رواية جاريه في ثياب ملكيه الفصل الرابع والعشرون والخامس والعشرون بقلم الكاتبه نرمين نحمد الله حصريه علي مدونة النجم المتوهج
رواية جاريه في ثياب ملكيه الفصل الرابع والعشرون والخامس والعشرون بقلم الكاتبه نرمين نحمد الله حصريه علي مدونة النجم المتوهج
خرجت جويرية من منزل العائلة وهي تشعر بالقلق يكاد يعتصر قلبها اعتصاراً...
لا تريد زيارة مارية في المشفي من جديد خشية أن تلتقي بزياد لكنها تريد معرفة نتيجة اختبار الحمل..
كما أن جزءاً من عقلها يرتاح لقول مارية أنه ربما كان من الأفضل أن تخبر هي زياد بنفسها عن حقيقة وضعها الجديد ...
نعم...تخبره أنها تحب زوجها وستعود إليه وأن حكايتهما القديمة قد صارت رماداً تذروه الرياح ....
استقلت سيارة أجرة لتذهب للمشفي وتوجهت نحو غرفة مارية التي التقتها فيها بالأمس...
لكنها ما كادت تطرق الباب حتي وجدته مقبلاً عليها من الرواق الجانبي وعلي وجهه ابتسامته العاشقة التي تعرفها...
نعم...زياد!!!
تجمدت مكانها مصدومة رغم أن كل ما فيها كان يرتجف!!!
هل من الممكن أن تتبدل مشاعر المرء بهذه السرعة؟!!!
هذا هو زياد الذي كانت تظن أنها تحبه بل إنها كادت تضحي بكل شئٍ لتهرب معه!!!
هذه هي ملامحه التي كانت يوماً رمزاً للعشق كما تحلم به...
فكيف الآن تراها غريبة عنها وكأنها لم تعرفه يوماً!!!
هذه هي عاطفته التي كانت تلتمع في عينيه فتشرق كالشموس في عينيها هي...
فكيف الآن تخافها وكأنها ظلمة ليلٍ حالكٍ بلا قمر ولا نجوم؟!!!
هذه هي ابتسامته التي كانت تحتوي روحها كطيّ السجلّ للكتب...
فكيف الآن تحولت لدخانٍ أسود يخنقها ببطء!!!
حقاً...ما سُمّيَ القلب قلباً إلا لكثرة تقلبه....!!!!
بينما كان زياد يقترب منها يكاد قلبه يسبق خطواته إليها...
عيناه كانتا تلتهمان تفاصيلها باشتياق كاسح ولو استجاب لجنونه الآن لطوقها بين ذراعيه وحملها بعيداً عن هنا....
لمكانٍ لا يري فيه سواها ولا تري فيه سواه!!!
حتي صار قبالتها تماماً فاشتعلت عيناه بغرامه وهو يهمس بنبرته الحانية:
_اشتقتكِ يا جوري!
أطرقت برأسها لدقيقة كاملة وهي عاجزةٌ عن الكلام...
هي التي كانت تنتوي مواجهته بمشاعرها الجديدة نحو عمار طالبةً منه أن يدعها وشأنها...
الآن تري نفسها عاجزةً حتي عن الرد!!
لكن عينيها تعلقتا بالأوراق التي يحملها والتي رفعها أمامها وهو يغالب فيض شعوره الآن ليردف بنفس الابتسامة العاشقة:
_هذه نتيجة تحاليلكِ ...كلها ممتازة.
ازدردت ريقها بتوتر وهي تهمّ بسؤاله عن أهم تحليلٍ فيها والذي سينقذها من ورطتها الآن...
تحليل الحمل!!
لكن لسانها انعقد وهي تشعر بالخجل من أن تسأله عن أمرٍ كهذا...
رفعت عينيها إليه بحذر وهي تهمس بارتباك:
_زياد...كنت أريد أن أطلب منك شيئاً...
اتسعت ابتسامته وهو يطوقها بنظراته هامساً :
_كلّي لكِ يا جوري.
ارتجف جسدها رغماً عنها وهي تحاول استجماع شجاعتها لكنها اصطدمت بنظرة غاضبة في عينيه فجأة...
فرمقته بنظرة استفهام قبل أن تدرك أنه لا ينظر إليها هي بل إلي شئٍ ما خلفها...
استدارت للخلف عفوياً لتجد أمامها أسوأ كوابيسها يتحقق...
إنه عمّار !!!!
هنا!!!!
كان خلفهما تماماً !!!!
وفي عينيه غضبٌ قد يحرق الكون كله!!!
============================================
كان واقفاً خلفهما يتابع حديثهما وهو لا يكاد يتمالك نفسه...
بعينين أدماهما الغضب والشعور الرهيب بالغدر...
كيف يمكنه وصف إحساسه الآن ؟!!!
وهو يشعر بكل خلية في جسده تزأر بصرخاتها المغدورة...
كان قد عاد اليوم من سفره ولم يخبرها كي يعد لها مفاجأة...
فإذا بها هي تعدّ له مفاجأةً أعظم بكثير من مفاجأته!
عندما لمحها تتسلل من منزل العائلة وعلي وجهها شعورٌ بالذنب لا يعرفه إلا من يحفظ ملامحها مثله!
لهذا تبعها حتي وجدها تدخل المشفي...
في البداية ظنها مريضة وسقط قلبه خوفاً...
لكنه عندما رآها تتحدث مع هذا الطبيب الذي تذكر ملامحه فوراً أدرك سبب زيارتها ...
نعم...إنه هو الطبيب "اللزج" الذي أحضره لها يوم فقدت وعيها في المنزل...
وليته لم يفعلها!!!
لاريب أنه هو الوغد الذي كانت ستهرب معه...
فقد كان ظهوره في حياتها متزامناً مع هذه الفترة التي تجرأت فيها لتصارح قاسم النجدي بعدم رغبتها في الزواج منه...
وربما...لا...ليس هو...
لكنه سيتأكد حالاً!!
اقترب منهما وعيناه مثبتتان في عيني زياد ببركانٍ أسود...
ولم يكن زياد أقل منه غضبةً وهو يشعر بحقارة هذا ال"وحش" الذي يتعقب "عصفورته" حتي بعدما تخلصت من أسرها معه...
لهذا عاجله زياد بعبارته الحانقة:
_ماذا تريد؟!!
قبض عمار علي أنامله متمالكاً غيظه لأبعد حد وهو يقول ببرود تعلم جويرية جيداً ماذا خلفه:
_ماذا أريد أنا؟!! أنت تقف مع....زوجتي!
ارتعش صوته رغماً عنه في كلمته الأخيرة فدمعت عينا جويرية وهي -وحدها- تدرك الآن شعوره...
ومعني ارتجافة صوته هذه...
وهي تتمني لو يكون كل هذا مجرد كابوس...!!!
لو تسحبه بعيداً عن هنا وتشرح له كل شئ وهي بين ذراعيه...
علي صدره...
حيث كانت تخبره دوماً أنها تجد أمانها!!!
حتي لو لم يصدقها...
حتي لو عاقبها...
بل وحتي لو قتلها كما كاد يفعل يوماً!!!!
لكنها عجزت عن فعل شئ كالعادة...
خوفها -العتيق-منه جمدها مكانها كالصنم!!!!
لكن زياد انتفض غضباً وهو يلوح بسبابته في وجهه هاتفاً بانفعال:
_كانت!!!كانت زوجتك!!أنتَ طلقتها.
أغمض عمار عينيه للحظة بألم ناقض برودة صوته وهو يسأله:
_هي أخبرتك بهذا؟!!!
ثم فتح عينيه ليردف بسخرية مريرة:
_ألم تخبرك شيئاً آخر؟!!
نظر زياد لجويرية بتساؤل لكن مظهرها -البائس -أثاره أكثر...
بجسدها الذي يرتعش خوفاً ودموعها السائلة في صمت...
فعاد يلتفت نحوه هاتفاً بحدة:
_لا داعي لهذا الحديث...أنا وجويرية متحابان...وسأتقدم لخطبتها عندما تنتهي عدتها...لو كنتَ رجلاً حقاً فاحترم رغبتها.
كانت كلماته كالنصال الحادة تهوي علي قلب عمار تطعنه بقسوة...
بينما لطمت جوري خدها ببطء وقد أُسقط في يدها فما عادت قادرة علي الرد...
خوفها من عمار...
وربما -عليه-أخرسها !!!!!
عمار الذي كانت روحه الآن تغلي علي مراجل الغيرة والغضب....
لكن هذا لم يبدُ علي ملامح وجهه التي تجمدت بقسوة وهو يتجاهل قوله ليسأله بنفس البرود:
_هل أخبرتك قبل أن تخطبها أنها تحمل طفلي؟!!
ابتسم زياد باستهزاء وهو يرفع الأوراق التي يحملها أمام وجهه قائلاً بتهكم:
_ابحث عن خدعة أخري...ها هي ذي تحاليل جويرية التي أجرتها بالأمس.
اختطف عمار التحاليل من يده بعنف ثم جرت عيناه علي السطور بسرعة لتتوقف علي الكلمة "القاتلة"!!!!
اختبار الحمل "سلبيّ" النتيجة!!!!
سلبي!!!
جوري لا تحمل طفله!!!!
جوري كانت تخدعه..
طوال هذه الفترة كانت تستغل حبه لها!!!!
كانت توهمه أنها تحبه وهي تخرج للقاء عشيقها هذا الذي تخدعه مثله!!!
هي تتلاعب بهما معاً!!!!
لم تخبر -عشيقها المغفل مثله-أنه ردها لعصمته ...!!!!!
بل واتفقت معه علي أن يخطبها بعد أن تنتهي عدتها!!!!!
أي شيطانة هذه؟!!!!!
أي شيطانة؟!!!
رمي التحاليل من يده علي الأرض بعنف وقد تحرر مارد غضبه من سجنه ليجذب زياد من معطفه الأبيض هاتفاً بجنون:
_اسمع إذن آخر كلامي...أنا رددتُها لعصمتي...هذه المرأة ستبقي زوجتي حتي يضمّ القبر أحدنا ....هل تفهم؟!!
دفعه زياد بعنف وهو يهمّ بالشجار لكن عمار ابتدره بلكمة أسقطته أرضاً قبل أن يسحب جوري -المنهارة ببكائها-من ذراعها مخترقاً بها جمع الناس الذين بدأوا في الالتفاف حولهم بعدما بدأ الشجار...
حتي وصل بها لسيارته ففتح الباب ثم دفعها للداخل بعنف مغلقاً الباب بعدها بقوة كادت تكسره...
قبل أن يستدير ليركب جوارها وينطلق بالسيارة بسرعتها القصوي غير آبهٍ بعقلٍ أو قوانين....
وهل بقي هنالك عقل أو قوانين؟!!!
وجواره كانت هي تبكي بانهيار لا تصدق كل ما حدث...
وهي تلعن غباءها الذي دفعها لهذه المخاطرة...
لماذا جاءت هنا...؟!!!!
بل لماذا غادرت بيتها من الأساس...؟!!!!
عمار لن يصدقها الآن ولو أقسمت له بأغلظ الأيمان...
لكن يشهد الله أنها لم تفعل كل هذا إلا لأجله...
لأجل أن تحافظ عليه وعلي حبهما...!!!!!
توقف بالسيارة أمام منزل العائلة فالتفتت إلي جانب وجهه المحمر غضباً تهمس وسط شهقاتها الباكية:
_اسمعني يا عمار...فقط اسمعني...وبعدها سأرضي بأي...
_اخرسي!
قاطع همسها بصرخته وهو يرفع كفه يهمّ بصفعها فانكمشت مكانها وقلبها يكاد يتوقف هلعاً...
لكن كفه تجمد مكانه ثم عاد يقبضه وهو يشيح عنها بوجهه للحظة....
قبل أن يفرغ شحنات غضبه كلها في خبطاتٍ سريعة قوية علي مقود السيارة فازداد هلعها لكنها همست برجاء مصبوغ بالخوف:
_سأخبرك بالحقيقة كلها....صدقني يا عمار أنا ذهبت هناك كي أجعله يبتعد عن طريقي...كنت أخشي غضبك لو تعرض لي يوماً...أنا لم أفعل ما يشين معه قبل زواجي منك ولا بعده.....لم ألتقِ به إلا اليوم ...كنت...
كان حديثها يصله مهزوزاً مرتعشاً وكأنه يأتيه من بئر سحيق...
لم يكن يكترث بكل هذا الهراء الذي تحكيه فهو لن يصدقها أبداً بعد اليوم...
وكيف يفعل وهي التي حرقت غابات عشقها كاملةً علي أرضه ...؟!!!
وجففت أنهاره التي ما فاضت يوماً إلا لها!!!
هي التي ركع لها قلبه آمناً مطمئناً فذبحته بسكّين بارد...
والآن تنتظر ماذا؟!!!
العفو؟!!!
هيهات يا جوريتي ...هيهات!!!
كانت لا تزال تتحدث وسط دموعها بكلامٍ بدا كالهذيان من فرط خوفها و ارتباكها...
لكنه لم يكن يستمع...
فقط التفت إليها فجأة ليلتقط نظراتها الضائعة وهو يغمغم بألمٍ ذبحها قبله:
_إلي متي سأظل أتعذب بكِ؟!!!
عاد جسدها يرتجف بدموعها وقد خانتها كلماتها العقيمة التي ما عادت تجدي هنا...
لكنه لم يمهلها أكثر فقد فتح باب السيارة ليترجل منها ...
ثم دار حولها ليفتح بابها ويجذبها من ذراعها بقسوةٍ آلمتها لكنها لم تعترض....
ثم سار بها يسحبها خلفه بسرعة حتي كادت تتعثر أكثر من مرة في سيرها...
حتي وصل بها إلي غرفة جده فطرق بابها بقوة...
هنا سقط قلب جويرية بين قدميها وهي تتوقع القادم...
عمار سيعترف لقاسم النجدي بكل شئ...
بداية من قصة هروبها الفاشل والتي كانت سبباً في ما حدث بينهما بعدها...
وانتهاءً بما رآه بعينيه في المشفي الآن!!!
وجدها لا هوادة لديه في هذه الأمور...
سيقتلها دون تفكير!!!
لكن عمار قطع أفكارها وهو يسحبها من جديد خلفه عندما سمع إذن جده بالدخول ليدلف إلي الغرفة ويقف أمام جده قائلاً بحزم:
_أنا رددتُ جويرية لعصمتي يا جدي...لن أطلقها أبداً !
ارتجف جسدها أكثر من مفاجأتها بهذا التحدي السافر من عمار لأوامر قاسم النجدي....
قاسم الذي انتفض من رقدته وهو يتطلع إليهما بغضب...
وقد أساء فهم ملامح جويرية الباكية بانهيار فهتف بحدة:
_ماذا تقول؟!!!كيف تتجرأ علي ابنة عمك هكذا؟!!
اشتعلت ملامح عمار بغيظه المكتوم وهو يقول بنبرة قاسية:
_هي زوجتي...أفعل بها ما أشاء.
نفض قاسم غطاءه وهو يتحامل علي نفسه للقيام مستنداً علي عصاه...
قبل أن يهتف بانفعال :
_هل جُننتَ يا ولد؟!!هل تتحداني وتتعدي علي حرمة ابنة سعد النجدي وهي في حمايتي؟!!
قالها وهو يرفع عصاه يكاد يهوي بها علي رأسه...
لكن جويرية وقفت بينهما لتهتف بصوتٍ عالٍ:
_أنا أيضاً أريد العودة لعمار يا جدي...هو لم يجبرني...أنا راضية...أرجوك يا جدي دعني أعود إليه.
رمقها قاسم بنظرة قاسية فعادت تهتف برجاءٍ وسط دموعها المنهمرة كالسيل:
_أرجوك يا جدي...أنا أريد عمار...أريد زوجي.
ظلت تتمتم بعبارتها الأخيرة برجاء حتي اختنق صوتها في حلقها....
فساد الصمت لحظاتٍ طويلة...
وقاسم يقلب بصره بينهما بتفحص غاضب...
قبل أن ينظر لعمار هاتفاً بصرامة:
_لن يكون عقابك أقل من عقاب أخيك الذي تجرأ وعصي أمري...سترحل من هنا وتأخذها معك مادامت هي ترغب بهذا....
ثم اقترب منه خطوة ليلوح بسبابته في وجهه هاتفاً بصرامةٍ أقوي:
_لكن لو علمت أنك مسستَها بسوء...فسيكون حسابك أقسي مما تتوقع.
أطرق عمار برأسه دون رد...
فهتف قاسم بثورة عارمة مصدراً قراره الأخير:
_هيا....اغربا عن وجهي أنتما الاثنين...لا أريد أن أراكما هنا في بيت العائلة بعد.
========================================================
صعدت معه درج المنزل القديم لبيت والدته وقلبها يكاد يتوقف رعباً...
هو لا يحدثها بكلمة منذ تركا منزل العائلة...
وبرغم رجاءاتها وتوسلاتها له طوال الطريق أن يسمعها لكنه لم يلتفت إليها حتي!!!!
ملامحه متيبسة بقسوة خشنة وكأنها لم تكن محلاةً بعشقها يوماً...
فتح باب الشقة بعنف قبل أن يدفعها للداخل بقسوة هاتفاً :
_ادخلي!
تأوهت بضعف عندما أغلق الباب خلفه ليتقدم نحوها فتراجعت بظهرها تلقائياً لكنه أدركها ليمسك ذراعها هاتفاً بحدة:
_إياكِ أن تظني أنني فعلت هذا رغبةً فيكِ ...أنا لن أقربكِ بعد ...حتي لو كنتِ آخر امرأة في الدنيا.
انهمرت دموعها كالسيل لكنه لم يكترث وهو يهز جسدها بعنف مردفاً:
_أنا فعلتُ هذا لأحتوي عار عائلة النجدي...نعم...أنتِ لستِ سوي مجرد عار علي هذه العائلة...شيطانة يجب أن تُسلسل بالقيود حتي نأمن شرها.
ارتجف جسدها لا تدري خوفاً أم تأثراً بإهانته...
وهو يردف بنفس اللهجة المخيفة:
_ستبقين هنا مجرد خادمةٍ لي ولأخي في هذه الشقة...وإياكِ أن يعلم أحدٌ عما بيننا وإلا أذقتكِ عذاباً لم تتخيليه في أسوأ كوابيسك.
