رواية أحذر من يطرق باب القلب الفصل الثاني بقلم رضوي جاويش حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج للروايات والمعلومات
رواية أحذر من يطرق باب القلب الفصل الثاني بقلم رضوي جاويش حصريه وجديده على مدونة النجم المتوهج للروايات والمعلومات
٢- المنقذ
صوت نفير العربة الفارهة، الذي تردد عدة مرات، كان كفيلا بدفع البواب الهندي إلى القفز من موضعه، والاندفاع نحو بوابة الفيلا، ليجذب إحدى ضلفتيها الواسعتين، مفسحا المجال للعربة حتى تمر للداخل نحو باب الجراج، الذي فُتح أوتوماتيكيا، ما أن اقتربت السيارة منه، ترجل منها أيوب النورسي، دافعا بمفتاح السيارة نحو البواب، سائرا في تؤدة نحو باب الفيلا الداخلي، ليتوقف للحظة متطلعا نحو هذا الذي ظل ينبح في استماتة لجذب انتباهه، ابتسم أيوب سائرا نحو ذاك الوحش الضخم المتحفز، والذي من المفترض أنه كلب من فصيلة شيبرد، وقد تحول فجأة لحمل وديع، أخذ فالتمسح بأيوب في شوق، يقفز دافعا أقدامه لتطال كتفي صاحبه في محبة، وهو يلهث في عجالة، هازا ذيله الرفيع في حماسة، ربت أيوب على رأس كلبه الضخمة، أمرا في وداعة: يا هلا يا هزاع، اهدا ولينا فسحة سوا.
هدأت حماسة الكلب بالفعل، وكأنما قد وعى مقصد أيوب فقرر البقاء مستكينا، حتى لا يُحرم من الخروج برفقة صاحبه ورفيقه المفضل.
ترك أيوب كلبه الذي جلس القرفصاء في وداعة، مخالفة تماما لمظهره الشرس، واندفع يخطو للداخل، مناديا على مساعده الخاص: يا سعدون، سعدون!
اندفعت نفيسة، مدبرة المنزل متوسطة العمر من الردهة المفضية للمطبخ، هاتفة به في ترحاب: حمدا لله على السلامة، سعدون مرجعش لسه من مصر.
تنهد أيوب متذكرا أن سعدون بالفعل بالقاهرة، حيث يقضي إجازته السنوية مع أولاده، وموعد طائرة العودة ستكون غدا صباحا بالفعل.
هز رأسه متفهما، خالعا كابه الرسمي عن رأسه، تاركا إياه جانبا، لتلحق به نفيسة متسائلة: أحضر لك الغدا يا أيوب بيه!
تطلع أيوب نحو ساعة الحائط القيمة، التي يتأرجح بندولها الذهبي في هوادة، مشيرا نحو الساعة متعجبا : من إمتا بتغدا قبل ميعادي يا دادة نفيسة!
هتفت نفيسة مبررة في سرعة: أصل شيفاك جاي تعبان، قلت اجهز الغدا بدري عن ميعاده، دي نص ساعة مجراش حاجة.
تطلع لها في نظرة معبرة عن تعجبه لمخالفتها عاداته اليومية، وأمرها منهيا الحوار: الغدا يجهز فميعاده بالدقيقة يا دادة، اتفضلي.
هزت رأسها في طاعة، تاركة له المكان لينعم فيه بوحدته، قبل أن يحين موعد الغذاء، إلا أنه تحرك في ثقة نحو غرفة مستقلة بذاتها، في ركن قصي بالفيلا، كان يأتيه منها بشكل شبه دائم، صوت أم كلثوم، تشدو بواحدة من روائعها، والذي يأتيه اللحظة مع تنهيدة شوق:
أهرب من قلبي أروح على فين! ليالينا الحلوة فكل مكان..
