمام أمر من الله بحفر زمزم ، وقد أرشدتيني يا سمراء إلى مكان وجود البئر، وصار الأمر الإلهى جليا لا لبس فيه ..
قالت سمراء : وهل تتركك قريش تحرك الضمين وتحفر أسفلهما دون تعرض – قال عبد المطلب : إذا أدركوا ما هو تحت هذين الصنمين من خير عميم لهم والحجيج ما منعونى من الحفر تحتهما ، غدا أصبح وولدى الحارث ونشرع فى الحفر .
وفى الصباح خرج عبد المطلب وولده الحارث يحملان المكاتل والفؤوس، ويتجهان ناحية ـ الصنمين إساف ونائلة ـ وبدأ العزم على خلع الصنمين من الأرض وإزاحتهما جانباً ليتسنى لهما الحفر أسفلهما ، ولكن عاق تحرك الصنمين ذلك الرصاص المثبت على الأرض وقد طوقهما، حتى لا يتحركا إذا هبت الريح، فقد ثبتهما بهذا الرصاص – مضاض الجرهمى – وعاونه فى ذلك عامل من الروم كان يجيد هذه الصنعة، وأخذ عبد المطلب والحارث يحركان الصنمين ولكن دون جدوى، ويحاول عبد المطلب بطريقة أخرى فيحفر بالفأس أسفل القاعدة الرصاصية، ويعاونه الحارث فى جذب ودفع الصنمين، فبينما هما كذلك إذ جاء رجل من قريش وراعه فعل عبد المطلب : ماذا تفعل بآلهتنا يا عبد المطلب ما عهدناك مفسدا ؟
وتجمع حوله الكثيرون، لا يقل إعراضهم عن الرجل فقال لهم عبد المطلب : إذا قلت لكم يا معشر قريش إن تحت هذين الصنمين خير حفظه الله لكم وللحجيج من مئات السنين أكنتم مصدقى ؟ قال أحدهم : وهل عهدنا عليك كذبا يا عبد المطلب !! وقال : خبرونى يا معشر قريش عما تلقون من جهد لسقاية الحاج، من أين تأتون بالماء ؟ هنا رد عليه (عمرو بن مظعون ) من بنى النجار التى كانت تناوب بنى هاشم السقاية قال : ما كنت جهولاً يا عبد المطلب،الآبار التى حول مكة أوشكت على النهوف، وليت ماءها كان يروى الغلة أو يرد الظمأ . بعضهم قد أسن من انقطاع روافده، وبعضه ذابت فيه أملاح الأرض حتى لا يقربه إلا من أوشك على الموت عطشا.
قال عبد المطلب : أما والله يا بن مظعون قد أراد الله لهذا العهد أن ينصرف عنا، فإن تحت هذين الصنميين إساف ونائلة بئر ماءها زلال، لا تفرغ ولا يلحق قعرها .
تعجب ـ ابن مظعون ـ من كلام عبد المطلب، وأحس من عباراته لغة اليقين فقال : وما أدراك يا عبد المطلب ؟ قال عبد المطلب : طائف يلم بى منذ ليال، قال إنى أحفرها بأمر الله لكم وللحجيج – ولم يرق هذا الكلام لمسامع الكثيرين ممن يراقبون حوارهما فقال بعضهم : أو تصدق هذا يا عمرو – قال عمرو بن مظعون : يا معشر قريش لن نخسر شيئا لو تركناه يحفر ويهم فى البحث، فإذا وجد ما زعم أراحنا مما نقاسى، ويقاس منه الحجيج فى الموسم، وإذا لم يجد ما يزعم فما خسرنا شيئا، دعوه فإن أدرك ما يصبو إليه كان فى هذا فلاحنا وفلاح قريش كلها – قال أحدهم : كيف تعقلون هذا يا قوم، أو لو كان تحت الصنمين ـ إساف ونائلة ـ خير ، أيسكتان عنه ولا يخبرانا به، أين عقولكم ياقوم ؟ وكيف بكم إذا أصابتكم لعنة الآلهة لعبثكم بها دون أن تراعوا حرمتها !! كفوا عن هذا الـذى تزمعـون القـيام به – وبينما القـوم فى سجالهم ظهر صوت الـرأى والحـكمة – ابن خلف – صاح : يا قوم وما يضير إساف ونائلة إن حركناهما قليلا من مكانهما، وندع عبد المطلب وولده وحدهما يحفران، فإذا وجدا البئر يعاود الصنمان مكانهما بعدما ننال خير الدهر كله، وإن لم يجدا البئر ، حلت لعنة الآلهة العلوية عبد المطلب وولده وحدهما هيا يا قوم يد بيد وانقلوا إساف ونائلة.
وقطع القوم النهار كله فى تخليص الصنمين إساف ونائلة - من الرصاص الذى كان يثبتهما إلى الأرض، ثم فى تنظيف المكان من الفرث والدم حيث كان مذبح قريش بين هذين الضمين، وفى المساء دار نقاش بين بنى مخزوم وبنى عبد الدار .
قالت بنو مخزوم : أقررنا لعبد المطلب وولده بالحفر، فلو وجد الماء سيرفض أن يشاركه السقاية من البئر أحد، وتقف بنو هاشم كلها معه، وقد تقوم الحرب بيننا وبينهم – قال بنو عبد الدار : نقول ساعتها إن هذا ماء أبينا إسماعيل، وإن لنا فى البئر كما لهم، وأى حق له فى أن يكون وحده فى البئر مع أن السقايه منذ وعينا إلا فينا نحن بنو عبد الدار – وكان ( ابن مظعون ) قريبا من هذا الذى يدور، ولم يرض عن قول القوم، فجل همه أن يخرج الماء ويعم النفع الجميع، سواء أكانت السقاية لعبد المطلب بن هشام أو غيره ، قال ابن مظعون: وإن تحقق وعد الله لعبد المطلب، وغصبناه هذا الحق الذى منحه الله إياه ساعتها لن نسلم من غضب الله، وقد نُحرم هذا الماء الذى لو ظهر ليكونن فيه حياتنا جميعا – إنى ورب هذا البيت لأفضل أن يخرج ماء زمزم على يد عبد المطلب، وتنتقل السقاية إلى بنى هاشم عن أن نُحرم ماء إسماعيل من أجل أن يستأثر بنى عبد الدار منصبا فرغ مضمونه بنضوب آبار مكة.
واستقر الرأى على ذلك،ولكن ـ خلف المخزومى، وهشام بن أمية من بنى عبد شمس ـ تهامسا بغير ما استقر عليه الرأى، قال خلف لهشام : إذا وجد عبد المطلب الماء قاتلناه عليه – رد عليه هشام : إنه أب لواحد لا يقوى على حربنا جميعا، لنكتم هذا حتى نرى ما يكون فى الغد .
وفى الصباح يتوجه عبد المطلب وولده الحارث إلى الكعبة، ويبدءا ما شرعا، بالطواف حول الكعبة سبعة أشواط، ثم يحملان الفؤوس والمكاتل يقصدان مكان للحفر بين موضع إساف ونائلة، وتتهاوى ضربات الفؤوس، ويتكوم ناتج الحفر جانبا، ويشرعا فى إزالة تلك النواتج، من الرمال والحصى، وعلى مقربة منهما تقف قريش متأملة الرجل وولده، وهما منهمكان فى العمل دون توقف، وتعلو ثغر عبد المطلب بسمة وضاءة، ويحفو الأمل ولده الحارث فى العثور على أى أثر يدل على سداد الخطا، ثم يتوقف الحفر مرة ثانية لإزالة ما تراكم من التراب والحجارة حتى لا يعيقهما أثناء الحفر، وتنظر قريش لهذا الإصرار الذى يتبدى فى أعينهما، ويتهامس خلف المخزومى وهشام بن أمية : يا ابن أمية ما يمنعنا من المشاركة فى رفع ناتج الحفر مع عبد المطلب وولده، فإذا لم يجدا الماء ركبناهما بالسخرية ، وإن وجداه لم يكن فى استطاعتهما منعنا فى مشاركتهما السقاية – ويرد هشام : واللات ما أعفر لحيتى ساعة ليسعد بنى عبد مناف تحسبون هذا الرجل تارك لكم الماء إذا أنبته ، واللات كأنه مدفوع إلى الحق بقوة لا نعرف من أين يستمدها ،فوجهه مشرق ، والابتسامة لا تفارقه مع كل ضربة فأس.
ومن ليس له مأرب سوى خروج الماء قال : نِعمَ ما تصنع يا عبد الطلب بن هاشم لقومك – ومن قائل : بوركت يداك يا عبد المطلب ، بارك الله فى قريش وسادة قريش –
أوشكت شمس ذلك اليوم على المغيب، وغادر الناس صحن الكعبة إلى بيوتهم بينما عبد المطلب وولده مستمران فى الحفر بجد متواصل، وتهوى فأس عبد المطلب بقوة على الأرض، بعد أن شق فيها حفرة بعمق قامته، ويقف الحارث على سطح الحفرة يتلقى من والده ناتج الحفر ليبعده عن حلق البئر وينظر الحارث إلى أسفل البئر حيث والده يضرب قعره بالفأس ويرى ما يدهشه : يا أباتاه أرأيت الذى رأيت ؟ قال : نعم يا بنى، لعلك تقصد هذا الشرر المضيئ الذى خرج من مقطع الفأس – قال الحارث : إنها لمعت يا أبى كأنها تصطدم بشيء ما .
وبدأت الضربات تصدر أصواتا قوية لارتطامها بالصخور، ويسأل الحارث والده : ما هذه الأصوات يا أبى قال : أحسب أن الفأس أصابت رباط البئر من الأحجار التى رطم بها الجراهمة بئر زمزم حين خرجوا من مكة أذلة صاغرين، وينتاب الحارث فرحة عارمة، ويصيح بأعلى صوته : إذن فهو الماء الماء قريب يا فرحتا – الله أكبر ، الله أكبر.
سرت هذه الصيحات والتكبيرات عبر السكون الذى يخيم على المكان إلى بيوت القوم الذين غادروا مكان الحفر – فقال خلف المخزومى لهشام بن أمية : أسمعت ما سمعت يا ابن أمية ؟ قال هشام : نعم – قال خلف : هذا صوت الحارث يكبر عند الكعبة لعلهما وجدا الماء ، هيا يا ابن أمية لا ندعهما يفوزا بالماء دوننا ، هيا ونادى – ( العاص بن وائل ) حتى لا يقوى عبد المطلب على معاندة ثلاثة من أشراف مكة .