قالها ثم دفعها بقسوة لتسقط تحت قدميه ...
ظلت تنظر إليه وهي مكانها علي الأرض مصدومة وشريط حياتها كله يمر أمام عينيها ببطء...
مغلفاً بشريط أحمر من شعورها بالقهر والظلم....
لا...!!!
لن تستسلم هذه المرة....
لن تعود للخنوع والضعف...
لو كانت آسيا قد فعلتها وتحررت من قيدها...
وكذلك فعلتها ساري بعدها...
فهي أولي بكسر قيدها القديم مع هذا الرجل....!!!
لهذا قامت من سقطتها لتقف أمامه مواجهةً له بقوة عينيها العاصفتين وهي تصرخ بانفعال:
_ستسمعني يا عمار...ولو كان هذا آخر ما أفعله في حياتي.
قالتها وعيناها تقعان علي سكين المائدة فتناولتها بسرعة لتضعها علي رقبتها وهي لازالت تصرخ بجنون:
_هل تذكر يوم وضعتَها أنت علي عنقي ؟!! الآن أضعها أنا لو كان هذا هو القرار الوحيد الذي يمكنني أخذه في مصيري بعدما حرمتموني جميعاً هذا الحق...
عقد حاجبيه بشدة وصراخها الهائج يكاد يصمّ أذنيه:
_علامَ تلوم جاريتك الآن أيها السيد؟!! علي رغبتي السابقة في الهروب من سجنكم؟!! نعم...فعلتها...وأتحدي أي امرأة مكاني ألا تفعلها...ماذا كنتَ أنتَ لي قبل زواجنا؟!! عاشقاً متيماً؟!!! ماذا فعلتَ لتشعرني بحبك؟!! كنتَ تعاملني أسوأ معاملة وتنتظر مجرد ورقة زواج لتمتلك بها كل شئ...ولولا ظروف مرضي لما كنتُ علمت عن مشاعرك شيئاً...ووسط كل هذا ...يضع القدر في طريقي رجلاً هو عكس كل ما كان يبدو لي منك...رجلاً يعرف كيف يعاملني باحترام ...يسمعني الحديث الذي لم أسمعه يوماً...ويمنحني العاطفة والحنان الذي حُرمت منه طوال عمري...ويعرض عليّ الزواج كأنني أميرة...فهل تُلام الجارية لو أحبت من جعلها أميرة؟!!!
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يكز علي أسنانه مراقباً ارتجاج جسدها بانفعالها الهستيري...
ورغم خوفه أن تؤذي نفسها وقد بدا عليها أنها خرجت عن حدود سيطرتها علي انفعالاتها...
لكنه تجمد مكانه عاجزاً عن فعل شئٍ سوي الاستماع لصراخها الذي بدا حاراً صادقاً لأبعد حد:
_ومع هذا أقسم لك أنني لم أحبه...أنا لم أحب رجلاً سواك...لهذا كدتُ أجنّ عندما طلقتني و رفضتَ أن تردني لعصمتك مستمعاً لرغبة جدي ولصوت غرورك...نعم...كذبتُ عليك وادعيتُ أنني أحمل طفلك...فقط لتبقي معي....كنتُ علي استعدادٍ لفعل أي شئ حتي لا أخسر حبك الذي أنار حياتي من جديد...لكنني كنتُ لا أزال أخشي غضبك...غضبك المجنون الذي يجرف في تياره كل شئ...لهذا أخفيتُ عنك الحقيقة التي كنتَ تصر علي معرفتها...
كان نصل السكين يرتعش الآن علي رقبتها وقد جرحها بالفعل...
لكنها لم تشعر به وهي تكمل صراخها -المقهور- بالحقيقة :
_لكن القدر عاجلني بضربة لم أتوقعها...وظهر هو في الصورة من جديد رغماً عني...حمزة سيخطب ابنة عمه وقد عرفت هذا بالمصادفة...خشيتُ غضبك وسوء فهمك لو تعرض هو لي بالمصادفة... فذهبت لخطيبة حمزة كي تقنعه بالابتعاد عن طريقي وهناك انتابتني اغماءتي المعتادة فتطوعت لإجراء تحاليل لي...كان من الممكن أن ينتهي الأمر ها هنا....لكن لهفتي لطفلٍ منك يربطني بك أكثر جعلتني أذهب إلي المشفي ثانيةً لأتبين نتيجة اختبار الحمل فيقودك سوء حظي إليّ لتراني هناك معه...
أشاح بوجهه عن مظهرها البائس بدموعها المنهمرة وسط صراخها...
وخيط الدم الرفيع الذي يسيل علي رقبتها...
وهو لا يدري ماذا يفعل...
قلبه يخبره أنها صادقة...
هذا ليس حديث امرأة كاذبة أو مدعية...!!!!
لكن عقله يذكره بتاريخها -الأسود-معه ...
فتتقاذفه دواماتٌ من الحيرة وهو عالقٌ بينها كالغريق!!!!
بينما كانت هي قد وصلت لذروة إنهاكها وتقطع صوتها وسط لهاثها وهي تردف بانهيار:
_أنا اخترتك لأول مرة في حياتي عندما تملكتُ حق الاختيار...اخترتك وزياد أمامي وجدي يقف في صفي ضدك...اخترتك لأنني أحببتك حقاً وليس سعياً خلف أحلام مراهقة محرومة...
التفت نحوها ببطء أخيراً بنظراتٍ مفعمة بمشاعر بلا حدود....
ثم تقدم نحوها بحذر وعيناه معلقتان بيدها التي تهتز علي السكين...
قبل أن يرفع كفه ليتناوله منها ويلقيه بعيداً...
بينما أغمضت هي عينيها باستسلام تام وكأن نزيف كلماتها السابق قد استنزف روحها كلها...
مستجيبةً لذراعيه اللذين أمسكا ذراعيها وهو يجلسها علي الكرسي قبل أن يغيب بضع دقائق بالداخل ثم يعود بقطعة قطنٍ طهرها ببعض العطر...
جثا علي ركبتيه أمامها ليضعها علي جرح رقبتها مانعاً نزيف الدم...
لكنها بدت غائبة عن إدراكها لكل هذا وهي مغمضةٌ عينيها باستسلام علي عكس جسدها الذي كان ينتفض انفعالاً....
بقيا علي هذا الوضع لدقائق...
وهو يشعر بأنه عاجزٌ عن اتخاذ قرار...
تصرفها الأخير نسف كل جبال غضبه...
لكنه لم يمحُ حطامها من قلبه بعد!!!!
حتي لو كان يصدقها...
هما يحتاجان لكثير من الوقت لترميم هذه العلاقة ...
أو بالأدق...
بنائها من جديد!!!!
بلا خفايا ولا أسرار...
ولا قيود ولا إجبار...
ولا صكوك ملكية تسلم الجارية لسيدها...
بل عهود عشقٍ يكتبها القلب راضياً بدقاته ....
ازدرد ريقه ببطء ثم ربت علي وجنتها برفق ففتحت عينيها ببطء ترمقه بنظرة طويلة قبل أن تهمس بصوت ضعيف متقطع:
_لم أعد جاريةً آبقةً من سيدها تنتظر العقاب...الآن أنا امرأة حرة اختارتك حبيباً وزوجاً...فهل تقبلني؟!
خفق قلبه بجنون وهو يستشعر صدقها بوضوح الشمس دون جدال....
فأغمض عينيه للحظة قبل أن يندفع ليضمها إليه بقوة معتصراً جسدها بين ذراعيه لا يدري غضباً أم عشقاً....
ثم همس بخشونته المعهودة:
_ستتعبين كثيراً كي تثبتي لي صدق حبكِ هذا.
رفعت رأسها إليه لتبتسم بشحوب وعيناها تحتضنان عينيه اللتين فاضتا بحنان يناقض خشونة ألفاظه...
ثم همست أمام عينيه بحرارةٍ أذابت أحجار شكوكه كاملة:
_لن تتعب جوريتك مادمتَ معها!
=======================================
كان اليوم استثنائياً في بيت آل النجدي...
بعدما تجمع كبار رجال عائلة القاصم ليتفقوا علي الصلح...
كان المجلس يتضمن كبار العائلتين بقيادة غيث وقاسم...
مع جسار وحمزة وياسين...وحذيفة وعمار اللذان حضرا كظرف -استثنائي-بعيداً عن قرار نبذهما الأخير من
جلس قاسم النجدي جوار غيث القاصم وكلاهما يتفحص الآخر بتوقير لا يخلو من حذر...
قبل أن يقول قاسم النجدي بلهجته الحازمة:
_لقد أنبأني ولدكم جسار أنكم جئتم تطلبون الصلح.
تبادل آل القاصم نظراتٍ مشتعلة بالغيظ المكتوم...
لكن غيث القاصم أخرس الجميع بنظرته التحذيرية قبل أن يلتفت لقاسم قائلاً بجمود:
_لم يعد هناك داعٍ للعداوة بعد زواج ابننا من ابنتكم.
صمت قاسم للحظات قبل أن يهز رأسه موافقاً...
ثم دعا الجميع لقراءة الفاتحة كما اتفق...
لكن كساب هتف بصوته القوي:
_قبل قراءة الفاتحة....لي لديك مطلبٌ يا سيد قاسم...فلا تخيب رجائي.
ساد الصمت المضطرب بين الحضور وتبادلوا نظرات القلق...
لكن قاسم تأمل كساب بنظراتٍ خالية تماماً من الود وهو يشير له برأسه أن يكمل حديثه...
فصمت كساب للحظة قبل أن يفجر قنبلته القادمة:
_أنا أطلب السيدة فريدة أرملة سعد النجدي للزواج.
انطلقت همهمات عالية وسط الحضور علي إثر مفاجأته التي لم يتوقعها أحد...
والتي -ربما-ستقلب المائدة علي رؤوس الجميع...
خاصةً عندما اشتعلت ملامح قاسم واحمر وجهه غضباً قبل أن يهتف بحدة:
_ماذا تقول؟!!! هل تريدني أن أمنح زوجة ابني لقاتله؟!!
انطلقت صيحات الاستنكار من الجميع...
آل القاصم الذين كانوا ينكرون مسئوليتهم عن مقتل سعد النجدي...
وآل النجدي الذين كانوا يستنكرون مطلب كساب القاصم...
بل ويعتبرونه إهانةً في حق العائلة!!!!
لكن كساب كان يعدّ نفسه لهذا كما يبدو فقد قال بهدوء:
_لم أفعلها يا سيد قاسم...وأنت تعلم أنني كنتُ سأعترف بها لو كانت فعلتي...أنا برئٌ من دم سعد النجدي.
انعقد حاحبا قاسم بغضب هادر وهو يرد عليه:
_حتي لو كنتَ كذلك...زوجة ابني ستبقي له في حياته وبعد موته.
عادت الهمهمات الساخطة تنطلق في المجلس فتبادل جسار وحمزة نظراتٍ ذات مغزي قبل أن يميل حمزة علي أذن جده هامساً :
_اهدأ يا جدي...هم قد جاءوا إلينا بأنفسهم يطلبون الصلح ولا تنسَ أن آسيا الآن بين أيديهم.
وكذلك مال جسار علي كساب ليهمس بعتاب لا يخلو من توقير:
_تسرعتَ يا عمي...اصبر قليلاً كما صبرتَ طوال هذه السنوات...وسنعيد طرح الأمر في وقتٍ لاحق.
أطرق كساب برأسه وهو يشعر بالضيق...
رغم أنه كان يتوقع رد الفعل هذا لكن جزءاً ما بداخله كان يتمني لو تسير الأمور علي مراده...
لو يحقق له القدر هذه الأمنية التي عاش يحلم بها عمراً...
هو يعرف أن قطار عمره قد شارف علي الوصول للنهاية...
لكن من قال أن الحب يعرف سناً؟!!!
لو كان الموت آتيه لا ريب فليأتِه وامرأته التي لم يعشق سواها بين ذراعيه...
كفاه من الدنيا هذه الغنيمة!!!
لكن لا بأس فليصبر قليلاً كما يقول جسار حتي يقضي الله أمراً كان مفعولاً...
قطع أفكاره عندما عاد الصمت يسود المكان فجأة فالتفت تلقائياً نحو قاسم النجدي الذي رفع رأسه ليقول الكلمة الأخيرة:
_أما عن طلب كساب القاصم لأرملة سعد النجدي فهو مرفوض...وأما طلبكم للصلح فقد قبلناه.
==========================================
خرج حذيفة من شقة قاسم النجدي بعد انتهاء الاجتماع هابطاً الدرج نحو مدخل المنزل...
وأفكاره كلها معلقةٌ بسيدة قلبه الأولي...
ساري!!!
رفع رأسه للأعلي نحو شقة فريدة لعله يلمحها لكنه عاد يطرق به وهو يفكر بقنوط...
ساري لم تعد له...!!!
تحررت الجارية من رقّها وهجرت سيدها القديم...
طوال تلك الأيام السابقة وهو ينتظر منها اتصالاً كتلك الليلة التي هاتفته فيها ليشهد انهيارها بنفسه...
لكن يبدو أنها لم تكن في وعيها الكامل تلك الليلة...
هو منحها حق الاختيار وهي اختارت النهاية!!
فما عاد هناك إذن كلامٌ يقال!!
كان قد وصل لمدخل المنزل عندما فُتح الباب ليجدها أمامه!!!
نعم...ساري..
لكنها لم تكن وحدها!!
بلال الهاشمي كان معها!!!
ورغم إعصار الغضب الذي كان يجتاحه الآن بلا رحمة وهو يراهما يدخلان سوياً...
لكنه حافظ علي برودة ملامحه وهو يتقدم نحوهما بثبات...
صافحه بلال بتهذيب مختلط ببعض الحرج ثم قال برفق:
_أنا سأصعد لأري رقية.
قالها ثم غادرهما بخطواتٍ سريعة قبل أن يرمق ساري بنظرة متفحصة لا تخلو من ألم....
وهو يستشعر ذبذبات جسدها الذي توتر فجأة عندما رأت حذيفة...
خاصةً وهو يراها لا تزال ترتدي دبلته في إصبعها ولم تخلعها بعد....
لكنه تمالك مشاعر ألمه وهو يمني نفسه بأن الغد ربما يحمل لكليهما رياحاً تطير غبار الماضي كله...!!!!!
أما ساري فقد توقفت مكانها أمام حذيفة وعيناها مثبتتان بعينيه المشتعلتين علي عكس ملامحه الباردة لتهمس بخفوت:
_كيف حالك يا حذيفة؟!
أشاح ببصره عنها وهو يجيبها ببرود:
_بخير يا ابنة عمي.
ازدردت ريقها بتوتر وهي تتلفت حولها قبل أن تعود لتهمس باضطراب:
_لقد قابلت بلال بالمصادفة علي باب المنزل الخارجي وهو في طريقه للدخول.
حافظت كلماته علي صقيعها وهو يرد عليها:
_لم أطالبكِ بتبرير...أنتِ حرة..لا شأن لي ب"مصادفاتك"!!!
تشبثت عيناها بعينيه تشبث الضرير بعصاه...
وقلبها يكاد يصرخ بين جنباتها لوعةً واشتياقاً...
رباه!!!
كم افتقدته!!!
رغم أنها تشعر أنه قد تغير كثيراً لكنه لازال حذيفة...
فرح قلبها وشقاؤه!!!
وطنه وغربته!!!
عضت علي شفتيها بقوة تتمالك قوتها ثم سألته بصوتٍ بدا هادئاً رغم تهدجه:
_كيف تسير الأمور معك؟!!لقد علمتُ أنك بدأتَ مشروعاً جديداً مع حمزة.
أومأ برأسه في اقتضاب دون رد...
وهو يقبض كفيه بقوة جواره...
لو استجاب لجنون قلبه الآن لأذابها بين ذراعيه شوقاً وعشقاً...
ولو استمع لهدير غضبه بعدما رآها تدخل مع بلال هذا لأوسعها ضرباً...
لهذا كان الصمت أسلم ...
له ولها!!!
لكنها عادت تسأله بنبرة أرق مزجت ألمها بتعاطفها:
_وكيف تعيش وحدك؟!
ابتسم ابتسامته الساخرة المميزة ولازال يتحاشي النظر لعينيها ليجيبها بلهجته الباردة:
_لا تقلقي يا ابنة عمي...أنا الآن أفضل...
ثم أردف بلهجة ذات مغزي:
_أصبحتُ أجيد تقشير السمك وحدي.
قالها ثم أعطاها ظهره لينصرف بخطواتٍ سريعة...
فخفق قلبها بجنون ولم تشعر بنفسها وهي تناديه من خلفه :
_حذيفة!
وقف مكانه دون أن يلتفت إليها...
لكنه سمعها تهمس خلفه:
_حتي لو افترقنا...لن أنسي ما فعلتَه لأجلي...أنتَ منحتَني حريتي من جديد...
ثم تهدج صوتها وهي تردف بصوت متقطع :
_شكراً ...لأنك...رحلتَ ...عن حياتي.
ابتسم بسخرية مريرة وهو يستدير نحوها بجسده لتقع عيناه علي دبلتها التي لم تخلعها من إصبعها بعد...
فاتسعت ابتسامته -علي مرارتها- وهو يقول بلهجته الثلجية:
_أنا أيضاً أشكركِ علي رحيلكِ عن حياتي...كلانا كان مجرد محطة في طريق الآخر ...محطة انتهي دورها...وربما كان هذا عطاء القدر لنا لنبدأ بداية جديدة.
دمعت عيناها وهي تشعر بكلماته تنكأ جرحها من جديد...
فهمست بخفوت:
_أرجو فقط ألا تكون ناقماً عليّ.
نظر إليها نظرةً طويلة بدت لكليهما وكأنها نظرة وداع...
ثم أشار برأسه نحو السلم حيث صعد بلال منذ قليل ليقول بلهجة ذات مغزي:
_اصعدي يا ابنة عمي...ربما يفاجئكِ القدر ب"مصادفة" أخري تستحقينها وتستحقك.
اتسعت عيناها وهي تفهم تلميحه المستتر ...
وانفرجت شفتاها تهمّ بالرد...
لكنه استدار ليفتح الباب ويخرج تاركاً إياها خلفه...