طرق الباب في تأدب، منتظرا الإذن بالدخول، وحين لم يحصل على جواب، أصابه القلق، ففتح الباب في بطء حذر، دافعا رأسه متطلعا للداخل في استطلاع، ليطرق الباب من جديد، مع ابتسامة وقورة حلت على محياه، ما أن وعى ذاك العجوز، الذي كان جالسا على كرسيه المدولب، شاردا في كلمات الأغنية، مدركا صوت الطرق أخيرا، مُرحبا بالقادم في حفاوة: أيوب! يا هلا بالغالي، تعال.
تحرك أيوب صوب والده، وانحنى مقبلا ظاهر كفه التي مدها الوالد للتحية، ليستطرد الوالد في وحشة: طولت الغيبة هالمرة!
ابتسم أيوب مؤكدا: تلات أيام ما هي غيبة!
همس الوالد: تلات أيام! ظنتها أكتر والله!
ربت أيوب على ظاهر كف والده، متسائلا في مودة: كيف الحال!
ابتسم الوالد هازا رأسه في لا مبالاة ولم يعقب، وكأنما يخبره أنه ما من جديد هناك، وأخيرا ربت على كتف أيوب في مودة، مشيرا لساعة الحائط، أمرا: قوم يا ولدي، جهز نفسك قبل ميعاد الغدا، قوم.
هز أيوب رأسه في طاعة، وغادر الغرفة في هدوء، متوجها صوب الدرج الذي اعتلاه في هوادة، كأنما يحاول تأجيل أمر ما، لا يرغب في مواجهته، سار الردهة الطويلة نسبيا، حتى توقف أمام حائط زجاجي، تطلع منه نحو طفل في الخامسة من عمره، يجلس في هدوء قاتل بأحد الأركان، كان قد صمم هذا الحائط ليستطيع الاطمئنان على الصغير دون الحاجة لإزعاجه، نظرا لظروفه المرضية، التي تدفع الجميع، للابتعاد عنه طواعية.
ظل متسمرا موضعه لم يتزحزح، يطالع الصبي الذي يقوم بحركات رتيبة، يهز رأسه في إصرار عجيب، ولا يغادر موضعه إلا فيما ندر.
تنهد أيوب في قلة حيلة، متطلعا نحو ساعة يده الثمينة، ليدرك أن ميعاد الغذاء قد حان، تحرك عائدا نحو الطابق السفلي، متطلعا صوب المائدة الضخمة، التي تساع على أقل تقدير، عشرة أفراد، لم يكن عليها إلا بعض الأطباق، منسقة بشكل غاية في الدقة، توجه نحو غرفة والده مجددا، دافعا كرسيه المدولب أمامه، ليضعه على رأس المائدة، بينما أحتل أيوب المقعد الذي على يمينه، ليشرعا في تناول طعامهما، مع دقات الساعة الثالثة تماما، وحيدين كعادتهما.
***************
ليلة كاملة قضتها وحيدة ها هنا داخل صالة الوصول بالمطار، على أمل حضور زوجها المزعوم، لكنه لم يحضر حتى هذه اللحظة، لا تعلم ما الذي يحدث، حاولت أن تلتمس مئات الأعذار، انتهت كلها حتى هذه الساعة، والتي تخطت الثالثة عصرا بتوقيت هذا البلد الغريب، الذي جاءته على أمل بداية جديدة، تحمل لها بعض من السعادة والاستقرار، لكن هيهات، فيبدو أن متطلباتها البسيطة تلك، بعيدة المنال.
دمعت عيناها، وامسكت نفسها عن انجرافها في البكاء، تكبت رغبتها تلك، رغم أن كل ما يجري يدفعها للصراخ قهرا، وليكن ما يكون، فما تواجهه وحيدة منذ وطأت أقدامها أرض المطار، لهو أسوء ما يمكن أن يحدث لعروس، تنتظر البدء في حياة جديدة، تحدوها الأمنيات في دنيا بلا منغصات.
