القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية أرض الدوم الفصل الخامس بقلم الكاتبه رحمه نبيل حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج

رواية أرض الدوم الفصل الخامس بقلم الكاتبه رحمه نبيل حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج 



رواية أرض الدوم الفصل الخامس بقلم الكاتبه رحمه نبيل حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج 


 الفصل الخامس [ ما بال القرية ومن بها ] 


صلوا على نبي الرحمة .


قبل القراءة متنسوش التفاعل على الفصل .


فصل إضافي تعويضًا عن قصر حجم فصل الخميس السابق .


قراءة ممتعة 


ـــــــــــــــــــــــــ


صوت الهواء حال ما دون سماعه لما قيل منها، كلمة خرجت في ثواني قبل أن تتلفت بسرعة حول نفسها تحاول البحث عن مكان تختفي به عن أعين والدها، والذي لن ينتظر رؤيتها هنا ليكسر لها أقدامها.


ومسلم فقط يراقبها بعدم فهم، يلاحظ علامات الخوف التي ملئت وجهها، وهي تكاد تبكي خوفًا، قبل أن ترفع له عيون ملتمعة بالدموع :


_ البارو هنا ..


وفي ثواني أدرك سبب خوفها، كانت خائفة من الرجل ولا يدرك إن كان هو نفسه من يركض خلفها أو لا، لكنه فقط أشار دون وعي صوب غرفة صغيرة مجاورة للشجرة كان يستخدمها جده سابقًا في التخزين :


_ ادخلي هنا .


رفعت عيونها له، وفي ثواني فقط مرت نظرة غريبة جعلت أوصاله ترتجف، لكنها اختفت فجأة وهي تهز رأسها وتتحرك صوب المنزل بسرعة تدعو الله ألا يكتشف والدها وجودها .


أمسكت مقبض الباب تحاول أن تفتحه وضربات قلبها تزداد ويبدو أن توترها وتعرق قبضتها كانا سببًا في عرقلة دخولها، ازداد توترها وهي تحاول دفع الباب بقوة وعيونها تحدق في مدخل ساحة المنزل، تكاد تبكي خوفًا ومسلم فقط يتابع ما يحدث بصدمة من تصرفاتها وخوفها الكبير .


تحرك صوبها بهدوء لترفع عيونها له باتساع تهمس بصوت منخفض خرج منها ضعيفًا :


_ مش بيفتح .


ولوهلة كاد يبتسم على الكلمة، أشار لها بعيونه أن تبتعد للخلف وبمجرد أن فعلت أمسك مقبض الباب حاول جذبه ولم يستطع، يبدو أن الزمن لم يترك فقط أثره على البشر .


تنهد بضيق يدفع الباب بقدمه ومن ثم فتحه بسهولة يشير لها لتدخل وهي ابتسمت تزج جسدها للداخل بكل تهور دون حتى معرفة أين هي ولماذا هنا، ولماذا حتى تثق بغريب وتتبعه فيما يقول ؟!


أما عن مسلم تنهد وهو يجذب الباب ولم يكد يتحرك ليحضر شيئًا يغلقه حتى وجد جسد البارو يهيمن على المكان، فغطى بجسده مدخل الغرفة وهو يضع يديه في جيبه بهدوء :


_ صباح الخير، حلمت بيا ولا ايه ؟!


رفع البارو عيونه لذلك الشاب أمامه، لا يبدو غرًا يمكن تهديده كجده، ولا احمقًا يمكن خداعه، وهذا ما سيصعب عمله .


_ أنا جيتلك نتكلم بعيد عن الكل وعن ضغط أهالي القرية، قولي اللي عايزه عشان نخلص كل ده .


مرر مسلم عيونه على الرجل أمامه، يفكر في عقله عن علاقته في الفتاة خلفه لتخافه بهذه الطريقة، وخمن أنها ربما تكون ابنته، لكن من الوارد أن تكون عاملة لديه كذلك .


هز رأسه يبعد تلك الأفكار عن رأسه وهو يجيب دون أن يتحرك خطوة واحدة عن الباب مخافة أن تظهر الفتاة في الداخل لهذا الرجل.


وحسنًا شعر لثواني وكأنه مراهق يخفي حبيبته في مدخل البناية عن أعين والدها، ليس وكأنه فعلها من قبل، فهو آخر امرأة لمسها كانت نورهان أو والدته في عناق بسيط .


_ أعتقد أني بلغتك امبارح أنا عايز ايه منك يا ...بارو .


تلفظ بالكلمة الأخيرة وكأنها سبة وليس لقب تسيل لأجله دماء أبناء القرية، والأخير نظر له بغضب :


_ اللي أنت طلبته ده تنساه لأنه مستحيل نسيب بيوتنا وأرضنا و...


_ أرضنا؟؟ دي أرضنا احنا، مش معنى إن بنيت أنت وأهلك حمامين وعشة على أرض جدي تبقى أرضك.


تنفس البارو بغضب ولم يتحدث أو يجب لثواني وهو يطيل النظر لمسلم الذي كان ...ضخمًا بعض الشيء، وهذا لم يكن يخيفه بقدر نظراته، فهو هنا يمتلك من الرجال أشدهم بأسًا، لكن نظرات هذا الشاب تخبرك أنه لا يخفي لك خيرًا .


_ أكيد مش هتيجي بعد السنين دي كلها تخرج عائلات وناس كتير من بيوتهم، اطفال وستات وكبار سن، كل ده هخرجهم من هنا يروحوا فين ؟؟ 


ابتسمت رايانا من الداخل بسخرية لاذعة وهي تحاول تمالك ضحكاتها، والدها الآن أقرب لرجل شريف يدافع عن قومه، لكنه في الواقع مجرد رجل يلهث خلف منصبه والذي تعلم والجميع يعلم أنه سيدهس أسفل الاقدام لو حدث وخرجوا من هنا .


لحظة هل تتمنى الخروج من هنا ؟!


بالتفكير في الأمر لحظة، فنعم هي ترغب وبشدة مغادرة هذه القرية التي كانت حدودها بمثابة سياج يخنقها .


_ يارب يخرجكم كلكم نفر نفر زي الكلاب.


طال صمت مسلم قبل أن يهز رأسه ببساطة يبتسم بسمة صغيرة :


_ عندك حق، هكون واطي أوي لو عملت كده .


ابتسم البارو يتنفس الصعداء يرى ملامح التفهم على وجه مسلم، لكن الأخير اكمل سريعًا قبل أن تجرف امواج الاخلاق هذا الرجل بعيدًا عنه :


_ اه ثواني أنا فعلا واطي، فتمام أنا عادي معنديش مشكلة مع كل الدراما اللي ذكرتها دي، دي مشكلتك أنت والناس اللي معاك اتصرفوا زي ما خليت جدي واخواته يتصرفوا زمان برضو، شوف أي مكان ملوش صاحب وخده وضع يد أو تسوّل في أي مكان.


اتسعت عيون البارو بصدمة كبيرة من كلمات مسلم الذي ابتسم له بسمة باردة يتابع ردود أفعاله، وشعر فجأة البارو بأن الهواء حوله أصبح فجأة قليل يتحدث بصوت منخفض :


_ أنت....مش ....ملكش الحق تعمل كده اساسا، أنت بتتكلم كأنك بتملك المكان ليه ؟!


_ أنا فعلًا بملكه يا بارو، الأرض اللي أنت واقف عليها وكل شبر في المكان هنا باسم عيلة المريدي، بس تعرف أنا ممكن اعملك حاجة كده عشان تعبك أنك تيجي بنفسك وتكلمني واتبعت اسلوب كويس معايا .


رفع البارو عيونه له بلهفة ليبتسم له مسلم بلطف :


_ أنا موافق تفضلوا في بيوتكم وارضنا لأجل النساء والأطفال وكبار السن زي ما قولت، بس ...


وانتظر البارو تكملة الحديث والذي أصابه كرصاصة في منتصف الصدر :


_ بالإيجار .


اتسعت عيون رايانا وهي تبتسم بصدمة مما سمعت تتحرك ببطء صوب الباب بعدما كانت مختبئة جانبًا في ركن الغرفة خوفًا من أعين والدها، اقتربت تنظر من بين فتحات الباب الشبه متحطم، تشفي صدرها برؤية والدها يقف مصدومًا عاجزًا أمام ذلك الـ ...الرجل.