=================================================
رن الجرس في تلك الشقة بمنزل راجية القديم حيث يقيم كل من حذيفة وعمار مع جوري الآن...
فقام عمار ليفتح الباب فيطالعه وجه حمزة البشوش قائلاً بود ممتزج بالمرح:
_كيف حالك يا "وَحش عائلة النجدي"؟!!
ابتسم عمار بود مماثل وهو يصافحه داعياً إياه للدخول...
فابتسم حمزة ابتسامةً واسعة وهو يلمح جويرية التي قدمت من الداخل هي الأخري لتحيته...
لكن ابتسامته تجمدت علي شفتيه وهو يري تلك الضمادة اللاصقة علي جرح رقبتها التي بدت عفوياً تحت حجابها المتهاوي نوعاً...
فأشاح بوجهه في ضيق للحظة...
قبل أن يطرق برأسه ليقول بهدوء مصطنع:
_كيف حالك يا جوري؟!!
ردت جويرية تحيته ببعض التحفظ وهي تختلس النظرات نحو عمار الغيور بطبعه...
قبل أن تحكم حجابها حول رقبتها بحرص ...فقال حمزة برفق ممتزج بالشفقة:
_أستأذنكِ أن تعدي لي كوب الشاي بالقرفة كما تعده لي عمتي فريدة.
أومأت جويرية برأسها مبتسمةً بود قبل أن تغادرهما للداخل...
فجلس حمزة جوار عمار ليقول له بعتاب :
_هل آذيت جوري يا عمار؟!! ما هذا الجرح في رقبتها؟!!
زفر عمار بقوة مستاءً من سوء ظنه ثم قال بخشونة:
_ألا يفكر الجميع سوي بهذه الطريقة؟!!!عمار الغول الذي يعذب زوجته المسكينة؟!!
عقد حمزة حاجبيه بضيق وهو يقول بحزم:
_اتقِ الله في المرأة التي وقفت أمام الجميع لأجلك...لا تخيب ظني فيك يا عمار.
أشاح عمار بوجهه في ضيق...
فأردف حمزة بعتاب حازم:
_جوري طلبت مني كثيراً أن أتوسط لكما عند جدي كي يوافق علي عودتها إليك...لا تجعلها تندم علي هذا.
أطرق عمار برأسه للحظة ثم زفر بقوة ليهتف بعدها بنفاد صبر:
_لم أؤذها يا حمزة...ولا يمكنني أن أفعل...ولا تتدخل بيني وبين زوجتي.
ابتسم حمزة رغماً عنه وهو يتفرس في ملامح عمار الغاضبة...
عمار -الخشن الغليظ الطباع-لم يتغير منذ صغره...
بألفاظه الخشنة وتصرفاته العنيفة التي تداري خلفها أرق قلوب الأرض...!!!!
بينما صمت عمار للحظات بعدها قبل أن يسأله بتردد:
_هل تنتوي حقاً خطبة طبيبة تدعي مارية تعمل في مشفي(......)؟!!!
ضحك حمزة بمرح وهو يهز رأسه قبل أن يضرب كفاً بكف قائلاً:
_هذا جزاء من يأتمن امرأة علي سره....هل أخبرتك جوري بهذه السرعة؟!!
أشاح عمار بوجهه وهو يتبين الآن أكثر صدق ما كانت تزعمه جوري...
ورغم أنه كان يصدقها بقلبه لكنه أراد أن يريح عقله أكثر بسؤال حمزة عن الأمر...
حمزة الذي أدرك بحدسه أن هناك شيئاً ما بينهما ليس علي ما يرام...
وله علاقة بمارية!!!
حسناً...سيتبين هذا الأمر فيما بعد ...
المهم الآن هو أن يطمئن عليهما بعدما حدث مؤخراً بين عمار وجده...
لهذا ربت علي كتف عمار الذي التفت نحوه عندما سأله حمزة باهتمام:
_ماذا ستفعل الآن بعدما تأزمت الأمور مع جدي؟!!
هز عمار رأسه قائلاً :
_لا تقلق بشأني...حالي أفضل من حذيفة بكثير...فأنا أدخر مبلغاً مناسباً من المال باسمي يكفيني لتأسيس شركة أخري صغيرة بعيداً عن تجارة جدي...سأستغل خبرتي في هذا المجال...وياسين سيساعدني أيضاً...
ابتسم حمزة وهو يقول بمودة:
_لستُ قلقاً عليك يا عمار...أنت بالذات أثق أنك رجلٌ يعتمد عليه...وظني أن غضب جدي عليكما لن يطول...هو فقط يحتاج لوقت ليصفو قلبه بعد عصيانكما المفاجئ هذا...
أومأ عمار برأسه موافقاً...
عندما أتت جويرية تحمل صينية الشاي...
ليقول لها حمزة بمرح:
_استعدي للقاء آسيا غداً...ستأتي مع جسار أخيراً لزيارة العائلة.
شهقت جويرية بفرح ثم ضحكت هاتفة بسعادة بالغة:
_حقاً يا حمزة؟!!!أخيراً!!!
هز حمزة رأسه مؤكداً فتبادلت مع عمار نظرة حائرة...
قبل أن تسأله بتردد:
_وجدي؟!!!هل سيأذن لي ...؟!!!
ابتسم حمزة قائلاً بحنان:
_لو تعرفين قاسم النجدي كما أعرفه لأدركتِ حاجته الحقيقية في أن يري أحفاده كلهم حوله من جديد...
ثم تنهد قائلاً بحسم:
_جدكِ أعطاكِ الإذن بالحضور غداً مع عمار.
===============================================================
وقفت آسيا تمسد ظهر الفرس جسار هامسة في أذنه :
_أنا راحلةٌ يا جسار...لكنني سأعود لأزورك قريباً...سأفتقدك يا حبيبي...تماماً كما سأفتقد كل شئٍ هنا.
دمعت عيناها فأسندت جبهتها علي عنقه وهي تحاول التماسك...
لقد صدق حدسها هذه المرة...
كم كان صادقاً قلبها عندما أحس بقرب الرحيل...
الآن تعود لبيتها وعائلتها...
لكنها لن تعود جارية في ثياب ملكية...
بل ملكة حقيقية تعرف قيمتها وتسعي لتحقيق ذاتها ونجاحها دون ضغوط...
ربما هي ملكةٌ فقدت قلبها مرتين...
مرةً في وهمٍ ظنته-من فرط أملها- حباً...
ومرةً في حبٍ تتمني الآن-من فرط يأسها- لو يكون وهماً....
لكن يكفيها أنها لم تعد ...جارية!!!
أفاقت من شروده علي حركته خلفها فالتفتت نحوه هامسة بتماسك مرسوم ببراعة علي ابتسامة باهتة:
_أنا مستعدة يا جسار...هيا لنذهب...
أطرق برأسه للحظات مقاوماً رغبته العارمة في احتضانها الآن بقوة...
في سجنها هنا...
ليس فقط في بيته ولا حتي في غرفته...
بل بين ضلوعه!!!
لا يتصور حتي الآن كيف سيسمح لها بالابتعاد...
حتي وهو مطمئنٌ الآن تماماً عليها وسط عائلتها...
لكنه لا يتخيل يوماً لا يبدأ صباحه بابتسامتها ...
ولا ينتهي ليله إلا بهمساتها الدافئة وهو يودعها علي باب غرفتها!!!
حتي وهو لا يعلم وصفاً ولا تسميةً لشعوره بها...
لكنه لم يعد يهتم بهذا...
كل ما يعنيه أنها صارت حقاً جزءاً منه...
قطعةً غاليةً من روحه!!
فهل يعيش المرء دون بعضه؟!!!
رفع رأسه إليها أخيراً ليمسك كتفيها هامساً بحنانه المعتاد لكنه مكسوٌّ بحزنه هذه المرة:
_لو كنتِ لا تريدين الرحيل فابقي معنا يا آسيا...
هزت رأسها نفياً وهي تهمس بشرود:
_بل أريد الرحيل...أريد بدايةً جديدة أكتبها بيدي لا بتوقيع غيري...
ثم التفتت إليه من شرودها لتردف:
_اشتقتُ لأمي وعائلتي...وأنت أيضاً اشتقتَ لحياتكِ القديمة المسالمة بلا مشاكل ولا ضغوط...
أشاح بوجهه عنها للحظات يخفي شعوره ثم عاد يلتفت نحوها ليسألها باهتمام:
_كيف تخططين لحياتكِ القادمة؟!
ابتسمت وهي تقول بقوتها المحلاة بثقتها الجديدة:
_سأعود لتسلم عملي وسأستكمل دراستي...
أومأ برأسه ثم عاد يقول بحذر:
_لكنكِ ستأتين هنا في إجازاتكِ الأسبوعية كما اتفقنا.
اتسعت ابتسامتها رغم انكسار قلبها وهي تتلفت حولها تملأ عينيها من المكان وكأنها تدخر صورته بتفاصيلها في أعماق روحها...
قبل أن تعود عيناها لتتعلقا بخيوط الحنان في حدقتيه وهي تقول بما يشبه الوعد:
_بالتأكيد سأعود.
ثم ازدردت ريقها تتمالك غصة الدموع في حلقها لتردف :
_زواجنا يجب أن يستمر بصورته الظاهرة لبعض الوقت حتي تستقر الأمور بين العائلتين...ومن يدري...ربما يوماً ما لا نعود بحاجة لهذا القيد ويمضي كلٌ منّا في طريقه.
عقد حاجبيه بضيق وقلبه يوخزه بشعور لا يريد تصديقه...
لهذا قال رغماً عنه بخشونة:
_إذن هيا بنا قبل أن يستيقظ ياسين....لو رآكِ راحلةً فسيحزن كثيراً...
أشاحت بوجهها تخفي دموعها ثم أومأت برأسها إيجاباً وهي تربت علي ظهر الفرس لآخر مرة...
قبل أن تسير جواره ليغادرا المزرعة متجهين نحو منزل عائلة القاسم...
==========================================================
_أمي!!!!
هتفت بها آسيا بحرارة قبل أن ترتمي بين ذراعي فريدة في غرفة الأخيرة بمنزل العائلة ....
حيث كان جسار بالخارج مع رجال العائلة...
بينما اختلت بها فريدة في غرفتها ...
_افتقدتكِ جداً يا أمي!!!!
همست بها آسيا بحرارة حملت كل اشتياقها ولهفتها وندمها علي ما كان...
حرارة لم تنافسها سوي قبلات فريدة التي أغرقتها بها وهي تتشبث بها عاجزةً عن النطق لفترة...
قبل أن تهمس وسط دموعها:
_عدتِ أخيراً يا آسيا!!! قلبي لم يخدعني يوماً ياابنتي...كنت موقنةً أنكِ ستعودين.
أخفت آسيا وجهها في صدرها تتنعم بحنانها الذي افتقدته وهي تهتف باكيةً بحرقة:
_سامحيني يا أمي...سامحيني...أنا أخطأتُ ودفعت ثمن خطئي غالياً...في كل لحظة قضيتها بعيداً عنكم...سامحيني ...أرجوكِ.
ضمتها فريدة لحضنها أكثر وهي تربت علي ظهرها لتهمس بعتابٍ رفيق:
_كيف هنتُ عليكِ يا آسيا؟!!! وكيف هان عليكِ أن تلقي كل شئ خلف ظهرك هكذا؟!!
ثم تهدج صوتها وهي تردف بألم وسط دموعها:
_كدتُ أموت حسرةً عليكِ وقتها...ولولا رحمة الله بي لضاع عقلي .
جثت آسيا علي ركبتيها أمامها تقبل كفها بعمق قبل أن تهتف بحرقة:
_فداؤكِ عمري كله يا أمي...ندمتُ...والله ندمت....
رفعتها فريدة من كتفيها لتضمها إلي صدرها من جديد بقوة أكبر وهي تحمد الله بصوت مسموع...
فاستكانت آسيا لنعيم حضنها الذي افتقدته طويلاً....
قبل أن تسألها فريدة باهتمام وهي تملأ عينيها من ملامحها بنهم:
_هل أنتِ سعيدةٌ مع زوجكِ يا ابنتي؟!! أريد أن أطمئن عليكِ...هل هو حقاً رجل طيب كما يقولون؟!!
رفعت آسيا رأسها إليها وهي تهمس بحرارة:
_وأكثر يا أمي...هو أعظم رجلٍ عرفته في حياتي.
حدقت فريدة في عينيها الملتمعتين بعاطفتها ثم همست بحنان:
_أحببتِه يا آسيا؟!!
التمعت عينا آسيا بعاطفتها الصادقة وهي تومئ برأسها...
فعادت فريدة تهمس بحذر:
_وياسين يا ابنتي؟!!! هل تمكنتِ من نسيان حبه؟!!!
ابتسمت آسيا للحظة ثم همست بشرود:
_لم يكن حباً يا أمي...كان..
صمتت للحظة تحاول البحث عن تعبير مناسب...
ثم أردفت بثقة:
_كان سحابة صيفٍ عابرة ضاعت بعد أمطار الشتاء...!!!
ربتت فريدة علي كتفها وهي تهمس بدعاء صادق:
_أسعدكما الله يا ابنتي...الآن اطمأن قلبي عليكِ.
ثم أشارت لبطنها هامسةً بنبرة ذات مغزي:
_ألا تحملين لي خبراً ساراً آخر؟!
تنهدت آسيا بحرارة رغماً عنها ثم هزت رأسها نفياً...
عقدت فريدة حاجبيها بتوجس وهي تشعر أن تنهيدة ابنتها تخفي الكثير...
لكن آسيا تداركت نفسها لتبتسم مردفةً بأمل أشرق في ملامحها:
_ليس بعد يا أمي...أمامي حلمٌ أسعي لتحقيقه أولاً...عملي الذي أهملته .
أومأت فريدة برأسها ثم غمغمت بحسرة :
_هل ستتركينني من جديد ؟!!
اتسعت ابتسامة آسيا ثم مالت علي كف والدتها تقبله لتقول بعدها برفق:
_لا يا أمي...جسار أذن لي أن أبقي معكم هنا طوال الأسبوع حتي أنتظم في دراستي وعملي من جديد...لكنني سأعود للمزرعة في عطلة الأسبوع فقط.
أشرق وجه فريدة بالفرح وهي تحتضنها من جديد هاتفةً بسعادة:
_حقاً؟!!!أسعدتني يا ابنتي....زوجك هذا دخل قلبي من أوسع أبوابه.
رفعت آسيا عينيها إليها وهي تهمس بتردد ماكر:
_زوجي ...فقط؟!!
رمقتها فريدة بنظرة متسائلة...
فضحكت آسيا بخجل ثم تمالكت نفسها لتهمس بحنان:
_العم كساب يا أمي...هل تعلمين أنه طلبكِ للزواج؟!!!
تجهمت ملامح فريدة فجأة ثم أشاحت بوجهها وهي تهتف بسخط:
_لا تذكريني بهذا الأمر يا آسيا؟!! هل فقد هذا الرجل عقله؟!! ألا يزال يظنني نفس الفتاة ذات الضفائر التي كان يطاردها في الطرقات؟!!! ألا يدرك أنني أوشكتُ أن أكون جدّة؟!!!لقد تمنيتُ أن تنشق الأرض وتبتلعني عندما أبلغني جدك بالخبر...
ضحكت آسيا ضحكة مجلجلة لكنها اصطدمت بنظرة فريدة الزاجرة فوضعت كفها علي شفتيها تكتم ضحكاتها للحظات...
قبل أن تقول بجدية ممتزجة بعاطفتها:
_أنا عشتُ مع العم كساب طوال هذه الشهور يا أمي لأدرك حقاً كم أحبكِ ولا يزال...لن تتصوري سعادته بي عندما تعرف علي شخصيتي بالمصادفة...لقد بدا وكأنه قد استعاد جزءاً مفقوداً من روحه...طالما كان يقول لي أنه أحبني أكثر منذ علم أنني ابنتكِ أنتِ...
عقدت فريدة حاجبيها وكلمات آسيا تنفض الغبار عن عاطفتها القديمة ليعود بريقها متوهجا بروحها رغماً عنها...
لكنها هتفت بضيق مصطنع:
_رجلٌ قليل الحياء ...هل أخبركِ بهذا هكذا دون مواربة؟!!
ضحكت آسيا من جديد وهي تغمزها بشقاوة ثم مالت عليها تهمس بخبث:
_ليس هذا فحسب...بل أخبرني بقصتكما كلها!!!
احمر وجه فريدة خجلاً فغطته بحجابها قبل أن تهتف بارتباك:
_تحشمي يا بنت!!!! هل تصدقين تخاريف ذاك الرجل...يبدو أنه قد هرم وخفّ عقله!!!
ابتسمت آسيا في حنان ثم احتضنت كفها قبل أن تقبله بعمق لتهمس بعدها برفق حنون:
_لا يا أمي...لم يخفّ عقله...قلبه هو الذي ثقل بعاطفته !!!
أشاحت فريدة بوجهها في عدم اقتناع ...
لكن آسيا أردفت بتعقل:
_العمر لا نحياه إلا مرة...فلماذا نضيعه بلا ثمن؟!!!
زفرت فريدة بحنق وهي تهتف بحدة:
_لا تفتحي هذا الموضوع ثانيةً يا آسيا...لقد أُغلق للأبد.
تنهدت آسيا بحرارة وهي تومئ برأسها في استسلام...
عندما فتح الباب فجأة لتدخل منه كل من ساري وجوري اللتين اندفعتا نحو آسيا تحتضنانها بقوة...
دمعت عينا فريدة وهي تري بناتها يتجمعن أمام عينيها من جديد...
أخيراً عرفت الفرحة طريقها لقلبها الذي طالما أضناه الألم...
لتداعب كلمات ساري أذنها بفرحة خاصة وهي تهتف وسط دموعها المنهمرة:
_هل تذكرين حضننا هذا آخر مرة يا آسيا؟!! ألم أخبركِ وقتها أنكِ ستعودين آسيا جديدة قوية لا يقف في طريقها شئ؟!!!
ضحكت آسيا وهي تمسح دموع تأثرها هامسةً بتأثر:
_معكِ حق يا حبيبتي...آسيا التي عادت إليكم ليست كتلك التي رحلت...
ثم زاغ بصرها نحو باب الغرفة حيث يجلس جسار بالخارج...