ابتلعت الغصة التي كادت أن تخنقها، وعبأت رئتيها بهواء نقي، حتى لا يتنبه جيرانها في المقاعد المقابلة لما تعاني، لكن ذلك الطفل الشقي، الذي يجول بالمكان في أريحية، لم يدعها لحالها، وكأنه كان ينقصها تلطيخه لفستانها البسيط، ببقايا الزيوت العالقة بأصابع كفه اليسرى، التي يتعمد لمسها لفستانها، مدعيا أنه يشاكسها، بينما تحمل كفه الأخرى هذه الشطيرة الشهية، والتي قرقرت معدتها مزمجرة في قوة، لرائحتها المسيّلة للعاب، مذكرة إياها أنها لم تحصل على طعام منذ أربع وعشرين ساعة، أو يزيد قليلا، إنها تتضور جوعا، وذاك السمج الصغير، لا ينفك يجيء ويروح قربها، دون أن يشاطرها حتى ولو بقضمة من شطيرته الشهية، لتسد بها رمقها، فلا مال تملك، لكانت ابتاعت ما يكفيها من طعام، ولا جوال يحمل رصيدا لأي اتصال، قد يخرجها من حالتها المعلقة تلك ما بين الواقع وكابوس سخيف، لا رغبة لها في تصديقه، وها قد اكتمل الأمر حين انفصل الهاتف تماما عن العمل.
تضرعت داخلها من أجل الخلاص من مأذقها، منبوذة بلا صاحب أو سند في هذه البلاد البعيدة، لا قدرة لديها على العودة أدراجها، ولا تعلم لزوجها موضعا أو عنوانا، كيف فاتتها معرفة مثل هذه التفاصيل! لقد اعتمدت عليه بشكل كلي، اورثها ذاك الوضع الحرج، فلو كانت تعرف له عنوانا حتى، لكانت قد استقلت أي سيارة أجرة لتصل إليه، مخلصة نفسها من هذا الموقف الذي لا تحسد عليه البته.
جاءت استجابة دعواتها سريعا، عندما اندفع الطفل ملبيا نداء والدته، التي كانت تستقبل شخص ما، عائدا لتوه من الخارج، ما دفع الطفل لترك الشطيرة بالقرب من سلمى، مندفعا نحو الوافد الجديد في سعادة، وأخيرا هرول الجميع لخارج صالة الوصول، والطفل محمولا على كتفي أحدهم، مشيرا إليها مودعا في مودة، ما دفعها لتناول بقايا الشطيرة المتروكة جانبا في لهفة، شارعة في التهامها بنهم حقيقي، حتى أتت عليها في لحظات، تنهدت في راحة وقد اسكتت بعض من اعتراضات معدتها الثائرة، ملقية بكيس الشطيرة الورقي في سلة المهملات جوارها، جاذبة زجاجة المياه التي كانت بحوزتها، تعب بعضها، تنبهت إلى صوت أذان العشاء القادم من جوال أحدهم، فنهضت في اتجاه الحمام أولا، ثم عادت أدراجها صوب تلك المصلى التي اكتشفت وجودها في ركن ما، عندما سألت إحدى العاملات عن مكان مخصص للصلاة، فدلتها عليها.
دخلت المصلى بقلب وجل، يحدوها الأمل لانفراج الغمة، وانتهاء أزمتها، والخروج من هذه الصالة التي بدأت تضيق بها، لعالم رحب، تأمل فيه بعض من راحة ودعة.
أنهت صلاتها، وجلست بعض الوقت للدعاء، وقررت المبيت في المصلى، لكن جال بخاطرها، أن زوجها قد يأتي في أي وقت، ولا يجدها في قاعة الوصول، فنهضت في اتجاه مقعدها المنزوي نوعا ما، والذي لحسن الحظ لم يشغله أحدهم، لتحتله مخرجة الرواية التي كانت تقرأها،
لتعاود القراءة فيها، والتي لولا وجودها، ما عرفت، كيف كانت ستقضي كل تلك الساعات المنصرمة، دون أن تصاب بالجنون!
فتحتها، لتقع عيناها حيث توقفت عن متابعة القراءة، لتقرأ في صوت مرتعش: "أدركت أن الدرب لن يكون مستقيما على الدوام، فلا طريق كهذا يأخذك إلى وجهة ترغبها إلا طريق يفضي للهاوية، كان عليها أن تعي، أن الطريق لابد له من بعض الانحرافات، التي قد لا نرغبها في كثير من الأحايين، لكن ذاك الانحراف هو عين الاستقامة، وهو المؤدي لما كانت ترغب فيه منذ زمن بعيد، ورسم القدر كل هذه المسارات، حتى تصل لما تستحق أخيرا."
