رواية في رحالها قلبي الفصل الرابع والخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع بقلم آيه العربي حصريه وجديده على (مدونة النجم المتوهج)
![]() |
بسم الله ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أنّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُون فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِكَ وكُن مِنَ السَاجِدِينْ واِعْبُد رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينْ .
اللهم إنا نستودعك أهل غزة وكل فلسطين ، اللهم
كن لهم عونا اللهم إنا لا نملك لغزة وفلسطين إلا الدعاء
الفصل الرابع من رواية في رحالها قلبي
❈-❈-❈
يقولون الكتاب يظهر من عنوانه ولكن لا تصدق هذه الجملة أبدًا .
فبعض العنوانين خداعة تم وضعها لجذبك كي تتعمق داخله وإما أن تخرج منه بسلامٍ أو تخرج بأذى نفسي أو لم يأسرك للأبد .
جلس الجميع يتبادلون أطراف الحديث سويًا بعدما تمت ضيافتهم بترحابٍ وودٍ من قبل سعاد .
كان علي يجلس يتابع سارة بثقب ونظراته لم تتركها ، يتابع كل تفاصيلها الصغيرة وحركة يدها وانكماشة عينيها التي تدل على ابتسامتها التي تهديها لوالدته منتظرًا على أحر من الجمر لحظة رؤيتها .
أما سيف يجلس بوقار كأنه في اجتماعٍ وهو المدير هنا ، يطالع الجميع من حوله وفي كل مرة يستقر بنظراته على ( علي) ويظل يحدق به وكأنه يستكشف أمره .
انحنت والدة (علي) على سارة تحدثها بصوتٍ هامس ثم ابتعدت تنتظر ردها .
نظرت سارة بتوتر لوالدتها وأشارت بيدها لها في حركةٍ معينة تقصد بها أن هذه السيدة تريد رؤيتها .
نهضت سعاد تردف بهدوءٍ وهي تطالعها :
- تفضلي معي يا حاجة علياء .
نهضت عليا تومئ لابنها ثم تحركت نحو غرفة جانبية وتبعتها سارة وسعاد التي أشارت نحو فريدة كي تتبعهن أيضًا وفعلت .
ما إن اطمئنت سارة حتى رفعت نقابها تكشف عن وجهها للحاجة علياء التي شهقت تردد :
- بسم الله ماشاء الله مثل القمر ، حماكِ الله يا ابنتي معكِ حق في إخفاء ملامحكِ .
ابتسمت فريدة لتخفي وتقضي على شعورٍ راودها وعادت تؤنب نفسها بينما ابتسمت سعاد بفرحةٍ وتحدثت سارة بخجلٍ وامتنان :
- شكرًا هذا من ذوقكِ .
تحدثت علياء مجددًا بنبرة حماسية فرحة :
- لا يا ابنتي هذا من جمال ملامحكِ وحسنها ، ملامحكِ تدخل القلب دون إذنٍ ، حماكِ الله يا سارة .
ابتسمت سارة وتوردت وجنتيها بحمرة الخجل لتنظر علياء نحو سعاد وتردف بجدية :
- دعينا نحدد زيارة للرؤية الشرعية يا ست سعاد ، علي ابني متشوق جدًا لرؤية وجه سارة ، لنقرأ الفاتحة الآن ونتفق على موعد الخطبة ونحدد موعدًا ليراها ، وبالنسبة لطلبات سارة فابني أخبرني أنها جميعها مجابة .
ابتسمت سعاد تنظر نحو ابنتها بحبٍ ورضا ثم عادت تنظر نحو علياء وتحدثت بودٍ :
- الله يقدم ما فيه خيرًا يا حاجة علياء ، هيا دعونا نخرج لهما .
كان سيف في الخارج يحقق مع علي في أسئلة عن نشأته وحياته وعمله كأنه محقق يريده أن يخطئ .
تحدث علي برتابة وهو يطالعه بهدوء :
- أنا ورثت هذه الخيول من والدي يا سيد سيف ، ولكنها ليست لي لوحدي فأنا لدي شقيقتين متزوجتين تعيش إحداهما في الأسكندرية والأخرى مع زوجها في استراليا .
أومأ سيف متفهمًا بعدما أجابه علي برتابة ولكن نظرات علي تحمل أمرًا لم يرتح له سيف ولكن لا بأس سيعرفه .
خرجت النساء من الغرفةوجلسن لتومئ علياء لابنها بابتسامة رضا لذا نفش كتفيه بسعادة وتحدث أمامهن بثقة موجهًا حديثه نحو سعاد بتجاهل متعمدٍ لسيف :
- حسنًا يا ست سعاد أنا جئت أطلب يد ابنتكِ الآنسة سارة على سنة الله ورسوله ، وأنا رجلٌ ملتزم وسارة تعلم عني هذا الأمر كما أنني مكتفي ماديًا وجميع طلباتها ستكون رهن إشارتها .
ابتسمت سعاد ونظرت لابنتها الخجولة التي تنظر أرضًا وتفرك كفيها بتوتر ملحوظٍ للجميع وكادت أن تتحدث ولكن فاجأهم سيف بحديثه وهو يقول بنبرة جادة واضحة :
- حسنًا يا علي أعلم أنك وسارة تعرفان بعضكما ولكن هذا لا يمنع أن نسأل عنك ، هذه هي الأصول ، ويحق لك أنت كذلك أن تسأل عن سارة .
شعر علي بالضيق ولم يكن وحده الذي شعر به بل فريدة وأيضًا سارة فلمَ يتدخل هو ، لمَ لا يترك الحديث لوالدتها فهو ليس ولي أمرٍ لها .
تحدث علي بهدوء مبطن بالضيق وهو يطالعه بعيون ثاقبة :
- لا أحتاج السؤال عن سارة يا سيد سيف ، فهي ست البنات جميعهن وأنا طوال حياتي لم أرى مثلها في الأدب والأخلاق والتعامل ولو كان لدي شكًا في ذلك لما وجدتني أمامك اليوم ، وأظن أن سارة أيضًا تعرفني جيدًا .
التفت ينظر لها مدققًا في عينيها وتابع :
- أليس كذلك يا سارة ؟
لا تعلم لما أرادت استفزاز سيف لذا أومأت له وتحدثت بهدوء ونبرة خجلة :
- نعم يا علي يشهد الله أنني منذ أن تعاملت معك ولم أرَ منك سوى كل خير .
ابتسم وانتعش قلبه لذا عاد ينظر نحو سيف بنظرة تحمل تحدي لم يلحظها سواه قائلًا :
- دعنا نقرأ الفاتحة إذا يا سيد سيف .
التزم سيف بالصمت وداخله غضب بل وزاد على غضبه تحدٍ وُلد لتوه وقد وضع هذا العلي في رأسه لذا يجب أن يثبت صحة حدسه .
تحدثت سعاد بابتسامة هادئة بعدما لاحظت توتر الأجواء :
- يا ابني أنت شابٌ جيد بالطبع وابنتي دومًا تخبرني عنك كل خير ولكن سيف بمثابة شقيق سارة الأكبر لذا أراد أن يطمئن عليها ، هيا دعونا نقرأ الفاتحة على بركة الله .
رفعوا أيديهم يقرؤون الفاتحة عدا سيف الذي لا يعلم ما يشعر به بعدما تم تجاهله وتلاحظه فريدة جيدًا .
❈-❈-❈
بعد عدة أيام وبعد أن تمت الرؤية الشرعية وأعجب علي بل هامَ بملامح سارة
تم تحديد الخطبة بعد أسبوعٍ من الآن .
أما سيف فكان يسعى خلف علي ويبحث بدقة منتظرًا لحظة عثوره على اتهامٍ خاص به .
لا يعلم لما يفعل ذلك ولا يعلم لما يهتم من الأساس .
ولكنه يقنع نفسه بأنه يريد إثبات صحة حدسه للجميع ، وخاصةً فريدة التي تؤكد على حب علي لشقيقتها ودومًا تتحدث عنه .
أتاه الاتصال المنتظر ، اتصالًا من أحد رجاله فأجاب على الفور وبحماسٍ غير مسبوقٍ يتساءل :
- هيا أخبرني هل وجدت شيئًا ؟ .
تحدث الرجل بهدوء :
- نعم سيد سيف وجدت أمرًا مريبًا ، هذا علي كان يتعاطي المخدرات قبل عدة سنوات ولكنه خضع للعلاج ودخل مصحة ليتعافى من الإدمان واستطاع بالفعل التعافي ولكن المريب في الأمر أنه يخفي ذلك تمامًا ، لولا النقود التي أنفقتها لَما عرفت شيئًا كهذا ، يبدو أنه ألجم الجميع من حوله .
ضيق سيف عيناه وابتسم ابتسامة خبيثة ثم قال بهدوء حصل عليه لتوه وهو يضع ساقًا فوق الأخرى :
- كنت أعلم .
ابتسم ساخرًا وتابع بشرود يكرر جملتها :
- لم ترِ منه سوى كل خير إذا يا سارة ، دعيني أريكِ جزءًا خفيًا منه .
أغلق الهاتف ونهض يقف ثم اتجه إلى النافذة يتطلع نحو الخارج ويعاود الاتصال على فريدة التي أجابته بهدوء :
- نعم سيف .
تحدث بجدية برغم ابتسامته وسعادته التي لا يعلم لها سببًا :
- اسمعي فريدة ، أريدك أن تهاتفي سارة وتخبريها أن تأتي إليكِ وأنا سآتي بعد ساعة ، هناك أمرًا هامًا يجب أن تعلمه .
ضيقت عينيها كأنه يراها وتملكها الضيق من مجرد ذكره لشقيقتها وتساءلت بغيظ تجاهد لتخفيه :
- ما هذا الأمر الهام الخاص بسارة يا سيف ؟
- حينما آتي سنتحدث ولكن هاتفيها لتأتي ، هيا حبيبتي وداعًا الآن .
أغلق معها ووقف يضع يده في جيبه وينظر نحو الخارج ليعود ويفكر لما يهتم ؟ ، لما يتصرف بطريقة غريبة عن شخصيته ؟
زفر بقوة يردد بنبرة هامسة ليقنع عقله :
- لا هذا أنا تمامًا ، هو تحداني وكان يجب أن أوقفه عند حده .
❈-❈-❈
كانت تقف تنجز بعض الطلبات التي أتتها من زبائنها لتزفر ثم تميل يمينًا ويسارًا حتى تعطي لجسدها الاسترخاء .
رن هاتفها فتنهدت والتقطته لتجدها فريدة لذا أجابت بنبرة مرهقة :
- نعم فريدة ؟
تحدثت الأخرى بنزق :
- سارة هل يمكن أن تأتي ؟
- هل أنتِ بخير ؟
تساءلت سارة وهي تتجه لتجلس على المقعد لتجيبها فريدة بهدوء ظاهري :
- نعم بخير ولكن سيف هاتفني وطلب مني أن أهاتفك وأخبركِ كي تأتي لأنه يريد إخباركِ بأمرٍ هام .
عقدت ما بين حاجبيها بتعجب وتساءلت وهي تهز كتفيها :
- بماذا يريدني يا ترى ؟ هل حدث شيئًا ما وتخفين عني؟ .
أجابتها فريدة بنبرة محتدة :
- لا أخفي شيئًا سارة فقط تعالي وسنعرف حينها عندما يأتي .
تعجبت سارة من حدة شقيقتها معها لذا تحدثت بهدوء يحمل حزنًا وهي تتمنى لو ترفض ولكنها في نهاية الأمر أجابت :
- حسنًا فريدة ، سأنتهي من عملي وآتي .
أغلقت معها وجلست شاردة تفكر بتعجب فيما يريده ذلك السيف الغامض الذي تبغضه .
بعد ثوانٍ زفرت ونهضت تنهي عملها لتذهب وترى ماذا يريد .
❈-❈-❈
كان علي يجلس في إسطبل الخيول الخاص به يتصفح الإنترنت ويتابع منشورات سارة .
يتابع التعليقات بدقة ليرى هل هناك من يضايقها أم لا .
وحينما وجد تعليقًا من شابٍ يدعى أحمد كتب فيه
( أنتِ مثال رائع للفتاة المسلمة يا سارة ، حقًا حينما أراكِ أحمد الله وأسعد بأن الدنيا ما زالت بخير ، أتمنى أن يرزقني الله زوجة صالحة مثلكِ ) .
اشتدت عروق علي غضبًا ووقف متأرجحًا بين أمرين ، هل يرد عليه ويلزمه حدّه أم يتحلى بالصبر كي لا يحزن سارة .
لذا اهتدى عقله لحلٍ آخرٍ وقام بالضغط على صفحة هذا الشاب ثم دلف على رسائله وأرسل له رسالة هجومية محتواها بذيء .
تعالت أنفاسه وهو ينظر رد الآخر عليه ويتمنى لو كان ردًا هجوميًا كي يعطي له الحق بالاندفاع والتوبيخ .
جاءه أحد العمال يناديه فلم يسمعه لذا عاد يردد بترقب :
- يا سيد علي هل تسمعني ؟
رفع نظره يباغت العامل بنظرة غاضبة نارية فتوتر العامل وتحدثت بتلعثم :
- كنت أقول أن هناك حصانًا لم يأكل اليوم ، هل تلقي نظرة عليه ؟
حاول أن يهدأ لذا سحب نفسًا قويًا من أنفه ليخرجه بعد قليلًا من فمه ثم أومأ له يردف بنبرة باردة :
- إذهب أنت وسآتي خلفك .
أومأ العامل وأسرع يذهب خوفًا من بطش علي بينما الآخر عاد ينظر نحو الرسالة فلم يجد الشاب قد رآها بعد لذا زفر بضيق ونهض يدس الهاتف في جيبه ويخطو نحو مكان الحصان ليراه .
❈-❈-❈
وصل سيف إلى فيلته ودلف ينادي العاملة التي كان يرفض مبيتها في الفيلا ولكن تعب فريدة أجبره على الموافقة على قواعد كان يرفضها .
جاءت السيدة تطالعه باحترام فسألها بترقب :
- ألم تأتِ الآنسة سارة بعد ؟
هزت رأسها تجيبه :
- لا يا سيد سيف لم تأتِ بعد .
- وأين فريدة ؟
تساءل وهو يبحث بعينيه فأشارت للأعلى قائلة :
- إنها تأخذ حمامًا في الأعلى .
أومأ لها واتجه يجلس على المقعد وينظر في ساعته ليراها السادسة مساءًا .
عاد ينادي على العاملة فأتت فطلب منها قدحًا من القهوة لتعود تلبي طلبه على الفور .
لا يعلم متى غفا مكانه فجأة ولا يعلم كم دقيقة مرت على غفوته ولكنه أجفل حينما سمع رنين جرس الباب ليستيقظ يدلك وجهه بينما اتجهت العاملة تفتح الباب لتجدها سارة تطالعها بنظرة هادئة قائلة :
- كيف حالك ؟
أومأت لها العاملة مرحبة ثم أفسحت لها المجال فمرت بهدوء وحينما لمحته يجلس أمامها يطالعها أبعدت نظرها عنه وتساءلت بتوتر من حضوره :
- أين فريدة ؟.
- سأناديها في الحال .
هكذا قالت العاملة وتحركت للأعلى وتركتها تتقدم حتى وقفت أمامه تردف بهدوء :
- كيف حالك يا سيد سيف ؟
نظر لعينيها من خلف النقاب ولم تكن نظرة عابرة بل حدق بها لذا شعرت بالضيق والغضب وأبعدت نظرها عنه واتجهت تجلس في ركنٍ بعيدٍ متجاهلة إياه بينما هو تحدثت يباغتها بسؤالٍ مفاجيء :
- هل حقًا تعرفين هذا علي جيدًا ؟
توترت ولا إراديًا عادت تطالعه وتحدثت بضيقٍ وتحدٍ ومغزى قاصدة أن تلزمه حده :
- نعم أعرفه ، على الأقل سنتعرف أكثر على بعضنا في فترة الخطبة ولن نتزوج بطريقة غامضة وسريعة مثلما فعلت مع أختي .
ابتسم ساخرًا وتحدث بتعالٍ وهيمنة وهو يفرد نفسه أكثر على المقعد :
- أنا سيف الدويري ، معروفٌ من أنا جيدًا وشقيقتكِ تعلم ذلك والكثير من الفتيات كن يردن فقط نظرة مني .
اغتاظت منه لذا قالت باندفاع لم تقصده ولكن حقًا هذا السيف يستفزها :
- غبيات يرينك فقط ثري ولو كنت فقيرًا لانفضين من حولك ، كيف لأنثى أن تثق في رجلٍ دون أن تعاشره جيدًا .
لم يغضب بل ابتسم حتى ظهرت أسنانه وتحدث مؤيدًا بمغزى :
- أنتِ محقة ، لا يجب أن تثق الأنثى في رجلٍ لا تعرفه جيدًا .
زفرت تبعد وجهها عنه بينما نزلت فريدة من الأعلى تطالعهما بضيقٍ علا فوق ملامحها بينما اتجهت العاملة نحو المطبخ لترى ماكينة القهوة التي تركتها تحضر قهوة سيف .
تحركت فريدة تجلس بجوار سيف وتطالعهما بشكٍ متسائلة بتجهم :
- هل تحدثتما ؟
نظرت لها سارة وتحدثت وهي تهز رأسها :
- لا ، يبدو أن زوجكِ لديه وقتًا للسخرية .
نظرت فريدة إلى زوجها وتجاهلت حديث سارة متسائلة بترقب :
- أخبرنا سيف ما الذي تريدنا أن نعرفه ؟
زفر بقوة وانتظر حتى أتت العاملة ووضعت قدح القهوة أمامه ثم اعتدلت تنظر نحو فريدة وسارة متساءلة :
- هل تشربا شيئًا ؟
نظرت فريدة نحو سارة التي أشارت بالرفض شاكرة بينما فريدة تحدثت بهدوء وهي تطالع العاملة :
- حسنًا أعدي لي أنا أيضًا قدح قهوة .
- القهوة ليست جيدة من أجلكِ .
نطقها الاثنان في آنٍ واحد لتنظر فريدة بينهما ثم عاد الضيق يلتهم صدرها لتقول بتجهم :
- حسنًا لا أريد شيئًا .
أومأت العاملة وتحركت تغادر ليوقفها سيف قائلًا بنبرة صارمة :
- أحضري كوبين من عصير البرتقال .
- حاضر سيد سيف .
عادت العاملة إلى المطبخ بينما باغتته سارة بنظرة عدائية وعلى عكسها تطلعت عليه فريدة بحب ممزوج بالغيرة الخفية ليتجاهل سيف نظراتهما ويردف بثباتٍ وعينه تدور بينهما :
- عرفت شيئًا بخصوص ذلك علي .
تنبهت سارة له وكذلك فريدة ليتابع ملقيًا ما في جوفه دون تردد وهو يحدق في سارة :
- هل تعلمين أنه كان يتعاطى المخدرات في السابق ؟
شحبت ملامح سارة من أسفل نقابها بل وتهاوى قلبها بصدمة ألجمت لسانها عن النطق ، بينما شهقت فريدة قائلة :
- ماذا ؟ ، هل أنت متأكد مما تقوله يا سيف ؟
قلب عيناه يطالع فريدة وليعود ويضع ساقًا فوق الأخرى قائلًا :
- وهل سأقول شيئًا لست متأكدًا منه ؟ ، لقد كان يتعاطى المخدرات منذ عدة سنوات ولكنه تعافى .