لتردف بشرود غارق بالشجن:
_ليست مثلها أبداً!!!
====================
دخل معها إلي غرفتها حيث سيبيت ليلته هنا قبل عودته للمزرعة في الصباح تاركاً إياها مع عائلتها كما اتفقا....
أغلقت هي الباب خلفهما ثم التفتت نحوه لتهمس بامتنان وسط دموع تأثرها:
_لا أدري كيف أشكرك يا جسار...أنت رددتَني لعائلتي وحياتي...كنتُ أحمل هم عودتي هنا...لكنك جعلت رأسي مرفوعاً في مواجهتهم...حتي جدي رغم قسوة حديثه الظاهر معي في البداية لكنني شعرت بفرحة عينيه وهو يضمني إليه في نهاية حديثه معي.
أمسك كتفيها وهو يتأمل عينيها بعمق هامساً :
_أنتِ أيضاً رددتِني لعائلتي وحياتي.
ابتسمت وهي لا تجد ما تصف به شعورها في هذه اللحظة...
إنها تشعر بمزيج غريب من سحر الميلاد ورهبة الموت...!!!
حياةٌ جديدة تفتح لها ذراعيها بالأمل والوعود...
لكنها لازالت مقيدةً بحنينها لأيامها معه هو!!!
قلبها يستحلفها أن تعود معه في الصباح للمزرعة...
دون قيود...دون شروط...
حتي لو كانت في حياته بلا مسمي...
لكن عقلها يردعها...
هي دفعت ثمناً باهظاً كي تتخلص من قيد الجواري...
هي اشترت حريتها بالكثير...
ولن تضيع كل هذا في سبيل وهم...
جسار لن يكون لها حبيباً وزوجاً...
ومن يدري؟!!!
ربما يجئ اليوم الذي يستغني فيه كل منهما عن الآخر ليعاود السير وحده في طريقه...
لم تشعر بدموعها التي ملأت عينيها عندما راودتها هذه الفكرة...
دموعها التي أحرقت صدره وهو يقرأ مشاعرها واضحة كالشمس في عينيها...
فتنهد بحرارة ثم همس بحنان لا يخلو من ألم:
_لا تقلقي بعد يا صغيرتي...لقد تجاوزنا العراقيل الصعبة في الطريق...وبقي فقط أن نكمله.
أومأت برأسها إيجاباً ثم تلفتت حولها لتهمس بصوت مرتعش:
_اشتقتُ لغرفتي...اشتقت لكل ركنٍ فيها.
ثم عادت تتعلق بعينيه هامسة بانفعال حاولت صبغه ببعض المرح:
_من كان يصدق أن أعود إليها برفقة جسار الذي عشتُ عمري كله أخاف فقط من اسمه.؟!!
اتسعت ابتسامته الحنون ثم ضمها إليه برفق وهو يربت علي ظهرها هامساً:
_ومن كان يصدق أن حفيدة قاسم النجدي الذي عشتُ عمري أهرب منه تكون هي هدية القدر لي ولابني؟!
أخفت وجهها في صدره وهي تشعر أنها ربما كانت آخر مرة تستمتع فيها بهذا الأمان بين ذراعيه...
حتي لو عادت للمزرعة في عطلاتها الأسبوعية كما اتفقا...
فلن تعود كما كانت...
بل ستعود غريبةً زائرة ...
بل إنها تنتوي تقليل عدد هذه الزيارات تدريجياً حتي لا تسبب له أي حرج...
لقد أدي واجبه نحوها كاملاً...وضعها علي أول الطريق وساندها حتي تبينت خطواتها...
وبقي أن تؤدي هي واجبها نحوه..
واجبها بأن تعيده لوطنه الأصيل ...حبه لسمية... الذي يأبي إلا أن يكون مخلصاً له بعيداً عن أي احتلالٍ مؤقت قد يورثه شعوراً بالذنب لن يتحمله...
وبعدها بقليل كان ينام جوارها علي فراشها فلم يكن في الغرفة سواه...
في البداية كانت تشعر ببعض الحرج من هذا الوضع الذي فُرض عليهما لأول مرة...
لكن شروده الطويل عنها أنبأها أن أفكاره الآن أبعد ما تكون عما يدور بذهنها مما أورثها بعض السكينة...
لهذا أعطته ظهرها وهي تحاول النوم دون جدوي...
ومن يمكنه النوم في ليلةٍ كهذه؟!!!
سعيدةٌ هي بلا حدود...
مهما وصفت لن يمكنها تجسيد ما شعرت به في حضن والدتها وأختيها والذي يساوي العالم كله الآن في عينيها...!!!
لكنها مع هذا لا تستطيع تجاهل ذاك الجرح في قلبها والذي يؤلمها حد الموت...
كيف ستنسي...؟!!!
كيف تنسي المزرعة بكل ما فيها ومن فيها...؟!!!
كيف تنسي تحية الصباح برائحة الريحان الذي كان يقطفه لها العم كساب خصيصاً من الحديقة كل يوم؟!!!
كيف تنسي مداعباته ومشاكساته لها طوال النهار وكأنها حقاً ابنته؟!!!
كيف تنسي ياسين ابنها الذي لم تنجبه لكنها تكاد تقسم أنها تعيش معه وبه أمومةً حقيقية في كل لحظة يكون فيها جوارها؟!!!
كيف تنسي عالمها الذي احتواها طوال الفترة السابقة والذي كان قطعةً من الجنة...
بل كيف تنسي جسار..حب قلبها الحقيقي الذي أخرجها من الظلمات إلي النور...
ومنحها الحياة كلها دون مقابل...؟!!!!
لكنها لابد أن تنسي...
لن تسمح لقلبها أن يوثق قيدها كما حدث من قبل...
حتي وهي توقن أن جسار يستحق ما هو فوق الحب وأكثر...
لكنها لن تخبط رأسها بجدار الخيبة من جديد...
كفاها ما نالته من قبل...
كفاها!!!
وجوارها كان هو غارقاً بشعوره الجديد نحوها...
لا يصدق كيف سيمكنه تركها هكذا خلفه هنا ويرحل..
إنه يشعر وكأنه سيترك قطعةً من روحه معها...
حتي وهو يعلم أنها ستعود إليه بعد أيام...
لكن مجرد إحساسه أنها ستغيب بعيداً عن ناظريه يكاد يمزقه قلقاً..
هو اعتاد أن تكون تحت جناحه...
أن يطمئن عليها متي شاء دون حواجز...
أن يشعر بهذا الشعور الفريد أنها له.!!!
تحت حمايته هو !!!
هو وحده من له كامل السلطان عليها!!!
لا...ليس الأمر مجرد رغبة في السيطرة أو التملك...
بل هو إحساسه بأنها صارت حقاً جزءاً منه...
جزءاً غالياً جداً...
بل أغلي بكثير مما كان يظن!!!
ظل علي حاله لما يقارب الساعتين وهو عاجزٌ عن النوم....
يختلس النظرات إلي ظهرها الساكن جواره وهو يظنها قد نامت...
وعبير شعرها المنسدل جوار رأسه علي الوسادة يكاد يثمله برائحتها المميزة...
أغمض عينيه وهو يشعر باشتياقه لملامح وجهها...
لماذا نامت وهي تعطيه ظهرها؟!!!
إنه يود الآن ألا يضيع لحظةً واحدة يمكنه فيه أن يحتضن صورتها بملء عينيه ..
بل بملء قلبه وروحه!!!!
رباه!!!
إذا كان هذا حجم اشتياقه وهي الآن جواره لا يكاد يفصل بينهما سوي أن تستدير بجسدها نحوه...
فكيف سيكون شعوره عندما تفصلهما مئات الأميال...
إذا كان افتقد حديثها بعد وقتٍ لم يجاوز الساعتين...
فكيف إذن سيحتمل أياماً تمر عليه دون أن يطرب صوتها أذنه؟!!!
هز رأسه بعجز ممتزج بحيرته لكن أفكاره كلها تجمدت عندما سمع هسيس بكائها الخافت جواره وهي تعطيه ظهرها ...
دموعها التي سمحت لها بالانهمار ظناً منها أنه قد نام...
أغمض عينيه بألم للحظة قبل أن يقترب منها أكثر ليضم ظهرها إلي صدره بساعده هامساً جوار أذنها:
_لماذا تبكين الآن؟!
تجمد جسدها للحظات من المفاجأة وقد عجزت عن الرد...
فأدار كتفها إليه لينظر لعينيها الدامعتين هامساً بانفعال حار:
_يمكنكِ العودة معي صباحاً...لو كنتِ لا تريدين البقاء هنا.
هزت رأسها نفياً ثم استدارت نحوه مغمضةً عينيها لتهمس بإصرار:
_بل سأبقي...سأكمل طريقي الذي اخترته.
مد أنامله ببطء يمسح دموعها بأنامل مرتجفة وجسده كله يهتز انفعالاً ففتحت عينيها لتنهل من بئر حنانه الصافي ...وهي تشعر أنها لم تكن يوماً أقرب إليه من هذه اللحظة...
خاصة عندما مد ذراعيه يضمها إليه بكل قوته مخفياً رأسها في صدره فازدادت ارتجافة جسدها بدموعها ليضمها إليه أكثر حتي شعرت أنها قد صارت جزءاً منه...
قبل أن يبعدها رأسه قليلاً لينظر لعينيها نظرةً عميقة تبعتها آهة حارة ....
ثم همس بنبرة غريبة لم تسمعها منه من قبل:
_لو تعلمين كم سأفتقدك يا آسيا!
اتسعت عيناها قليلاً وهي تتعجب شعورها به في هذه اللحظة...
نظراته التي تحتضنها قبل ذراعيه...
بهذا الحنان وهذا الحزن وهذا ال...
حب؟!!
معقول؟!!!
لكنه أكّد أفكارها الحائرة عندما اقترب بوجهه أكثر ليقبل جبينها بعمق قبل أن يهمس بصوتٍ غارق بعاطفته:
_فوق ما تتخيلين...!!!
أغمضت عينيها بقوة تحاول منع قلبها من تصديق ما تقسم به دقاته الآن....
لكن كيف تفعل؟!!!
وقد خانته شفتاه لتنساب من علي جبينها إلي جفنيها المطبقين بقبلتين دافئتين قبل أن يصلها همسه المشتعل:
_سأفتقد شروق الشمس بعينيكِ أبدأ به صباحي.
ثم انتقلت شفتاه إلي أنفها وهو يردف بنفس النبرة الذائبة:
_وأفتقد عطركِ الذي طالما داعب أنفي بهذا السحر الغامض الذي لا أدري سره ...حتي يحتل كل خلاياي وإن لم تكوني معي.
ذابت روحها كالشمع في لهيب همساته وشفتاه تكملان الطريق إلي وجنتيها ليحتويها همسه أكثر:
_وأفتقد هذا النور علي وجهكِ يمحو عني كل ظلمات همي.
ازدردت ريقها الجاف ببطء وهو يداعب شفتيها بعدها بإبهامه هامساً:
_وأفتقد صوتكِ الذي يعرف طريقه لقلبي مهما حاولتِ إخفاء شعوركِ.
فتحت عينيها ببطء لتجرفها سيول العاطفة التي كانت تنهمر الآن بين حدقتيه ....
وهو يردف بصوتٍ متهدج:
_سأفتقد آسيا...صغيرتي...وصديقتي...و...
قطع عبارته عندما انجذبت شفتاه فجأة لشفتيها فغابت معه في قبلة طويلة فضحت شعورهما معاً...
قبل أن يشتعل شغف عاطفتهما بوهجٍ خطف قلبيهما وروحيهما قبل الجسد...
فينسحبان سوياً بعيداً عن هذا العالم في عالم آخر ...
لا يعترف بسلطان الماضي أو قيود الشعور بالذنب...
عالمٌ هواؤه حب وسماؤه حب وترابه حب...
عالمٌ حلقت فيه طيور مشاعرهما حرة جامحة...
بلا قيود ولا سدود هذه المرة...
الفصل الخامس والعشرون:
_آسيا عادت يا سعد!!
همس بها قاسم النجدي بصوت متهدج أمام صورة ولده التي نزع عنها غطاءها أخيراً وقد اغرورقت عيناه بالدموع وهو يردف بنبرات مرتعشة:
_عساني لا أكون ضيعت أمانتك يا ولدي...قلبي يشعر أن لقائي بك قد اقترب...ولا أريد أن تلقاني بعينين عاتبتين...أمانتك كانت ثقيلة يا ولدي...ثلاث قوارير كنت أخشي عليهنّ كسر الزمن...قد تكون الأقدار قد عاندتني لكن يشهد الله أنني لم أُردْ لهنّ إلا الخير!!
ترنح جسده الذي ضعف -مؤخراً-فازداد تشبثاً بعصاه وهو يكمل حديثه إلي صورة ابنه الراحل:
_لقد اطمأن قلبي علي آسيا فزوجها بدا لي رجلاً بحق...وأنا الذي علمتني الحياة كيف أزن الرجال...لكن لا تزال جوري وساري شوكتين في خاصرتي...لن تقرّ عيني حتي أطمئن عليهما معاً!!
طرقاتٌ رفيقة علي باب غرفته قاطعت حديثه الحار...
فأطرق برأسه قبل أن يجلس علي كرسيه وهو يسمح للطارق بالدخول...
دخل حمزة مبتسماً ليقبل يده باحترام قبل أن يجلس جواره قائلاً بارتياح:
_الحمد لله يا جدي...لقد مرّ موضوع آسيا علي خير...بأقل خسائر ممكنة.
أومأ الجد برأسه في رضا ...ثم سأله بحذر:
_لقد علمتُ أنه سيتركها هنا ويرحل وحده...لماذا؟!
ابتسم حمزة وهو يقول بتقدير:
_لأنه رجلٌ لم يخيب ظني فيه يا جدي...هو يريدها أن تتسلم عملها وتكمل طريقها الذي اختارته حتي تقف علي قدميها...ستبقي هنا طوال الأسبوع...وتعود إليه في العطلات .
هز قاسم رأسه وهو يغمغم بتفكير:
_أعتقد أنه أيضاً يراعي افتقادها للعائلة طوال هذه الفترة...تفكيرٌ صائب!!
ثم التفت لحمزة يسأله ببعض الضيق:
_كيف حال حذيفة؟!!سمعتُ أنك تساعده بمشروع جديد!!
اتسعت ابتسامة حمزة وهو يقول :
_أنا لا أساعده يا جدي...أنا أشاركه!!
أخفي قاسم ابتسامة إعجابه بحفيده الذي يحتوي الجميع بذكائه وحنانه قبل قوته...
ليقول ببعض الخشونة:
_احذر منه....هو ولد فاسد!
هز حمزة رأسه وهو يقول مدافعاً:
_علي العكس يا جدي...حذيفة يريد أن يثبت لك وللجميع أنه أهلٌ للثقة وأنه تاب عن ضلاله القديم...لهذا يجتهد جداً في عمله...وأنا واثقٌ أنه سينجح.
لوح قاسم بيده في عدم رضا ثم صمت قليلاً...
قبل أن يعاود سؤاله بتردد:
_وذاك البائس الآخر ...هل يعتني بزوجته؟!!
ضحك حمزة وهو أكثر من يعلم أن خشونة قاسم النجدي تخفي فيوض حنانه السخية نحو أحفاده ...
ولو شاء الإنصاف لقال أن عمار هو أشد أحفاد النجدي شبهاً بقاسم في غلظة طباعه الظاهرة رغم طيبة قلبه...
لكنه كتم فكرته هذه وهو يستعيد رزانته ليقول بتعقل:
_لو كانت غير راغبةٍ فيه لما ذهبت معه بإرادتها يا جدي...
انفعل قاسم وهو يسترجع مظهر جوري المنهارة جوار عمار قائلاً:
_لقد كانت تبكي كالثكالي وهو يسحبها من ذراعها خلفه كجارية...كيف أصدق ما تقول؟!!
نظر إليه حمزة نظرة عميقة ثم قال بثقة:
_جوري طلبت مني كثيراً أن أفاتحك بشأن عودتها لعمار ...هي كانت تريد العودة إليه...وأنا زرتهما بنفسي لأطمئن عليها...صدقني هما بخير..لا ينقصهما سوي رضاك .
ظهر الرفض علي وجه قاسم وهو يهتف بحدة:
_لن أغفر لهما خروجهما عن أمري...دعهما منبوذين في منفاهما حتي يعرفا قيمة العائلة...هما وذاك الآخر حذيفة!
أومأ حمزة برأسه بلا معني وهو يدرك عقم الحوار الآن مع النجدي الكبير فهو أكثر من يعلم عن عناده...
سيترك الأمر للأيام ربما تلين قلبه قليلاً...
ثم صمت للحظات قبل أن يقول بتردد:
_هناك موضوع بشأني ...أريد الحديث معك فيه.
نظر إليه قاسم بعينين متفحصتين فتنحنح حمزة قبل أن يقول وقد حسم أمره:
_أنا أريد الزواج!
خبط قاسم بعصاه علي الأرض وهو يحافظ علي ثبات نظراته المصوبة نحو حفيده العزيز...
فأردف حمزة مفسراً:
_طبيبةٌ كانت تعمل معي في لندن...والدها طبيب أيضاً...كان مديري هناك...لكنها عادت لتستقر هنا مع عائلتها .
اتسعت عينا قاسم بصدمة وهو يهتف بانفعال:
_تريد الزواج من أجنبية؟!!
ربت حمزة علي كتفه مهدئاً وهو يقول بأقصي ما استطاعه من هدوء:
_ليست أجنبية يا جدي...هي مصرية مسلمة...ووالدها كذلك...هي فقط تحمل الجنسية الانجليزية لأن والدتها كانت كذلك...وهي اختارت هويتها العربية لهذا عادت لتعمل وتعيش هنا في مصر.
لوح قاسم بكفه وهو يهتف باعتراض:
_كلام فارغ!!! ألم تعش عمرها السابق كله هناك؟!! لاريب أنها تشربت طباعهم الفاسدة.
هز حمزة رأسه وهو يحاول إقناعه:
_ليست كل طباعهم فاسدة يا جدي...أنا عشت هناك فترة لا بأس بها وأعرف جيداً ما أحكي عنه...أنا تعلمت هناك الالتزام والأمانة والدقة في العمل...والدها أيضاً رجلٌ عظيم...ساعدني كثيراً وكان يعتبرني كابنه.