أنهت قراءة المقطع، واعتبرته إشارة ما، لا تعرف لها مدلولا حتى هذه اللحظة، لكنها شعرت بالراحة على كل حال، وكان هذا يكفيها وزيادة.
***************
جلس خلف مكتبه ينتظر شاي الساعة الخامسة، مادا كفه نحو صندوق قيم من الأبنوس، فتحه مخرجا غليونه واضعا به بعض التبغ، وبدأ في تدخينه في استمتاع تام، مستغرقا في اللاشيء، يتابع الدخان الذي ينفثه بعيدا، كأنما يتابع حدثا فائق الأهمية بكل تركيز وشغف، ظل على حاله، حتى انتهى، فافرغ الغليون من رماده، في مطفأة كريستالية بالقرب من فتاحة الأظرف الماهوجنية اللون، الموضوعة بصدر المكتب، مخلصا إياه من بقايا الرماد العالقة، معيدا إياه لصندوقه الأبنوسي من جديد، لتطرق دادة نفسية الباب، عند تمام الخامسة، واضعة صينية الشاي على طاولة صغيرة، بالقرب من المدفأة، منسحبة في هدوء للخارج، لينهض أيوب نحو مشغل الأغاني الموضوع بركن خفي، داخل أحد الأركان بقلب مكتبة الكتب الضخمة، التي تحتل ثلاثة حوائط من الغرفة المتوسطة الاتساع، متناولا جهاز التحكم عن بعد، ورواية من أحد الرفوف، سائرا صوب كرسيه الجلدي الثمين، متمددا عليه في أريحية، ضاغطا زر التحكم عن بعد، لتصدح الموسيقى الكلاسيكية بجو الغرفة، وهو يحمل فنجال شايه، يرتشف منه في انسجام تام مع النغمات الشجية، وقد شرع في فتح أولى صفحات روايته.
**********
تطلع صبحي لشاشة الجوال في تعجب، إنها المرة الثالثة على التوالي التي يدق فيها على هاتف مجدي زوج سلمى بلا رد، ما الذي يحدث بالضبط!.. أليس من المفترض، ومن باب الذوق، أن يتصل زوجها ليخبره عن وصولها سالمة لداره!
زفر في ضيق، وهي يدفع عنه الهاتف بعيدا، ما دفع خيرية لتهتف في حنق: حصل إيه لكل ده! ما خلاص راحت لجوزها وارتحنا، كل ده عشان متصلش يطمنك إنها وصلت!
وغيرت نبرة صوتها في دهاء، هامسة في غنج مصطنع: إيه يا سيدي! عريس وفرحان بعروسته، ومش فاضين لا لك ولا لحد، عادي يعني، تلاقيهم غرقانين فالعسل.
وامسكت بكفه في دلال، جاذبة إياه من موضعه، لينهض سائرا خلفها بلا حول ولا قوة، وهي تدفعه لداخل حجرتهما، لتدخل خلفه مؤكدة: سبهم بقى على راحتهم، مترنش عليهم تاني لحسن جوزها يزعل، وخلينا إحنا كمان على راحتنا بقى بعد ما فضي علينا البيت.
وأغلقت خلفها باب الحجرة، وارتفعت ضحكاتها في نشوة، فقد انزاح عن كاهلها أخيرا، ذاك الثقل المدعو سلامات، والذي كان جاثما على صدرها منذ دخلت هذا البيت.
*************
كان يمسك بتلابيب ردائها، لا رغبة لديه في تركها ترحل، يتشبث بها في استماتة، راغبا في بقائها إلى جواره، فهي الوحيدة التي استطاعت كسر عزلته، بكت وهي تحاول نزع نفسها بعيدا عنه، وهو يناديها بحرقة مكررا اسمها في أحرف متقطعة، مزقت نياط قلبها، لتبتعد هي مغادرة للأبد، وصوته المتحشرج، يهتف باسمها في رجاء لتعود.