عاد ينظر نحو سارة وتساءل :
- هل أخبركِ بذلك ؟
التزمت الصمت بل أطرقت رأسها بخيبة أمل ، لم يخبرها علي ولم تلحظ ولم تعلم بالطبع أمرًا كهذا ، ولكن هل سيف محقٌ ؟ ، ربمَا يكذب ؟
التفتت فريدة تنظر نحو سارة بحزنٍ وتحدثت بترقب :
- سارة أنتِ بخير .
رفعت نظرها ليتفاجئا بعيون لامعة أوشكت على البكاء ولكنها أسرعت تنهض قائلة وهي تخطو متجهة نحو الخارج :
- يجب أن أغادر .
نهضت فريدة لتوقفها وتوتر سيف بل شعر بالضيق وهو يراها تغادر بصدمة بينما فريدة أسرعت تلحق بها ولكن سارة التفتت توقفها بكفها قائلة :
- توقفي فريدة أنا بخير ولكن يجب أن أذهب وأتحدث مع علي ، سأخبركِ بالتفاصيل .
غادرت سارة تستقل سيارتها تحت أنظار فريدة التي دلفت بعدها تنظر نحو سيف المتكئ على ساقيه يفكر ، هل أخطأ في طريقته ؟ ، هل كان عليه أن يكن أكثر ترويًا وتمهيدًا للأمر ؟
تحركت فريدة تجلس أمامه وتساءلت بهدوء :
- سيف أخبرني كيف عرفت أمرًا كهذا ، ثم أنه تعافى فلمَ التضخيم ؟
رفع نظره يطالعها بصدمة ثم قال بجدية تحمل توبيخًا خفيًا :
- أي تضخيم ؟ ، هل أقول لكِ أنه كان مريضًا وتعافى ؟ ، إنه كان مدمنًا يا فريدة وتعافيه هذا لا يعني أنه لن ينتكس مرةً أخرى ، كان عليه أن يصارحها بكل هذا ويعطيها الحق بالقبول أو الرفض .
ابتلعت لعابها فهو محق ولكنها كانت سعيدة بخبر خطبة سارة من إنسان يحبها و .... سيبعدها .
❈-❈-❈
بعد وقتٍ قياسي وبعد أن هاتفته وصلت إلى العزبة الخاصة به .
ترجلت من سيارتها تخطو نحو الداخل تبحث عنه بعينيها وحينما وجدته يقف بالقرب من أحد الأحصنة يدلكه حتى تحركت نحوه ووقفت خلفه تردف بهدوء يخفي عاصفة وصراعًا داخلها :
- علي .
التفت يطالعها مبتسمًا بسعادة ولكن حينما لمح عينيها تحدث ببعض الترقب :
- أرى المكان قد سطع ، كيف حالكِ ؟
للحظة شكّ أنه ربما علمت بأمر الرسالة التي أرسلها لذلك الشاب ، هل قام بمراسلتها ؟ ، هل بينهما شيء ما ؟
تحدثت سارة لتقطع أفكاره المشككة قائلة :
- أريد أن أتحدث معك .
نظر للعمال من حوله ثم عاد لها متعجبًا ليشير نحو ركنٍ هادئٍ قائلًا :
- حسنًا تفضلي .
اتجهت معه نحو ذلك الركن ليجلسا على مقعدين متقابلين تتوسطهما طاولة مربعة .
نظر لها يحثها على الحديث فزفرت وبدون مراوغة تساءلت :
- علي هل كنت تتعاطى المخدرات حقًا ؟.
تجمد كليًا يحدق بها بصدمة فمهما وصلت استنتاجاته لم يتوقع أن تصل لهذه المعلومة لذا عم الصمت لثوانٍ تنتظر حديثه وهو ينتظر الخروج من صدمته التي ألجمته ليطالعها ويردف دون مراوغة أيضًا :
- نعم ، هذا كان قبل عدة سنوات ، ولكنني تعافيت ومحوت تلك الأيام من حياتي .
ظلت تحدق به بذهول وهو يؤكد لها صدق حديث سيف ليتابع مردفًا بنبرة متلهفة وبكلماتٍ متعثرة :
- سارة أنا لم أخفِ عنكِ ، أنا فقط أردت حذف هذه الأيام من حياتي ، هذا الماضي الأسود لا أحبه ، صدقيني أنا بصحة جيدة وبخير والتزمت بالرياضة وروتينًا غذائيًا سليمًا .
لا تعلم بماذا تجيبه بل فقط تسمعه وهو يردد بلهفة خوفًا من رفضها له :
- سارة أرجوكِ لا تأخذيني بذنب ماضٍ سيء كنت طائشًا فيه ، صدقيني من بعد وفاة والدي وأنا أحمل المسؤولية على عاتقي ، امتنعت عن تناول هذه السموم نهائيًا .
وجدها فقط تطالعه ليشير حوله ويتابع بلهفة :
- انظري حولكِ ، كل هذا فعلته بعدما تعافيت ، أنا نادمٌ حقًا على ما فعلته بنفسي وتقربت من الله والتزمت بالصلاة ، أرجوكِ سارة لا تتركيني ، أرجوكِ .
جلست أمامه وكأن دوامة ابتلعتها وتدور بها بغير هدى والأفكار في رأسها تكاد تفجرها ، لا تعلم ماذا تفعل ولا بماذا تجيبه بينما هو فقط يطالعها وعندما طال صمتها تساءل بشكٍ وملامحٍ مشدوهة :
- من أخبركِ يا سارة ؟
نظرت له وبدون وعيٍ منها نطقت بتخبطٍ :
- سيف ، سيف أخبرني .
أومأ مرارًا وتأكد من ظنونه لذا قال بخبث :
- كنت أعلم .
- ماذا ؟
تساءلت بتشوش ورأسها تدور حقًا ليردف بنبرة خبيثة :
- لا أعلم ما السبب ولكني شعرت بعدم حبه لي من استجوابه حينما جئت إليكم أول مرة ، حسنًا لو علم عني ذلك لمَ لم يأتِ ويصارحني بنفسه ؟
لم تجبه بل تعيش حالة من التخبط مع نفسها ليتابع بغضبٍ يخفيه أسفل نبرة مترجية :
- سارة أرجوكِ أعطني فرصة فقط لأثبت لكِ حبي وصدقي ، أنا أحبكِ يا سارة ومستعد أن أفعل المستحيل من أجلكِ .
عليها أن تفكر جيدًا ، عليها أن تنفرد بنفسها فهي الآن مشتتة وضائعة لذا نهضت تردف بنبرة تائهة :
- دعني أذهب الآن يا علي ، سأفكر وسأبلغك قراري .
أسرعت تتحرك من أمامه لتغادر وتتركه يقف يتابعها وعلى ملامحه تجلى الغضب من ذلك السيف وكيف علم بماضيه ، ولكن لا بأس ، فقط عليه أن يصارع كل من يقف في طريقه من أجلها ، لن يتخلى عنها أبدًا .
بسم الله ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أنّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُون فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِكَ وكُن مِنَ السَاجِدِينْ واِعْبُد رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينْ .
اللهم إنا نستودعك أهل غزة وكل فلسطين ، اللهم
كن لهم عونا اللهم إنا لا نملك لغزة وفلسطين إلا الدعاء
الفصل الخامس من رواية في رحالها قلبي
بقلم آية العربي
❈-❈-❈
إما أن تقبل بالمُر أو تتعامل مع الأشد مرًا
بعد خمسة أيام
انغمست فيهم سارة مع أفكارها خاصة بعدما طرحت الأمر على والدتها وأخبرتها بخوفها تجاه القبول وحيرتها تجاه الرفض بعدما كانت سعيدة بخطوبة علي فهو شاب راشد عاقل واعٍ وثري ولكن مسألة تعافيه من الإدمان هذه جعلتها تتراجع وتحتار في أمرها ، أترفضه وتظلمه أم تقبل به وتظلم ابنتها ؟
وهي أيضًا كذلك ، خاصةً أنه رآها بالإضافة إلى شهادة الجميع بشهامته وأخلاقه وبالطبع حديثه عن سيف لم يغب عنها وهي تتساءل لمَ بالفعل لم يرتح سيف له ؟ ، ولم يدخل نفسه في حياتها ؟ .
ما عرفته عنه أمرًا صعبًا للغاية ولكن هل ستظلمه إن رفضت ؟
هل عليها أن تعطيه فرصةً ؟ .
منذ أيام وهو يحاول جاهدًا أن يثبت لها بالأوراق والتقارير أنه لا يعاني من أي أعراضٍ يمكنها أن تؤثر على حياتهما .
يسعى جاهدًا كي يثبت لها كم هو يحبها وتعلق قلبه بها فماذا تفعل ؟
ظلت في تلك الحيرة طوال الثلاثة أيام لتستخير ربها ثم تقرر في اليوم الرابع إعطائه فرصة ومد الخطبة لعامٍ بدل من ستة أشهر كما قرروا مسبقًا .
أبلغته موافقتها وكم أسعده هذا الخبر بل جعله يشبه الطائر الحر في سماء السعادة ليبدءا في التحضير للخطبة .
ما إن علمت فريدة بهذا الخبر حتى شعرت بالسعادة والراحة .
كانت تجلس على مقعدها الخاص في غرفتها تنتظر خروجه بعد أن أغلقت مع سارة .
خرج سيف من الحمام يرتدي مئزره فابتسمت له من خلال مرآة الزينة وهي تضع مرطبها على ذراعيها فبادلها بابتسامة هادئة ثم اتجه يتمدد على الفراش ويتمسك بهاتفه متصفحًا إياه .
أما هي فتنهدت تتحدث بترقب وهي تطالعه :
- سيف ، خطبة سارة ستتم في موعدها .
توقف عن تصفح الهاتف ثم طالعها قاطبًا جبينه بصدمة وتساءل مستفهمًا :
- هل وافقت عليه ؟
أومأت له ونهضت تتجه إليه حتى تمددت بجواره وتحدثت وهي تطالعه بحب :
- نعم ، منحته فرصة ، على ما يبدو أن سارة أحبته وأرى أنه يستحق .
حدق بها لثوانٍ ثم أومأ بملامح متجهمة وعاد يتصفح هاتفه لتتابع متسائلة :
- هل سنذهب للخطبة سويًا ؟
- لا ، أنا لدي سفرًا مهمًا غدًا ، وربمَا أغيب لفترة .
نطقها وهو يكمل تصفحه لتذهل وتتحدث باندفاع :
- ماذا ؟ ، أي سفر هذا ؟ ، سيف هل تمزح أنا بحاجتك لمَا لم تخبرني ؟
ترك الهاتف والتفت لها يطالعها بتعجب قائلًا :
- ما بكِ فريدة ؟ ، هل هذا الأمر جديد عليكِ ، تعلمين أنني أسافر دومًا لعقد صفقات خاصة بعملي ؟ ، ما الجديد في الأمر ؟
اندفعت تلوح بيدها وتشير نحو رحمها :
- الجديد أنني حاملٌ ومتعبة وأريدك بجانبي وبالطبع لا أستطيع السفر معك .
نظر لها بتعمن ثم نزل بنظره لحملها وعاد يحدق بها وتحدث بنظراتٍ ثاقبة ونبرة ذات معنى :
- اسمعي فريدة ، لا تقيديني بهذا الحمل الآن وأنتِ تعلمين جيدًا الأسباب ، ولا تناقشيني في مسألة خاصة بعملي بعد ذلك ، ولا تنسي اتفاقنا منذ البداية ، حسنًا ؟
نظرت له نظرة حزينة متألمة ، لم يحبها ، ولن يحبها كما هي تحبه الآن ، كل ما يفعله معها هو معاملة روتينية فقط .
تحسست رحمها ثم تمعنت فيه وأردفت بنبرة منكسرة :
- حسنًا يا سيف ، لن أنسى اطمئن .
ترجلت بعدها تتجه نحو الحمام وجلس يتابع أثرها بشرود وغموض غلف أفكاره لذا عليه أن يبتعد .
❈-❈-❈
مرت الأشهر سريعًا .
وها هي فريدة أصبحت في شهرها السادس ولكنها أصبحت في حالة تعبٍ مستمر .
لم تكن تعلم أنها ستتألم هكذا ، لقد ظنت أن الحمل متعب ولكن ليس بهذا القدر حيث تشعر أن قلبها سيتوقف وأنفاسها تكاد تكون معدومة .
حياتها باتت مملة خاصة وأن سيف في الآونة الأخيرة أصبح يسافر كثيرًا ويغيب لفتراتٍ طويلة .
لا تعلم لمَ بات يتعمد تجاهل عائلتها في أي مناسبة .
فمثلًا حينما أخبرته بحفلة ذكرى ميلاد سارة التي جهزها لها علي في أحد الأماكن وطلبت منه الحضور رفض بشكلٍ لا يقبل النقاش وأرسلها مع السائق لتحضر وتعود .
أحيانًا يطلب منها أن تذهب للمكوث في بيت سعاد لحين عودته من السفر ولكنها تأبى ، ترفض أن تكون عبئًا على أحدهم خاصة بحالتها الواهنة تلك لذا فهي تجلس في فيلتها وحولها العاملات تلبين لها سائر طلباتها .
أما سارة فقد اعتادت على علي ، تعترف أنه فعل الكثير من أجلها ويومًا بعد يومٍ يثبت لها صدق حبه .
ربمَا هناك بعض الأفعال التي تشعرها بالضيق منه ولكن يمكنها تمريرها كمثل غيرته عليها من التعليقات وردود أفعال متابعيها .
ولكن ما أحزنها بحق أنه لا يحب الشوكولاتة كما كانت تتمنى وتخطط لتطهو لشريك حياتها أشهى الأطعمة منها .
كانت فريدة تجلس في غرفتها تشعر بوخزةٍ تستقر في صدرها .
وخزة عنيفة لا تعلم سببها حين رن هاتفها فتناولته تجيب وهي تملس على صدرها :
- كيف حالك يا سارة .
تحدثت سارة بحب :
- بخير يا فريدة ، أنتِ كيف حالك اليوم ؟
حاولت سحب أنفاسها بصعوبة وشعرت بثقل يجتاحها وكأن أنفاسها ستتوقف لذا قالت بوهن :
- سارة أشعر أنني أختنق ، هل يمكن أن تأتي ، صدري يضيق وحالتي بائسة حقًا .
نهضت سارة من جلستها تردف بقلق وهي تنتشل ملابسها :
- حسنًا يا فريدة لا تقلقي إن شاء الله خيرًا ، هيا تمددي الآن ولا تبذلي مجهودًا وأنا سآتي في الحال .
❈-❈-❈
بعد وقتٍ
وبعد تصميمٍ من سارة حيث اصطحبت فريدة إلى دكتورة قلبٍ تتابعها على مواقع التواصل وقد تعرفت عليها مسبقًا .
لم تحتمل سارة ما رأته حيث كانت فريدة شبه فاقدة للوعي وتعاني من تصلب شديد في قدمها وذراعها الأيسر وصدرها .
ظنت أن شكواها من الحمل لذا اتخذتها ذريعة كي ترفض عدم الذهاب للأطباء الذين لا تحبهم أبدًا .
ولكن بسبب وهن حالتها وتصميم شقيقتها ها قد توقفت سارة أمام عيادة الطبيبة بعدما أبلغتها بحالة فريدة ونصحتها أن تأتي في الحال .
دلفتا وصعدتا حيث الطابق المنشود ثم دلفتا العيادة واستقبلتهما العاملة بابتسامة هادئة حينما أخبرتها سارة بموعدها أسرعت نحو الطبيبة تخبرها حيث لا تحتمل حالة فريدة الانتظار .
دلفتا للطبيبة على الفور لتسرع سارة وتساعد فريدة في التمدد على سرير الكشف لتبدأ الطبيبة في فحصها وسألتها عدة أسئلة وفريدة تجيب بذعرٍ زاد من ألمها حينما وجدت الأمر مبالغ به .
أسرعت الطبيبة تفحص قلبها بأشعة فوق الصوتية حينما شعرت بأمرٍ ما ليتبين لها أنها بالفعل تعاني من مرضٍ في القلب وهو انسداد الشريان الأوورطي .
بعد حوالي نصف ساعة من الفحص الذي طال
زفرت الطبيبة بملامح هادئة بعد أن انتهت ونهضت تتجه نحو مكتبها بينما ساعدت سارة شقيقتها في النهوض وتحركتا نحو مكتب الطبيبة تجلسان لتتساءل سارة بتوترٍ وملامح مذعورة بعدما رأت حالة الطبيبة :
- طمئنينا أيتها الطبيبة ، أختي بخير أليس كذلك ؟
كانت تتمنى أن تجيبها بنعم ، بل تترجاها بنظراتها ولكن خاب أملها حينما زفرت الطبيبة تقول بأسف :
- ستكون بخير إن شاء الله ، هناك مشكلة صغيرة في القلب وهي انسداد الصمام الأوورطي وسنعمل على حلها .
استمعت فريدة لها بصدمة جردتها من الألم والتهمها الخوف الذي جعلها تشحب كالأموات لذا ابتسمت لها الطبيبة وتحدثت بنبرة مطمئنة :
- لا داعٍ للقلق أبدًا ، جميع أمراض القلب الآن أصبحت مثل دور الانفلوانزا ولكن أخبريني هل لديكِ أحد من عائلتكِ يعاني من مرضٍ في القلب .
تعمقت في عين الطبيبة بضياعٍ وتشتتٍ وتحدثت بتيه وهي ترى أمامها مستقبلًا أسودًا ، لا لا ترى أمامها أي مستقبل :
- نعم أمي ، أمي ماتت بسبب مرضٍ في القلب .
أسرعت سارة تتمسك بكفيها وتطالعها بعيون ثاقبة وتردف بنبرة موبخة رافضة تمامًا ما تسمعه :
- فريدة هل تسمعين جيدًا ، تخبركِ الطبيبة أن مرض القلب أصبح علاجه سهلًا ، هل تفهمين ، ما حدث هذا حدث منذ سنواتٍ عدة حينها كان الطب لم يتقدم بعد ، أما الآن فالوضع أصبح مختلفًا .
التفتت بعدها سارة تنظر إلى الطبيبة وتحدثت بنبرة قوية ومتألمة في آنٍ واحد :
- أخبريني أيتها الطبيبة ما يجب علينا فعله ، هل تحتاج إلى جراحة ؟ ، هل تحتاج إلى سفرٍ ، أخبريني أرجوكِ وكل ما تحتاجه سنفعله .
تحدثت الطبيبة بعملية وابتسامة بالرغم من لمعة الحزن في عينيها والتي لم تخفَ على سارة :
- اهدئي يا آنسة سارة كل ما سنفعله الآن هو وضعها تحت المراقبة إلى أن تلد ثم سنحدد لها الجراحة وليست بحاجة للسفر فيوجد هنا أفضل المستشفيات المتخصصة لحالتها ، ولكن أخبريني يا فريدة أين زوجكِ ؟
التفتت فريدة تطالعها بيأسٍ تجلى في نبرتها وهي تقول :
- إنه خارج البلاد في مؤتمر عمل .