زفر قاسم بغضب وهو يشيح بوجهه...
فأردف حمزة برجاء:
_لو رأيتها يا جدي لن تصدق أنها أجنبية...هيئتها الآن لا تختلف عن بنات عمي...بحجابها ولباسها المحتشم...وقبل هذا بأخلاقها العالية التي أقسم عليها بشرفي.
لم يردّ عليه قاسم الذي ظل مشيحاً عنه بوجهه معلناً اعتراضه...
فاضطر حمزة للضغط علي وتره الحساس وهو يقول برجاء أقوي:
_لا تردني خائباً يا جدي...أنا عشتُ طويلاً أعاني الوحدة والغربة...كنت أمنّي نفسي بالعودة يوماً لوطني حتي أحصل علي نصيبي من السعادة التي كنت أحلم بها...فهل تستكثر هذا عليّ؟!!
اختلس قاسم نظرة جانبية إليه وقد رق قلبه لحديثه فشعر حمزة ببعض الأمل...
ثم عاد يخبط علي الأرض بعصاه وهو يقول بضيق:
_دعني أفكر!
========
عاد ياسين من عمله آخر الليل متأخراً علي غير عادته ...
فتح باب شقته بلهفة لسلطانته التي لم تحدثه طوال النهار ...
وهو يحدث نفسه أنها ربما كانت متحفظةً نوعاً بسبب عودة آسيا للإقامة معهم في بيت العائلة...
ورغم أنه بذل كل ما في وسعه ليشعرها بحقيقة إحساسه نحوها ...
لكن "السلطانة" التي تربت أن تتربع علي عرش القلوب -وهو ما تستحقه تماماً- لا تزال تخشي علي حبها أن يكون مجرد نقطة ضعف في حياتها لو خذلها هو...
وهو ما لن يفعله أبداً!!!
تنهد بحرارة وهو يدخل ليتفقدها في جميع غرف الشقة لكنه لم يجدها...
انعقد حاجباه بقلق وهو يفكر...
رقية لا تخرج لمكانٍ دون إذنه...فأين تراها ذهبت؟!!!
فخرج من شقته إلي شقة والدته ليطرق الباب ببعض التردد في هذا الوقت المتأخر من الليل...
لكن والدته فتحت الباب بملامح متجهمة وهي تغمغم بفتور:
_أهلاً يا ابني...متي عدتَ من عملك؟!
أغلق الباب خلفه برفق ثم تلفت حوله بحثاً عمن تشغل باله الآن وهو يقول بلهفة:
_أين رقية؟!
مطت راجية شفتيها باستياء وهي تقول بضيق:
_لا أريد أن أسمع اسمها...لقد خدعتنا تلك الفتاة وأهلها يا ابني.
انعقد حاجباه وهو يحاول تمالك نفسه ليهتف بعتاب لم يغادره حنانه المعهود:
_هل سنعود لهذا الحديث ثانيةً يا أمي؟!! لماذا عدتِ تتحاملين عليها؟!!
لوحت بذراعها في غضب وهي تهتف بانفعال:
_أتحامل عليها؟!!! أقول لك أن هذه الفتاة مخادعة ...لا أدري كيف سيطرت عليك إلي هذا الحد؟!
أشاح بوجهه في ضيق للحظات ...
ثم ربت علي كتفها محاولاً أن يفهم أكثر :
_ماذا حدث لكل هذا؟!! أنا لم أتغيب عن المنزل سوي بضع ساعات!!!
ازدادت انفعالات وجهها غضباً وهي تهتف بحدة:
_لقد أراد الله أن يكشف خبيئتها...عندما أصابها ألم مفاجئٌ في معدتها مع شعورها بالغثيان وهي معي هنا...اتصلت بك لكن هاتفك كان مغلقاً...فاتصلت هي بشقيقها ليذهب معنا إلي الطبيبة...
اتسعت عيناه بترقب وهو يتذكر أنه قد نسي هاتفه مغلقاً في غمرة انشغاله...
وهو الذي كان يظنها هي التي لم تهاتفه...
لكن ذهنه حمله لأبعد من هذا مع عبارة والدته الأخيرة ليجد نفسه يهتف بلهفة فرحة:
_لا تقولي أنها أعراض حمل!!!
ضحكت باستهزاء مرير وهي تعاود التلويح بكفها هاتفةً بحسرة:
_كنت أظن هذا مثلك...لكن الطبيبة قالت أنها أعراض عادية لأن معدتها حساسة...قبل أن تصارحنا بالحقيقة بعدما أتمت الكشف عليها.
شحب وجهه فجأة وهو يغمغم بقلق:
_أي حقيقة هذه؟!!
علا صوتها وهي تهتف بغضب ممتزج بالحسرة:
_زوجتك لا تنجب...ولن تنجب...لم أفهم التفاصيل التي شرحتها الطبيبة لكن كلامها كان واضحاً.
اتسعت عيناه بارتياع وهو يكاد لا يصدق ما يسمعه منها...
عندما أردفت هي بغيظ مكتوم:
_أنا واثقةٌ أنها كانت تعلم...لهذا كانت تتهرب مني في كل مرة أسألها عن هذا الأمر منذ بداية زواجكما...حتي أنني عرضت عليها الذهاب لطبيب ليري سبب تأخر الحمل فارتبكت وقتها وتركتني دون أن تكمل الحديث.
هز رأسه وهو يقول بتشتت:
_لا يا أمي...الأمر ليس كما تظنين...نحن فقط...
قطع عبارته وهو يشعر أنه قد فقد تركيزه كاملاً مع هذا الخبر الصادم...
فعاد يتلفت حوله قائلاً بتوتر:
_المهم الآن...أين هي؟!!
لوحت بكفها قائلة باستياء:
_عادت مع أخيها لبيت والدها.
كز علي أسنانه بغضب وهو يسألها بعتاب:
_هل آذيتِها يا أمي؟!!
اقتربت منه أكثر لتهتف بعصبية شديدة:
_اسمع يا ابني...تكفيني مصيبتي في أخويك...لن أحتمل أن أُبتلَي فيك أنت الآخر...لقد كانت هذه الزيجة فاشلة...جدك زوّجك منها طمعاً في نفوذ أبيها...والآن توفي عاصم الهاشمي...وابنته لم تعد تحمل ما يميزها عن بقية النساء...بل هاهي الآن ثبتت خديعتها لنا طوال هذه الفترة...ولم تعد صالحة لك علي أي حال...
اشتعلت عيناه بالغضب وهو يحاول تمالك انفعاله لأقصي حد...
قبل أن يقول بحزم :
_لو كان جدي اختارها لنسبها فأنا اخترتها لشخصها...رقية الهاشمي ستبقي زوجتي لآخر لحظة في حياتي مهما حدث...حتي لو كانت عاقراً كما تقولين...لا أريد أطفالاً إلا منها هي..وإلا فلا حاجة لي بهم!
اتسعت عيناها بانفعال وهي تمسك ساعديه هاتفةً بسخط:
_سحرتك ابنة الهاشمي؟!!! ماذا جري لياسين الهادئ الرزين الذي كان يحكم عقله في كل شئونه؟!!
أشاح بوجهه في ضيق ثم عاد ينظر إليها قائلاً بنبرة لائمة:
_أن أتخلي عنها الآن ليس من العقل ولا حتي من الرجولة...رقية تحملت لأجلي ما لا تتحمله امرأة في ظروفها والآن دوري لأرد لها بعض الدين الذي في رقبتي.
هزت رأسها وهي تغمغم باعتراض:
_أي دينٍ هذا؟!!
تنهد بحرارة وهو يزيح ذراعيها عن ساعديه برفق ليعطيها ظهره متأهباً للخروج عندما سمعها خلفه تهتف بجزع:
_أين ستذهب الآن؟!!
وقف مكانه ثم قال دون أن ينظر إليها:
_زوجتي تحتاجني !!
اندفعت نحوه لتجذبه من كتفه هاتفةً بغضب:
_قاسم النجدي لن يرضي عن استمرار هذه الزيجة بعد...سيجبرك علي تطليقها كما أجبرك علي الزواج منها.
ابتسم بسخرية مريرة ثم صمت للحظات ...
قبل أن يقول بإصرار:
_ياسين "آسيا" ليس كياسين "رقية" !!
نظرت إليه بدهشة للحظات قبل أن تدمع عيناها وهي تغمغم بحسرة:
_يا لقلة حظي في أولادي!!! هل هذا هو برك بأمك يا ياسين؟!!
استغفر الله بصوت مسموع ثم قبل رأسها ليقول بحزم رفيق:
_لا علاقة لهذا ببرّي بكِ...لن أظلم رقية يا أمي...كفاها ما تحملته لأجلي!!
قالها ثم غادرها بخطواتٍ سريعة وقلبه يكاد ينفطر علي هذه التي يعلم الله كيف هو حالها الآن!!!
استقل سيارته بسرعة متخذاً طريقه ل"فيللا عاصم الهاشمي" حيث استقبلته إكرام بقلق بالغ وهي تقول بصوت مهزوز غريب علي تعاليها "الأروستقراطي" المعهود:
_أهلاً ياسين...هل عرفت الأمر؟!
تلفت برأسه باحثاً عن رقية وهو يغمغم باضطراب:
_لا شئ مؤكد بعد يا سيدتي...قد يكون تشخيص هذه الطبيبة خاطئاً...وحتي لو كان الأمر كما زعمت...لم تعد هذه الأمور صعبةً كالسابق...سنستشير كبار الأطباء هنا...ولو تطلب الأمر السفر فسنفعل...المهم الآن هو رقية...أين هي؟!
تنهدت إكرام بحرارة قبل أن تغلبها دموعها لتهمس بأسي:
_في غرفة عاصم...منذ عادت مع بلال وهي تحبس نفسها هناك...ولا تريد التحدث مع أحد!
ربت علي كتفها برفق ثم استأذنها بقوله:
_أنا سأصعد إليها!
أومأت برأسها في موافقة فصعد الدرج بسرعة نحو غرفة عاصم الهاشمي حيث طرق الباب بقوة وهو يهتف بحزم:
_رقية...افتحي!!!
لم يصله رد للحظات...فعاود الطرق بصورة أقوي وهو يهتف بحزم أشد:
_لو لم تفتحي...فسأكسر الباب!!!
قالها متبعاً ذلك بطرقاتٍ عنيفة حتي فتح الباب لتبدو هي من خلفه بأسوأ حالٍ رآها عليه منذ عرفها...
عيناها كانتا زائغتين باضطراب وكأنها لا تعي شيئاً...
ووجهها كان شديد الاحمرار من فرط البكاء ...
مع ارتجافة جسدها كله الذي بدا وكأنه علي وشك السقوط في أي لحظة لولا تمسكها بالباب الذي لم تفتحه كاملاً وهي تهمس بصوتٍ مختنق وسط دموعها:
_دعني الآن وحدي يا ياسين...أرجوك.
دفع الباب بقوة مقاوماً تشبثها المستميت به ليدخل ويغلقه خلفه...
قبل أن يجذبها لصدره بعنف مخفياً جسدها بين ذراعيه وهو يهمس بحنان دافئ:
_أنتِ الآن وحدك...أنا وأنتِ كيانٌ واحد!!
قاومت بكاءها بين ذراعيه لكنها لم تستطع رفع رأسها نحوه وهي تتشبث براحتيها علي صدره ...
فعاد يهمس في أذنها بحرارة:
_لا شئ يستحق دموعكِ يا غاليتي...انسي كل ما سمعتِه اليوم...واعتبريه مجرد هراء...غداً نذهب لأفضل طبيب هنا...ليس واحداً بل عشرة...وحتي لو كان كلام الطبيبة صحيحاً...سنتقبل قدرنا برضا...المهم أن نكون معاً...
ثم رفع ذقنها إليه ليتطلع لعينيها الذابلتين علي عكس طبيعتهما الواثقة هامساً بصوته الدافئ:
_لم أكن أظن أن شيئاً بسيطاً كهذا يزلزل عرش السلطانة رقية ؟!!
هزت رأسها بقوة وهي تهتف بانفعال جعلها ترتجف حقاً بين ذراعيه:
_بسيط؟!!! بسيط يا ياسين؟!!! أنا لم أشعر في حياتي بهذا الشعور الذي ذبحني اليوم...
ثم خانتها دموعها لتسقط رغماً عنها وسط شهقاتها الباكية وهي تردف بانهيار لم يشهدها عليه من قبل:
_أنا انكسرت...رقية الهاشمي التي كانت نجمة تهفو إليها القلوب...اليوم قالت عنها والدتك أنها.....أنها.... أرض بور..أنا التي...
قطع عبارتها بعنف عندما جذب رأسها لصدره من جديد وشفتاه تغمران وجهها ورقبتها ورأسها بقبلاته العميقة التي حملت كل عاطفته واعتذاره...
هو الذي يفهم الآن أكثر من أي أحد كيف تشعر هذه المرأة ذات الكبرياء...
هي التي تعودت علي نظرات الانبهار في العيون...
واليوم تختفي لتحل محلها نظرات استهانة وشفقة!!!
خاصةً وأن هذا يتزامن -للأسف- مع عودة آسيا لمنزل العائلة...
كل هذا كثيرٌ علي صبر أي امرأة...
حتي لو كانت رقية الهاشمي!!!
لهذا ربت علي ظهرها أخيراً برفق وهو يهمس في أذنها ورأسها مزروعٌ في صدره:
_أنا أعتذر لكِ بالنيابة عن أمي ...هي الآن ليست بحالتها الطبيعية...قلبها موجوعٌ علي أولادها.
مرغت وجهها في صدره وهي تهمس بانكسار لا يليق بها:
_هذا الشعور الذي لن أعرفه أنا أبداً...أن يكون لي أولاد...كل واحد منهم هو قطعة من قلبي....
دمعت عيناه رغماً عنه وهو ينحني برأسه ليلصق وجنته بوجنتها هامساً بحزم لا يخلو من حنانه المعهود:
_لا داعي للتعجل يا غاليتي...رقية التي أعرفها لن تنهزم هكذا من أول جولة...دعينا أولاً نتأكد من تشخيص الطبيبة...قبل أن نبدأ ونسعي للبحث عن حل ...
صمتت لدقائق مرت علي كليهما ثقيلة متباطئة...
قبل أن تغمغم هي بشرود:
_نتأكد ...و..نبدأ..و..نسعي...لا يا ياسين!!!
ثم رفعت عين.يها إليه هامسةً بتصميم:
_بل أتأكد..وأبدأ...وأسعي...لو كان لحالتي علاج فسأسير في طريقه وحدي...ولو لم يكن فأنا أحلك من ارتباطنا هذا...
ابتسم في حنان متفهم وهو يضغطها بين ذراعيه أكثر ليهمس باحتواءٍ لا يجيده مثله:
_طوال الطريق من منزل العائلة إلي هنا وأنا أراهن نفسي أنكِ ستقولين هذا...لايزال كبرياؤكِ يهزم قلبكِ في صراعهما...
ارتعشت حدقتاها بضعف لم يعهده فيهما عندما ابتعد برأسه ليلتقط نظراتها الضائعة مردفاً بنفس النبرة الآسرة:
_لكنني وعدتكِ أن أحفظ كليهما يا سلطانتي!!
دفعته برفق لتبتعد عنه بضع خطوات معطيةً له ظهرها ...
فتركها لنفسها للحظات...
قبل أن يقترب منها ليحتضن كتفيها بكفيه هامساً بعتاب حنون:
_كنت أتمني لو لجأتِ لحضني أنا اليوم...بدلاً من هذه الغرفة.
عادت دموعها تسيل من جديد علي خديها وهي تهمس بصوت متقطع:
_لقد طلبت من بلال فعلاً الذهاب لشركتك...لكنني لم أتمكن من النزول من السيارة...ظللت أنظر لبابها فقط من بعيد دون أن أجد القوة لأصعد إليك...
ثم ابتسمت بسخرية بين دموعها لتردف بمرارة :
_هل تتصور هذا؟!! أنا رقية الهاشمي أعجز عن مواجهة موقف كهذا؟!!
تنهد بحرارة وهو يحتضن وجهها براحتيه هامساً بحزم:
_لا تحملي نفسكِ فوق طاقتها ...رقية الهاشمي إنسانة...امرأة من لحم ودم وإحساس...إنسانةٌ يحق لها أن تبكي عندما تضعف...أن تستريح وقتما تتعب...أن تشكو حين تتألم...لا تسجني نفسكِ بداخل فكرتكِ عن رقية الصلبة كالجبل التي تحمل همّ الجميع ولا تريد أن يحمل همّها أحد...ابكي واصرخي واحكي ...أفرغي شكواكِ علي صدري بالساعات...املئي أذني ثرثرة كالنساء دون خوفٍ أن تزعجيني بعد عناء عملي...أعلني عن مكانٍ تحبين السفر إليه وخاصميني لو اعترضت دون مراعاة لظروفي...احلمي وتدللي واطلبي ...عيشي القليل من عمركِ لرقية التي طالما صبرت ومنحت...وآن الأوان لتطلب وتأخذ!!
تعلقت عيناها بعينيه في عاطفةٍ هادرة لم يرَها فيهما من قبل...
قبل أن تلقي نفسها بين ذراعيه لتضمه بكل قوتها هاتفةً بانهيار عاطفي:
_اليوم شعرتُ بالخوف كما لم أشعر من قبل إلا يوم وفاة أبي... خوف رهيب يا ياسين....لأنني...كنت...
ضمها إليه أكثر وقد عجزت عن إكمال عبارتها للحظات....
لكنه أكملها له بحنانه :
_كنت تخافين أن تفقدي ياسين...حبيبك...وصديقك...وأباكِ ...وابنك...قبل أن يكون زوجك...صحيح؟!
رفعت إليه عينيها بنظراتٍ ذبيحة فابتسم مردفاً بعشقٍ جارف:
_لم يعد هناك فارق بين إحساسي وإحساسك...هو قلبٌ واحدٌ ينبض في صدرينا معاً!!
ابتسمت أخيراً بشحوب وعيناه ترويان سطوراً من عشق وخوف وانكسار ومحاولةٌ واهية للتظاهر بالقوة...
فمال علي شفتيها يلامسهما بنعومة قبل أن يهمس بعاطفة ملتهبة:
_لو تعلمين شعوري بمذاق ابتسامتك علي شفتيكِ لما حرمتني منها أبداً!!!!
اتسعت ابتسامتها وهي تتطلع لعينيه بمزيج مشاعرها العاصف الآن...
قبل أن تهمس بتردد:
_كنت أريد أن أطلب منك شيئاً....
أومأ برأسه منتظراً فأردفت بما يشبه الرجاء:
_لا أريد العودة لبيت العائلة...!!!
أطرق برأسه للحظات ثم عاد يرفعه نحوها هامساً بحزمه الحاني:
_ليس الآن يا رقية...أنا أتفهم شعورك جيداً خاصةً بعد عودة آسيا ...وظني أن انفعالكِ هذا هو الذي أثار معدتك الحساسة كالعادة...لكنني لا أريدك أن تستسلمي لهذا الشعور...كما لا أريد أن يقال أنكِ خرجتِ من بيت العائلة بسببها...رقية الهاشمي ستعود لبيت زوجها مرفوعة الرأس غداً...وكأن شيئاً لم يحدث...لبضعة أيام فقط...وبعدها سأجعلك تختارين مكان إقامتنا كما تحبين...حتي لو أردتِ أن نقيم هنا بصورة دائمة فلن أمانع...لكن دعينا فقط نتجاوز هذه الفترة !!
أغمضت عينيها للحظات وكأنها تعقل حديثه الذي بدا لها منطقياً...
ثم عادت تفتحهما لتهمس ببعض الحرج:
_ووالدتك؟!
رفع كفيها يقبلهما باعتذار ممتزج بامتنانه قبل أن يقول برفق:
_أنا كفيلٌ بأمي ...لن أدعها تؤذيكِ بكلمة...هذا وعدٌ مني!
أومأت برأسها موافقة وهي تشعر بانهيار جسدها ضعفاً وإنهاكاً بعد هذا اليوم العصيب الذي بدأ بفورة انفعالها -الصامت-بعودة آسيا لبيت العائلة...
فوضعت كفها علي رأسها بإعياء واضح...
عندما جذبها من كفها نحو الفراش ليمددها عليه برفق...
قبل أن يخلع سترته ليتمدد جوارها ضاماً لجسدها بين ذراعيه وهمساته الدافئة تطوقها بحنان:
_الآن ينام كلانا في حضن صاحبه فلا خوف ولا حزن...كفاكِ دموعاً يا غاليتي!
==================================
فتحت عينيها صباحاً تتأمل المكان بدهشة ...
قبل أن يعاودها إدراكها...
إنها غرفتها القديمة في منزل النجدي الكبير الذي عادت إليه مع جسار...
جسار!!!!!!
انتفضت من نومتها وهي تستعيد في ذهنها ما حدث بينهما ليلة أمس...
رباه!!!!
هل كان هذا حقيقياً؟!!!
التفتت جوارها لجانبه الخالي من الفراش وعيناها تدوران في الغرفة بحثاً عنه...
لكنه...لم يكن هناك!!!
ظلت غارقةً في صدمتها للحظات...
ثم أغمضت عينيها بألم ممتزج بحسرتها وعقلها يخبرها بالحقيقة...
جسار هرب منها ومن نفسه بعدما كان بينهما...
لقد كره لحظة ضعفه معها...
ومن يدري...ربما يكرهها هي نفسها الآن!!!
هي التي يراها بعينيه الآن خطيئة لا تغتفر في حق حبه القديم!!!!
سالت دموعها علي خديها وهي تشعر بالقهر...
وأيُ ظلمٍ أكبر من أن يكون حبها الذي تراه تاجاً علي رأسها مجرد وصمة عار في جبينه هو؟!!!
ما ذنبها إن كانت عشقته بكل ذرة في كيانها حتي وهي تعلم أن أرض وطنه المحتلة بعشقه العتيق ليس فيها موطأ قدمٍ لها أو لسواها؟!!!
ما ذنبها إن كان قلبها الذي طالما ارتجف بين ضلوعها مذعوراً كطفلٍ يتيم وجد أمانه في عينه التي ربما لم ترَ فيها سوي واجب ثقيل؟!!!
ما ذنبها إن كانت روحها الظمأي للحنان قد انجذبت لينابيع روحه الفياضة به ؟!!!
ما ذنبها؟!!!!
قُطعت أفكارها عندما سمعت صوت طرقات خافتة علي الباب...
فمسحت دموعها بسرعة ...
لا يجب أن يشعر أحد هنا بشئٍ مما يدور بينهما...
ثم علا صوتها تسمح للطارق بالدخول...عندما تجمد جسدها للمفاجأة...
فقد كان .....هو!!!
اتسعت عيناها بدهشة للحظة قبل أن تندفع نحوه وقلبها يتوسلها أن تلقي بنفسها بين ذراعيه...
لكنها توقفت علي بُعد خطوة منه وهي ترمقه بنظراتٍ ضائعة مشتتة بين غيوم دموعها المنذرة بالهطول...
لكنه هو الذي اقترب منها ليضمها إلي صدره برفق مغمغماً بقلق:
_ماذا بكِ؟!!
أراحت رأسها علي صدره مغمضةً عينيها بسكينةٍ لا تجدها إلا معه...
قبل أن ترفعهما إليه هامسةً بصوت مرتعش:
_ظننتك....رحلت!!
ارتفع حاجباه بدهشة للحظة ثم ابتسم قائلاً بحنانه المعهود:
_كيف أرحل دون أن أخبرك؟!!
هربت بعينيها من عينيه وهي لا تزال غارقةً في حيرتها بشأن وضعهما الجديد...
بينما أردف هو بنفس النبرة:
_كنتُ أتمني لو أكون جواركِ عندما تستيقظين لكنني لم أكد أخرج من الغرفة صباحاً حتي وجدتُ جدّكِ يطلبني للحديث معه وحدنا في غرفته.
اتسعت عيناها بقلق وهي ترمقه بنظراتٍ مترقبة...
فربت علي وجنتها برفق ثم قال لها مطمئناً:
_لا تخشيْ شيئاً بعدُ يا "كريستالتي"...جدّكِ كان فقط ...يوصيني عليكِ!!!
انفرجت شفتاها بذهول وهي تردد خلفه :
_قاسم النجدي كان يوصيك أنت عليّ أنا؟!!!
اتسعت ابتسامته وهو يومئ برأسه إيجاباً قبل أن يردف بشرود وهو يستعيد بذهنه حواره مع النجدي الكبير:
_لقد بدا الأمر ظاهرياً وكأنه يهددني لو أصابكِ سوءٌ معي...كان يذكرني بقوة عائلة النجدي وأنها لا تتهاون أبداً مع من يسئ لفردٍ منها...لكنّ عينيه القاسيتين حملتا رجاءً خاصاً لم يتعمده...ومع هذا وصلني كاملاً دون نقصان...ربما لأنني شعرت بصدقه...رجاءً بأن أصونكِ دوماً ولا أخيب ظنه فيّ.
ثم التفت إليها من شروده ليبتسم هامساً بحرارة:
_ما رأيك؟!!! هل أحتاج أنا لمن يوصيني عليكِ؟!!
ابتسمت بارتباك وعيناها تتهربان من لقاء عينيه...
ثم أطرقت برأسها صامتةً للحظات دون رد...
فربت علي رأسها برفق هامساً بحنان:
_ما الأمر يا آسيا؟!!
ظلت علي إطراقها الصامت للحظات...
فضمها إليه أكثر وهو يداعب شعرها بأنامله مردفاً:
_لا تُخفي عني شيئاً بعد...قولي لي ماذا يدور برأسكِ.
ترددت للحظات أخري ووجنتاها تتخضبان بحمرة خجلها قبل أن تتمالك قوتها لتهمس بخفوت :
_هل ندمتَ علي ما حدث بيننا؟!!
ابتعد برأسه قليلاً ليرفع ذقنها إليه هامساً بحزم ممتزجٍ بعاطفته:
_الندم يكون علي خطأ...فهل ما بيننا خطأ؟!!
كادت تطرق برأسها من جديد وهي عاجزة عن الرد...
لكنه عاد يرفع وجهها إليه مثبتاً عينيه في عينيها وهو يردف بنفس النبرة :
_لماذا تخفضين رأسك هكذا؟!!! جبينكِ هذا خُلق ليبقي مرفوعاً بكبرياء ملكة ...تذكري هذا جيداً وأنتِ تبدئين طريقك الجديد.
دمعت عيناها بتأثر رغم ابتسامتها التي أنارت ملامحها كلها...
فابتسم بدوره وعيناه تحتضنان ملامحها بحبٍ لم يعد ينكره كلاهما...
قبل أن يقترب بوجهه منها أكثر ليهمس أمام عينيها :
_أحبكِ وتحبينني...ما عاد هناك مجالٌ لشكّ أو جدال!!!
ارتجفت شفتاها بقوة مع اتساع حدقتيها المذهولتين وهي لا تكاد تصدق أنها سمعتها منه أخيراً...
قبل أن تنطلق منها صيحة فرح قصيرة وهي تتعلق بعنقه بكل قوتها ...
لتهمس بعدها وسط دموع فرحتها هذه المرة:
_جسار...قلها من جديد...قل أنني لا أحلم...قل أنك حقاً هنا معي...
اعتصرها بين ذراعيه مخفياً وجهه في طيات شعرها الذهبي الذي طالما أثار جنونه...
ليهمس بعدها بصوت متهدج:
_معكِ يا حبيبتي...معكِ دوماً.
رفعت رأسها إليه مبهوتة ...
وهي تسمعها منه لأول مرة...هامسةً بصدمة:
_حبيبتك؟!!
احتضن وجنتيها بكفيه وهو يهمس بحرارة :
_لو لم يكن هذا حباً فماذا يكون؟!!
تألقت عيناها بفرحة طاغية مصبوغة بعاطفتها وهو يكمل همسه الساحر:
_لم أعد أخشي اعترافي بها...بل علي العكس...أريد أن أهمس بها الآن أمامكِ كل لحظة...لن تتصوري شعوري بالأمس وأنا أظنكِ قد ترحلين عن عالمي وتتركينني وحدي...أنا الذي ذقت مرارة فقد من أعشق...ساعتها طغا طوفان حبك علي كياني كله ليجرف في تياره أي مشاعر سواه...
ازدانت شفتاها بابتسامة كشمس ساطعة...
لكنه أغمض عينيه ليردف بنبرات مرتعشة:
_لكن...لا تظني أني نسيتُ سمية...سيبقي مكانها في قلبي دوماً لها...
ثم فتح عينيه ببطء هامساً بألم ممتزج بما يشبه الاعتذار:
_لا أدري إن كان ما يقولونه صحيحاً أن القلب لا يعرف الحب إلا مرة واحدة...لكنني أثق أنني أحبكِ...تماماً كما أحببتها...
التقت عيناها بعينيه في حديث طويل...
صمت فيه كلاهما للحظات ولازال يحتضن وجهها بكفيه كأنها كنز عمره الذي يخشي فقده...
ولازالت تتعلق بخيوط العشق في عينيه وكأنها شفاء روحها من كل أوجاعها...
قبل أن تقطع هي هذا الصمت بهمسها القوي الواثق:
_لو كنتَ قلتَ غير هذا لما صدقتك...أنا أحببتُ جسار الوفي المخلص الذي رأيت فيه صورة العشق كما أتصوره...أشكرك لأنك لم تشوه هذه الصورة بلون أسود من خيانةٍ أو نسيان.
تنهد بحرارة وهو يشيح بوجهه ...
لتردف هي بنفس النبرة الواثقة:
_قد قلتُ أنا يوماً أنك رجلٌ غير قابل للقسمة...لم أدرك وقتها أن حسابات القدر لا تعترف بقوانين ...وأننا قد نرتضي القسمة أحياناً فقط...لو تكون عادلة فلا نظلم بها أحداً..
التفت إليها بابتسامة واسعة وهو يهمس بإعجاب حقيقي:
_أنا فخورٌ بكِ أيتها "الكريستالة"!!!
ابتسمت بخجل ضاعف سحرها في عينيه فسألها بتردد وعيناه تتشبثان بملامحها فيما يشبه الرجاء:
_ألازلتِ ترغبين بالبقاء هنا؟!!
أومأت برأسها وهي تقول بابتسامة اسئذانٍ آسرة:
_أريد أن أكمل طريقي الذي رسمتَه أنت لي...أريدك أن تفخر بصنيعة قلبك ويديك...بآسيا التي كانت يوماً تري الموت والحياة سواء لكنها الآن تبينت حلمها يلوح في الأفق وستحلق بجناحيها حتي تصل إليه...
تألقت عيناه ببريق أخّاذ وقد ارتسمت فيهما سعادته الجديدة بها...
لا...ليس هذا مجرد شعور رجل بامرأة...
بل إن إحساسه بها يتجاوز هذا بكثير...
إنه يشعر كما تقول أنها ابنته التي يفخر بها...
قبل أن تكون معشوقته التي يذوب بها غراماً!!!!!
لهذا انحني علي رأسها يقبله بفخر قبل أن يقول بحنانٍ طاغٍ:
_رغم أنه سيشق عليّ ابتعادك هذه الأيام...سنكون معاً يداً بيد...حتي نتذوق معاً طعم نجاحكِ آخر الطريق....ما أشبهكِ الآن بفرسٍ جموح قوية تعرف طريقها ولن يوقفها شئ.
رفعت كفيها تضعهما علي كفيه اللذين يحيطان بوجنتيها لتهمس بامتنان:
_نعم...لكنني الآن أدرك أنني مهما ابتعدت ...سيكون دوماً في عينيك منتهي خطواتي.
====================
كانا يهبطان الدرج متشابكي الأيدي حيث سيغادر جسار إلي المزرعة...
وستبقي آسيا هنا لبضعة أيام حتي تتابع شئون تسلم عملها ودراستها من جديد...
لتعود بعدها إلي المزرعة في عطلتها كما اتفقا...
لكنهما توقفا مكانهما عندما اصطدما برقية وياسين في طريقهما للصعود بعدما عاد بها ياسين من منزل أبيها...
توقف الأربعة مكانهم والتقت العيون بحديث فاضح لمشاعر فاضت بداخل كل منهم...
تشنجت أصابع جسار علي كف آسيا الذي في يده دون وعي...
وهو يشعر بأنياب الغيرة تلتهم روحه من جديد...
كيف سيتركها خلفه هنا مع هذا الرجل في نفس البيت؟!!!!
وأمامه كان ياسين يشعر ببعض الحرج من هذا اللقاء لكنه رفع ذراعه ليضم رقية لكتفه قائلاً بهدوء:
_أهلاً يا جسار...حمداً لله علي سلامتك في بيت العائلة يا آسيا!
رد جسار تحيته بفتور وأصابعه تزداد ضغطاً علي كف آسيا في يده وكأنه يعلن ملكيته لها...
آسيا التي تداركت الأمر بسرعة لتصافح رقية بكفها الحر قائلةً بودّ لا تدعيه:
_أهلاً رقية...لم أتمكن من رؤيتك بالأمس.
كانت رقية الآن في أسوأ حالاتها وأكثرها انكساراً...
لكنها رفعت رأسها بكبرياء مصافحةً آسيا بدورها وهي تقول بابتسامة باهتة:
_حمداً لله علي سلامتك..
رفع ياسين ذراعه عن كتف رقية ليربت علي رأسها مبرراً غيبتها حتي لا يُساء فهمها :
_رقية كانت مريضة بعض الشئ فاضطررنا للمبيت في "فيللا" والدها لكنها اليوم صارت أفضل.
ابتسمت آسيا وهي ترمق ملامح رقية الشاحبة بإشفاق قبل أن تقول بمرح :
_مريضة؟!! هذه إذن فرصتي...دعيني أجرب فيكِ إذن ما تعلمته طوال هذه السنوات...ستكونين أول مرضاي!!!
اتسعت ابتسامة رقية الشاحبة وهي تشعر بمرح آسيا وعفويتها يبددان القليل من توجسها السابق...
خاصة مع شعورها بأن حباً كبيراً صار يجمعها مع جسار القاصم هذا...
لكنها مع هذا لم تستطع منع هذه المرارة في حلقها وهي تري أن عودة آسيا تزامنت -للحظ-مع أشد لحظات حياتها انكساراً...
لهذا أطرقت برأسها للحظة قبل أن تغمغم بنبرة مختنقة استدعت فيها قوتها المعهودة لكنها خذلتها:
_يشرفني أن تكوني طبيبتي....وصديقتي أيضاً.
ربتت آسيا علي كتفها بحنان قبل أن تقول برقتها الفطرية:
_اصعدي الآن لتستريحي فوجهكِ يبدو مرهقاً...ولنا حديث طويل فيما بعد.
أومأت رقية برأسها بينما رمق ياسين آسيا بنظرة امتنانٍ خاطفة قبل أن يغض بصره عنها ليصعد مع رقية نحو شقتهما...
أماجسار فكان يراقب الموقف بعينين مشتعلتين...
رغم أنه يتفهم مشاعر الأطراف كلها ...
لكنه كان يشعر بقلبه يكاد ينفطر غيرةً وألماً...
أي عقلٍ هذا يدفعه لترك امرأته هنا خلفه وحدها في نفس البيت مع حبيب طفولتها وصباها؟!!!
بينما يكابد هو وحدته واشتياقه دونها في مكانٍ بعيد؟!!!
لكن آسيا التفتت إليه لتقرأ في عينيه ما عجز عن البوح به احتراماً لها وحتي لا تفهم أنه يعيّرها بماضيها...
قرأته كاملاً دون نقصانٍ كعهدها معه...
فتلفتت حولها تتأكد أن لا أحد هناك قبل أن ترفع كفه لشفتيها تقبله في مزيجٍ من الحب والتقدير...
قبل أن تهمس بقوتها -المستحدثة-:
_لو أمرتني الآن بالعودة فسأعود معك دون كلمة واحدة...وسأكون أكثر من سعيدة بلقب زوجة جسار القاصم وحبيبته...دون أي لقبٍ آخر.
أسبل جفنيه يخفي عنها لهيب أعماقه الثائرة...
لكنها ضمت كفه براحتيها إلي صدرها مردفةً بنفس النبرة القوية:
_لكن لو سمحت لي بالبقاء رغم كل الظروف لأحقق حلمي وحلمك...فسأبقي طوال عمري مدينةً لك بطعم نجاحي.