انتفضت من نومها، مدركة أنه ذاك الحلم الذي تكرر مرارا، لطفل كان من ضمن بعض الحالات التي كانت مشرفة عليها بمركز التأهيل الذي كانت تعمل به، وانهت تعاقدها قبيل المجيء إلى هنا، تطلعت نحوها لبرهة، مدركة أن الساعة قد تجاوزت السادسة صباحا بقليل، ما دفعها لتعاود أغلاق عينيها، مسندة رأسها على ذاك العمود الرخامي الذي تجاوره، مدعية الاستغراق في النوم، وقد سالت دموعها في صمت، بعدما فقدت الأمل تماما في حدوث أي جديد.
دخل أيوب لصالة الوصول، كان قد جاء في موعد وصول طائرة سعدون بالضبط، متجها ناحية أحد المقاعد المتطرفة، في انتظار خروجه، لا رغبة لديه في مقابلة أي من زملائه العاملين بالمطار، فقد جاء لغرض استقبال سعدون فقط، سعدون الذي يعتبره أبيه الروحي وكاتم أسراره، وناصحه إذا ما لزم الأمر، فعلاقته بسعدون تمتد لسنوات بعيدة، حينما كان طفلا وسعدون شابا يافعا، يكبره بحوالي خمسة عشرة عاما، جعلته أقرب لأخ أكبر.
جلس أيوب على المقعد المقابل لذاك العمود المستتر عن الناس بعض الشيء، ليفاجأ بوجودها، كانت غارقة في نعاس مضطرب، يبدو أنه يحمل بعض من الأحلام المزعجة، هي السبب في دموعها التي سالت على خديها، والتي لم تجف بعد.
حاد بناظريه عنها، لكنها تململت في جلستها، ما دفع ذاك الكتاب الذي تحتضن، إلى الوقوع عن حجرها أرضا، بلا وعي منه انحنى في تأدب يلتقط الكتاب، وفي أثناء نهوضه من انحنائه، كانت هي قد استيقظت منتفضة، وانحنت بدورها في سرعة تلتقط كتابها، ليحدث الاصطدام الحتمي.
ساد الصمت لبرهة، وكل منهما قد استقام بالفعل، متطلعا نحو الأخر في حنق، كانت سلمى تملس جبينها المتوجع، وكان هو يمسد مؤخرة رأسه، مادا كفه في نزق نحوها، يسلمها كتابها، لتمد له يدا مرتبكة، كادت أن تسقط الكتاب من جديد.
تركت سلمى الكتاب جانبا، فوقعت عينى أيوب على الغلاف البراق، ليدرك أنها نفس الرواية التي ألقى بها جانبا البارحة، هل هي هنا بالمطار منذ البارحة! أم أنها مجرد مصادفة جعلتها تحمل نفس الرواية!..
هو على يقين أن طاقم النظافة يعمل بجد كبير في إفراغ سلال المهملات كل عدة ساعات، لكن جلستها وتلك الدموع، تؤكد أنها وجدت الرواية بالفعل منذ البارحة.
لم يعتذر أي منهما للآخر، ولا حتى شكره، ما جعله يتجاهل وجودها، متطلعا نحو ساعة يده، يتوقع خروج سعدون بأية لحظة، رفع ناظريه نحو باب الخروج لبرهة، لكن لا مسافرين هناك، فعاد بنظره نحو تلك التي مدت يدها، تعدل من حقيبة سفرها، شاعرة بالتوتر من ذاك الذي اخترق عزلتها من حيث لا تحتسب، قررت أن تتجاهله بدورها، مقلدة إياه، واضعة إحدى قدميها على الأخرى في عنجهية، لكنها تنبهت لبقع الزيت التي ظهرت على ردائها، وأثر كف الصبي مطبوعة يظهر منها ثلاث أصابع كاملة، ما دفعها لتنزل قدمها، في محاولة لإخفاء البقع الزيتية عن أعين ذاك الذي بدأ في التطلع نحوها مجددا في نظرة فضولية اثارت اضطرابها، لا تعلم أن ناظره وقع على كتاب أخر كان يجاور رواية الأمس المنبوذة، قرأ عنوان الكتاب في تمعن، وعلى الرغم أنه ليس من عاداته الحديث مع أي من كان، إلا أنه وجد نفسه يسألها مستفسرا: حضرتك بتقري نوعية الكتب دي، نوع من الثقافة، ولا دراسة!