أومأت لها متفهمة ثم ابتسمت وتابعت بنبرة تحمل مرحًا كي تهون عليها :
- حسنًا أراكِ على الفور تتجهمين ، لا داعي لذلك أبدًا هناك فقط مشكلة صغيرة وسيتم حلها فور ولادتكِ ولكن لدي سؤالًا .
ترقب سارة وفريدة فتابعت الطبيبة ببعض التعجب :
- ةأولم تشعري أبدًا بأعراضٍ طوال الخمس عشرة عامٍ الأخيرة ؟ .
هزت فريدة رأسها بحزنٍ وتحدثت موضحة بنبرة منكسرة :
- لا ، لم أشعر بشيء ، ربما القليل من الوخزات في صدري والتي كنت أتجاهلها لأنني أخشى الأدوية والأطباء من صغري لذا فلم أكن أشتكي من شيء ولكن مؤخرًا زادت الأعراض وظننتها من الحمل ، لم أكن أتوقع أنني سأرث من والدتي مرضها .
تهاوى قلب سارة من نبرة شقيقتها وعادت تردف بنبرة موبخة ترفض بها ما يتردد داخل عقلها :
- كفي عن التحدث بهذه النبرة يا فريدة ، أنتِ ستكونين بخير .
التفتت بعدها إلى الطبيبة وتساءلت بشيءٍ من القسوة الناتجة من سوء أفكارها :
- حسنًا يمكننا إجهاض الطفل إن كان ذلك مفيدًا لها ؟
طالعتها الطبيبة بذهول تحاول ألا تغضب ولكنها قالت بنبرة حادة :
- أي إجهاض ؟ ، شقيقتك في أواخر الشهر السادس هذا يسمى قتلًا .
أطرقت رأسها خجلًا ولكن بكت ، بكت حينما شعرت أن حياة أختها مهددة لذا أسرعت تجفف دموعها كي لا تراها فريدة وتحدثت بتشتت :
- أنا لا أعلم بماذا أتفوه ، حسنًا ما رأيكِ أن ندخلها مشفى متخصصة تمكث فيها إلى أن تلد ، هل سيكون هذا أفضل لها ؟
أومأت الطبيبة مؤيدة لهذا القرار قائلة :
- هذا سيفيدها كثيرًا ، ولكن ستكون التكلفة عالية .
- لا بأس .
نطقتها سارة بثقة وهي حتى وإن لم يتحمل سيف تكلفة مرض زوجته لتتحمل هي ، ستبيع سيارتها وكل مدخراتها الذهبية وكل ما تملكه وستنفقه على شقيقتها يكفيها أن تحيا .
أما فريدة فكانت في ملكوتٍ آخر تمامًا ، هجم عليها اليأس والاستسلام ، تشعر أن هذه أولى خطوات النهاية .
هل كان عليها أن تطيعه وألا تحمل ؟ ، هل حملها هذا سيكون سببًا في موتها ؟
هل ورثت أيضًا المرض من والدتها كما ورثت الحظ السيء في الحب .
كانت تسعى لحياةٍ أفضل وأكثر سلطة ونفوذًا وثراءً ولكن كل هذا هل عاد عليها بالمنفعة ؟
هل سيفيدها وستنجو ؟
انتبهت على نداء سارة المتكرر وهي تحثها على النهوض لتغادرا فنهضت معها بصعوبة حيث شعرت أن أعصابها تخلت عنها .
تمسكت بها سارة وتحركتا للخارج تغادران وما إن وصلتا للصالة حتى أجلستها على مقعدٍ قريب مردفة بتخبطٍ ودموعٍ تخفيها :
- فريدة نسيت هاتفي في الداخل انتظريني هنا لأحضره .
تركتها وأسرعت تتحرك عائدة إلى الطبيبة وهنا سمحت لدموعها أن تفيض ووقفت أمام الطبيبة تتساءل بترجٍ :
- أخبريني أيتها الطبيبة ، قولي لي أن شقيقتي ستكون بخير أرجوكِ .
تنهدت الطبيبة تنظر لسارة بحزن ثم ابتسمت بتكلف قائلة :
- إن شاء الله ستكون بخير ولكن من الأفضل نقلها إلى المشفى خوفًا من تعرضها لأي وعكة نسبةً لكونها حامل ، ويجب أن يعلم زوجها .
أومأت سارة ثم تساءلت بتشتت وقهرٍ يقبض على قلبها :
- حسنًا أخبريني كم نسبة نجاتها ؟
أطرقت الطبيبة بأسف ثم عادت إليها تقول بصدقٍ :
- ضئيلة ، الصمام مسدودٌ بشكلٍ كبير ولا أعلم كيف تحملت كل تلك الآلام بمفردها ولكن يبدو أن شقيقتكِ تخاف ، كل ما عليكِ فعله هو بث الأمل فيها ، حالتها النفسية هي عاملٌ رئيسي في الشفاء .
تحركت سارة تغادر بصدمة ، تتحرك فقط ولكن عقلها توقف عن التفكير وكل ما هجم عليه هو فكرة موت شقيقتها وتلك الفكرة جعلتها على حافة الجنون مستنكرة حدوث ذلك .
ما إن خرجت حتى سلطت فريدة أنظارها عليها تطالعها بترقب لتجدها باكية ولولا النقاب لكانت رأت شحوب ملامحها ولكن تكفي عيناكِ يا أختي ، تكفي نظرتكِ لتؤكد لي أنني ... سأموت .
اتجهت إليها سارة تبتسم من أسفل نقابها وقالت وهي تساعدها على النهوض :
- هيا يا جميلة الجميلات يا صاحبة أجمل قلب .
ابتسمت فريدة بألمٍ بقهرٍ بيأسٍ وتحدثت وهي تخطو مع شقيقتها نحو الخارج بخطوات ضائعة مبعثرة :
- أي جمال سارة ، قلبي مريض متهالك فكيف له أن يكون جميلًا .
نزلتا للأسفل وساعدتها سارة في ركوب السيارة والتفتت تستقل مكانها وتقود لتتساءل فريدة وهي تطالعها بثقبٍ :
- أخبريني سارة ماذا قالت لكِ الطبيبة ؟ ، هل أخبرتكِ أنني سأموت .
التفتت لها سارة تطالعها بحدة ثم أسرعت تخفي عينيها عنها وتردف بتأكيد وصوتٍ عالٍ لتكتم صوت أفكارهما :
- ستكونين بخير يا فريدة ، لن يحدث لكِ مكروهًا ، ستلدين ثم ستخضعين إلى جراحة صغيرة ومن بعدها ستكونين بأفضل حال، وتوقفي عن هذه التراهات ألا تلاحظين أنكِ جبانة؟ ، هناك أطفال لم تتجاوز أعمارهم العام ويخضعون لجراحة قلبٍ ، كفي عن الأفكار السوداوية يا مملة .
ابتلعت فريدة لعابها وبكت ، بكت تضع كفوفها على وجهها فلم تعد قادرة على التحمل ، لتتوقف سارة جانبها وتسرع في سحبها إليها وتعانقها بقوة وتملس على رأسها قائلة بحزنٍ تجاهد لتلجمه :
- فريدة أرجوكِ ، حسنًا ربما هذه الطبيبة مخطئة ، سنذهب إلى غيرها وغيرها وغيرها وحتى لو كانت صائبة ستكونين بخير .
هزت رأسها تردف بيأسٍ صريح :
- لا يا سارة ، لن أكون بخير ، ليتني استمعت إلى كلام سيف ولم أحمل ، سأشتاق إليه يا سارة ، أنا أحبه كثيرًا .
بكت معها وشددت من عناقها وتخلت الأحرف عنها فلم تجد كلماتٍ تواسيها بها بل ظلتا هكذا إلى أن ابتعدت فريدة تجفف دموعها وتردف بتحشرج :
- هاتفي سيف يا سارة ، أخبريه أن يأتي .
❈-❈-❈
مساءًا
يهرول إلى الفيلا بعدما جاء على متن أول طائرة عائدة للبلاد بعدما سردت له سارة ما حدث .
ها هي أسوء كوابيسه تتجسد أمامه لذا لم يحتمل ما سمعه وأتى .
اقتحم الغرفة ليجدها ممددة على السرير وحولها سارة وسعاد تجلس باكية بينما الأولى توبخهما على ما تفعلانه .
نظر لهما بتعجب تحول إلى حدة فوقفت سارة تردف بتوترٍ :
- هيا يا أمي لنخرج .
أومأت سعاد ونهضت تتحرك ثم وقفت أمامه قائلة وهي تربت على كتفه :
- حمدالله على سلامتك يا بني ، تحدث مع فريدة .
لم يجبها بل فقط يحدق بفريدة التي تستند وتطالعه بعجزٍ كأنها تخبره أنها ستشتاق له ولكن القدر مُصِر على الفراق .
غادرتا سعاد وسارة فتحرك صوبها بخطواتٍ بطيئة حتى وصل إليها وانحنى يقبل رأسها ويجلس أمامها على طرف الفراش يتعمق في ملامحها وعقله يدور في دائرة مفرغة يردد ( إنها اللعنة بدأت تتحقق )
لم تجد بدًا من عناقه حيث ألقت بنفسها بين ذراعيه فاحتواها يشدد عليها فباتت تبكي بنحيب وتردف من بين شهقاتها :
- أنت كنت محقًا يا سيف ، سأموت وأتركك .
عاجز عن الكلام فقط يحاول أن يهدئها لثوانٍ ثم ابتعد يطالعها ويزيح خصلاتها للخلف متسائلًا باستفسار :
- كيف حدث ذلك ، ومتى ، أنتِ لم تكوني تعانين من شيء ، كيف ظهر فجأةً هكذا ؟
هزت رأسها بغير علم ثم بدأت تخبره بما قالته الطبيبة ليردف بصرامة :
- حسنًا ربما هي مخطئة ، سنذهب لغيرها اطمئني .
كور وجهها يردد بتأكيد :
- ستكونين بخير .
هل تصدقه أم تصدق حدسها لتقرر تصديقه هو لذا ابتسمت له قائلة :
- صدقًا ؟
- نعم .
نطقها بتصميم لينزل بنظره إلى رحمها يطالعه للحظات ثم تجهمت ملامحه فجأة ليعود ويتحدث كأنه يشتكي إلى نفسه :
- لم أكن أريده ، لم أكن أريد حملًا يا فريدة ،، أخبرتكِ أنني لا أريد أن أكون أب .
عادت الغيوم تتكون في مقلتيها وهي تومئ له ندمًا على عدم سماعها لكلماته ولكن الآوان قد فات والآن في داخلها طفلًا صغيرًا ينمو وتشعر به وعليها أن تتقبله ، عليها أن تحبه مهما كانت الظروف .
❈-❈-❈
بعد أسبوعين
وبعد التأكد من حالة فريدة تم حجزها في مشفى خاص دفع سيف كل تكاليفه .
لم تتركها سارة لحظة بل رافقتها وبرغم اعتراض المشفى على ذلك إلا أن نقود سيف كان لها رأي آخر .
بقاؤها مع شقيقتها أثار حنق علي ولكن كان عليه تقبل الوضع إلى أن تلد .
أبلغها سيف بضرورة سفره إلى الخارج والعودة سريعًا لإبرام صفقةٍ ما وبرغم عدم تقبلها لذلك إلا أنها لم ترفض وسافر سيف وجلست هي تفكر طوال الليل وتتطلع على سارة التي تنام بالقرب منها .
في الصباح نادتها للتحدث إليها فاتجهت سارة تطالعها بابتسامة هادئة وقالت بحنان مازحة :
- ماذا تريدين يا روح قلب أختك ، أخبريني وسأفعله حتى لو طلبتي أن أرقص لكِ .
ابتسمت لها فريدة بوهن وشحوب ثم تنهدت بقوة وبدأت تخبرها بوصيتها قائلة وهي تتمسك بكفيها :
- اسمعيني سارة ، أريد منكِ وعدًا ولا تقاطعيني أرجوكِ .
انسحبت الدماء من وجه سارة واستشفت حديثًا مؤلمًا بينما تابعت فريدة بهدوء واستسلام :
- إذا لم أنجُ ونجا صغيري اعتني به جيدًا ، كوني له أمًا ، ولا تتركيه لسيف يا سارة فهو لم يكن يريده ، خذيه لكِ ولكن أخبريه عني وأخبريه أنني كنت أتمنى رؤيته ، لا تتركيه أبدًا يا سارة .
أصبح وجهها باردًا وجميع أطرافها وهي تطالع شقيقتها بصدمة ألجمتها لتتابع فريدة قبل أن تستيقظ سارة من صدمتها :
- سأخبر سيف أن يتركه لكِ ولكنه لن يراعيه ، سيهمله وسيتركه هو لا يريده ، أرجوكِ سارة عديني ألا تتركيه أبدًا .
لم تجد ما تنطق به فقط تطالعها بصمتٍ كأنها فقدت معالم الحياة لتردد فريدة بقلبٍ متهالك حزين :
- عديني سارة .
- أعدكِ .
بسم الله ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أنّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُون فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِكَ وكُن مِنَ السَاجِدِينْ واِعْبُد رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينْ .
الفصل السادس من رواية في رحالها قلبي
بقلم آية العربي
❈-❈-❈
الحياة غريبة والقضاء صادم والقدر عجيب
يعطوك فجأة ما لم تتوقعه أو حتى يمر على عقلك من الأساس .
أسبوعًا آخر يمر والأوضاع هادئة نوعًا ما .
إلى أن استيقظت سارة بفزع على صرخة خرجت من جوف فريدة .
لا تعلم كيف وصلت إليها وتساءلت بتبعثر وجحوظ وهي تتفحصها :
- ما بكِ ، ما بكِ فريدة ؟
نظرت فريدة أسفل ساقيها فتتبعتها سارة بنظراتها حتى حجظت وتدلى فكها لتقول فريدة بذهول صادم :
- هناك مياه كثيرة وأشعر بثقل أسفلي ، أنا ألد .
وقفت سارة متجمدة لثوانٍ قبل أن تستعيد وعيها على صراخ فريدة وهي تقول بعدما شعرت بألمٍ حادٍ يتفجر من تحتها :
- آااااااااه أنا ألد يا سارة ، هاتفي سيف ليأتي أريد أن أرااااااه .
خرجت سارة من صدمتها لتسرع في إنزال نقابها وهي تركض نحو الخارج تنادي المسعفين والأطباء وبكاءها يزداد نحيبًا وحينما رؤوها أسرعوا إلى غرفة فريدة يفحصونها ليجدوا أنها ولادة مبكرة فهي لم تنهِ السابع بعد .
خلال وقتٍ قصير تم فيه تحضير غرفة العمليات أتى سيف وسعاد بعدما تحدثت إليهما سارة بقلبٍ يتهاوى رعبًا على شقيقتها .
أخذوها على كرسي متحرك نحو الداخل وهي تصرخ من شدة الألم ولم يتسنى لها أن تودعهم ولكن نظراتها كانت كفيلة لتعبر عمّا توّد قوله .
نظرت إلى سيف الذي يسرع معها متمسكًا بكفها يبثها كلمات الأمل والطمأنينة التي لا تشعر بهما لتتركه وتنظر نحو سعاد الباكية والتي كادت أن تسقط أرضًا لولا استنداها على أحد المقاعد .
وأخيرًا نظرت نحو سارة التي تجاورها على الجهة الأخرى ، نظرة انتفضت من بين أنينها تخبرها وتذكرها بوصيتها لتومئ لها سارة من أسفل نقابها بحزنٍ بلغ الحناجر كالعلقم .
دلفت فريدة واختفت عن أنظارهم ولكن صراختها لم تتوقف ، الألم أسفلها لا يحتمل وقلبها أيضًا لم يحتمل لذا ما إن خرج الصغير للحياة ونظرت له نظرة واحدة حتى توقف قلبها وغادرت هي نفس الحياة .
وهنا ندرك أننا أتيناها زائرين ، ليست لنا ، لا هي ولا متاعها ، كل ما بها من متاعٍ ما هو إلا ضيافة قدمت لنا من صاحب مكانٍ كريم سنتذوقها وكلٍ منا سيأخذ قدره المخصص له وحينما يحين الوقت سنغادر عائدين إلى ما ننتمي إليه ، هذه هي الحياة ببساطة .
سكن صوتها وبات الأطباء يحاولون إنعاشها عبثًا ، هنا موتٌ وعلى بعد خطوةٍ حياة حيث الصغير يبكي وتتعالى شهقاته وكأنه أراد إخبار من في الخارج بأن ينتبهوا له .
حينما سمعت سارة صوته ولم تعد تسمع صرخات شقيقتها دب الرعب في أوصالها وأرادت أن تطمئن عليها أو تكذب شعورها الموحش كالذئب الذي ينهش قلبها لذا باتت تصرخ وتضرب الباب الفاصل بعنف وتنادي على من في الداخل ليطمئنها أحدهم .
وقف سيف يطالعها عاجزًا عن مواساتها وكيف يواسيها وهو يشعر بمَ تشعر به بينما سعاد اتجهت إليها تحاول أن تواسيها بأملٍ تبخر وجف حينما خرج الطبيب يطالعهم ويردف بأسفٍ بالغٍ :
- للأسف ، فقدنا الأم .
صرخت سعاد صرخة هزت الجدران وصمت الآذان بينما لم تحتمل سارة ما سمعته لذا فضلت فقدان الوعي عن الشعور بهذا الكَم من الألم لذا سقطت أرضًا ليسرع الطبيب إليها طالبًا المساعدة من المسعفين .
أما سيف فوقف متجمدًا يتابع ما يحدث من حوله كذلك الفتى الصغير الذي فقد والدته في سن الثالثة عشر ، نعم إنه هو هذا الفتى .
لم ينطق ولم يشعر بمن حوله ، فقد هجمت عليه ذكرياتٍ ولعناتٍ حاول بكل الطرق أن يطردها ولكنها أبت .
❈-❈-❈
أسبوعًا قد مر .
غادر سيف البلاد بعدما كتب الصغير على اسمه قانونيًا ولكنه هرب ولم يواجهه ولم يرهُ حتى ، هذا الصغير الذي كان وزنه ضعيفًا جدًا لذا أدخلوه الحاضنة ليظل بها إلى الآن .
لم تتخطى سعاد حزنها ولا حرقة قلبها ولكنها كانت كعادتها أقوى من سارة .
سارة التي تخلت عن كل معالم الحياة ، فقط تعيش على ذكريات شقيقتها .
لا تصدق أنها تركت الدنيا ، إلى الآن تقنع نفسها أنها ستعود كما كانت تقنع نفسها بعودة والدها .. ولكنه لم يعد .
تقضي معظم وقتها في النوم لتهرب من التفكير الذي لا تحتمله ليودي الحال بها إلى بداية إكتئاب برغم محاولات سعاد معها ولكنها لم تستطع تجاوز هذا الحزن والألم والضيق الذين يقبضون على قلبها .
جمعت أغراض فريدة وأتت بها إلى غرفتها لتعيش بينهم وكلما تحركت خطوة تتخبط بهم خوفًا من نسيانها لحظة .
❈-❈-❈
كانت سعاد تتحدث مع علي عبر الهاتف بقلقٍ عن حالة ابنتها قائلة :
- لا أعلم يا علي متى تخرج من حالتها تلك ، بت أخشى عليها .