تنهد بحرارة وهو يشيح بوجهه عنها للحظات مرت عليها ثقيلة حقاً لكنها احترمت صمته...
حتي التفت إليها أخيراً بابتسامته التي احتكرت حنان الكون كله وهو يقبل جبينها ليهمس بعدها أمام عينيها بحزم حانٍ:
_تسلمي عملكِ وتدبري أمر إكمال دراستك...لن أتهاون في أي تقصير في هذا أو ذاك...كما قلتِ أنتِ...هو حلمي وحلمك...آسيا النجدي ستكون أمهر طبيبة في هذه المدينة.
ضحكت بسعادة حقيقية ضحكةً أشرقت لها الدنيا في عينيه...
قبل أن تلقي بنفسها بين ذراعيه دون تحفظ لتحتضنه بكل قوة عشقها وامتنانها...
قبل أن ترفع رأسها إليه هامسةً بحبٍ لم يعرف قلبها مثله:
_محظوظةٌ أنا بزوجٍ بنكهة الأب والأخ والصديق...محظوظةٌ أنا بك يا كل قوتي...وكل سندي!
==========
صعدت آسيا الدرج متوجهةً نحو سطح المنزل وفي يدها دلو طلاء صغير...
وجدت الباب موارباً فشعرت ببعض الخيبة ...
كم كانت تتمني لو كان مغلقاً لتستمع لصوت صريره الذي اشتاقته...
والذي سمعته آخر مرة يوم زفاف ياسين ورقية حينما صعدت إلي هنا تنعي حبهما لآخر مرة...
قادتها خطواتها المتمهلة برهبة إلي هذا الجدار هناك...
حيث نقش لها هو يوماً نقشهما المميز بحرف اسمه الأول الذي يحتضن حرف اسمها الأول كذلك...
لكنها لم تجده مكانه...
وضعت دلو الطلاء جانباً وهي تجلس علي ركبتيها لتبحث عن النقش بعينيها من جديد وهي تتوهم أنها ربما نسيت مكانه...
عندما سمعت صوتاً خلفها يغمغم بأسي:
_لقد فعلها ياسين قبلك...لقد طمس الرمز الخاص بكما من علي الجدار!
التفتت خلفها لتجد ساري تجلس علي أرجوحتها القديمة محتضنةً دميتها بذراعيها وهي تنظر إليها بمزيج من الإعجاب والحزن...
فعادت ببصرها لمكان النقش الذي ميزته الآن واضحاً وقد طمسه -أحدهم-بآلة حادة...
ابتسمت وهي تهز رأسها ثم وقفت علي قدميها لتتوجه نحو ساري قبل أن تجلس جوارها محتضنةً لها بين ذراعيها وهي تسند رأسها علي صدرها لتهمس برضا:
_حسناً فعل...لقد فكرت في الطلاء كحلٍ مناسب لكنه اختار الحل الأقسي والأفضل...
ثم غمغمت بشرود لا يخلو من حزن:
_أتصور الآن شعوره وهو يطمسه بيده كما حفره بيده...لاريب أنه كان إحساساً صعباً.
أغمضت ساري عينيها وهي تهمس بألم:
_أنا أغبطكما حقاً علي هذا...كيف استطعتما قهر هذا الحب الذي تملك قلبيكما منذ الصغر...ليتني أكون مثلكما!!
ضمتها آسيا أكثر وهي تقول بثقة:
_لو كان حباً لما قهره أحد...ياسين خذلني بضعف عاطفته ...لم أدرك هذا إلا عندما أسعدني القدر بلقاء جسار...لأري بحق كيف تكون قوة الحب وعنفوانه مهما كانت الظروف.
ثم رفعت وجه ساري إليها لتردف بإشفاق:
_مادمتِ لازلتِ تعشقين حذيفة فلماذا فعلتِ به هذا؟!!
ازدردت ساري ريقها وهي تقول بصلابة مصطنعة:
_من قال أنني لازلتُ أعشقه؟!!أنا أسعي لنسيانه بكل قوتي.
ابتسمت آسيا وهي تشير برأسها لدميته في حضنها قائلة:
_لقد أخرجتِها من مخبئها من جديد...لم تستطيعي التخلي عنها أكثر.
أشاحت ساري بوجهها فرفعت آسيا كفها الذي لازال يحتضن دبلته أمام وجهها لتردف بخبث:
_لم تستطيعي نزع دبلته من إصبعك فكيف تنزعين حبه من قلبك؟!!
عادت ساري تنظر إليها طويلاً بصمت...قبل أن تقول بفتور:
_لقد قلت أنني أسعي لنسيانه...ولم أقل بعد أني نجحت.
ربتت آسيا علي رأسها قائلةً بحنان:
_ولماذا تفعلين؟!! حذيفة تغير لأجلك حقاً...لم أصدق أذنيّ عندما أخبرتني أمي عن حقيقة ما حدث بينكما...حذيفة اللعوب الذي لم يرَ يوماً إلا نفسه صار شخصاً آخر علي يديكِ...تاب عن علاقاته النسائية العديدة وصار جاداً في عمله...بل وتحدي قاسم النجدي في أول سابقة للعائلة فقط ليحقق لكِ رغبتكِ علي عكس مراده...فلماذا خذلتِه أنتِ؟!!
عضت ساري علي شفتيها وهي تهمس بألم:
_لم أستسغ فكرة أني مجبرةٌ عليه...عقلي كان يتصيد له الأخطاء هازماً نبضات قلبي المحتلة بغرامه منذ الأزل...أحببته لكنني لم أحترمه...كان رجلاً هيناً في عيني...عظيماً في قلبي...وبينهما كنت أنا ممزقة!!!
عقدت آسيا حاجبيها وهي تغمغم باهتمام:
_ولازلتِ كذلك؟!!
صمتت ساري للحظات ...قبل أن تهز رأسها نفياً هامسةً:
_لقد أثبت لي حقاً أنه تغير...الجميع يحكون عن تبدل أحواله...التزامه وجديته في عمله...صلواته التي صار يحافظ عليها...شعوره المتعاظم بالمسئولية...لكن للأسف...لقد...فقدته!!
تهدج صوتها في كلمتها الأخيرة وهي تحاول كتمان دموعها...
فربتت آسيا علي رأسها لتهمس بحنان:
_لم تفقديه يا ساري...أنتِ فقط ابتعدتِ ...فلماذا لا تجيدين فنّ الاقتراب كما احترفتِ مهارة الابتعاد؟!!
هزت ساري رأسها بلا معني...
فأردفت آسيا برفق:
_كلاكما جريح عنيد مثابر وفوق كل هذا ...معتزٌ بكبريائه...ما أشبهكما باثنين يشدان حبلاً في عكس الاتجاه والنتيجة أن ينقطع الحبل ويسقط كلاهما علي ظهره.
رفعت ساري عينيها إليها باهتمام وهي تغمغم بتردد:
_ماذا تقصدين؟!
ابتسمت آسيا وهي تقبل رأسها بحنان قبل أن تقول بحزم رفيق:
_أرخي الحبل من جانبك كي لا ينقطع...لقد منحكِ هو حريتكِ ليري كيف ستتصرفين...ظني أنه واثقٌ من عشقكِ له...لكنه يريد أن تعودي إليه بإرادتك...فافعليها...أحبيه بانطلاقٍ من جديد...اعشقيه بكل قوتكِ وكأنكِ تتعرفين عليه لأول مرة...أعيدي صبغ قلبكِ بصورته الجديدة لعل عقلكِ يرضي!!
صمتت ساري للحظات تفكر في كلماتها...
لتبتسم أخيراً وهي تضم دميته بقوة إلي صدرها قبل أن تومئ برأسها موافقة...
ثم غمغمت بتردد:
_لكنه صار في غاية البرود معي...أخشي ألا يسامحني!
ضحكت آسيا بمرح ثم قرصت وجنتها لتقول بدهاء:
_المرأة الذكية لا تستسمح رجلاً يعشقها...بل تدفعه بطريقتها ليسترضيها هو!
رمقتها ساري بنظرة تساؤل فأردفت آسيا بثقة:
_حذيفة عاشق يا حبيبتي...فقط حلّقي بجناحيكِ حوله وهو الذي سيمد يديه ليتلقفك!!
=====================
_لقد تسرعت يا زياد...من يدري ماذا حل بهذه المسكينة الآن؟!
هتفت بها مارية باستنكار وهي ترمقه بغيظ...
فخبط بقبضته علي سطح المكتب هاتفاً بانفعال:
_لم أستطع تمالك نفسي ...كل هذه الأيام وأنا أتمني لو أراها...منذ عودتي إلي هنا ولا يمضي عليّ يومٌ دون أن أذهب للمكتبة طمعاً في أن أراها...ورغم أنها دوماً مغلقة لكنني لم أفقد الأمل ...وفجأة أجدها أمامي...صدقيني لقد قاومتُ نفسي كثيراً وقتها كي لا أختطفها ونرحل من هنا....لكن ذاك الوحش أفسد كل شئ.
زفرت مارية بضيق ثم غمغمت بشرود:
_هذا الوحش هو زوجها الآن يا زياد...الآن صار حبك لها هو الخطيئة ووجودها معه هو المشروع مهما كانت الظروف.
أشاح زياد بوجهه في غضب وهو يهمّ بالرد عليها عندما سمعا صوت طرقاتٍ هادئة علي الباب تبعه دخول حمزة...
وقفت مارية تستقبله بسعادة ظاهرة فابتسم لها بحب كسا كل ملامحه...
قبل أن يصافح زياد بود ثم جلس أمامه ملاحظاً ارتباكه الواضح عندما رآه...
لتلتمع في رأسه فكرة خاطفة عندما جمع بعض التفاصيل في ذهنه...
زياد ومارية يعرفان جوري...
جوري التي ارتبكت كثيراً عندما علمت عن خطبته لمارية رغم تأكيدها أنها فتاة جيدة...
اهتمام مارية بمعرفة أخبار جوري وفرحتها التي قرأها عندما علمت بطلاقها...
ما حدث مؤخراً بين جوري وعمار ...وجنون هذا الأخير الذي دفعه لعصيان أوامر جده...
وسؤال عمار المضطرب له عن خطبته لمارية...
وأخيراً ارتباك زياد هذا الذي لا يجد له مبرراً سوي.....
معقول؟!!!!
هل هناك شئٌ بين جوري وزياد هذا؟!!!
اشتعلت عيناه بغضب عندما راودته هذه الفكرة لكنه عاد يتمسك بحِلمه وهو يواجه زياد بنظرات متفحصة ليقول بهدوء مصطنع:
_لقد حدثت جوري عنكما...وقالت أن دكتور زياد كان من أفضل زبائن المكتبة.
ظهرت اللهفة واضحة في عيني زياد ...
لهفةٌ لم تخفَ علي ذكاء حمزة الذي أردف بنفس الهدوء المصطنع:
_أنا سعيدٌ أنه كان هناك سابق معرفةٍ بينكم...هذا يجعل ارتباط العائلتين أقوي.
اضطربت مارية مكانها وقد عجزت عن الرد...
فيما لم يتمالك زياد انفعاله -كالعادة- وهو يسأله باندفاع:
_هل هي بخير؟!!! هل رأيتها قريباً؟!!
تأكدت شكوك حمزة نوعاً بعد سؤاله الأخير فابتسم ببرود قائلاً:
_بألف خير...لقد عادت إلي زوجها أخيراً بعدما تحدت الجميع لأجله...جوري زوجةٌ مخلصةٌ حقاً قلّما يجد المرء مثلها.
اتسعت عينا زياد بصدمة للحظات...وهو لا يكاد يصدق ما يسمعه...
فأردف حمزة بنفس البرود:
_عمار وجوري مثالٌ جيد لعلاقة متكافئة...هو رغم غلظة طباعه الظاهرة لكنه يملك قلباً لم تملكه سواها...وهي الآن تدرك هذا جيداً!!
أغمض زياد عينيه قليلاً يحاول تقبل خسارته الأخيرة...
ثم قام من مكانه ليقول بصوتٍ مهزوز:
_بارك الله لهما...سأضطر للذهاب الآن.
رمقه حمزة بنظرة طويلة متفحصة قبل أن يقوم من مكانه ليصافحه قائلاً بلهجة محايدة:
_أبلغ السيد رياض أننا سنزوره الليلة لنحدد موعد عقد القران...أحب لو يكون أول أيام العيد...لقد هاتفتُ دكتور آدم ووافق .
شهقت مارية بفرحة وهي تقف مكانها لتصفق بكفيها هاتفةً بالانجليزية كعادتها عند انفعالاتها الصارخة:
_يا إلهي!!! حقاً يا حمزة؟!!!
التفت حمزة نحوها بنظرة حب عميقة لكنه حافظ علي هدوء نبراته وهو يقول ببعض التحفظ:
_نعم يا مارية...لقد أبلغتُ جدي ووافق بعد استقرار أمور العائلة أخيراً.
أشرقت ملامحها بسعادة خالصة بينما غمغم زياد بنفس النبرة المهتزة:
_مباركٌ لكما دكتور حمزة...نحن في انتظاركم اليوم.
قالها ثم غادرهما بخطواتٍ سريعة فالتفت حمزة نحو مارية التي ابتدرته بقولها:
_أخيراً يا حمزة...سيكون من حقي أن أعلن حبنا علي الملأ.
طوقها بدفء نظراته للحظات وعيناهما تتبادلان حديثاً لا يليق إلا بالعاشقين...
قبل أن يظهر بعض العتاب في كلماته وهو يقول بنبرة حازمة:
_بعيداً عما بيننا....ستجلسين الآن وتخبرينني بحقيقة ما بين زياد وجوري...وإياكِ أن تخفي عني شيئاً!!
ظهرت المفاجأة في عينيها للحظات وبدت كطفلة مذنبة تنتظر العقاب...
فشعر بقلبه يذوب من فرط عاطفته نحوها التي تدفعه الآن لاحتضانها بقوة...
لكنه تمالك نفسه ليردف بنفس الحزم:
_اجلسي أولاً!
جلست مكانها صامتةً للحظات تتحاشي لقاء نظراته وهي لا تدري ماذا تفعل...
حمزة النجدي رغم تعقله وسنوات عمره التي قضاها في لندن لايزال يحمل الدم الصعيدي الفائر ...
والذي لن يتقبل أبداً ما كان زياد ينتوي علي فعله بالهرب مع جوري قبل زفافها...
لكنها لا تستطيع أن تخفي الأمر عليه بعد شكوكه هذه...
لهذا استغلت ذكاءها وهي تقول أخيراً بتعقل:
_لن أكذب عليك يا حمزة...لكن لا داعي للخوض في ماضٍ لن تفيد تفاصيله أحد....ما استنتجته أنت صحيح...زياد كان يرغب في الزواج من جوري قبل زواجها من عمار...وظن أن بإمكانه إعادة المحاولة عندما علم عن طلاقها...لكن مادمتَ تقول أنها عادت لزوجها راضية...فلا معني لكل هذا...لقد أُغلق هذا الأمر نهائياً!!!
رمقها حمزة بنظرة عاتبة وهو يقول لائماً:
_ولماذا أخفيتِ الأمر عني؟!!
أسبلت جفنيها بخجل وهي تغمغم بارتباك:
_خفتُ من حميتك التي أعرفها لو علمتَ أنتَ عن شئٍ كهذا...
أشاح بوجهه دون رد فأردفت برجاءٍ طفوليٍ لم يستطع مقاومته:
_سامحني يا حبيبي...لن أخفي عنك شيئاً بعد!!
التفت نحوها بحدة وعيناه تلتمعان بقوة قبل أن يقول ببطء:
_ماذا قلتِ؟!!
انكمشت في مقعدها أكثر وهي تهمس بخفوت:
_قلتُ أنني لن أخفي عنك شيئاً بعد....أعدك بهذا!!
هز رأسه نفياً وهو يهمس بابتسامة ماكرة ملوحاً بسبابته في وجهها:
_لا....ما قبلها!!!
اتسعت عيناها في إدراك لتحمر وجنتاها بشدة وهي تهمس برقتها الآسرة:
_قلت يا "حبيبي"...ألا تعلم أنك حبيبي يا حمزة؟!!
توهجت عيناه بعاطفة صارخة وهو يقترب بجذعه من المكتب أكثر ليهمس أمام عينيها بخبث:
_"حبيبي" و"حمزة" في جملة واحدة لا يجتمعان...واحدة منهما تكفي لأموت عشقاً !!
ضحكت بتلك الطريقة التي تزلزل قلبه وتتملك روحه بلحظات...
فتنهد بحرارة ليهمس بعدها بخفوت:
_اللهم إني صائم!
ثم قام من مكانه ليقول لها بعاطفة صادقة:
_أول أيام العيد ينتهي صومي كاملاً...يومها تكونين لي حقاً يا ماريتي لأعشقكِ حقاً كما أريد دون قيود.
وقفت بدورها وقد رسمت الفرحة المزدانة بالعشق ملامحها من جديد لتومئ برأسها في خجل...
فابتسم وهو يودعها متجهاً نحو باب الغرفة قبل أن يتذكر شيئاً جعله يلتفت إليها قائلاً بنبرة عادت إليها جديتها:
_أقنعي ابن عمك أن ينسي أمر جوري تماماً وألا يتعرض لها بعد الآن...عمار النجدي لا مزاح لديه في هذه الأمور!!
=========================
جلست آسيا في غرفتها بالمشفي الحكومي الصغير الذي تسلمت عملها به منذ يومين تحاول الاتصال بجسار دون جدوي...
منذ تركها في منزل العائلة منذ أيام وهو لم يهاتفها ولا يرد علي اتصالاتها ...
استبد بها القلق وهي تخشي أن يكون قد أصابه مكروه هو أو الصغير ياسين...
أو من يدري...
ربما عاد لشعوره بالذنب بعد رجوعه إلي المزرعة التي تحمل رائحة عشقه القديم لسمية....
هزت رأسها بأسي وهي تدرك أنه لم يقوَ علي لمسها إلا عندما ابتعدا عن المزرعة...
وربما لو كانا بقيا هناك لما فعلها أبداً!!!
تنهدت بحرارة وهي تحاول الاتصال به من جديد لتكون النتيجة محاولةً فاشلةً أخيرة...