كان رجلًا، شيء غريب تبصره في بلدتها، وبطلًا كبيرًا في هذه اللحظة داخل عيونها، الرجل الذي شفى صدرها وهي ترى والدها لأول مرة يقف بوضع الضعيف المغلوب على أمره العاجز عن رفع إصبع...يقف مثلما كانت تقف هي أمامه وأمام الجميع، هو بالطبع بطل .


_ أنت....بتقول ايه ؟! أنت اتجننت ؟!


_ ده عرض لفترة محدودة يا تلحقه يا انسى إني قولت حاجة وبرضو هرجع ارضي .


تنفس البارو بصعوبة شديدة وقد شعر أن الأمر يتجه لمنحدر لا قبل له لهث .


_ طب اسمع عشان أنا مش هكون بالكرم ده في المستقبل، عايز بيت جدك خده كده كده محدش هنا بيستخدمه، والأرض اللي حواليه تقدر تاخدها، وده كان اللي يملكه جدك قبل ما يسيبه ويمشي .


_ قصدك قبل ما تطفشه أنت منه .


تنفس البارو بضيق شديد من ذلك الشاب :


_ اللي عندي قولته يا تقبل بيه يا تلم شوية البلطجية اللي جايبهم وتمشي .


_ صدقني مشكلتك كلها مش هتكون في شوية البلطجية اللي أنا جايبهم لو فضلت تعاند في قضية متخصكش .


اشتعلت عيون البارو وشعر في هذه اللحظة بالغضب يملئ كافة أوردة جسده، ينظر لعيون مسلم الذي كان يتابعه ببرود شديد، ينتظر منه رحيلًا .


والرجل فقط ابتسم بسمة صغيرة يهز رأسه هزة بالكاد محسوسة، يحرك عيونه في المكان حوله قبل أن تتوقف على الغرفة التي يخفيها خلفه لتشعر رايانا في هذه اللحظة بقلبها يتوقف وهي تبتعد عن الباب بسرعة كبيرة .


والبارو فقد هُيئ له أنه أبصر ظلًا يتحرك داخل المنزل ولم يكد يتساءل عنه، ليتدخل في هذه اللحظة صوت في الخلف يصدح بجدية .


_ في إشي صاير معك مسلم؟ شو بده هالزلمة؟


رفع مسلم عيونه صوب حاتم يبتسم له بسمة صغيرة وهو يراه يقترب منه بتحفز وعيونه تدور على البارو وكأنه يستعد للأنقضاض عليه :


_ لا مفيش البارو كان ماشي اساسا دلوقتي .


تنفس البارو بصوت مرتفع وقد شعر حاتم في هذه اللحظة أن البارو سيخرج دخانًا من أذنه في أي لحظة، لكنه لم يتحدث .


بينما البارو ابتسم بسمة صغيرة لم تكن تخفي خلفها حسن نية أو سلام حتى :


_ أنا قولت اعمل باصلي يا ولاد المريدي واتكلم معاكم بالحسنى، لكن واضح إن جدك موضحش ليكم احنا مين وممكن نعمل ايه للي هيجي علينا .


_ هتعمل ايه يعني يا أخ أنت ؟! بعدين مش معنى إن جدي كان متربي وسكت ومشي بهدوء، أننا نكون زيه .


ونعم كان هذا يحيى الذي لم يكن يفوت فرصة واحدة إلا وأوضح للجميع أن لا أحد منهم نال ثانية تربية أو ذرة أدب .


وفي ثواني وجد البارو نفسه محاطًا بالخمسة يقفون أمامه بنظرات مخيفة والعداء يقفز من العيون وقد خرجوا جميعًا على صوت حاتم .


ابتلع ريقه وقد وجد أن الفرصة الأخيرة التي وضعها لهم قد استنفذوها بغباء .


عدل من وضعية سترته يشير برأسه:


_ يبقى أنتم اللي جنيتوا على نفسكم يا ولاد المريدي، اخدتم فرصة تخرجوا من المولد بشوية حمص، بس الواضح أن الغباء وراثة في العيلة دي ...


وقبل أن يضيف كلمة إضافية كان طرف ثوبه بين قبضة يحيى الذي جذبه نحوه يتحدث بصوت محذر وعيون مشتعلة :


_ لا خلي ليك شوية الحمص، أنا هاخد علبة المولد كلها، واقولك حتى شوية الحمص اللي مسلم كان هيسيبهم ليك هديهم لعيسى، وكلمة كمان هطفحك الـ...


_ يحيــــــى .


توقفت كلمات يحيى بسبب كلمات مسلم الذي نظر ببسمة واسعة خبيثة صوب البارو والذي أخفى بكل سهولة ارتجافة كادت تصيبه حينما وجد نفسها في مواجهة يحيى مباشرة.


- سيب الراجل يا يحيى، عيب، عايزة يقول الحاج حليم مرباش احفاده؟!


رفع يحيى نظره لمسلم الذي حذره بنظرة صغيرة، قبل أن يترك يحيى ثوب البارو بهدوء يعدل منه مجددًا باعتذار ضمني، يربت على كتفه بهدوء :


_ لا مؤاخذة يا حاج ما أنت برضو اللي مُهزق، ابقى احترم سنك بعد كده عشان احترمك .


اتسعت بسمة مسلم وهو ينظر صوب البارو الذي أحمر وجهه بقوة وكأنه يكبت صرخاته في هذه اللحظة يتوعد داخله برد ما حدث له ويلات .


_ بارك الله تربيتك يا يحيى، نورتنا يا بارو، اتمنى المرة الجاية لما تيجي تزورنا تبلغنا قبلها عشان نعمل الواجب معاك .


مرر البارو عيونه بين الجميع، بداية من أحمد والذي كان ما يزال نصف نائم في هذه اللحظة يحاول إدراك ما يحدث حوله، وعيسى الذي كان متحفًزًا جوار يحيى، ويحيى نفسه والذي بدا كمن ينتظر إشارة الهجوم، بينما حاتم جاور مسلم الذي قاد الهجوم تقريبًا .


ابتسم لهم البارو بسمة واسعة يهز رأسه ودون كلمة واحدة تحرك وقد اختمر اقتراح عز الدين في رأسه، كان يرفضه رغبة في حل الأمر بشكل ودي، لكن يبدو أن أبناء المريدي لم يحملوا على كفتهم نفس الرغبة، واختاروا الحرب وسيلة .


وبمجرد رحيل البارو بالكامل أطلق يحيى سبة نابية مرتفعة جعلت مسلم يرميه بنظرة مشتعلة يصرخ في وجهه :


_ يحيـــى ما تتربى شوية احنا مش لوحدنا هنا .


لم يفهم أحد ما قال مسلم في هذه اللحظة، لكن مسلم لم يهتم وهو يبتعد عن باب الغرفة الصغيرة يفتح على مصراعيه، ينظر داخله باحثًا عنها بعيونه ليجدها تقف بعيدًا عن الباب بأعين متسعة مما سمعت منذ ثواني، لأول مرة في حياتها تبصر وتسمع أحدهم يتحدث لوالدها بهذه الطريقة دون أن يخشاه، لأول مرة تشعر أن والدها كان ...بشريًا مثلها، شخصًا هناك من يعلوه قوة ...


_ اخرجي خلاص مشي .


رفعت عيونها له تنظر له نظرة تعجبها هو، كانت نظرة انبهار، و...راحة .


وفي الخارج نظر الجميع لبعضهم البعض بعدم فهم مما يحدث، يميلون برؤوسهم يحاولون النظر من خلف جسد مسلم، لكن الأخير استدار لهم بأعين حادة :


_ فيه ايه ؟!


اعتدل الجميع بسرعة، يبصرون مسلم وهو يبتعد عن الباب بهدوء وفي ثواني كانت تطل هي منه بهدوء وهي تخفض رأسها ارضًا .


وفي ثواني تطايرت الظنون وملئ الشك الأجواء وحلقت النظرات المرتابة نحو مسلم ورايانا التي كانت تقف خلفه وكأنها تحتمي به منهم .


وأحمد نطق كلمته الأولى منذ استيقظ :


_ ايه اللي بيحصل هنا ؟؟


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


خرجت بسرعة وهي تنظر لساعة يدها تحاول إدراك الوقت وقد قضته معظم اليوم في العمل داخل المقهى حتى أصبح الوقت مجهولًا لها، توقفت فجأة في طريقها حينما سمعت صوتًا يناديها في الخلف .


استدارت ببطء تبصره يقترب منها بهدوء وبسمة صغيرة وذراعه تقبع في رباط ابيض بعد حادثة الأمس على يد الغريب .