تحدث علي بضيقٍ مبطن وبنبرة أوشكت على الانفجار من تحمله كل هذه الفترة في مرض فريدة والآن وفاتها :
- يجب أن تخرج سارة من تلك الحالة يا أمي ، اسمحي لي أن آتي وأتحدث معها .
تنهدت تفكر قليلًا ثم أومأت تجيبه :
- حسنًا يا بني تفضل ، ربما استطعت إخراجها من حالتها تلك .
نهض على الفور من مقعده يردف بحماس :
- حالًا يا أمي مسافة الطريق وسأكون عندكِ .
❈-❈-❈
دلفت سعاد غرفة ابنتها لتجدها تصلي وترتدي إسدال فريدة كعادتها .
تنهدت واتجهت تجلس على طرف الفراش تنتظرها إلى أن تنتهي .
لتختم سارة صلاتها بعد دقائق وتتنفس لتخفف من وطأة الضيق المصاحبة لها والتي ما إن لجأت لربها شعرت بالانشراح لذا تعود سريعًا للانغماس في ذكريات شقيقتها حتى لا تنشرح ، وكأنها تخشى الخروج من دائرة الحزن هذه حتى لا تحزن فريدة .
أحيانًا حينما نفقد عزيزًا من شدة تعلقنا به وحبنا له نستسلم للحزن .
نخشى أن يسحبنا الزمن ويستدرجنا النسيان لذا نفضل البقاء داخل بلورة الحزن حتى لا ننساه .
وبالرغم من كونها فتاة مسلمة ملتزمة إلا أنها خطاءة فالنسيان نعمة هي ترفضها خشيةً على شعور شقيقتها التي لم تعد هنا .
نهضت تطبق سجادتها وتضعها جانبًا ثم التفتت تنظر نحو والدتها بعيون لامعة واتجهت تجاورها بصمتٍ قطعته سعاد قائلة بتروٍ :
- حبيبتي سارة ؟ علي سيأتي بعد قليل ، طلب مني أن يزوركِ ويتحدث معكِ وأنتِ لا تجيبين على اتصالاته والشاب ليس له ذنبًا ، يجب أن تتحدثي معه يا قلب أمكِ .
أغمضت سارة عينيها وتنهدت تمنع الدموع من السقوط فليس وقتها الآن ، لمَ باتت تأتي في كل المواقف فوالدتها لم تقل شيئًا عن فريدة؟، أأصبحت حاضرة عند كل الأحداث؟ .
زفرت بقوة ثم طالعتها وتحدثت بوهن بعدما نقص وزنها قليلًا نسبةً لتناولها القليل جدًا من الطعام :
- حسنًا يا أمي ليأتي .
ابتسمت سعاد بهدوء وامتدت يدها تربت على كف ابنتها قائلة بتريث ولين :
- سارة ؟ ، تركتكِ أسبوعًا تعيشين حزنكِ على فريدة التي يعلم الله كم أن قلبي ينفطر عليها ، ولكن كفى يا ابنتي ، كفى حزنًا فهناك صغيرًا بحاجتنا ، هناك طفلها يا ابنتي أم أنكِ نسيتي هذا البريء الذي لا ذنب له .
لم تنسه ولكن لم تكن تريد تذكر وعدها الآن ، أرادت أن تحزن كما يجب أن يكون ولتتخذ من الحاضنة حجةً كي تعيش حزنها دون أن يأخذها منه هذا الصغير الذي يحتاجها .
لتعود وصية فريدة وتهاجم عقلها وتتذكرها كأنها قالتها للتو .
كانت تعلم أنها ستفارق هذه الحياة وتترك صغيرها لتسلم سارة الوكالة بدلًا عنها في الأمومة وهي تدرك جيدًا أن سارة ستكون خير أمٍ له .
زفرت بقوة وتحدثت بنبرة مجهدة مختنقة :
- نعم أمي ، بقى فقط ثلاثة أيام ثم سأذهب لأحضره .
أومأت سعاد وتحدثت بدمعة التقطتها بكفها :
- رحمكِ الله يا فريدة ، رحمكِ الله يا ابنتي كنتِ تعلمين .
سكنت قليلًا ولكنها تسببت في المزيد من دموع سارة دون أن تدري لذا عادت تسأل متذكرة :
- ألم تسمعي أخبارًا عن سيف يا سارة ؟ ، أين ذهب هذا الشاب يا ترى ؟
تجلى الغضب ورسم خطوطه فوق ملامح سارة لندفع قائلة بتجهم من بين دموعها :
- لا أريد أن أعرف عنه شيئًا ، هذا القاسي متحجر القلب الذي غادر وكأنه كان ينتظر وفاتها ، ترك كل شيء وسافر ، إنه نذلٌ كبيرٌ عديم المسؤولية وأنا التي كدت أصدق أنه يحبها .
هدأتها سعاد وأردفت بنبرة حانية وهي تسرع في الربت على ظهرها :
- حسنًا اهدئي يا حبيبتي سيكون كل شيء على مايرام وهيا استعدي كي تستقبلي علي ، هذا الشاب صبر معنا كثيرًا ولم يعترض ولكنه من المؤكد يريدكِ أن تهتمي به قليلًا ، لا تنسي أنكِ منذ مرض فريدة وقد أهملتيه تمامًا .
حاولت أن تهدأ قليلًا ثم أومأت بصمت لتتركها سعاد وتغادر الغرفة وتنهض هي تستعد لمقابلته التي لو ترك الأمر لها لأنهت كل شيء فهي لم يعد لديها طاقة لتقدم الحب والاهتمام لأحدهم .
❈-❈-❈
جاء علي ورحبت به سعاد وجلس بهدوء ينتظر سارة التي خرجت إليه بعد دقائق قليلة ترحب به برتابة برغم حزنها الذي يلاحظه حتى في خطواتها وحركاتها .
جلست أمامه مطرقة رأسها لا تجد حديثًا تبدأه ليتولى هو هذه المهمة ويتساءل بعيون ثاقبة محدقًا بها :
- كيف حالكِ الآن يا سارة ؟ ، هل بتِ بخير ؟
مررت تنهيدة على رئتيها ثم رفعت نظرها له تومئ قائلة بهدوء ينافي عيناها المغلفة بالحزن :
- الحمد لله يا علي بخير ، أنت كيف حالك ؟
ابتسم لها بسعادة وتحدث يجيب ببشاشة :
- بعدما رأيتكِ أصبحت بأفضل حال ، وأيضًا اشتقت لكِ .
توترت نظرتها وأطرقت رأسها بخجل واعتراض على كلمته تلك التي لم تتقبلها ولكنها أجابته بهدوء :
- شكرًا لك .
تجهمت ملامحه من ردها ليزفر متحاملًا ثم يتابع مستفسرًا :
- لمَ توقفتِ عن العمل ، أنا أرى أنكِ تبدئين في العودة ، لقد كنت أراقب متابعاتكِ وجميعهن اشتقن لكِ وتسألن عنكِ .
شردت قليلًا تفكر ، بالتأكيد لم يشعر بها لذا أومأت تقول بهدوء :
- إن شاء الله سأعود قريبًا ، ولكن ليس مثل السابق لأنني بعد ثلاثة أيام سأذهب لأحضر نوح ابن فريدة من المشفى .
قطب جبينه للحظات قبل أن يتذكر أمر هذا الصغير لذا تحدث باستفهام :
- ابن فريدة ؟ ، هل سيظل معكما هنا ؟ ، لمَ لا يأخذه والده ؟
رفعت عيناها تباغته بنظرة قوية من أسفل نقابها وتحدثت بنبرة تشبه نظرتها متجردة من وهنها للحظات :
- أي والد ؟ ، نوح ابن فريدة سيتربى معي أنا وأمي فقط .
تحمحم متعجبًا واستشاط داخله ولكنه أظهر هدوءًا وهو يقول مصححًا :
- حسنًا سارة اهدئي أنا لم أقصد شيئًا ، كل ما في الأمر أنني لا أمتلك خلفيةً عن موضوع الصغير هذا .
تحلت بالهدوء لتعود لحزنها وتنفس بقوة حيث أومأت تقول :
- اعذرني يا علي أنا فقط أكره سيرة ذلك الرجل ، ولكن أعلم أن لا ذنب لك بالطبع .
انتعش داخله مجددًا من كرهها الملحوظ نحو سيف الذي يبغضه هو الآخر لذا أومأ ثم فكر قليلًا ليعود القلق ينهشه من أمر ذلك الصغير الذي على ما يبدو سيؤثر على مستقبله معها لذا قال بنبرة هادئة مبطنة بالخبث :
- بالطبع أنتِ محقة ، ثم أنني أود رؤية هذا الصغير فأنا أعشق الأطفال ، وأرى أن وجوده بينكما أنتِ وأمي سعاد سيكون عوضًا جميلًا ، وكذلك حينما نتزوج سيكون الصغير بمثابة ونسًا لوالدتكِ .
حدقت به من أسفل نقابها تحاول أن تبرهن لنفسها صدق نيته لذا قالت بهدوء ملغم بالجدية في نبرتها :
- أنا لن أترك نوح يا علي ، نوح سيتربى معي ، هو وصية أختي التي لا يمكنني التخلي عنها ، لقد وعدتها أن أكون أمًا له وسأفعل .
تجمد علي يطالعها بصمتٍ بينما داخله يضج بالصخب ، هل جنت هذه أم ماذا ؟ ، كيف سيتقبل ما تقوله ؟ .
يحق له أن يعترض ولكن في هذا الوقت تحديدًا ربما اعتراضه أتى بنتائج عكسية أدت إلى تفكك علاقتهما التي هي بالأساس شبه مفككة لذا تنفس نفسًا قويًا ثم قال بملامح متجهمة لم يستطع ردعها بعدما عكرت صفوه :
- حسنًا يا سارة دعينا نتحدث عن هذا في وقتٍ لاحق .
كادت أن تحتد وتنهي كل شيء لولا تدخل سعاد في الوقت المناسب وهي تحمل صينية الضيافة وتعيد ترحيبها بعلي وتقدم له العصير والمقبلات بينما هو ظل يتابع سارة التي باتت تتنفس لتهدأ قليلًا ولتتروى في تفكيرها .
❈-❈-❈
بعد ثلاث أيام
اتجهت سارة مع سعاد لتحضر الصغير .
دلفتا المشفى ومنه إلى الردهة المؤدية للحاضنة لتقفا بها تنتظران خروج الصغير بعدما أتمت سارة الإجراءات .
خرجت إليهما الممرضة تحمل الصغير بين يديها فأسرعت سارة تلتقطه منها وتطالعه بذهول لترى على الفور ملامح شقيقتها مرسومة على وجهه .
غلف البكاء عيناها وسعاد تجاورها وتتطلع على الصغير مرددة ذكر الله :
- بسم الله ماشاء الله تبارك الرحمن .
بكت سارة وانحنت تقبل جبين الصغير وقد ارتدت نقاب أبيض اللون حتى لا يفزع إذا رآها لذا ابتسم لها وكأنه شعر معها بالأمان الذي افتقده طوال العشرة أيام الماضية باحثًا عن أمه .
وفي هذه اللحظة وهذه الابتسامة البريئة التي صدرت منه دون نية منه في الابتسام ولكنها كانت كفيلة لتغير مسار حياة سارة تمامًا من النقيض إلى النقيض .
❈-❈-❈
بعد أربعة أشهر .
ينام الصغير على السرير وتقف سارة أمامه تبدل له الحفاضة وتناغشه تارة وتتجهم ملامحها أمامه تارة أخرى فيبتسم وتتعالى ضحكاته لأنه يعلم يقينًا أن تجهمها هذا ما هو إلا قناعًا لإضحاكه .
تصدر أصواتًا لحيواناتٍ نعرفها وأصواتًا لا نعرفها كأنها كائن فضائي ولكن لا يهمها، كل ما يهمها هي ضحكة هذا الصغير الذي يبتسم حتى انتهت وحملته تهدهده وتتجه به نحو الخارج مردفة بمرحٍ كأنها تتحدث إلى رجلٍ راشد :
- ما رأيك أن أضعك هنا في هذا السرير الذي دفعت ثمنه من دمائي كي يلهيك قليلًا ولكنك تتركه وتلتصق بي ، هل أنا أنجبتك ونسيتك يا ولد ؟ ، لم لا تتهذب وتجلس مثل باقي البشر وتكن هادئًا إلى أن أنهي ما طلب مني ؟
كانت قد وضعته داخل السرير الخاص به بالفعل والذي ابتاعته له كي يلهيه حيث تتعلق به بعض الألعاب الملفتة لنظر الأطفال ولكن هذا الصغير لم يلتفت لأي شيء سواها حيث بدأ يئن ويتلوى حينما شعر أنها ستتركه هنا لتزفر بقوة ثم تعاود حمله وتهدهده قائلة بنزق لذيذ :
- أيها المشاغب ، هل هناك من سلطك علي ؟ أريد أن أنهي أعماااااالي .
قالتها بملامح منكمشة وهي تطالعه وترفعه بيدها ليضحك بصخب عليها كأنها تدلله لا توبخه أم أنه اعتاد على توبيخها هذا وبات يطالب به فضلًا عن الدلال إذا كان الدلال سيكون عبارة عن سرير ممل فيه بعض الألعاب المملة التي لن تسعده .
لتنسى نزقها في الحال بمجرد أن يقهقه هذا الصغير فتبادله الضحكة وتعاود احتضانه بقوة بل تعصره عصرًا واضعة قبلة عميقة على وجنته المنتفخة ثم قضمة على الأخرى .
جاءت سعاد على صوتها تطالعها بتنهيدة ثم قالت بهدوء وهي تحاول تناول الصغير منها :
- أعطني هذا المشاغب لأرى واذهبي أكملي عملكِ .
ناولته لوالدتها تنظر له لثانية اثنتان وفي الثالثة كان يتلوى ويريد العودة لها لتبسم بسعادة وحنان طاغي يجتاحها نحوه لذا أسرعت تمد يدها لتنتشله ولكن أبعدته سعاد عنها بضيقٍ تجاهد لتخفيه وراء ابتسامة هادئة وهي تحاول هدهدة الصغير بهدوء قائلة :
- توقفي سارة ودعيني أهدهده فهو طالما يراكِ تنفذين له رغباته لن يحل عنكِ حتى أنه بات لا يريد أن أحمله .
ابتعدت سارة تطالعه باستعطاف وتمط شفتيها كأنها تشتكِ والدتها له فعاد يشير نحوها فحاولت سعاد إلهاءهُ قائلة وهي تطالع سارة بحدة ربما ظاهريًا كاذبة ولكنها حقًا باتت مستاءة من هذا الوضع :
- سارة هيا اذهبي واتركيه لي .
تنفست سارة بقوة وتحركت من أمامه مضطرة لتنهي أعمالها التي تراكمت فوقها حتى أنها خسرت جزءًا من متابعيها ولكن لا يهم كل شيء يهون مقابل ضحكة من نوح .
نوح التي تعلقت به تعلقًا قويًا وكذلك هو حتى أنها لم تعد تهتم بالطهي وصناعة الشوكولاتا كما أهملت علي الذي يسعى ويتحمل هذا الوضع كي لا يخسرها وتعلم جيدًا أنها مخطئة في حقه وأنها لن تجد رجلًا يتحمل أوضاعها مثله ولكن ليس بيدها شيء .
كل ما تريده الآن هي سعادة هذا الصغير وإعطاءه كل المشاعر التي يحتاجها ولم تبخل عليه في ذلك وهذا تسبب لها بمشاكلٍ مع والدتها التي تراها تتناسى مستقبلها لأجل نوح .
تريدها أن تهتم بنفسها وبه ولكنها ترى أن ابنتها صبت اهتمامها بالصغير فقط ، ترى جيدًا أن علي يتحمل فوق طاقته وهذا لن تقبل به .
عليها أن تجد حلًا صارمًا حتى لو كان قاسيًا ولكنها ترى أن ابنتها هكذا تقضي على مستقبلها .
هي بصحة جيدة وتستطيع مراعاة هذا الصغير ولتلتفت ابنتها لنفسها قليلًا فقد اقترب زواجها وهي إلى الآن تقف مكانك سر .
استطاعت سعاد إلهاءه الصغير عن سارة حيث أخذته إلى غرفتها وباتت تلاعبه فتقبل الصغير دلالها مؤقتًا ليترك سارة تنهي بعض الأعمال وكلما شعرت بحاجتها لقبلته أو ضمه ركضت إلى غرفة والدتها تقبله وتضمه وتعود ركضًا قبل أن توبخها سعاد .
انتهت من أعمالها أخيرًا وأسرعت نحو الصغير الذي بدأ يبكي مطالبًا بها .
التقطته من سعاد تقبله تحت أنظار الأخيرة المتنهدة بضيق ثم طالعتها تقول بجدية :
- هذا الوضع زاد عن حده يا سارة ، لم يتبقَ على زفافك الكثير من الوقت وأنتِ لا تهتمين ، منذ متى وابنتي عديمة المسؤولية هكذا ؟ ، ما ذنب هذا الشاب الذي يحبكِ ويتحمل وضعكِ الصعب هذا ؟
نظرت سارة للصغير الذي بدأ يغفو في حضنها وهي تربت عليه بحنانٍ ثم عادت تطالع والدتها مرةً أخرى وتردف بتوتر :
- لمَ كل هذا يا أمي ؟ ، هل تطلبين مني أن أترك نوح وأنتِ تعلمين أنه وصية أختي ؟ ، وعلي أيضًا عليه أن يتقبل ذلك وإلا ــــــــ .
- إياكِ سارة ، إياكِ أن تقوليها .
قاطعتها سعاد تنطقها بصرامة وعيون محذرة وهي ترفع سبابتها في وجهها لتشعر سارة بالضيق والضغط يحاوطانها لتعود سعاد تتابع بجدية ثاقبة :
- ستلتفتين إلى مستقبلكِ وحياتكِ مع من يحبك ، ابنتي ليست ناكرة للجميل وذلك الشاب تحمل الكثير لأجلكِ ، ولو كنت رأيت منه عيبًا لقلته ولكنني أرى أنكِ المخطئة لذا يجب أن أقف لكِ بالمرصاد .
مسحت سارة على ملامحها بضيقٍ والتزمت الصمت ولا تعلم بماذا تجيب والدتها التي تراها محتدة لتتابع سعاد وهي تمد يدها لها :
- أعطني الصغير لأضعه في سريره واذهبي اغتسلي وبدلي ثيابكِ ، بتي مهملةً حتى في هيئتك .
ناولتها سارة الصغير بملامح حزينة فأخذته سعاد وتحركت به نحو غرفتها بينما اتجهت سارة نحو المرآة المعلقة بالقرب من باب المنزل لترى هيئتها .
ظلت تحدق في نفسها لثوانٍ وحينما وجدت أن كلمات سعاد صائبة أسرعت تحتال على نفسها قائلة بدلال :
- ما بها هيئتي ، ها أنا مثل القمر .
طرقات على الباب أجفلتها لتسرع في قول :
- مَن .
لم يرد الطارق فأسرعت ترتدي اسدالها وتعقد نقابها وتنزله سريعًا ثم فتحت الباب بمواربة تنظر من جزءٍ صغيرٍ منه وحينما رأته جحظت عيناها وتجمدت لتصبح كالتمثال تمامًا .