هتفت في سعادة: حضرتك مصري!
ابتسم وهز رأسه مؤكدا على سؤال ما كان بحاجة لتأكيد، مجيبا: تقدري تعتبريني كده!
ما دفعها لتهتف في سعادة: أخيرا، ده أنا كنت قربت أنسى الكلام.
أشار لكتابها، مذكرا إياها بسؤاله، ما جعلها تتنبه لكتابها الذي يجاورها، وهتفت مؤكدة: ده كتاب في مجال دراستي، أنا معايا ماجستير في تخصصي، معاملة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة.
اعتدل في جلسته، وانزل ساقه اليمني، التي كان يضعها فوق ساقه اليسرى في كبر، وقد بدا مهتما، على عكس حالته منذ دقائق خلت، متسائلا من جديد: وحضرتك هنا، عشان شغل، صح!
همت بالإجابة، تقص عليه كل التفاصيل، لكنها توقفت هاتفة: أه، كنت جاية عشان اشتغل بمؤهلي، لكن لحد دلوقتي مندوب الشغل موصلش.
لا تعرف ما الذي دفعها لتختلق هذه الكذبة، هي ليست كذبة خالصة على كل حال، فهي كانت ستعمل بشهادتها بالفعل، وهذا ما اتفقت عليه مع زوجها، أن يوفر لها فرصة عمل بمؤهلها، وهو أكد أن ذلك كان في نيته بالفعل، وعملها جاهز وفي انتظارها.
هتف أيوب متسائلا: مندوب الشغل،، قصدك الكفيل!
أكدت سلمى: لا مفيش كفيل، أنا جاية بفيزا سياحة تلات شهور، لحد ما انظم أموري.
هز أيوب رأسه متفهما، مادا كفه معرفا: كابتن أيوب النورسي.
مدت كفها معرفة نفسها بدورها: سلمى عبدالسلام.
هتف أيوب متسائلا: عندك مانع يا آنسة سلمى.. آنسة مش كده!
هزت رأسها بالإيجاب، لا تدرك ما الذي يدفعها للتمادي في الكذبة وعدم اخباره الحقيقة..
ليستطرد مؤكدا: آنسة أفضل طبعا، بعيد عن التزامات الزواج.
للمرة الاولى تكذب، وتكون سعيدة بكذبتها، فقد يتراجع عن مساعدتها وتقديم عرضه المنقذ لها، إذا ما علم بحكايتها.
تنبهت لسؤاله: عندك مانع تشتغلي عندي! وبالراتب اللي تحدديه، طالما إن أصحاب الشغل اللي أنتِ منتظراهم مجوش!
هتفت متعجبة: عند حضرتك فين! هو أنت عندك مركز خاص بالحالات الخاصة!
أكد وهو يهز رأسه مجيبا: مش بالظبط، بس هحتاج خبرتك وخدماتك، تقبلي!
هزت رأسها بدورها مجيبة في حماس: أقبل أكيد.
أمرها في نبرة مهادنة: طب ممكن اشوف الباسبور وأوراق حضرتك!
ترددت للحظة، ضامة حقيبتها لصدرها، متسائلة في اضطراب: ليه!
ابتسم في سخرية، مؤكدا: حضرتك هاتشتغلي عندي، طبيعي يكون معايا الباسبور بتاعك، وبياناتك كلها.
هزت رأسها متفهمة، وأخرجت جواز سفرها من قعر حقيبة يدها، مناولة إياه ليده التي استلمته، متطلعة نحو خانة البيانات، هاتفا في تعجب: سلامات!