_ خلصتي شغل ولا ايه ؟!


_ جيت متأخر يا عز الدين .


ابتسم عز الدين بسمة واسعة وهو يقترب منها حتى أصبح لا يفصل بينهما سوى شعرة واحدة تقريبًا :


_ لا ما هو انا مش عايزك عشان الشغل، أنا بس كنت محتاج منك خدمة .


رفعت حاجبها بعدم فهم ليبتسم لها بسمة ملتوية بعض الشيء :


_ انهاردة عيد ميلاد مراتي وكنت حابب اشتري ليها هدية، وأنتِ عارفة اني مليش اوي في الحاجات دي، فممكن تساعديني أعمل ليها مفاجأة ؟


وحسنًا هي يومًا لم تدرك سبب دوران عز الدين حولها طوال الوقت والجميع في القرية يدرك بحبه البائس لرايانا، ورغم زواجه من اثنتين إلا أن ذلك لم يمنعه أن يحب ثالثة ويدور حول رابعة، كان الرجل مقزز .


تنهدت بصوت مرتفع :


_ ايه رأيك تتربى يا عز الدين وتفضل جنب مراتك، معتقدش هيكون فيه مفاجأة ليها أكبر من كده، قولتلك مليون مرة اللي في دماغك ناحيتي ده تمحيه.


ولم تكد تتحرك خطوة حتى أمسك يدها بقوة وهو يجذبها له محذرًا :


_ أنتِ بتتخطي حدودك يا سافا، متنسيش نفسك أنتِ مجرد راقاصة غجر .


_ ابقى قول الكلام ده لنفسك كل ما تستهويك تيجي تكلمني .


جذبت ذراعها من بين يديه وهي تتحرك بسرعة بعيدًا عنه، تشعر بالنيران تشتعل في صدرها، وقد فكرت أن تستدير وتعود لصفعه، لكنها فقط واصلت الطريق صوب المنزل وبمجرد أن دخلته اغلقته بقوة تتنفس واخيرًا الصعداء .


تحركت صوب الأريكة الخاصة بها تشغل التلفاز تحدث صوتًا صاخبًا في المكان تقتل به أصوات رأسها، ومن ثم تحركت بسرعة في المكان تخرج من الثلاجة قالب حلوى ضخم تجلس في أرضية المطبخ تضمه لها قبل أن تبدأ في تناوله بشكل غريب وكأنها تخرج كل ذرة توتر به، ويدها تتحرك على هاتفها تضغط على اسم تنتظر الرد من الجهة الأخرى .


لكن بعد دقائق طويلة ومحاولات عديدة، فشلت في الوصول للطرف الآخر، ابتلعت ما بفمها بصعوبة وهي تترك ما بيدها ارضًا متحركة بسرعة صوب المرحاض تغسل وجهها بعنف كبير، تزيح كل الالوان التي كانت تضعها عليه، تزيل القشرة التي اخفت بها ملامحها، القشرة التي تمحي خلفها كل معالم لسافا التي لا يعلمها سوى شخص واحد .


  رفعت عيونها صوب المرآة تحدق في السواد الذي يحيط عيونها، ووجها الشاحب، وشفتيها المرتجفة تهمس بصوت مرتجف :


_ الله يلعنكم كلكم .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


_ شكرًا .


كانت كلمة صغير همست بها وهي تنظر صوب مسلم تحاول تجنب النظر صوب الباقيين، تخشى أن ترى نظرة تقتلها، يكفيها نظرات قومها لتزيدها بنظرات الغرباء لها .


غبية وقد تسرعت باللجوء له وها هي تنال جزائها .


ومسلم لم يهتم لما تقول وهو يميل قليلًا يحاول معرفة ما حدث لها حين جاءته هذا الصباح مرتجفة :


_ كنتِ خايفة ليه ؟؟ 


تعجبت رايانا وهي ترفع عيونها له بعدم فهم، هل ما يزال يتذكر الحالة التي أتت بها بعد هذه المواجهة مع والدها، وما لم تعلمه أنه لم ينسى حتى أثناء حواره مع البارو ارتجافة جسدها وتحرك حدقتيها بتوتر .


_ مفيش حاجة كان ...فيه ...كلب بيجري ورايا و...فكان أول مكان ظهر في وشي هنا .


مال حاتم يهمس بصوت منخفض لأحمد وقد على الشكل وجهه :


_  ما بتبين إنها من النوع اللي بخاف من الكلاب.


ابتسم أحمد وهو يراقب مسلم الذي كان يبدو في هذه اللحظة أكثر من مجرد مهتم بالفتاة .


أما عن مسلم فابتسم بسخرية :


_ كلب ؟! 


هزت رأسها وهي تحاول الخروج من هنا وقد بدأ الجو يصبح خانقًا لها، لو ابصرها أحدهم سيرافق لقب مشعوذة لقب آخر لا تحب أن تسمعه .


رفعت عيونها صوب مسلم ولم تكد تتحدث بكلمة حتى مال مسلم فجأة صوبها لتتسع عيونها وهي تتراجع خطوة للخلف، أما أنه فابتسم بسمة صغيرة ينظر صوب يدها بنظرات ظهرت لها باردة بشكل غريب :


_ والكلب هو اللي ساب الأثر اللي على ايدك ده ؟! 


لم تفهم لثواني ما يقصد، هي فقط حركت عيونها ببطء صوب يدها تتأملها بعدم فهم، حتى أدركت ما يتحدث عنه، أثر قبضة عز الدين على يدها .


اخفت يدها بتوتر ترفع عيونها له وقد أدركت أن أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم، فتحت فمها لتصرخ في وجهها، لولا أن قاطعها وهو يستقيم بجسده مجددًا يتراجع للخلف :


_ أنتِ تقربي ايه للبارو ؟؟


رمشت لا تفهم تغييره للموضوع بهذه السرعة تحرك عيونه على من حولهم، والجميع صامت لا يفهمون ما يحدث .


هل تخبره أنها ابنته ؟؟ هل هي كذلك حقًا ؟؟


صمتت ولم تتحدث بكلمة ليعلم أنها لن تنطق بكلمة :


_ اسمك ايه ؟!


للمرة التي لا يعرف عددها يطرح نفسه السؤال، ليس فضولًا في معرفة اسمها، أو رغبة في التقرب لها عن طريق الأمر، لكنه كان يعتمد مبدأ في حياته، الاسم مفتاح الشخص، هو إن علم اسمها سيعلم كل ما يدور حولها .


أما عنها رفعت عيونها له تبتسم له بسمة صغيرة :


_ اتمنى تكون الفَروشكا عجبتك، اعتبرها عربون شكر على جدعنتك معايا .


ختمت حديثها وهي تنظر له نظرة أخيرة، ومن ثم حركت عيونها على الجميع، تتحرك من أمامهم بسرعة وخطوات شبه مهرولة وقد أزاحت قناع القوة الذي كانت ترتديه أمامه تبتلع ريقها بتوتر وتتنفس الصعداء .


بينما هو راقبها بعدم فهم يهتف بصوت منخفض :


_ فروشكا ؟؟؟


تحدث عيسى بعدم فهم وهو يفرك عيونه يطرد بقايا النعاس الذي يحاول التمسك بزمام الأمور مجددًا :


_ فريسكا ايه ؟؟ 


_ شكل الزلابية بتاعة امبارح طلعت مش زلابية .


وكانت تلك جملة أحمد وهو يخمن ما دار الحديث حوله، ليبتسم مسلم الذي تحرك وهو يشير لحاتم :


_ حاتم تعالى معايا هنتحرك لأول البلد عشان نستلم الحاجات اللي طلبتها، شركة الشحن مش هتقدر تدخل المكان هنا، وأنتم التلاتة حاولوا تنضفوا شوية في البيت لغاية ما نرجع.


رفع يحيى حاجبه باعتراض :


_ ننضف ايه ؟؟ ده جدك شخصيا لو شاف حالة البيت مش هيستنضف يندفن فيه، أنا شايف نبني بيت من الاول أحسن.


مر مسلم جواره يضرب رأسه بضيق وهو يهتف بجدية :


- اخلص بطل كلام واتنيل روق البيت عشان نفوق للي جاي .


نظر صوب أحمد يهتف بجدية :


- أحمد عينك عليهم هما الاتنين، مهتمك ارجع الاقي البيت سليم وهما عايشين .


_ صعب بس هحاول .


ربت مسلم على كتفه بجدية وبسمة مؤازرة :


_ واثق فيك يا احمد، قدها باذن الله، يلا يا حاتم .


وحاتم فقط زفر بضيق وهو يتحرك معه يتمتم بكلمات مغتاظة مما يحدث حوله، تاركًا الجميع خلفه يحدقون في رحيلهم حتى اختفوا، ومن ثم استدار لهم أحمد يبتسم بهدوء :


_ نبدأ بسم الله .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


توقفت أمام منزلها تتنهد بتعب شديد وهي تضع الهاتف بين رأسها وكتفها تخرج المفتاح من حقيبتها .


دست المفتاح في الباب وهي تتحدث بصوت خافت في الهاتف :


_ اقعد اعمل ايه يعني يا ماما ؟! كلهم مشيوا خلاص، هفضل لوحدي اعمل ايه، خليني في بيتي أحسن .


ختمت حديثها تدفع الباب بهدوء وهي تضع الحقائب التي تحملها جانبًا تلقي المفتاح على الطاولة، وهي تغلق الباب بهدوء تميل بنصف جسدها لخلع الحذاء :


_ هروق الشقة وأشوف دنيتي ولو حبيتي هاجي بليل وا.....


توقفت عن الحديث في اللحظة التي تناهى لسمعها صوت أنثوي يقترب من المكان، صوت يهتف بلغة غير مفهومة لها ..


رمشت بعدم فهم وهي ترفع عيونها لتبصر امرأة تخرج من غرفة نومها ترتدي ثوب المرحاض الخاص بها، وهي تهتف كلمات بلغة غير مفهومة لها، لكنها تألفها، تعلمها جيدًا ولا تفهمها .


اللغة الروسية التي يعمل زوجها مترجمًا لها ..


فجأة وكأن عقلها شكل لها حاجزًا أمام أذنها فلم تعد تسمع سوى اصوات مكتومة فقط تخرج من الفتاة التي تقف أمامها تردد كلمات كثيرة لا تفهمها، كلمات لا تدرك منها سوى اسمه ...اسم زوجها فقط هي ما استطاعت تمييزه .


انتفض جسدها وهي تدير رأسها في المكان والذي شعرت به لوهلة غريبًا مرعبًا لا تنتمي له، تدعو ربها أن تكون اخطأت المنزل، تبصر مكانًا باهتًا.


يومًا لم تنتمي له، لكنها فقط كانت تكابر، كانت تعاند نفسها والجميع، تعاند كي لا يلومها أحد على اختيارها الذي عارضتهم جميعًا لأجله.


أبت أن تظهر لهم فشلها فخسرت نفسها .


شعرت بالمكان يدور بها وكادت تغرق في موجة سوداء لولا أن انتشلها واخيرًا صوته الذي صدر من باب المنزل .


استدارت بسرعة وبأعين ضبابية وشفاه مرتجفة، لتبصر زوجها بأعين متسعة وهو يحمل بعض الحقائب التي تحمل اسم أحد المطاعم وحقيبة أخرى بها ....خمر ؟!


ارتفعت عصارة مرة في معدتها صوب فمها وشعرت أنها ستتقيأ في هذه اللحظة، وعادل فقط أسقط ما كان يحمل وهو يهتف باسمها بصوت مرتجف :


_ نورهان ؟؟ أنتِ جيتي امتى ؟! مش كنتِ بايتة الاسبوع ده عشان  اخوكِ راجع من السفر ؟!


هل يلومها لعودتها ؟؟


سقطت دموع نورهان وهي تشعر ببرودة تزحف لأوصالها وقد فقدت احساسها، لا تشعر بشيء ولا تفهم شيئًا، ربما كان كل ذلك حلمًا وستستيقظ منه .


أما عن عادل فكان يقف متجمدًا مكانه لا يأتي بأي حركة، يراقبها بعجز وعيونه على الفتاة التي تقف أمام غرفته، تحرك بسرعة صوب زوجته وهو يتحدث بجدية :


_ نورهان دي ...دي ... أولغا، تبقى .. المفروض كان فيه لقاء ليها بس واحنا في الطريق لبسها باظ وأنا اقترحت يعني اجيبها و.....


توقف عن الحديث وهو يبصر نورهان تبعد يده وقد بدأت دموعها تنهمر، وهي تدفعه بقوة واشمئزاز :


- لا متلمسنيش أبعد عني ... أبعد عنـــــــــي .


ابتعد عادل عنها بسرعة وهو يرفع يده مرتعبًا من صراخها :


- طب أهدى الله يكرمك ووطي صوتك هتعملي حوار على الفاضي .


رفعت نورهان عيونها له بشراسة وهي تصرخ بصوت مرتفع وجنون :


_ على الفاضي ؟؟ على الفاضي ؟! جايب نسوان البيت وتقولي على الفاضــــــي ؟!


كانت تصرخ وقد كادت تصاب بالجنون، وهو فقط يقف أمامها عاجزًا عن تهدئتها، تشير صوب الروسية التي رغم عدم فهمها لما يحدث إلا أنها خمنت بسرعة كبيرة ما جرى في المكان لتتحرك صوب ملابسها بسرعة كبيرة .


أما عن عادل فقد بدأ غضبه يعلو وهو يصرخ بها في المقابل :


_ اه على الفاضي، ايه قفشتينا في اوضة النوم ؟! ما تسكتي خليني افهمك اللي ...


وقبل إكمال حديثه انتفض بسبب الصفعة التي هبطت على وجهة من نورهان وهي تلقي أمامه كلمات جعلت الدماء تغلي داخل عروقه، باكية بانهيار وقد خرجت كلماتها بصعوبة من بين شهقاتها .


_ بقى أنا يا ابن الـ*** اقف قدام اهلي كلهم عشانك واسيب شغلي عشانك واقف قدام الدنيا كلها عشانك، وتيجي في الآخر تخوني ؟! 


كان عادل جامدًا مكانه من الصدمة، ولم يشعر أحدهم بخروج الفتاة بسرعة كبيرة .


أما عنها ظلت واقفة أمامه ترفع اصبعها أمام وجهه وهي تهتف بصوت مختنق غاضب تحاول التغلب على غصتها :


_ اقسم بربي لكون مطفاحك المر اللي شربته ليا يا عادل يا ابن أنعام، أمك ماشية تتباهى بيك قدام الكل ولا كأنك ملك، أنا هوريكم أنتم الاتنين .


ولم تكد تتحرك بعيدًا عنه حتى وجدته يجذبها من حجابها بقوة وهو يرد لها الصفعة باثنتين ويصرخ في وجهها بكلمات نابية، وهي تحاول الإفلات منه صارخة بصوت مرتفع اجتمع عليه أهل البناية كلهم ومن ضمنهم والدته والتي كانت تسكن في الشقة المجاورة وظنت في البداية أن هذا شجار عادي كما اعتادت منهم .


لكن حينما وصلت للشقة توقفت متجمدة مما أبصرته، لتتحرك صوب ولدها تصرخ برعب :


_ أنت بتعمل ايه عادل، سيبها هتموت في ايدك يا بني.


وبصعوبة استطاعت هي وبعض الرجال اخراج نورهان من يده، وقد بدأ بعض الرجال يكيلون له اللكمات وارتفعت حدة الأجواء، وسحبت النساء نورهان من المكان .


ونورهان فقط أخذت حقيبتها تدفع الجميع بعيدًا عنها وهي تركض خارج المكان بأكمله، تبكي في الطرقات تحاول أن تعيد حجابها مثلما كان ويدها ترتجف، تفكر في المكان الذي ستذهب له، ترتجف من فكرة مواجهة أهلها بهذا المظهر، تقسم أن والدها قد يقتل عادل ويضيع المتبقي من حياته، ووالدتها ستنهار .


ارتجفت وهي تسير في الطرقات باكية بمظهر رث غريب جذب انتباه الجميع .


تشعر بالعجز والحيرة، وقد شعرت جميع الطرق مغلقة فجأة أمام عيونها، والغضب ينبض بعروقها، وكم وجدت لو عادت وأخرجت قلبه بين يديها .


تنفست بصعوبة وهي تخرج بسرعة هاتفها تحرك أصابعها عليه بيد مرتجفة وهي تتصل بأول من خطر على رأسها:


_ الو يا جدو ...تعرف تبعت ليا عنوان بيتك القديم ؟؟


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كان يسير بهدوء في المكان وهو ينظر لهاتفه الذي كان يقود الطريق صوب بداية الطريق حيث ينتظره عامل التوصيل .

 


لكن كلما مر بأحدهم توقف لينظر لهم بأعين فضولية، والبعض بكره، ومسلم فقط ينظر للهاتف دون اهتمام، بينما حاتم يحاول فهم ما يدور العقول حوله .


_ شكله أهل هالقرية مش راحبين فينا يا مسلم .


رفع مسلم عيونه يحركها على الجميع حوله قبل أن يبتسم لهم بسمة واسعة وهو يعيد عيونه مجددًا للهاتف :


_ كون متأكد من كده .


هز حاتم رأسه وهو ينظر حوله بفضول شديد للمكان والجميع قبل أن تضيق عيونه وهو يحدق في جهة معينة يردد بشرود :


_ مش هيّ نفس البنت اللي كانت معك قبل شوي؟ 


رفع مسلم عيونه بعدم فهم لحاتم قبل أن يشير له الأخير بعيونه صوب جهة، حرك عيونه بهدوء حتى استقرت عليها، نفسها الفتاة، الفتاة التي تخرج له بكل مكان تقريبًا، تتحرك بخطوات سريعة بعيدًا عن تجمع بعض النساء بعد ما يبدو أنه كان مشاداة مع امرأة أخرى.


هز رأسه وهو يكمل طريقه بهدوء لولا أن انتبه لزيادة سرعة خطواتها وكأنها تهرب من شيء، لم يفهم ما يحدث، ولم يهتم كثيرًا فهو منذ أبصرها وهي تهرب من شيء .


لكن وقبل إكمال طريقه سمع احاديث مترامية جوار أذنه بكلمات غريبة لم يلتقط منها سوى القليل ليردد بعدم فهم .


_ الله لا يسامحك على كل خراب كنتِ سبب فيه .


توقفت أقدام رايانا فجأة وهي تستدير صوب المرأة ترميها بنظرة غاضبة مصدومة من دعوتها : 


_ على حد علمي أنك أنتِ اللي خربتي بيتك بنفسك، ايه دخلني في خيانة جوزك ليكِ ؟؟ 


اشتعل غضب المرأة وقد بدأ البعض يجتمع على الأصوات المرتفعة، والجميع يتهامس حولهما حتى شعرت المرأة بحقيقة أسرارها تتعرى على مرأى ومسمع الجميع، لذا تحدثت بأول ما خطر في رأسها بقهر :


_ مش بعيد تكوني أنتِ اللي ساحرة لينا عشان يسيبني.


_ وانا يوم ما اسحر لراجل هيكون جوزك ؟؟ 


ختمت رايانا حديثها وقد اكتفت مما يحدث ولم ترد أن تطيل الحديث، يكفيها هذا القدر اليوم، تركض قبل أن تلاحقها همسات أكثر، وقد شعرت فجأة باختناق، تشعر بغصة تقف في حلقها، مهما ظنت أنها لا تهتم إلا أنها كانت تفعل .


ولم تكد تتحرك حتى سمعت صرخة المرأة:


_ كلنا هنا عارفين أنك شيطان ومش بتطيقي حد يكون سعيد، والله اعلم كنتِ سبب في خراب كام بيت في القرية .


لكن كانت رايانا قد تحركت بالفعل ولم تهتم بالتوقف للرد، وقد علمتها سنوات العيش بين اهالي قريتها، أن البعض يكفيه التجاهل ردًا .


البعض لا يلقيك بالكلمات السامة لأنه يكرهك، بل يفعل ذلك رغبة في رؤية أحدهم يحيا حياة اسوء من خاصته .


أما عن مسلم فلم يشعر أنه توقف يتابع ما يحدث إلا حينما ردد حاتم بعدم فهم : 


_ شيطان ؟؟ 


كانت الكلمة وقعها قوي على مسلم، سبق وسمع البعض يدعوه بنفس الكلمة مرات قليلة ربما، لكن أن يطلق أحدهم الكلمة على فتاة مثل تلك الفتاة كان مريبًا .


نظر صوب حاتم والذي استمع لنفس الأحاديث المترامية ليهز الأخير كتفه بعدم فهم .


ومسلم فقط توقف ينظر لرايانا التي كانت تسرع الخطى بعيدًا عن الجميع وكأن جني يطاردها .


وكاد يرحل يحاول ابعاد الفتاة الغريبة عن رأسه، لولا أن تجمد في أرضه وهو يرى طفل صغير يميل ارضًا ويحمل صخرة يتلاعب بها قليلًا وكأنه يختبر حدته، ثم وجه نظره صوب جهة معينة يتحضر لقذفها، والعجب أن الهدف لم يكن سوى ....فورشكا .


كانت رايانا تتحرك بعيدًا عن كلمات النساء التي سأمت من كثرة ما سمعتها، تتجنب التوقف والشجار كالعادة.


لكن وفي منتصف طريقها وقعت عيونها عليه مجددًا .


نظرت له بشرود وقد شعرت لثواني أنها تتخيله، شردت به دون شعور ولم تستفق سوى على صرخته وهو يركض صوبها بسرعة كبيرة وكلمة واحدة هي ما خرجت منه قبل أن تشعر بيده تقبض على ذراعها واضعًا إياها خلف ظهره .


_ إيــــــــاك .


انتفض جسدها كما انتفض الطفل الذي كان يحمل الصخرة، وهو ينظر له برعب، كان مسلم مقارنة بحجم طفل، ضخم مرعب .


ألقى الصغير الصخرة ارضًا باكيًا بصوت مرتفع مهرولًا صوب والدته التي ضمته بخوف شديد :


_ فيه ايه أنت بتزعق كده ليه للولد ؟؟


فتح مسلم عيونه بصدمة وهو يصرخ في المرأة دون وعي :


_ أنتِ كمان بتسألي ؟! ده كان ماسك طوبة " صخرة " قد راسه وعايز يرميها بيها .


وجاءه اغرب رد قد يسمع يومًا :


_ وأنت خايف اوي كده ليه عليها، هي جات على ابني يعني ؟؟ بعدين ده عيل صغير .


شعر مسلم بالجنون من رد المرأة ولم يسمع شيء بعد ردها وهو يبصرها تسحب الطفل ترمق الفتاة خلفه بحذر، تبتعد بابنها بسرعة من أمامه وقد تركت جملتها صدى غريب في الأجواء .


لكن ما كادت تتم خطوتها بالثانية حتى وجد حجارة تتطاير من خلفه لظهر المرأة، ابتعد بسرعة عن مرمى الهدف لتلك الفتاة وهو يراها تحدق في ظهر المرأة بشر تصرخ بنبرة حادة :


_ لا، مجاتش عليه، ولا جات عليا كمان .


ولم تكد تميل لتحمل الحجارة الثانية حتى ألقى هو نفسه أمامها يرفع ذراعيه في الهواء بحركة لا يدرك سببها، لكنه فعلها ربما شفقة بالمرأة التي شحب وجهها وهي تحمل طفلها وتركض تقرأ المعوذتين وكأنها تواجه ساحرًا .


أما عن رايانا فقط ألقت الحجارة ارضًا ونفضت يدها بهدوء، قبل أن ترفع عيونها له تنظر له نظرة بريئة لم تكن تليق بها في هذه اللحظات أبدًا .


_ هو ايه اللي بيحصل هنا ؟؟ هو أنتم بتمشوا تضربوا بعض بالطوب هنا عادي !! 


ورايانا فقط كانت تنظر له بلا كلمة وهو فقط يقف أمامها يهمس بجنون وقد كاد يفقد عقله :


_ أنتِ مش بتردي ليه ؟! 


وكل ما خرج منها في هذه اللحظة كان كلمة صغيرة وبسمة صادقة لاول مرة تخرج منها مرتجفة، تهمس بصوت خافت وعيون ملتمعة :


_ شكرًا ليك .


ومن بعد هذه الكلمات اختفت من أمامه بسرعة وهي تحث الخطى بعيدًا عنه وكأنه هو من كان يحمل الصخرة ليلقيها بها، وهو فقط ما يزال واقفًا يراقب هروبها منه بتعجب شديد وعقل يعمل محللًا ما يحدث حوله .


هذه الفتاة وهذه القرية وكل ما يدور حوله يصيبونه بالحيرة .


فجأة وأثناء رحيلها استدارت رايانا تنظر له نظرة متوارية لتكتشف أنه يحدق بظهرها، فابعدت عيونها بسرعة تهرول صوب منزل سافا تبتعد به عن أعين الجميع .


ومسلم فقط يراقبها بصمت وتفكير ..


_ رح تضل تطلع بالبنت لباقي اليوم؟ يلا نتحرّك يا مسلم.


استدار له مسلم ينظر له ثواني قبل أن يتحرك معه بهدوء دون كلمة واحدة أو تعليق، فقط رفع هاتفه يدفن وجهه به ليبتعد عن أسئلة حاتم التي تدور في عيونه، وإن كان هرب من أسئلة حاتم فلم يكن ليهرب من تعليقاته .


_ضل يحكيلنا ما نتعامل مع نسوان هالقرية، وأول ما داس برجله فيها صار مسحور بالبنت! 


استدار له مسلم بغضب :


_ حاتم .


_ ايش ؟؟ كذبت أنا ؟؟ 


_ اخلص وعدي يوم .


_ ايه بنمرره لعيونك .


ابتسم مسلم له بسمة صغيرة وهو يجذبه بمزاح خشن يشكر ربه أن منحه رفيقًا لرحلته، وأن الرفيق كان حاتم، فيا حظ من نال حاتم رفيقًا ...


ـــــــــــــــــــــ


_ أنت يا بني مش هتتمزج انهاردة غير لما اكسر عضمك ؟! مش قولتلك متجيش على سكتي يابا؟! 


نفخ أحمد بغضب شديد وهو يستدير للخلف صوب البهو حيث ترك يحيى للتنظيف وقد وكّل عيسى تنظيف الطابق العلوي، فقط كي يفصلهما عن بعضهما، لكن يبدو أن شياطين الأخوين لن تهدأ ولو كان بينهما بعد المشرق والمغرب .


ألقى ما بيده وهو يتحرك صوب الخارج يزفر بحنق :


_ خير يا استاذ يحيى، ايه اللي حصل المرة دي ؟؟


أشار يحيى صوب الغبار الذي هبط له من الاعلى بالخطأ ولوث جزء كان قد نظفه :


_ مش كل ما اخلص حتة يبوظها، والله اطلع ارميه من فوق.


تحدث عيسى من الاعلى بصوت مرتفع وهو يستند على السور بضيق :


_ ما قولت معلش ايه هنفضل نعيد كل شوية ؟!


ألقى يحيى المكنسة التي كانت بيده وهو يركض صوب الطابق العلوي لولا يد أحمد الذي منعه بسرعة :


_ ولو طلعتلك دلوقتي هطفحك معلش دي، هعمل بيها ايه معلش دي يا خويا ؟؟ هنضف بيها البيت ؟؟ انزل نضف اللي بوظته لأحسن اقسم بالله لأطلـ...


كتم أحمد فمه بقوة وهو يصرخ :


_ ولا ما تتربى شوية أنت محدش قادر ليك ؟! ماشي تشوط في اللي قدامك، لسانك ده عايز يتقص، مش عارف تكمل جملة من غير شتيمة لا عامل حساب الكبير ولا عامل حساب حد .


نظر له يحيى بعدما هدأ قليلًا يفكر في حديث أحمد يتحدث بجدية :


_ مين الكبير ؟! 


رفع أحمد حاجبه بضيق شديد، قبل أن يخرج من جيبه بعض الجنيهات يدسها داخل جيب يحيى، والأخير نظر للأموال بكبرياء :


_ أنا سكوتي اغلى من الفلوس اللي حطتها في جيبي دي على فكرة، مش اقل من ٥٠٠ جنيه .


_ دي مش عشان سكوتك يا حبيبي، ده عشان تروح تشتري لينا أي مسحوق غسيل ننضف بيه الأرضية .


رفع يحيى حاجبه بسخرية أكبر:


_ والله ؟؟ أنت ليه محسسني أننا بنضف شاليه الإسكندرية وهخرج اشتري لينا اللي عايزة من المحل على الناصية ؟؟ أنت واعي احنا فين ؟؟ أنا لو خرجت للناس اللي برة دي اقولهم عايز مسحوق غسيل ممكن مرجعش ليكم تاني .


ابتسم له احمد بسمة واسعة :


_ بالظبط .


اشتد غضب يحيى وهو يدفع أحمد للخلف بحدة وقد نظر للأعلى صوب عيسى يشير على رقبته بحركة الذبح، بينما عيسى تراجع بريبة من ملامح يحيى المجنونة .


ويحيى تحرك خارج المنزل وهو يتمتم بكلمات غاضبة حانقة يتوعد أن يشمل الجميع في انتقامه، الجامعة، مسؤولي الجامعة، أحمد، عيسى، جده، والكابتن مدحت شلبي الذي لم يستقبل مداخلة هاتفية له سابقًا كي يُسب جميع لاعبي فريقه بعد الخسارة، كله سيُحاسب .


زفر يتحرك بين طرقات المكان يبحث عن أي محل قد يساعده في شراء منظفات أرضيات، يخرج الأموال التي دسها أحمد في جيبه يبتسم بسخرية، ومن ثم اكمل سيره .


وبالطبع لم يكن بحاجة للتحدث عن كم النظرات التي وجهها له الجميع من حوله في هذه اللحظة، وكأنه شيطان يتحرك بينهم .


لكن لو كان يحيى تحديدًا يهتم بالنظرات التي يواجهها البعض له، لكان الآن فتى صالح مستقيم، لكنه لا يفعل باختصار .


توقف أمام محل كبير جعله يتعجب وجوده في مثل هذه القرية وهو فقط كان يفكر أنهم يعيشوا في القرن السابق، دخل محل ضخم أشبه بمول تجاري مصغر.


أخذ يسير في كل مكان يبحث عما يريد يلتقط بعض اكياس المقرمشات يتناولها بهدوء وهو يدور بعيونه على الارفف المتناثرة في كل مكان، حتى وصل أخيرًا لمبتغاه، نفض كفه من بقايا المقرمشات وهو يجذب أول عبوة وقعت عيونه عليها ..


وبالفعل سحبها، لكن ما لم ينتبه له أنه في اللحظة التي سحب بها العبوة سقطت أخرى كانت تجاورها على الجانب الآخر، وهو لم يكن ليهتم بكل ذلك لولا سماعه صرخة مرتفعة وصلت له من الطرف الآخر.


نظر يحيى حوله بريبة وهو يضم عبوة المسحوق تحت ذراعه بينما ما يزال كيس المقرمشات يقبع بين يديه يتناول منه القليل، حتى وصل للطرف الأخر، يبصر امرأة تقف وهي تمسك رأسها بوجع وجوارها تقبع عبوة مسحوق أخرى ساقطة ...هو اسقطها .


ابتسم بسمة صغيرة وهو يراها ترفع عيونها له .


_ لا مؤاخذة يا مودمزيل .


وهكذا فقط انتهى من اعتذاره وهو يستدير بكل هدوء ليرحل ويدفع ثمن ما اشترى، لولا شعوره فجأة بشيء صلب يصطدم بظهره، توقف فجأة وقد اشتعل غضبه في ثواني، يستدير ببرود صوب الفتاة التي نهضت تنفض ثوبها تحمل ما اشترت وهي تمر من جواره بسخرية :


_ لامؤاخذة يا قليل الذوق. 


كانت كلمات قليلة فقط قبل أن تختفي من أمامه تاركة إياه يتابعها بغضب شديد، ويقسم بالله لولا أنها فتاة لكان حطم رأسها.


تحرك صوب الاستقبال ليدفع المبلغ المستحق وهو ما يزال يتناول المقرمشات بغضب شديد، ليجدها تقف أمامه مباشرة في الصف .


تنهد بصوت مرتفع وهو يتجاوزها وكأنها غير موجودة بمجرد أن حان دورها يضع عبوة المسحوق على الطاولة أمام الرجل :


_ بكام ؟؟


رمقته الفتاة بغضب شديد وهي تهمس كلمات كثيرة لم يفهم منها شيء لكنه يمكنه القسم أنها كانت تسبه الآن.


بينما الرجل الذي كان يقف أمام ماكينة الأموال نظر له بشك :


_ أنت شكلك غريب، أنت من اولاد المريدي ؟! 


_ على حسب هتعملي خصم ولا بتسأل عشان تقل ادبك ؟؟ 


التوى فم الرجل يسحب عبوة المسحوق جانبًا يهتف بصوت حاد :


- وكمان عندك الجرأة تيجي وتدخل محلاتنا وتشتري منها ؟!


_ وقاحة .


وكانت تلك الكلمة خارجة من فم الفتاة خلفه ليستدير لها بسخرية :


_ ايه هتغنوا وتردوا على بعض ؟؟ خلصني وقولي بكام البتاع ده خليني امشي ؟؟ 


_ قولت ليك بضاعتي متحرمة عليكم .


_ ليه كانت مرات ابويا ؟؟ 


اتسعت عيون الرجل بينما الفتاة في الخلف كبتت ضحكتها بصعوبة وهي تهمس بضيق مصطنع :


_ خلصنا يا عم رجب خد منه الفلوس وخليه يمشي، ده شغل متدخلش فيه أي حاجة تانية.


امتص يحيى شفتيه بتأثر :


- ما شاء الله فيه ناس فيكم بتفكر اهو، اسمع الكلام يا عم رجب business is business اسمع مني أنا خريج تجارة وكنت بقفل المادة دي.


نظر له الرجل بعدم فهم، لكنه تجاوز عن الأمر يسحب العبوة وهو يزفر بضيق :


- لأجل خاطرك بس يا كارا .


تناول يحيى بعض المقرمشات وهو يدور بعيونه على " كارا"، يردد بنبرة منخفضة متساءلة بجدية :


_ اسمك ده ولا ماركة عربية ؟؟


رفعت عيونها له ترمقه بشر، ليبتسم وهو يخرج بعض الأموال من جيب بنطاله، يضعها على الكاشير وهو ما يزال ينظر لها مرددًا بصوت بارد متكبر:


- خلي الباقي عشانك يا عم رجب .


_ اخلي ايه؟! الفلوس يا دوبك مع تمن كيس التسالي اللي اخدته.


ويحيى أخذ العبوة ببساطة يتناول آخر رقاقات المقرمشات وهو يتحرك ببساطة :


_ خلاص خليها عليك أنت المرة دي يا عم رجب، أنا خلاص بقيت زبون عندك، سلام .


ومن ثم خرج ببساطة من المكان بعدما ألقى نظرة أخيرة على كارا التي ظلت تنظر له بعدم فهم وهو فقط ابتسم لها ببساطة يغمز لها غمزة صغيرة قبل أن تبعد عيونها عنه بخجل كبير، وغضب،  وهي تنظر ارضًا بتوتر .


وهو غادر ضحكاته تتبعه، تاركة أثر في نفس كارا التي ظلت مكانها تنظر لاثره بشرود وعدم فهم لهذا الشخص المريب، كان بالأمس حينما واجهوا البارو مرعبين، والآن كان ....غريبًا .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


يقف على جانب البحيرة ينتظر أن يبصر سيارة الشحن، يستنشق دخان سيجارته بكل نهم، وعيونه معلقة بالبحيرة شاردًا، جسده كان في المكان مع حاتم يدّعي صبرًا، بينما روحه كانت هناك .


محيط هادر وظلام دامس ومياه باردة، وصرخات مرتفعة، وملايين الدعوات ..


مسلم ذلك الشاب الذي يأس الحياة وقرر السير بطريق الغربة ليصل لما يريد على أمل العودة بأموال طائلة لعائلته، تنقل بتأشيرة سياحية لإحدى دول أمريكا اللاتينية وهناك انضم لشبكة تهريب للولايات المتحدة الأمريكية، شبكة تهريب كان من المفترض أن تكون برًا لكن في النهاية استقروا لارسال الجميع بحرًا لتقليل المخاطر ..


واتضح فيما بعد أن تقليل المخاطر كان على المنظمة وليس عليهم، لكنهم لم يدركوا ذلك إلا حينما وجدوا أنفسهم يصارعون الموت، كلٌ يتشبث بمن يجاوره وهو لا يعلم حتى اسمه، لكنه كان قشة يتمسك بها .


الكثير والكثير من الرجال بدأوا يتساقطون على طول الطريق، وهو فقط يسبح ويسبح لأجل حياته، حتى أبصر في طريقه فتاة لا يتذكر حتى جنسيتها، كل ما يتذكره أنها كانت صغيرة بالكاد أتمت الثامنة عشر، تحاول النجاة من بين الأمواج وقد بدا أنها لا تجيد العوم، أخذت تصرخ بكلمات لا يفهمها .


اقترب بسرعة وهو يرى الجميع قد ابتعد بالفعل لينجو بنفسه وهي ما تزال تتمسك بالمركب الشبه غارقة باكية تصرخ بأحدهم أن ينقذها .


عاد لها بسرعة وهو يصرخ بها أن تعطيه يدها، يصرخ بالإنجليزية على أمل أن تكون تفهمه .


والفتاة فقط تصرخ وتبكي بكلمات كثيرة لا يعلمها، اقترب أكثر يجذب يدها :


- فقط تمسكي بي، تمسكي بي، هيا تعالي، اتركي المركب هو يغرق.


والفتاة فقط استمرت في الصراخ بكلمات تمنى لو علمها، أمسك يدها بالقوة وهو يجبرها على التمسك به، لكنها قاومت متمسكة بالمركب باكية، المياه تزداد برودة وهو يشعر بالعجز والجميع يبتعدون .


وفي لحظة يأس رحل وتركها حينما شعر بتجمد أطرافه وبداية انهياره، لكنه وبمجرد أن سبح بعيدًا عنها أتت في رأسه صورة لنورهان وهي تتمسك به باكية يوم كادت تغرق في البحر تصرخ في وجهه :


" مش هنزل بحر تاني، ومش هروح معاكم بحر تاني، كنت هموت وأنتم محدش أخد باله، محدش فيكم شدني من الموجة، أنا لو مرمية في نص البحر معاكم يبقى الله يرحمني "


توقف عن السباحة وقد شعر بالاختناق وهو يتخيل أن نورهان هي من تتمسك بذلك المركب وحدها في ظلام البحر وبرودة المياه، ليرتجف بعنف وهو يعود لها بسرعة يجذبها بعيدًا عن المركب صارخًا بجنون في وجهها :


_ اتركيه أيتها المجنونة، سيغرق بكِ، تمسككِ به الآن هلاك وليس نجاة .


والفتاة يبدو أنها قد دخلت في نوبة فزع وهي تضربه وتصرخ صرخات مرتفعة تتمسك أكثر بالمركب، وهو يأس منها ليضرب يدها بقوة حتى شعر أنه كسر ذراعها، يجذبها معه بسرعة بعيدًا عن المركب، وهي تبكي وتصرخ، وهو فقط يسبح وقد أصبحت أطرافه متجمد لدرجة أنه لا يشعر بها، وهي تزيد من حمله .


كل ثانية يتساقط أحدهم ويستسلم، وهو لولا أنه كان يحمل الفتاة فوق اكتافه الآن لفقد الأمل واستسلم منذ فترة طويلة، وهنا أدرك أنه لم يكن هو سبيل نجاته، بل كانت هي وسيلة استمراره .


وبعد ساعات كانت اطول ساعات حياته، بكى وكاد يتوقف ويستسلم، وصل واخيرًا للشاطئ، وصل يتحسس يابسة أسفل أنامله التي كانت قد انكمشت من كثرة بقاءه في المياه، وصل واخيرًا .


وصل مع جثتها ......


_ مسلم، الطرد الخاص فيك وصل .


وكانت جملة حاتم في هذه اللحظة طوق نجاة أخرجه من أفكاره التي ابتلعته، ينظر ليده التي كانت قد احترقت تقريبًا من السيجارة، يتنهد بصوت مرتفع يلقي بقاياها ارضًا .


_ طب خلينا نعدي الجسر نستلمه ونرجع بسرعة قبل ما يخلصوا على بعض .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كانت تجلس وهي تستمع لحكايات صديقتها عن ذلك الغريب الشجاع الذي فعل ما لم يفعله والدها يومًا لاجلها، كانت المسكينة ممتنة لأقل العطايا التي يقدمها لها الآخرون، سعيدة ومبتهجة لا تصدق ما حدث معها .


_ وقف للولد وأمه وصرخ فيهم عشاني، عشان الولد ميأذنيش يا سافا، تفتكري لو كان موجودة وأنا صغيرة كان ممكن يحميني برضو ؟!


ابتسمت سافا بسمة صغيرة لأجلها، وقد كانت نبرة حديثها متحمسة وبشدة، ضمت رايانا يديها لصدرها بسعادة مما حدث لها :


_ كان لازم تشوفيه وهو بيكلم البارو وبيسكته والبارو منطقش بكلمة واحدة قدامه، كان ....كان ....


صمتت وكأنها عجزت عن إيجاد وصف لما كان عليه ذلك الغريب الذي لا تدري له اسم حتى .


لكن يبدو أن سافا كانت تعلم جيدًا ما كان عليه هذا الشخص : 


_ كان راجل .


نظرت له رايانا بعدم فهم وبراءة، ورغم كل الأقاويل التي تتناثر في القرية عليها، ورغم كل أفعالها التي لا تخرج إلا من شيطان كما يقولون، كانت رايانا أشد النساء براءة في هذا المكان، ربما لهذا كانوا يكرهون اختلافها عنهم 


_ أيوة ..كان راجل .


صمتت تبتسم بسمة صغيرة وهي تتذكر تصديه لوالدها وهو يقف أمام الباب الخاص بالغرفة الصغيرة فقط كي لا يسمح له برؤيتها، مساعدته أمام الطفل ووالدته .


كان الرجل يدفع _ دون علمه _ مشاعر كثيرة لصدرها .


تنهدت سافا بصوت مرتفع :


_ تفتكري ممكن ياخدوا أرضنا بجد يا رايانا ؟!


_ بس دي أرضهم يا سافا .


رفعت سافا حاجبها باعتراض لتوضح لها رايانا الأمر:


_ جدي حكى ليا كل شيء، هي دي فعلا أرضهم، و...


صمتت بخجل من فكرة أن جدها هو من كان صاحب فكرة أخذ الأرض لهم واستقرارهم، بالطبع لم يكن المخطط هو الاستيلاء عليها دون وجه حق، لكن هذا ما آلت له الأمور في النهاية .


_ يعني لو اخدوا الأرض هتكوني سعيدة ؟!


نهضت رايانا وهي تتجهز للرحيل :


_ ده حلمي، اتحرر من الأرض دي يا سافا، اتحرر من القرية واهلها والحياة دي كلها، فأنا من قلبي بتمنى ليهم التوفيق في اللي بيعملوه.


ختمت حديثها تخفي ملامح وجهها وهي تبتسم لصديقتها بحب :


- ممكن أنا وأنتِ في يوم نتحرر من كل اللي حوالينا يا سافا، تخيلي نخرج من الجحيم ده ونعيش ؟!


ابتسمت سافا بسمة صغيرة لم تكن متفائلة بقدرها، لكنها فقط ابتسمت تودع رفيقتها مع وعد بلقاء قريب .


بينما رايانا تحركت في القرية بسرعة وقد فاتها الغروب قبل العودة لمنزلها، إذ يبدو أن الحديث مع صديقتها قد شغلها عن الإحساس بالوقت .


وصلت واخيرًا بعد مسيرة للمنزل تتسحب على أطراف اصابعها، صوب الشجرة التي تؤدي لغرفتها، لكن قبل الصعود تحركت بفضول صوب النافذة كالعادة التي امتلكتها منذ طفولتها، تتلصص على والدها بفضول .


لكن لم تجد أحدهم في الغرفة لتدرك أن لا اجتماعات اليوم .


لم تهتم وهي تتحرك لتصعد الشجرة، وبالفعل بمجرد أن صعدت عليها وقبل التحرك لغرفتها أبصرت من الاعلى الكثير من رجال والدها يتجمعون على جانب المنزل ملتحفين بأغطية وجه غريبة .


رمشت بتفكير وهي تطيل النظر بهم والفضول يكاد يقتلها، حسنًا كانت لتفترض حسن النية وأن هذا الاجتماع ليس لسوء، لو لم يكن عز الدين يترأسهم .


ظلت جالسة وهي تتابع ما يحدث منتظرة أن تصل للب الموضوع، والذي اتضح في الثانية التي اقترب منهم رجلان يحملان العديد من العبوات البلاستيكية، مالت برأسها لا تفهم ما يحدث، لكن ضربات قلبها ازدادت بقوة .


وفي ثانية اتضح لها ما يخطط له عز الدين حينما نطق الأخير بما جعل عيونها تتسع بصدمة كبيرة :


_ عايز الصبح يطلع عليهم وهما رمــــــاد .....


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


انتهى الخمسة من ترتيب المنزل وقد استغرق مسلم ساعات في تعديل كهرباء المنزل وتركيب مصابيح جديدة ونظام مراقبة حول المنزل، وقد احضر الكثير من الأغراض لتأمين المنزل وإخوته .


واخيرًا تنفس الخمسة الصعداء وهو يسقطون تباعًا على الأريكة التي كانت تقبع في بهو المنزل يتنفسون بتعب شديد .


وعيسى يهمس بارهاق شديد :


_ أنا جعان أوي .


هز يحيى رأسه يوافقه بصوت منخفض :


_ اصبر دلوقتي مسلم يقوم يشوّح لينا كام لمبة ويقلي لينا كام كاميرا من اللي بعت يشتريهم مخصوص.


كان مسلم في هذه اللحظة قد خلع ثوبه يلقي به جانبًا يبحث في الحقيبة الخاصة به عن ثوب نظيف :


_ بدل ما أنت قاعد تنكت كده ممكن تدخل المطبخ تعملنا أي حاجة نأكلها .


_ مطبخ ايه يا حبيبي، هو أنت قاعد فين؟؟ البيت فاضي مفيش فيه اي أكل، وبدل ما تطلب لينا أكل رايح تجيب أجهزة كهربائية، أنت بتجهز عروسة ؟!


استدار له مسلم وهو ينفض ثوبه بقوة بغية إخفاء الانكماش الذي نتج عن وضعه بطريقة عشوائية في الحقيبة :


_ يا عم هخرج والله اشتري ليكم أكل، اصبر بس خليني اشوف حاجة ينفع ألبسها.


_ محدش هيرضى يبيع ليك حاجة يا مسلم .


كانت تلك كلمات أحمد، ليصحح له يحيى :


_ روح لعم رجب قوله بس أنك تبعي .


رفع له مسلم عيونه بعدم فهم :


_ مين عم رجب ؟!


_ راجل بخيل عنده هايبر ماركت في نص البلد كده، هتلاقي عنده حاجات كتير هات اسهل حاجة تتعمل وتعالى .


هز مسلم رأسه، وقد اهتدى واخيرًا لثوب علوي من اللون الاسود بأكمام طويلة، بينما عيسى يتابعه باهتمام شديد :


- لو عايز اعمل عضلات زي بتاعتك دي اعمل ايه ؟!


نظر له يحيى بسخرية شديدة وهو يرتشف بعض المياه التي حصل عليها من الصنبور رغم شكه أنها مياه مسمومة، لكنه لم يكن يمتلك خيارًا .


_ الحل الوحيد عشان تعمل عضلات زي مسلم، أنك تبلع مسلم شخصيًا يا عيسى .


نظر له عيسى بضيق وهو يصرخ في وجهه :


_ وأنت مالك أنت ؟؟ أنا بكلم اخويا .


_ وأنا يعني كنت جوز خالتك ؟! ما أنا برضو اخوك الكبير و....


تلاشت باقي الكلمات عن أذن مسلم الذي ابتعد عنهم صوب المنزل يحرك رأسه بيأس، تغير العالم بأكمله خلال العشر سنوات، لكن عيسى ويحيى مايزالان كما هما .


فتح الباب يسمع صوت حاتم يلحق به بسرعة، نظر للخلف وهو يرفع طرف اكمامه، وبمجرد أن استدار ليتحرك أبصر شيئًا جعل عيونه تتسع بعدم فهم .


تحرك خارج المنزل بخطوات مرتابة، قبل أن يزيد من خطواته، في اللحظة التي سمع بها الجميع صوت باكٍ يرن في المكان .


ركض مسلم بسرعة كبيرة مرتعبًا من هيئة الفتاة التي ابصرها تعبر ساحة المنزل الأمامية باكية مبعثرة الهيئة ومجروحة، اتسعت عيونه وهو يتلقاها بين ذراعيه بفزع، وصوت مصدوم صدح خلفه برعب : 


_ نورهـــــــــان ؟؟؟؟


 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


تركنا الماضي والماضي أبى تركنا ....


دمتم سالمين .

رحمة نبيل .



بداية الرواية من هنا



لاتلهكم القراءه عن الصلاه وذكر الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم 



جميع الروايات كامله من هنا 👇 ❤️ 👇 



روايات كامله وحصريه



اعلموا متابعه لصفحتي عليها الروايات الجديده كامله بدون روابط ولينكات من هنا 👇 ❤️ 👇 



روايات كامله وحديثه



❤️🌺💙🌹❤️🌺💙🌹❤️🌺💙🌹❤️🌺💙🌹❤️🌺💙🌹❤️🌺




تعليقات

التنقل السريع
    close