واجتمع الملأ حول مكان الحفر، وكان عبد المطلب قد أعمق الحفر حتى كان هو فى أسفل البئر، فنظروا إليه وقد أعياه الجهد فقال أحدهم : أدركت البئر يا عبد المطلب – قال له : أنا فى طريقى إليه، ألم ترون رباطه المكسور أمامكم على الأرض .. ونظروا تحت أقدامهم فوجدوا رباط البئر من الأحجار ملقاة على الأرض، ونظر بعضهم إلى بعض فى ذهول، وكأن لسان حالهم يقول : لقد أدراك عبد المطلب هدفه وإن هى إلا لحظات ويأتى الماء .
وسادت لحظات صمت ووجوم ، وإذا بعبد المطلب يصيح داخل البئر : واعجبا واعجبا، ها هما الغزالتان الذهبيتان المدفونتان وبجوارهما الكنز الذى ذكره لنا الآباء فى قصصهم حول البيت، لقد عثرت على ما دفنه (عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمى)
فتدافعت الناس حول الحفرة – وكلٌ أخذ ينظر إليه وهو يُخرج الغزالتين والكنز الذى معهما، وما أن وضع الغزالتين والكنز ومعهم حجر الركن وهدايا سائر العرب إلا وسال لعاب – العاص بن وائل – فقد عهده القوم يحب الذهب والفضة والمال فقال : تُوَزع هذه الثمائن على قبائل العرب، كلٌ على قدر حجمه وقوته، فلم يكمل حديثه حتى قاطعه خلف المخزومى وهشام بن أمية قالا : لا والله لا تُمس وتُوضع فى مكان لا يقر بها أحد.
واشتد الخلاف بينهم، وكاد أن يتحول إلى قتال، لولا تدخل عبد المطلب الذى قال لهم : يا معشر قريش إن هذا مال رب الكعبة، وليس فينا من يريد أن يغضب الله، وإلا لحق بنا غضبه وحلت علينا نقمته، أعيدوا مال الله إلى الله، أما الغزالتين فلنضربهما صفائح لباب الكعبة، وأما الذهب من الدروع والسيوف فتُوضع داخلها دليلا على تعظيم العرب كلها لهذا البيت الذى لولا وجوده فى أرضنا لما كان لنا ذكر فى الجزيرة – قال القوم : رضينا يا عبد المطلب، الكنز لله ، مال رب الكعبة للكعبة رضينا .
وباتت قريش على يقين بعد استخراج الكنز بأن عبد المطلب أصبح قاب قوسين أو أدنى من بئر زمزم، ولئن كانوا قد اتفقوا فى مسألة الكنز ونزلوا عند رأى عبد المطلب، فهم فى مسألة السقاية لن ينزلوا عند حكمه، فهم يزمعون اغتصاب أمر السقاية من يده، وهم فى ذلك إنما يتنافسون على الشرف .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين
ملحوظة: هامش (1) كانت العرب تشرك بالله فى ثلاثة ( الأصنام ، والأوثان ، والأنصاب ) – النصب : صخرة ليست على صورة إنسان - الوثن : ما كان على صورة إنسان من حجر – الصنم : ما كان على صورة إنسان من معدن أو خشب .
وأهم أصنام العرب « هبل » وكان من العقيق الأحمر على صورة إنسان وكان مكسور الذراع فأبدله القرشيون ذراعاً من ذهب وكان هبل كبير الآلهة ومقره الكعبة المكرمة ، واللات : صخرة مربعة أُقيم عليها بناء بالطائف ، والعزى : صنم يأتى فى المرتبة بعد هبل .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
# ***( الحلقة/ 13) رحلة الآلام والجراح !!***
> ***من كتاب الطريق النور للكاتب الكبير ا/ محمد مصطفي***
وترى قريشٌ بوادر الماء فى ناتج حفر الرمال المبللة التى يقذفها عبد المطلب من أسفل البئر، وبدأ التهامس وتحوَّل لأصوات تعالت، واقترب بنو مخزوم وبنو أمية وبقية بطون بنى عبد شمس حول عبد المطلب وهو داخل البئر .. قالوا : يا عبد المطلب صرنا على يقين أنك وجدت البئر، وهذه البئر لنا جميعا، فهى نجاتنا ووقاءنا مدى الدهر، فلا ينبغى أن يستأثر به أحدٌ دون بقية قريش، كلنا أبناء إسماعيل ، وكلنا لنا حق فى هذا البئر فعاهدنا بالمشاركة فيه .
ويغضب عبد المطلب أشد الغضب ويقول لهم : هذا والله ليس بإنصاف إنكم تبغون على حقى، قد أنصفتكم فى أمر الكنز والغزالتين، أما آن لكم أن تنصفونى فى حقى، لقد امتنعتم وتركتمونى وولدى للحفر عن، ولم تصدقونى فى بادئ الأمر، وخشيتم غضب الآلهة، وأقررتم بعد ذلك أن السقاية لى، وجئتم الآن وحنثتم بعهدكم، يا قوم .. لقد خصنى الله بهذا الأمر دونكم لحكمة لا يعلمها إلا هو، ودلّنى الطائف على مكان زمزم، وهذا الأمر لم يعلم به أحد قبل ذلك، فهذا والله حقى وما أترك حقا قد خصنى الله به .
قال خلف المخزومي : لا والله يا عبد المطلب، نخاصمك فى الماء، بل ونمنعك من الاستحواذ عليه دوننا، وصاح : يا معشر قريش حولوا بينه وبين الحفر .. ويخرج هشام بن أمية من صمته : إنكم بهذا تُغضبون الآلهة، فلنجعل على مكان الحفر نقباء منا، وليشترك الجميع فى البحث عن الماء، فإذا وصلنا إليه يصير لكل قبيلة من قريش نقيب على ماء الحجيج ـ ولا يتمالك عبد المطلب نفسه، وهو يرى قومه يبغون على حقه : والله لأقتلن كل من يقترب من الحفر .
ورفع الفأس عالياً وخلفه ولده الحارث يشد أزره، وتنظر الأعين إليهما فى استهزاء قائلين : ما أصاب عبد المطلب ـ وتخرج الضحكات الساخرة : وبمن تقاتل هذا الجمع كله، بابنك الوحيد،بولد واحد تقاتل الجميع .
فنهض الحارث مندفعا تجاه الساخرين ويسحبه عبد المطلب ويقول الحارث : دعنى يا أبى أقتل هذا الذى يسخر منا – قال عبد المطلب : لا يا ولدى، أخاف أن يقتلوك – ويتغير لون وجه عبد المطلب، وتتبدى قسمات الحزن عليه إثر هذه الكلمات الجارحة – فقد رأى فى عيون القوم له استصغارا، يُعيِّرونه فى حاله المنغص .. ليس له من الولد سوى الحارث فقال بصوت حزين : والله لو استجاب لى ربى ورزقنى من الأولاد عشرا لأنحرن أحدهم عند الكعبة لله .
وتعجب الناس أشد ما يكون العجب قالوا : أقسم عبد المطلب بما لو تحقق أهلك نفسه، لقد قسوت على نفسك يا عبد المطلب ـ وقال بعضهم : يا له من قسم لقد ظلمنا عبد المطلب وأوقعناه فى قسم مُهلك الوفاء به ـ وجاء رجل حكيم، ورأى تكتل الناس عليه وعلى ولده فقال : يا قوم كونوا رحماء انفضوا عن الرجل ودعوه وما منحه الله .
وانفضت قريش من حوله، وقالوا دعوه إلى الغد ولننظر فى أمره، وتوقف الحفر أياماً ويدخل فى النزاع بعض حكماء الطرفين، واستقر الرأى أخيراً على الاحتكام فيما دب من خلاف إلى كاهنة تدعى ـ أم أحرار ـ عرفتها الجزيرة كلها بالحكمة والرأى، وعُهِد عنها فض نزاع القبائل أياً كان حجمه، وكانت تعيش مع قومها (بنى سعد بن هذيل) على أطراف الشام قرب مملكة الغساسنة، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بنى أبيه من بنى عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، وطالت الرحلة، وأجهدهم الحر والريح الساخنة، وغلبهم التعب إلى جانب جبل عظيم، فضلوا طريقهم وتاهوا ، وألجأهم الدرب فى أنحاء ذلك الجبل على غير هدى إلى مفازة مهلكة .
ونفذ الماء مع عبد المطلب ومن معه من بنى هاشم ولد عبد مناف، فذهب إلى العاص بن وائل وقال له : يا ابن وائل اعطينا مما عندك من ماء، فلم يعد لدينا ماء . قال العاص بن وائل : الآن يا عبد المطلب تطلب القسمة فى الماء وفى مكة رفضتها . قال عبد المطلب : ذلك أمر يختلف كثيرا عما اختلفنا عليه فى مكة، خلافنا فى مكة عن زمزم، أما الآن فنحن فى مهلكة وبيدك إنقاذنا، وما عهدنا فى العرب أن تمنع العطاء فما بالنا بالماء، أما بئر زمزم فنازعتكم لتكون سقاية الحجيج لى وما تبقى فهو لقريش، لقد نازعتكم على العطاء لا على المنع، فقد أراد الله لى ذلك، ولكنى لا أمنع الماء من أحد .
قال العاص بن وائل : اسمع يا ابن أمية ألم يكن خلافنا هناك على الماء – قال هشام بن أمية : ما عليك يا ابن وائل، ترى قومك يموتون عطشاً وتمنعهم الماء، لا لا يا ابن وائل اسقهم – قال العاص : لا والله ، وإن هذه الساحة هى التى سترغم عبد المطلب ومن معه على النزول لنا جميعا لأمر السقاية ، ويُغضب هذا اللجاج عبد المطلب فيقول : أو لم نتخاصم فى الأمر، وأقررنا جميعا التحاكم إلى الكاهنة، فخل يا ابن العاص بيننا وبين الماء حتى تقطع فى خلافنا الكاهنة ( أم أحرار )
قال العاص : واللات لن تنال منا شربة ماء حتى تنزل لنا على السقاية أو تشركنا معك زمزم .
وتدور الحسابات برأس، هشام بن أمية، وخلف المخزومى فقالا : لا تكن عنيداً يا عبد المطلب، أقرر لنا بذلك وانجو من الموت ومن معك حتى نقفل عائدين إلى مكة وقد أنهينا الخلاف، هيا يا عبد المطلب قل انتهى الأمر إلى الجميع . قال عبد المطلب : عجبا لكم ترون أبناء عمومتكم يموتون عطشا وتساومون فى شأن هو للتحكيم أنصف لنا ، عار عليكم ما تفعلون ، تلحون علينا وتدفعوننا إلى الهلاك حتى نترك لكم ما أراده الله لى ولقومى ؟
قال العاص : يا عبد المطلب لو سقيناك وقومك لنفذ ما معنا من ماء ولن نستطيع الوصول إلى الكاهنة جميعا ، انزل عما تصر عليه ونسقيك وأهلك ، وما تبقى يكفينا مؤنة العودة إلى مكة فهى أقرب لنا من الكاهنة .
قال عبد المطلب : لا تمنوا أنفسكم بما لا يكون – وتركهم وعاد إلى قومه ، وعرض عليهم مما كان من أبناء العمومة واستشارهم : أننزل لهم على ما يريدون ، أم نصر ؟
قالوا : يا عبد المطلب أنت كبيرنا وسيدنا، ولا نخالف لك رأيا، وإن كنا جميعا سائرين إلى الموت – قال عبد المطلب : إذن فلا سبيل غير الصمود، حتى نرى مخرجا من عسرتنا، ولعل الله يهدينا إياه .
وطال صراع عبد المطلب ورجاله مع العطش ، وانتابت الوجوه قسمات اليأس ، وجزعت النفوس ، وبركت الإبل فى مكانها , واسترخى الرجال على الأرض , واشتد الحر بهم , وفعلت الريح الساخنة فعلها , تلفح الوجوه الحزينة فتزيدها كآبة .
ويرى عبد المطلب فى الوجوه تساؤلات, ويخشى أن تكون النفوس حدثتهم بورطة دفعهم إليها كبيرهم فقال : ياقوم أخشى أن يتقول أحدكم فى نفسه أننى سقتكم إلى الهلاك, ولكن والله أفضل الموت عطشا عن الإقرار بالظلم, يا قوم تفويضكم الأمر لى لهو أمانة، وأنا ماض فى صيانتها إلى النهاية، فإنى أرى بما فوضتمونى إليه أن يحفر كل رجل منكم حفرته بنفسه بما لكم الآن من قوة قليلة، فكلما مات رجل دفع به أصحابه فى حفرته وواروه الثرى، حتى يكون أخرنا رجل واحد، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة رهط جميعاً – قالوا : لا نرى غير هذا، ليحفر كل منا حفرته .
وحفروا قبورهم ، وأبناء عمومتهم من بنى عبد شمس ، وبنى عبد الدار ينظرون ثم جلسوا ينتظرون الموت عطشا .
وقبع الرجال فى الحفر فى حالة من الإعياء والهزيان، وتسلط اليأس على الوجوه وينظر عبد المطلب إليهم وهو يعتصر ألماً وحزناً، فقد حمل فوق طاقته من الأمانة حين ألزموه أرواحهم تحت رأيه، ويُحلق فى عيونهم الراضية بقضاء الله المطمئنة فى التسليم له . ويهبُ فجأة عبد المطلب واقفا فيقول بصوت عال ! :يا قوم ما هذا اليأس الذى نسلم أمرنا له، إن أمرنا لعجيب، نجلس وننتظر الموت ونقطع حبل الأمل كالعاجز ليس له حيلة، بنى عبد مناف ولنضرب فى الأرض بحثا عن الماء، نبذل ما بقى لنا من جهد فى سعى حميم متواصل، ولو اضطرنا الأمر لشق صخور الجبل – قال أحدهم : يا عبد المطلب لو خطت الإبل خطوة لسقطت هالكة – قال عبد المطلب : لا تحبط إخوانك يا عدى، فلنبتغى سبيلا قد يوصلنا إلى أى قرية لعلنا نرزق منها ماءاً ، هيا انهضوا على رواحلكم .
قاموا وهم يقولون : قوموا ولبوا ما دعاكم له عبد المطلب، وأثناء قيامهم إذا بعبد المطلب يصيح : انظروا معشر بنى عبد مناف ، انظروا ، الله أكبر ، الله أكبر ، ما كادت راحلتى تقوم حتى انفجرت من تحت بطنها عين ماء ، لقد رزقنا الله الماء هلموا يا قوم ، واستقوا واسقوا رواحلكم –
واندفع إليه قومه فى دهشة وفرحة طغت الوجوه، بعدما ردت لهم الحياة، ودب فى أجسادهم القوة والنشاط ولم يقربوا الماء بعد، وعلت صيحات التهليل والتكبير والحمد، فقطعت صمت المكان الموحش : الله أكبر ، الله أكبر، الماء ، الماء ، لقد فجر الله لعبد المطلب عينا ، استقوا أيها الناس ، اقبلوا واشربوا من ماء عبد المطلب ويهلل عبد المطلب فرحاً ، وينادى على أبناء العمومة الذين ساوموه على الماء ، وكانوا قد أشرفوا على نفاذ الماء كما هو حال بنى عبد مناف ، ناداهم عبد المطلب : يا معشر قريش ، يا ابن وائل ، يا خلف بن مخزوم ، يا هشام بن أمية ، اقبلوا ورجالكم علىَ ، واشربوا ما سقانى به الله ، تعالوا واسقوا رواحلكم .
ويقبل رهط قريش فى خجل من دعوة عبد المطلب، الذى منعوه الماء وقت العسرة، وقال كبيرهم (هشام بن أمية) وهو يرى الماء ينبط من تلك العين التى يلتف حولها عبد المطلب وقومه : يا عبد المطلب، فو الله الذى سقاك فى هذه الفلاة وأنتم على شفا حفرة من الموت، لهو الذى سقاك زمزم، زمزم لك . وقال خلف المخزومى : يا قوم ما ذهابنا إذن إلى كاهنة بنى سعد وقد قضى الله لعبد المطلب علينا . وقال العاص بن وائل : والله لا نخاصمك فى الماء أينما كان بعد اليوم يا عبد المطلب ، عد إلى بئرك وأتم لنا الحفر لن نشركك ، ولا نغصبك ، أرجع إلى سقايتك . .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
*تكملة الحلقة ( 13 ) رحلة الآلام والجراح !!***
***من كتاب الطريق الي النور للكاتب الكبير ا/ محمد مصطفي***
وعادوا جميعا إلى مكة ، وعاود عبد المطلب وولده الحارث حفر زمزم، وبدأت بشائر الماء تظهر يوماً بعد يوم ، كلما زادت البلة فى التراب كلما ازداد يقين عبد المطلب أن المسافة قد اقتربت ودنت ، وحوله نفر من قريش فى انتظار لحظة الماء ، حتى إذا ضرب الفأس فأنبطت الماء صاح عبد المطلب والفرح يغمره : زمزم ، زمزم ، زمزم الحجيج ، زمزم قريش ، زمزم العرب جميعاً ، والسقاية لبنى هاشم من بعدى إلى آخر الزمان – اندفع الناس مهللين فرحين وهم يقولون : زموا الماء ، زموا الماء حتى لا يضيع فى الرمال – ويطمئنهم عبد المطلب: يا معشر قريش ، يا معشر قريش دعوها فلن ينضب ماء زمزم أبداً قال لى الطائف ((زمزم لا تنزف أبداً ، ولا تزم ، تسقى الحجيج الأعظم ))
خرج عبد المطلب من محنته تلك، وتطلعت نفسه إلى أن يكون له العدد الكافى من الأبناء، ليعاونوه على ما شرف به ـ رئاسة السقاية ـ ولم يغب عن باله موقف قريش منه وهو يواجههم بولده الوحيد، ولم ينس معايرة البعض له حين قال : وبمن تقاتل هذا الجمع كله !! أنت وابنك الوحيد ! ، بولد واحد تقاتل الجميع !! ـ كلما تذكر أزمة زمزم ألح فى الدعاء إلى الله، وهو الذى قد نذر لئن رزقه الله عشرا من الأولاد لينحرن أحدهم عند الكعبة، قالها فى حومة غضبه لما اشتدت عليه قريش، وتلح الحاجة إلى الولد أكثر من ذى قبل، ولا يجد مناصا من الزواج بأخرى ( فسمراء ) زوجه توقف إنجابها عند الحارث .
فيتزوج عبد المطلب ( فاطمة بنت عمرو بن عائذ المخزومى) وينجب منها البنين والبنات وتقع سمراء بين أمرين أحلاهما مر، رغبة زوجها فى الولد ومشاركة أخرى لها فيه، فتنزوى فى الدار التى أقامها عبد المطلب لها وجعل على خدمتها الجوارى، ولم يتركها حبيسة الهم، إزداد قربه منها، وكثر تودده إليها ، ولربما مكث أوقاتا طويلة عندها حتى لا يشعرها بتغير طرأ على حياته بوجود الضرة، وتتعايش سمراء مع الواقع الأليم، فتعزف عن الزينة والتجمل، ولا يقنع عبد المطلب بزوجتين، الأولى اعتزلت الحياة الزوجية والثانية انهمكت فى شؤون الدار وتربية الأبناء ( فيتزوج بثالثة – هالة بنت وهيب )( وبرابعة – نتيلة )
وتمر الأيام والسنون سريعا، حتى إذا كان يوم ترى فيه قريش عبد المطلب يمشى وخلفه سبعا من الرجال وثلاثة صبية، ويسأل أحد حجاج البيت من خارج مكة، يسأل خلف المخزومى : أو ليس هذا عبد المطلب سيد بنى عبد مناف ؟ قال خلف : نعم ، هو ذاك ـ شيبة ـ الذى يطلقون عليه عبد المطلب ساقى الحجيج .. قال الأعرابى : ومن هؤلاء النفر الذين يلتفون حوله فى تبجل وتوقير ـ قال خلف ذاكم أبناءه ، لا يضع قدمه فى مكان إلا وكانوا خلفه أينما حل ، أما علمت يا رجل أنه كان يفتقد الأبناء، ولم يكن عنده سوى ( الحارث ) الذى يقف على يساره فقد استجاب الله لدعائه، وأعطاه ما تمنى ـ عشر من الذكور وزاده من الإناث ستة ـ وحان وقت الإيفاء بالنذر، فعبد المطلب أحرص الناس على الإيفاء بما نذر، هكذا عرفته مكة .
جمع عبد المطلب بنوه العشرة ( الحارث ، والزبير ، وحجل ، وضرار، والمقوم ، وأبو لهب ، وأبو طالب ، وعبد الله ، والعباس ، وحمزة ) وقال لهم: لقد نذرت لله نذراً وما أظنكم مانعونى الوفاء به، وقد علمته قريش ، وما أراكم إلا تحبون لأبيكم الوفاء ، فلسنا كغيرنا ممن يحنثون بالنذور ، فنحن سقاة البيت وحماته . قالوا : قد عرفناك وفياً للنذر وللعهد، فانظر لنا كيف نعاونك فى ذلك؟
قال عبد المطلب : إنه لأمر شاق عليِّ ، وعسير عليكم ولكن لابد منه، قد نذرت كما تعلمون إن رزقنى الله عشرا من الذكور نحرت أحدكم عند الكعبة، فلا تجعلوا سخط الله يحل بى وانزلوا لما أراه .
قالوا : وكيف نعاونك على ذلك ؟ قال : ليأخذ كل واحد منكم قدحا، ثم يكتب فيه أسمه، ثم ائتونى بهم .
فعل الأبناء ما أمرهم ثم أتوه بالقداح ( أى بالسهام ) وقد سموها، فأخذها منهم ودخل على بئر الهدايا فى جوف الكعبة، وكانت بئرا يُلقى فيها ما يُهدى للكعبة – وأمام بئر ( الصنم هُبْلَ ) صاحب القداح السبعة وهى ـ الأزلام ـ التى يتحاكمون إليها إذا أعضل أمرهم من عقل أو نسب أو عوز جاءوا إلى مكان ( هُبْلَ ) هذا صاحب القداح التى تسمى الأزلام واستقسموا بها، فما أمرتهم امتثلوا ـ وكانت تلك طقوسهم عند البيت ـ
شرع عبد المطلب فى رمى القداح التى عليها أسماء أبنائه العشرة، وكان يُحدَّث نفسه مسراً ذلك متمنيا على الله ألا يخرج قدح ( عبد الله ) أحب أبنائه إلى قلبه، وأقربهم وداً له كان يقول : لئن صُرِف عن عبد الله، فأنا بخير، وتجتمع قريش وتقف حول البيت تنظر فى دهشة نهاية الأمر بعبد المطلب وتبدأ ترتيبات الرمى والناس مشدوهون أمام هذا الموقف المهيب، الذى فيه ستسفر القداح عمن سينحر أمام الكعبة، وأطلق كاهن الأزلام إشارة البدء ، ورمى عبد المطلب قداحه العشر فإذا بها تستقر على غير ما تمنى ـ خرج قدح عبد الله ـ
وفى صمت يلف المكان بل ورعب خيم على المحتشدين يتحرك عبد المطلب نحو عبد الله الذى أمرت به الأزلام ويمسك بيده ويسلم عبد الله نفسه لأبيه فى بسمة وادعة تخفى وراءها ألم وحزن ولكن عبد الله الابن البار يسهل على أبيه الوفاء بنذره حين يبدى عدم جزع أو خوف ، وفى ثبات رهيب يسير الابن خلف أبيه الممسك بيده ويتجهان صوب المذبح ـ مذبح قريش بين الصنمين ـ إساف ونائلة ـ ويخرج عبد المطلب من جرابه الشفرة الحادة ، ولم تمهله قريش ولا إخوة عبد الله لحظة ، أمسكوا بيده التى بها الشفرة ، وانتزعوا من يده الأخرى عبد الله الذى مسلم قياده لأبيه ـ وفجأة يموج المكان بالناس وفى الخلف صرخات النساء اللائى جئن خلف زوجات عبد المطلب ، يشاركنهن الحيلولة دون ذبح الابن ، ووسط ضجيج وهرج مصدره صياح المعترضين فعل الأب هذا ويغضب عبد المطلب ويصيح فيهم : دعونى أفى بنذرى ، فو الله إنى أخاف أن تصيبنى هلكة ، دعونى يا قوم أوفى بنذرى الذى قطعت . قالوا : والله لن ندعك تذبح ولدك يا عبد المطلب ، والله لئن فعلتها وأنت من أنت فينا، لتصيرن سنة فى قريش ، يذبحون أبناءهم إذا بلغوا العشر . قال عبد المطلب : وكيف لا أفعل وقد نذرت إلى الله ذلك ؟
قال هشام بن أمية : يا عبد المطلب فلنجمع كبراء قريش، ونتشاور فيما أنت فيه عازم، عسى أن نجد لعزمك مخرجا، فيه رضاء لله ونجاة ولدك ، فو الله إنا مانعوك ولن ندعك تفعل. هذا الذى لم نسمع به أبداً .
ويستجيب عبد المطلب لدعوة قريش، بالجلوس والتشاور ، وبعد تمحيص وطول نظر استقر الرأى على الذهاب لكاهنة يثرب ـ سجاح ـ فقد عهد فيها العرب رأيا فى الأزلام التى كانوا يستقسمون بها، ووجد الكثيرون عندها الخلاص . قالوا : تذهب مع نفر منا إليها، وتسألها فى أمر ذبح ولدك عبد الله، فإن أمرتك بالذبح فافعل ذلك خارج مكة وإن أشارت عليك بغير ذلك فقد نجوت بولدك .
وسجلت قريش بهذا الموقف أسمى معانى الأخوة والتآخى بين أبناء العشيرة، وأبناء العمومة، أولئك الذين تصارعوا بالأمس على أمر السقاية، ها هم الآن يلتفون حول عبد المطلب ليحولوا بينه وبين أن يذبح ابنه أمام أعينهم ، الآن تناسوا كل شئ وصار همهم، وشاغلهم الأكبر، كيف يخرج عبد المطلب من نذره دون سخط ودون أن يذبح ابنه حتى لا تكون سنة فى قريش تُهدر فيها دماء الأبناء .
غادر عبد المطلب مكة وبصحبته أبناء العمومة ممن ارتضتهم قريش لرفقته وكانوا على رأس المتحمسين لمنعه من ذلك – قطعوا الطريق حتى وصلوا إلى حيث تقيم الكاهنة ـ سجاح ـ على أطراف يثرب، وقص عليها القوم خبر عبد المطلب الذى آثر الإنصات، فهم أدرى بحاله، وأثبت على التكلم منه فى هذا الموقف العصيب . فقالت لهم : امهلونى للغد حتى أختلى بتابعى من الجن، يفتينى فى أمر صاحبكم .
وفى الغد يعاودون الكرة أمام بيت الكاهنة، ويطول انتظارهم لها، وجالت بأطياف عبد المطلب الهواجس والأفكار، فالرجل لم يبق أمامه أمل غير هذا، فماذا لو أقرت الكاهنة ولم تجد مناصا من الذبح ؟ ويفعل الانتظار فعله معه .. وتداهمه الخواطر المخيفة، كلما سكت عنه متحدث، كيف العيش بعدما أذبح ولدى بيدى ؟ إنه الجحيم بعينه، ويستحس الرهط الذين معه ما يجول بخاطره، فيروحون عنه بشيء من الكلام الحانى، يهدئونه ويطمئنونه قائلين : لا ترع يا عبد المطلب، وكن على ثقة بأن الله الذى أنبط لك زمزم سيعفيك من نذرك، للكاهنة سجاح باع فى مثل حالتك ويمر الوقت بطيئا فى انتظار الكاهنة، وراح أصحابه يحدثونه فى أشياء بعيدة عن أمره ليصرفوه بعض الوقت عن همه، فإذا أمرتهم الكاهنة بالدخول، وجلسوا أمامها قالت أول ما قالت : كم دية الرجل فيكم إذا قُتل . قالوا : عشرة من الإبل .
قالت : تضربون الأقداح بين عشرة من الإبل وبين عبد الله، تجعلوا قدحا باسم عبد الله، وقدحا لعشرة من الإبل، قدح لعبد الله ، وقدح للإبل ، فإذا ظهر قدح الإبل، اذبحوا عشرة من الإبل، وإذا ظهر قدح عبد الله زيدوا العشرة عشرة أخرى، وتستمر الزيادة كلما ظهر قدح عبد الله، أيا كان عدد الإبل تذبح فداءاً لعبد الله ، فينجو ذبيحكم من النحر .
علت على الوجوه بسمة وضاءة، وطفقوا يعانقون عبد المطلب الذى وجد مخرجاً لمأزقه، وعادوا إلى مكة التى كانت فى انتظارهم، عادوا والبش على الوجوه، وانطلقوا إلى كاهن الأزلام أمام ـ بئر الصنم هبل ـ وفعلوا ما أشارت به سجاح الكاهنة، جعلوا قدحا باسم عبد الله، وقدحا لعشرة من الإبل، ونظر القوم إلى الكاهن وهو يعد طقوس رمى الأزلام وهم يتمنون أن تكون الخسارة المادية التى هى مصير عبد المطلب فى مقدوره، بعدما بات فى يقينهم أن عبد الله قد أفلت من الذبح، وعبد المطلب لاتهمه الخسارة المادية ، مهما كان حجمها، فكل ذلك يهون أمام تلك اللحظات العصيبة التى عاشها وهو ممسك بشفرته وولده منصاع له فى خنوع يُقطّع قلبه إرباً، كل ما عدا ذلك يهون، إلا أن يكون مصير عبد الله أحب أبنائه إليه الذبح، مهما تكن أعداد تلك الإبل ومهما تكلف من ضرر .
أعطى كاهن الأزلام إشارة البدء، ورمى عبد المطلب القدحين، فظهر قدح عبد الله فزاد قدح الإبل عشرة وعاود الرمى فظهر قدح عبد الله ثانية فزاد قدح الإبل عشرة لتكون ثلاثين، وكرر الرمى ظهر ثالثة قدح عبد الله، واستمر الأمر به فى الزيادة حتى وصل قدح الإبل مائة فى المرة العاشرة ورمى عبد المطلب، فى تلك المرة ظهر قدح الإبل .
صاح الناس فرحين مهللين : أعانك الله عليها يا سيد بنى عبد مناف، نجوت وفديت بها ولدك، يا عبد المطلب دع ولدك وانحر المائة من الإبل عند ( إساف ونائلة ) قال عبد المطلب : والله يا معشر قريش لا أفعل حتى أعاود الرمى لأتأكد أن ذلك العدد هو ما يريده ربى، فلئن عاد قدح عبد الله زدت من الإبل ما شاءت الأزلام أن تستقر عنده – قالوا : يا عبد المطلب لا تفعل فلو ظهر لك قدح عبد الله عرضت نفسك للزيادة على المائة وتكون خسارتك كبيره .
ولم ينصت عبد المطلب لنصحهم فى هذه المرة، وعاود رمى القدحين، فظهر قدح الإبل، ويكرر الأمر ثانية فيظهر له قدح الإبل، فهدأت نفسه وبات فى يقينه أن المائة من الإبل هى ما حدده الله ليفتدى ولده عبد الله – وقال عبد المطلب : يا معشر قريش الآن جاءنى من الله الأمر بذبحها، وها قد نجا ولدى عبد الله واستجاب الله لدعائى أثناء رمى قدحه وإخوته –
وذبح عبد المطلب مائة رأس من الإبل، وأطعم بها أهل مكة، وضيوف بيت الله ليكون يوم نجاة ولده يوم عيد لقريش، عبد الله الذى سيّرته المقادير الإلهية إلى حادث شبيه بما حدث لجده الأكبر سيدنا إسماعيل الذى نجا من الذبح بقربان من الله، فتكون النجاة أشبه بنجاة عبد الله الذى خرج من صلبه سيد الخلق وإمام المرسلين ورسول البشرية محمد صلى الله عليه وسلم الذى قال عن نفسه : ( أنا ابن الذبيحين ) ـ.. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تعليقات
إرسال تعليق