يقف أمامها بملامح تشبح بهم الحزن ورسم خطوطه أسفل عينيه بينما نمت ذقنه بشكلٍ كثيف .
لم يتحدث بل يطالعها منتظرًا أن تخرج من صدمتها التي دامت لثوانٍ قبل أن تفتح الباب على مصراعيه وتتكتف أمامه قائلة بملامح غاضبة أدركها من نظرتها المحتدة ووقفتها وهي تقول :
- ماذا تريد ؟
- أريد ابني ، جئت لآخذه .
بسم الله ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أنّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُون فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِكَ وكُن مِنَ السَاجِدِينْ واِعْبُد رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينْ .
اللهم إنا نستودعك أهل غزة وكل فلسطين ، اللهم
كن لهم عونا اللهم إنا لا نملك لغزة وفلسطين إلا الدعاء
الفصل السابع من رواية في رحالها قلبي
بقلم آية العربي
❈-❈-❈
لا تقترب ولا تبتعد ، فقط قف لحظة وفكر جيدًا .
وقفت تطالعه ببلاهة تحولت إلى طاقة هجومية وهي تطالعه شزرا وتردف بحدة :
- أي ابن ؟ ، ليس لك أبناء هنا ، مع السلامة .
تمسكت بالباب لتغلقه ولكنه وضع قدمه يمنعها من إغلاقه ثم طالعها بعيون حادة يردد من بين أسنانه :
- ادخلي وأحضري لي طفلي .
وقفت تحدق به وقد انسحبت أنفاسها وتهاوى قلبها خوفًا من كلماته وملامحه الحادة لذا تحدثت بهجوم وغيظ :
- عن أي طفل تتحدث ؟ ، هل تقصد الصغير الذي تركته في الحاضنة وسافرت حتى قبل أن تراه ؟ ، تقصد الصغير الذي لم تحزن على وفاة والدته كأنها لم تكن زوجتك ؟
كاد أن يرد عليها لولا مجيء سعاد من الغرفة على صوت سارة لتتجه نحو الباب وحينما رأته تعجبت ولكن أردفت بهدوء مرحبة :
- كيف حالك يا سيف ، تفضل يا بني .
تنهد سيف ونظر نحو سعاد بهدوء ثم تحدث بجدية :
- شكرًا لكِ ، أنا جئت لآخذ ابني وأغادر .
هاجت سارة مجددًا لتردف بغيظ وشراسة ومع ذلك تحافظ على مستوى صوتها الهادئ :
- لا تقل آخذه لأن هذا لن يحدث .
- سيحدث
نطقها بتحدٍ وهو يحدق بها فاغتاظت لتوقفها سعاد بنظرة محذرة ثم عادت تنظر نحو سيف قائلة بتروٍ :
- تفضل يا بني ، ادخل لنتحدث .
أفسحت له المجال وأزاحت بيدها سارة المتسمرة لا تود أن يدخل ليطالعها بتشفي ويعبر للداخل ثم اتجه يجلس وجلست سعاد ثم رفعت أنظارها نحو سارة تردف بنبرة آمرة :
- اذهبي يا سارة واحضري قدح قهوة سادة لسيف .
طالعت والدتها بتعجب فهي رحبت به واستقبلته بعد كل ما فعله ولكنها في النهاية أومأت بحنق وتحركت طواعية برغم رغبتها في البقاء ولكن لتحضره وتعود سريعًا .
نظرت سعاد إلى سيف وتحدثت بتروٍ :
- أين كنت طوال هذه المدة يا ابني ، وكيف تترك طفلك هكذا دون سؤالٍ ؟
تنهد سيف ونطق بمراوغة يتقنها وهو يجلس بأريحية :
- كنت في رحلة عمل يا سيدة سعاد ، والآن عدت وجئت لأصطحب صغيري معي ، هل هناك مانع ؟
قطبت سعاد جبينها تطالعه بتعجب ،، ربما يكون هذا حلًا مناسبًا كي تعود ابنتها إلى رشدها ولكن كيف ستترك الصغير يذهب معه ، هي أيضًا تعلقت به ناهيك عن مشاعر سارة وعليه أن يعلم ذلك جيدًا لذا تحدثت بتأنٍ موضحة :
- لا يا بني ليس هناك مانع ولكن لا تنسى أننا تعلقنا بالصغير ، ثم أنك لن تستطيع مراعاته بنفسك وأنت دومًا تسافر .
تحدث بنبرة واثقة وباردة :
- لا تقلقي حيال ذلك ، لقد جلبت له أفضل مربية وأما عن تعلقكما به فتستطيعان رؤيته وقتما تشاءان .
جاءت سارة تحمل القهوة وتحدثت برفضٍ قاطعٍ بعدما سمعت جملته الأخيرة :
- لا يا سيف يا دويري ما سيحدث هو العكس ، أنت حينما تود رؤيته ستأتي وتراه هذا إذا كنت تود رؤيته حقًا ، هل تظنني غبية لأصدق أنه بعد أربعة أشهرٍ من تركك له وعدم سؤالك عنه ولا حتى رؤيته أنك فجأةً هكذا أحببته واعتبرته طفلك ؟
كانت تتحدث وقدح القهوة في يدها بينما هو رفع نظره يطالعها ببرود ثم ابتسم ساخرًا وتحدث :
- نعم بالفعل أنتِ غبية .
فرغ فاهها الذي لم يره ولكنه تخيل ملامحها من أسفل النقاب فإذا كانت عيناها ترسل شرارات لو تجسدت لحرقته ما بالك بملامحها كاملة ولكن ما كان منها إلا أن تدعي الانحناء لتضع قدح القهوة أمامه ولكن بدلًا عن ذلك سكبته عمدًا على ساقه لينتفض واقفًا بعدما شعر بالاحتراق وهو يحاول أن ينفض القهوة عنه لتنصدم سعاد وتسرع في إحضار محارمَ ورقية له بينما هي ابتسمت بخبث وتحدثت معتذرة :
- آسفة ، لم أقصد .
طالعها شزرًا لتعود إليه سعاد تناوله المحرمة ثم تنظر لابنتها بضيق لتطرق سارة رأسها حتى لا تميز سعاد ابتسامتها بينما حاول سيف تجفيف القهوة ولكن عبثًا لذا تحدث بنزق وهو ينظر نحو سعاد :
- هل يمكن أن أذهب إلى الحمام ؟
أومأت له قائلة وهي تتقدم وتشير له نحو موقعه :
- نعم بالتأكيد تفضل يا بني .
تحرك نحو الحمام وغاب به لتعود سعاد نحو سارة تطالعها شزرًا قائلة :
- سارة هل جننتي ؟ ، ما تصرفات الأطفال هذه ؟ ، عيب عليكِ ما فعلتيه ، هذا والده ويحق له أخذه في أي لحظة .
- لا ، لا يحق له أخذه ، لا يحق له أبدًا ، هو من البداية لم يكن يريده وأنا أقنعته لإبقائه ، ثم بعد ولادته ووفاة أختي غادر في اليوم الثالث دون رؤيته ودون الحزن على من ماتت ودفنت وكأنه قال بركة يا جامع ، ويأتي الآن ليأخذه ؟ ، يأخذ من أصبح قطعة من قلبي ؟ ، لا وألف لا سأقف له بالمرصاد .
نطقتها بقوة لتتكتف سعاد تطالعها بهدوء ثم تساءلت بترقب :
- وكيف ستمنعينه يا ابنة بطني ؟ ، قانونيًا ورسميًا وشرعًا من حقه أخذه .
تعالت نبرتها وهي تهز رأسها وتردف بعيون لامعة وهي على وشك البكاء من شدة الضغط الذي تتعرض له :
- لا ليس من حقه ، لن يأخذه طوال ما أنا على قيد الحياة .
وعلى حين غفلة تحركت تلتقط هاتفها وتهاتف علي ، لا تعلم لمَ ستفعل هذا ولكنها تحتاج إلى شخصٍ يقف له فهي تعلم جيدًا أن والدتها محقة ولكن هل فعلًا تصرفها صائبًا ؟ ، لا تعلم كل ما تعلمه الآن أنها لن تتركه يأخذ الصغير ويغادر .
أجابها على بنبرة باردة متسائلًا :
- أهلًا سارة ، هل أخيرًا جئت على خاطركِ .
لم تكن تحتمل ذرة تأنيب بل كل ما تريده الآن هو حلًا سريعًا لذا تجاهلت ما قاله وقالت بنبرة مترجية مشتتة :
- علي هل يمكن أن تأتي الآن ؟ ، أرجوك أنا بحاجتك .
تعجب علي ولكنه أردف بقلقٍ وهو يقود سيارته :
- ماذا حدث يا سارة طمئنيني !
- لا شيء ولكن فقط تعال .
- حسنًا أنا بالقرب منكِ أساسًا ، سآتي على الفور .
أغلقت معه وعادت إلى والدتها لتجدها تقف تتحدث مع سيف الذي خرج لتوه من الحمام ويتحدث بنفاذ صبرٍ :
- هل يمكنكما أن تعطياني الصغير لأرحل ؟
لم تجد سعاد بدًا من الرفض ولكن حاولت استعطافه بطريقة أخرى لذا قالت بهدوء :
- اسمعني يابني الصغير الآن نائم ومن المؤكد إن استيقظ ولم يجدنا سيفزع ويصرخ ، دعه أسبوعًا على الأقل وتعالى يوميًا لزيارته حتى يعتاد عليك .
لم تحتمل سارة رضوخ والدتها له لذا تحركت تقف جوارها وأمامه وتردف بنبرة أقل حدة لعله يقتنع :
- اسمع يا سيف ، الصغير ابني ، وصية أختي لي ، وعدتها ألا أتركه أبدًا كما طلبت مني ، لا يمكن أن تأخذه ، يمكنك زيارته وقتما تشاء أرجوك .
قالتها بعيون لامعة فتعمق بها لثانية ثم تجاهلها تمامًا وعاد يتطلع إلى سعاد ثم تحدث كأنه لم يسمعهما :
- الوقت تأخر ، وأنا لدي مواعيد عمل فضلًا يا سيدة سعاد أحضري الصغير .
شعرت سعاد بالضيق والحرج لذا تحركت طواعية تجلب له الصغير متجهة إلى غرفتها وحينما رأتها سارة جن جنونها ولا تعلم ما أصابها لتصرخ في وجهه بغضب واندفاع قائلة :
- لن تأخذه ، أقسم بربي إن لم تغادر الآن يا سيف سأتصل بالشرطة .
وقف يتابعها بصمت بينما هي أسرعت نحو سعاد التي أتت تحمل الصغير النائم لتسرع سارة تنتزعه منها وتعانقه بقوة وتردد وهي تدفن رأسها فيه بهستيرية :
- لن تأخذه ، هذا ابني أنا ، سأموت بدونه .
- ماذا يحدث هنا .
قالها علي الذي أتى من خلفهم ليلتفت له سيف يطالعه بطرف عينه بضيق وحقد ليلتفت ويتقدم نحو سارة بعدما تملك منه الغيظ ومد يده يحاول أخذ الصغير الذي استيقظ يبكي ولكنها تكبله بقوة بأحضانها وتردف بصراخ زاد من بكاء الصغير :
- ابتعد عني ، ابتعد لا تلمسني .
تفاقم الغضب في جسد علي الذي اشتعل ليسرع إلى سيف ويدفعه بعيدًا عن سارة فتعثر سيف للحظات قبل أن يباغته بكره ويبادله علي نفس النظرات قائلًا بشراسة :
- ابتعد عنها .
صرخت سعاد بقهرٍ وهي تطالعهما :
- كفى ، كفى ، هل ستتعاكران في بيتي ؟.
التفتت تنظر إلى علي قائلة بعيون محذرة :
- إجلس يا علي .
زفر علي بقوة ثم أومأ لها واتجه يجلس لتلتفت تطالع سيف الذي يلجم غضبه بصعوبة ثم تحركت نحو ابنتها التي باتت تهدهد الصغير حتى عاد للنوم في حضنها ، نظرت لها بحزنٍ فهي تعلم جيدًا قوة تعلقها به ، وتعلم أنها ستعاني وستتألم ولكن هذا أفضل قرار كي تلتفت إلى حياتها .
تحدثت بنبرة لينة حنونة وهي تمد يدها لها :
- أعطني الصغير يا سارة .
رفعت سارة نظراتها إلى والدتها تترجاها ألا تفعل وقلبها ينبض بعنف رافضًا ما يحدث برمته لتومئ لها سعاد وتردد بحزن :
- هيا يا سارة هذا والده ما تفعلينه خاطئ يا ابنتي .
هزت رأسها برفضٍ لتلتفت تنظر نحو علي عله ينجدها أو يدعمها ولكنه عاد يتوقف ويردف مؤيدًا لقرار سعاد :
- أعطيه ابنه يا سارة ليأخذه ويغادر .
هاجمها وحش الصدمة وهي تطالعه بخيبة أمل وحسرة وفجأة ارتخت قبضتها من حول الصغير فتناولته سعاد وانحنت تقبله بعمق وبكت وهي تلتفت تناوله لوالده الذي أخذه منها يتطلع عليه بتعجب ومشاعر مختلطة من الحيرة والألم والخوف والحزن والحنين .
رفع نظره يطالع سعاد وهي تردف بنبرة حزينة :
- اعتني به .
أومأ لها ثم التفت يلقي نظرة أخيرة على سارة التي وقفت لا حول لها ولا قوة وعيناها مثبتة على الصغير الذي بدأ يتحرك والده به لتشعر كما لو أنّ أحدهم يسحب روحها منها .
غادر بالصغير ليمر ثوانٍ وتسقط أرضًا فلم تعد قدماها تحملاها وانهارت تبكي وتنتحب وتنادي بأعلى نبرة صوتٍ تملكها :
- نـــــــــــــــــــــــوح .
❈-❈-❈
غادر به يستقل سيارته ويأمر السائق بالانطلاق وكل ما يفكر به هي وهيئتها وحالتها التي تركها عليها شاعرًا بالذنب من أجلها ولكن لقد أقسم على ألا يترك صغيره مجددًا .
بعد وقتٍ ترجل حاملًا الصغير ودلف فيلته ينادي على العاملة التي أتت تجيبه بهدوء :
- تفضل سيد سيف .
تساءل وهو ينظر للصغير الذي فتح عينه يطالعه بغرابة كأنه يتعرف على هويته :
- أين السيدة براء ؟
- في الأعلى سيدي ، في الغرفة التي تم تجهيزها للصغير .
تحرك للأعلى يسرع خطواته حيث بدأ الصغير يبكي وهو لا يعلم كيف يتصرف في هذه الأمور .
وصل للغرفة لتتجه له السيدة براء وتأخذ منه الصغير تحاول تهدئته ووقف يتطلع عليه بتعجب وحيرة من أمره ، هذا ابنه من صلبه ؟.
هدأ الصغير قليلًا خاصة وأن الغرفة ألوانها هادئة وملفتة لعينيه في آنٍ واحد وممتلئة بالألعاب والكريستالات المعلقة كالنجوم والتي حدق بها يحاول استكشاف هويتها .
❈-❈-❈
مرت ليلة عصيبة على سارة ، ليلة لم تذق فيها طعم النوم ولا الراحة .
قلبها يتألم ورأسها تتألم وعيناها لم تتوقف لحظة عن الدموع .
حتى برغم محاولات سعاد في مواساتها وطمأنتها ولكن عبثًا .
لم تحتمل فقدانه ، ليس بعدما تعلقت به ، لن تخلف وعدها أبدًا .
لذا ما إن حل النهار حتى ارتدت ملابسها ونقابها سريعًا ثم اتجهت لوالدتها النائمة تحاول إيقاظها فتململت سعاد تطالعها بتعجب لتتحدث سارة بعيون منتفخة ووجه محتقن ونبرة متحشرجة :
- أمي سأذهب لأرى نوح .
تطلعت عليها سعاد بحزنٍ ثم أومأت لها فهي لن ترتاح حتى تراه لذا ما إن أخذت الإذن منها حتى أسرعت خطاها تغادر نحو الأسفل وتستقل سيارتها متجهة إلى فيلا سيف .
❈-❈-❈
على الجهة المقابلة كان الجميع مستيقظين نسبةً لبكاء هذا الصغير الذي لم يهدأ منذ ساعات إلا دقائق فقط يغفو بها ثم يستيقظ مطالبًا برؤيتها هي فقط حتى يهدأ ويشعر بالأمان الذي يفتقده في هذا المكان .
وهذا ما قالته السيدة براء لسيف حينما تساءل عن سبب بكائه وعدم استطاعتهم إسكاته .
حمله بنفسه وحاول أن يهدهده كما فعلت براء أمامه ولكن الصغير يبكي ويتحشرج أمامه ليجن جنونه ولكن ما إن لامس وجنته حتى وجد حرارته عالية لذا لم يحتمل الصبر أكثر من ذلك وتحرك ينزل الدرج ويتجه نحو الخارج وهو يمد يده ليفتح الباب ولكنه تصنم حينما وجدها أمامه تنوي طرق الباب في نفس اللحظة .
وقفا يحدقان ببعضهما لثوانٍ قبل أن تنتبه للصغير الذي عاد يبكي ويشير إليها كي تأخذه فبرغم نقابها الذي يمنعه من رؤيتها إلا أنه يعرفها جيدًا .
أسرعت تنتشل الصغير برقةٍ متناهية والتمعت عيناها وهي تعانقه وتقبله تحت أنظار سيف الذي ابتلع لعابه بتوتر وتركها تفعل معه ما تريد يكفيه أن يهدأ .
ظلت تبث في الصغير الطمأنينة والأمان ليستكين قليلًا ويهدأ ولكن تحدث سيف بنبرة متوترة :
- حرارته عالية .
لم تنظر نحوه ولكنها تحسست جبينه لتستنتج أن حرارته تلك ليست ناتجة عن فيرس وإنما نتجت من شدة بكائه لذا طالعته شزرًا وتحدثت بنبرة تحمل اللوم والغضب :
- هذا لأنه يبكي منذ ساعات ، هل أنت راضٍ الآن ؟ ، ماذا إن حدث له مكروه ؟
رفعت سبابتها في وجهه وتابعت بتحذير ووعيد :
- حينها لن يمنعني أحد عنك .
تعجب من جرأتها في تهديده ولكنه صب تركيزه على الصغير الذي هدأ لتعاود تتحسس وجنته ثم تردف متسائلة بنزق :
- أريد أن أبدل له ثيابه وأطعمه ، من المؤكد أنه لم يتناول شيئًا .
أومأ لها فهو بالفعل لم يتناول سوى القليل من الطعام نسبةً لبكائه لذا أفسح لها المجال يردف بغموض :
- حسنًا أدخلي .
دلفت بخطى متوترة من نظراته ثم أشار لها نحو الأعلى قائلًا :
- غرفته على اليمين في الأعلى ، والسيدة براء ستساعدكِ في الاعتناء به .
- لا أريد مساعدة من أحدٍ .
نطقتها بحدة وهي تصعد الدرج لتتحرك نحو الغرفة تحت أنظاره الشاردة ليعاود عقله يفكر مجددًا في ذات الأمر الذي يراوده قبل أن يعود ، هل يمكن أن يحدث ؟
❈-❈-❈
بعد وقتٍ استرخى الصغير معها بعدما أبدلت له ثيابه وحفاضته وأطعمته وناغشته كما تفعل دومًا وكما يحب أن تفعل .