وضعت هاتفها في حقيبتها وهي تراقب الغرفة التي خلت من جميع زميلاتها اللائي انصرفن مبكراً فيما بقيت هي هنا وحدها وهي لا تريد العودة للمنزل...
غداً موعد عطلتها التي وعدته أن تقضيها معه كما اتفقا...
لكنها لا تدري ماذا تفعل الآن بعد امتناعه عن الرد علي مكالماتها...
هل تذهب بنفسها للاطمئنان عليه...
أم تتركه لوحدته التي اختارها كي لا تضغط عليه أكثر؟!!!
زفرت بضيق وهي تتأهب للمغادرة عندما التفتت ببصرها نحو باب الغرفة لتجده هناك...
نعم...جسار!!!
رمشت بعينيها لعدة مرات تتأكد من وجوده قبل أن تندفع نحوه بلهفة ليفاجئها بالدخول وإغلاق الباب خلفه قبل أن يرفعها من خصرها في عناقٍ دافئ طويل أعقبه بهمسه الحار جوار أذنها:
_يالشوقي إليكِ !!!
رفعت وجهها إليه باشتياقٍ مماثل قبل أن تنتبه للمكان فهتفت بارتباك:
_أنزلني يا جسار وافتح الباب...ستكون فضيحة لو رآنا أحد!!!
لم يبدُ عليه أنه سمعها وشفتاه تغزوان وجهها كله بقوة اشتياقه لينتهي هذا الغزو عند شفتيها في لقاء طويل ...
قبل أن يهمس أمام عينيها مداعباً:
_دعيهم يفصلونكِ من هنا...لقد غيرت رأيي...لن أسمح لكِ بالابتعاد من جديد.
ابتسمت بخجل وهي تتملص بصعوبة من بين ذراعيه لتعدل ملابسها ...
قبل أن تبتعد وتفتح الباب لتطمئن ألا أحد لاحظ شيئاً...
ثم عادت إليه لتهمس بعتاب:
_لو كنتَ اشتاقتني حقاً كما زعمت...فلماذا لم تكن ترد علي اتصالاتي؟!!
أغمض عينيه قليلاً ثم قال بضيق:
_لم يكن الأمر سهلاً كما ظننت...فراقك كان أشق عليّ كثيراً مما تصورت...صدقيني لو كنتُ رددتُ علي أيٍّ من اتصالاتك كنت سأطلب منكِ العودة دون تردد.
ابتسمت بحب وهي تراه ينسف كل مخاوفها التي كانت تنهش عقلها بقسوة....
قبل أن تهمس برقة:
_لو كنتَ طلبتَها لنفذتُها أنا الأخري دون تردد...أنا عند وعدي...أنت أهم من كل شئ!!
دارت عيناه علي ملامحها بتفحص اشتياقٍ ملتهب...
ثم أطرق برأسه قائلاً بحزم:
_لهذا لم أطلبها...أنا أيضاً عند وعدي...حلمنا واحد!!
ضحكت بسعادة وهي تتأبط ذراعه لتخرج معه من الغرفة قائلةً بمرح:
_إذن دعنا لا نضيع ثانيةً واحدة...اشتقت للمزرعة وللعم كساب وياسين ....وجسار الحبيب...لاريب أنه يفتقدني.
ربت علي كفها وهو يسير جوارها ليهمس جوار أذنها:
_صدقيني لو قلتُ لكِ...حتي ذرات الهواء هناك تفتقدك...كل الأشياء صارت باهتةً دونك.
رفعت إليه عينيها بفيض عاطفتها الكاسح ...
عندما فاجأها بقوله:
_لكننا لن نذهب إلي المزرعة.
توقفت مكانها وهي تسأله بدهشة:
_إذن إلي أين سنذهب؟!!
ابتسم وهو يجذبها ليعاودا السير قائلاً بشجن:
_إلي مكانٍ مزدحم لم أعد أشعر فيه بالخوف أن يتعرف عليّ أحد...هل تدركين قيمة شعوري هذا الآن؟! أنا الذي عشتُ عمراً أتخفي كاللصوص خشية أن يتعرف إليّ أحد...اليوم أريد أن أواجه بكِ العالم الذي طالما حُرمت منه...
ثم التفت إليها ليهمس أمام عينيها بحب لم تتصور أن تراه بعينيه صارخاً هكذا:
_أنتِ رددتِ إليّ اسمي وعائلتي وحريتي....إن كانت سمية قد نجحت في مساعدتي علي الحفاظ علي نفسي وحياتي بالاختباء في صومعة بعيدة....فأنتِ التي أعادتني إلي عالمي الأصلي آمناً دون خوف ودون قيود.
التمعت عيناها بتأثر وهي تشعر بصدق حديثه ...
كم كان كلاهما حقاً يحتاج لصاحبه....
هي التي احتاجت قوته ودعمه ليعالج هشاشتها وضعف طباعها...
تماماً كما احتاجت حنانه وحبه ليداوي جرحها القديم....
وهو الذي احتاجها ليعود من جديد للحياة فكانت له بعد الموت بعثاً كما يخبرها دوماً !!!
لهذا التصقت به أكثر وهي تشعر أنها تملك العالم كله الآن بين ذراعيها وهي تسير معه هكذا...
لتقول بفضول:
_لم تخبرني بعد أين سنذهب؟!
ابتسم بحنان قائلاً:
_لقد حجزتُ لنا غرفة في أحد الفنادق علي الساحل..."شهر عسل" تأخر كثيراً!!!
زيّن الخجل ابتسامتها المصبوغة بالسعادة وهي ترد عليه باعتراضٍ واه:
_شهرٌ بأكمله؟!! لن نستطيع..لن يمنحوني هنا إجازة طوبلة هكذا وأنا لازلتُ في بداية عملي...كما أننا في أواخر رمضان وحمزة سيعقد قرانه أول أيام العيد ...ويجب أن أكون مع العائلة.
ظهر الضيق علي وجهه للحظات....
لكنه أومأ برأسه في تفهم ثم قال برفقه المعهود:
_دبري أمركِ كما يحلو لكِ..أنا أمنحكِ حرية التصرف!
اتسعت ابتسامتها وهي تود لو تتجاهل البشر المحيطين بهم وتحتضنه بكل قوتها الآن...
هي التي عاشت عمرها قبله مجرد جارية يتحكمون في مصيرها...
الآن صارت معه حرةً...
ملكةً حقيقية تملك حق اتخاذ قرارها وتحديد مصيرها...
لا تستطيع وصف شعورها الآن بالسعادة...
عشق الجواري يختلف حقاً عن عشق الملكات...
لقد ظنت يوماً أنها أحبت ياسين.....
واليوم تشعر بعشقها -الملكيّ-لجسار يختلف كثيراً...
شتان ما بين حبٍ وحب!!!!
حب الجواري الضعيف ذاك لم يورثها سوي الضعف والمذلة والهروب....
لكن حبها القوي الآن يمنحها هالةً خاصة من القوة والعزة والمواجهة!!!!!
كانا قد وصلا لسيارته التي ركنها خارج المشفي فاستقلتها جواره لينطلق بها...
وما إن خلا الطريق حتي احتضنت ذراعه بكل قوتها لتطبع قبلة عميقة علي خده هامسةً بحب:
_لو كان العشق طريقاً...فأنت أوله ووسطه ومنتهاه...ولو كان سماءً فأنت نجومها وشموسها وأقمارها...ولو كان أرضاً فأنت جبالها ووديانها وسهولها...ولو كان كلمة...فأنت كل حروفها!!!
===================
رصت جوري أطباق الطعام التي أرسلتها لها فريدة اليوم مع إحدي الخادمات علي المائدة...
فريدة التي تعلم عن إمكانيات ابنتها المتواضعة في الطهي كانت ترسل لها الطعام يومياً قبل موعد الإفطار بفترة مناسبة...
انتهت مما تفعله وهي تتأمل المكان حولها بتفحص...
لقد نظفته بالكامل وأعادت له رونقه رغم بساطته...
ثم جلست تنتظر عمار وهي تشعر بمزيج من الترقب والاشتياق والضيق...
فهو لايزال يعاملها ببعض التحفظ بعد مواجهتهما الأخيرة...
ويتحاشي الحديث معها إلا للضرورة وكأنه لا يصدق ما اعترفت له به...
أو ربما...يريد بعض الوقت لينسي!!
سمعت صوت مفتاحه في الباب فوقفت لاستقباله بابتسامة دافئة لم تتكلفها ...
لكنه ألقي عليها نظرة سريعة ثم أشاح بوجهه وهو يلقي السلام بفتور قبل أن يتوجه نحو غرفتهما...
تبعته وهي تشعر ببعض الخيبة لتساعده في تبديل ملابسه...
ثم سألته برفق:
_هل ستنام قبل الإفطار؟!
أومأ برأسه إيجاباً دون رد...
وهو يتوجه نحو الفراش ليرفع عليه غطاءه دون كلمة أخري...
فزفرت بضيق ثم غادرت الغرفة وهي تشعر بأنها علي وشك الاشتعال غضباً...
وعلي الفراش لم يكن هو أفضل منها حالاً...
هو يصدقها لكنه لا يزال عاجزاً عن احتواء غضبه...
كلما تذكر كلمات زياد المسمومة عن كونهما متحابين وأن يتركها له شعر برغبته في قتله...!!!!
ورغم أنه يحاول أن يسامحها ويعود لطبيعته معها...
لكن خشونة طباعه تخونه كالعادة...
والمشكلة أن استسلامها الخانع له يزيد من شعوره بتأنيب الضمير نحوها...
لكن ماذا عساه يفعل؟!!!
لقد جرحت رجولته أكثر من مرة...وهو لم يعد يحتمل منها المزيد!!!
ظل يتقلب علي الفراش لوقتٍ طويل وهو عاجزٌ عن النوم...
هو فقط يريد الهرب من قربها -المهلك-الذي يكوي روحه ...
لقد اشتاقتها كل خلايا جسده لكنه لا يريد الاستسلام لطوفان حبها من جديد...
كم يريد مسامحتها وإعادتها لوطنها الأصلي علي صدره...
لكنه ..لا يستطيع!!!
سمع صوت جلبة بالخارج فرفع الغطاء ليقوم من فراشه فينظر ماذا هناك...
خرج من الغرفة يتلفت حوله عندما صدمه هذا المنظر...
كان هناك سلمٌ خشبيٌ مرتفع يستند مائلاً علي أحد الجدران وفوقه كانت هي تقف علي آخر درجاته وهي ترتدي ثوباً قصيراً وتربط شعرها بوشاحٍ للخلف كالخادمات...
وفي يدها زعافة سقف تزيل بها خيوط العنكبوت هناك!!!
أثارت وقفتها هذه مشاعره الكامنة فاقترب منها بسرعة لينظر إليها من أسفل هاتفاً بخشونته المعهودة:
_ألن تكفي عن حماقاتك؟!!انزلي وإلا ستقعين وتنكسر رقبتك!!!
شهقت بعنف للمفاجأة فترنحت علي السلم الذي اهتز بها لكنها تمسكت به وهي تهتف بعناد:
_لا شأن لك بي...عد لنومك ودعني أنظف!!
اشتعل غضبه أكثر وهو يهتف بحدة:
_هل هذا وقت تنظيف؟!!! لم يتبقَ سوي دقائق علي آذان المغرب!!!
عادت تتشاغل بالتنظيف وهي تقول ببرود:
_طعامك علي المائدة...سأتناول طعامي عندما أنهي عملي.
زفر زفرة مشتعلة قبل أن يصرخ بها بانفعال:
_كيف ترتدين ثوباً كهذا؟!!! نحن لا نقيم وحدنا هنا!!
رمقته بنظرة جانبية ماكرة قبل أن تقول بنفس البرود:
_حذيفة مسافرٌ اليوم ولن يعود إلا غداً...والباب مغلقٌ من الداخل بالمفتاح.
ضرب بقبضته علي الحائط مكملاً صراخه :
_لا ترتدي ثياباً كهذه أمامي!!
توقفت عما تفعله لتنظر إليه من علوٍ قائلةً بنظراتها الجريئة التي يعرف أنها تثير بها غيظه:
_لم أرتدِها أمامك...أنت كنت نائماً...وأنا أريد أن أكون علي راحتي عندما أبدأ في التنظيف.
كز علي أسنانه وهو يهمّ بالرد عليها عندما سمع صوت الأذان...
فاستغفر بصوت مسموع ثم ردد الأذان حتي انتهي...
ليلوح لها بسبابته بعدها قائلاً بلهجةٍ آمرة:
_انزلي !
عادت ترمقه بنظرة جانبية ثم هزت كتفيها باستخفاف لتستمر بعدهافي عملها دون رد...
فاضطر لاستفزازها بقوله الغليظ:
_ألا تدركين قيمة وزنك...هذا السلم لن يحتملك أكثر!!!
كان يعرف أنه يضغط علي نقطة ضعفها الأنثوية...
فجوري كانت ممتلئة الجسم نسبياً بالنسبة لشقيقتيها وقد كان هذا يسبب لها عقدةً منذ صغرها...
صحيحٌ أنه كان متناسقاً متفجر الأنوثة لكنها كانت ولاتزال تشعر بالخجل من نفسها وتتمني لو كانت أنحف...
لهذا رمقته بنظرة حارقة وهي تلقي ما بيدها جانباً ليسقط بصوتٍ عالٍ...
قبل أن تهتف بعصبية:
_لستُ بدينة يا عمار...تناول إفطارك ودعني لشأني.
اقترب من السلم أكثر ليمسكه بكفيه قائلاً بلهجة تهديد:
_لآخر مرة أقولها...انزلي!
صرخت بحدة وقد أثار غيظها حقاً
_لا!
هز السلم بحركة خاطفة فصرخت وهي تتشبث به لتهتف به :
_ما شأنك بي؟!!! ألا تخاصمني وتتجاهلني منذ فترة؟!! دعني لحالي...لا تقلق لو انكسرت رقبتي فلن يتهمك أحد أنك من فعلتها...!!!!
هز رأسه بحركة تهديدية فتوترت مكانها عندما رأته يصعد السلم نحوها ...
السلم الذي كان يهتز الآن بهما معاً وسط شهقاتها الخائفة ...
ولم يكد يقترب منها حتي ضم ظهرها لصدره بساعده ليحملها حرفياً لكن السلم لم يحتمل ثقلهما معاً لتجد نفسها تسقط وظهرها علي صدره...
ولحسن الحظ انزاح السلم بعيداً فلم يسقط فوقهما...
صرخت بحدة فقلبها علي ظهرها جواره علي الأرض ليميل بجسده فوقها ممسكاً كتفيها قائلاً بخشونة ووجهه يظلل وجهها بملامحه المشتعلة:
_لماذا تصرخين؟!! أنا الذي أخذت ألم السقطة كله!!!
ضربته بقبضتها علي ظهره وهي تهتف بغيظ:
_تستحقها...لم يطلب منك أحدٌ مساعدة امرأة بدينة واقفة علي سلم!!!
كتم ابتسامته بصعوبة وهو يعرف أنه قد أثار غيظها كاملاً...
لن تنسي له هذه الكلمة لسنوات...
بل ربما بدأت في نظام حمية غذائية من الغد!!!!
هو يعرفها جيداً في هذا الأمر...
حمقاء!!!
حمقاء عنيدة مشتعلة وصارخة بفتنةٍ لا تحملها -في عينيه- سواها...
والأهم أنها بين ذراعيه الآن!!!
اقترب بوجهه من وجهها وهو يهمس بخشونة:
_هذا لتتعلمي كيف تطيعينني دون مناقشة!
دمعت عيناها وهي تشيح بوجهها هامسةً بحزن:
_ارفع كفيك عني...أنت تؤلمني!!
ولما كانت دموعها دوماً نقطة ضعفه فقد وجد نفسه يقترب منها أكثر ليهمس بنبرة أكثر رفقاً:
_لماذا تبكين الآن؟!!
أغمضت عينيها وهي تهمس بعتاب:
_وهل تهتم؟!!
لم يستطع الرد عليها بكلمات ...
فقط شفتاه لامستا جفنيها المطبقين برقة تناقض خشونة لهجته...
ففتحتهما ببطء لتهمس بحرارة أمام عينيه المشتعلتين بعاطفته:
_ألا تقول دوماً بأنني تربية يدك وأنك تحفظني كخطوط كفك؟!!...انظر لعينيّ الآن وأخبرني بحقٍ ماذا تري؟!!
لم يكن بحاجة حقيقةً لقولها فعيناه كانتا متعلقتين بخيوط عينيها التي كانت تشكو له....منه!!!!
عيناها اللتان كانتا الآن صورة نابضةً بالحب...والعتاب!!!!
خاصةً وهي تردف بنبرة تذوب عشقاً :
_هذا ليس عدلاً...أن تسقيني من بئر حبك العذب حتي أرتوي ثم تتركني بعدها لظمئي وحدي...أن تعاقبني علي ذنبٍ واحد بكل هذا العذاب الذي أعيشه دونك..لم أكن أظنك يوماً ستقسو علي جوريتك هكذا!!
رفع كفه من علي كتفها ليتلمس ملامح وجهها بحنان مكرراً كلمتها بصوت مرتعش:
_جوريتي؟!
ضغطت شفتيها بقوة قبل أن تومئ برأسها هامسةً :
_نعم يا عمار...جوريتك وحدك...للأبد...
هنا كانت مقاومته قد ذابت تماماً في حرارة نظراتها العاشقة...
ليضمها إليه بكل قوته وهو يتأوه بقوة...
ليشعله همسها الدافئ أكثر :
_سامحني يا عمار...دعنا نبدأ صفحة جديدة من الآن...أرجوك لا تعذبني أكثر...أنا...
ذابت بقية عبارتها بين شفتيه وهو يشعر أنه أخيراً قد تحرر من قيود ماضيهما معاً...
جوريته التي حلم بها طوال عمره صارت له كاملة...
كل خلاياها الآن تصرخ بحبه دون نكران...
بقلبها الذي سلم له مفاتيحه كاملة...
وعينيها اللتين صارتا مرآتين شفافتين لما يموج بداخلها من عشق...
الآن ما عاد لديه شك...
جوريته صارت له كما كان دوماً لها!!!!
يتبع


تعليقات
إرسال تعليق