القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية جاريه في ثياب ملكيه الفصل الثاني والعشرون والثالث والعشرون بقلم نرمين نحمد الله حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج

 رواية جاريه في ثياب ملكيه الفصل الثاني والعشرون والثالث والعشرون بقلم نرمين نحمد الله حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج 



رواية جاريه في ثياب ملكيه الفصل الثاني والعشرون والثالث والعشرون بقلم نرمين نحمد الله حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج 


_سآتي معك!!

هتفت بها آسيا بقوة أمام جسار الذي هتف بدوره:

_لا...لن أخاطر بظهوركِ الآن...دعيني أرَ  نيتهم أولاً...

تشبثت بذراعه وهي تهتف بنفس النبرة القوية المستحدثة عليها:

_بل سأواجه مصيري معك...ألم تعدني أن تروض ضعفي حتي أنطلق كفرس جامحة...؟!!! لا تخف عليّ يا جسار...الكريستالة لم تعد هشة كالسابق...سأتقبل نتيجة قراري وليكن ما يكون...


عقد حاجبيه بقلق يمتزج بالتردد..

هو لا يريد أن تواجههم الآن...

يخاف عليها فورة غضبهم الأولي...

لكنها محقة...

هي تحتاج لهذه المواجهة...

تحتاج لأن تتخلص من ضعفها وخوفها....

تحتاج لاسترداد حقوقها وهويتها ...

بل ...وحياتها كلها!!!


لهذا أشاح بوجهه في ضيق ...

لكنها ربتت علي كتفه وهي تقول برقة لا تخلو من حزم:

_لا تتردد يا جسار...أحضر فقط قسيمة الزواج ودعنا نواجه الموقف معاً!!!


نظر إليها نظرة طويلة حملت لها كل مشاعره في هذه اللحظة...

فمنحته ابتسامة مطمئنة وهي تعيد التربيت علي كتفه...

ضمها إليه بقوة للحظات...

ثم تشبث بكفها حتي هبطا الدرج نحو صالة المنزل ...

حيث كان هناك عمه كساب مع حمزة وياسين ...

وجوارهم كان هناك ضابط شرطة يرمق العم كساب بنظرات متحفزة...

تحاشت آسيا النظر إلي ياسين وحمزة...

واكتفت بإطراقها الصامت تتمالك به بعض قوتها...

بينما تقدم جسار بقوة ممسكاً كفها ....

ومتجاهلاً حمزة وياسين بدوره حتي وصل إلي الضابط فقال بثبات:

_أنا جسار القاصم...ما الأمر يا سيدي؟!! 

تبادل حمزة وياسين نظرات غاضبة عندما طالعهما مظهره المسيطر وهو يأتيهم ممسكاً بكف آسيا...

وكأنه يعلن ملكيته لها...

هنا لم يتمالك ياسين -الهادئ بطبعه -نفسه ليجد نفسه يندفع بحدة جاذباً آسيا من ذراعها ...

وهو يقول لجسار بعنف:

_دعها أيها الحقير...لو كان لك ثأرٌ فكن رجلاً وخذه من رجل مثلك...لكن لا تستقوِ علي امرأة!!!


شهقت آسيا رغماً عنها وجسدها يرتجف تلقائياً...

لم ترَ ياسين من قبل غاضباً هكذا...

فكزّ جسار علي أسنانه وهو يجذبها برفق ليخفيها خلف ظهره رامقاً ياسين بنظرة زاجرة...

وقد أنبأه رد فعله عمّن يكون حتي قبل أن يفصح عن هويته...

لا ريب أنه عاشق الطفولة الذي تخلي عنها كما حكت له يوماً...!!!!


أخذ نفساً عميقاً ثم عاود الالتفات نحو الضابط قائلاً ببرود مشتعل:

_لا أدري عن أي ثأر يتحدث هذا...آسيا النجدي زوجتي علي سنة الله ورسوله...


اتسعت عينا ياسين بصدمة بالغة وهو ينظر لآسيا بذهول...

لكنها أغمضت عينيها بقوة للحظة ثم تجاهلته تماماً وهي تتقدم خطوة لتقول للضابط بثبات:

_نعم يا سيدي...أنا زوجته ومعنا قسيمة الزواج...


عقد الضابط حاجبيه بتفحص وهو يدقق النظر في وثيقة الزواج الرسمية التي أعطاها له جسار...

ثم قال بعد لحظات:

_هكذا يكون الأمر عائلياً بحتاً ولا داعي لتدخل الشرطة....


ثم التفت نحو ياسين قائلاً باحترام:

_سأنتظركما مع القوة الأمنية بالخارج ريثما تنهون التفاهم الذي أتعشم أن يكون هادئاً....


أومأ ياسين برأسه بلا وعي وهو لايزال غارقاً في صدمته حتي غادرهم الضابط...

ثم التفت نحو آسيا يسألها بدهشة تمتزج باللوم:

_تزوجتِه يا آسيا؟!!! كيف ولماذا؟!!!

اشتعل صدر جسار بالغيرة التي لم يعد ينكرها وهو يقول بصرامة قاسية:

_لا شأن لك بها...فليكن كلامك معي أنا...

رمقه ياسين بنظرة مشتعلة وهو يهتف بحدة:

_ماذا فعلتَ  لها كي تجبرها علي هذه الزيجة؟!!! 

كاد جسار يرد عليه بحدة مشابهة لولا أن وقفت آسيا بينهما لتلتفت نحو جسار بنظرة استئذان صامتة...

تلقاها هو بضيق صامتاً للحظات ....

ثم أشاح بوجهه في شبه رضا...!!!!

فتمالكت نفسها لتلتفت نحو ياسين قائلة بقوة غريبة علي طبعها الذي كان يعرفه:

_جسار لم يجبرني علي شئ...أنا تزوجته بإرادتي...وأعتقد أنها فرصة مناسبة لتخطي العداوة بين العائلتين وإغلاق قصة الثأر هذه للأبد....أنا اخترتُ طريقي بنفسي وسأكمله للنهاية...

نظر إليها ياسين بذهول...

هذه ليست آسيا !!!!

آسيا التي كبرت معه منذ الصغر وكبر معها شعورٌ كان يظنه حباً...

والآن ....لم يعد!!!!

آسيا التي يعرفها لم تكن لتتحداه هكذا علانية وسط الجميع...


هذه هي ملامحها التي يحفظها عن ظهر قلب...

لكن هذا ليس كلامها...

ولا هذه طبيعتها...

هذه امرأة لم تعد كآسيا!!!!!!


بينما كان حمزة أكثر تماسكاً وتمالكاً لغضبه حيث تقدم من جسار ليقول بنبرة أكثر هدوءاً:

_أريد أن أفهم كيف تم هذا الزواج يا سيد جسار؟!!!ولماذا تعمدتما إخفاء الأمر وتلفيق تلك القصة عن انتحار آسيا؟!!!

رمقه جسار بنظرة طويلة متفحصة...

لقد علمته الحياة كيف يزن الرجال بموازينهم...

وهذا الرجل يبدو عاقلاً ومحل ثقة...

لهذا سأله بنبرته القوية المسيطرة:

_أخبرني من أنت أولاً؟!!

واجهه حمزة بنظرات لا تقل عنه قوة مع احتفاظه بنبرته الهادئة:

_أنا حمزة النجدي...أكبر أحفاد قاسم النجدي...وهذا يعني أن حسابك القديم كان معي أنا...ليس هذا فحسب...لكن حسابك الجديد كذلك...لأن آسيا كانت في حكم خطيبتي...لهذا أوكل إليّ جدي التصرف في الأمر كاملاً كما أرتئيه....

عقد جسار حاجبيه بتفحص  يحاول استقراء ما يخفيه حمزة خلف كلماته...

وكذلك فعل حمزة الذي كان يشعر أن جسار القاصم لغز كبير...

وليس مجرد رجل منغلق التفكير علي قضية الثأر القديم...

لأنه لو كان الأمر كذلك لما تزوج آسيا رسمياً حتي لو كان قد أغواها...

بل إنه يبدو الآن بتشبثه بها وإخفائه لها خلف ظهره وكأنه يحميها منهم وليس العكس!!!

لهذا لم يتعجب عندما قال جسار أخيراً بنبرة قاطعة:

_لن أتحدث عن ماضٍ فات ولن يفيد في شئ...آسيا الآن زوجتي ولن تغادر هذه المزرعة أبداً...القانون الآن في صفي...لكن لو أردتم اللجوء للقوة فهي لا تنقصني.... لو كنت تعلم شيئاً عن جسار القاصم لفهمت أن الأمر منتهٍ تماماً...

ثم تشبث بكف آسيا أكثر ليردف بنبرة أكثر صرامة:

_خاصة أن آسيا توافقني علي قراري..


كز ياسين علي أسنانه وهو يشعر بالغضب...

لا...لم تكن غيرة علي محبوبة الصبا...

بل شعور بالعجز أمام هذا العملاق الذي يتحدث بكل قوة وسيطرة...

وكأن الأمور كلها بيده...

لكن الحقيقة أنها حقاً كذلك...!!!!!

كل الخيوط صارت بين أصابع جسار القاصم...

الثأر القديم...والفضيحة الجديدة المغلفة بوثيقة زواج!!!

ويبدو أن آسيا-للعجب-تؤيده فيما يفعله...

أم تراها مجبورة؟!!!

جعله هذا الخاطر يتصدي لجسار هاتفاً بصرامة:

_أريد التحدث مع آسيا وحدها...


اعتصر جسار كف آسيا في يده رغماً عنه وهو يكز علي أسنانه ...

هذه هي المرة الأولي التي يتملكه فيها وحش الغيرة بهذه الصورة...

لو لم يتمالك نفسه بقوة الآن فستكون النتيجة كارثية...

لهذا خرج صوته مشتعلاً بنبراتٍ حادة وهو يقول ببطء ضاغطاً علي حروفه:

_ومن أنت كي أسمح لك بالحديث مع زوجتي وحدكما؟!!!

اشتعل غضب ياسين أكثر وهو يهتف بحدة غريبة علي طبعه الهادئ:

_من أنا؟!!!! أنت الذي تمنعني عنها وتسألني من أنا؟!!!


اندفع حمزة يقف بينهما وهو يربت علي كتف ياسين مهدئاً...

هل هذا هو ياسين الهادئ العاقل الذي اختار صحبته؟!!!

حمداً لله إذن أنه لم يصطحب حذيفة أو عمار...

كانت لتصير بحور دم هنا؟!!!!!


دمعت عينا آسيا رغماً عنها وهي تشعر بالضعف يتسلل إليها...

فالتصقت بجسار أكثر ترمقه بنظرة غريبة...

مزجت كل عاطفتها نحوه برجاء حار...

وقد كان لنظرتها هذه مفعول السحر...

وكأنها كانت برداً وسلاماً علي نيران غضبه كلها...

الآن فقط لا يمكنه إنكار شعوره نحوها...

هذه الغيرة التي كادت تكوي ضلوعه بقسوة...

والتي نسفتها هي بنظرتها هذه...

وهذا الإحساس القوي الذي يتملكه الآن برغبته في حملها بعيداً عن هنا...

ليعيدها لغرفته حيث لا أحد سواه يراها ...

ولا أحد غيره يملك سلطاناً عليها!!!

مع زخّاتٍ أخري من مشاعر تتخلل كل هذا...

تحضّه الآن لاحتضانها برفق...

للتربيت علي رأسها حتي يهدأ كل هذا الخوف الذي يسكن عينيها...

لتقبيل رأسها بكل فخر...

فخر أبٍ يري ابنته تتجاوز محنتها بكل قوة...

لترفع رأسه كما ينبغي...

لقد نجحت فرسه التي طالما أرّقه ضعفها أخيراً...

عبرت حواجز الخوف والتردد والضعف...

وآن الأوان أن تنطلق حرة جامحة بلا قيود...

نعم...الكريستالة صارت تعرف جيداً قيمتها ...

بعدما تغلبت علي عقدة هشاشتها العتيقة!!!!


لهذا ابتسم لها في حنان يمتزج بالفخر وهو يضغط كفها في راحته...

عندما التفت إليه حمزة ليقول بحزم رفيق:

_أنا الذي أريد التحدث مع آسيا وحدنا...أعتقد أن هذا من حقي...فأنت الذي اعتديتَ علي خطبتي لها ...وأريد أن أطمئن أنها ليست مجبورة علي البقاء هنا...


عقد جسار حاجبيه بغضب وهو يهم بالاعتراض...

لكن عمه ربت علي كتفه بإشارة موحية...

ثم قال لآسيا برفق:

_اذهبي مع ابن عمكِ لهذه الغرفة يا ابنتي...


تشبث جسار بكف آسيا يمنعها وهو يرمق عمه بنظرة مستنكرة...

لكن العم كساب أردف بلهجة قوية:

_الباب سيبقي مفتوحاً ونحن سنبقي هنا نراقبكما من بعيد...

عقد حمزة حاجبيه بضيق وهو يقول باستنكار:

_ما الذي تظنني سأفعله بها ؟!! هل نسيت أنها ابنة عمي؟!!!

هز كساب رأسه وهو يقول بشبه اعتذار:

_أنا أعرف أنك لن تؤذيها يا بني...لو كنتم تريدون ذلك لما حضرتم مع قوة الشرطة...لكنني أقول هذا لأجل جسار...هو شديد القلق علي زوجته ويحق له هذا...

نقل حمزة بصره بين جسار وآسيا بتفحص...

آسيا تبدو شديدة التعلق بجسار حقاً...

إنها تكاد تلتصق به وكأنها تحتمي به -هو -منهما!!!!

وهذا غريب...

فحتي لو كان هو -حمزة- بعيداً عن نفسها بحكم غربته الطويلة...

ياسين ليس كذلك!!!

ما فهمه أنها كانت تحب ياسين حد الجنون...

فكيف تبدل حالها هكذا فجأة ليكون ارتباطها بجسار هذا أقوي من حبها لياسين؟!!!!


لابد أن يفهم من آسيا نفسها كل شئ...

هي الوحيدة الآن التي سترجح أحد كفتيّ الميزان...

إما أن تنتهي العداوة بين العائلتين وتغلق دفاتر الثأر هذه للأبد...

وإما أن تكون ناراً تتأجج من جديد لتأكل في طريقها الأخضر واليابس...!!!!


لهذا تصدي لجسار بقوة تليق بحفيد قاسم النجدي...

ليقول له بلهجة محايدة:

_حسناً يا جسار...سأتحدث مع آسيا وحدنا...في المكان الذي تقترحه أنت....

===================================================================

رن الجرس في منزل رياض فقام ليفتح الباب بترقب...

شهق بدهشة لم تلبث أن تحولت لفرح شديد وهو يهتف بحرارة:

_زياد !!! حمداً لله علي سلامتك يا بني...!!!

احتضنه زياد بقوة ثم هتف بجزع :

_كيف حال أمي الآن؟!!! لقد حجزتُ علي أول طائرة عندما علمتُ بمرضها!!!


اتسعت عينا رياض في إدراك وقد فطن لحيلة صفية في إعادة زياد إلي هنا في هذا التوقيت بالذات...

لعله يدرك فرصته بالزواج من مارية...

بعد عرض حمزة النجدي لخطبتها...

والحقيقة أنه هو الآخر يتمني هذا لولا أن قلبه يخبره أن مارية قد حسمت قرارها بهذا الشأن...

وأن اعتراضها السابق علي طلب حمزة النجدي أمامه...

لم يكن سوي عتاب رقيق تبعه استسلام لعرضه...

كما أحس هو من رد فعلها بعد هذا!!!

قطع زياد أفكاره وهو يلقي حقيبته جانباً ليهتف بلهفة منادياً:

_أين أمي؟!!! أمي!!!

اندفعت صفية نحوه من المطبخ لتضمه بحرارة هاتفة بسعادة واضحة:

_حبيب قلبي يا زياد...لم تخيب ظني في قيمتي لديك!!!

ابتعد عنها قليلاً ليتفحص وجهها قائلاً بقلق:

_ماذا بكِ يا أمي؟!! لقد كدتُ أجنّ قلقاً!!!


رمقها رياض بنظرة عاتبة أطرقت هي علي إثرها برأسها إلي الأرض...

ثم توجه نحو زياد ليربت علي كتفه قائلاً بهدوء:

_لا تقلق يا بني...كلنا بخير...اذهب أنت واسترح في غرفتك...


عاد زياد يرمق صفية بقلق...

فضمته إليها من جديد لتقول بحنان:

_استمع لوالدك يا بني...اذهب واسترح...وعندما تستيقظ سيكون لنا حديث طويل!!!

=================================================================

وقفت رقية في شرفة غرفتها ممسكة بهاتفها في ترقب...

قلبها يكاد يتوقف قلقاً علي ياسين وهي لا تدري عواقب هذه الزيارة الرهيبة...

لقد هاتفها الضابط الذي اصطحبه -بتوصية من أحد أصدقاء والدها -منذ قليل...

وأخبرها بأمر زواج آسيا من جسار القاصم...

ولعل هذا ما هدّأ توترها نوعاً...

لكنها لا تزال قلقةً بشأن تبعات هذا الأمر...

كيف سيكون رد فعل قاسم النجدي عندما يعلم عن هذا؟!!!

وهل سيكون هذا الزواج نهاية للعداوة بين العائلتين؟!!!

أم أنه سيزيدها أكثر؟!!!


وكيف ستكون مشاعر ياسين عندما يري آسيا من جديد؟!!!

آسيا حبيبة طفولته وصباه...

والتي كبر حبها معه وتضافر مع سنوات عمره!!!


هل سيتحرك سطح حبهما الراكد عندما تعانق عيناه ملامحها ثانية...

أم أن حبه -المزعوم-لها سيصمد أمام هذا التحدي؟!!!!

وما هو شعوره الآن وهو معها؟!!!

هل تمزقه أنياب الغيرة وهو يراها قد تزوجت غيره؟!!!

أم أنه علي العكس يشعر بالارتياح لأنه تخلص من تأنيب ضميره بشأنها؟!!!!

هل يندم لأنه لم يكن قوياً بما يكفي ليتصدي لجده منذ البداية ويطالب بحقه في حبيبته؟!!!

أم أنه الآن أدرك أن ما بينهما لم يكن حباً حقيقياً كما كان يقول لها؟!!!


وضعت كفها علي جبينها وهي تشعر بقلقها يكاد يخنقها...

فتهاوت جالسةً علي كرسيها وهي تعاود النظر إلي هاتفها بترقب هامسة :

_لا تخيب ظني فيك يا ياسين...


===============

جلس حمزة علي أحد الكراسي جوار آسيا بينما وقف جسار قابضاً كفيه بغضب جامد  يراقبهما من بعيد...

أومأت له آسيا برأسها في إشارة مطمئنة لكنه بقي علي حاله من التوتر والقلق...

وفي مكانها التفتت آسيا نحو حمزة تقول بتماسك:

_حمداً لله علي سلامتك يا حمزة...

رمقها حمزة بنظرة عاتبة وهو يقول بهدوء لائم:

_كنت أتمني أن أعود في ظروف أفضل من هذه...لا أن أرجع لأجد كارثة في انتظاري...

رفعت رأسها بكبرياء لتقول بقوة حقيقية لا تدعيها:

_الكارثة بدأها جدي منذ زمن ....عندما قرر مصيرنا نحن بنات سعد النجدي كما الجواري...أنا أعترف أنني أخطأتُ بالهرب...ولولا شهامة جسار ربما كنتُ نلتُ مصيراً أسوأ من الموت...لكن ما دفعني للهرب هو شعوري بأنني بلا قيمة...بلا ثمن...مجرد قطعة أثاث يتصرف بها قاسم النجدي كما شاء....

أومأ حمزة برأسه في تفهم...

ثم نظر إليها بتفحص ليسألها:

_لماذا تزوجتِ جسار؟!!!


تنهدت في حرارة ثم قالت بهدوء:

_أنا أثق بك يا حمزة...لهذا سأخبرك بالحقيقة كلها...لعلنا نصل لحلٍ في هذه الأزمة يضمن سلامة الجميع...

وأولهم جسار وابنه...لأن هذا أقصي ما يعنيني...

هز رأسه فيما يشبه الوعد...

فاندفعت تحكي له كل شئ عن جسار منذ التقاها أول مرة غريبة وحيدة في الطريق...

وكيف كانت شهامته ومروءته معها طوال تلك الفترة...

ثم حكت له باقتضاب تفاصيل التعدي الوقح لمصطفي عليها...

وكيف أنقذها جسار منه بإتمام هذا الزواج كي يحفظ لها كرامتها ويحميها....

ليس فقط من ألسنة الناس...

بل ومن عائلتها نفسها لو اقتضي الأمر!!!!


كان حمزة يستمع إليها مصدوماً...

عندما أردفت هي بحرارة:

_لو كانت آسيا النجدي تعني شيئاً لديكم فاعلم أن جسار هو الذي حفظها لكم...أنتم مدينون له بحياتي وشرفي وكرامتي وليس العكس...طوال أيامي السابقة هنا وهو يحافظ عليّ حتي من نفسه...ودون أي انتظار لمقابل...صدقني يا حمزة...جسار رجل نبيل حقاً...لقد ابتعد بنفسه هنا في هذه المزرعة حتي لا يريق المزيد من بحور الدم...اختار أن ينسلخ من جلده...من أهله وبلده...حتي لا تتلوث يداه بالدم...وحتي يقطع حبال العداوة بين عائلتينا...لم يكن ذنبه أن وضعني القدر في طريقه من جديد بهذه المصادفة الغريبة...لكنه مع هذا لم يقدم لي سوي كل خير...


صمت حمزة للحظات يستوعب كلامها السابق ببطء....

لو صدقت آسيا...

وهو يظنها كذلك!!!

فهذا يعني حقاً أن جسار هذا حالة خاصة من الرجولة الحقيقية...

هم المدينون له بصنيعه مع ابنتهم ...

وليس العكس!!!


وقد أكدت آسيا علي فكرته عندما أردفت بخفوت يمتزج بالخجل:

_سأخبرك سراً لكن لا تطلع أحداً عليه...أنا أبوح به لك أنت فقط كي تعرف أي رجلٍ عظيمٍ هو...زواجي به ليس حقيقياً...مجرد ورقة لحمايتي من أي أحد...وقد وعدني بإطلاق سراحي متي أحب...

اتسعت عيناه بدهشة للحظة....

..ثم التمعتا بإعجاب واضح...

وبعدها افترّ ثغره عن ابتسامة صغيرة وهو يقول لها باحترام واضح:

_يبدو أنه رجلٌ بحق!!!

ابتسمت آسيا بشرود وهي تهمس :

_وأكثر يا حمزة!!!

هز رأسه في تفهم...ثم قال لها بإعجاب:

_أنتِ أيضاً كريستالة العائلة كما كانت تدعوكِ عمتي فريدة...رغم غضبي الشديد من فعلتكِ الشائنة بالهروب...لكنكِ استطعتِ كسر القيود التي أحاطوكِ بها لتنتزعي حريتكِ من جديد...

اتسعت ابتسامتها وهي تقول بامتنان:

_لم أكن لأفعلها وحدي صدقني....لولاه هو ...هو الذي منحني كل الدعم والقوة لأصمد وأواجه...هو الذي روض ضعفي كما كان دوماً يخبرني ...عندما أشعرني أن اختياري مهما كان سيكون مدعوماً بقوته خلف ظهري...لهذا سأبقي طوال عمري مدينة له بهذا...


أطرق حمزة برأسه لحظات يفكر...

هكذا تغيرت الأمور تماماً...

جسار لم يعد عدواً للعائلة...

لكن تبقي المشكلة في إشهار هذا للجميع...

وتبرير عودة آسيا للحياة بعد كل هذا الوقت ...

والأهم...إقناع قاسم النجدي بكل هذا!!!

لكن....لا بأس!!!

سيتكفل هو بالأمر ...

المهم الآن أنه اطمأن علي آسيا...

وهدأ قلبه من ناحية الثأر القديم...


لهذا قام واقفاً ثم قال لآسيا برفق:

_لا تحملي هماً يا آسيا...أعدكِ أن أقف بجانبكِ حتي تتجاوزي كل هذا...

وقفت بدورها وهي ترمقه بامتنان ...

كم كانت تحترم حمزة من صغرها...

والآن تحترمه أكثر...

لقد وضعت له الأقدار دور البطولة الثانية في حياتها بعد جسار...

وظنها أنه لن يخذلها...

لهذا ابتسمت وهي تقول له بمودة حقيقية:

_أنا محظوظة حقاً لأن جدي أوكل الأمر إليك...أنت هدية القدر لهذه العائلة....


هز حمزة رأسه وهو يتوجه ببصره نحو جسار الذي كانت نظراته الآن مشتعلة علي أقل تقدير...

وهو يراقبهما من بعيد...

فأدرك بحدسه أن أسد آل القاصم يشعر الآن بالغيرة علي زوجته...

لهذا غادر الغرفة بخطوات ثابتة ليتوجه نحوه قائلاً بهدوء:

_حسناً يا جسار...آسيا أطلعتني علي حقيقة الوضع...وأعدك أن تتم تسوية الأمور في أقرب وقت...

نظر إليه جسار طويلاً في تفحص لا يخلو من توجس...

فمد له حمزة كفه مصافحاً في إشارة واضحة....

تلقاها جسار بفطنته فأومأ برأسه ثم صافحه بدوره....


كان ياسين يراقبهما بذهول...

لا يدري ماذا حدث كي تنقلب الأمور فجأة هكذا....

لكنه يثق بعقل حمزة وقدرته علي إدارة الأمور...

التفت نحو آسيا التي كانت واقفة هناك عند باب الغرفة تراقب الموقف بدورها...

لتلتقي عيناهما في نظرة طويلة حملت مشاعر كل منهما للآخر...

نظرته كانت تحمل اعتذاراً طويلاً علي خذلانٍ لم يتعمده لهذا الذي ظنه حباً ...

والآن بعد غزو رقية الهاشمي لحياته يدرك أنه حقاً لم يكن كذلك!!!!

نظرته كانت تمنحها الحنان الذي منحه لها طوال عمره...

وسيبقي كذلك ما دامت تحتاجه...

لكنه لن يغلفه -بعد-بوهم الحب!!!

نظرته كانت تتعهدها بتقديم كل ما يستطيع لها...

ليس لأنها حبيبته...

لكن...لأنها ابنة عمه الغالية التي ستبقي لها مكانتها في قلبه مهما حدث!!!


ولأن نظرته كانت صادقة ...

فقد وصلتها كل هذه المعاني مباشرة دون حاجة لتأكيد...

نظرات ياسين دوماً كالمرايا لديها...

تري فيها كل ما بداخله دون شك ودون حيرة!!!!


بينما كانت نظراتها هي نحوه مختلفة...

لم تكن عاتبة كما كان يظن...

بل كانت قوية واثقة متشحة بعاطفة لم يعد يراها عشقاً...

ولا هي كذلك!!!

بل كانت أقرب للمودة والاحترام لذكرياتٍ حفرت مكانها في ماضي القلب ...

لكن لم تعد ترتقي لأن تكون حاضراً أو غداً...

نظراتها كانت تخبره بوضوح أن آسيا -القديمة-تغيرت...

عادت أقوي وأكثر صلابة مما كانت...

ولعل هذا ما يطمئنه عليها...

وينسف جبال شعوره القديم بالذنب نحوها!!!


لهذا ابتسم لها أخيراً بشحوب...

ثم تقدم نحو جسار وحمزة الذي قال له بحزم رفيق:

_صافح جسار يا ياسين...لقد أغلقنا صفحة الثأر القديم للأبد...

تجاهل ياسين أمره وهو يقلب بصره بين جسار وآسيا بتفحص...

ليكتسي صوته بمزيج من الحيرة والعجز وهو يقول:

_وآسيا؟!!! ألن نعود بها؟!!!

تجاهله جسار تماماً هو الآخر متحاشياً النظر إليه وهو يقول لحمزة بخشونة مسيطرة:

_زوجتي لن تغادر المزرعة حتي أطمئن تماماً لحقيقة الوضع...ولن تخطو خطوة واحدة دوني!


كان يضغط علي حروف كلمة "زوجتي" وكأنه يستنكر أن يناديها ياسين باسمها المجرد....

فابتسم حمزة بإعجاب واضح وهو يستشعر رجولة حقيقية في هذا الرجل الذي طالما كانوا يخشونه...

ليربت بعدها علي كتفه برفق قائلاً بحزم:

_لا تقلق علي زوجتك ...لن تغادر المكان هنا حتي أمهد للأمر في عائلتي كي أضمن سلامتها أنا الآخر...لا تنسَ أن الناس يظنونها قد ماتت...لابد أن نفكر جيداً قبل أن نخطو أي خطوة...

أومأ جسار برأسه في تفهم ثم قال بنبرته القوية:

_تولّ أنت أمر عائلتك...وأنا سأتولي أمر عائلتي بخصوص الثأر...لو أعلننا زواجي بآسيا...فستكون هذه نهاية الصراع القديم...

هز حمزة رأسه موافقاً ثم عاد يلتفت لياسين قائلاً بحزم أكبر:

_لا داعي لتوجسك هذا...آسيا أطلعتني علي حقيقة الأمر...جسار رجلٌ أفخر بأن أزوجه ابنة عمي دون تردد...


نقل ياسين بصره بينهما بشك...

ثم مد يده ليصافح جسار بفتور...

وبعدها التفت لحمزة يسأله بقلق:

_ وماذا عن جدي؟!!!

أغمض حمزة عينيه للحظات...

ثم عاد يفتحهما قائلاً بيقين:

_لا تقلق من جدي...أنا كفيلٌ بقاسم النجدي!!!


===============================================================

أخذ حمزة نفساً عميقاً....

ثم طرق باب غرفة جده الذي انتفض من مكانه هاتفاً بلهفة غريبة علي وقاره المعتاد:

_هل كانت هي حقاً آسيا كما زعموا؟!!

تنحنح حمزة بحرج ثم جلس جواره علي طرف الفراش ليمسك كفه قائلاً برفق:

_نعم ...هي يا جدي!!

عقد قاسم حاجبيه بغضب هادر وهو يهتف بقسوة :

_هل أتيتَ بها؟!!!

ربت حمزة علي كفه وهو يقول بنفس الرفق المتعقل:

_لا يا جدي...اهدأ الآن وسأخبرك بكل شئ..


ضاقت عينا قاسم بتفحص وهو يسمع تفاصيل الأمر من حمزة....

حتي انتهي بقوله:

_آسيا أخبرتني أنه هو الذي حافظ عليها وليس العكس...هو لم يسئ إليها في شئ!!!


اشتعل وجه قاسم غضباً وهو يهتف بحدة:

_كل هذا ولم يسئ إليها؟!!!! ماذا كنت تنتظر منه أكثر؟!!! أخفي الفتاة لديه كل هذه الشهور وتزوجها دون علمنا كأي عاهرة في الطريق تزوج نفسها بلا أهل!!!!!!!


تنهد حمزة بحرارة وهو يقول بحزم:

_هو لم يختطفها من بيننا يا جدي....آسيا هي التي ذهبت إليه بقدميها....وهو لم يتعرف علي هويتها في البداية ....وحتي عندما تعرف عليها لم يأخذها بذنبنا....بل حافظ عليها حتي منا نحن...إنه علي استعداد لفعل أي شئ كي لا يصيبها هي أي أذي!!

أشاح قاسم بوجهه في عدم رضا...

فأردف حمزة بنفس الحزم الرفيق:

_ما الذي دفع آسيا للهرب يا جدي؟!!! شعورها بأنها مجرد جارية...جارية في ثياب ملكية تم بيعها لسيد لا ترتضيه...أنا أدرك دافعك لتزويجها مني كي أحفظ أمانة عمي رحمه الله....لكن آسيا لم تدرك ذلك...آسيا لم تفرط في نفسها عندما تزوجت جسار...بل كانت ستفعل حقاً لو كانت تزوجتني دون رضاها...وأي تفريطٍ في النفس أكبر من أن تساق إلي مصيرٍ لا ترتضيه...؟!!!!


التفت نحوه قاسم بحدة هاتفاً بحنق:

_هل تلومني أنا علي هروبها!!!

هز حمزة رأسه نفياً ليقول بحنانه المعهود:

_قاسم النجدي لا يُلام أبداً في حب أحفاده...أنا أكثر من يفهمك يا جدي...وأدرك أنك تحمل همّ صغيرنا قبل كبيرنا...لكن الأمور تحتاج الآن منك لبعض المرونة...حتي لا ينقطع الحبل من كثرة الشد...

صمت قاسم لدقائق طويلة يعقل كلامه...

كلمات حمزة ليست جديدة عليه...

بل ...لو أنصف لقال أن هذا هو نفس ما يدور بخلده منذ أيام...

أمانات سعد أوشكت أن تضيع من يده...

آسيا وجويرية...

وأخيراً ساري!!!!

ولأول مرة يجد نفسه عاجزاً عن التحكم في الأمور...

حتي أحفاده الذكور...

بدأوا التمرد علي حكمه...

فعلها حذيفة أولاً...

ومن يدري من سيكون التالي؟!!!

يبدو أنه قد آن الأوان ليرخي الحبل قليلاً كما يقول حمزة...

لعله ينقذ العربة قبل سقوطها بالجميع في الهاوية!!!


لهذا التفت أخيراً نحو حمزة يسأله بترقب:

_ما رأيك أنت في جسار هذا؟!!!

ابتسم حمزة وهو يقول بإعجاب صادق:

_رجل حقيقي يا جدي!!

أومأ قاسم برأسه في شبه رضا...

ثم سأله بتفحص:

_وكيف سنبرر للناس عودتها للحياة ؟!!!

اتسعت ابتسامة حمزة وقد شعر أن قاسم النجدي بدأ يتقبل الفكرة...

فقال برفق:

_هذا أمر بسيط...يمكن أن نقول أنها قد تعرضت لحادث مثلاً وفقدت ذاكرتها مؤقتاً....وأن جسار هو من أنقذها...

مط قاسم شفتيه في استياء...

قد يتقبل الفكرة علي مضض...

لكنه لا يزال غير راضٍ عنها...

لهذا عاد يسأله بتوجس:

_وثأره القديم معنا؟!!!

ربت حمزة علي كفه وهو يقول مطمئناً:

_الرجل هرب من بلده وأهله طوال هذه السنوات حتي لا يتورط في مسلسل الدم هذا...كما أنه الآن يرتبط بنا بصلة نسب...وهذا يعني أن باب الثأر هذا قد أغلق تماماً!!!


عاد قاسم بظهره للوراء ليتعلق بصره بصور أبنائه المعلقة علي الحائط...

الآن يشهد صراعاً بين عقليته القديمة التي نشأ وتربي وعاش عمره كله عليها...

وبين عاطفته وواجبه نحو أمانات أولاده...

لكنه حسم الصراع سريعاً عندما التفت نحو حمزة ليقول بحزم:

_أنا أوافق علي إنهاء العداوة بين العائلتين وإعلان زواجه من آسيا النجدي...لكن بشرط واحد...

ازدرد حمزة ريقه ببطء...

عندما أردف جده بنفس الحزم:

_أن يأتي جسار القاصم وعائلته إليّ أنا هنا يطلبون الصلح!!!

=========================================================================

خرج حمزة من غرفة جده ليطرق باب غرفة فريدة التي كانت تصلي كعادتها في هذا الوقت من ليل رمضان ...

تلجأ إلي الدعاء كعادتها هاربة من جراح قلبها التي لا تندمل...

انتظرها بصبر حتي سلمت من صلاتها ثم رفعت رأسها إليه بسرعة هاتفة بلهفة حارقة:

_هل عدت يا حمزة؟!!!!رأيتها؟!!!لماذا لم تعد بها؟!!!!

ابتسم حمزة وهو يقول لها بحنان:

_اطمئني يا عمتي...آسيا بخير...جدي سيحل الأمر كله عن قريب...

تهلل وجهها بالبشر وهي تقوم لتقف قبالته هاتفة بفرح:

_اجلس وأخبرني بكل شئ!!! لا تغفل عن أي تفصيلة صغيرة...

ثم تهدج صوتها وهي تكاد تبكي هامسة:

_دعني أراها بعينيك يا بنيّ...اشتقتها...اشتقتها جداً...


دمعت عيناه تأثراً وهو يجلسها برفق لتجلس جواره تتطلع إليه بشغف...

وكأنها حقاً تري صورة ابنتها في عينيه...

فمضي حمزة يخبرها بكل ما حدث مع آسيا وجسار...

منتهياً بحديثه مع جده...

وهي تستمع إليه مصدومة...لتهمس بعد لحظات بصدمة:

_آسيا تزوجت جسار القاصم.؟؟!!!!..وتعيش مع كساب القاصم في نفس البيت؟!!!! 


هز حمزة رأسه وهو يقول بتعقل:

_أنا رأيت الرجلين يا عمتي...كلاهما كان يعاملها بمنتهي الود والاحترام...آسيا كانت سعيدة حقاً بإقامتها معهما...

لم يبدُ عليها أنها سمعته وهي تتمتم بشرود:

_بعد كل هذا العمر؟!!! تقيم مع قاتل أبيها في بيت واحد؟!!!!

تنهد حمزة في حرارة ثم قال بحزم:

_عائلة النجدي أخذت ثأر عمي سعد بعدها يا عمتي...وكان الدور علي جسار القاصم ليأخذ ثأره مني أنا...لكن الرجل أوقف عجلة الثأر هذه بهروبه مع عمه طوال هذه السنوات...وظني أن عمه لم يفعلها...لو كان هو قاتل عمي سعد كما تزعمون لما شجع ابن أخيه علي الهرب بل ورافقه طوال هذه السنوات بعيداً عن أهله وبلده...


كانت فريدة تستمع إليه بشبه تركيز وعقلها غائب في ذكرياته مع كساب القاصم...

هذا الرجل الذي لم تكلمه طوال عمرها كلمة واحدة...

لكنه كان أول من سكن قلبها بأمر الحب...

ورغم أنها سلمت لقدرها -كعادتها-بعدما تزوجت من سعد النجدي...

لكنها ظلت تحمل له بعض مشاعر من الود الممتزج بالاحترام كلما رأته في الطريق يغض بصره عنها بعد زواجها وكأنه يخبرها بلا كلمات أنه يدرك أنها لم تعد له...

حتي قُتل سعد النجدي...

وزعم الجميع أن كساب القاصم هو من فعلها...

لم تملك وقتها سوي أن تصدّق زعمهم...

لو لم يكن فعلها لأجل الثأر القديم...

فلأجل حبه لها !!!

حبه الذي لم يفصح لها عنه يوماً بلسانه...

لكنها كانت تراه فيضاً ثرياً في عينيه...

يغرقها بتيارات دافئة من حنان بلا حدود!!!

والذي كان نقمة عليها لأنه حرمها من زوجها...

وحرم بناته منه في ريعان شبابه!!!

لهذا كرهت كساب القاصم بكل قوتها...

كما أحبته من كل قلبها!!!


والآن يخبرونها أن ابنتها كانت لديه طوال هذه الشهور...

بأي دافعٍ تراه فعلها؟!!!!

حماية لها؟!!!

أم نكايةً بها؟!!!!


قطع حمزة أفكارها وهو يقول بإشفاق:

_اطمئني يا عمتي ولا تحملي هماً...سأبذل قصاري جهدي لتعود آسيا لحضنك في أقرب وقت!!!


=====================

استيقظت من نومها تتطلع للسقف في شرود...

تشعر وكأنها صارت بلا ذاكرة....

بلا هوية....

وكأنها نبتةٌ اقتلعت من جذورها لتلقي علي قارعة الطريق...

هكذا هي دونه...!!!!

هو الذي كان وطنها الفقير...

الذي عذبتها حروبه وجفاف أراضيه...

والذي ما عادت تشعر بأمنها فيه...

والذي تركته خلفها لتلجأ لأرض جديدة...

غريبة...مهاجرة...

لم تعد تملك سوي البكاء علي أطلال ماضيها...!!!!!


قامت من فراشها وهي تعد نفسها بيوم جديد...

وبداية جديدة...

لامرأة جديدة...

امرأة اختارت قرارها بنفسها وستتحمل نتائجه وحدها...


دخلت عليها فريدة لتجدها تؤدي صلاتها بخشوع....

فاطمأن قلبها نوعاً وهي تشعر أنها اليوم أفضل...

حتي إذا ما انتهت رفعتها إليها بحنان لتقول لها متفحصة وجهها الشاحب:

_تعلمين يا ساري؟!!!أنتِ بالذات لا أشعر بالقلق عليكِ كأختيكِ...أنتِ صاحبة القلب الكبير والعقل الأكبر...لن تخذليني أبداً..

ابتسمت ساري بشحوب وهي تود لو تخبرها أن حديث القلب قد مضي عهد الحديث عنه...

لم يعد لها الآن سوي حديث العقل...

لعله لا يخذلها هو الآخر...

أطرقت برأسها للحظة...عندما قالت فريدة بسعادة واضحة:

_آسيا ستعود!!!

شهقت ساري بفرحة وهي تتشبث بها بقوة هاتفة بلهفة:

_حقاً يا أمي؟!! هل ذهب حمزة إليها؟!!!هل عفا عنها جدي؟!!!

ابتسمت فريدة وهي تحكي لها أحداث الليلة السابقة...

فاتسعت عيناها بذهول وهي تهمس بصدمة:

_تزوجته؟!!تزوجت جسار القاصم؟!!!


تنهدت فريدة في حرارة وهي تهز رأسها قائلة بشرود:

_حمزة يقول أنه ليس أبداً كما نظن...الرجل حافظ علي ابنتنا طوال هذه الشهور...ويبدو أن آسيا سعيدة معه...

هزت ساري رأسها وهي تقول بتشكك:

_وجدي؟!!!هل سيرضي عن هذا؟!!!

صمتت فريدة للحظات تفكر...

ثم قالت بيقين:

_حمزة له سلطانٌ كبير علي قاسم النجدي...سيعرف كيف يقنعه...


شردت ساري ببصرها وهي تفكر...

لقد اختارت آسيا طريقها تماماً كما فعلت هي...

كلتاهما تحررت من قيد الجواري...

وصار لها الحق في أن تدافع عن اختيارها وتحارب من أجله...

آسيا تبدو سعيدة كما تقول أمها...

وكذلك هي ستكون !!!

ستنفض عنها كل هذا الحزن الذي يلتهم خلاياها ببطء...

وستكمل طريقها الذي بدأته...

خطوة خطوة...

====================================================

جلس زياد علي مكتبه يقلب كتابه بين يديه...

"الحب من أول نظرة"...

لعنته التي أصابت قلبه منذ رآها فلم تسمح له بفكاك!!!

ابتسم بشحوب وهو ينهل من بئر ذكرياته -القصيرة-معها...

كم كانت وردية في كل شئ...

أحلامها...

أفكارها...

براءتها...

خجلها...

كانت مثالاً لأميرة أحلام خرافية هبطت من عليائها لتلون حياته بطيفها الوردي...

ثم تتركه مسحوراً لا يكاد يري سواها!!!!


تنهد في حرارة وهو ينهر نفسه عما يفعله...

جوريته لم تعد له...

حتي حلمه بها صار حراماً...

اقتطفها وغدٌ خشن غليظ الطباع ليحبسها في عالمه قسراً!!!


ابتسم بسخرية مريرة وهو يتذكر ما حدثته بشأنه والدته منذ قليل...

السبب الذي جعلها تطلب منه العودة بسرعة...

زواجه بمارية!!!!

هز رأسه بأسف وهو يفكر ...

لن يستطيع الزواج من مارية....

ولا من سواها!!!!

شئٌ ما بصدره يخبره أن جوريته قد تعود يوماً إليه...

ربما هو مجرد أمل...

وربما هو استنتاج عقليّ بحت...!!!!!

رجلٌ مثل عمار هذا في خشونته لن يستوعب فراشة رقيقة كجوريته...

قلبه يخبره أن هذا الزواج لن يطول ...

وحينها سيكون دوره ليداوي جرواحها كلها...

ويدخلها لعالمه الذي يناسبها هي...

ولا يناسب سواها...

فلا تخرج منه أبداً!!!!


ورغم حنقه علي هذه الخدعة التي ابتكرتها والدته لتعيده إلي هنا الآن...

فقد شعر الآن فقط أنه يحمد لها هذا الصنيع...

لم يحب غربته هناك ولم يستسغها...

بل علي العكس...

لقد شعر أن روحه قد ردت إليه عندما عاد لبلده...وأهله...

ولحلمه القديم!!!

لهذا أعلن أنه لن يسافر الآن حتي يطمئن علي صحة والدته...

والواقع أنه اتخذها ذريعة ليعتذر عن البعثة كلها!!!


نعم...لن يسافر بل سيبقي هنا...

لعل حدسه يصدقه وتعود إليه أميرة أحلامه الوردية..!!!!

قام من علي مكتبه عندما وصلت أفكاره لهذه النقطة ليتناول ميدالية مفاتيحه ويغادر المنزل ذاهباً إلي نفس المكان الذي يقصده كل يوم منذ عودته ...

ومع أنه يجده مغلقاً في كل مرة...

لكنه لم -ولن-يكف عن المحاولة...!!!

أيُ مكانٍ هو؟!!!!!

نعم...بالضبط!!

مكتبة جويرية!!!!!!!!

========================================================================

أغلق حمزة باب غرفته ثم تناول هاتفه ليجد عشرات المكالمات الفائتة منها...

نعم....مارية...

كان قد أخبرها قبل ذهابه لجسار القاصم وأنبأها عن نيته....

وليته ما فعل!!!

فقد أشعل فتيل خوفها وقلقها بلا داعٍ...

وها هو الأمر مرّ بسلام وبأفضل مما كان يتوقع...


تلاعبت أنامله بأزرار الهاتف حتي سمع صوتها بنبرته المميزة تهتف بلهفة:

_حمزة؟!!! أنت بخير؟!!!

ابتسم قائلاً بعاطفته الحارة:

_نعم يا ماريتي ...بألف خير...لا تقلقي ...

ساد الصمت بينهما للحظات...

قبل أن يصله صوتها المتهدج:

_أريد أن أراك يا حمزة...الآن!!

تنهد في حرارة ثم تقدم نحو مكتبه ليفتح حاسوبه المحمول...

ثم قال لها برفق:

_حسناً يا ماريتي...لقد فتحت "الكاميرا"

لم تمرّ بضع ثوانٍ حتي كانت صورتها أمامه علي الشاشة تهتف بجزع:

_ماذا حدث؟!!! أخبرني عن كل التفاصيل...

ابتسم بحنانه المعهود وهو يقول بإشفاق:

_ليتني ما أخبرتكِ حتي لا تقلقي هكذا...

دمعت عيناها وهي تقول بصوت متقطع:

_الحمد لله أنك بخير...

ثم اشتعلت حدقتاها باندفاعها الطفولي وهي تهتف بنزق:

_هيا بسرعة...قل ماذا فعلت مع هذا الوغد؟!!!

ضحك ضحكة مجلجلة ثم رفع حاجبه بحركته المعهودة وهو يقول مشاكساً:

_قولي أنكِ وافقتِ علي خطبتنا أولاً!!!


ابتسمت بخجل ثم غلبها طبعها -الطفولي-فهزت رأسها نفياً لتقول بمرح:

_ليس بعد يا دكتور حمزة...أمامك طريق طويل من الترجي والندم...

عاد يضحك بمرح للحظات...

ثم تنهد بحرارة ليقول بعدها بعاطفة :

_لأجلكِ أسيره مهما طال ...حتي تتأكدي من شعوري نحوك...

قاومت خجلها باستماتة وهي تتشبث بقناعها المرح لتهتف باندفاع:

_دعك من حيلك القديمة وأخبرني بالتفصيل عما جري هناك....

زفر زفرة قصيرة...

ثم بدأ يحكي لها تفاصيل الأمر....

حتي انتهي ...فهتفت وهي تصفق بكفيها :

_إذن فقد انتهت قصة الثأر وتزوجت ابنة عمك من هذا الرجل؟!!!!

ضحك بمرح وهو يعيد رفع حاجبه ليسألها بمكر:

_أيهما كان يزعجكِ أكثر....قصة الثأر...أم زواجي بابنة عمي؟!!!

هزت كتفيها وهي تضحك دون أن تجيب....

فضحك بدوره وهو يهز رأسه قائلاً بشرود:

_عسي الله أن ينتهي الأمر علي خير...ولا تجدّ في الأمور أمور!!!!


قالها وهو يتذكر شرط جده -الحاسم-بحضور جسار وعائلته إليه في بيته يطلبون الصلح...

وهو ليس بهيّن أبداً...

لكنه يظنّ خيراً بجسار وقدرته علي إتمام الصلح...

لعلّ هذه الأزمة تنجلي...

ليس لها من دون الله كاشفة!!!

وبعدها يكون الطريق أمامه ممهداً لمفاتحة جده في أمر خطبته لمارية...

فهو ما عاد قادراً علي الصبر أكثر...


===========================================================

فتح باب شقته ليجدها تنتظره جالسة علي كرسيها...

اندفع نحوها بخطوات سريعة فتعلقت عيناها بعينيه تقرأ ما فيهما بشغف...

لكنها لم تقوَ علي الكلام...

قلبها كان يخفق بجنون...

وهي تحاول التظاهر بالهدوء قدر ما تستطيع...

أمسك كتفيها بقوة يرفعها إليه وهو يبتسم أمام عينيها هامساً بحرارة:

_افتقدتكِ يا غاليتي!

قالها ثم ضمها إليه بقوة وهو يتنشق عبير شعرها مردفاً بنفس النبرة الذائبة:

_أخيراً عدتُ إلي سلطانتي...كل دقيقة دونكِ تساوي ألف عام من اشتياق...

عاندت أناملها التي كانت تتوسلها أن تحتضنه بدورها...

وهي ترفع إليه رأسها هامسة بصلابة تخفي هشاشة روحها الآن:

_كيف سارت الأمور هناك؟!!

احتضن وجهها بكفيه وهو يسافر بحدقتيه دون كلل في بحار عينيها هامساً بحنانه الدافئ:

_انزعي قناعكِ يا سلطانتي...وصارحيني بما تودين السؤال عنه بالضبط...

أغمضت عينيها للحظة تتمالك قوتها...

فمال علي جفنيها المطبقين يقبلهما بعمق وهو يردف بعاطفة ملتهبة:

_لا ...لا تقولي شيئاً...دعيني أنا أقرأ ما تبوح به عيناكِ الصافيتان...

فتحت عينيها ببطء وهي تعاود التشبث بخيوط عشقه المزدانة بحنانه وهو يهمس :

_رأيتُها يا رقية...رأيتها بعيني لكن قلبي ما كان يري سواكِ....رأيتُها وأدركتُ بكل يقين أنني لم ولن أعشق امرأة مثلك...

ابتسمت بشحوب وهي تحيط وجنته براحتها هامسة بتردد:

_ألم تكن ضائقاً بقصة زواجها هذه؟!!!

أومأ برأسه إيجاباً وهو يهمس بحسم:

_بلي...كنتُ ضائقاً جداً...

ثم ضمها إليه أكثر وهو يلصق جبينه بجبينها هامساً:

_لكن ليس كما تظنين...الأمر كله لم يتعدَّ قلقي علي ابنة عمي ورفيقة طفولتي...لكنني بعدما اطمأننتُ لجسار هذا...لم يعد يشكل الأمر لي فارقاً...

تنهدت في حرارة وهي ترفع عينيها إليه لتهمس بعتاب وجل:

_يالخوفي من قلبك الذي ينسي حبه بهذه البساطة!!!


أطرق برأسه لحظات...

ثم عاد يرفع عينيه إليها هامساً بحزم:

_لم يكن حباً يا رقية...الآن فقط أدرك أنه لم يكن!!

أخفت وجهها في صدره ليردف هو بنفس الثقة:

_الحب الحقيقي لا ينتزعه منّا أحد...لأنه شفرة قلوبنا الخاصة...والتي لا تستجيب دقاتنا إلا لرموزها هي فقط...لو كان حباً لما حرمني منه خوف ولا طغيان....ولما حال بيني وبينه شئ...ولا حتي الموت...الحب والضعف نقيضان يا رقية...لا يجتمعان أبداً في قلب عاشق...

رفعت رأسها إليه ببطء...

وعيناها تلتقطان عاطفته الصادقة التي كانت تغزل خيوط النور بروحها دون مجال لشك أو زيف...

وابتسامتها تتسع تدريجياً علي شفتيها...

حتي تحولت لضحكة قصيرة تلألأ بها ثغرها وهي تهمس بدلال ملكيّ :

_وماذا يكون إذن في قلب العاشق؟!!!

ضحك ضحكة آسرة...

ثم داعب أنفها بأنفه ليهمس بمكر :

_تعاليْ لأخبرك!!

==================================================================


طرقت آسيا باب غرفته برفق فسمح لها بالدخول...

تقدمت نحوه ببطء تراقب التوتر الشديد علي ملامحه والذي عجز عن إخفائه...

حتي صارت أمامه تماماًّ فهمست بخفوت:

_هل أغضبتك في شئ؟!!! 

ربت علي وجنتها برفق دون أن يجيب...

فأعادت همسها الوجل:

_منذ رحلا وأنت تتحاشي الحديث معي...هل أخطأتُ التصرف في شئ معهما؟!!!

تنهد في حرارة ثم أعطاها ظهره للحظات...

لا يدري ماذا يخبرها...

منذ أحس بأنه يكاد يفقدها وهو غارقٌ في حيرته...

مشاعره الجديدة نحوها تربكه...

هو لا يريدها معه...

لا يريدها أن تضيع عمرها هنا مع ظل رجلٍ يأبي خيانة حبه القديم...

وفي نفس الوقت هو لا يستطيع أن يتركها...

نعم...لا ينكر أنه تعلق بها حقاً...

لا يعنيه الآن ما معني شعوره...

بقدر ما يعنيه ألا تغيب عن عينيه لحظة واحدة ....!!!


قبض أنامله بقوة للحظات...قبل أن يسألها بصوت جاهد كي يظهر هدوءه:

_ياسين ابن عمك كان غاضباً للغاية...يبدو أن قصة زواجنا قد أزعجته....

أطرقت برأسها للحظة...

ثم سارت حتي وقفت قبالته لتنظر لعينيه قائلة بقوتها -المستحدثة-:

_لو كنتَ تعرف ياسين كما أعرفه لأدركتَ مدي صدمته اليوم بشأني...آسيا التي كان يعرفها ماتت حقاً منذ دخلت إلي هذه المزرعة...آسيا الآن لم تعد لديه سوي ابنة عمه فحسب....

اشتعلت عيناه وهو يسألها بنفس البرود الخادع:

_وهو ...ماذا يعني الآن لديكِ؟!!

أطرقت برأسها وهي تود الآن لو تصارحه بمشاعرها نحوه -والتي لا تدرك أنه يعرفها-...

لكنها لا تستطيع...

حتي وهي تعلم أنها تعشقه فوق العشق وأكثر...

خاصة بعد وقوفه معها اليوم...

لكن لازالت الحواجز بينهما قائمة....

وأعظمها...حبه الوفيّ لسمية!!!

والذي لا تريد أبداً أن تعكر صفوه بشوائب من إحساسه بالذنب....

خاصة وهي تشعر أن رحيلها عن هنا قد اقترب...

وأن دور كل منهما في حياة الآخر قد أوشك علي الانتهاء...


لهذا رفعت رأسها إليه لتهمس بابتسامة شاحبة:

_أنا لم أخجل من الاعتراف لكِ بأنني كنت يوماً أحبه...وبنفس القوة أخبرك اليوم أنه ما عاد عندي سوي ابن عمي فحسب...أنا تعلمت درسي جيداً...الحب الضعيف الذي لا يصمد في وجه الصعاب ليس حباً...بل هو مشاعر باهتة كجنين مشوه لن يُكتب له البقاء....الحب القوي -كحبك لسمية -والذي تحدي حتي الموت هو الحب الحقيقي الذي يستحق الخلود....


تنهد في حرارة وهو يشيح بوجهه...

فأردفت بنبرتها القوية:

_لا تخشَ علي "كريستالتك" فقد علمتها أنت كيف تحافظ علي قيمتها...فرَسك الجموح بدأت اليوم أول خطوة في طريق انطلاقها الطويل وستكمله لآخره...

عاد يلتفت إليها مبتسماً بإعجاب يمتزج بفخره...

فنظرت إليه نظرة طويلة....

ثم همست بشرود:

_حمزة سيتمكن من إقناع جدي بحل الأمر...أنا أثق بهذا...وحينها سيمكنني العودة إلي عائلتي واستعادة حياتي المفقودة...


سقط قلبه بين ضلوعه وهو يسمع هذا منها...

لا...لن يسمح لها أن تغادر المزرعة...

بل أن تغادر حياته...

ليس بعد الآن...

وهو يشعر بحبها له...

وبمشاعره الجديدة نحوها...

والتي تتملكه كل يوم أكثر!!!!


لكنها كانت غافلة عن كل هذا وهي تهمس له برجاء:

_لقد وعدتك أن أغادر هذا المكان كما دخلته...وسأفي بوعدي قريباً..سأعود لعائلتي وأتذرع بعملي ودراستي كي أبقي معهم طوال الأسبوع...وسآتي هنا يوم الجمعة فقط...كي لا يتشكك أحد في طبيعة علاقتنا....

زفر بقوة ثم هتف بضيق وهو عاجز عن الجدال:

_هذا أمر سابق لأوانه...لن ترحلي من هنا حتي أطمئن تماماً عليكِ....

هزت رأسها توافقه ثم عادت تهمس بتردد ممزوج بالخجل:

_لكن لي لديك رجاء واحد...

مد ذراعيه يمسك كتفيها وهو غارق في نظراتها الدافئة...

ثم أومأ برأسه منتظراً رجاءها...

فضغطت شفتيها بقوة تكتم انفعالها ثم همست بخفوت:

_حتي لو عدتُ لعائلتي ...سنحافظ علي صورة زواجنا الظاهرية ..طلاقنا ربما يعيد العداوة بين العائلتين...كما أنه سيحرمني من زيارتكم هنا ...وأنا لا أريد أن...

تهدج صوتها في عبارتها الأخيرة وهي تكتم بكاءها عاجزة عن إكمالها...

فضمها إليه بقوة وكأنه يتشبث بها للحظات طويلة....

قبل أن يهمس في أذنها بحرارة:

_لا تبكي بعد الآن أبداً...لقد اكتفيتِ من الحزن والدموع يا صغيرتي...من اليوم لن أري سوي ابتسامتك...ولن أسمع سوي صدي ضحكاتك ...أنتِ لا تستحقين أقل من هذا...

استسلمت لدفء صدره للحظات...

ثم ابتعدت بوجهها عنه لتمسح دموعها وتبتسم  بضعف هامسة:

_حسناً...أعدك بهذا...

طافت عيناه علي ملامحها تطوقانها بحنان ...

ثم مد أنامله يتلمس وجنتها هامساً بفخر:

_اليوم شعرتُ بكِ كما تمنيتكِ دوماً...بمزيج القوة والرقة الغريب...تعرفين متي تكونين في خفة النسيم...ومتي تشتدين كهبوب الريح...

اتسعت ابتسامتها وهي تهمس بامتنان:

_لم أكن لأفعل لولا ثقتي أنك خلفي تدعمني ...صدقني لقد شعرت اليوم لأول مرة أنني لست يتيمة...لقد عوضتني عن حنان الأب وقوته ...

مال برأسه يقبل جبينها بعمق...

ثم همس أمام عينيها بصدق مس قلبها:

_سأكون لكِ دوماً كما تريدين...أباً وصديقاً وأخاً...لا يعنيني المسمّي ...سأكون جواركِ فحسب وهذا ما يهمني!!!!

=====================


الفصل الثالث والعشرون:


كان جسار واقفاً أمام اسطبل الخيل يفكر بشرود...

لقد أخبره حمزة بشرط قاسم النجدي لإنهاء العداوة بين العائلتين...

ورغم أنه يتفهم رغبته في حفظ كرامة عائلة النجدي ...

لكن ما يطلبه ليس يسيراً...

ليس يسيراً علي الإطلاق!!!


شعر بها خلفه فالتفت نحوها ليبتسم بحنانه كعادته قائلاً:

_صباح الخير يا آسيا.

ابتسمت بدورها لتشرق ملامحها وهي ترد عليه برقة...

ثم ناولته قفازين يدويين من "الكروشيه" لتقول له بهدوء يخفي انفعالها:

_لقد وعدتُ ياسين أن أصنعهما له في العيد...لا أدري إن كنتُ سأكون هنا معكم أم لا...لو لم أكن هنا فأعطهما له نيابةً عني.

أشاح بوجهه لحظة في ضيق...

ثم عاد ينظر إليها قائلاً بعتاب :

_ألم نتفق أن هذا الحديث سابقٌ لأوانه؟!!

أومأت برأسها وهي تطرق برأسها إلي الأرض...

ماذا عساها تقول له ؟!!!

هي فقط تريد أن ترفع حِملها عنه...

تريده أن يطمئن أنها سترحل عن هنا كما وعدته...

تريده أن يتخلص من أشباح الذنب التي تدور علي ملامحه كلما رآها...!!!

نعم...هي تفهم مشاعره جيداً...

وبقدر ما تعتصر قلبها ألماً بقدر ما تزيد احترامها له...

لهذا ستبقي تحبه حتي ولو بلا أمل...

هذا رجلٌ يستحق عشقها حتي لو لم يكن لها!!!

أخذت نفساً عميقاً تتمالك به نفسها ثم عادت ترفع رأسها إليه متسائلة باهتمام:

_هل من جديد بشأن عائلتي؟! ألم يهاتفك حمزة حتي الآن؟!!

ربت علي كتفها برفق ثم أخبرها عن فحوي اتصال حمزة وشرط قاسم النجدي لقبول الصلح...

فغمغمت بارتباك:

_جدي طلب هذا؟!! لماذا يبدو الأمر وكأنه في موضع قوة؟!!!أنا بين يديك بالفعل وهو ليس له سلطانٌ عليك!!!

تنهد جسار قائلاً بشرود:

_لا تستهيني بقوة عائلتكِ يا صغيرتي...قاسم النجدي يدرك جيداً حجم قدراته ونحن تزوجنا دون علمه..لو أرادها حرباً بين عائلتينا فستكون حديث الساعة.

ارتجف جسدها رغماً عنها وهي تتمتم بخوف:

_إلي هذا الحد؟!!

عاد يربت علي كتفها وهو لازال علي شروده قائلاً:

_لهذا السبب هربتُ منذ سنوات ...لقد أدركتُ وقتها أنني واقعٌ بين شقيّ الرحي...عائلتك من ناحية...وعائلتي التي تطالبني بما لا أطيق من ناحية أخري.

عضت علي شفتيها وشعور الذنب ينتابها من جديد...

لتنظر إلي عينيه هامسة بندم:

_أنا آسفة يا جسار!

التفت إليها من شروده...

ليلتقط خيوط الذنب المتشابكة علي ملامحها فيقول بحنان آسر:

_لا تعتذري يا صغيرتي...أنتِ أعدتِ لي ماضيّ ...وما قيمة الانسان دون ماضيه؟!!!أنتِ رددتِ إليّ اسمي الذي افتقدته...ومن يدري؟!! ربما كنتِ سبباً في استعادتي لأهلي وبلدي ...فتكونين سرّ عودة جسار إلي الحياة .

ثم صمت لحظة ليردف بنبرة أكثر دفئاً:

_ستكونين بعثي بعد عدمي!!

اتسعت عيناها في ارتياع وهي تهتف بلهفة تمتزج بالخوف:

_هل تعني أنك ستنفذ لجدي شرطه؟!!! ستعود بقدميك إلي عائلتك بعد كل هذه السنوات؟!!لا...لا تفعلها يا جسار...سيكون هذا خطراً علي حياتك وحياة ياسين أيضاً...

ابتسم وهو يربت علي وجنتها ليقول بحزم حنون:


_هل ستعود "كريستالتي" للخوف من جديد؟!!!

دمعت عيناها وهي تهتف بانفعال:

_لست في حاجة لفعل هذا ...فلماذا تلجأ لهذه المخاطرة؟!!!!

نظر إلي عينيها طويلاً ثم أمسك كتفيها ليهمس بدفء:

_لأجلكِ أنتِ!

تجمدت بين ذراعيه وهي تري الصدق المشعّ في عينيه ببريق عاطفةٍ لم تجد لها مُسمّي...

حتي لو لم يكن شعوره نحوها حباً...

تكفيها هذه النظرة في عينيه...

نظرة تعدها بأمان الكون كله...

وتحتوي كل خوفها وحزنها بغلالة رقيقة من حنانه الآسر وقوته الرفيقة!!!

لهذا وجدت نفسها تهمس دون وعي:

_جسار...أنا...


قطعت عبارتها بصعوبة وهي تجاهد نفسها كي لا تنطقها...

لكنه قرأها في عينيها...

أكثر وضوحاً من شمس الظهيرة وأقوي من ضوء القمر وسط حلكة الليل...

وليته ما فعل!!!

شعوران متناقضان يشقان صدره الآن...

أحدهما يكاد يرجوها أن تكمل عبارتها...

أن تنطقها...

يشتاق لسماعها من بين شفتيها تداعب أذنيه بصوتها الرقيق كنسائم الفجر...

يريد التلذذ برؤية طيفها علي ملامحها الآسرة تواجهه بها دون خجل ودون خوف...


لكن شعوراً آخر يقطع عليه طريق سعادته بها...

يكاد يرجوها ألا تنطقها...

ألا تصدقها!!

بل...ألا تشعر بها من الأساس!!!

فهو لن يحتمل أن يكون سبب جرحها ...

لأنه موقنٌ أنه لن يكون لها!!!!


والعجيب أنها رأت كل هذا واضحاً في مرآة عينيه...

مشاعره الوليدة رغم تواريها المستتر خلف حجب كتمانه وصلتها صادقة...

لكنها كانت مغلفة -كعادتها-بطياتٍ من الأسف والذنب!!!

وهو ما تتفهمه تماماً رغم أنه يزيد تشققات أرضها الظمأي لحبه...

فهي تدرك بحق قيمة الحب العظيم الذي جمعه بسمية...

والذي لايزال قيداً عزيزاً علي نفسه!!!!


لهذا هربت بعينيها من عينيه وهي تستجمع قوتها -الملكية-الجديدة لتقول بنبرة أكثر تماسكاً:

_أنا ممتنةٌ لك كثيراً...أنا أعرف أنك تفعل كل هذا لأنني وصية سمية الأخيرة....


قالتها وهي تزيح ذراعيه من علي كتفيها برفق لتبتعد بضع خطوات معطية له ظهرها...

وهي تحاول السيطرة علي انفعالها في هذه اللحظة...

ولم يكن هو أفضل منها حالاً...

وهو -الآخر-يدرك مكنون نفسها الآن...

وما تحاول التظاهر به...


رفع رأسه للسماء للحظات يستجمع شتات نفسه...

ثم توجه إليها ليديرها نحوه قائلاً بقوته المعهودة:

_لا تقلقي...أنا سأتولي أمر عائلتي..

أومأت برأسها وهي تتحاشي النظر لعينيه ...

فابتسم في حنان وهو يسألها برفق:

_ما رأيكِ لو نخرج اليوم لشراء ملابس العيد لكِ ولياسين؟!!!

التفتت إليه في دهشة للحظة...

ثم ابتسمت رغماً عنها وهي تردد بارتباك لا يخلو من فرح:

_ملابس العيد؟!!! لي أنا؟!!

اتسعت ابتسامته ولم يملك أمام هذا الفيض من براءتها الممتزجة بالسعادة إلا أن يقبل جبينها هامساً بحنان:

_نعم يا صغيرتي...أريد أن نخرج اليوم في نزهة تتناسين فيها كل هذه الضغوط...أريدك أن تعودي اليوم طفلة مدللة لا تعرف سوي أن تطلب فتُجاب!!!

ضحكت ضحكة قصيرة ساحرة رقص لها قلبه طرباً...

وهو يشاهد فرحتها الصادقة في عينيها الرائقتين....

ليهز رأسه ثم يتنهد هامساً بابتسامة خلابة:

_آه يا آسيا!! هل تدركين قيمة ضحكتكِ النقية هذه؟!!!ليتها لا تغادر وجهكِ أبداً.....!!

=========================================================================

عادت آسيا من الخارج تتشبث بكنز مشترياتها الثمين...

وابتسامتها الحالمة ترسم الورد علي شفتيها...

كم كانت تحتاج لهذه النزهة الليلة مع جسار...

قلبها الظمآن للعاطفة كان يرتشف اهتمامه رشفة رشفة باستمتاع فائق...

لتتشربه خلاياها بنهمٍ ...

وتمتصه روحها باشتهاء!!!

كان الصغير قد استسلم للنوم في السيارة فحمله جسار حتي وضعه في فراشه بغرفته التي تشاركه هي فيها...

ثم التفت إليها هامساً بحنان:

_سعيدة؟!!!

ابتسمت ابتسامتها المهلكة-كما كان يراها-وهي تومئ برأسها إيجاباً...

فربت علي كتفها برفق ثم عاد يهمس جوار أذنها بمرح كي لا يوقظ الصغير:

_ما رأيك أن نلعب "الشطرنج" ؟!!! أشتاق لأن أغلبكِ كما كنتُ أفعل دوماً!!

وضعت كفها علي شفتيها تكتم ضحكتها التي أنارت حدقتيها....

ثم أومأت برأسها في حماس وهي تحتضن كيس مشترياتها...

فنظر إلي عينيها طويلاً...

ثم همس بنبرة دافئة:

_ارتدي الثوب الأزرق...أريد أن تكوني الليلة كأجمل مرة رأيتكِ فيها...

احمرت وجنتاها بخجل وهي تتحاشي النظر إلي عينيه ...

ثم أومأت برأسها ...

فقبل جبينها بعمق ثم همس بخفوت:

_سأنتظركِ بالخارج.

راقبت ظهره المنصرف حتي خرج وأغلق الباب خلفه ...

ثم تنهدت بحرارة وهي تفتح الكيس لتستخرج منه ثوبها الجديد...

وبعدها بدقائق...

كانت تتأمل صورتها في المرآة بمزيج من السعادة والخجل...

لكنّ غمامةً من الحزن الممزوج بيأسها قطعت عليها فيض شعورها الورديّ هذا...

فنفضتها عن روحها بسرعة وهي تهمس لنفسها بحزم:

_انسي كل شئ الليلة فقط...دعيها تكن ليلة خالصة من كل الهموم...


أخذت نفساً عميقاً استعادت به تماسكها...

ثم خرجت إليه في صالة المنزل حيث كان يرص قطع الشطرنج بشرود...

انتبه من شروده علي رائحة عطرها المميزة فالتفت إليها لتلتمع عيناه بشدة وهو يتأملها بافتتان...

كم يليق بها الأزرق الملكيّ الذي يبرز لون عينيها بفتنة طاغية...

مع شعرها الذهبي الذي أسدلته علي جانب واحد من رأسها وزينته برباطٍ من اللؤلؤ والورود الصغيرة....

ورغم أن الثوب لم يكن كاشفاً ولا ضيقاً...

لكنها كانت صورة مجسدة للسحر وهي تتقدم نحوه بمزيج من خجلها وقوتها -المستحدثة-لتقول وهي تتحاشي النظر لعينيه المفتونتين:

_أنتوي هزيمتك هذه المرة يا سيد جسار.

ابتسم وهو يطوقها بنظراته هامساً بنبرة دافئة:

_هزيمتي لأجلكِ نصرٌ...يا صغيرتي!!

ابتسمت بخجل وهي تحاول التركيز في رقعة الشطرنج أمامها وأناملها تتحسس القطع بشرود....

قبل أن تهمس بخفوت:

_تبدأ أنت أم أبدأ أنا؟!!!

غامت عيناه بعاطفته وهو يمد كفه ليتلمس أناملها برفق هامساً بنبرته الدافئة:

_أنتِ دوماً تبدئين.

رفعت إليه عينيها ببطء...لتلتقي عيناهما في حديث طويل...

قطعته هي بنظراتها الحائرة وهي تهمس بشرود:

_ودوماً أخسر!!

شبّك أنامله بأناملها وهو يحتضن وجنتها بكفه الآخر ليدير وجهها نحوه هامساً:

_أنا أشعر أنك ستكسبين هذه المرة.

ذابت نظراتها في سواد حدقتيه وهي تتمني لو يتجمد الكون كله الآن...

فلا شمس ولا سماء ولا هواء...

فقط هو ..

بحنان نظراته الذي يطوقها...

ودفء لمسته علي وجنتها...

والوعد الآسر الذي حملته همساته الآن:

_"كريستالتي" تستحق أن تملك الدنيا كلها بين كفيها.

ابتسمت لتشرق الشمس في ملامحها وهي تقول بشرود حالم:

_أنا لا أتمني سوي أن أنجح في عملي...أن أبني عالمي الذي اخترته بنفسي.

ثم تناولت "بيدقاً"خشبياً من علي رقعة الشطرنج تقلبه في يدها وهي تهمس بشجن:

_لا أريد أن أكون مجرد "بيدق" في لعبة...

ابتسم وهو يتناول قطعة "الملك" ليضعها في راحتها ويطبق أناملها عليها هامساً بثقة:

_بل ستكونين "الملك" الذي تتحرك لأجله كل البيادق!!

ضحكت ضحكة خلابة وهي ترمقه بنظرات امتنانها الغارقة بعاطفتها ...

قبل أن تنتزع نفسها انتزاعاً من كل هذا لتبدأ اللعب بثقة....

لم تدرِ كم مرّ عليهما من الوقت....

وكذلك هو...

لقد استغرقا وقتاً في اللعب هذه المرة أكثر بكثير من المرات التي سبقتها...

ومع هذا كانا يشعران أكثر بالاستمتاع...

حتي انتهيا...

لقد صدق حدس جسار وكسبت آسيا لأول مرة...

لعلها لا تكون الأخيرة!!

==========================================================================


وقف يراقبها خلسة من خلف الجدار في ساحة الجامعة...

لقد هاتف فريدة ليطمئن عليها هذا الصباح فأخبرته أنها قد خرجت لقضاء بعض المصالح المتعلقة بنشاطها الخيري في الجامعة...

ورغم ضيقه -الخفي-من شعوره بأنها تجاوزت أزمتها معه وستمضي في حياتها كما كانت تقول...

لكنه لا ينكر إحساسه بالإعجاب نحوها...

وهو يراها هكذا واقفة في صلابة تحدث رفقاءها بملامح جادة مسيطرة...

وهو أكثر من يعلم عن معاناتها الآن...

ظل واقفاً مكانه للحظات يملأ عينيه من ملامحها التي اشتاقها...

ثم ابتسم بسخرية مريرة...

حذيفة النجدي ساحر النساء الذي كان يتلاعب بهنّ كما الدمي...

أتي عليه اليوم الذي يرقب فيه حبيبته- التي طردته من حياتها- خلسةً من خلف جدار!!!


أطرق برأسه لحظات...

ثم ألقي عليها نظرةً أخيرة وهو يكاد ينصرف...

عندما لمح بلال الهاشمي يقترب منها مبتسماً...

بلال الهاشمي؟!!!

متي عاد هذا؟!!!

ولماذا الآن بالذات؟!!!

انعقد حاجباه بغضب وهو يهمّ بالتوجه نحوهما...

لكنه تيبس مكانه وعقله يبعث إليه بإشارات الهدوء...

ساري لم تعد جاريته المسمّاة باسمه ...

هو أعتقها بنفسه!!!

والآن دورها لتختار حياتها كيفما شاءت...

ومع من شاءت...

حتي لو كان خيارها في غير صالحه...

هو سينتظر أن تكتب هي نهاية قصتهما...

أو -من يدري- ربما بدايتها الجديدة!!!!


قبض أنامله بقوة يتمالك غضبه...

ثم أشاح بوجهه عن صورتها مع ذاك الرجل وهو يغادر مبني الجامعة بخطوات مندفعة...

استقلّ الحافلة العامة كما صار يفعل منذ طرده قاسم النجديّ من جنة أملاكه...

ليعود بعدها إلي منزله البسيط الذي يخص والدته...

والذي لولاه لنا كان له مأوي بعيداً عن سلطان جده!!

بدل ملابسه وهو يشعر بثقل هائل يجثم علي صدره ...

عندما سمع رنين الجرس...

قام ليفتح الباب بتثاقل ليجده حمزة ...

اتسعت عيناه بدهشة للحظات...

فلم يتوقع أن يأتي حمزة إليه...

حذيفة كان أصغر أحفاد النجدي وحمزة كان أكبرهم...

ومع ظروفه الخاصة التي اضطرته للسفر طوال هذه السنوات فقد كانت علاقته بحذيفة شديدة الهشاشة...

لهذا كان عجب حذيفة كبيراً من زيارته هذه...

لكنه ابتلع دهشته ليرحب به ويدعوه للدخول...

جلس حمزة جواره مربتاً علي ركبته وهو يسأله بود ظاهر:

_كيف حالك ؟!!

أومأ حذيفة برأسه في إجابة لسؤاله...ثم التفت إليه يسأله بحذر:

_هل أرسلك جدي؟!!

ابتسم حمزة وهو يقول بمرحه الحنون:

_كل هذه السنوات مع قاسم النجدي ولم تفهمه يا حذيفة؟!!!جدك وإن كان يحترق قلقاً عليك فلن يبادر بإعادتك إلي العائلة ...علي الأقل الآن.

عاد حذيفة يومئ برأسه موافقاً...

ثم سأله بسخرية مريرة:

_هل جئتَ تعاتبني علي ما فعلت؟!!

نظر إليه حمزة للحظات...

ثم قال باحترام حقيقي:

_بل جئتُ أقابل حذيفة...الذي تركته طفلاً علي أعتاب المراهقة وعدتُ لأجده صار رجلاً حقيقياً يعرف كيف يتخذ قراراً ويدافع عنه.

اتسعت ابتسامته الساخرة وهو يقول بمرارة:

_ويخسر كل شئٍ في النهاية!!!!

هز حمزة رأسه نافياً وهو يقول بثقة:

_من تحدث عن النهاية الآن؟!!!..أنت لازلت في البداية يا أخي.

أطرق حذيفة برأسه فأردف حمزة بنفس النبرة الواثقة:

_لا تخبرني أنك لا تملك خطة للغد...وأن قرارك كان مجرد خطوة طائشة بلا تفكير.

تنهد حذيفة بحرارة ثم قال بعد لحظات:

_أنا لا أملك شهادة ولا خبرة في أي شئ...سوي مهارتي في مجال الحاسب الآلي...أحد أصدقائي يمتلك مركزاً لعلوم الحاسبات...أفكر أن أعمل معه.

صمت حمزة لحظاتٍ يعقل كلامه...

ثم قال له بحزم:

_لا...أنت ستعمل معي أنا...أنا أملك مالي الخاص بعيداً عن جدي...سنستأجر شقة صغيرة نفتتح فيها مركزاً كهذا ويمكنك الاستعانة بخبرة صديقك...أنا شريكٌ بمالي وأنت بالفكرة والمجهود...

التمعت عينا حذيفة بحماس وهو يجد حلاً سريعاً لمشكلته...

لكن حمزة لوح بسبابته في وجهه قائلاً بلهجة عملية:

_هل تعلم من أين جئتُ؟!!هل سمعت شيئاً عن "الحساب الانجليزيّ"؟!!

ابتسم حذيفة بإدراك فيما أردف حمزة بنفس اللهجة العملية:

_لا حسابات لقرابة أو معزة...هو مشروع أستثمر فيه مالي بهدف الربح...وليس لمساعدتك لو كنت تتصور هذا...ادرس الأمر بدقة...وامنحني تفاصيل مقنعة...حتي نبدأ في أقرب وقت...

اتسعت ابتسامة حذيفة وهو يرمقه بامتنان...

فقام حمزة من مكانه ليقول له بلهجة أكثر رفقاً:

_أنا أثق بك يا حذيفة...وأوقن من قدرتك علي البدء من جديد لتصنع نفسك كما ترجو أنت  لا كما يرجو قاسم النجدي.

قام حذيفة بدوره ليقف قبالته وهو يهز رأسه ...

فربت حمزة علي كتفه وهو يقول بثقة:

_أحياناً يوهمنا القدر بنهاية ...لندرك بعدها أنها كانت البداية...بل..أفضل بداية..!!!!

==============

_أنا أتفاءل بك!!

هتفت بها مارية بمرحها المميز أمام حمزة الذي كان يزورها في عملها الجديد بالمشفي مع زياد...

فابتسم حمزة بحنان لتردف هي بانطلاق مرح:

_منذ عدتَ إلي حياتي وكل الأبواب الموصدة تتفتح أمامي واحداً تلو الآخر...وها أنذا أجد عملاً مع زياد هنا...

مط شفتيه في استياء غاب عنها وهي تكمل حديثها المندفع:

_زياد يمكنه أن يجد لك عملاً معنا هنا...المشفي هنا ممتاز ....وستكون فرصة رائعة لنعود للعمل معاً من جديد...

زفر زفرة قصيرة وهو يشيح بوجهه...

فغمغمت بارتباك:

_ما الأمر يا حمزة؟!! ألا تريد العمل هنا؟!! تريد أن تكون لك عيادتك الخاصة؟!!!

نظر إليها طويلاً وعيناه تحملان عتاباً لا تفهمه...

فاقتربت منه خطوة وهي تهمس بعاطفتها التي تعرف دوماً طريقها لقلبه:

_حمزة...ماذا بك؟!!

ظلت عيناه علي غيومهما الداكنة...

فعضت علي شفتيها وهي تهمس كأنها طفلة مذنبة:

_حمزة...أنت غاضبٌ مني؟!!!

ابتسم رغماً عنه وهو يشيح بوجهه عنها للحظة...

ثم عاد يلتفت إليها وهو يهز رأسه قائلاً:

_هل تعلمين كم مرة قلتِ "حمزة" بلهجتكِ المهلكة هذه منذ بدأنا الحوار؟!!! كيف يمكن أن أغضب منكِ وأنتِ ترددينها هكذا فتذيب قلبي بعذوبتها...؟!!!

ابتسمت وهي تميل رأسها بدلال متحاشية النظر إليه...

لكنه أردف بضيق حقيقي:

_لكنني لا أستسيغ بقاءكِ هكذا في بيت واحد مع ابن عمك هذا...خاصة أنك تقولين أنه يريد الزواج منكِ...والآن تعملين معه أيضاً؟!!!

استعادت قوتها الأصيلة وهي ترفع كفها أمامها لتعد علي أصابعها قائلة بوضوح:

_أولاً...زياد لا يريد الزواج مني...عمي هو من يريد وزياد لا يوافقه...ثانياً...لا مكان لي هنا للإقامة فيه سوي بيت عمي إلا إذا كنت تفضل أن أقيم وحدي...ثالثاً...عملي معه هنا فرصة لا تعوض بالنسبة إليّ حتي لا أنسي ما تعلمته ولن أضيعها لأوهام في عقلك...

ثم صمتت لحظة لتردف بعتاب قوي:

_رابعاً...من المفترض أنك أنت بالذات تعرف أخلاقي وليست محل شكٍ هنا...

انعقد حاجباه بضيق وهو يقول بحزم:

_ليس شكاً يا مارية...

التقطت فيوض عاطفته الهادرة بعينيه الآن ...

والتي جرفتها في تيارها لتبتسم من جديد وهي تهمس بدلالٍ ساحر:

_إذن...تغار يا...حمزة؟!!!

ضغطت علي حروف اسمه متعمدةً بغنج ...

فعاد يبتسم وهو يحاول التشاغل عن فتنتها بالمرئيات حوله...

ليعود بعدها هامساً أمام عينيها بحنانه المشبع بعشقه:

_وعلي من أغار سوي علي ماريتي...؟!!!التي تأسرني براءتها...وتهلكني فتنتها...ويبهرني عقلها...

ضحكت ضحكة آسرة طويلة...

ثم هزت كتفيها وهي تلوح بسبابتها هاتفة بصرامة مصطنعة:

_الزم حدودك دكتور حمزة...وقوفك معي هكذا سيثير الأقاويل ويبعد الخاطبين!!!

ضحك بدوره وهو يشبك كفيه خلف ظهره قبل أن يقترب برأسه قليلاً وهو يقول بحزم حنون:

_أيّ خاطبين؟!!! أنتِ صرتِ لي منذ زمنٍ يا ماريتي...هل تنكرين؟!!!

عادت تهز كتفيها وهي تهرب من عينيه لتقول بدلال:

_لم أمنحك كلمتي بعد...!!!

اعتقل نظراتها جبرياً بقوة عاطفته وهو يهمس بسيطرة رجوليّة:

_لم تمنحيني كلمتك...إنما منحتِني قلبك!!!

ظلت أسيرة عاطفته الهوجاء بعينيه للحظات...

ثم أومأت برأسها في خجل وهي تقول لتغير الموضوع:

_ماذا فعلت بشأن ابنة عمك؟!!!

كاد يجيب سؤالها عندما سمع صوتاً خلفه :

_كيف حالك يا مارية؟!!

التفت بحدة نحو مصدر الصوت ...عندما هتفت مارية بمرح لا يخلو من ارتباك:

_أهلا زياد...دكتور حمزة ....كان ...زميلي في لندن وهو صديق لوالدي...

اتسعت عينا زياد في إدراك وهو ينتبه لهوية حمزة...

لاريب أنه الخاطب الذي جعل والدته تستدعيه من سفره بجزع...

وكم يحمد له هذا !!!!


لهذا ابتسم وهو يصافحه قائلاً بمودة:

_أنا زياد ...ابن عم مارية ...لو كانت لم تخبرك عني...

هز حمزة رأسه بتهذيب وقد أذابت مودة زياد تحفظه السابق نحوه...

ليقول بأدب:

_حمزة النجدي...

اتسعت عينا زياد للحظة وهو ينتبه للقب عائلته...

ثم سأله باهتمام:

_هل أنت من عائلة النجدي التي تقيم هنا في (........)؟!!!!

قالها وهو يذكر له عنوان منزل قاسم النجدي الذي ذهبت إليه مارية من قبل لزيارة جوري....

فأومأ حمزة برأسه إيجاباً...

عندما انتبهت مارية للاسم والعنوان فاتسعت عيناها بصدمة ...

وهي تتلقي الرجاء الخفيّ في عيني زياد...

والذي لم ينتبه إليه حمزة -لحسن الحظ-فسألت حمزة بتماسك أجادت ادعاءه:

_هل تعرف جويرية النجدي؟!!!


ابتسم حمزة وهو يرفع حاجبيه قائلاً بدهشة:

_جوري ابنة عمي...هل تعرفينها؟!!!

تجاهلت مارية النظر لزياد حتي لا تثير شكوك حمزة...

ثم قالت بابتسامة شاحبة:

_الدنيا ضيقة كما يقولون...أنا أعرفها منذ كانت تفتح المكتبة ....

أومأ حمزة برأسه...

فاختلست مارية نظرة لزياد الذي كان يتوسلها بعينيه أن تسأله عنها...

فعادت تسأل حمزة بحذر:

_هل استعادت قدرتها علي النطق....لقد زرتها مرة في بيتها...وكانت....

تلعثمت في عبارتها الأخيرة...

فابتسم حمزة وهو يهز رأسه بعدم تصديق مغمغماً:

_أنتِ زرتِ منزلنا أيضاً؟!!!

اغتصبت ابتسامة باردة وهي تومئ برأسها...

فتنهد حمزة قائلاً بشرود وهو يسترجع مشكلة جوري:

_نعم...استعادت قدرتها علي النطق بفضل الله...

اتسعت ابتسامة مارية وهي تري بعض الرضا الممتزج باللهفة علي ملامح زياد...

ثم عادت تسأل حمزة باهتمام:

_وهل هي سعيدة مع زوجها؟!!!

أطرق حمزة برأسه للحظات...

ثم رفعه إليها ليقول باقتضاب:

_طلقها!!

اتسعت عينا مارية بصدمة...

بينما ظهر بريق الأمل مشعاً في عيني زياد الذي جعلته كلمة حمزة "اليتيمة" يبدو وكأنه بُعث بعد عدم!!!!

لقد أعاد القدر له جوريته كما كان يتوقع...

زوجها -البغيض-لم يقدر علي احتوائها كما كان يظن...

لكن...ما الذي حلّ بها؟!!!

مارية تسأل حمزة إن كانت استعادت قدرتها علي النطق!!!

متي وكيف فقدتها؟!!!

ولماذا لم تخبره مارية عن هذا؟!!!

هي أخبرته أنها بخير وسعيدة مع زوجها...

ولهذا استجاب لنداء عقله وسافر ...

لو كان قد علم بمُصابها ما كان قد رحل أبداً!!!!


اتسعت عيناه بصدمة وهو يتساءل في نفسه...

ما الذي جعل جوري تفقد النطق؟!!!

أتراهم أجبروها علي هذه الزيجة؟!!!

نعم...هذا هو التفسير المنطقي الوحيد...

هم غصبوها قهراً علي هذه الزيجة فلم تحتمل ألمها وفقدت النطق...

والآن استعادته عندما طلقها ابن عمها هذا!!!!

وهذا يعني أنها ....

معقول؟!!!

لازالت ...تحبه ؟!!!


ابتسم تلقائياً وهو يصل لهذا الإدراك الأخير...

مع هذه الشعلة من الأمل التي اخترقت ظلمات روحه ...

تعده بغدٍ تعوض حلاوته مرارة الأمس...

وتعيد له ما سرقه الحزن من عمره دونها...

وتلون أحلامه التي بهتت بعدها بلونها الزاهي المثير ...

لون الجوري!!!!


======

_سأعود يا جوري!

هتف بها عمار علي الهاتف بحزم ثم أردف ببعض الرفق:

_ليس فقط لأنني افتقدتك....لكن لأكون جوار جدي في هذه الأزمة...بعد تطورات قصة آسيا الأخيرة....

همست جوري بعاطفتها الجياشة:

_ربما بعد حلّ مشكلة آسيا يكون الوقت مناسباً لتفاتحه بشأننا من جديد...أو ...فلنفعلها معاً...دعنا نذهب إليه سوياً حتي يتأكد من أنها رغبتي أنا الأخري...

زفر عمار زفرة قصيرة ثم قال بضيق:

_ومنذ متي يكترث جدي لرغباتك؟!!! ابتعدي عن هذا الأمر حتي لا تصيبك لعنات سخطه...أنا سأتحمل وحدي تبعات الأمر...

صمتت للحظات قبل أن تهمس برقتها الفطرية:

_هل تعرف كيف أشعر الآن؟!!!

كان دوره هو ليصمت الآن صمتاً يخفي طوفان عاطفته واشتياقه...

لتردف هي بنبرة ذائبة:

_أشعر أنني محميّةٌ بك...هل تدرك قيمة هذا الشعور لمن عاشت عمرها كله تفتقده؟!!!

تنهد في حرارة دون رد...

فأكملت بنفس النبرة:

_أرجوك يا عمار...بحق كل اللحظات الرائعة التي جمعتنا...لا تجعلني أفقد شعوري هذا ..كُن دوماً أماني وسندي...عِدني ألا أخافك من جديد...

ازدرد ريقه ببطء وهمسها يخترق روحه باكتساح...

كم يود الآن لو يكون معها فيخفيها بين ذراعيه يسقيها عاطفته مشبعة بأمانها الذي ترجوه ...

قطرة قطرة حتي ترتوي...

كم يود لو يستقر بها علي شاطئ الحقيقة بلا أسرار ولا خفايا ولا ظنون....

بدلاً من أمواج الشك والحيرة التي تتلقفهما معاً ...

كم يتمني لو يبدأ معها كتابة قصتهما الحقيقية بسطور واضحة ...

ويمزق كل صفح الماضي التي تلطخت كلماتها بدموع الحزن والندم!!!!


طال صمته الصاخب فهمست باسمه مترقبة...

ليسألها هو بمزيج من الحزن والألم:


_لازلتِ تخافينني يا جوري؟!!

أغمضت عينيها بقوة وهي تهمس بصدق:

_أنت اختزلت خوف العالم وأمانه في عينيك وحدك...لم أعد أخشي سواك ...ولا أجد أماني إلا عندك...فماذا عساني فاعلةٌ معك سوي أن أستجير بك ...منك...؟!!!

عاد يتنهد من جديد وهو يكاد يستحلفها أن تحكي له الحقيقة...

هذا فقط هو ما يطلبه...

يريد أن يعرف تفاصيل هذا الأمر الذي يقتله ببطء...

كيف يمكنه تجاوز الماضي ونسيان كونها كانت ستهرب مع رجلٍ غيره لا يعرفه...؟!!!

رجلٍ سمعه يدللها باسمها علي هاتفها ويستعجلها في الحضور لأنه ينتظرها...!!!

رجلٍ كانت ستمنحه طواعيةً ما أخذه هو منها اغتصاباً...

ودفع ثمنه بعدها غالياً؟!!!!!

كيف ينسي كل هذا؟!!!

بل...كيف يتناساه؟!!!!

لكنه مع هذا سيصبر حتي يعود...

سيعرف كيف ينتزع منها اعترافاتها كلها علي صدره...

سيذيبها عشقاً بين ذراعيه حتي يبوح قلبها بكل أسراره...

سيطوقها بغلالةٍ رائقةٍ من عشقه الدافئ تقيها برد خوفها الذي يخنقها...

ويخنقه معها!!!!

لهذا تسرب همسه المشتعل يحمل إليها كل مشاعره الثائرة:

_انتظري حتي أعود يا جوري...لدينا الكثير لنتحدث عنه...

ابتسمت وهي تهمس بدلال :

_عندما تراني تنسي لغة الكلام كله ولا تذكر سوي لغة عاطفتك...

ضحك ضحكة قصيرة ثم همس بلهجة مسيطرة:

_بأي لغة....وبكل لغة....سأصل للحقيقة معك يا جوريتي....

ارتجف جسدها رغماً عنها وهي تشعر بالخوف يتملكها من جديد...

خاصةً مع توجسها من رد فعله عندما يعلم عن كذبتها بخصوص حملها...

لهذا ضغطت علي شفتيها بقوة ثم همست بحرارة:

_لا أريدك أن تصدق سوي حقيقة واحدة...جوريتك لك وحدك يا عمار...وستبقي لك أبداً...

زفر زفرة قصيرة ثم همس بخفوت:

_تصبحين علي خير...


أغلقت معه الاتصال وهي تشعر بانقباض قلبها...

لن تصفو سماؤها معه من الغيوم حتي تصارحه بكل شئ...

هو لن يرضي بأقل من هذا...

لكنها لا تستطيع...

حتي لو تفهّم هو كذبتها بخصوص حملها وأنها فعلتها فقط لتستبقيه معها...

لن يتفهم موضوع زياد أبداً!!!!

سيبقي حجر عثرةٍ بينهما كما يبدو!!!!


قطعت أفكارها عندما سمعت صوت طرقاتٍ خافتة علي باب غرفتها...

فتحت الباب لتجد فريدة تخبرها أن حمزة ينتظرها بالخارج...


ارتدت حجابها بسرعة وخرجت إليه ...

فالتفت لفريدة هاتفاً بمرحه الحنون:

_كوب الشاي بالقرفة المميز من يديكِ يا عمتي...لم أنسَه بعد كل هذه السنوات من الغربة...

ابتسمت فريدة وهي تقول بحنانها المعهود:

_لازلتَ تذكر يا حمزة..؟!!! كانت أياماً جميلة يا ابني...

اتسعت ابتسامة حمزة وهو يقول بصوتٍ يكسوه الحنين:

_لم أنسَ شيئاً يا عمتي...خاصةً حنانك أنتِ...لقد كنتِ أمي بعد أمي...

هزت فريدة رأسها وهي تغمغم بخفوت:

_رحمها الله يا ابني....يعلم الله مكانتك عندي كيف هي...


قالتها وهي تربت علي كتفه بحنان قبل أن تذهب للمطبخ لتعد له مشروبه -المميز-

فالتفت نحو جويرية يسألها برفق:

_كيف حال جوريتنا؟!! إلامَ وصلتِ مع عمار؟!!!

ابتسمت جويرية في امتنان وهي تقول بخجل:

_سيحدث جدي عندما يعود...

أومأ حمزة برأسه في رضا...ثم سألها بحذر:

_أنتِ راضيةٌ بعمار يا جوري؟!!! لو عدتِ إليه هذه المرة فلن يكون لكِ فرصة أخري بالخلاص...فتأكدي من رغبتك قبل أن يفتح هو الموضوع مع جدي ثانية...

اتسعت ابتسامتها وهي تقول بيقين وصله صادقاً:

_لا تقلق يا حمزة...عمار هو أفضل من يناسبني...أنا أثق بهذا...الآن أثق به تماماً...


ابتسم حمزة بحنان وهو يري سعادتها وعاطفتها في عينيها...

ثم تذكر شيئاً فسألها باهتمام:

_هل تعرفين طبيبة تدعي مارية...؟!! شقراء هي ...وابن عمها طبيب يبدو أنه يعرف عائلتنا جيداً لأنه ذكر لي عنوان منزلنا...

ثم ذكر لها الموقف الذي حدث مع زياد ومارية اليوم بتفاصيله....

فاتسعت عينا جويرية بصدمة وهي تهمس بجزع:

_زياد عاد؟!!!

عقد حمزة حاجبيه بشك وهو يقول بارتياب:

_يبدو أنكِ تعرفينه جيداً...

ازدردت ريقها بتوتر وهي تحاول التظاهر بالتماسك لتقول كاذبة وبابتسامة مصطنعة:

_كان زبوناً مميزاً للمكتبة....طالما اشتري مني الكتب...ومارية كذلك...

أومأ حمزة برأسه وهو يشعر أنها تخفي أكثر مما باحت به...

بينما استجمعت هي كل قوتها لتسأله بثبات:

_من أين تعرفهما؟!!!

ابتسم وهو يلوح بسبابته قائلاً بمرح:

_هذا هو سريّ معك...لا تخبري به أحداً...

ثم صمت لحظة ليردف بعدها:

_سأتقدم لخطبة مارية عندما تتجاوز العائلة ظروفها الحالية....

شهقت مارية بجزع فانعقد حاجباه بشدة وشكّه يزداد...

لتتمتم هي بعدها بفتور:

_مبارك يا حمزة...مارية فتاة مميزة حقاً!!!

تأمل ملامحها بتفحص ثم قال بحذر:

_جوري...هل تخفين شيئاً؟!!!

هزت رأسها نفياً بسرعة وهي تتمتم بارتباك:

_لا لا أبداً...لماذا تظن هذا؟!!!


أطرق برأسه للحظات..

ثم عاد يرفعه إليها قائلاً بحزم لا يخلو من حنان:

_لن أضغط عليكِ للبوح بما لا تريدينه...لكن تذكرّي فقط أنني سأساعدكِ دوماً بكل ما أملك متي ترغبين...

هربت بعينيها من عينيه وهي تطرق برأسها مبهوتة...

عندما عادت فريدة بكوب الشاي لتدخل مع حمزة في حوار مرح طويل غابت عنه جوري تماماً مع فيض أفكارها المختنقة بخوفها...

لقد عاد زياد...

ومما سمعته من حمزة الآن تعرف أنه قد علم عن طلاقها....

فهل تراه يحاول الاتصال بها مرة أخري؟!!!

حتي لو لم يفعل...

لو تمت خطبة حمزة ومارية فستلتقي به حتماً...

ولو حاول التعرض لها فسيشك عمار في الأمر...

خاصةً لو تذكر أن زياد هو الطبيب الذي زارها يوماً!!!!!


دمعت عيناها بقهر وهي لا تدري كيف تتصرف الآن...

حدسها يخبرها أن زياد سيحاول معها من جديد ظناً منه أنها الآن حرّة....

فماذا عساها تفعل؟!!!!

يالله!!!!

يجب أن تتصرف بسرعة...

قبل أن يعود عمار ويلاحظ شيئاً...

ومضت الفكرة في رأسها فجأة فالتمعت عيناها بتصميم...

وهي تعتزم تنفيذها غداً...

نعم....لعلها تنقذ الأمر بسرعة...

لعلها تستطيع!!!!

====================================================================

_لقد فقدت ولدين من أبنائي بسبب ابنتيكِ يا فريدة...

هتفت بها راجية بنبرة عاتبة وهي تجلس مع فريدة في شقة الأخيرة...

فابتسمت فريدة بمرارة وهي تهمس بحزن:

_وأنا مُبتلاةٌ في ثلاثِ بناتٍ يا راجية...


هزت راجية رأسها وهي تغمغم وسط دموعها:

_قلبي يكاد ينفطر علي حذيفة وعمار....لا أصدق أنهم لن يعودا لمنزل العائلة بعد...سيفارقا حضني للأبد...

انتقلت فريدة لتجلس جوارها وهي تربت علي كتفها قائلة بصبر:

_قلبي يخبرني أن الغمّة ستنزاح قريباً...ما ضاقت إلا وفُرجت ...


كادت راجية ترد عليها عندما دخلت ساري عائدة من الخارج...

تجمدت مكانها عندما رأت العمة راجية تبكي جوار والدتها...

فهي تعلم أن الجميع يلومونها علي موقفها مع حذيفة...

خاصة راجية التي لن تسامحها لأنها كانت السبب في نبذه من العائلة...

لكنها مع هذا تقدمت نحوهما لتلقي السلام برفق...

ردت فريدة سلامها بفتور ...

بينما أشاحت راجية بوجهها دون أن ترد....

فأطرقت ساري بوجهها للحظة...

ثم عادت لغرفتها وهي تغلق الباب خلفها لتستند عليه بظهرها...

رفعت كفها أمام وجهها لتلتمع دبلته ببريقها أمام عينيها ...

لا...لم تخلعها...

ولن تفعل!!!

لو كانت امتلكت القوة لتنتزع دبلته من إصبعه هو...

فهي للأسف عاجزة عن أن تفعل المثل !!!!

حتي وهي توقن أنه لن يكون لها بعد ما حدث...


تنهدت في حرارة...

وهي تتقدم لتجلس علي مكتبها مستخرجة كشوف المحتاجين التابعة لجمعيتها...

قضت بعض الوقت تنسق مهامها وجداول زياراتها لهم حسب الحاجة....

وهي تحاول التشاغل بآلام الناس عن آلامها هي...

حتي انتهت مما تفعل فقامت لتبدل ملابسها...

تمددت علي فراشها تحاول النوم دون جدوي...

حتي خانتها عيناها بنظرة نحو خزانة ملابسها حيث أخفت دميته هناك بعدما قررت ألا تنام في حضنها كما اعتادت...

عضت علي شفتيها بقهر وهي تدير وجهها نحو الجانب الآخر بحدة...

يجب أن تتجاوز هذا الأمر...

يجب أن تتخلص من أعراض هذا الحب المريض الذي يسمم حياتها...

ستعتاد أن تنام دون دميته...

تماماً كما تحاول الاعتياد علي فراقه ...

ستحارب أشواقها إليه بكل قوتها...

ومن يدري...

ربما يأتي اليوم الذي تنتزع فيه دبلته من إصبعها دون ألم....


لقد منحها القدر فرصة للاختيار...

وهي اختارت...

وستدافع عن اختيارها للنهاية...

مهما كان الثمن!!!

=============================================================

كانت مارية جالسةً في غرفة الكشف الخاصة بها في عملها الجديد...

عندما سمعت طرقاتٍ خافتة علي الباب...

رفعت رأسها بترقب تنتظر الطارق...

أو بالأدق...الطارقة!!!

نعم...لقد كانت جويرية!!!


ارتفع حاجباها بدهشة للحظة ثم افترّ ثغرها عن ابتسامة رقيقة وهي تهتف بترحاب ظاهر:

_مرحباً يا جوري...ما هذه المفاجأة السارّة؟!!!

تقدمت جويرية منها بخطواتٍ مرتبكة وهي تغمغم بتوتر:

_مرحباً يا مارية...عفواً...لقد اضطررتُ لهذه الزيارة...لكنني لن أستطيع البقاء طويلاً حتي لا ينتبه أحد في المنزل لغيابي...

أشارت لها مارية بالجلوس وهي تتأمل ملامحها بتفحص...

وقد بدت لها هذه المرة مختلفة كثيراً عما رأتها في المرة السابقة...

ربما ازدادت ملامحها تورداً وجمالاً...

لكنها كذلك تبدو أكثر ثقةً وقوة!!

رغم أطياف الخوف التي تبدو ظلالها الرمادية علي وجهها...

خاصةً عندما أردفت جويرية بحسمٍ لا يخلو من توتر:

_أريدكِ أن تخبري زياد أن ينسي أمري تماماً....حتي لو التقاني مصادفةً في الأيام القادمة لو تمت خطبتكِ لحمزة...فلا أريده أن يتحدث إليّ ولو بكلمة...لا أريد المزيد من المشاكل...

ابتسمت مارية وهي تقول بحنان:

_ولماذا تكون علاقتكما باباً للمزيد من المشاكل؟!!! لماذا لا يكون زياد تعويض القدر عما عانيتِه أنتِ في زواجكِ السابق؟!!!

هزت جويرية رأسها وهي تهتف بانفعال:

_أنتِ لا تعلمين ظروفي...أخبريه بهذا فحسب...لا أريده أن يتعرض لي بأي صورة...

تنهدت مارية بيأس وهي تراقب انفعالها...

وشعورها بالشفقة نحوها يزداد...

هي تعرف كم أحبها زياد...

ولا يزال!!!

لقد بدا كالطفل في ليلة العيد عندما علم عن طلاقها...

بل إنه غضب من مارية واحتد عليها بحديثه عندما علم أنها أخفت عليه خبر فقدانها للنطق بعد زواجها...

ولولا سعادته بخبر طلاقها وخلاصها من زواجها -الكارثي-هذا لما سامحها بسهولة...

وهي تشعر أن حباً كحب زياد قادرٌ علي مداواة جرح جوري حتي لو أنكرت جوري نفسها هذا...


لهذا قالت مارية بعد صمت قصير :

_زياد لن يصدقني بعدما علم أنني أخفيتُ عليه خبر فقدانكِ للنطق وما حدث معكِ بعد زواجك...لهذا أقترح أن تحدثيه أنتِ بنفسك ...

ثم أردفت ببطء حذر:

_أنتِ وحدكِ من يمكنكِ إقناعه بأن يبتعد عن طريقكِ ويفقد الأمل...

كانت تقولها وهي تشعر ببعض الأمل لو تحدثت جوري مع زياد...

فربما قارب هذا بينهما...

عندما تشعر جوري بصدق عاطفته ورغبته الحقيقية في احتواء آلامها...


لكن جويرية شهقت بعنف وهي تهتف بتوتر:

_لا ...لا يمكنني الحديث معه....لن أفعلها أبداً...

ثم قامت واقفة وهي تردف بانفعال :

_أخبريه أنتِ يا مارية أرجوكِ....أنا لا....

أغمضت عينيها وهي تشعر بدوارٍ مفاجئ...

وتلاحقت أنفاسها كثيراً حتي ما عادت قادرة علي التنفس...

فقامت مارية لتتوجه نحوها وهي تهتف بجزع:

_ماذا بكِ يا جوري؟!!!

ترنحت جويرية وهي تتمسك بكتفيها تلقائياً...

قبل أن تشعر بالأرض تدور حولها بسرعة وهي تسقط مكانها...

وبعدها بدقائق...

أفاقت جويرية من إغماءتها القصيرة علي صوت مارية الحنون :

_حمداً لله علي سلامتك!!

تلفتت حولها بدهشة للوهلة الأولي...

لتجد نفسها لازالت في غرفة الكشف فغمغمت بصوت ضعيف:

_ماذا حدث؟!!!

ثم تأوهت بضعف ومارية تسحب سنّ الإبرة من ذراعها وهي تقول ببساطة:

_سآخذ منكِ عينة دم لإجراء بعض التحاليل...حتي نطمئن عليك...

هزت جويرية رأسها وهي تحاول ازدراد ريقها الجاف هامسة :

_لا داعي للقلق...هذه الحالة تنتابني غالباً عندما أتعرض لانفعال زائد...أنفاسي تتلاحق وتزداد سرعة ضربات قلبي حتي أفقد وعيي...

قالتها وهي تتذكر عندما أصابتها هذه الحالة بعد وفاة آسيا...

وليلة زفافها علي عمار...

وآخرها اليوم...

لكن ألا يُحتمل أن يكون لإغمائها اليوم سببٌ آخر؟!!!!


تألقت عيناها ببعض الأمل وهي تغمغم بلهفة:

_تحليل الحمل في الدم يكون دقيقاً حتي لو كان الحمل في أوله ....صحيح؟!!!

عقدت مارية حاجبيها وهي تتمتم باستنكار:

_حمل؟!!!! 

التفتت نحوها جويرية بانفعال وهي تقول :

_أريد اختبار حمل سريع...

عادت مارية برأسها للوراء وهي تتأملها مصدومة...

حمل؟!!!

لو كان هناك حملٌ فهذا سيزيد تعقيد الأمور...

ياإلهي...


حملها هذا قد يجعل عائلتها تعيدها قسراً لزوجها السابق...

فماذا ستكون ردة فعل زياد عندما يعلم عن هذا؟!!!

زفرت زفرة حارة...

ثم ربتت علي كف جويرية هامسة برفق:

_حسناً يا جوري...تعالي هنا غداً في نفس الميعاد...وسأخبركِ بالنتيجة....

===========

_ماذا تقول؟!!! تزوجت حفيدة قاسم النجدي؟!!!

هتف بها عمه غيث القاسم في استنكار وانطلقت همهمات غاضبة في مجلس العائلة الذي انعقد سريعاً فور عودة جسار وعمه إلي بلدتهما بعد كل هذا الغياب....

تأمل كساب وجوه الجميع بتفحص ...

رغم السخط المرتسم علي الوجوه لكنه يشعر بالارتياح..!!!

نعم...منذ علم أن غيث القاسم صار هو كبير العائلة وهو قد علم أن الأمور ستؤول للخير ...

فهو يعرف طبيعة غيث المادية جيداً...

والتي ستجعله يرحب بإنهاء العداوة بين عائلتي النجدي والقاصم في سبيل التفرغ لتجارته وأرضه بعيداً عن صراعات الدم...

لهذا كان يعرف أنه يحرز هدفاً أكيداً عندما قال بحزم:

_إغلاق صفحة الثأر هذه مصلحةٌ للعائلة وحفظٌ لأموالنا وأرواح أبنائنا .

ازدادت حدة الهمهمات المنفعلة بين مؤيدٍ ومعارض...

وجسار يقلب بصره بينهم بحذر...

حتي خبط عمه غيث بعصاه علي الأرض بقوة فانخرست الألسنة وساد الصمت فجأة....

خفق قلب جسار ترقباً وهو ينتظر كلمة عمه....

تلك الكلمة التي لا يتوقف عليها مستقبله هو وآسيا فحسب....

بل مستقبل ياسين الصغير أيضاً...

لقد انكشف المستور وعاد جسار وابنه لدائرة الضوء...

ولو عادت عجلة الثأر تدور فستحصد كل الرؤوس في طريقها ...

صغيرها وكبيرها...

لهذا تشنجت قبضته المضمومة وهو يراقب ملامح عمه المتجهمة عندما قال باستهجان:

_تهرب من بلدك وأهلك وواجبك طوال هذه الأعوام خوفاً وجبناً...ثم تعود الآن لتطلب منا أن نصم العائلة كلها بالعار ونذهب إلي قاسم النجدي طالبين الصلح؟!!!!!

كظم جسار غضبه بصعوبة...لكنه ظهر علي وجهه الذي احمر بقوة مع بروز عرق جبينه بدماء الحمية...

هو لم يهرب خوفاً ولا جبناً...

هو فعلها ليقطع هذه الحرب المتبادلة بين العائلتين والتي كان يسقط بسببها خير شباب البلدة....

فعلها ليشعر بالأمان بعيداً عن هذا الجو المحتقن بالضغينة والأحقاد...

فعلها وهو موقنٌ من صحة قراره ولو عادت به الأيام فسيفعلها من جديد...

هناك خطٌ رفيع فاصل بين الشجاعة والحماقة...

وبين الحذر والجبن...

وهو يعرف أنه كان ولايزال واقفاً علي هذا الخط لم يتجاوزه!!!

لهذا رفع رأسه وهو يقول لعمه بحزم لا يخلو من توقير:

_لقد جئتُ أطلب دعم عائلتي راجياً مصلحة الجميع...فاقضِ ما أنت قاضٍ يا عمي.

ضاقت عينا غيث القاصم وهو يتأمله بمزيج من الغضب والتفحص...

فتدخل كساب في الحوار قائلاً بذكاء:

_لو تذكر يا غيث ...أنا الأكبر سناً...وكان من المفترض أن أتولي أنا زعامة هذا المجلس مكانك.

تألقت عينا غيث بغضب وهو يلتفت نحو كساب بحدة....

فابتسم كساب في نفسه وهو يشعر بقرب نجاح خطته...

لهذا أردف بثقة:

_لكنني أثق في سداد رأيك...لهذا أرجو أن تستمع لكلمتي قبل أن تصدر حكمك.

عادت الهمهمات الساخطة من الحضور الغاضب تدوي في المجلس...

لكن غيث رفع كفه عالياً فعاد السكون بعد لحظات...

ثم خبط بعصاه علي الأرض عدة مرات متتالية قبل أن يقول ببطء:

_قل ماذا عندك!

تنهد كساب بحرارة ثم قال بحزمٍ متعقل:

_لقد تزوج جسار حفيدة النجدي وانتهي الأمر...ذهابنا إليه مجرد إرضاء بسيط للرجل بعدما حدث هذا دون علمه...هذا أهون تعويض عما حدث...وليس تقليلاً من شأن العائلة...

كز غيث علي أسنانه وهو يهتف بغيظ:

_وماذا كان الداعي لهذه الزيجة من الأساس؟!!!

كاد جسار ينفعل بالرد عليه...

لكن كساب ربت علي ركبته بقوة قبل أن يقول هو بحزم أقوي:

_أنا الذي أشرتُ عليه بهذا كي نجبر عائلة النجدي علي الصلح.

التفت إليه جسار بحدة...

لكن كساب أردف بنفس النبرة القوية:

_نعم...نحن عائلة القاصم من أجبرنا عائلة النجدي علي الصلح بهذه الزيجة...والآن يريدون منا الذهاب إليهم كترضية بسيطة لحفظ ماء وجوههم ونحن لسنا أقلّ كرماً من أن نفعلها.

ساد الصمت للحظات بعد كلمات كساب التي أصابت أهدافها...

وأطرق جسار برأسه مخفياً ابتسامة إعجابه...

العم كساب عرف كيف يلعب علي الوتر الصحيح...

لقد أرضي حمية آل القاصم وجعل الأمر يبدو لهم كما يريدون...

انتصار جديد علي عائلة النجدي!!!

وفي نفس الوقت استنفر نخوتهم ومروءتهم التي يعرفها ليجعلهم يوافقون علي الذهاب بأنفسهم للصلح..

ماكرٌ أنت أيها الكهل الطيب...!!!


بينما صمت غيثٌ لبضع دقائق مقلباً بصره بين جسار وكساب...

قبل أن يقول بحسم:

_غداً بعد صلاة العشاء أعطيك كلمتي الأخيرة.

==============================================================

عاد  جسار مع عمه كساب بسيارته بعدما أنهي مهمته في بلدته بنجاح...

صحيح أن الثمن الذي دفعه كان باهظا لكنه ليس بنادم...

نعم...عمه غيث القاصم كان هو الوحيد الذي وقف في صفهما أمام العائلة...

ليخرس جميع الألسنة المعارضة....

ومن حسن حظه أن غيث القاصم هو الذي صار كبير العائلة بعد أبيه...

لأنه -وعلي الرغم من حبه الشديد للسيطرة والتملك-يزن الأمور بعقله بعيداً عن التعصب والقبلية....


لكن ماذا عن الثمن الذي اضطر لدفعه كي يرضخ الجميع لطلب الصلح....؟!!!

الثمن كان تخليه الكامل عن إرثه من أبيه ...

ليس فقط في المال والأرض...

لكن في المكانة كذلك!!!

جسار القاصم وأولاده من بعده لن تكون لهم كلمة في مجلس العائلة....

نعم...لقد قال له عمه غيث بالحرف:

_أنت اخترت أن تكون غريباً منفياً فاقبل قدرك وقدر أولادك من بعدك!!

لكنه مع كل هذا يشعر بالرضا....

هو كان زاهداً في المال والأرض والمكانة منذ زمن...

ولا يزال...

كل ما كان يعنيه هو آسيا !!!

كيف يعيدها لعائلتها وحياتها مرفوعة الرأس محفوظة الكرامة...

كما أن هذا الصلح لن يعود بالخير علي آسيا فحسب...

لكنه سيطمئن أخيراً علي ولده ياسين...

نعم...

ستُغلق دفاتر الثأر القديمة للأبد...

وينام الجميع آمنين مطمئنين بلا خوف من غدٍ...

وهذا هو المقابل الثمين الذي يهون أمامه كل شئ!!!


وجواره كان عمه كساب يفكر في شرود...

من كان يقول أنه بعد كل هذه الأعوام...

تنتهي قصة الثأر هذه هكذا بتقدير المولي عز وجل...؟!!!!

من كان يخبره أن ابنة فريدة التي عاش مخلصاً لحبها طوال هذه السنوات ربما تكون سبباً في إعادتها إليه؟!!!

من كان يواسي قلبه الذي عاني عذاباته وحده طوال هذه السنوات بأن حصاد الصبر قد يكون أروع مما تمني؟!!!

نعم...الآن يمكنه الحلم بها من جديد...

حلماً مزيناً ببعض الأمل هذه المرة...

بعدما خنقته مخالب اليأس عمراً!!!


قُطعت أفكاره عندما وصل بدر لمدخل المزرعة...

فترجل من السيارة ليقول له بشرود:

_سأذهب إلي غرفتي ...أحتاج لأختلي بنفسي قليلاً...


قالها وهو يسرع الخطا نحو غرفته يكاد قلبه يسبقه إلي قلادتها التي احتفظ بها طوال هذه السنوات...

لتبقي شاهدة علي غرامها الذي لم تزده الأيام إلا اشتعالاً....

ويريدها اليوم أن تشهد كذلك علي فرحته بقرب تحقيق حلمه...!!!

راقب جسار انصرافه بابتسامة متفهمة وهو يدرك شعوره الآن...

عمه الذي ترك كل شئ خلفه منذ سنوات من أجل امرأة...

رغم أنه يعلم أنها تكرهه الآن ظناً منها أنه من قتل زوجها...

لكنه بقي علي عهد قلبه معها...

فياله من وفاء...

وياله من حب!!!


تنهد في حرارة وهو يدلف إلي داخل المنزل الكبير...

ولم يكد يغلق الباب خلفه حتي وجدها تندفع نحوه من غرفة الصغير لتلقي نفسها بين ذراعيه وهي تهتف بلهفة باكية:

_عدتَ يا جسار؟!!! الحمد لله...الحمد لله...


ضمها إليه بقوة وهو يشعر بارتجافها الخائف بين ذراعيه...

لتمتزج ابتسامته الحانية بعاطفته الدافئة الآن وهو يربت علي ظهرها هامساً بحنان:

_لا تخافي يا صغيرتي...جسار وفي بوعده معك....وكل شئ سيكون علي ما يرام...


ابتعدت عنه وهي تملأ عينيها من ملامحه بشغف...

لم تشعر بالخوف في حياتها كلها كما شعرت به في الساعات السابقة...

كانت تخشي عواقب عودته لعائلته بعد كل هذه السنوات...

وبعد فراره من التزامه -القهريّ-بالثأر...

وليس هذا فحسب...

لكن قصة زواجه من حفيدة غريمهم اللدود...

وطلبه -المتعنت -بأن يذهبوا إليه بأنفسهم في بيته طالبين الصلح!!!


عقلها كان يخبرها أن موافقتهم علي الأمر ستكون مستحيلة...

لكن هذا لم يكن ما يؤرقها...

بل خوفها الشديد علي جسار من بطشهم لو أرادوا به سوءاً!!!!


احتضن وجنتها برفق وهو يطفئ نيران خوفها بفيض حنانه الغامر هامساً بتأثر:

_كنتِ خائفةً إلي هذا الحد؟!!!

ربتت بكفها علي كفه المحتضن لوجنتها هامسة بلهفة:

_دعك مني وأخبرني كيف صارت الأمور معك؟!!!


زفر زفرة قصيرة...

ثم مضي يحكي لها ما حدث هناك  ...

حتي انتهي فهتفت هي بانفعال:

_هذا ظلم...يأخذون مالك وأرضك وأنت الذي تعود إليهم لتمنحهم الأمن بعد خوف كل هذه السنوات؟!!!

هز رأسه قائلاً بتعقل:

_إنهم لا يفكرون هكذا يا صغيرتي...أنا في نظرهم هاربٌ جبان ...لكن كل هذا لا يهم...ما يعنيني الآن هو سلامتكِ أنتِ وياسين...

ازدردت ريقها ببطء وهي تتعلق بعينيه هامسة:

_متي ستذهبون لجدي؟!!

أطرق برأسه قائلاً باقتضاب:

_غداً إن شاء الله...لقد هاتفتُ حمزة واتفقت معه ...


ابتعدت عنه خطوة وهي تقول بمزيج من الترقب والقلق:

_هل...ستأخذني معك؟!!

قبض أنامله بقوة وهو يرفع رأسه لأعلي للحظات...

ثم عاد ينظر إليها قائلاً بحزم:

_لا...ليس الآن...ليس قبل أن أطمئن تماماً....


ابتعدت خطوة أخري وكأنها تمهد لنفسها الفراق الذي تشعر أنه آتٍ لاريب....

وهي تتشبث بنظراته كمن يلاحق السراب في بيداء قاحلة...

نظراته التي تحمل الآن حديثاً لا تفهمه...

وما عاد يجديها أن تفعل...

لقد اقتربت النهاية كثيراً...

اقتربت بأسرع مما توقعت...!!


وأمامها كان هو يقرأ استجداءها -الملكيّ-بعينيها...

نعم..ملكيّ...!!!

نظراتها كانت تحمل حباً صادقاً لاريب فيه ...

حباً يقرع باب قلبه الموصود بقوة جبارة...

لكنها كانت تحمل مع هذا الحب هالاتٍ من قوتها -المستحدثة-تحذره من أي نظرة شفقة !!


خاصةً عندما ابتعدت خطوة لاحقة لتغتصب ابتسامة باهتة وهي تقول بتماسك:

_لم أكن أحلم أن ينتهي الأمر بهذا الكمال...غداً أعود لعائلتي وعملي ودراستي...ظننتُ أن الخروج من هذه المزرعة سيكون نهاية شعوري بالأمان ...والآن أراه بداية جديدة مزدانة بالوعود...

تعلقت عيناه بعينيها اللتين غامتا خلف سحب داكنة من دموع تناقض حديثها المدّعي...

وقدماها تختلسان خطوة خلفية جديدة...

لتردف بلهجة أقوي لكن بصوت متهدج هذه المرة:

_الآن تنطلق الفرس بجموح في طريقها بلا عوائق....


خفق قلبه بعنف وهو يشعر بخطواتها المبتعدة ...

كل خطوة تحكم وثاق قيده -الجديد-معها أكثر...

وليس العكس!!!

ليجد نفسه يتقدم نحوها ...

ليقطع كل الخطوات التي ابتعدتها بخطوة واحدة...

حتي أمسك كتفيها بقوة هامساً أمام عينيها بدفء:

_وأنا معكِ حتي تكملي الطريق!!

يتبع 


تعليقات

التنقل السريع
    close