ظلت معه تدندن له وتقهقه معه حتى غفا بين يديها لتنحني تقبله قبلة هادئة ولكنها عميقة ملتاعة لذا زفرت بقوة وأبعدت وجهها عنه ثم تحركت تضعه في سريره لتتركه وتنزل كي تتحدث مع سيف في أمره ، يجب أن تجد حلًا مناسبًا فهذا الوضع لا يمكن تحمله لكليهما ومن المؤكد بعدما رأى حالة الصغير سيتنازل قليلًا .
هكذا ظنت لذا تحركت للأسفل تبحث عنه وسألت العاملة فأخبرتها أنه في غرفة المكتب .
تحركت صوبها ثم طرقت الباب فسمح لها لتفتح الباب على مصراعيه وتدلف تطالعه وهو يجلس يتصفح حاسوبه ويرتدي نظارته .
تحمحمت قائلة بجدية :
- هل يمكن أن نتحدث .
- يُمكن .
قالها وعينه على الحاسوب فاغتاظت ولكنها تحركت نحو المقعد تجلس عليه وتفرك كفيها بتوتر ثم تنهدت وتحدثت :
- حينما حملت أختي في نوح وحينما أجبرتها على الإجهاض طلبت مساعدتي كي أقنعك ، وحينما جئت إليك وتحدثت معك وبعدها علمت أنك تراجعت عن قرارك سعدتُ جدًا بهذا الخبر وأيقنت أنك صاحب ضمير .
تنهدت بقوة ثم تابعت بشرود وحزن :
- وحينما علمت بمرض فريدة وأخبرتك وجدتك حزينًا والحق يقال لم تقصر معها في التكاليف ولكنك لم تراعِ خاطرها ومشاعرها بل اهتتمت بعملك وسفرك وصفقاتك وتركتها وهذا جعلني أبدل كلمتي بعكسها واكتشفت أنك بلا ضمير .
تعجب مندهشًا من تصريحها لتتابع بنبرة أشد حزنًا وتأثرًا متجاهلة دهشته :
- قبل أن تتوفى أختي أخبرتني وصيتها بألا أترك صغيرها لك ، قالت أنك لن تهتم به ولن تراعيه ووعدتها أنني لن أتركه .
رفعت نظرها إليه تطالعه بغضب امتزج بحزنها وتابعت :
- وأكد لي صدقها حينما سافرت بعد وفاتها بثلاثة أيام وتركت صغيرك ، أربعة أشهر أنت لا تعلم عنه شيئًا ، أربعة أشهر تركته لي أنا من راعيته واهتتمت به ولم أفكر في نفسي أو مستقبلي أو زفافي الذي اقترب ، لذا فأنا من أستحق حضانته وليس أنت ، أرجوك أثبت لي أنك ذلك الرجل صاحب الضمير ولا تعترض على ذلك ، دع نوح لي وتستطيع رؤيته وقتما تريد .
انتهت تطالعه منتظرة قراره بأعصابٍ مشدودة بينما هو فقط يطالعها لثوانٍ ثم تساءل :
- وهل يهم ؟
- ماذا ؟
تساءلت مستفهمة ليتابع موضحًا :
- هل الأمر مهم بالنسبة لكِ إن كنت صاحب ضمير أو لا ؟
نظرت له بيأسٍ وتحدثت بنبرة متحشرجة وهي على وشك البكاء :
- كل ما يهمني هو نوح ، نوح فقط .
- لنتزوج إذًا .
نطقها فجأة ليختفي تحشرجها وتغادر نظرة اليأس للبعيد وتحتل مكانها نظرة العدائية والشراسة وهي تنهض متحدثة بذهول :
- ماذا ؟ ، مــــــــاذا ؟ ، أي زواج هذا يا حقير .
- صوني لسانكِ .
قالها محذرًا بعينين ثاقبتين ولكنها لم تبالِ حيث أطلقت العنان للسانها تردف موبخة :
- صُن أنت العشرة والحب يا ابن الدويري ، صُن الذكريات يا منعدم الضمير والأخلاق ، أقول لك أختي وذكرياتها وتقول لي نتزوج ؟ .
هب واقفًا وأردف بحدة أفزعتها :
- كفى .
أجفلت تطالعه بغضبٍ وصدرها يعلو ويهبط بصخب وعقلها لا يستوعب مطلبه ليتابع بجدية :
- حاولت أن أجد لكِ حلًا كي لا تبتعدي عن الصغير حتى لو كان حلًا فوق طاقتي ولكنني صاحب ضمير لذا طرحته ، ولكن كفى الآن غادرى من هنا بلسانكِ السليط هذا .
وجدت نفسها في وضعٍ لا تتمناه لعدوٍ لها ، التزمت الصمت وبرغم رغبتها في الفرار إلا أن قدميها التصقتا في الأرض كأنهما ترفضان مغادرتها ، تجبرانها على التروي لتجد حلًا من أجل نوح .
تلعثمت ونطقت بهمس وقد باتت تبكي مما تتعرض له من صغطٍ وتجبر وقسوة :
- لمَ تفعل معي هذا ؟ ، هل أسأت لك يومًا ؟ ، ألم ترى أن الصغير يحتاجني ؟ ، أرجوك لا تبعدني عنه ولا تطلب مني الشيء المقزز هذا مرة أخرى ، ثم أنني على خطبة رجلٍ آخر فكيف تريدني أتقبل ما تقوله ، أرجوك سيف .
نطقتها بانكسار وتذلل وهي التي لم تنكسر يومًا ولكن لم يعد يهمها نفسها بقدر اهتمامها بالصغير .
ظل يحدق بها ويفكر ثم تابع ببرود ظاهري :
- الصغير يحتاجكِ اليوم ولكنه لن يحتاجكِ غدًا ، هو مازال صغيرًا جدًا على تعلقه بأحدهم ، ولكن هذا الحل من أجلكِ أنتِ لتعلمي أنني لا أحمل ضغينة تجاهك ، إما أن نتزوج ويتربى نوح بيننا كعائلة وإما أن تبتعدي عنه .
بسم الله ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أنّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُون فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِكَ وكُن مِنَ السَاجِدِينْ واِعْبُد رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينْ .
اللهم إنا نستودعك أهل غزة وكل فلسطين ، اللهم
كن لهم عونا اللهم إنا لا نملك لغزة وفلسطين إلا الدعاء
الفصل الثامن من رواية في رحالها قلبي
بقلم آية العربي
شراء الخواطر غالي وثمين لذا فمن يشتريها يكون من أثرى الناس .. وأفضلهم على الإطلاق .
بعد أن غادرت من فيلته منكسرة وهي تقود بغير هدى .
مهما بلغت توقعاتها لم تتوقع أبدًا أن يعرض عليها الزواج لتجد نفسها فجأة محاصرة بين جدران اليأس والحسرة والمنفذ الوحيد هنا كي لا تفقد الصغير هو الزواج به .
كيف تعقلها ؟ ، ستجن حتمًا لا محالة ، كيف تتزوج بزوج شقيقتها والإنسان الوحيد الذي تبغضه .
ماذا عن علي ذلك الشاب الذي تحمل الكثير من أجلها كيف ستغدر به وتتركه بعدما اقترب موعد زفافها منه .
كيف ستخون عهدها مع فريدة بعدما وعدتها ألا تترك الصغير له .
كيف سيربطها بهذا الرجل رباطًا قويًا كالزواج .
ليحتل رأسها صوتًا آخر يخبرها أنها بالفعل ارتبطت به سواء تقبلت هذا أو أبت .
لقد ربطها القدر به عن طريق نوح الذي تحبه كما لو كان قطعة منها ليكن هذا الرجل من بين رجال الكوكب جميعهم هو والده لذا فهما بينهما رباطًا مهما حاولت فكه ينعقد أكثر .
مشتتة بعدما كانت رافضة تقَبّل ما قاله لتفكر في العواقب التي لم تحتملها أبدًا لذا عادت تقود إلى منزلها لتتحدث مع والدتها وتخبرها بمَ حدث لتجد حلًا سريعًا فهي لم تحتمل أن تبتعد عن الصغير ليلة ، ستتخلى عن أي شيء حتى لو كانت سعادتها ومستقبلها فـ راحتها الآن هو فقط نوح .
❈-❈-❈
منذ أن غادرت وهو يجلس في مكتبه يفكر لمَ عرض الزواج عليها .
كان بإمكانه إيجاد حلٍ آخر لن يعجز عن إيجاد حلًًا خاصةً وأنه رجلًا رحالًا يسافر دومًا .
ولكنه يقنع عقله أن هذا الأنسب لطفله الذي يخطط له ولمستقبله من الآن وبأسرع وقتٍ فيجب أن يضمن له أكبر قدرٍ من الاستقرار والسلام لعل القادم لعنة جديدة .
أطرق رأسه بحزن على ما آلت إليه الأمور ، لم يرغب في حدوث ذلك ولكنه حدث وسواء رفض أو تقبل فالقدر واقع لا محالة .
يتذكر ملامحها وحدتها وصدمتها ولسانها السليط ، لا يعلم لما يمتلك فضولًا لرؤيتها ولكنه يخفيه وراء قناع جليدي من البرود .
عيناها قويتان لا تنهزمان ونظرتها تشبه نظرة فرسة شامخة مدللة تنصر فارسها على أي عدو .
هل ستقبل بعرضه وتوافق على الزواج الذي لا يعلم كيف ستكون ملامحه ؟
أم سترفض وتتخلى عن الصغير .
وبجزءٍ من خبرته الخبيثة يستطيع توقع ردها حيث رأى جيدًا هي من تحب أكثر .
لقد رأى نظرتها نحو علي ، نظرة ميتة لا تحمل مشاعر حبٍ ، يعلم جيدًا هذه النظرة وكيف لا يعلمها وهو عاشها دومًا .
زفر ونهض بعد برهة من التفكير ليرى الصغير الذي هدأ معها بل وحينما رأى عيناها توقف عن البكاء ، هل لتلك الدرجة عيناها آمنة ! ، ليعود مجددًا يحتل الفضول عقله لرؤيتها .
❈-❈-❈
في منزل علي
يتناول الفطور هو ووالدته التي تطالع شروده بضيق حيث أصبحت هذه حالته مؤخرًا وهذا الأمر لم يعجبها أبدًا بل يخيفها عليه .
نادته تردف بحنان متسائلة :
- ما بك يا علي ؟
رفع نظره يطالعها بترقب ثم تنفس يبتسم ويردف بهدوء :
- لا شيء يا أمي أنا فقط شردت .
- هل أنت وسارة على ما يرام ؟
تساءلت بشكٍ فتنهد يتكتف بعدما ترك طعامه قائلًا وهو ينظر أمامه :
- سنصبح على ما يرام يا أمي لا تقلقي ، اقترب زواجنا وبعدها سنصبح على ما يرام .
التفت يطالع والدته وابتسم قائلًا بغموض :
- لقد تحملت الكثير ولكن لا بأس .
شعرت بالقلق حياله لذا تساءلت بترقب :
- وماذا عن ابن شقيقتها يا بني ؟ ، ماذا إن قررت ألا تتركه .
ضحك يعتدل ثم تحدث بأريحية ظاهرية تخفي وراء جدرانها توعد :
- لا لا ، لقد أخذه والده أمس وانتهى الموضوع ، وحتى إن لم يأخذه فلن أقبل بتربية طفل ليس لي ولكنني كنت فقط أنتظر بعد الزواج .
أومأت له متفهمة ولكنها أيضًا لم تشعر بالراحة لذا تساءلت بملامح يتجلى فوقها التوتر :
- أنت تحب سارة يا بني أليس كذلك ؟
- أحبها جدًا يا أمي ، أحبها كما لم أحب إحداهن من قبل ، أفعل أي شيء لأحصل عليها .
نطقها بملامح حادة ليتهاوى قلب والدته خوفًا عليه ، لم يقل أفعل أي شيء لأجلها بل قال أفعل أي شيء لأحصل عليها وهذه الجملة أبدًا لم تطمئنها وباتت تخشى وترتعب من عودة أيامٍ لا تريدها أبدًا .
❈-❈-❈
دلفت سارة منزلها لتجد والدتها تقف في المطبخ فنادتها لتجيب سعاد عليها لذا اتجهت سارة إليها وجلست على المقعد تنزع نقابها وتلقيه على الطاولة ثم نظرت لوالدتها نظرة ضائعة مشتتة أدركتها سعاد ولكنها ظنتها حزنًا على الصغير لذا اتجهت تجلس مقابلها وتتحدث بتروٍ :
- هل ستظلين هكذا يا سارة ؟ ، ستضيعين شبابكِ في الحزن يا ابنتي ؟ ، الصغير لن يبتعد عنكِ وسترينه وقتما تشائين ولكن الأفضل له ولكِ أن يظل مع والده ، سيكون بحاجته حينما يكبر يا سارة وحينها سيلومكِ وأنتِ ستعانين .
- سيف طلبني للزواج .
قالتها لوالدتها التي جحظت متجمدة لثوانٍ قبل أن تردف بصدمة :
- ماذا ؟ ، متى ؟
وضعت وجهها بين كفيها تدلكه كأنها تحاول الاستيقاظ من كابوسٍ مزعج لتجيب بزفرة حادة خرجت من جوفها :
- منذ قليل ، أخبرني إما أن أتزوج به أو أبتعد عن نوح لا خيار ثالث .
وضعت سعاد كفها على فمها بصدمة لا تستوعب ما تخبرها به ابنتها ثم عادت تطالعها متسائلة بتيه :
- وبماذا أجبتيه ؟
نظرت لوالدتها بعمق وأجابت بسؤالٍ إجابته واضحة :
- ماذا برأيك يا أمي ؟ .
عاد الصمت يلتهم كلٍ منهما ، تفكر ولكن أفكار سعاد سبحت للبعيد لتبدأ في رؤية مستقبلٍ مختلف عما تراه سارة .
تعلم أن ابنتها لا تحب علي برغم أنها تراه شابًا جيدًا تحمل معهما الكثير ولكن ليس على القلوب سلطان .
ابنتها لا تحبه ولكنها كانت تراه الخيار الوحيد الأنسب لها وحاضرًا معلوم أفضل من مستقبلٍ مجهول .
ولكن الآن هل يمكن أن تتزوج ابنتها بسيف ويتربى الصغير بينهما ، على الأقل هي ستضمن نصف سعادتها .
ولكن هل ستتقبل سارة هذا الحل ؟ ، هل ستتقبله زوجًا ؟ ، خاصةً وأنه كان زوج فريدة ؟
التفتت إليها سارة حينما طال صمت سعاد وتساءلت بتيه وتشتت :
- ماذا أمي ، ماذا أفعل ، أنا تائهة وكل ما أريده هو نوح ولكن كيف يمكنني أن أقبل بالزواج من زوج أختي وأنا أعلم أن اختي كانت تحبه كثيرًا ، سيجن عقلي يا أمي .
نظرت لها سعاد بحزن تدرك جيدًا صراعها فهي بالأساس ما زالت في صدمتها لتتنهد بعمق وتتساءل بسؤالٍ لم تتوقعه سارة :
- هل أحببتي علي يا سارة ؟
تعجبت تقطب جبينها وتنظر لوالدتها بصدمة ثم قالت بتجهم :
- ما هذا السؤال يا أمي ؟ ، ماذا تقصدين ؟
راوغت سعاد بعاطفة وقالت بهدوء :
- أقصد هل ستتألمين إن ابتعدتي عن علي أم عن نوح ؟ ، فكري جيدًا يا ابنتي فكلاهما مستقبلكِ أنتِ .
تطالع والدتها بصدمة ، لم يكن هذا حديثها من قبل فماذا تغير ؟ ، باتت تهز رأسها ثم قالت باستفهام :
- هل أنتِ مقتنعة بعرض سيف ؟ ، أولم تكوني أمس توبخيني من أجل علي ؟ ، ماذا أمي أنا لم أعد أفهمكِ .
زفرت سعاد وحاولت التحلي بالهدوء وقالت موضحة بصدق :
- أنا لا يهمني مشاعر أحدٍ سوى ابنتي في المقام الأول ، نعم أوبخكِ من أجل علي لأنني كنت أريدكِ أن تخططي لحياتكِ مع شابٍ يحبكِ وتحبيه وتسعدي معه ، ولكن إن كنتِ لا تستطيعين التعايش من دون نوح فيجب عليكِ أن تفكري في عرض سيف .
ظلت محدقة في والدتها ببلاهة كأن من أمامها ليست والدتها التي تعلمها جيدًا بل هي شخصًا آخر يرى الأمور بمنظورٍ جديد عليها .
لقد أتت لتشاركها كي تعزز وتقوي موقفها ولكن يبدو أن سعاد مثل بعض الأمهات كل ما يهمها أن تتزوج ابنتها برجلٍ جيدٍ ولكنها تناست أن سيف الدويري ليس ذلك الرجل ، ليس هو أبدًا .
❈-❈-❈
مر يومين
قضتهما سارة في النوم مجددًا كي لا تفكر ، جسدها مرض وامتنعت عن تناول الطعام فلم تستطع إكمال حياتها دون نوح ، تتساءل في كل دقيقة كيف حاله الآن .
تشتاق لرؤيته حد الموت ولكنها تحاملت على نفسها لترى هل ستحتمل هذا ؟
لتجد أنها لن تحتمل لذا مرضت وبرغم ذلك تصارع صوتًا داخلها يخبرها بالموافقة على الزواج من سيف الدويري .
حزينة سعاد من أجلها ، حزينة جدًا ولكنها تحاول أن تهيأها لتتخذ قرارًا هو الأصعب في حياتها .
على الجهة الأخرى كان الصغير دومًا يبكي برغم محاولات براء البائسة في هدهدته ليسرع إليه سيف يحمله ويفعل معه مثلما فعلت سارة في ذلك اليوم .
يحممه ويبدل له حفاضته ثم يظل يناغشه بنفس الطريقة التي رآها تفعلها خفيةً من خلال كاميرا المراقبة التي لاحظتها لذا لم تتخلى عن نقابها آنذاك .
ليجد الصغير بديلًا مؤقتًا يهدأ معه وهو والده الذي سعد كثيرًا باستجابة نوح معه ، بل لأول مرة ينشرح قلبه وهو يراه يضحك له .
ظل يفعل معه نفس الأمر طوال اليومين ولكنه برغم ذلك يفكر ويتعجب من صمتها ، هل قررت التخلي عن الصغير ؟
يبدو كذلك له فها هي ليومين لم تسأل عنه لذا فمن المؤكد أنها رفضت عرضه لذا فهو يشعر بالحزن والغضب الذي لا يعلم لهما سببًا .
كان في منزله كعادته مؤخرًا حينما أتاه اتصالا من سعاد تعجب له ولكن هناك شعاعًا سطع داخله فجأة ليجيب على الفور متسائلًا :
- أهلًا بكِ يا سيدة سعاد ، كيف الحال .
تنهدت سعاد بهدوء تجيبه بحزن نسبةً لحالة ابنتها :
- أنا بخير يا بني ، ولكني أريد أن أطلب منك طلبًا .
ضيق عيناه يجيبها بترقب وقلبه بات ينبض بصخب كأنه يعيش قصة حبٍ جديدة على قلبه المتصحر :
- تفضلي ، ما هو !
- هل يمكن أن تحضر نوح إلى سارة لتراه ؟ ، منذ يومين وهي مريضة ولم تأكل ونائمة طوال الوقت حزنًا عليه وأنا لا أعلم كيف أخرجها من هذه الحالة ، فضلًا أحضره لتراه ربما انشرح فؤادها برؤيته .
لم يعترض بل أصابه الهم لحالتها وشعر بالحزن يتفاقم داخله لذا قال بهدوء ينافي لهفته :
- حسنًا سيدة سعاد سأحضره بعد قليل .
❈-❈-❈
كانت نائمة تحلم بالصغير يقهقه معها ويمد يده يلامس ملامحها وهي تناغشه كالعادة .
حلمًا بدى لها جميلًا وليته يتحقق .
لتشعر بلمسة الصغير على وجهها أكثر وأكثر حتي سحبتها تلك اللمسة من نسيج عقلها الباطن لتستيقظ تجده ينام جوارها وبالفعل يده تلامس وجهها بينما يبتسم لها ويصدر أصواتًا تدل على وجوده بالفعل ، إذا هذا ليس حلمًا ، نوح هنا ينام بجانبها .
انتفضت بطاقة مضاعفة تجلس تحدق به بذهول ثم التقطته تحمله وتعانقه تارة وتقبله تارة أخرى وتحدثه باشتياقٍ بلغ منتهاه .
دلفت سعاد تطالعها بفرحة تجلت في نبرتها وهي تقول متجهة نحوها :
- هل تحسنتِ يا سارة . كنت أعلم ذلك .
عانقته سارة وهي تنظر نحو والدتها بانتعاش وأمل تضخم بها فالتهمها وأنساها الواقع قائلة :
- لقد عاد نوح لي يا أمي ، عادة لي مجددًا يا سعادة .
أحبطت ملامح سعاد وزفرت بضيق ثم ربتت على ظهرها لتقول بهدوء وهو تجاورها :
- لا يا سارة ، لقد هاتفت سيف ليحضره إليكِ قليلًا يا ابنتي فحالتكِ كانت بائسة وقلبي انفطر عليكِ .
سحقت أمالها وذابت فرحتها وهي تطالعها بحزن وتبتلع غصتها المُرة قائلة باستنكار عاد إليها :
- ماذا ؟ ، أيعني أنه سيعود معه ؟ ، سيأخذه وأبقى من دونه مجددًا ؟
أبعدت الصغير عنها تحدق به بقوة ثم عادت تحتضنه وتغلق عيناها وقلبها عليه قائلة برفضٍ لمَا تعيشه :
- لا أرجوكم لا تأخذوه مني ، أتركوه لي واتركوني له ، أرجوكم .
نظرت لها بحزن ولكن ما باليد حيلة والقرار لها في النهاية لذا تحدثت سعاد مجددًا بنبرة مختنقة معاتبة :
- يكفي يا سارة ، ستنهين نفسكِ يا ابنتي ، يكفي فقلبي لم يعد يحتمل رؤيتكِ هكذا ، لقد تحملت موت والدكِ ولم أنهَر لأجلكِ وتحملت موت فريدة ولم أنهر لأجلكِ ولكنني لم أحتمل أبدًا رؤيتكِ هكذا وأنت تقتلين نفسكِ ، حرامٌ عليكِ صحتكِ ومستقبلكِ وحياتكِ ، حرامٌ عليك ما تفعلينه بنفسكِ وبي .
نظرت لوالدتها بحزنٍ والآن أدركت فداحة ما تفعله بحق نفسها ، الآن أدركت أنها أحزنت والدتها كثيرًا في خضم أحزانها وتقلباتها لتتابع سعاد بنبرة جادة وعيون ثاقبة :
- إن كان الحل هو زواجكِ من سيف فتزوجيه وكوني أمًا لنوح وكفى بكاءً على اللبن المسكوب .
❈-❈-❈
في اليوم التالي تقود في طريقها إلى فيلا سيف بعدما اتخذت قرارها واستخارت ربها فيما هو قادم .
ملامحها خالية من أي تعبير فقط تقود بصمتٍ ينافي ضجيج أفكارها .
لقد أتى ليلًا واصطحب الصغير معه مجددًا بصمتٍ تام حتى أنها لم تخرج لمقابلته ولم تره ولم تعد تريد رؤيته ولكنها مجبرة .
وصلت إلى الفيلا واتجهت تطرق الباب لتفتح لها العاملة مرحبة .
ابتسمت لها وتساءلت بتوتر :
- أين سيف ؟
- السيد سيف غادر إلى الشركة منذ ساعة ، قال أن لديه اجتماعًا عاجلًا وسيأتي بعد انتهاءه .
أومأت بتفهم ثم نظرت للأعلى نحو غرفة نوح وعادت تطالعها متسائلة بترقب :
- هل نوح نائم ؟ ، سأذهب لأراه إلى أن يأتي سيف .
أومأت لها العاملة باحترام وأشارت لها بالدخول قائلة :
- بالطبع تفضلي آنسة سارة .
دلفت سارة واتجهت على الفور للأعلى نحو غرفة الصغير لتراه وتلعب معه وتنسى همومها لبعض الوقت إلى أن يأتي سيف .
❈-❈-❈
كان يجلس في عزبته يستمع إلى حديث الرجل الذي كلفه مؤخرًا بمراقبة سارة والذي أبلغه للتو أنها دلفت فيلا سيف الدويري .
أغلق معه واستشاط غضبًا ، يريد أن يطفئ النيران الساعرة التي تحرقه وتحرق جسده ، لمَ باتت تذهب مؤخرًا إلى فيلا ذلك الرجل .
هل بينهما شيء ؟ ، تهمله وتتجاهل حديثه واتصالاته وحينما يهاتف سعاد تخبره أنها مريضة والآن تركض متجهة نحو سيف الدويري .
الأمر برمته لا يدخل عقله المشكك لذا فهو الآن في قمة غضبه الذي لو تجسد لأحرقهما ولينهي هذه المسألة التي طالت كثيرًا .
ظل طوال خطبته يتحامل ويضغط على نفسه فقط لكي يحصل عليها ويتزوجها ولكنها باتت تتجاهله للحد الذي جعله على حافة الجنون .
يفترض أن يتزوجا بعد أقل من شهرين ولكنها تتصرف وكأنها ليست على خطبة رجل ، تتعامل معه كما كانت تتعامل مسبقًا قبل خطبتهما .
كان يتقبل هذا ولكن بعدما ظهر سيف للساحة لم يعد يحتمل وعليه أن يتحدث معها في أقرب وقت لينهي مسألة سيف للأبد وإلا فهو لا يتوقع ردود أفعاله .
❈-❈-❈
بعد حوالي ساعة عاد سيف من عمله وحينما وجد سيارة سارة لا يعلم لما انشرح صدره وبات يتحرك نحو الداخل بحماس يخفيه وراء جدران الثبات والبرود الخاصة بشخصيته .
استقبلته العاملة بينما هو تحرك للأعلى نحو غرفة صغيره ليراه أو ... يراها .
كانت تلف وجهها عن الكاميرا بعدما رفعت نقابها كي يتسنى لها اللعب مع الصغير بأريحية .
تناغشه والآخر يبتسم ولكن أجفلتها طرقة واحدة على الباب تبعها فتحه فورًا لتسرع في إنزال نقابها قبل أن يراها ليرى فقط فمها وهذا كل ما استطاع رؤيته .
وقف متجمدًا لثوانٍ يتمنى لو كان فتح دون استئذان ولكن عاد سريعًا ينهر نفسه على أفكاره ولم يكد يتحدث حتى وجدها تردف بنبرة موبخة خانقة :
- ألا تعلم عن الأصول شيئًا ؟ ، من المؤكد أنك تعلم أنني هنا لذا فاطرق الباب وانتظر وتذكر أنني متنقبة .
تحرك يتقدم بثبات نحو الصغير الذي يجاورها ثم دنا يقبله من وجنته واعتدل يحدق بها ويتحدث ساخرًا بوقاحة وبرود مستفز :
- لا تقلقي يا آنسة سارة لم أرَ شيئًا وحتى إن رأيت فأنا لا أميل للملامح الشرقية والعيون السوداء .
نظرت له شزرًا ولكنها أرادت أن ترد له الصاع صاعين لذا أومأت وقالت بشموخٍ :
- وأنا مثلك لا أميل للرجل الذي يقيم المرأة حسب ملامحها أو لون عينيها ، لا أميل له أبدًا .
صمت يبادلها النظرات الثاقبة المتحدية قبل أن يبادر هو بإطراق رأسه قائلًا ببرود ظاهري :
- إذا كلانا متفقان وكلٍ منا يعلم ماذا يريده .
عاد يملس بإصبعه على وجنة صغيره الناعمة ثم التفت يغادر الغرفة ولكن قبل أن تخطو قدماه للخارج أوقفته قائلة بتوترٍ جعل نبرتها مرتعشة :
- انتظر .
توقف مكانه وتعالت نبضاته ولم يلتفت لها لتنهض واقفة تردف بشموخٍ برغم بنبرتها الحزينة والواهنة :
- أنا موافقة .
للحظات لم يستوعب مقصدها لذا التفت يطالعها قاطبًا جبينه باستفهام فتابعت بأنفاسٍ شبه معدومة كأنها تسحبها من سم خياط :
- أنا موافقة على الزواج بك .
لم يصدق ما قالته لذا وقف بصمتٍ يحاول الاستيعاب لتتابع هي بنبرة ذات مغزى :
- من أجل نوح أفعل أي شيء ، من أجل ألاّ أنقض وعدي لأختي أفعل أي شيء حتى لو كان هذا الشيء هو الزواج منك ، لا تتأمل ولا تحلم أن يصبح هذا الزواج حقيقيًا يومًا ما ، هو فقط من أجل نوح .
- حسنًا ، كلانا متفقان على ذلك أيضًا .
نطقها بثباتٍ ظاهري فقط وعينيه مسلطة على خاصتها لتسرع في الإلتفات نحو الصغير وتفيض منها دمعة خائنة أسرعت تلتقطها ثم عادت إليه تردف بنبرة متحشرجة حزينة :
- حسنًا دعنا لا نطيل هذا الأمر ، ولكن فقط انتظر كي أخبر علي بقراري ، من حقه أن يعلم .
لا يعلم لمَ شعر بنارٍ تنهش قلبه جديدة عليه حينما ذكرت اسم علي لذا وضع كفيه في جيبي بنطاله وتحدث بصرامة :
- دعيه لي ، أنا سأخبره ، لا تلتقي به أنتِ .
استشاطت غضبًا وغيظًا من هذا الرجل لذا تحدثت باندفاع :
- ليس من شأنك ، لا تتدخل فيما لا يعينك ، سألتقي به وأخبره بنفسي .
تقدم خطواتٍ منها يضغط على أسنانه بتحدٍ ويردف بنبرة تحذيرية :
- إلى الآن أتعامل معكِ بهدوء ، لا تلتقي به ودعيني أنهي أمره بنفسي ، أنا لا أثق به أبدًا .
نظرت له شزرًا ولم تهدأ ولم تخشه بل هاجمته تلوح بيدها بغضبٍ قائلة :
- لأنه ليس مثلك ، هو لم يتخلّ عني أبدًا وتحمل كل ما مررت به ، هو الوحيد الذي أحبني وسأخسره بسببك أنت .
تقدمت منه قليلًا وتكتفت تحدق به وتتابع بمغزى لترد كرامتها :
- هو الذي أحبني دون أن يراني ، ولهذا أنت لا تثق به ، لأنه لا يشبهك .
قالتها وتحركت تغادر وتركته يقف مكانه يعيد كلماتها في رأسه ويرددها ليزفر بضيق ويلقي نظرة على الصغير ثم ينادي بعلو على المربية التي أتت من غرفتها تطالعه بتساؤل فقال :
- اهتمي بالصغير .
التفت بعدها يغادر الفيلا كما غادرتها هي متجهة إلى العزبة كي تتحدث إلى علي وتخبره بإنهاء الخطبة ، من المؤكد سيكون وقع الخبر صادمًا ولكن ليس بيدها حيلة
بسم الله ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أنّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُون فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِكَ وكُن مِنَ السَاجِدِينْ واِعْبُد رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينْ .
اللهم إنا نستودعك أهل غزة وكل فلسطين ، اللهم
كن لهم عونا اللهم إنا لا نملك لغزة وفلسطين إلا الدعاء
الفصل التاسع من رواية في رحالها قلبي
بقلم آية العربي
❈-❈-❈
لا تقل أنا أعلم كل الحقيقة ، فالحقيقة المطلقة لا يعلمها إلا من أوحي له .
قادت حتى وصلت إلى العزبة حيث صفت سيارتها بالجوار وترجلت تتجه نحو الداخل لترى علي وتتحدث معه .
طوال طريقها تحاول ترتيب الحديث ولكن الآن كأنها تشعر بتبخر كل ما رتبته .
كان يقف مع عمال المكان يرشدهم على عدة أمور لذا أرادت أن تودع رشيدة بقلبٍ منفطرٍ لذا تحركت نحوها أولًا ولكنه لمحها لذا أشار للعمال ليغادروا ويتجه يرحب بها بملامح متجهمة حيث يعلم أنها آتية من عند سيف .
تنهدت وتوقفت تطالعه بثقب ثم تحدثت وهي تنظر نحو المقاعد المرصوصة على بعدٍ مناسبٍ منهما :
- كنت سأرى رشيدة ، تعالى لنجلس يا علي هناك ما أود إخبارك به .
أومأ بثقب وتحرك معها يجلسان لينتظر حديثها بترقب شاعرًا بشيء من الغموض .
أما هي فتخلت عنها فصاحتها وتعالت وتيرة أنفاسها وهي تحاول بدء الحوار وأخيرًا نطقت بهدوء :
- علي لا أعلم حقًا كيف أقولها ولكن أنا مضطرة للأسف على فعل ذلك ، أنا آسفة .
تهاوى قلبه واستشف ما تود قوله لذا تساءل بترقب وغضبٍ خامد :
- ماذا هناك يا سارة ، لم تعتذري ؟
زادت نبضات قلبها توترًا وخيفة ثم تحدثت بتروٍ ليقينها أنه عقلاني :
- لا أستطيع تكملة الخطبة يا علي أنا أسفة ، صدقني الأمر خارج إرادتي .
أطرق رأسه يبعد نظراته عنها يبحث عن الهدوء كالباحث عن إبرة داخل كومة قش لذا عاد يرفع رأسه ويطالعها بعيون حمراء أخافتها :
- ما السبب ؟
يعلم السبب جيدًا أو هكذا هيأ له عقله لذا زاد توترها وزادت نبضاتها لتجيبه بنبرة متعثرة :
- نـ نوح ، أقصد لا أستطيع الابتعاد عنه ، إن تزوجت بك سيبعده والده عني .
ابتسم باستهزاء وبدأ يجمع خيوط أفكاره الخاطئة ويستنتج استنتاجات غير محسوبة قائلًا :
- والآن ؟
قطبت جبينها بعدم فهم ليتابع بنبرة محتدة أجفلتها :
- والآن بعد أن فسختِ الخطبة هل سيعطيكِ الصغير؟.
أومأت له مرارًا بتوتر دون التفوه حيث شعرت بالخوف ولم ترغب في الإفصاح عن عرض سيف لذا تحدثت بتعثر :
- أرجوك علي لا تصعب الأمور أكثر ، أنت تستحق الأفضل مني ، الخاسر هنا هو أنا صدقني ولكني لا أستطيع الابتعاد عن نوح أبدًا .
استيقظ وحش غضبه الذي ألجمه لأشهرٍ لينتفض ويخطو نحوها منحنيًا نحوها يقول بفزع وجحوظ أرعبها :
- هل تسخرين مني ؟ ، هل ترينني غبيًا أمامكِ ؟ ، كنتِ عنده منذ قليل وكان عندكِ أمس وتأتين الآن تخبريني بفسخ الخطبة ؟ ، هل أعجبكِ ؟
برغم رعبها منه إلا أنها لم تحتمل اتهامه لذا نهضت تزيح المقعد وتبتعد خطوة للخلف حيث كاد أن يلتصق بها وتقول بعيون محذرة قوية :
- إياك يا علي ، إياك وقول أشياءً ستندم عليها ، ثم كيف علمت أنني كنت عند سيف ؟ ، هل تراقبني ؟
تساءلت بشكٍ ليضحك بملامح مخيفة ويومئ موضحًا بعدما سقطت الأقنعة :
- نعم ، أراقبكِ ، أنتِ تماديتي معي كثيرًا يا سارة ، تماديتِ بالقدر الذي يجعلني أريد معاقبتكِ .
هزت رأسها بصدمة تجيبه بعدم استبعاب :
- ماذا ؟ .
امتدت يده تقبض على ذراعها بقوة قائلًا بتجهم وغضب :
- مثلما سمعتِ ، لن تتركيني هكذا بسهولة ، والخطبة لن تفسخ وزواجنا سيتم في موعده .
نفضت يدها بعنف منه حتى أنها تألمت ولكنها لم تبالِ وهي تطالعه شزرًا قائلة :
- أنت تحلم ، يبدو أنني أخطأت في معرفتك .
تحركت تغادر ولكن قبل أن تكمل خطواتها وجدت يده تقبض مجددًا على ساعدها يلفها بعنف إليه ويقول بشرٍ :
- لا تجعليني أريكِ الوجه الآخر لي الذي سعيت لإخفائه .
حاولت نزع يدها منه بصدمة وعيونها امتلأت بالغيوم ليأتي من خلفها صوت سيف يقول بنبرة هادئة وهو يتقدم منهما :
- أترك يدها يا علي .
مال علي يطالعه ليبتسم ساخرًا ثم نفض يدها لتلتفت تطالع سيف بدموعٍ قد سقطت ليبادلها النظرة التي تخبرها ب ( هل صدقتيني الآن؟ ) .
ابتعدت حينما تقدم سيف من علي ووقف أمامه يطالعه شزرًا ثم تحدث دون النظر إليها :
- هيا يا سارة غادري أنتِ وأنا سأتحدث مع علي .
تجمدت مكانها لثوانٍ ليقول علي بحقدٍ بيّن يقطر من نبرته :
- واو ، أرى قصة حب تلوح في الأفق .
ابتسم سيف باستفزاز ثم تحدث وهو يقف بثقة :
- نظرك جيد ، وهناك زواج أيضًا سيتم بعد يومين ، سنتشرف بعدم حضورك .
لم يتمالك علي نفسه إلا وهو يهجم على سيف ليسدد له ضربة تفاداها سيف ليتعثر علي ويسقط أرضًا تحت أنظار سارة الجاحظة والتي لم تعِ سوى على صوت سيف الغاضب وهي يعيد جملته مجددًا :
- قلت لكِ اذهبي وانتظريني خارجًا .
أومأت له وحلت وثاق قدميها وهي ترى علي ينهض ويتقدم من سيف الذي يستعد لمهاجمته بترحابٍ وثأرٍ دام لأشهر .
أما هي فلم تلتفت حيث ركضت للخارج واستقلت سيارتها تقودها وتغادر ، حتى أنها لم تنتظره كما أخبرها .
دام بينهما عراكًا حادًا أنهاه العمال ليفرقاهما ويبعدا علي عن سيف ليتوعد له علي من بين قبضة رجاله قائلًا بتهديد صريحٍ وهو يرفع سبابته :
- سأريك من هو علي يا سيف يا دويري ، أقسم سأجعلك تندم على فعلتك هذه .
نفض سيف كفيه باستفزاز كأنه انتصر ليشرع في فتح ذراعيه ويقول ببرود ثابت :
- سأكون في انتظارك .
تحرك سيف بعدها يغادر المكان بملامح متجهمة حادة ومتوعدة ليتجه يبحث عنها في الخارج ولكنه لم يجدها لذا أومأ مرارًا واتجه يستقل سيارته ويقود متوعدًا ليرى أين ذهبت تلك العنيدة سليطة اللسان صاحبة أجمل عيون سوداء رآها .
❈-❈-❈
صعدت شقتها بجسدٍ مرتعشٍ تبكي على ما حدث ، اتجهت تجلس على أقرب مقعدٍ وأزاحت نقابها تضعه جانبًا ثم وضعت رأسها بين راحتيها تفكر هل سيصبح لها ذنبًاج في ما وصل إليه علي ؟
ماذا إن عاد للمخدرات بسببها ، ما رأته منذ قليل لم يكن هو نفسه علي الذي تعرفه أبدًا ، كان شخصًا آخرًا تمامًا .
هل تسببت في ظهور هذه الشخصية ؟ ، ضميرها يؤنبها على ما فعلته به ولكن ليس بيدها شيءٍ لتفعله ، ليتها رفضت من البداية ، ليتها لم تقابله يومًا .
تحاول التماس العذر له فيما فعله وتلقي باللوم على شخصٍ واحد فقط وهو سيف .
عادت تهاجمها كلمات علي حينما شكك بأخلاقها واتهمها بعلاقة بينها وبين سيف ، تذكرت عيناه وقبضته ليتحول حزنها على حاله إلى غضبٍ منه وتردد لتقنع نفسها :
- لا ، أنا لم أخطئ في حقه ، يبدو أن هذه شخصيته الحقيقية وأنا التي لم أكن أعرفها .
تنفست بقوة ثم نظرت حولها تلاحظ عدم وجود والدتها في المنزل
نهضت تناديها بصوتٍ واهن واحتياج قائلة :
- أمي ، أين أنتِ ؟ .
لم يأتِها ردًا لذلك أيقنت أن سعاد ذهبت للتسوق لذا عادت ترتد على المقعد وتفكر مجددًا في أمر علي ولكن طرأ على عقلها حضور سيف إليها ، كيف علم مكانها وكيف ظهر في الوقت المناسب ؟ ، أخبرها أنه لا يثق في علي فهل كان محقًا ؟.
ابتسمت ساخرة وتحدثت بهمس مؤلم :
- وأنت محل الثقة جميعها يا سيف يا دويري ، يبدو أن صنفكم كله متشابهًا .
زفرت بعبث ثم نهضت لتبدل ثيابها وتصلي ولكن طرقات على الباب أوقفتها لتشعر بأنه الطارق لذا انحنت تلتقط نقابها وتعاود عقده حول رأسها ثم أنزلته على وجهها وتحركت تنظر لهيئتها في المرآة قبل تنظر من العين السحرية وما إن رأته حتى مدت يدها تفتح الباب لتجده أمامها يطالعها شزرًا ويقتحم المنزل دون مقدمات حتى أنها لم تستطع مواكبة حركاته أو إيقافه ليتحدث بنبرة حادة :
- أولم أقل لكِ انتظريني ، لِم غادرتي ؟
تطلعت على ملامحه المبعثرة وتأكدت أنه تعارك مع علي لتشعر بالضيق وتجيبه بثباتٍ ظاهري وهي تتكتف :
- ولِم أنتظرك ؟ ، ولِم أطيعك ؟ ، لا تظن أنّ بزواجي منك سيصبح لديك سلطة علي ، إنك مخطئٌ .
تقدم منها خطوتين فتوترت ولكنها تدعي الثبات الذي تظهر عيناها عكسه لذا حدق بها وتحدث متسائلًا :
- هل وثقتِ بكلامي؟ ، هل رأيتِ الوجه الحقيقي لذاك الخطيب ؟ .
أومأت تردف بشفاهٍ مزمومة وهي على وشك الانهيار :
- نعم رأيت ، رأيت أنه لا يمكن الوثوق في صنفكم أبدًا ، والآن مع السلامة فأمي ليست هنا .
توترت نظرته ووقف لثوانٍ قبل أن يقرر الرحيل خشيةً عليها من القيل والقال فهو لم يكن يعلم بعدم وجود سعاد .
تحرك نحو الباب ولكنه تذكر شيئًا ما لذا التفت يطالعها وهي تواليه ظهرها حينما شعرت بالبكاء ليردف بنبرة لا تقبل نقاشًا :
- أبلغي الحاجة سعاد أن كتب الكتاب سيتم بعد يومين وستنتقلان أنتِ وهي للعيش معي في الفيلا .
التفتت تطالعه بصدمة فابتسم يغادر وتركها تقف مغتاظة من تحكمه الذي تعلم جيدًا كيف تروضه ، عن أي إقامة يتحدث ؟ هل يظن أنه بات ولي أمرهما ؟ ، هه إنه يحلم ، صبرًا علي يا ابن الدويري .
❈-❈-❈
انقضى اليومين واتهجت سارة مع والدتها إلى فيلا سيف .
لقد ظنت أن والدتها لن تقبل بهذا العرض أبدًا ولكنها صدمتها حينما وافقت على المكوث هنا معهما وبجوار الصغير ، لقد باتت والدتها تتصرف مؤخرًا بطريقة لم تعهدها ولم تفهمها .
جلست سارة تحمل الصغير على ساقيها وتلاعبه بشرود في ركنٍ في هذا الغرفة مع سعاد التي تجاورها وعلى الطرف المقابل يجلس الرجال .
طلبت سعاد من جارها الحاج محمد النعماني ليأتي ويكون هو وكيل ابنتها سارة ولبى هذا الرجل الطيب الدعوة على الفور وها هو يجلس بجوار المأذون والشهود وسيف .
عُقد القران بهدوءٍ تام ووجوه الجميع هادئة لا يبدو عليها أي معالم للفرح .
ليلتفت المأذون للعروس قائلًا بنبرة هادئة :
- مبروك يا ابنتي .
أومأت له دون أن ترفع نظرها وتحدثت بهمس :
- شكرًا لك .
بارك لها أيضًا الحاج محمد وغادر حزينًا على حالتها فهو يعلم الظروف التي أودت بها إلى هذا الحال بينما غادر الشهود والمأذون ونهضت سعاد عن عمدٍ تحمل الصغير من ابنتها وتتحرك به للخارج لتعطي لهما فرصة الحديث .
كان يجلس بصمتٍ ينتظر هذه اللحظة ، يحدق بها وهي مطرقة رأسها بصمتٍ مماثلٍ لصمته .
لا يعلم ما هذه المشاعر التي هجمت عليه ولكنه أراد رؤيتها وتضاعفت رغبته كثيرًا الآن لينهض ويخطو بخطواتٍ مدروسة نحوها وهي كانت غارقة في دوامة أفكارها لذا لم تشعر به حينما جلس أمامها يتابعها بهدوء ليسمع هدهدة خافتة تخرج منها ويعلم أنها تبكي .
خانته يده التي امتدت لترفع وجهها فأجفلت تطالعه بصدمة تحولت إلى نظرة عدائية غاضبة بعينين سوداويتين ممتلئتين بالدموع .
أسرته نظرتها عن قرب وبرغم أن الوقت لم يتجاوز الثانيتين إلا أنه شعر به قد توقف وامتدت يده الأخرى لترفع نقابها ليرضي رغبته اللحوحة ولكن قبل أن يصل إليه كانت تقبض على يده تمنعها من الوصول إليها وتنفض وجهها مبتعدة عنه ثم نهضت تتحرك خطوتين وتطالعه بغضبٍ من أسفل نقابها وتردف بنبرة حزينة منكسرة وحادة في آنٍ واحد :
- إياك أن تفعلها مجددًا ، وإياك أن تنسى أن هذا العقد ما هو إلا ورقة وقعنا عليها من أجل نوح ، لا شيء آخر بيني وبينك ولن يكون .
تحركت تغادر على الفور نحو الخارج وتركته يجلس يطالع أثرها بغضبٍ وضيقٍ وضجر ، يحاول استيعاب صدمتها ويحاول التماس العذر لها ولكنها أحبطت لهفته ورغبته في رؤيتها وعليه أن يدعي الثبات واللا مبالاة وألا يظهر ما يشعر به ، بالأساس ما يشعر به هو مجرد فضول لا أكثر ولا أقل وما إن يراها من المؤكد سينتهي فضوله هذا .
مر اليوم دون جديدٍ يُذكر حيث غادر سيف إلى عمله وانشغلت هي مع الصغير ووالدتها التي حاولت التحدث إليها عن سيف ولكنها كانت صارمة في هذا الأمر بطريقة جعلت سعاد تأجل أي حديث الآن .
❈-❈-❈
يومان آخران مرا على الجميع في الفيلا .
تتعمد تجاهله وتتعمد المكوث في غرفتها التي أعدها لها مصطحبة معها الصغير بتملك ولا تخرج إلا بعدما تتأكد من مغادرته الفيلا .
لم يبدِ أي ضيقٍ من تصرفاتها أو ينزعج ولكن هذا ظاهريًا فقط ، هو يريد أن يذهب إليها ويعلمها كيف تتعامل معه ولكنه اعتاد الثبات والتحلي بالصبر .
دلفت والدتها الغرفة تطالعها بضيق فلم تعد تحتمل تصرفات ابنتها الهوجاء التي لم تكن هوجاء يومًا لذا تحدثت بدون مقدمات بنبرة مندفعة :
- كفى يا سارة ، كفى ما تفعلينه خاطئًا ، بسبب أفعالك تلك اضطر الرجل لترحيل المربية ، لمَ تتصرفين هكذا ؟ ، هل ستظلين طوال عمرك تعامليه كالغرباء ؟ ، هذا زوجكِ يا بنتي .
- أمي لا تبدئي أرجوكِ أنا لا أريد نقاشًا في هذا الأمر .
- بلا أمي بلا يحزنون ، أنتِ لم تُبقِ فيها أم ؟ ، الرجل إلى الآن لم يرَ وجهكِ حتى .
قالتها سعاد بانفعال لتزفر سارة بضيق وتطالعها بتعجب قاطبة جبينها ثم تساءلت بتجهم :
- هل اشتكى لكِ يا أمي ؟ ، أنا سعيدة هكذا وهو كذلك لمَ أنتِ غاضبة ؟
- غاضبة لأن ما تفعلينه لا يجوز شرعًا ، سيغضب عليك الله .
جحظت سارة تطالعها بصدمة ثم شردت تفكر بخوف لتقول بعدها في محاولة منها لإقناع عقلها :
- حاشا لله يا أمي ، لمَ تقولين هذا ، أنتِ تعلمين جيدًا أسس وشروط هذا الزواج ، هو ليس زواجًا حقيقيًا أبدًا .
جلست سعاد أمامها تطالعها وتحدثت بلومٍ صريح :
- أنتِ يا سارة ؟ ، أنتِ التي تقولين هذا ؟ ، حسنًا أين كلامكِ عن الشرع وأنه لا يوجد زواجًا مشروطًا وإلا فهو باطل ؟ ، الزواج زواج يا ابنتي وبمَ أنكِ قبلتِ بسيف زوجًا لك فعلى الأقل تعاملي معه كأنه صديق ، لن تخسري شيئًا فقط كصديق لتمر الأيام بينكما بخير وحتى لا يتأثر نوح بعلاقتكما ، دعيه يراكِ ويعتاد على وجودكِ هنا ليكبر الصغير بين أسرة حقيقية وإلا فالزواج هذا ليس له داعٍ أبدًا ، تقولين أنكِ وافقتي من أجل نوح ولكن إن استمريتي على هذا الحال فصدقيني أنتِ هكذا تؤذين الصغير أولًا ونفسكِ ثانيًا .
أنهت سعاد حديثها ونهضت لتلتفت ترى الصغير الذي يتمسك بالعضاضة يقضمها لتعود تنظر نحو ابنتها التي شتتتها كلمات والدتها وتقول قبل أن تغادر :
- فكري جيدًا في كلامي يا سارة ، تصرفي حسب إحساسكِ واتركي الخوف جانبًا ، الخوف عدو الإنسان يا ابنتي .
تركتها وغادرت ، تركتها تفكر وتعيد الحديث على عقلها وكأن والدتها وضعتها أمام المرآة التي كانت تتجنبها لتواجه مشاعرها .
نعم هي خائفة ، تخشى رؤيته ، تتجنبه ، تتجنب الحديث معه ، تخفي وجهها عنه ، كل هذا هو في الحقيقة خوف ، خوف من الانجراف خلف مشاعر لن تتقبلها أبدًا ، لقد كان سيف زوج شقيقتها وحبيبها وأصبح الآن والد نوح وسيظل كذلك دومًا ، لن تضعه في مكانة أخرى أبدًا ، لن تفعل كما قالت والدتها وتعتبره صديقًا فالصداقة أحيانًا تتحول إلى .... حب .
❈-❈-❈
في اليوم التالي سافر سيف خارج البلاد في رحلة عمل .
سفرًا مفاجئًا ولكنه اضطر لذلك تاركًا نوح بأمان مع السيدة سعاد ومع تلك التي تتعامل معه كأنه شفافًا لا يُرى .
حسنًا ليصبح شفافًا إذا وليبتعد بحق .
أما هي فتحركت بأريحية في الفيلا منذ أن غادر ، كانت ترفع نقابها فقط داخل حدود غرفتها ولكن الآن ترفعه في الأماكن الخالية من كاميرات المراقبة كالمطبخ وغرفة المعيشة والصالة وباقي الغرف عدا غرفة المكتب وغرفة نوح وكل شبرٍ في الحديقة .
باتت سعاد تُظهر استياءها منها ولكن سارة تستطيع بمرحها كالسابق أن تلين قلب سعادة كما تطلق عليها .
وها هي بعد يومين تعود لعملها حيث نقلت أغراضها هنا في مطبخ الفيلا وعادت لترى متابعيها الذين افتقدوها كثيرًا وأرسلوا لها أكثر من ألفي رسالة .
جاءت سعاد إليها وهي تقف في المطبخ تبدأ في تجهيز أغراضها لتصنع الشكولاتة بينما تحدثت سعاد متسائلة :
- أين ذهبت نورا ؟ .
تحدثت سارة وهي تجمع الأشياء أمامها :
- في الأعلى يا أمي تنظف الغرف ، هل نام نوح ؟
أومأت سعاد واتجهت تجلس أمامها قائلة بتنهيدة مجهدة :
- نعم لقد نام للتو ، لا يوجد أخبار عن سيف ؟
هزت رأسها بلا دون النظر لوالدتها التي اغتاظت وتحدثت بتجهم :
- ولمَ لا تهاتفيه وتطمئني عليه؟ ، أنتِ ستتسببين لي في سكتة قلبية .
أسرعت ترفع نظرها وتطالع سعاد بنظرة عتاب مردفة بلهفة :
- أبعد الشر عنكِ يا أمي سلامة قلبكِ ، حقًا أحزنتيني .
- أنتِ من تحزنيني يا سارة ، ليتكِ تريحين قلبي .
زفرت سارة بضيق يعتليها لتنهض سعاد من أمامها وتغادر المطبخ وتتركها تشعر بثقل في صدرها وضغطٍ بات يلازمها من حديث والدتها المُلِح .
زفرت بقوة تستدعي التروي ثم بدأت تحضر القوالب المطاطية لتصب بها خليط الشوكولاتة علّ عقلها ينشغل عن التفكير .
بعد عدة دقائق استمعت لخطواتٍ تأتي من الخارج لتتوقف خلفها مباشرةً لذا التفتت تحمل ملعقة ممتلئة بخليط الشوكولاتة التي أعدتها وتبتسم قائلة بتباهي :
- افتحي فمكِ يا نوــــــــــــ.
جحظت عيناها وبقى فمها معلقًا على حرف النون المضموم وكأنها ستقبل أحدهم بينما الملعقة وجدت طريقها إلى فم هذا الواقف يحدق بها بصدمة وبرغم أن فمه تلطخ بالشوكولاتة الشهية إلا أنه لم يجد أشهى من ملامحها .
عينان سوداوان كالليل وأنفٍ مستقيمٍ رأسه شامخًا وشفتين مضمومتين تطالبان بتقبيلهما فهل يلبي .
هل هذه هي ؟ ، هل هي سارة التي قيل أنها ليست جميلة ؟
إذًا من الجميل بعدها ؟ ، هل هذه سارة التي توبخه وتقف له بالمرصاد ؟ إذا لما الآن بريئة تشبه الفراشات ، هل هذه سارة نفسها التي اشترطت ألا يكون هذا الزواج حقيقيًا ؟ إذا لماذا تضم شفتيها هكذا وكأنها تطالبه بقبلة عودته من السفر ؟
لم يستوعب هذا الحسن كله والذي سقط على قلبه كمشغل موسيقى صاخب جعله يتراقص فرحًا .
منذ يومين وهو مشغول في التفكير بها ولم يهدأ لذا عاد حينما انتهى عمله ليتحدث معها وليضعا النقاط على حروف علاقتهما ، كان سيجبرها أن تتخلى عن نقابها أمامه بذريعة أن هذا يضر بطفله ولكن الآن بات يريد العكس ، يريد تخبأتها من عينيه فرؤيتها هكذا دون الاقتراب منها عذاب .
ظلا كليهما على هذا الوضع لثوانٍ مرت على قلب سيف بتمهل قبل أن تتوتر سارة كليًا وتبعد الملعقة عن فمه وتهتز يمينًا ويسارًا تحاول الابتعاد ولملمة نفسها ولكنه أسرع يتمسك بيدها التي تحمل الملعقة ويعاود رفعها إلى فمه متناولًا كل محتواها من الشوكولاتا بعيون معلقة عليها يتذوقها باستمتاع تام وهي متجمدة تطالعه بعيون متسعة وقلبٍ يكاد يتوقف من فرط حركته ليردف بنبرة تحمل شيئًا من الانتشاء والرضا :
- لم أكن أعلم أنها بهذا الجمال كله ... أقصد الشوكولاتة .
تركها مجبرًا وتحرك بهدوء يبتعد برغم أنه كان يود لو لم يبتعد أبدًا ولكنه رحم قلبها الذي شعر بصخبه ولم يبالِ بقلبه الذي يئن .
بينما هي وقفت تحاول تجميع شتات نفسها عبثًا ، فكل ما بها يرتعش وها هو ما خافت منه يحدث ، ولكن لا لن تسمح بحدوثه أبدًا .
🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹
ادخلوا بسرعه حملوه وخلوه علي موبيلاتكم من هنا 👇👇👇
وكمان اروع الروايات هنا 👇
انضموا معنا على تليجرام ليصلكم اشعار بالروايات فور نزولها من هنااااااااا
🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