هتفت سلمى بأريحية: الله يسلمك من كل شر.
تطلع نحوها في غيط، وأشار نحو الأوراق متسائلا في حنق: أنا مش برحب بيكي على فكرة، أنا بسألك على اللي فالورق، ده اسمك! سلامات!
أكدت سلمى متنهدة، من كثرة ما سألها الكل هذا السؤال: ايوه اسمي سلامات.. سلامات سلامة عبدالسلام السلاموني، وسلمى ده للتسهيل.
هتف وابتسامة ساخرة مرسومة على جانب فمه، مكررا اسمها منغما: سلامات سلامة عبدالسلام السلاموني!
هتفت مؤكدة في حماس: أه، أصل الموضوع له حكاية، أمي الله يرحمها عملت حادثة وهي رايحة تولدني، قام بابا ربنا يرحمه بقى، سماني سلامات، عشان جت سليمة، مع إني فالآخر اتولدت فالتاكسي.
هتف ساخرا: ما شاء الله، درجة عليا من الابداع واستغلال المواقف، فبدل ما تبقى سلمى واحدة بقت سلامات، مفيش ابهار بعد كده!
قهقهت لرد فعله على اسمها، هاتفة: ده سلو عيلتنا، ده أنا محكتلكش على اسم بنت خالي، ده...
هتف يقاطعها أمرا في نزق، وهو يتطلع لباقي البيانات: كفاية.
هتفت متعجبة: عرفت إزاي!
تطلع نحوها في دهشة: عرفت إيه!
هتفت سلمى تسأله: عرفت إزاي إن اسم بنت خالي كفاية!
هتف متعجبا: هو اسمها كده فعلا!
هتفت في حماس من جديد: ايوه، أصل الحكاية، إن خالي خلف أربع بنات، وكان نفسه فولد، راحت مراته جابت البت الخامسة، راح مسميها كفاية، خلاص بقى الراجل استكفى.
انفجرت ضاحكة من جديد، بعد انتهائها من سرد قصتها، ما جعله يتطلع نحوها في حيرة من أمر هذه المرأة، التي لا يدرك حتى هذه اللحظة، سبب واحد جعله يقدم على فعلته تلك، وتقديم يد العون لها، والتي يستشعر أنه سيندم عليها قريبا جدا.
دفع لها جواز السفر، معيدا إياه، ونهض في عجالة، ما جعلها تعتقد أنه صرف نظر عن تعيينها بعد كل هذه الاريحية التي تحدثت بها، لكنها اطمأنت عندما وجدته يسير في خطوات رزينة نحو أحدهم، ملقيا التحية في ود مستحدث على ذاك الرجل، الذي تستوطن الصرامة ملامح وجهه.
عاد لها متسائلا: جهزتي نفسك!
نهضت تعدل من هندامها في عجالة، دافعة بكل ما لديها لقلب حقيبتها، فأشار لها لتتبعه، وكذا صديقه الذي كان يكبره سنا، والذي تطلع نحوها مستغربا لبرهة.
تعجب سعدون، وهو يحيد بناظره عن سلمى، موجها حديثه لأيوب، هامسا في تساؤل: مش كفاية عليك لعب دور المنقذ لحد كده!
ظهرت ابتسامة خفيفة على جانب فم أيوب، هامسا بدوره: منقذ! هي مرة، وكان لها مبررها سعدون.
ابتسم سعدون، متسائلا: ويا ترى في مبررات للمرة دي كمان!
هز أيوب رأسه مؤكدا، ولم يعقب بحرف، وهو يسلم سعدون مفتاح السيارة، حين غادروا جميعا صالة الوصول، لتتنشق سلمى أخيرا، أولى نسائم هذه البلاد، عيونها تجول بكل موضع، كطفل فضولي دخل محل ألعاب للمرة الأولى بحياته، سائرة خلفهما جاذبة حقيبتها ورائها، تخطو إلى مجهول، لا تدرك على ماذا قد ينتهي!
***************
تابعووووني للروايات الكامله والحصريه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق