رواية أحفاد الجارحي (ترويض الشرس)الجزء الخامس الفصل الاول والتاني والتالت بقلم آيه محمد رفعت
الفصل_الأول..
(إهداء الفصل للصديقة الغالية / نهى إسماعيل، أرجو من الله أن يغفر لوالدك ويرحمه ويسكنه فسيح جناته، وددت أن أوفي بوعدي بأن يكون اهداء أول فصول الجارحي مستغلة ذلك ليترحم القراء على والدك أسأل الله أن يتقبله قبولًا حسنًا وأن يصبر قلبك عزيزتي ❤..)
![]() |
_ياسين.
واستدار بوجهه للاتجاه الاخر وهو يرفع من صوته المنزعج:
_رائــد.
فتح كلًا منهما عينيه بانزعاجٍ، فتراجع "ياسين" بجسده بعيدًا عن الطاولةٍ التي ضمها طوال الليل، وخرج صوته الناعس شبه مسموع:
_هي الساعة كام دلوقتي؟
حل أحمد جرفاته عن رقبته بضيقٍ، ثم حل ازرر قميصه الأسود ورفع أكمامه وهو يتفحص ساعته الفضية:
_تسعة!
نهض "رائد" باستياءٍ شديدٍ:
_يا خبر احنا نمنا هنا ولا أيه؟!
اتجهت نظرات "ياسين" الحارقة لتحيط به، أيمتلك الجرءة ليعترض على الوقت الذي كان هو السبب به، فدنا منه والأخير يتراجع بارتباكٍ للخلف وخاصة حينما رفع إصبعه وهو يحذره بعنفٍ:
_لو لمحتك قدامي النهاردة هزعلك... سامعني؟
رمش بعينيه مطولًا وهو يردف بحيرةٍ:
_طب وسهرة بليل؟
كز على أسنانه بغيظٍ:
_حاول تبعد عني النهاردة يا رائد أحسنلك..
تساءل ببراءةٍ مصطنعة:
_ليه بس أنا عملتك أيه؟!
اتجهت نظرات "ياسين" تجاه " أحمد " وكأنه يشهده على وقاحة ابن عمه، وعاد ليتطلع إليه مجددًا ثم صاح بانفعالٍ:
_كل يوم نرجع من المقر نص الليل نلاقي واحد فيكم مستنينا بمصيبة والمفروض اننا نحل بلاويه قبل الصبح عشان عدي ميقطعش رقبته، أما احنا بقا محدش بيفكر فينا ده أنا بقالي يومين مشوفتش مراتي وابني يا ظالمة!
تعصبه الشديد الذي لا يليق بشخصه الهادئ كان بمثابة انذار بخطرٍ عظيم، فجذب "رائد" ، "أحمد" ليكون قبالته، فقال بإرهاقٍ سكن باحمرار عينيه التي لم تذق نومًا هنيئًا منذ اللحظة التي تولى بها "عدي" ادارة المقر:
_خلاص يا ياسين، اطلع غير هدومك عشان منتأخرش.
جذبته كلماته الأخيرة عما كان يعتريه، فالتفت تجاهه وهو يتساءل بجديةٍ:
_نتأخر على أيه!
تغاضى عن نسيانه لحدثٍ هامٍ هكذا رغم أن ذلك يخالف مكنونات شخصه المثالي، فما يمر به كلاهما يصعب على العقل البشري تحمله:
_أنت ناسي أن النهاردة هنروح مع عدي نراجع على المكينات اللي وصلت في شحنة الصين ولا أيه!
ضم مقدمة أنفه بيده وهو يجاهد بالتحكم بأعصابه التي تدفعه لاقتاد ثورة ستفتك بابناء عمه لا محالة، فشيعه بنظرةٍ مشتعلة قبل أن ينحني ليجذب جاكيت بذلته الرمادي، ثم حمل حاسوبه وتوجه للداخل بصمتٍ زرع القلق في نفس " رائد " الذي أشار لمن يقف جواره بتوترٍ:
_شايف بيبصلي ازاي يا أحمد؟
نفث عما بداخله وهو يردد بمللٍ:
_فكك من شغل الأطفال ده يا رائد.
وجذب جاكيته هو الأخر، ثم ربت على كتفيه وهو يحثه بابتسامةٍ هادئة:
_هطلع أغير هدومي أنا كمان، وأنت اقعد كمل الملف وأنا هخلي حد من الخدم يعملك قهوتك عشان تشتغل بمزاج.
غمز له بابتسامةٍ ماكرة:
_أحبك وأنت فاهمني.
اكتفى بانحناءة رأسه وكأنه يتبعه بطريق مزحه المؤقت قبل أن ينهمك كلًا منهما بعمله الشاق، فتركه "أحمد" واتجه للداخل، بينما جذب "رائد" حاسوبه ثم أخذ ينقل البيانات الهامة للملف بتركيزٍ، خشية من أن يتم نقل معلومة خاطئة قد تجني على ثماره الذي جناها بالكد والتعب..
********
تسلل بحذرٍ لغرفته، والابتسامة الفاترة لا تغادر شفتيه منذ أن رأى الأنوار تضيئها وكأنها هي الوحيدة التي تواجه اشراقة شمس هذا الصباح، فاقترب من الفراش بخطواتٍ حذرة فجلس لجوارها وهو يتأملها بنظراتٍ التهمتها الرغبة وجموح المشاعر الدافئة التي يخبأها لها، فابتسم رغمًا عنه وهو يراها تقبض على ريموت الضوء الإلكتروني بين راسغها، فمال عليها "ياسين" ثم حرر الريموت من بين أصابعها ليغلق الضوء الذي تلجأ له زوجته بغيابه، يعلم جيدًا بأنها لا تخشى الظلام بدونه فقط، بل تخشى هفوة رقيق قد تلمسها وهو ليس بجوارها، يعلم بأنه مصدر قوتها وسكينة الطمأنينة، ويحب أن يرى تعلقها الشديد به حتى وإن عنادته وفشلت أن تبدي له ذلك، فبالنهاية تحمل نفس العصب الذي يجري بعروق أخيها الشرس وأبيها الذي بدى يقلق حيال أمرهما.
أغلق "ياسين" الضوء ثم خلع قميصه عنه وهو يسرع للخزانة ينقي ما يناسبه حتى يستعد على الوقت المطلوب، فجذب أحد الحلى الرسمية الآنيقة، ثم وضعها على الأريكة المجاورة له، وأسرع لحمام غرفته عل حمام دافئ ينعشه قليلًا، وحينما انتهى ارتدى الحلى ووقف يصفف شعره القصير بعنايةٍ، ثم جذب البرفنيوم الخاص به ليضعه على قميصه مستهدفًا رقبته.
ألقى على ذاته نظرة أخيرة قبل أن يتجه ليغادر غرفته، فتوقف محله حينما وجدها تجلس على الفراش، تحدجه بشراسةٍ ويدها مربعة أمام صدرها وشفتيها تتدلل بطفوليةٍ عابسة، كبح شبح ابتسامة كادت بالظهور على شفتيه، وتساءل بجدية اتيعت صوته الرخيم:
_مليكة.. أنتِ صحيتي أمته؟
أتاه ردها المغتاظ لبروده:
_من وقت ما حضرتك اتسحبت وطفيت عليا النور.. قال يعني خايف عليا وعايزني أنام بعمق مش عشان تعرف تهرب!
ضحك رغمًا عنه، فدنا حتى بات قريبًا منها، وقال بحنان نبرته الدافئة:
_أنا عارف إنك مش بتحبي تنامي في الضلمة بس الشمس منورة الدنيا.
أبعدت الغطاء عنها، ونهضت عن الفراش لتكن قبالته مثلما ارادت أن تتبع تلك المعركة التي قادتها صباحًا:
_وأنت يفرق معاك ليل من نهار، أنت حياتك بقت كلها برة القصر وبعيد عني أنا وابنك.
ضم شفتيه معًا بقوةٍ كادت بقطعهما، فلم يكن بذاك الماكر الذي سيحارب وهو يؤكد لها بأنه لم يخطئ، بلى يعلم بأنها أول من يقصر معها ويشعر بالحرج حيال ذلك، غلب توقعاتها حينما ظنت بأنه سيحارب اتهاماتها، ولكنها وجدته يدنو حتى صار قريبًا يقطع المسافة بينهما، فجذبها إليه بيده واليد الأخرى تبعد خصلات شعرها البني عن جمال عينيها الذي اشتاق لتأملهما، تأهبت عينيها لتموج بين شواطئ خاصته، فتدفقت دقاتها تباعًا حينما ضم وجهها بين كفه:
_أنا عارف يا حبيبتي أني مقصر معاكم، وحاولت إمبارح إرجع بدري عن معادي عشان نخرج أنا وانتِ في مكان خاص بينا بس للأسف رجعت لقيت رائد مستنيني وكان محتاج مساعدتي في حاجة.. أنتي عارفة اني مقدرش أتاخر عنه ولا عن أي حد.. لكن لو عليا فأنا عايز أفضل عمري كله معاكِ.. أنا بحس طول ما أنا بعيد عنك اني في غربة ولازم تعرفي أد أيه بكون متعذب عشان أرجع وأشوفك قدامي.. الكام ساعة دول بيخطفوا مني كل حاجة... ابتسامتي.. روحي.. قلبي.. بيخطفوا عمري كله.
واسند جبهته لجبهتها وهو يهمس بعشقٍ:
_ أنتِ ملكتي قلبي ومبقاش ملكي يا مليكة!
ارتعش جسدها الذي أعلن التمرد عليها من شدة قربه وكلماته الخبيرة في السيطرة على أحاسيسها ومشاعرها، فلم تستطيع الاعتراض على دفعة عشقه الذي قدمها إليها، سمحت له بأن يخترق خصوصياتها تباعًا، حتى ملكها قلبًا وقالبًا فلم يبالي لكونه متاخرًا، شعر وبتلك اللحظة بأنه يود أن يذهب العمل والشركات والمقر للجحيم، طرد عناء مهماته الثقيلة خلف شرارة عشقه وجموح رغباته التي ذابت أخر حصون عشقهما المؤجل!
*******
الصباح لا يحلو الا بمزيج رائحة القهوة والشاي الممزوج بالحليب الدسم، لإرضاء أذواق الجميع على المائدة التي تجمعهم، حرصت "دينا" و"ملك"على تنظيم الطاولة استعدادًا لموعد تناول الفطور بالساعة العاشرةصباحا، فسبقن بالتجهيزات قبلها بنصف ساعة، فوقفت كلًا منهن تشرفن على الطعام الذي يتقدم على الطاولة، وما يتم تجهيزه بداخل المطبخ، كان "أحمد" بطريقه لغرفته حتى يبدل ملابسه سريعًا، فانتبه لصوت "ملك" المتلهف لندائه:
_أحمد.
توقف عن صعوده الدرج، وعاد ليقف مقابلها وهو يتساءل باهتمامٍ:
_حضرتك ندهتيني.
أومأت برأسها وهي تسأله بقلقٍ:
_فين ياسين وليه مرجعتوش امبارح مع الشباب؟
رد عليها بابتسامةٍ لم تفارق وجهها البشوش:
_لا رجعنا بعدهم بساعة، بس كنا بره بالحديقة بنخلص شوية شغل.
منحته ابتسامة رقيقة وهي تخبره:
_طيب يا حبيبي.. اطلع غير هدومك وانزل عشان تفطر معانا.
أومأ برأسه بخفةٍ وهو يتجه للأعلى بعدما أخبر أحد الخدم بتقدم القهوة لمدمنها الذي يترقب لحظة وصولها بالخارج، وحينما صعد للدرج وجد من يتابعه من الأعلى وهو يرتب جرفاته بانزعاجٍ أمام المرآة الموضوعة على جانبي الدرج العلوي، فما أن صعد تجاهه حتى قال ساخرًا:
_يا مراحب بابو جميد.. راجع وش الصبح كده ولا همك حد!
ألقى جاكيته وهو يجيبه بتأففٍ:
_مش فايقلك على الصبح يا جاسم.
منحه نظرة متفحصة قبل أن يشير له بشفقةٍ:
_روح خدلك شاور كده وحصلني تحت في حاجة عملها أخوك المغفل ولازم تعرفها.
اعتصر وجهه بقبضة يده وهو يتساءل بحدةٍ:
_عمل أيه سي زفت!!
بابتسامةٍ واسعة قال:
_غير وحصلني.
وكاد بالهبوط للأسفل ولكنه توقف حينما جذبه أحمد وهو يردد باستهزاءٍ:
_استنى بس.. أنا تقريبًا عشان منمتش كويس بيتهيألي إنك نازل بدري على غير عادتك..
أبعد يده عن جاكيته، وعدله بحرصٍ على الا يتلفه، ثم قال بهدوءٍ مضحك:
_لا أنا بس مليت من دوشة الواد وأمه.. كلوا دماغي على الصبح يا عم.
كبت احمد ضحكاته بصعوبةٍ وهو يتابع من يقترب منهما ويتلصص على مسمع الأخير، وإذ فجأة وجد ابنه الصغير موضوع بين يديه وصوت حاد يتلقفه كالصفعات التي علت رقبته مرة واحدة:
_بقى كده.. طيب يا جاسم أنا هوريك.. اتفضل ابنك اهو شوف بقى مين اللي هيربهولك أنا مجتلكش بعيال يا حبيبي.
استدار بالطفل الذي لم يكف عن استهداف وجهه ورقبته بأظافره متعمدًا غرسها بلحم وجهه،فصاح بألمٍ:
_آآه....لا يا داليا متسبنيش مع المتوحش ده أنا آسف.
وركض خلفها وهو يناديها بهلعٍ، ويبعد عنه الصغير وكأنه يحمل قنبلة مؤقتة:
_استني بس يا حبيبتي... ده أنا كنت بهزر وعهد الله بحبك ومقدرش أستغنى عنك.
وأسرع خلفها للأسفل بينما استكمل أحمد طريقه وشفتيه لم تكف عن الضحك حتى أحمر وجهه.
******
_رحمـــــة.
ارتعبت فور سماعها لصوت المتعصب، فحمدت الله مرتين أنها الآن بغرفة أبنائها والا كانت تواجه غضبه الذي لا تعلم سببه إلى الآن، وحينما استمعت لصوت ينادي مجددًا تركت الباب الفاصل بين الغرفتين بينما تتصنت عليه وأسرعت لفراش ابنتها، فركت أصابعها وهي تخبرها بإرتباكٍ:
_حبيبتي بابا بيناديكِ مش بتردي ليه؟
رفعت الصغيرة عينيها عن دفترها الصغير لتجيبها بضيقٍ رغم الابتسامة التي ترسمها، وكأنها مجبورة على رسم الود:
_يا مامي كل مرة حضرتك بتقوليلي كده ولما بروحله مش بلاقيه عايزني أنا.
ثم تساءلت ببراءةٍ:
_أنتي خايفة تروحي؟
اخفت خوفها خلف نظراتها الحانقة:
_هخاف ليه يعني!!
ثم تركتها واتجهت بكل ثقة زائفة تجاه الباب الفاصل بين الغرفتين وفجأة على الصوت بعصبيةٍ سيئة:
_رحمــــــــــــة!
تلاشت كل ذرة شجاعة تحلت بها، فهرعت الى فراش ابنها الذي يوزع نظراته بينها وبين حاسوبه بهدوءٍ مميت، بينما تراقب هي باب الغرفة بخوفٍ وترقب، فحانت منها التفاتة جانبية إليه وحينما وجدته يتجاهل ما يحدث معها، فقالت بانفعالٍ:
_ولا على بالك اللي بيحصل... أنا مش عارفة انا عملت ذنب أيه في حياتي عشان ربنا يبعتلي نسخة من باباك وأنا من الأساس بعاني معاه عشان أقدر أفهمه!!
ترك "ياسين" الصغير حاسوبه وكتبه جانبًا ثم دنا ليجلس على حافة الفراش وهو يعاتبها باستنكارٍ:
_محدش بيقول اني شبهه غيرك يا أمي.. مع أني مش شايف فينا شيء مشترك، هو مش قادر يشوف نفسه غير الوحش قولًا ولقبًا.. حقيقي أنا مش عارف حضرتك بتتعاملي معاه ازاي.. لا وبتشبهيني بيه في وجود عظمة البيت ده.. أكيد اني هفرح لو قولتيلي شبه جدك مثلًا لكن بابا معتقدش ده شيء يفرحني!
جحظت عينيها في دهشةٍ لحواره المرتب الذي اعتادت منه عليه ولكنه كل مرة يثير اعجابها، فقالت بتوترٍ:
_طب ما تروح أنت تشوفه عايز أيه وتيجي!
بثباتٍ مخالف لابتسامة مكره:
_مبنتفقش مع بعض أنا وهو.. الأفضل أن حضرتك تروحي وتشوفيه محتاجك ليه.. خصوصًا اني بتبع تعليمات ياسين باشا وبحاول أكون مسالم معاه.
بصدمة تساءلت:
_مسالم معاه! ... أنت هتقتل أبوك يا ياسين!!!!
ضحك بصوته كله وهو يجيبها:
_قتل أيه بس.. زوجك المحترم اللي داخل حرب كبيرة مع الباشا واللي يدخل معاه حرب كأنه بيتعرضلي انا.
ابتلعت ريقها بصعوبةٍ بالغة:
_أنت عندك كام سنة يا حبيبي.. أنا ساعات بخاف منك والله.
عاد لمقعده مجددًا، ثم جذب جاسوبه وهو يتابع دراسته مشيرًا لها:
_روحي بس شوفيه عايز أيه.. لأن التأخير مش في مصلحتك هيتعصب عليكي أكتر.. ومتخافيش أنا هنا لو سمعتك بتستغيثي هجيلك فورًا وكلها أربع أيام والباشا هيرجع هو وتيتا من رحلة اليخت والدنيا هترجع زي الأول.
لم تستغرب لحديثه الذي يعد متشابهًا لرجلًا ناضجًا عكس تؤامه وابنتها "رحمة" تعيش طفولتها بكل ما تحمله معنى الكلمة، تركته ولم تعلق حتى على جملته الأخيرة فهي تعلم بأنه على تواصل مستمر ب"ياسين الجارحي"، الشيء الذي لا يصدق أنه أقرب إليه من زوجها ذاته!
*******
قاومت رعشة يدها عدة مرات قبل أن تحرر مقبض الباب، وبالنهاية أصبحت بداخل غرفتها تبحث عنه بعينين ترتجف كحال جسدها، فانحنت تبحث عنه بالغرفة الهادئة من ثورته الغاضبة، استقامت بوقفتها وبدأت تلتقط أنفاسها براحةٍ حينما لم تجده، ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهها وهي تهمس:
_الحمد لله نزل.
واستدارت لتغادر غرفتها هي الأخرى، فارتطمت بشيءٍ صلب جعل أذنيها تلتمس خفقات قلبه من أسفل رأسها، ابتعدت"رحمة" للخلف بفزعٍ، فوجدته يقف قبالتها بمنشفةٍ تحيط به، ومنشفة أخرى تتدلى حول رقبته على صدره العاري، ناهيك عن نظرات عينيه التي كادت بافتراسها حيةٍ، ابتلعت ريقها برعبٍ وهي تحاول الحديث:
_آآآ... آ..
اختصر ما يتدفق بداخله من مشاعرٍ متضاربة وهو يسألها بجموح:
_أنا ناديتك كام مرة؟
لعقت شفتيها بتوترٍ:
_هو أنت نادتني!
صاح بعنفوانٍ:
_رحمة.
أغلقت عينيها وهي تعترف بما اخفته ببلاهةٍ:
_أربع مرات.. بس صوتك نفسه رعبني وخوفني اني اجيلك.
ارتخت تعابيره برضا عن اعترفاتها الكاملة، أبعد المنشفة عن رقبته ثم اقترب منها فتراجعت للخلف قليلًا وهي تتساءل في خوفٍ:
_في أيه يا عدي؟!
رفع يده ثم جذب قبعة البيجامة التي ترتديها ودفعها بقوةٍ لداخل غرفة خزانته الخاصة، فجحظت عينيها في صدمةٍ حينما رأتها في حالة من الفوضي، وربما لأنها تذكرت ما حدث منذ ساعتين بالتحديد وكونها تعلم عاقبة ما ستنال ازداد خوفها أضعافًا، فهمست بصوتها الخافت:
_مش أنا لأ... أنا بطلت ألبس الجواكت بتاعتك من زمان.. صدقني مقربتش من حاجتك.
ضيق عينيه وهو ينهرها بحدةٍ:
_حذرتك أكتر من مرة أن محدش يقرب لشيء يخصني لا أنتي ولا حد من الأولاد حصل ولا محصلش؟
هزت رأسها بتأكيدٍ:
_حصل وأنا شاهدة.
أشار بيده بتعصبٍ:
_لا مهو واضح!
ثم واجهها ببنية عينيه الحالكة:
_ودلوقتي هتقوليلي الحقيقة ولا أعرفها بطريقتي.
التقطت نفسًا مطولًا قبل أن تجيبه بصوتٍ منخفض للغاية:
_أنت عارف اننا هنخرج كلنا بليل، فكنت بحاول أنقيلك حاجة شيك تخرج بيها بليل وفي نفس الوقت تليق على الفستان اللي هلبسه.
تقوس حاجبيه بحدةٍ جعلتها تزدرد حلقها الجاف بصعوبة، فما أن جذبها من تلباب ملابسها حتى أسرعت لتنجو من براثينه:
_عندك قميص اسود تحفه طالع من عيني.. كنت هلبسه النهاردة وفوقيه الجاكت الجملي بتاعي اللي لسه شرياه النهاردة بس للاسف بقالي ساعتين بدور عليه وملقتوش.
احتضن فكيه بين يده بقوةٍ كادت بكسره، فاقترب منها وكعادتها تراجعت حتى التصقت بالخزانة وأصبحت مقيدة من الاتجاهات الأربعة، انحنى برأسه تجاهها وردد من بين اصطكاك أسنانه:
_قوليلي أعمل فيكِ أيه عشان تخافي مني وتبطلي تقربي لحاجتي الشخصية!!
قالت وعينيها مازالت أرضًا تخشى لقائه فتزيدها ربكة:
_خلاص خلاص مش هأخد منك حاجة تاني.. أساسًا ذوقك مش بيعجبني.
رفع وجهها مقابله وأصابعه ملفوفة حول رقبتها، تعمقت بالتطلع بعينيه الغاضبة فوجدت ذاتها تغفو عما يصيبها من قلق وخوف حيال خناقتهما التافهة كل صباح، رفعت أصابعه لتحيط بيده التي تفرض قوتها عليها، لمستها الرقيقة بمثابة همس طائر الكروان لجوار أذن الصِّل، فإن احتجزت مشاعرها بمنزله تاه هو بموطنها وآُسر بين عينيها الفاتنة، وزع نظراته الساحرة بين عينيها تارة وبين شفتيها المرتبكة في حضرته، كأنها تحارب لنطق شيئًا لم يسعفها، دنا منها وقد ترك قلبه يلبي نداء صامت يعلم سبيله إلى مسكنها وبؤرة حبهما العتيق، دقات قلبه تتواثب كلما تشعر باقتراب دقاتها، وكأنه يبحث عن ملاذه وتميمة هذا العشق، دقائق مرت عليهما وكأنهم ثوانٍ معدودة، مازال يريد اطفاء شعلة الحب المشتعلة بداخله وقبل أن يتعمق بقربه منها استمع لصوت دقات باب الغرفة الصاخب، على ما يبدو بأن الطارق يحمل مصير الكون الآخير، ابتعد عنها عدي وهو يهمس من بين أنفاسه المتسارعة:
_مين اللي بيخبط بالشكل ده؟
وجذب الحلى الذي انتقاها ثم ارتداها على عجلة من أمره، وخرج ليفتح باب غرفته، فتفاجأ بابنه يقف مقابله، وعينيه تتخلل الغرفة من خلفه وكأنه يبحث عن شيئًا ما، فأتاه صوته الشرس يتساءل:
_في حد يخبط على حد بالطريقة الهمجية دي!
انتقلت نظراته لوالدته حينما طلت من الخلف تشير له بيدها بحذر دون أن يرأها زوجها بأنها على ما يرام، فسحب الصغير نظراته بثباتٍ عجيب ثم قال وعينيه أرضًا:
_أنا خبطت أكتر من مرة وحضرتك مسمعتنيش عشان كده خبطت جامد.. بعتذر لأني ازعجت حضرتك.
وكاد بالمغادرة فاوقفه قائلًا:
_كنت عايز حاجة؟
استدار تجاهه وهو يجيبه بابتسامةٍ صغيرة:
_كنت بحسب رحمة مع ماما.. بس شكلها تحت.
أشار له بخبث:
_طب استنى عايزك..
وخرج "عدي" من غرفته ثم أغلقها خلفه وهو يشير لابنه بالاقتراب، حك أرنبة أنفه بتوترٍ لهيبته التي لم ترضخ لرغباته قط، فقال باسلوبٍ ظنه ماكر أمام حفيد "ياسين الجارحي":
_حبيبي أنت متعرفش جدو أخد تيتا فين بالظبط، أكيد إنه بيتصل بيك وقالك هما راحوا فين.. مش كده ولا أيه يا بطل!
ضيق الصغير بنية عينيه وهو يحدجه بثباتٍ عجيب اتبع قوله الأدهى مكرًا:
_آه هو فعلًا قالي إنهم طلعوا رحلة باليخت.. وأكيد انهم في عرض البحر لكن مكانهم جدو نفسه صعب يحدده وسط المية وحضرتك عارف كده!
دمى شفتيه بين أسنانه وهو يحاول التحكم بغيظه من ابنه الذي يصفو جوار أبيه عوضًا عن مساعدته، فقال بضيقٍ:
_روح يا خليفة جدك كمل دراستك.
منحه ابتسامة اتبعت سؤالًا زاد من غيظه:
_بجد حضرتك شايفني خليفة لياسين الجارحي!!
انتصب بوقفته وهو يشير له بحدةٍ:
_على أوضتك.
هز رأسه بخبثٍ:
_زي ما تحب.
وغادر والابتسامة تتسع على محياه رويدًا رويدًا، عاد"عدي" لغرفته، فاتجه للمرآة دون أن ينبس بكلمة واحدة، مرر يده بين خصلات شعره ليمنحها مظهرها عشوائي بعض الشيء، ثم عقد جرفاته بانتظام بعدما تردد بارتدائها، ولكن اليوم هامًا للغاية لذا كان عليه أن يتألق بملابسه الآنيقة، عكست المرآة من أمامه نظرات الإعجاب المرسلة من خلفها، وحينما أمسك بها تتطالعه خلسة قالت بارتباكٍ وكأنها تخلق أي حديث بينهما:
_كنت عايز ياسين في أيه؟
تعمد التطلع لها مطولًا بنظرة أربكتها، وخاصة حينما قال:
_أنا فخور بذكائك أنتِ وابنك.
قطبت جبينها باستفهامٍ، فجذب حقيبته ثم وضع بداخلها حاسوبه وهاتفه الخاص وقبل أن يخرج من الباب المنصاع ليده قال:
_ابنك بيطمن عليكِ مني..متصور اني ممكن أرفع ايدي عليكِ!!!
ومنحها نظرة عدوانية مشتعلة وقولًا مشكك:
_يا هو اللي بيبالغ بتخيلاته يا أنتِ اللي بتخوفيه مني!
دنت منه خطوتين وهي تردد:
_لا آآ...
انقطعت كلماتها حينما صفق الباب بقوةٍ من خلفه، فابتلعت باقي جملتها ببسمةٍ اتسعت وهي تتخيل موقفها الاحمق منذ الصباح حتى تلك اللحظة.
*********
مررت يدها على بطنها المنتفخ بعاطفة وحب يتغلل بأوصالها، تتمنى بأن يقترب موعد ولادتها لتقر عينيها بصغيرها، تقضي أغلب وقتها بالحديث المنفرد معه، وكأن العالم انعزل بهما، ولجوارها كانت تغفو ابنتها الصغيرة، متكأة برأسها على ساقيها، فمررت "نور" يدها على بطنها تارة، وتارة تلامس شعر ابنتها الذهبي، اتسعت ابتسامتها حينما بدأت الصغيرة بفتح عينيها، فضمتها لصدرها وهي تهمس لها:
_صباح الفل يا روح قلبي.. كده تقضي الوقت ده كله بالنوم وأنا عايزة أنزل ومش هاين عليا اسيبك لوحدك.
ونهضت عن الفراش ثم جذبتها لتشير لها بابتسامةٍ واسعة:
_يلا نأخد شاور محترم وننزل بسرعة ننضم للحزب.
وحملتها بين ذراعيها ثم هرعت بها لحمام الغرفة دون أن تعي بصحبة من بالداخل، وضعت "نور" الصغيرة على حوض المياه الخشبي ثم فتحت الصنوبر وأخذت تلامس المياه، وحينما تأكدت من حصولها على دفءٍ بسيط أخذت تخلع ملابس الصغيرة التي تبتسم وهي تتطلع لمن يشير لها من خلف الستار الزجاجي الذي يعزل الدوش عن باقي الحمام، فأخبرتها بمرحٍ:
_تغير بسيط مش هقدر أقف عشان تاخدي الدوش على الواقف ببطني دي، فنمشيها بالحوض وأهو الحوض صغنون ويدوب يسيعك.
وحملت الصغيرة ثم وضعتها بالحوض الذي تحول لبانيو صغير مثالي لجسد الصغيرة، فوضعتها "نور" وأخذت تجذب المياه على جسدها الصغير، وفجأة انقطعت ابتسامتها وتحولت لدموعٍ تدفقت على وجنتها وكأن للمياه ذكرى سيئة للغاية معها، ارتعشت اصابعها التي تلامس جسد الرضيعة، حينما تعلقت بأصبعها مثلما كانت تفعل فلذة كبدها، جذب "عمر" ملابسه المعلقة ثم ارتداءها وهو يغمز لابنته التي تتلهف لرؤياه، وترفع ذراعها عدة مرات عله يحملها بين ذراعيه، انتهى من ارتداء قميصه وهو يتابعها بدهشةٍ لعدم شعورها به، فاقترب منها خلسة ثم مال على رقبتها وضمها لتتراجع للخلف، ظن بأنها ستفزع وستبدأ بنوبة مشاكستها اليومية، ولكنه تفاجأ بدموعها المنسدلة ببطءٍ، تراجعت نور للخلف بخوفٍ ، وكأنه كمشها تفعل جريمة شنيعة،فكادت الصغيرة بالسقوط من يدها لولا أن أمسك "عمر" بحلا بين يديه، ارتخت تعابيرها وهي تتطلع لابنتها التي لا يتعد عمرها عامًا واحد،فوجدتها آمنة بين يده ومازالت نظراته قلقه تطاردها الى أن سألها بخوفٍ:
_فيكِ أيه يا نور؟!
تلعثمت وهي تشير له بالنفي:
_لا... لا مفيش حاجة.
وتركت الصغيرة إليه ثم هرولت لخارج غرفتها باكية، حزينة، فبات هو بصحبتها، لا يعرف ماذا ينبغي عليه فعله، ولكنه حاول أن يتعامل معها قدر المستطاع، فانتقى لها فستانًا بني صغير، وحذاء بنفس لونه، وما أن انتهى حتى صفف خصلات شعرها الصغيرة، فصفر باعجاب شديد:
_شوفتي لما بابي اللي أشرف على الأوت فيت بتاعك طلعتي شبه الملكات ازاي.. عشان تعرفي اني عبقري طالات.. لا وهطقم معاكِ.. ثواني.
وجذب جاكيت باللون البني الداكن، ثم ارتدائه وهو يشير لها ببسمة جعلت الصغيرة تبتسم:
_ها أيه رأيك..
همست بعدة كلمات متقطعة مازال عمر يجهل كنايتها... فابتسم رغم ان عينيه مازالت تبكي، عادت كلمة اعتاد سماعها على ذكراه
«أنا أحلى منك يا بابي!»
لمعت عينيه بالدمع رغمًا عنه، فكاد جسده بالتمايل ولكنه بقى صامدًا، قويًا، مازال حتى تلك اللحظة يعافر ويصمد لاجلها ولاجل ابنته الصغيرة، يعلم بأنه لا وجع بهذا الكون يضاهي وجع فقدان الابن، وهو فقد ابنته.. أول ابنة حملها بين ذراعيه، يعلم بأن رقيقته الهاشة مازالت تحارب للتخلص من ذكريات "حلا" ، ابنته الأولى والتي توفاها الله حينما كانت بالسادسة من العمر، وحينما رزقه الله بابنة مجددًا أصر أن يمنحها نفس الأسم مجددًا، وكلما شعر بأن قواه ستنهار حصونها صبر ذاته بأن الله عز وجل يحبه هو وزوجته لذا أراد أن يختبرهما باختبارٍ عظيمٍ، وإن اختبر نبي الله وأعظم خلق الله "محمد" صلى الله عليه وسلم ألن يكن من المنصف أن يختبر المؤمنين في قوة ايمانهم وقوة تحملهم وصبرهم على البلاء، بلى كان "عمر" صابرًا على قضاء الله ولم يكن بالضعيف.
أبعد عنه تلك الدمعات ورسم الابتسامة لابنته الصغيرة التي حملها بين ذراعيه، وخرج بها ليتجه بالأسفل، فصعق حينما وجد "خالد" الصغير يهرول مسرعًا، وكلما حاول الابتعاد عن القاعة الخارجية سقط أرضًا ونهض مجددًا وهو يردد بطفوليةٍ:
_جدو هيقتل بابا... جدو هيقتل بابا..
لم يستوعب عمر جملته الا حينما وجد "حازم" يهرول وهو يصرخ بصوتٍ مزعج للغاية:
_والله عيب بعد العمر ده يا حــااااج مبقناش صغيرين...
ومن خلفه يهرول "حمزة" حاملًا لسلاحٍ عتيق، يعود لزمن التسعينات، مازال يحتفظ به بغرفته، والأبشع من ذلك انه كان يصوب بعشوائية وهو يهدده بانفعالٍ:
_والله لاقتلك يا كلب..
ركض حازم تجاه ابنه فارتطم كلا منهما بالاخر، فحمله حازم بكره وردد ساخطًا وهو يكاد يخنقه:
_انت اللي بلغت عني يا قصير يابو عين مدورة.... انت طلعتلي منين يا أخي من يوم ما شوفت خلقتك والمصايب نازلة ترف فوق قفايا.
صرخ حازم حينما تفادى طلقة كادت باختراق كتفيه، فحمل ابنه كشوال البطاطا وركض خلف الاريكة ومن خلفه حمزة الذي يصيح به بتهديد صريح:
_سيب حفيدي بدل ما أخلص عليك..
رفع حازم يد ابنه من خلف الاريكة وكأنه يلوح برأية بيضاء تستهدف السلام وسط حربًا غارمة وهو يهتف بتريث:
_يعني عايز تشرد حفيدك من بعدي يرضيك يا حاج!..
وحينما لم يستمع للطلق الناري نهض بالصغير الذي يكبت انفاسه بين يديه:
_ متخليش الواد ده يدمر العلاقة الطيبة اللي بينا... ده احنا ملناش الا بعض.
تدخل عمر على الفور وهو يمد ابنته لرحمة التي كادت بأن تلحق بعدي، فحاول التقاط السلاح منه وهو يشير له بضحكة فشل باخفائها:
_والله يا عمي أنا مش بدافع عن الحيوان ده ان كان عليا كنت قولتلك اتكل على الله وخلص عليه بس حرام الطفل خالد البريء.
وهمس بانزعاجٍ:
_استغفر الله ربنا يسامحنا على الكدب ده..
وعلت نبرته مجددًا:
_الولد مالوش ذنب يدفع تمن اخطاء ابوه.. رصاصة طايشة كده ولا كده تجي في الولد..
مال حمزة بالبندقية على الأريكة وكأنه يعقل حديثه جيدًا وقال بعد نقاش طويل:
_معاك حق يا ابني...
ابتسم عمر براحة كبيرة تلاشت حينما وجد حمزة يقدم له السلاح وهو يشير بها:
_خلاص انت نظرك هيبقى اقوى مني... استهدف المغفل اللي هيجبلي سكتة قلبية ده وسيب الولد اهو ينفعني لما اكبر وأشيب وملقاش دار مسنين تعجبني..
رفع عمر حاجبيه باستهزاء:
_انت هتخرج من مسلسلات العمر الضائع دي أمته يا عمي!! .. دار مسنين ايه اللي هتروحها!
أشار له بجدية تامة:
_انا مبثقش في الحيوان ده اول ما هيجيني دور تعب شديد حبتين هياخد اللي حيلتي وهيرميني في أي دار مسنين..
دنا منه حازم ثم قال بابتسامة واسعة:
_عيب يا حاج اوديك دار مسنين ليه بس.. ما أنا ارميك في أي مستشفى حكومي أوفر!
رمش عمر بعينيه وهو يحاول تحمل الأمر، ولكن كان أقصى من طاقته، فاتاته النجدة الآلهية حينما كان يتجه أحمد بصحبة معتز للأسفل، فجذبه ودفعه تجاه أبيه وهو يشير له:
_عايزينك هناك... حل بقى براحتك.
وهرع عمر لغرفة ابنته التي تبعد عن غرفتهما الخاصة باحثًا عن زوجته..
******
انتهى "رائد" من الملف أخيرًا بعد ساعة كاملة قضاها لينهي أخر خطوة أضافها لحسبته الخاصة، ففرقع يديه معًا وارتخى بجلسته وهو يهمس بارهاقٍ:
_وأخيرًا.
ارتخى بمقعده قليلًا لينعش جسده البائس بعدما انهال من المشقة، وفجأة لمح ابنه يقترب منه فهمس بضجرٍ:
_يا منجي من المهالك يا ررب.
ثم رسم بسمة زائفة وهو يشاكسه بمحبة لا تمت لواقعه بصلة:
_صباحو الفل يا آسر يا حبيبي.. أيه منزلتش النادي ليه مع يحيى ابن انكل ياسين؟
أتاه رده لاذعًا:
_مبحبش اروح معاه في حتة.
ثم جذب احد الاوراق يعبس بها:
_ده أيه!
جذب رائد منه الاوراق ثم فتح الحقيبة وهو يحاول يلملم ما تتلقفه يده ولم يمانع بتحذيره:
_متلعبش في حاجة يا حبيبي.
ضم الصغير حاجبيه بخبثٍ وقد اتته فكرة خبيثة، فجذب احد الاوراق ثم هرول وهو يصيح بمشاكسة:
_لو عايزها امسكني.
صعق رائد وهو يواجه تلك المفاجآة الصادمة التي لم تكن بالحسبان، فهرع خلفه وهو يترجاه بابتسامة صفراء:
_آسر بلاش قلة أدب يا حبيبي.. الاوراق دي مهمة وممكن يتعمل من أبوك صباع كفتة محشية بالرز والفريك ترضهالي يا آسورة؟
رفع الصغير يده واسند ذقنه إليه وكأنه يفكر قليلًا، فعالت ابتسامته الشيطانية وهو يركض:
_أرضهالك يا كبير.
ركض رائد خلفه حتى انقطعت انفاسه فصرخ به بعنف:
_ورحمة جدي لو موقفت مكانك لاقتلك انت وامك في ساعة واحدة.
لم ينصاع اليه فركض بسرعة لم يقدر ابيه على محاذاتها، فاستند على أحد الاشجار وهو يلتقط انفاسه بصعوبةٍ بالغة، وحانت منه نظرة جانبية لمن يتابع المشهد العريق لاحد أحفاد آل الجارحي يطيح بعنجهية ذاك المغرور، فانفجر بهم رائد كالبركان:
_انتوا بتتفرجوا عليا... اعتقلوا ابني بسرعة!
وما أن انهى امره حتى هرع جميع الحرس ركضًا خلف الصغير الذي هرول لداخل القصر، وبالاعلى انضم اليهم خالد المحمول فوق رأس حازم الذي يحمله كوسيلة نجاة من رصاص أبيه ويهرول لاي تجاه تسوقه قدميه.
*******
بالأعلى..
بحث عمر عنها فظنها بغرفة ابنته، وما أن فتح بابها حتى تفاجأ بها فارغة، فخرج ليبحث عنها على التراس فوجدها تجلس على حافته وبين يدها علبة من العصير ترتشفه على مهلٍ، خبأ عينيها بيده فقالت بشراهةٍ:
_يا دوك ده مكان تغميني فيه.. عايز تتخلص مني من غير ما حد ياخد باله ولا أيه؟
جلس لجواره وهو يمنحها نظرة متفحصة تود استكشاف ما تود فعله، فوجدها تتهرب بعيدًا عن الحديث بموضوع ابنتها الذي سيزيد من جراحها... فربما ببعض الاوقات لا نود خوض تلك التجربة المريرة عن الحديث عن أمرًا لا نود النبش به مجددًا، ريثما وقتًا أخر يكون مناسبًا للنبش به ولكنها الآن تحاول الابتعاد عن أي شيء يذكرها به، هكذا شعر عمر فلم يرغب بسحبها لألمٍ تتهرب هي منه، لذا ابتسم وهو يناطحها بعند:
_اكيد ميهنيش لانك بتشربي العصير من غيري... ده انتي حتى مفكرتيش تقوليلي أعملك فطار بصوت كله انوثة زي الستات.
ضحكت حتى ادمعت عينيها، وبصعوبة قالت:
_زي أيه يعنيا!
وانتهت من ارتشاف العصير والقته ارضًا، ثم تحملت على ذراعيه وهي تشير له بارهاق:
_قومني بس الله يسترك عشان أعرف اسمعك الكلمتين بتوع كل صبح.. حكم انت متتكيفش الا لما تسمعهم..
عاونها عمر على الوقوف وقبل أن تفتح فمها كممها جيدا وهو يهمس لها:
_لا وحياة مامتك مش طالبة معايا على الصبح... لسه لما هروح المقر هأخد التغفيلة التمام من عدي وياسين كفايا دول عليا النهاردة.
أشارت له بإيماءة خفيفة، فابتعد عنها وهو يشير لها بخوف:
_بصي الدرس الاخلاقي بتاعك مش لازم يكون ليا بس، ممكن توسعي نشاطك وتديه لرحمة مثلًا أو ممكن حد من البنات أو اقولك الواد معتز مش مظبوط بقاله كام يوم قافش مع شروق استحضري روح المصلحة الاجتماعية اللي جواكِ وحيلي اللي بينهم..
اشارت له بملل:
_في حاجات كتيرة هنا محتاجة ترجع زي الأول لما أولد بس وأنا هفوق ليهم.
صاح بفرحة لنجاته المحتومة من محاضراتها الاخلاقية:
_هو ده الكلام..يالا عشان نلحق الفطار.
******
الصدمة لم تكن صدمة الا حينما تفهم ذاك الأحمق مدلولها، حيث كان يظن بأن الجميع يتكاتف للفصل بينه وبين أبيه، ولكن المفجع بالأمر حينما وجدهم يخلصون الصغير عن يديه حتى إن انطلق من فوه سلاح ابيه الرصاص لا يتأذى الصغير، ولكن لا بأس ان أصابته الطلقة وكأنه سيريحهم من جحيم يحتبسهم جميعًا، فرفع خالد للاعلى ثم صاح قائلًا:
_انتوا مش عايزين الواد... خدوا الوااااد
والقاه على أحمد الذي تلقفه وكأنه ينجح في صد ركلة الكرة لشباكٍ العدو، وفجأة هرع للمصعد وعبث بازرره وهو يهمس لهم بابتسامةٍ حمقاء:
_بالسلامة أنا..
صعد به المصعد للطابق الرابع، فخرج منه ثم ركض للمصعد الخارجي، فولج وأغلق بابه ليستعد للهرب من الخارجي، وحينما استدار الخلف لاختيار الطابق الارضي من لوحة مفاتيحه صعق حينما وجد "ياسين" يحول المصعد لعربة خاصة بملابسه ومتعلقاته الشخصية، فارتدى القميص فوق البنطال وعلى ما يبدو بأن الوقت قد سرقه وتناسى أمر الاجتماع الهام، افغر فاهه وهو يتابعه وهو يرتب خصلات شعره فاتجهت نظراته اليه فقال الاخير:
_لا خد راحتك يا حبيبي.. عادي بتحصل معانا كلنا وبنكمل بقية لبسنا في الشارع... كأني هوا.
تجاهله ياسين وجذب البلطو الخاص به ليرتديه فوق قميصه الابيض ثم جذب البرفنيوم الأسود من الحقيبة المفرودة من أمامه فقال دون ان يستدير اليه:
_هربان من مين يا زفت؟
همس بخيبة امل:
_من البشر كله... ولاد عمك الاندال متفقين مع ابويا عليا.. حتى اخويا الواطي واقف في اول صف وبيسلمني تسليم اهالي.
قال بسخرية وهو يرتب اوراقه:
_ابن حلال وتستاهل يا حازم والله..
وانتصب بوقفته بعدما انتهى من الاستعداد ليبدو أوسم من الحلى الذي ارتداها بالصباح، وقال قبل ان يصغط على الزر:
_هتنزل انهي دور.
على الفور قال:
_ممكن التاني... لان كلهم في اول دور.
ضغط اصبع ياسين على الطابق الاول بابتسامة خبيثة، فذم الاخير شفتيه وهو يردد ساخطًا:
_من هم لهم يا قلبي يا تحزن.
******
نجح "رائد" بكمش ابنه من تلباب ملابسه، وكأنه يقبض على مجرمٍ هارب من العدالة، وفجأة صاح باندفاع:
_يا راااانيــــــا
ظهرت من امامه وبيدها طبقين من الخبز الصغير، وضعتهم على المائدة ودنت منه تتساءل بقلق:
_ايه يا رائد بتزعق كده ليه؟
سلمها ابنها من تلباب ملابسه وهو يشير لها بضجرٍ:
_ربي ابنك السفاح اللي شبه حرمي الغسيل ده أحسن ما وربي اشردهولك.. انا خلاص مبقتش باقي على حاااجة انا جبت اخري منه.
وتركها وصعد للاعلى فانحنت تعدل من ملابس الصغير وهي تعاتبه بضيق:
_عملت أيه تاني في بابي يا آسر؟
بابتسامةٍ واسعة قال:
_تحبي أبدأ بأيه؟
طرقت على صدرها بصدمةٍ:
_تبدأ بأيه.. ليه انت عملت كام بلوة؟!
******
ما أن دقت الساعة العاشرة صباحًا حتى اجتمع الجميع على طاولةٍ الطعام باستثناء «رعد، أدهم، عز» لتوالى امور الشركات بايطاليا، اضافة لياسين وآية فالجميع يعلم بأن ياسين الجارحي يود قضاء بعض الوقو الخاص مع زوجته برحلة تفاجأ بها الجميع بعدما كانت بصحبة عدي لتنقية بعض المتعلقات الخاصة بولادة نور، ومنذ ذلك الحين لم تعود للمنزل..
انضم "يحيى" لمجلسهم، فجلس على رأس الطاولة محل "ياسين" ثم قال باستغراب حينما لم يجد أحدًا تناول طعامه:
_محدش بيأكل ليه؟
قال "معتز" بابتسامةٍ صغيرة:
_مستنين حضرتك.
منحه ابتسامة لطيفة وشرع بتناول طعامه وهو يوجه حديثه لعدي:
_عملت أيه يا عدي في الموضوع اللي كلمتك عنه... هناخد الصفقة ولا هنسبها؟
رفع عينيه اليه ثم قال بهدوءٍ:
_لو الصفقة دي مكنتش مهمة لشركاتنا مكنش حضرتك فتحت موضوعها أكتر من مرة يا عمي.. فبالتالي أنا مش هقبل إنها تضيع من ايدينا.
ابتسم لدهائه رغم انه كان يدور خلف غايته الاساسية، فقال:
_تمام اتفق انت وياسين على التفاصيل ونشوف الدنيا هترسى على أيه.
اكتفى بايماءة بسيطة من رأسه ثم عاد الجميع للسكون مجددًا، فكسرت نور بلور الصمت حينما قالت:
_على معادنا بليل ولا غيرتوا رأيكم كالعادة..
تطلع الشباب لبعضهم البعض بحيرةٍ، فاضافت داليا:
_سيبك منهم يا نور... كل يوم بيدونا مواعيد وفي الاخر هيقولولك معلش اناخرنا النهاردة بالشغل!
قالت شروق بتذمر:
_احنا ملينا من الاسطوانة دي... بجد اتخنقنا ومحتاجين نخرج.. صح ولا ايه يا بنات؟
اكدت آسيل على الامر وهي تضع احد اللقمات الصغيرة بفم ابنها "آويس" :
_لو مش هيقدرونا يبقى احنا كمان مش هنقدرهم وهنخرج من غيرهم..
منحها احمد نظرة جعلتها تبتلع باقي كلماتها وهي تشير بخوف:
_خلاص نديهم النهاردة فرصة اخيرة.
تعالت ضحكات ملك وهي تشاكسها:
_رجعتي ورا من نظرة يا آسيل!
رد عليها يحيى بابتسامة هادئة:
_متسخنيش الامور بينهم يا ملك.
ثم تطلع للجانب الايسر حيث يجلس الشباب كلا منهم جوار بعضهم، فقال:
_ هما معاهم حق.. لازم تخصصوا ليهم وقت على الاقل بالخروجة بتاعت النهاردة.. اخرجوا واتعشوا باي مكان... وان كان على الشغل مش انا هنزل معاكم المقر النهاردة انا وحمزة وهنحاول نشيل عنكم شوية... مش كده ولا ايه يا حمزة؟
استدار بوجهه لاتجاه الاخر وهو يردد:
_لا مش كده... انا مشغول طول اليوم.
تجعد وجهه بذهول:
_ليه وراك ايه؟
قال بغرور وهو يعدل من قميصه:
_عندي جلسة مساج على شوية مسكات وآآ.
بترت كلماته حينما صاحت تالين بغضب:
_وراك ايه يا حبيبي.
ضحك حازم بشماتة:
_البس عشان خارجين.
تبدلت قسمات وجهه للخوف الشديد فاسرع بنفي تلك التهمة الباطلة عنه:
_لا كنت بقوله هروح الصيدلية اجبلي رباط صليبي أصل العضمة قفشة شوية بس دلوقتي بقيت احسن الحمد لله.
وترك الطعام ثم نهض وهو يشير اليه بخوف:
_يالا يا يحيى نروح نشوف المقر.
مسح يده بالمنشفة واتبعه وصوت ضحكاته يعلو فيزيد من حنكه، انسحب الشباب خلفهم تباعًا وكلًا يعتلي سيارته الخاصة، ولم يتبقى سوى الفتيات على الطاولة، فتوقفن كلا منهن عن تناول الطعام بحزن يسيطر عليهن، فقالت مليكة:
_صدقتوا ان بابا كان معاه حق... مبقوش يشوفونا غير ستات بيوت متنفعش غير لتربية الاولاد وحتى مبقوش يهتموا لخروجتنا ولا لينا زي الاول!
اكدت رحمة على حديثها:
_فعلا عمي كان معاه حق... حقيقي انا ندمانة اني موفقتش على اقتراحه من الاول..
قالت نور:
_وندمانه ليه هو ادانا وقت نفكر عما يرجع من الرحلة ونقدر بكل بساطة نقوله قرارنا..
اضافت رانيا:
_نور معاها حق احنا نبلغه اننا كلنا موافقين وهنعمل كل اللي هيطلبه مننا.
رددت شروق بخوف:
_بس يا بنات لو عرفوا هيحصل ايه؟
اجابتها داليا بسخط:
_ما يعرفوا يا شروق... انتي عاجبك حالنا اوي.. من يوم ما انكل ياسين شال ايده من عمايلهم وهما زادوا فيها..
قالت نسرين:
_معاكي حق يا بت يا داليا... احنا هنعمل اللي هيقولنا عليه... هو عارف مصلحتنا فين واكيد مش هيضرنا..
قالت مليكة:
_خلاص انا هطلع واكلمه واقوله على اتفقنا ده..
بنبرة مشتركة رددوا:
_ربنا يستر.
*******
بالمقر...
العمل يقام على قدمٍ وساق وكأنها دائرة تدور بنقطة لا نهاية لها، الجميع يعمل بجد واجتهاد، فلن يرضى "ياسين الجارحي" بأي موظف بامبراطوريته المهيبة، وبالرغم من الجدية التامة بالخارج الا ان الغرفة التي تشمل مكاتب الشباب كانت تضم حازم والشباب باكملهم باستثناء عدي وياسين فقد ذهبوا لمعاينة المكينات منذ الصباح، قرر حازم أن يهون عن نفسه بطريقته التي قد يجدها البعض مختلة كحاله، فوضع احد السماعات باذنيه ثم اخذ يميل لعالمه الفوضوي الذي صنعه لنفسه، وبعد دقائق ساد الصمت به بين الشباب باكملهم.. والجميع منهمك بعمله الجاد اذ يستمعون لصوته المزعج وهو يعلو ويردد:
_من اجل أيه خسرتيني... خاتم ودبلة بعتيني... حبتها غدرت بياااااا فرجت الناااس عليااااااااااا
تطلع الشباب لبعضهم البعض بريبة من امره فقال جاسم بتأفف:
_قولتلكم الواد ده ملبوس محدش صدقني.. اتفضلوا..
اشار رائد لاحمد بغضب:
_ما تلم اخوك يا احمد لو عدي جيه هيشعلقنا كلنا..
تجاهله احمد واخذ يدون بعض الملاحظات على الحاسوب وحينما عاد رائد بتكرر حديثه قال بنفاذ صبر:
_انا معنديش اخوات.. اطلعوا من دماغي بقا..
ضحك معتز وهو يؤيده:
_معاه حق والله انا لو مكانه كنت قتلته وقتلت نفسي من كتر المصايب اللي بتتحدف عليا بسببه..
اشار لهم جاسم بغرور وهو يدنو منه:
_خلاص يا رجالة انا اللي هحل الموضوع
ودنا منه ثم جذب السماعات بعيد عن اذنيه ليفزع من صوته الذي يشبه انشودة انثى البغبغاء، فما ان توقفت الموسيقى الشعبية حتى اخرج من اسفل قميصه الريموت المتحكم بالسماعات الاسياسية وهو يغمز بمكر:
_كنت حاسس بخيانه..
نهض رائد عن مكتبه وهو يحذره بجدية تامة:
_حازم اووووعاااااا
ما ان انتهى من حديثه حتى انطلقت الموسيقى الشعبية بالارجاء وكأن هناك حفل زفاف بين زقاق الحارة الشعبية، والابشع من ذلك حينما صعد حازم على سطح المكتب والقى بالورق وهو يغني عاليًا ويردد:
_مشينا صح مش عااااااجب والغلط مش سكتنا..
ردد عمر من اسفله:
_انت الغلط بذات نفسه يا حبيبي... هات الريموت ده هتفضحنا ربنا يخدك..
رفض حازم تسليمه الريموت والقاه من نافذة المكتب، فصعق معتز حينما وجد جاسم يصعد اعلى المكتب في محاولة لقتل هذا النذل من وجهة نظره، فأمسك حازم يديه واجبره على الرقص معه وللعجب انسجم جاسم خلفه واخذ يرقص بصحبته، ضحك معتز وجذب عمر ورائد اللذان استجابا سريعًا لتلك الاجواء الدرامية...
******
انهمك "عدي" و"ياسين"، بتفحص المكينات المستوردة حديثًا من الصين، وحينما انتهوا توجهوا للغرفة المشتركة بالشباب معًا، لتوقيع العقود الجماعية استعدادًا لتلك الصفقة الهامة التي ستهدم الاحطبة فوق عدد مهيب من أسماء كبار رجال الأعمال، التي تشملهم جملة شهيرة (حيتان السوق) كما يلقبون.، صعدوا معًا للمقر ومنه لغرفة المكتب الجماعية، فشهق ياسين من فرط الصدمة بينما ربع عدي يديه امام صدره وأخذ يتابع ما يحدث بنظراتٍ شرسة تسجل كل رد فعل بذاكرته لوقتٍ سيفسره حسابًا عتيق..
كان الوضع لا يرثى له... حازم وجاسم يتراقصون اعلى المكتب، ولجوارهم عمر الذي يحرك يده وكأنه في نزاع عنيف، بينما يرقص معتز ويده تحيط بكتف رائد المستمتع بتقليد خطواته المحترفة أكثر منه، بينما بالزواية المنفردة كان يغوص أحمد بعدد مهول من الاوراق متناسيًا وجود هولاء الحمقى وكأنه بعالم منعزل لا يسمع... لا يرى... لا يتحدث..
توقف الجميع عن الرقص حينما تحرك ياسين المصعوق وفصل الفيشة عن السماعات العملاقة، فاتجهت النظرات المصعوقة اليه، فسيطر الخوف والقلق عليهم حيال امر تواجده المرهون بتواجد الأكثر خطورة لذا اتجهت جميع الانظار تجاه باب المكتب وخاصة تجاه الوحش الشرس الذي قابلهم بابتسامة شيطانية وجملة تعبيرية لا تخلو من جمال النص ورونقه:
_بالنسبة للناس اللي مستنية توقيع المدراء دول نقولهم مشغولين وراهم نمرة ولا في الانعاش ومحتاجين عمرة!
#أحفاد_الجارحي5.....(#ترويض_الشرس!!....)..
#الفصل_الثاني...
إهداء الفصل للقارئة الجميلة "أمنية تيماتين" من الجزائر الحبيب ، شكرًا جزيلًا على دعمك المتواصل لي، وبتمنى أكون دائمًا عند حسن ظنك يا جميلة...قراءة ممتعة 💙)
لم تكن اليقظة بمثابة حلمٍ شاق، بل واقع ملموس، انسحبت حالة الفوضى تدريجيًا، وكلًا منهم يعود لموقعه الطبيعي، هبط "جاسم" للأسفل واتبعه "حازم" ببطءٍ، حتى "رائد" أسرع لمكتبه فجذب نظارته الطبية وارتدائها وهو يسرع بالعبث بأزرر الحاسوب، أما "عمر" فوزع نظراته مطولًا بين أخيه ويده المرفوعة بوضعيةٍ تشبه الكارتيه، وأسرع هو الأخر لمكتبه، ضم "عدي" يديه بجيب سرواله، ثم خطى من مكتب لأخر، والجميع يراقبه من طرف أعينهم، إلى أن كسر حاجز الفضول حول عقابهم المستحقّ:
_لو فكرني هرفع أيدي وهضرب تبقوا غلطانين.. أظن انكم كبرتوا كفايا على رفع الأيد والحركات دي.
ابتلع حازم ريقه بصعوبةٍ بالغة وتساءل بصوتٍ متقطع من فرط التوتر:
_أمال هتعمل فينا أيه يا وحش؟
استدار تجاه مكتبه فجأة بنظراته الثاقبة، فارتد حازم بمقعده للخلف برعبٍ ، وخاصة حينما طرق بيده على سطح مكتبه:
_في عقاب تستحقوه أنت وهما..
وعاد لينتصب بوقفته بشموخٍ اتبع هيبة قراره الحازم:
_مفيش خروج النهاردة..ولا حد هيرجع البيت الا لما كل الملفات اللي قدامكم دي تتدرس وتتراجع كويس.
فغرت الأفواه، ومن بينهم عمر الذي قال:
_طب وبالنسبة للخروجة اللي البنات معشمين نفسهم بيها من شهر فات دي!
اتجهت نظراته تجاهه، فأسرع بالحديث لينجو:
_أي حاجة تتأجل.. ولا يهمك يا وحش.
عاد ليتطلع أمامه بثباتٍ وهو يشير لياسين الذي يكبت ضحكاته بسيطرةٍ تامة:
_أرجع أنت وأحمد في معادكم عادي يا ياسين.
وترك الغرفة ثم غادر بصمتٍ، فنهض حازم عن مقعده ثم القى بجسده على المكتب وهو يحاول اتباع خطوات "عدي" فما أن تأكد من مغادرته حتى ادعى عصبيته المختبئة خلف قناع الرعب من أن يستمع إليه:
_احنا مش مضطرين ننفذ عقابك يا وحش، وبقولك تاني لما نكون بنتكلم متخدش في وشك وتمشي قبل ما نخلص كلامنا وآآ
قاطع حديثه ضربة هوت على رقبته، فاستدار للخلف بفزعٍ سكن حينما وجده معتز يلقيه بسخرية:
_بطل الخيلة الكدابة دي.. اقعد ومنسمعلكش صوت والا ورحمة جدي هقتلك وقتي ونتخلص منك ومن مصايبك السودة اللي طايلنا في كل مكان.
هز رأسه وهو يسرع بالجلوس، خوفًا من القادم، فراقبهم جيدًا ليدرس ما تبوح به أوجههم، فلم يجد سوى الغضب والحنق على عقاب تلاقوه بسبب ساذجة هذا المعتوه!
*********
بالمكتب الرئيسي لمقر شركات الجارحي..
جلس "عدي" على المقعد الذي لم يجرأ أحدًا على احتضن جسده الخشبي سوى امبراطور ممتلكات الجارحي، والآن ولي العهد نجح بأن يحل محله مثلما كانت تلك القاعدة الاساسية في لائحة شروطه لترك الشرطة والعمل مع أبناء أعمامه، راقب ما يحدث بالخارج عبر كاميرات المراقبة،وحينما تأكد من انشغال الجميع فتح الدرج العلوي لمكتبه الأسود الآنيق،ثم فرد من أمامه عدد مهول من الكتب والأبحاث والأوراق الملخصة لتجارب رجال أعمال من رواد الصناعة في مصر والعالم العربي، ثم بدأ بالدراسة وكأنه طالب ثانوي يستعد لامتحاناته جيدًا، ساعات متتالية قضاها بالمذاكرة بتركيزٍ وتمعن، إلى أن دقت ساعة المنبه الخاص، فرفع سماعة الهاتف المخصص لمكتبه وبخشونة وصرامة قال:
_ابعتيلي ياسين حالا.
اتاه صوت السكرتيرة تجيبه باحترامٍ:
_حاضر يا فندم.
وبالفعل ما هي الا ثوانٍ معدودة حتى وجده يقف من أمامه، فقال وهو يغلق باب المكتب جيدًا من خلفه:
_آسف نسيت خالص.
حدجه "عدي" بنظرةٍ ساخطة اتبعها قوله اللازع:
_لا أنت شكلك اخدت على مكالماتي كل يوم.. وشكلي هخليك معاهم لبكره لانك متهم بالتقصير في عملك زيك زيهم.
على الرغم من حدة نبرته الا أنها حملت طيف من المرح، فابتسم "ياسين" وهو يخلع عنه جاكيته وجرفاته، ثم أشمر عن ساعديه، جذب أحد المقاعد وجلس قبالته وقال وهو يجذب بعض الاوراق لامامه:
_كده كده بايت هنا يا حبيبي.. أنت فكرك أنهم هيسبوني انا وأحمد نروح كده.. قلبك أبيض.
ثم جذب أحد الأقلام وهو يشير له عند نقطة دونها ببطءٍ ولسانه يردد ما كتبه:
_ازاي تبقى هجام درجة أولى واللي فاكرك من سيتي ستار يتفاجئ انك من بولاء.. ده درسنا النهاردة.
احتدت نظرات عدي تجاهه، فقال بسخطٍ:
_أنت بتعلم ظابط شرطة ازاي يبقى سفاح!
بابتسامةٍ تحمل معنى الفخر لما حصده خلال سنوات العمل الطويلة مع عمه وأبيه قال:
_في شغلنا لازم تتعلم ازاي تقلب التربيزة على منافسينك حتى لو هتختار طريقة مش كلاسكية.. المهم صدى الضربة اللي تعلم ومتتنساش.
أومأ برأسه بتفهمٍ لتلك النقطة، فعاد ياسين ليستكمل تلخيص ما تعلمه خلال تلك السنوات برغبة من عدي، فما ان استلم ادارة المقر وهو يخصص لذاته وقتًا لا بأس به للتعلم والدراسة عن مجال ادارة الشركات ليكن رئيسًا ناجحًا كياسين الجارحي، فكان يستعين بمساعدة "ياسين" و"أحمد" سرًا، انتهى "ياسين" من شرح ما أرد، ففتح عدي دفتر خاص به ثم دون أمام أعينه التي تراقب ما سيفعل:
_بيانات ومعلومات المنافس.
ضيق عينيه باستغراب:
_ليه هو متهم بقضية هتطلعله فيش وتشبيه؟!
نهض عدي عن مكتبه ثم اتجه لمكينة القهوة الموضوعة بركن منعزل عن غرفة المكتب الضخمة، فصنع كوبين واقترب ليضع مقابله كوبًا، ارتشفه بتلذذٍ وهو يردد بثقةٍ مخيفة:
_مش لازم عشان تعرف طبيعة الشخص اللي هتشتغل معاه انك تكون ظابط شرطة.
ووضع الكوب على الطاولة وهو يشير إليه:
_مش هتقدر تتغلب على شخص وأنت مش دارس انطباعاته كويس حتى لو هيجمعك بيه شغل مؤقت ولا أيه!
هز رأسه بتأكيدٍ وابتسامة اعجاب تشكلت على شفتيه، فنهض عن مقعده ثم ارتشف قهوته سريعًا، ارتدى جاكيته وعقد جرفاته من جديد، واتجه للخروج وهو يخبره بعجلةٍ من أمره:
_هرجع أكمل شغلي ولو عوزت أي حاجة ابقى كلمني.
أومأ برأسه وهو يتفحص الملف الخاص بأحدى الصفقات التي وُكل بها يحيى الجارحي وأبيه، فحرص على دراسة درس طريقة كلًا منهما بالتعامل في العمل، ليتفادى تكرار ذاته مجددًا، وكأنه يود صناعة بصمة خاصة به..
وبعد ساعتين انفتح باب مكتبه مجددًا، فطل "أحمد" من خلفه وهو يلوح له بمرحٍ:
_لو مشغول ممكن أرجع في وقت تاني.
أغلق الكتب من أمامه وهو يشير له بجديةٍ:
_ادخل يا أحمد.
اقترب احمد منه، ثم وضع الملفات التي يحملها على طرف مكتبه بنظرةٍ مشفقة لما يراه من عدد ضخم من الكتب والاوراق، فعاد لمزحه مجددًا حينما قال:
_عمرك شوفت تلميذ بيدي للمدرس حصة؟ آه لو حد من الشباب دري هتطلع على النشرة.
أبعد مقعده المتحرك عن مكتبه ثم نهض واتجه ليجلس على الاريكة المريحة وهو يشير له بابتسامة عابسة:
_متقلقش مش هيحسوا بحاجة من ضغط الشغل اللي أنا زنقهم فيه.. مفيش بايدي حاجه اعملها غير كده، على الاقل لحد ما أحس اني بقيت جاهز.
عارضه أحمد حينما قال:
_بس انا شايفك جاهز من دلوقتي يا عدي، أنا منساش انك ما شاء الله قدرت تخلص صفقة الحديد والاسمنت بعد ما فقدنا الامل انها هترسى علينا. ثم ان عمر مش هيكون أمهر منك ولا أيه!
تمدد على الأريكة بتعبٍ بدى بنبرته الهادئة:
_لا يا أحمد محتاج لسه أدرس الموضوع أكتر، زي ما أتعلمت من شغلي اني أذاكر كل قضية كويس قبل ما أجمع الخيوط كلها، ممكن أبدأ وواثق اني هنجح بس ده مش هيرضيني.. أنا مش عايز النجاح ده.
تساءل بدهشةٍ:
_أمال عايز أيه؟
ابتسامة ماكرة لاحت على شفتيه، انبعت عما يبنيه من آمالٍ لا سقف لها:
_عايز أكون أفضل من ياسين الجارحي نفسه!!
******.
بمكتب اللواء "مصطفى القاضي".
قلب بين محتويات الصور التي يحملها من أمامه بصدمةٍ سيطرت على لسانه العاجز عن النطق، اشتعلت الدماء بعروقه فانتفخت وكأنها ستنفجر، فألقاها على المكتب من أمامه بعصبيةٍ سكنت داخل نبرته المنفعلة:
_إزاي ده كله يحصل وميكنش عندي علم بيه يا رفعت!
بدأ القلق يتسرب على وجهه الذي يملأه التجعيد، فابتلع ريقه بتوترٍ وهو يختار ما سيقوله بعنايةٍ:
_من بعد هروب المجرم بذلنا مجهود كبير اننا نقبض عليه بس للاسف معرفناش نوصله، وبعد السنين دي كلها اتفاجئنا بحادث موت الرائد حسام، ومن بعده شريف والوقتي عمرو والتلاتة ماتوا بطريقة بشعة زي ما حضرتك شايف.
تعمق اللواء في الثلاث صور بنظرة شفقة وحزن على مصير هؤلاء الأبطال، فما ذنب شرطي شريف قام باداء عمله على أكمل وجه أن يقتل بتلك الطريقة المروعة، وكأن الانتقام كان يشمل أداء مهمته بالقبض على هؤلاء اللصوص اللعناء، وضع اللواء" مصطفى" الصور عن يديه وهو يتساءل بضيقٍ:
_مين اللي كان ماسك القضية دي؟
عاد الارتباك يتراقص على معالمه من جديدٍ وهو يخبره:
_المقدم "عدي الجارحي" يا باشا.
صعق حينما استمع لما قال، وخاصة حينما اكمل حديثه قائلًا:
_ده مجرم مش عادي يا فندم، وراه ناس تانية ساندينه برة مصر، حاولنا بكافة الطرق اننا نكشفهم او نكشف نشاطهم بس مسابوش غلطة واحدة وراهم، وعدي باشا نفسه قبل ما يستقيل كان شاكك ان في مصايب تانية كتير ورا "أمجد السلاموني" ده، وبعد ما كلنا شوفنا الطريقة اللي هرب بيها صدقته وأمنت بنظرته الدقيقة لاي مجرم.
واستطرد بحزنٍ بالغ:
_احنا لازم نحذره ونخليه ياخد احتياطاته كويس لان كل اللي طلعوا بالمهمة دي اتقتلوا بطريقة وحشية وللاسف الدور عليه.
اعترض عن طريقة تفكيره النمطي تجاه شخصية يعرفها جيدًا.. فقال:
_لا أوعى تعمل كده..عدي متهور ومش هيقدر يتعامل مع الموضوع ده اطلاقًا.. خصوصًا لو حس اننا بنراقبه أو بنحاول نحميه.
مال بجسده للامام وهو يتساءل بدهشةٍ:
_طب والحل!
نهض اللواء عن مكتبه، ثم دنى من خزانته السوداء فبحث بين محتوياتها عن ملفٍ هام، طرحه من أمامه، وقلب بين صفحاته وكأنه يبحث عن شيئًا ما، وجده فقرأه بكل اهتمامٍ، تأهبت لاجله حدقتيه المصعوقة من أمرٍ ما، وخيوط جمعها ببراعةٍ، وفجأة تطلع لمن يجلس مقابله وهو يردد:
_عدي في خطر أكبر مما نتوقعه يا رفعت.. لازم نتحرك بسرعة والا لو حصله حاجة هتبقى عيبة في حقنا كلنا ان ظابط قدم لشغله كل حبه وتفانيه وبالنهاية يحصله كده.
وجذب هاتفه ثم عبث بازارره بترددٍ، وتركه جانبًا وهو يزفر:
_مفيش غير واحد هو اللي هيقدر يستوعب حجم الخطر حولين عدي، بس للاسف باللي هعمله ده ممكن اتعرض للمحاكمة وأنت عارف ليه!
تفهم الأمر كونه شرطي، فأملى بهدوءٍ اقتراحه:
_ممكن حضرتك متدخلش في تفاصيل تخص القضية.. يكفي انك تنبهه.
وبفضولٍ تساءل:
_بس حضرتك تقصد مين بكلامك؟
رفغ رأسه وهو يتطلع للفراغ بابتسامةٍ تنبع بكل فخرٍ:
_"ياسين الجارحي".
*********
كعادتهم كل مساءٍ تستعد كلًا منهن، ويترقبن لحظة وصولهم للوفاء بوعدهم التي باتت تنكس الفترة الأخيرة، جلسوا بالأسفل جوار بعضهن البعض، وأعينهم تراقب عقارب الساعة التي أصبحت تزحف ببطءٍ على الثانية عشر ليلًا، فنهضت "مليكة" عن الأريكة المطولة وهي تشير لهم بتذمرٍ:
_قوموا ناموا محدش هيجي ولا في خروجة أصلًا.
حاولت "ملك" تلطيف الأجواء فقالت:
_ما يمكن على الطريق يا حبيبتي..
أجابتها "داليا" بسخرية:
_بقينا نص الليل يا طنط.. هنخرج السعادي ونروح فين!
أضافت "شروق" بحزن تغلب على نبرتها الشبه باكية:
_محدش عاد مهتم بينا من الأساس.. تصبحوا على خير.
وتركتهم وصعدت حتى لا يرى أحدًا دمعاتها البائسة، حملت "نور" طبق المقبلات ثم جلست على الأريكة لجوار "رحمة" و"نسرين"ووضعت الطبق بينهما:
_سبكم منهم احنا ممكن نفرح نفسنا من غيرهم..
التقطت منها رحمة المقبلات والتسالي، فتناولت بغيظٍ وكأنها تفجر ما تخفيه خلف غضبها الهادئ، وأشارت لها بانزغاجٍ:
_ما تفتحيلنا حاجة نتفرج عليها طيب.
هرولت تجاه التلفاز وهي تشير لها:
_عيني..
اضافت "مليكة" بغيظٍ:
_وعشان نثبتلهم انهم مش في دماغنا هنقعد ونسهر للصبح من غيرهم.
قالت "رانيا" بحماس هي الاخرى وهي تهم بالوقوف:
_وأنا هعملكم بان كيك يستاهل بوقكم.. وهشوف أيه جوه ينفع للأكل أو ممكن نطلب اكل من برة أيه رأيكم!
مررت نور يدها على بطنها المنتفخ بجوعٍ:
_كلك نظر يا بت.. اطلبي من بره أسرع.
راقبت "ملك" ما يحدث بدهشةٍ، حينما حولت الفتيات قاعة الاستقبال لمطعم فاخر، ووضعن التسالي والمشروبات، فهمست ببسمةٍ ساخرة:
_يطلعوا همهم على الأكل أحسن ميطلع على الاولاد!
******
الهدوء يعم المكان بأكمله، ولم يبقى سوى صوت عقارب الساعة التي لا تتوقف عن صياحها الهامس، فكان صرير الباب المنخفض مسموعًا للغاية وسط ذلك السكون المخيف، ومن بعده خطوات متسللة وضحكات كتمت على وجه "ياسين" و"أحمد"، وكلًا منهما يتفحص الحالة العجيبة الساكنة على وجوههم، "جاسم" يغفو فوق سطح مكتبه بعدما كان يرقص أعلاه، "ومعتز" يضع قدميه على سطح المكتب ومن فوق رأسه يضع الملف حتى يحجب عنه نور الغرفة المزعج، أما "عمر" فينحني بجسده تجاه الملفات من أمامه ويغفو بهدوءٍ والقلم بين قدميه وكأنه يعافر للاستيقاظ، بينما "حازم" أخذها من نهاية خطوطها،فكان يغفو على الأريكة،محاطًا بالجواكت الخاصة بالشباب،فقد جمعهم مسبقًا من فوقه حتى يحصل على تدفئة خاصة تمنحه النوم بالسلام بعيدًا عن غضبهم كونه السبب لما تعرضوا له.
اتجه "أحمد" للخزانة السرية، ففردها ليتفرد منها سريرين، ومن ثم اتجه لعمر، فحاول أن يجعله يستيقظ بهدوءٍ، وجده يتحدث بصوتٍ خافت غير مسموع، فانحنى تجاهه وهو يحاول أن يسترق السمع لهلوساته،فوجده يهمس بخفوتٍ:
_٦مليون و٤٠٠الف.
ضحك بصوته كله، فعاد لمحاولاته البائسة بإيقاظه، فحركه من جديدٍ، بدأ "عمر" بفتح عينيه بارهاقٍ، فردد بنومٍ يغلبه:
_أحمد أنت لسه هنا!
هز رأسه وهو يبعد الملفات للخلف بتفحصٍ:
_هيجيني قلب أمشي من غيركم.. طب تيجي ازاي دي.
ارتسمت علامة الاعجاب على وجهه وهو يتفحص الحسابات التي تخطها "عمر" ببراعةٍ، فلم يتبقى له سوى المجموع الكلي فقال:
_جمعتهم فعلا بس معرفش النوم غلبني ازاي... عمومًا هات لما أحط المبلغ الاخير.
جذب أحمد القلم ثم دون وهو يردد:
_٦مليون و٤٠٠ألف... صح كده؟
جحظت عينيه في ذهولٍ:
_عرفت ازاي؟
ضحك وهو يشير له بسخريةٍ:
_أنت لو مخطوف هتقر معاك كام بالبنك من قبل ما تأخد القلم والذي منه.
منحه ابتسامة هادئة قبل أن يعود لاحتضان مكتبه ليستعد لنومٍ يطارده من جديدٍ، فأعاده أحمد لمقعده من جديد وهو يشير له ببسمة هادئة:
_فردتلك الخزنة عشان تريح شوية.
اعترض على اقتراحه وهو يحاول فتح عينيه:
_لا لا أنا ورايا لسه ملف واحد.. هخلصه وهروح على طول.
أيظن بأن مراجعة حسابات ضخمة مثل تلك ستحتاج للسرعة التي تصل به للمنزل بعد قليل، تجاهل أحمد شرح تلك النقطة فاحتفظ بها لنفسه، وقال:
_طب ادخل أنت نام شوية وأنا هخلص الملف ده.
كاد بالاعتراض فأوقفه حينما أعاد المقعد للخلف وأشار له بالنهوض، ثم اتجه لمكتب رائد المجاور لعمر، فوضع يده في يديه وهو يشير له بسخرية:
_خد أخوك في ايدك وأنت داخل.
ضحك وهو يشير له:
_عنيا.
وبالفعل ايقظ "عمر" ، "رائد" ثم تمددوا جوار بعضهم على الفراش، وجلس "أحمد" يتابع العمل على ما تركوه من خلفهم، بينما اتجه" ياسين"لايقاظ"معتز" و"جاسم"الذي فشل في محاولة ايقاظه، فصاح بانفعالٍ:
_جااااااسم.
نهض مفزعًا فجلس على طاولة المكتب وهو يردد بنومٍ:
_مين؟
رفع الاخير حاجبه بسخطٍ:
_مين أيه.. انت نايم في مستشفى!
جاهد لفتح عينيها، فابتسم وهو يتثأب:
_ياسين!
وحينما اطمئن عاد ليتمدد على الطاولة من جديدٍ وهو يلف البلطو الخاص به من حوله، فلكزه بحدةٍ مجددًا:
_قوم نام جوه.
رفض وعينيه تغفو بنومٍ سريع:
_لا ورايا شغل لسه.
كبت غيظه بصعوبة فخرجت نبرته ساخرة:
_على الأساس انك كده بتذاكر والا أيه مش فاهم.. قوم ادخل جوه وأنا هكمل بدالك.
حينما تسلل لمسمعه الكلمة الاخيرة نهض عن المكتب وهو يجيبه ببسمة واسعة:
_ربنا يخليك ليا يا حامي حقوق الغلابة.. تصبح على خير بقى.
رمقه بنظرةٍ ساخرة وهو يغادر للخزانة:
_وانت من أهله يا حبيبي.
وحينما تأكد من دخوله، اتجه "لمعتز" فضحك وهو يبعد عن وجهه الملف، فهمس باستهزاءٍ:
_ده اللي مديك مساحة خاصة يعني!!
واحتضن مقدمة انفه وهو يردد بضحكة هادئة:
_لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم.
وطرق على كتفيه وهو يحاول إيفاقته، فاستجاب له سريعًا وهو يسأله بنومٍ:
_عدي جاي ولا أيه؟
أجابه باعتراض:
_لا مش جاي متقلقش وراه شغل كتير بمكتبه.. قوم انت ريح جوه شوية وأنا ساعة وهصحيك.
وضع الملف الذي يعلو وجهه على المكتب ثم تحرك باجهادٍ شديد:
_بس قومني بعد ساعة متسبنيش أكتر من كده يا ياسين.
أومأ برأسه ببسمة مخادعة وهو يشير له بالدخول، فما أن اتبع جاسم لفراشه حتى ضم "ياسين" الملف الخاص به لملف "جاسم" ثم جلس جوار "أحمد" ليعمل كلًا منهما بتركيزٍ واجتهاد، تفشى حينما على صوتٍ مزعجٍ معروف المصدر، فاتجهت نظراتهم لحازم الذي ينشب بعدة اناشيد مزعجة من صوت نومه المرتفع، وكأنه كان يبني عمارة كاملة، القى أحمد نظراته جانبًا قائلًا بشراسةٍ:
_طب ده اقتله ولا أعمل فيه أيه؟
نهض "ياسين" وهو يشير له بالهدوء:
_أنا هتصرف كمل شغلك.
حاول الوصول لحازم ولكنه كان أمرًا شاق للغاية، فكلما كان يزيح جاكت يجد الأخر حتى وصل إليه بالنهاية، فقال بتريث:
_انت مركب شفاط جوه.. قوم يا عم الله يباركلك مش ناقصة.
وحينما لم يستجيب إليه دفعه ياسين عن الاريكة وهو يصيح به:
_انت يا زفت.
فتح عينيه وهو يشير له بسخطٍ:
_في حد يصحي حد كده.. الله.
ضيق عينيه ساخرًا:
_معلش حقك عليا.. المرة الجاية هجيبلك نسرين هي اللي تصحيك.
امتعضت معالمه وكأنه يخبره بأن هلاك موته قادم:
_يا ساتر كده مش هصحى تاني..
ثم اتسعت ابتسامته وهو يخبره:
_المهم بتصحيني ليه جبتوا أكل؟
حدجه بنظرة قاتمة اتبعها كمشة من تلباب ملابسه ومن بعدها صوته الغاضب:
_أنا مش عايز اشوف وشك هنا خالص... هتأخد بعضك كده زي الشاطر وترجع بيتكم ولو لمحتك هنا يا حازم قسمًا بالله العلي العظيم هخدك من ايدك لاوضة عدي على طول وبالملفات اللي مقريتش فيهم حرف ولا لمستهم!
ابتلع ريقه بصدمةٍ، فجذب أقرب جاكت ملقي أرضًا واتجه للخروج وهو يخبره:
_عفريت وانصرف ولا تزعل يا باشا.
واختفى بلمح البصر من أمام أعينهم، فسطعت السعادة والراحة على وجه "أحمد" بالأخص..
مرت الساعات الاخيرة عليهما وقد أوشكوا على الانتهاء فلم يترك الشباب خلفهم الكثير من العمل على عكس "حازم"، فقد استغرق العمل على الملفات التي وكل هو بها لساعاتٍ طويلة، فازدادت الاجواء توترًا حينما وجدوا عدي يدلف للداخل، فوضع أمامهما أكواب القهوة الساخنة وهو يشير لهما ببسمة ماكرة:
_حلو الشغل في الجو الهادي برضه.
وسحب أحد الملفات الموضوعة من أمامهما ثم جلس يشاركهم في مراجعتهم وكلا منهما يتطلع له بصدمة على سكونه العجيب، وخاصة حينما وجدهم يغفوا جميعًا، فقال دون أن يتطلع لهما:
_اتمنى ميعرفوش اني جيت هنا وساعدت عشان هيبتي متتهزش بس.
تبادولوا النظرات فيما بينهما ثم انفجروا بالضحك الرجولي والمزح المشاكس فيما بينهم حتى غفى النوم ثلاثتهم بعد أن انهوا العمل بأكمله بانهاكٍ تام
********
بعد عدد من المحاولاتٍ للوصول إليه، كان عليه ابلاغ رئيسه بما حدث، فاتجه لمكتب اللواء مجددًا بالصباح الباكر وحينما لم يجده ارسل إليه رسالة نصية
«يا باشا حاولت اوصل لياسين الجارحي وبعد تحرياتنا عرفنا انه مسافر هو ومراته ومحدش من اللي حوليه عارف هو مسافر فين..»
اجابه اللواء برسالة نهت الأمر
«أنا عارف هوصله ازاي..»
*********
ترك الشباب سيارتهم بالجراج الخاص بالمقر، وانقسموا لسيارتين فقاد احدهما"جاسم" والآخر "عمر"، فوصلوا معًا للقصر، اتجهوا للأعلى ليبدل كلًا منهم ثيابه استعدادًا للذهاب مرة أخرى للعمل، فما أن كادوا بصعود الدرج حتى نادهم"معتز" وهو يشير على القاعة الرئيسية بيديه:
_يا شباب.
اتلفتوا جميعًا إليه، فوجدوا "يحيى" يتناول طعامه بصحبة "ملك" التي تطعمه بحنان ويطبع هو قبلة على يدها وهو يهمس لها بصوتٍ مغري:
_تسلم ايدك يا حبيبتي
صنعوا لأنفسهما جو من الرومانسية المنعزلة عما يحدث حولهما، تابعهم الشباب بنظرات ناقمة، فهبط جاسم درجة وهو يخبر ياسين بحزن مصطنع:
_أبوك ده معلم والله.. ده أخر مرة كلت فيها مع داليا على انفراد كان يوم الصبحية ومن بعدها بقيت بشوفها بالقصر بالصدفة.
كز ياسين على اسنانه بغيظٍ مما يحدث، فرفع صوته عله يشعر بوجودهم:
_صباحك فل يا باشا،لو مسبيبنلك ازعاج ممكن نرجع مكان ما كنا عادي جداً..
جذب يحيى حبة الزيتون السوداء يتناولها ببرودٍ، سكن نظراته التي تلتهمهم جميعًا، ثم قال وهو يلوكها بين اسنانه:
_أنتوا هترجعوا فعلا بس لمكان افضل من ده.
لم يفهم أحدّ حديثه الا حينما أشار برأسه للقاعة المكشوفة ، فحانت منهم نظرة جانبية فوجدوا الفتيات يجلسن بالقاعة بفساتين لا تليق سوى للسهرة، ومن حولهم فوضوى عارمة، وبقايا لاكياس من الشبسي، والمقرمشات والتسالي، وكرتون خاص بالمعجنات والبيتزا، وكأنهم تناول طعام العالم بأكمله، والجديد بالذكر، نظراتهم التي قد تصيبهم في مقتل، بالأخص "نور" و"مليكة" التي مازالت مستيقظة وتتناول الفشار بكثرةٍ كادت باحتباس انفاسها، لكزت نور رحمة الغافلة على ذراعيها، فقالت بنومٍ:
_بطلي يا نور... حاضر أول ما هيرجعوا هنعمل زي ما قولتي وهنتجاهلهم نهائي.. سبيني انام بقى.
لكزتها بقوةٍ تلك المرة جعلت قلب من يراقبهما يتلوى ألمًا، فهبط الدرج مسرعًا ليتجه إليها لولا ان وجد نظرات استرابة من الشباب جعلته يعود لمحله من جديدٍ ويراقبها وهي تفتح عينيها بألمٍ اتبع صوتها العنيف:
_في أيه ؟
وجدت الجميع ينظر تجاه الدرج، فتطلعت لتجدهم مقابلها، فرك عمر جبينه وهو يردف بانزعاجٍ:
_بدأنا في تشكيل الاحزاب تاني يا نور!
تحاملت على ذاتها ببطنها المنتفخ واقتربت منه ثم صاحت ويدها تلوح بالهواء وكأنها تستحضر أشباح نسوة العالم بأكمله ليسانداها بخناقتها تلك:
_لا ده انت ليك عين تتكلم كمان! بقالك سنة بتوعدني بالخروجة دي وكل يوم ألبس واتشيك وفي الآخر حضرتك تقضيها برة البيت والله أعلم كنت فين أنا مبقتش اصدق موضوع الشغل والمقر والحوارات دي.
تدخل بينهما ياسين حينما قال:
_لا يا نور احنا جاين فعلا من المقر كفايا ترمي قنابل وكلنا ندفع تمنها الله يكرمك.
انضمت لها مليكة حينما قالت ساخرة:
_مفيش داعي انها ترمي يا حبيبي... القنابل جاية بعدين.
تركت رانيا كيس المقبلات ثم نهض لتقف قبالة زوجها وهي تصيح به:
_انتوا مبقتوش شايفنا غير ستات بيوت، تقعد تربي العيال وتكون بيت وآسرة انتوا مش فيها اساسًا ولا حاسين بالمصايب السودة اللي بنشوفها مع العيال.
اسرعت تجاهها آسيل بابنها آويس الغافل بين يدها:
_برافو عليكي يا رانيا.. اديهم.
حدجها أحمد بنظرة نارية فقالت باستهزاء:
_مبقناش ناكل عيش من النظرات دي يا حبيبي.
حمل يحيى عصير ثم نهض ليقف جواره، ليرتشف بتلذذٍ وهو يشير لها بدعم قوي:
_برافو يا أسيل.. النظرات دي مبقتش تجيب تمن مسحوق غسيل اليومين دول..
اشارت لها نور:
_ارجعي بقى انتي ورا كفايا عليكي كده...
وجذبت رحمة قائلة:
_خشي انتي يا رحمة اديلك كلمتين.. وبالاخص لجوزك اللي مستقوي على خلق الله.
وضع يحيى الكوب على الصينية التي يحملها الخادم، ثم قال باهتمام:
_صحيح معرفناش رأيك في اللي بيحصل ده يا رحمة؟
ارتبكت للغاية حينما صوبت تجاهها جميع الأعين وخاصة زوجها، فقالت بتلعثمٍ:
_آآ... أنا.. آآا..
قاطعها يحيى حينما قال:
_اتكلمي ومتخافيش قولتلكم انا وراكم لحد ما العيال دي تتظبط..
نطق عدي اخيرًا حينما قال بفتورٍ:
_احنا مش كبار على كلمة عيال دي يا عمي!!
التفت تجاهه "يحيى" ثم قال بضحكة هادئة:
_كبير وعاقل على انك تهمل اهل بيتك يا عدي ولا أيه؟
تحلى بالصمت والبسمة الماكرة تجوب وجهه، فقاطعهم معتز حينما قال:
_طيب ينفع نريح شوية وبعد كده نكمل خناق احنا رجعين هنموت يا جدعان والله..
اعترض يحيى على حديثه:
_لا مفيش نوم... اليوم ده هتقضوه مع البنات وبره البيت..
ردد جاسم بصدمة:
_بره البيت.. انا مش قادر افتح عيوني!!
انهى ياسين الجدل المتبادل بينهم حتى ينتهي:
_خلاص أنا عازمكم يا شباب.. شوفوا حابين تسهروا فين والليلة عليا.
ابتسمت نور للفتيات بمكرٍ لتنفيذ اول مخططاتهم التي عاونهم بها يحيى دون أن يشعر..
*******
المساء يتغندج على أطراف الليل بصحبة لقاء سيجمع العشاق بعد فراق دام عليهم لأشهر، اختاروا قضاء الامسية بنادي ليلي يقدم أفخر انواع الطعام والمشروبات، وكلٌ يجلس مقابل فاتنة القلب والهوس، كان الهدوء يغطي الاجواء بينهم، فطلبوا الطعام وبدأوا كلًا منهم يتناوله بفتورٍ شعرن به الفتيات، فانهت نور تلك الحالة الغريبة بينهم، حينما حملت كوب فارغ ثم جذبت ملعقة ونهضت وهي تطرق عليها قائلة بخبث:
_انتباه يا سادة.
حاول عمر جذبها للجلوس وهو يصيح بها:
_نور بتعملي ايه!!
تجاهلته وهي تسترسل:
_زي ما انتوا شايفين القعدة معاكم تمل..ومحتاجين اللي يفرفش القعدة.
كبتت الفتيات ضحكاتهن بصعوبة بينما تبادل الشباب النظرات فيما بينهما بصدمة، فقال عدي بثبات قاتل وهو يتناول ما بطبقه ببرودٍ:
_والمطلوب!
أخرجت نور السلة التي حملتها بحقيبتها الكبيرة وهي تشير لهم ببسمة واسعة، فاخفى عمر وجهه خلف يديه وهو يهمس بخفوت:
_تاني يا نور تااااني.
تجاهلته وهي تشير لهم:
_هنلعب واللي هيخسر هنعمله العقاب المناسب وهو هيسحب واحد منهم.
تساءل أحمد بملل:
_لعبة ايه دي!
قالت وهي تشير للفتيات:
_هنسأل على واحد فيكم سؤال عن مراته اللي مش هيجاوب صح هيتعاقب.
قال حازم بفرحة:
_ابدوا بالوحش وخلينا نفرح بعقاب الظالمة.
حانت منه نظرة جانبية تجاهه فابتلع كمية صخمة من الطعام وهو يبعد عينيه عنه، اشارت لهم مليكة:
_هنبدا بالدور على حسب اللي قاعدين مش باسماء معينة.
وبدأت نور بسؤالها لعدي الذي يترأس الطاولة، فقالت بضحكة خبيثة:
_قولنا بقا يا وحش... أيه اللون المفضل عند زوجتك المصون مع اني أشك أساسًا انك تعرف الالوان من بعضها!
حدجها بنظرة ثاقبة والجميع يترقبون سماع اجابته الخاطئة، فسحب نظراته تجاه زوجته التي تترقب سماع اجابته بلهفة، وجد ذاته يبتسم لها وهو يجيبها:
_الأسود.
اتسعت ابتسامة رحمة وهي تشير لنور بأن اجابته صحيحة، الجميع كان يترقب لحظة شماتة عتيقة مثل تلك التي سلبت منهم، فاتجه السؤال التالي لياسين، فسألته نور:
_مليكة أيه أكتر أكلة بتحبها؟
اجابها بعنجهيةٍ وهو يعدل جرفاته:
_سهلة دي... الاستربس.
كشرت عن أنيابها وتعصب نبرتها:
_غيرها..
خمن قليلًا وهو يتابعها بذهول:
_الشوكولا!
اشارت له نور بالتوقف:
_كفايا عليك اجابتين غلط...
كزت مليكة على اسنانها وهي تصيح بوجهه:
_الرنجة... وانت هتعرف اللي بحبه ازاي طول ما انت مش مركز غير في شغلك وبس..
تدخل عمر سريعًا:
_مليكة بلاش تخلي نور تخرب ما بينكم ابوس ايدك.
اشارت له بسخط:
_نور مش محتاجة تعمل حاجة يا عمر الحكاية واضحة قدامكم اهي.
ابعدت نور المقعد عنها ثم اسرعت اليها لتمنحها ورقة وقلم وقالت وهي تغمز لها بمكر:
_ولا يهمك يا ملوكة الانتقام بالعقاب اللي هتختاريه اكتبي 5 وهو هيسحب عقاب منهم.
ارتسمت بسمة الانتصار على وجهها فدونت بمكر ما توده ثم وضعت السلة امام ياسين الذي ابتلع ريقه بتوترٍ:
_مليكة اوعي تكوني كتبتي شيء صعب والا هنسحب من اللعبة دي.
كادت بان تجيبه ولكنها تفاجئت بمساعدة اضافية من الشباب، فقال جاسم:
_اسحب يا عم وسبها على الله..
بينما قال معتز بشماتة:
_اسحب اسحب... هي ليلة ومش هتعدي
انصاع اليهم ياسين، فسحب احدى الورقيات ثم قرأ محتوياتها بصدمة
«اتصل بوالدك وقوله مفيش فلوس تكمل الفاتورة واطلب منه يجي يدفعلك..»
القى الورقة عن يده وهو يصيح بعصبية بالغة:
_بتهرجوا انتوا الاتنين ولا ايه.. اطلب من مين يدفعلي الفاتورة!!!
اجابته مليكة بعناد:
_بانكل يحيى.. هتكلمه وتقوله معيش فلوس ادفع الحساب..
منحها نظرة قاتلة، قبل ان يصيح:
_مش هعمل كده أنتوا اكيد اتجننتوا.
صدم حينما قال أحمد وهو يلوك طعامه ببرود شديد:
_انت قبلت اللعبة بشروطها وقوانينها ولازم تنفذ العقاب مش كده ولا أيه يا شباب!
أكد رائد حديثه:
_معاك جدًا اطلبه حالا..
اتجهت نظراته تجاه عدي يستنجد به بقوله:
_انت عجبك الوضع ده يا عدي... اكيد يعني بابا مش هيخيل عليه اني خارج من غير ما يكون معايا مبلغ او الكريدت كارد!
جذب عصيره يتناوله وهو يشير له بمكرٍ:
_الحقه قبل يا ينام.
تعالت الصيحات المحمسة فيما بينهما، فجذب الهاتف ثم حرر زر الاتصال والسماعة الخارجية بغيظٍ من نظراتهم جميعًا، فما هي سوى دقيقة حتى اتاه صوت ابيه الناعس:
_الو ياسين!
تردد في اجابته فاشارت له مليكة بغضب، فقال بتردد:
_مساء الخير يا بابا.. كنت نايم ولا ايه؟
=لا يا حبيبي صاحي اهو.. قولي سهرتوا فين وايه سبب المكالمة دي؟
كبت عمر وجاسم ضحكاته بصعوبة، فلكمهم احمد وهو يشير لهم بالصمت، ضغط ياسين على شفتيه السفلية بغيظٍ اتبع نبرته التي نقلت له حرجه الشديد:
_بصراحة يا بابا كنت محتاج مساعدة حضرتك..
بكل جدية اجابه:
_في ايه يا ياسين قلقتني انت كويس!!
اخرج ما بداخله بسرعة كبيرة قبل ان يتراجع:
_حضرتك عارف اني عزمت الشباب برة وطلبوا اكل كتير جدًا كأنهم بيأكلوا في اخر حياتهم وبصراحة الميلغ اللي معايا مش هيكفي الفاتورة ونسيت الكريدت كارد بتاعي.. ولو مجتش تلحقني من الموقف ده هتلقيني واقف بغسل الاطباق في المطعم..
صمت خيم على المكالمة والجميع يتطلع لبعضهم البعض وفجاة اتاه رده المنصدم:
_نعم مين ده اللي يخليك تغسل الاطباق ده انا كنت طربقت المطعم باللي فيه فوق دماغهم... ثواني وجايلك اوعى تتحرك من عندك.
=طب لو ينفع حضرتك تدخل اوضتي وتجبلي فيزا من بتوعي آ..
قاطعه بحدة:
_ليه ابوك مش هيعرف يدفعلك الفاتورة!!... اقفل انا جايلك حالا.
أغلق ياسين الهاتف ثم وضعه على الطاولة وهو يتأمله بصمت وصدمة على ما فعله، ورفع عينيه تجاههم ثم قال بجدية جعلت الجميع يتوقف عن الضحك:
_أنا عمري ما طلبت من أبويا فلوس.. وحقيقي الموقف كله سخيف!
اجابته مليكة بشماتة:
_مفيش تراجع يا حبيبي ولسه اللعبة طويلة.
_اعتبر الفاتورة مدفوعة يا ياسين... ومعنديش مانع أشاركم في اللعبة دي بس بطريقتي وقوانيني!
اتجهت جميع الأعين تجاه المقعد الاساسي للطاولة بصدمة كممت الافواه، فنطقت مليكة بصعوبة بالحديث:
_بابا!!
اتجهت نظرات ياسين الجارحي تجاه عدي الذي يتأمله بدهشة، فابتسم وهو يتابع صدمته بوجوده بذلك الوقت، ثم قال بثباتٍ اتبع بصرامته:
_تحب تبدأ اللعب ولا أبدأ أن
#أحفاد_الجارحي5...(#ترويض_الشرس!...)
#الفصل_الثالث.
إهداء الفصل للقارئة الجميلة"نسرين عبد العظيم"، شكرًا جزيلًا على دعمك المتواصل لي، وبتمنى أكون دائمًا عند حسن ظنك يا جميلة...قراءة ممتعة 💙)
اعتاد الجميع على مفاجأة ظهور "ياسين الجارحي" بأوقاتٍ يراها هو مناسبة لظهوره، ولكن تلك المرة لم يتوقع أحدّ ظهوره لسفره بصحبة "آية" على متن اليخت، عودته الآن أمرًا جنونيًا للبعض، والسؤال الذي تردد بذهن "عدي" أين والدته إن كان أبيه يجلس أمامه؟
تنقلت أعين "ياسين" بينهم وكأنها تبحث عن لقاء متلهف لرؤياه، فابتسم حينما تعلقت عينيه بابنته الحبيبة، التي أدمعت عينيها بعدم تصديق فهز رأسه لها بأن وعده لها قد تحقق، جلست "مليكة" محلها والابتسامة والفرحة لا تفارقها، أيعقل أن يقطع أباها آلاف الأميال لأجعل وعده لها، مازالت تتذكر أخر مكالمة بينهما كانت بالأمس وأخبرته بأنها بحاجة ماسة إلى صديقها وأخاها وأبيها، فاتاها مهرولًا وتحمل عناء ساعات السفر لأجلها هي، وكان مستعدًا لخوض آلاف الحروب لأجلها ، تحمست لوجوده وودت لو انفردت به فهز رأسه بخفةٍ وكأنه علم بما يجوب بخاطرها، اشارته منحتها وعد مجددًا ولكنها تعلم بأنه سيوفي به حينما يختار وقته الصائب، عادت نظرات ياسين لحدتها فور أن التقت بشبله الصغير الشرس، وجده يتأمله بصمتٍ كسره حينما قال:
_فين ماما؟
تجاهله "ياسين" عمدًا ثم أشار للنادل بيده فأتى وهو يردد:
_تحت أمرك يا فندم.
اشار باصبعه على الطاولة فعلم ما يوده، لذا أسرع بمعاونة زملائه باخلاء الطاولة من أطباق الطعام والمشروبات، عاد الصمت يفرد سيطرته عليهم ولكن تلك المرة بترقبٍ لسماعٍ أي شيء قد يخرج على لسان من تتبعه النظرات المهتمة، حرك "ياسين" السلة التي تحمل أوراق العقاب بين يديه ببسمةٍ ساخرة، اتسعت على شفتيه وهو يقرأ ما دون لياسين على الثلاث ورقات، فوجدهم جميعًا تحمل نفس العقاب، حانت منه نظرة جانبية تجاه الجانب الذي يشمل الفتيات، فاخفينا وجوههم بحرجٍ، انفلت عن وجوههم حينما أعاد الورقات داخلها من جديدٍ، بقرارٍ عدم الافصاح عن سرهم، وكأنه يؤكد لهن بأنه يساندهن وليس ضدهن، استند بجذعيه على الطاولةٍ واستمتع بلحظةٍ تأمله البطيء الذي يزرع القلق في نفوس الشباب، ليختم سطور صمته القاتل حينما تحرك لسانه لينطق عما يود قوله:
_اللعبة اللي اختارتوها مسلية بس للأسف مفهاش إثارة!
وحينما أشار بأصبعه لمن يقف على بعد مسافة منه، هرول السائق إليه ثم وضع من أمامه ملفين قد أتى بهما من السيارة، تعمد "ياسين" أن يدفعهما بقوةٍ على الطاولة لتصل للمقعد الذي يعتليه ابنه، فتفحص الملفين وهو يتساءل بدهشةٍ:
_ده أيه؟
تركه يفتحهما على مهلٍ ثم قال والمكر يتراقص بين حدقتيه:
_زي ما أنت شايف صفقتين مهمين جدًا لشركتنا.. ويهمني أننا ناخدهم الاتنين.
مال "ياسين" وعمر" برأسهما تجاه الملف الذي يحمله "عدي" الجالس بالمنتصف، فانعقد حاجب "ياسين" بذهول اتبع قوله المندهش:
_بس يا عمي الصفقتين بينافسوا بعض، أكيد المناقصة هترسى على عرض واحد من الاتنين!
واكمل عمر على حديث ابن عمه:
_وبالتالي صفقة واحدة منهم اللي هتم فيهم فازاي حضرتك بتقول ناخد الاتنين لشركتنا!!
مازالت عينيه تراقب من يتطلع له بصمتٍ، وكأنه يحاول استكشاف ما يود أبيه صنعه تلك المرة، وأتاه صدق ما يشرد إليه عقله حينما قال "ياسين" ومازالت عينيه تتعمق بالتطلع للأخير:
_ازاي دي بتاعت ولي العهد اللي اختار مكاني في الادارة.. ولازم يكون أد منصبه ويحل أي مشكلة ممكن تواجه المقر زي ما انا كنت هعمل بالظبط.. والإ مش هيكون جدير بالمنصب ده ولا أيه؟
ارتعب الجميع من خوض "عدي" حربًا ضد "ياسين الجارحي" من جديدٍ، فامتعضت الوجوه حينما أجابه بكبريائه اللعين الذي لم يتخلى عنه أبدًا:
_اعتبر الصفقتين تبعة لشركات الجـارحي.
ووضع الملفين على الطاولة، ثم أخذ يراقب ردة فعل أبيه حينما يكرر سؤاله على مسمعه مجددًا:
_هي ماما مرجعتش مع حضرتك!
مال "ياسين" بمقعده جانبًا وبحركة فزعت الجميع جذب أحد المقاعد المصفوفة على طاولة فارغة من خلفه، ثم وضعه قريبًا من مقعده وهو يشير لعدي بأن يعتليه، فعلم بأنه يود الحديث معه دون أن يستمع إليهما أحدًا، فنهض واتجه للمقعد القريب من أباه للغاية، جلس وهو يراقب ما سيقوله، فمنحه ياسين بسمة خبيثة ختمها بقوله الساخر:
_شايفك قلقان على مراتي وهي معايا المفروض قلق تحديك ليا هو اللي يسيطر عليك، ومن بعده الخوف من اللي جاي لانك لو خسرت الصفقين دول مكانك جوه الشركة أنا اللي هحدده.
تهدلت شفتيه بابتسامةٍ حملت معنى اللامبالة، فهمس لابيه بصوتٍ منخفض:
_مبقتش أخاف من الحرب اللي هواجهها مع حضرتك.. تقدر تقول اتعودت عليها والتعود بيولد خبرة يا باشا.
اتسعت ضحكة "ياسين" حتى باتت مسموعة فازداد قلق الجميع لما يحدث بينهما من منواشات سرية خطيرة، وخاصة خينما توقف عن الضحك وبملامحٍ جادة للغاية قال:
_والتعود ده بقى مسيطر عليك حتى وأنت شايف شخص متدني عينه زاغت على والدتك وأنت واقف وراضي عن كلامه الحقير ده.
رمش بعينيه بتوترٍ من معرفته بما حدث بالمشفى حينما مرضت "آية" على طريق سفارها مع "عدي" لشراء بعض المستلزمات، فاسترسل "ياسين" حديثه بتوعدٍ مهلك:
_أنت دلوقتي بتواجه عقابي... زي ما ناله الحقير ده.
احتدت نظراته تجاهه، فجذب ياسين عصيره ثم ارتشفه على مهلٍ وهو يجيبه ببرودٍ:
_مش كل العواقب بتكون برفع الأيد يا حضرة الظابط.. في قرصة ودن بتعلم من غير ما تأذي الجسم.
وغمز بعينيه بمكرٍ:
_وأنت أكتر واحد فاهم الكلام ده ولا أيه!
اشتعل الغضب بداخله لاستهزاء أبيه الصريح على انفعالاته بالتعامل، وكأنه يذكره بالفرق الصارخ بينهما، يقارن هدوئه وحرفيته بحل الأمور بتهوره الشرس، فليس كل عقاب يشمله العنف الجسدي، ربما لدغة صغيرة تمس عمله أو معاتبه مديره لما يفعله الطبيب مع مرضاه من مغازلةٍ غير مرضية بالمرةٍ وخاصة لشخص مثل "ياسين الجارحي" كانت كافية، عاد لينتصب بجلسته بشموخٍ، فقال بجمودٍ سيطر عليه فجأة وصوت مسموع للجميع:
_وجودي هنا النهاردة بالرغم من سفري عشان أكدلكم أني حتى لو بعيد فأنا أقدر أكفي بواجباتي كويس، والمرادي مجاليش شكوة واحدة.. سبق وقولتلكم اللي هيزعل بنت من بناتي هحول حياته لجحيم واللي بيحصل ده لازم يتحطله حد..
ابتلع "رائد" ريقه بصعوبةٍ بالغة، بينما عبث "جاسم" بالمناديل الورقية من أمامه، اما "حازم" فكاد بالسقوط أسفل الطاولة من فرط انحناءة جسده للأسفل، أما أحمد فقال بابتسامةٍ هادئة:
_وجودك بينا يا عمي هو اللي حلى القعدة دي.. حتى لو جاي عشان تنصف البنات مش مهم المهم ان حضرتك رجعت.
رغمًا عنه ارتسمت بسمة صغيرة على وجهه الجامد، فأحمد بمثابةٍ ابن حقيقي له، فقال بمحبةٍ اتبعت نبرته الدافئة:
_أنا راجع تاني يا أحمد.. بس حبيت أبين للاساتذة اني موجود حتى لو كنت بعيد!
ارتبك الشباب في وجوده بينما رفعت الفتيات رؤؤسهم بتفاخرٍ بوجود حليفهم القوي والسند الذي لا يستهان به، وكأنهن أتين بمن نصفهم على الظلم القابع عليهن، كالطفل الصغير الذي تعرض لعقوبة وظلم طائل، فلجأ لوالده الذي لم يخيب ظنه، فعاد لمن تسبب له بالأذى متبخترًا لاتباع أبيه له وحرصه على رد العقوبة لمن فعل أذيته بابنه الصغير!!
عاد صوت "ياسين" يزلزل مسمع الجميع من جديد حينما أضاف:
_ الزوجة عمرها ما كانت مطالبة انها تكون خدامة ومربية للاولاد عشان تيجوا انتوا وتهينوا بناتي على أخر الزمن.. مفيش أكتر من الخدم بالقصر وكان بإمكاني اجيب للاولاد مربية بس أنا مش حابب ده.. زي ما أنا مش عايز الشغل ياخدكم عن اولادكم عشان تقدروا تزرعوا فيهم اللي ربناكم عليه مش عايزكم كمان تقصروا مع زوجاتكم.. لان الاتنين زي بعض.. علاقتك مع ابنك مش هتكون قوية وفي اضطرابات ومشاكل بينك وبين مراتك ياريت نفهم ده كويس.
وبهدوءٍ استرسل:
_أظن كلامي اتفهم كويس؟
وحينما لم يأتيه رد اعتراضي عما قال.. هز رأسه وهو يردد:
_عظيم.. ودلوقتي حابب أكون مع بنتي شوية.
تفهم الجميع طلبه الخاص، فبدأ الحضور بالإنسحاب للخارج، وحينما وجد من يتبعهم قال ومازالت عينيه على ابنته:
_استنا أنت بره يا ياسين.
استدار تجاهه وهو يهز رأسه في طاعة:
_حاضر يا عمي.
واتبع الجميع للخارج، فنهضت "مليكة" عن مقعدها البعيد عن أباها، ثم جلست على مقعد "عدي" القريب منه، فقالت بحماسٍ وفرحة جعلت وجهها يشع بها:
_مش مصدقة أن حضرتك جيت هنا النهاردة أنا لسه مكلماك امبارح!
رفع يده ليحتضن وجهها بين يده، واليد الأخرى تعدل من حجابها الذي تراجع بفوضوية للخلف، وقال بابتسامةٍ ظهرت أسنانه:
_قولتلك اني هكون جنبك وهقرص ودن اللي زعلك حتى لو كنت في أخر الدنيا.. اللي يمس بنتي الوحيدة يمسني أنا شخصيًا.
أدمعت عينيها تأثرًا بحديثه، فضمها "ياسين" لأحضانه فتعلقت به مثلما كانت تفعل بطفولتها وقالت بصوتٍ باكي:
_متتأخرش أنت وماما أكتر من كده.. مفتقدة وجودكم جنبي.
ربت على خصرها بحنوٍ وهو يخبرها:
_أنا جنبك على طول يا ملاكي.
وأبعدها عنه وهو يشاكسها بشكٍ:
_وبعدين أنا بعيد عنك فين أنا مش بكلمك كل يوم!
هزت رأسها بتأكيدٍ، فعاد ليخبرها بمميزات ما يفعل لأجلها:
_حد في اخواتك كلهم بيعرف يتواصل معايا غيرك؟
هزت رأسها بالنفي، فابتسم وهو يخبرها:
_عشان تعرفي أن مفيش حد في غلاوتك عندي.. "ياسين الجارحي" معندوش غير بنت واحدة وممكن يهد الدنيا عشان دمعة واحدة من عنيها ولا أيه؟
ابعد الدموع بأصبعه عن عينيها فابتسمت بفرحةٍ اتنقلت اليه، فقال وهو يشير لها بخبث:
_يلا نهد الدنيا مع بعض!
فشلت بفهم المغزى من حديثه الغامض فلم تعي بما يقول الا حينما وجدته يشير لياسين الذي يترقب اشارة منه، من خلف الباب الزجاجي التابع للمطعم، فما أن وجده يشير له حتى ولج للداخل وأسرع إليه وهو يردد باحترامٍ:
_تحت أمرك يا عمي.
أشار بعينيه تجاه المقعد الذي يقابل "مليكة":
_اقعد.
انصاع لأمره، وجلس على الفور، فتعمق تجاهه بنظرةٍ مطولة اتبعها نبرته الخشنة:
_كل أب في الدنيا أناني في حب أولاده، وأنا كمان بالرغم من إني بعتبركم كلكم أولادي بس غصب عني عندي الأنانية دي.. اكتفيت باللي عملته مع ولاد عمك لكن معاك أنت لأ!
ازدرد ريقه بتوترٍ، وخاصة حينما استرسل حديثه الغامض الذي يتخلله المرح بالرغم من حدته:
_بنتي لو اشتكتلي منك تاني يا ياسين مش هحارب عدي بس سامعني!
اتنقلت نظراته لزوجته التي اعتلى وجهها الخوف بالرغم من أنها من دفعت لكل ذلك، فبدأت ملامحها بالارتخاء حينما قال أبيها:
_أنا مش راضي عن تصرفاتك كلها يا ياسين، وخصوصًا باللي بتعمله أنت وأحمد بالمقر.
اندهش من معرفته بالأمر، ففجأه ياسين مجددًا:
_اوعى تكون فاكرني مش عارف باللي بيحصل جوه شركاتي، أنا سايبك كل المدة دي عشان تراجع نفسك وتفوق ومن واجبي لما ألقيك اتماديت أفوقك انا.
وأشار له بحدةٍ وتعصب طال نبرته المنفعلة:
_سبق وجيت على نفسك وبيتك وبنتي وعشان كده نقلت عدي وعمر للمقر وبعد اللي عملته ده لسه مصمم تبذل مجهود يفوق طاقتك وكل ده ليه فهمني!
واسترسل باستهزاءٍ وعينيه تتابع الفراغ:
_كنت فاكر أن وجود البيه هيفرق بس الظاهر إني كنت غلطان لأنه زاد من أحماله عليك وعلى أحمد!
أجابه"ياسين" بهدوءٍ:
_صدقني يا عمي عدي بيبذل مجهود كبير عشان يكون أد المنصب ده، لو حضرتك شوفت هو بيدرس أيه أو مهتم يوصل لايه هتقدر تفهم إن آآ..
استوقفه عن الحديث عن أمره:
_أنا اللي عايزك تفهم إن سعادة بنتي مرتبطة بيك يا ياسين، وأنا مش هسمحلك تحرمها من أبسط حقوقها... كلامي انتهى هنا ومش هيتفتح تاني، اتمنى تكون استوعبته وفهمته.
نهض حينما وجده ينهض عن مقعده، فلحقت به "مليكة" وهي تتساءل بلهفةٍ:
_حضرتك هتسافر تاني؟
استدار "ياسين" تجاهها وقد انقشع قناع الصلابة والجمود عن وجهه، فمنحها ابتسامة هادئة وهو يخبرها:
_لازم يا حبيبتي.. أنا سبت ماما في اليخت لوحدها، بتمنى انها متقلقش من نومتها غير بكره الصبح والا حالة الرعب اللي هتكون فيها مستحيل هسامح نفسي عليها.
راقبته وهو يغادر والابتسامة مرسومة على وجهها السابح في بحر من الهيام، لم تفق منه الا على صوت زوجها المتساءل:
_مش هنمشي ولا هنقضي الليل هنا!
حاوطها الغيظ ليبدد كل تلك القلوب المنعكسة من عينيها وهي تراقب أبيها يغادر لسيارته الخاصة، فصاحت بانفعالٍ ساخرٍ:
_الناس اللي بتفهم بالرومانسية مقضين ليلتهم على يخت في عرض البحر وإنت بتقولي هنقضيه بالمطعم.. مفيش فرق عمرك ما هتتعلم.
مرر يده بين خصلات شعره يرتبه بفوضويةٍ وبنفاذ صبر أجابها:
_مليكة بلاش تقارنيني بياسين الجارحي لأن مينفعش حد يتقارن بيه!
بسمة مغرورة لاحت على شفتيها:
_أكيد.. عمر ما حد فيكم هيبقى زيه في يوم من الأيام.
بابتسامةٍ مسالمة لا تستهدف معركة طاحنة بينهما:
_براڤو يا عمري.. ودلوقتي بينا نرجع البيت عشان عندنا حساب لازم نصفيه مع بعض في جو رايق.
ابتلعت ريقها الجاف بتوترٍ جلي، اتبع اشارتها الصارمة له:
_متفكرش إن عشان بابا رجع إن ماليش حد.. تليفون صغير وهتلاقي عدي وعمر في انتظارنا بالبيت.
تعالت ضحكاته الرجولية الساحرة، فصمد بعد محاولات مستمية وهو يخبرها:
_لما تحبي تتحامي في حد مش هتلاقي غير حضني تتحامي فيه حتى لو كان مني ولا نسيتي!
كلماته زرعت بداخلها عاطفة قذفتها لموج من الرغبة به وخاصة حينما داعب ذقنها بحركةٍ دائرية نفذت لداخلها، وجدت ذاتها تنصاع ليده التي تقربها منه، شعرت وكأن العالم ينتهي عند تلك النقطة التي انهت من خلفها الجدال والمعارك الزوجية التي ربما لا نهاية لها عند النساء، هرولت المشاعر لتلاحق تبعيتها بعشقٍ، ولوهلةٍ توقف عن عناقها حينما همست له بخفوت:
_ياسين!!
نداء يستنكر قربه الغريب في مكانٍ كذلك، ربما قلة من يتواجد به لغسق الليل الذي استحوذ على مسائه الليلي من جعل المطعم شبه خالي من حولهما، ابتعد عن وجهها وهو يتفحص مدخل المطعم الجانبي فجذبها من خلفه وهو يشير لها:
_تعالي.
حاولت ان توقفه وهي تخبره:
_باب الخروج مش من هنا!
لم يبطئ من خطواته أو حتى التفت اليها ليجيبها عما يضمره، وجدت مليكة ذاتها أمام استقبال خارجي يؤدي للفندق الاساسي التابع للمطعم، فوجدته يحجز غرفة لهما به، التقط "ياسين" مفتاح الغرفة من العاملة، ثم صعد بصحبتها للغرفة، فما أن ولجوا معًا للداخل حتى عاتبته باستنكارٍ:
_أنت ازاي متقوليش على حاجة زي دي، هنفضل هنا ازاي ويحيى ابني لوحده!
تغاضى عن أي شيء ستذكره في تلك اللحظة التي يواجه بها طوفان سيغرقه حتمًا، يصارع لموتٍ يجده بقربها نجاة!
دنا منها ليقتبس من ريحق ما تخفيه خصيصًا له، وحينما ابتعد همس وهو يلتقط أنفاسه:
_يحيى مبقاش ولد صغير عشان تخافي عليه!
ثم قال بابتسامةٍ خبيثة وهو يقترب منها:
_مش عايزك تفكري في حد تاني غيري!
*******
بالخارج..
وجده يستند على سيارته بانتظاره، فما أن رآه "يحيى" حتى دنا منه وهو يسأله بضيقٍ متعجب لما يحدث:
_أنا مبقتش فاهم حاجة.. الصبح اتكلمنا وقولتلك عن الصفقين بليل اتفاجئ بيك بتكلمني وبتقولي احضرلك الملفين وأقابلك في نفس المكان اللي فيه الاولاد!... والأهم من ده كله انت جيت هنا ازاي وهترجع لليخت ازاي!
بسمة ياسين الثابتة جعلته ينزوي غيظًا من طباع رفيق دربه التي لن يغيرها الزمان، فقال بيأسٍ:
_أنت ناوي على أيه يا ياسين!
ضيق حاجبيه بسخطٍ وهو يتأقلم مع سؤاله المعتاد، فقال بنفاذ صبر:
_يحيى أنت مملتش من سؤالك اللي كل ما تشوف وشي تسأله ده.. أنت ليه شايفني عميل سري!!
نظرة ساخرة حانت منه قبل أن يلحقه قوله:
_عميل المخابرات وشه مكشوف جنبك يا ياسين يا جارحي!
ابتسم وكأن جملته نالت استحسانه، ثم عاد ليتساءل:
_فين ياسين!
أشار على السيارة وهو يجيبه:
_نام في الطريق.. الوقت متأخر جدًا.
لم ينتظر لسماع باقي جملته، بل اتجه لسيارته ثم صعد للمقاعد الخلفية، تاركًا الباب من خلفه، تبسم وجهه وهو يتأمل حفيده يغفو بهدوءٍ صنعه لنفسه بتلك المساحة الآمنة، قرب ياسين يده منه فمررها على رأسه بحنانٍ وحب، كم ود بألا يوقظه بتلك اللحظة ولكنه بحاجة للحديث معه قبل أن يغادر بطائرته الخاصة، فناداه بصوتٍ منخفض حتى لا يفزع:
_ياسين..
مجرد سماعه لصوته فتح الصغير عينيه بعدم تصديق لما التقطته آذنيه التي لم يصدقها بالوهلة الاولى، فاتسعت حدقتيه على مصرعها حينما وجده، وارتمى على صدره وهو يردد بعدم استيعاب:
_حضرتك رجعت أمته!
ضمه ياسين اليه وأجابه بشوقٍ:
_مش مهم.. المهم ان مكنش ينفع أرجع تاني من غير ما أشوفك.
تلاشت السعادة المحفورة على وجهه الشبيه لملامحه بشكلٍ كبيرٍ، فقال بحزنٍ:
_يعني حضرتك راجع تاني!
أجابه ومازالت الابتسامة مرسومة على وجهه:
_بالظبط.. وطلبت من إنكل يحيى يجيبك هنا لاني محتاج أعرف منك حاجة مهمة بالفترة الجاية.. ومتحاولش تغلط وحد يحس انك على تواصل معايا.
تساءل باستغراب:
_حاجة أيه؟
علت بسمة المكر على وجهه، فضيق عينيه تجاه الصغير ببسمة خبيثة ستمكنه من معرفة ما يخطط عدي فعله طوال الفترة التي سيبعد بها عنه، وخاصة من سينوب عن الصفقتين، أو بالأحرى سيضع من بوجهة الأخر!
*******
بالقصر..
اللجوء لياسين الجارحي كان بمثابةٍ الصفعة التي طالت وجوه الشباب جميعًا، وترتب على ذلك خوف من القادم، لذا بمجرد توقف السيارات بالخارج هرولت الفتيات سريعًا لغرفهم خوفًا من المواجهة الصادمة بين الاطراف، أما الشباب فجلسوا جميعًا بالحديقة، وحالة الصمت تعود لتسيطر عليهم من جديد، إلى أن كسرها صوت "أحمد" المتساءل:
_هتعمل أيه يا عدي.. الموضوع مش سهل!
استرخى بجلسته على الأريكة وهو يقول بغموض تام:
_مفيش حاجة بيختارها ليا الا لما بتكون صعبة ومستحيلة يا أحمد.. ده المتوقع.
قال "رائد" بمهنية باحتة:
_هو مش مشروع وهتجتهد فيه عشان تكبره دي صفقة يعني مكسب وخسارة.. أنا بقالي بالمجال ده سبع سنين وعمري ما سمعت أن المناقصة ممكن ترسى على نفس الشركة في عرضين! البديهي العرض التاني بيكون من شركة منافسة.
اكد معتز على حديثه:
_عشان كده بقولكم الموضوع ده مش سهل.
ما كان يناقصهم سوى غباء هذا الأحمق الذي قرر الحديث:
_بقولك أيه يا وحش ما تفكك من جو الحرب المندلعة بينك وبين الباشا دي وعيش في أمان الله وكنفه مش لاجل سلامتك ده لاجل انك تربي العيلين أحسن ما يجرالك حاجة وتدوشنا بتربيتهم واحنا اساسا محدش عارف يربي عياله!
رفع عدي رأسه عن حافة المقعد ليرمقه بنظرةٍ نارية، استهدفته فكادت باحراقه، ارتعب حازم بجلسته فنهض وهو يطرق بيده على ساق عمر الجالس لجواره:
_طب استأذن انا بقى لحسن يدوب ألحق الشوط الاخير.
منحه عمر بسمة ساخطة:
_أمن بابك وأنت نايم.. محدش ضامن ممكن يجرالك أيه!
جحظت عينيه بخوفٍ اتبعه في خطاه السريع للداخل، ضحك "معتز" وهو يلحق به قائلًا:
_استني يا حسنية خديني معاكي .
هز رائد رأسه بمللٍ، ثم نهض وهو يشير اليهم:
_اشوفكم بكره يا رجالة.
وغادر هو الأخر فلم يتبقى سوى "احمد" و"عدي" و"عمر"، مرت عليهم ساعة كاملة ومازال أحمد يطرح اقتراحات مبدائية لحل تلك المعضلة، حتى عمر حاول جاهدًا بإيجاد أي حل قد يناسب أخيه وحينما فشل أخبره:
_عدي محدش فينا اتولد وهو عنده الخبرة الكافية اللي تخليه يبقى الليدر.. مش عيب انك تطلب مساعدة بابا وتسمع اقتراحاته عشان نكسب الصفقتين دول، أنت عارف انه أكتر منك خبرة وأكيد عنده الحل.
حانت منه نظرة جانبية، غاضبة، وبحنقٍ شديد قال:
_أنا معنديش غرور الا في أي شيء يخص ياسين الجارحي.
وتطلع للفراغ وهو يردد بامتعاضٍ:
_لو حلول الدنيا كلها خلصت مستحيل هلجئ لحلك ده.
كبت عمر ضحكاته وتمتم باستهزاءٍ:
_ده لو ضرة هتتحب أكتر من كده.. يا جدع ده أبوك والله أجبلك البطاقة!
بنظرة صارمة وتعابير جادة:
_اطلع نام يا عمر وسبني في حالي.. أنا راجع مش طايق الهوا اللي قدامي.
رفع حاجبيه بسخطٍ:
_أنت طول عمرك مش طايق حد.. يا حبيبي انت محتاج علاج نفسي يؤهلك انك تتقبل الهوا والماء ثم البشر اللي حوليك.
خشى أحمد أن تتصاعد الامور فيما بينهما وياسين ليس لجواره لمعاونته لفض النزاع، وخاصة هذا ال"عمر" الذي اختار وقت غير مناسب بالمرةٍ للمزح القارص، لذا قال سريعًا:
_عمر اطلع أنت نام عشان ورانا شغل كتير بكرة.
انصاع إليه وغادر بصمتٍ تام، بينما ظل أحمد جواره يحاول التواصل لحلٍ، فباغته عدي بسؤال انتابه وهو يتفحص الاوراق بين يده:
_هو مين المنافس العربي اللي ممكن ياخد صفقة من دول يا أحمد؟
أجابه على الفور:
_احنا لينا منافسين كتار بره مصر وجواها يا عدي.
هز رأسه رافضًا لما قاله وهو يبدي وجهة نظره الذكية حول نظرته السريعة:
_لا المناقصة دي لو حد هيعرف ياخدها هيكون عربي..
ابتسم وهو يفكر بحديثه قليلًا، ثم شرح له تفاصيلًا عن منافسين شركات الجارحي، فانتهى عند ذكر اهمهم:
_وأخرهم رجل الأعمال "مهاب أبو العزم" الراجل ده من عتاولة السوق، وبينافس حاليًا شركاتنا.. المخيف ان مفيش مناقصة دخلها الا وكسبها.. سمعت كمان انه مش لوحده ليه أكتر من شريك من جنسيات مختلفة ومبيظهروش.. يعني من الآخر محدش عارف مين اللي بيحركه.
سأله باهتمامٍ وكأنه يستعد مجد التحقيقات لعمله السابق:
_عايش في مصر؟
نفت اجابة أحمد ما قال:
_لا في دبي بينزل مصر كل فين وفين.
لاحت على وجهه بسمة ماكرة، فتابع تأمل الورق بشرودٍ جعله مغيب عن سماع باقي حديث أحمد حتى حينما أخبره بأنه سيصعد لغرفته لتأخر الوقت، وبعد رحيله بدقائق، أخرج عدي هاتفه ثم اختار احد الارقام ومرر زر الاتصال وهو ينتظر سماع صوت رفيقه، وبعد دقيقتين اتاه صوته التاعس يردد:
_خير.. في حد يطلب حد بالوقت ده!
صوته الحازم اتى عبر الهاتف ليعبر آلاف الاميال:
_مازن.. فوق واسمعني.
تثأب بنومٍ:
_فوق واسمعني دي بطلنها من ساعة ما سبنا المهنة رجعتلها تاني يا وحش ولا أيه!
بعصبيةٍ قال:
_قوم حالا أغسل وشك وفوق بدل ما اتصل بمروج واخليها هي اللي تفوقك.
صوته الخائف أخبره:
_بلاش بنت عمك الله يكرمك العيال مطلعين عنيها ومصدقت تنام جنبهم هتيجي تفتحلي مرشح ومحاضرة وقتية عن جحود قلبي اللي سابها تعاني معاهم ليل نهار.. العملية مش ناقصة.
وهرع لحمام غرفته ثم غسل وجهه عدة مرات وهو يخبره:
_اهو فوقت... وكلتا أذني صاغية.
قال بجدية تامة:
_عايزك تعرفلي معلومات عن رجل أعمال مقيم عندك في دبي اسمه "مهاب أبو العزم".
رد عليه بشكٍ:
_ليه عملك أيه البائس اللي ربنا وقعه في طريقك ده!
بفتورٍ صرخ به:
_شايفني سفاح! الموضوع مرتبط بالشغل مش أكتر.
طرق بيده على الكوماد وهو يردد بتذمر:
_أنا سبت الداخلية وسبتلك مصر كلها وبرضه مشغلني عندك.. طب أروح فين تاني يا جدع المالديف!!
ناداه بتهديد مبطن:
_مــازن اتعدل احسنلك.
اجابه بنفورٍ:
_اتعدلت..حاضر اديني يومين تلاتة وأنا هحاول اجبلك المطلوب.
_لا.. هما 24ساعة بس ويكون عندي كل التفاصيل اللي تخصه.
_ليه يا عم.. حد قالك اني بنجم!!
_لا اللي قالي، قالي انك كنت ظابط شرطة وتقدر تعمل أكتر من كدا.
وبدون أي مبررات أغلق الهاتف بوجهه، ليردد الأخير بغضب:
_بيتصل وبيقفل بمزاجه، من يوم يومك وإنت مفتري!
*******
بغرفة" أحمد"
السكون يخيم على أجوائها الغير مستقرة بذاك الوقت، فبدا إليه الأمر غريبًا بعض الشيء، وخاصة حينما لم يجدها بالفراش، فاختار أن يناديها عله يتأكد من إنها بالغرفة:
_أسيــــل!
حسم أمره بالتوجه للبحث عنها بالشرفة المنيرة، وما كاد بالتحرك حتى تصلب جسده حينما شعر بثقل جسدها الملقي على ظهره، ويدها التي تحتضنه، رأسها كان يميل على كتفيه العريضة، وأنفاسها القريبة تهمس:
_وحشتني.
رفع يديه يحتضن يدها التي تتشبث به، والابتسامة الهادئة تزين شفتيه التي نطقت لتريح ما يزعج الأخيرة:
_متقلقيش أنا مش هعاتبك في اللي عملتيه لاني فعلًا غلطت في حقك.
وجذبها أحمد لتقف مقابله، ففركت أصابعها بارتباكٍ من مساندتها للفتيات بتلك الحرب في حين بأنه لم يقدم لها سوءًا من قبل، فبالرغم من انشغاله الا حينما كانت تحتاج لوجوده كان يترك كل شيء ويأتيها متلهفًا، حتى حينما تتصل به هاتفيًا لتثرثر بحديثها الذي لا نهاية له، كان يسمعها بصدرٍ رحب مثلما اعتاد، ولم يطلب منها مرة بأن تغلق المكالمة لانه بالعمل، خلع أحمد جاكيته ثم حرر الجرفات بضيقٍ من تحملها طوال اليوم، وجلس على المقعد يحرر حذائه وهو يسألها باهتمامٍ:
_احكيلي بقا يومك كان عامل ازاي؟
جلست مقابله بحماسٍ وهي تقص له عما فعلته طوال اليوم، وبالأخص الجزء المتعلق باتفاقية الفتيات وتحريض نور لهم، قهقه أحمد عاليًا وهو يسمع لحديثها ثم قال باستمتاعٍ:
_ملقتوش غير ياسين الجارحي؟ مفيش أحلى من كده حلول!
اتبعته "أسيل" وهو يتجه لخزانته الخاصة، ففتح ازرر قميصه وهو يستعد لارتداء منامتة من القطن، وهو يتابع حديثها بتركيزٍ، فصاحت بحدةٍ:
_بتضحك ما احنا مخلناش حاجة غير وعملناها هنعمل أيه تاني!
انتهى من تبديل ملابسه ثم خرج ليقف قبالتها وهو يرفع يده باستسلامٍ:
_حبيبتي انتي تعملي اللي تحبيه.. المهم انك حررتي الطاقة السلبية اللي جواكي ولا لا؟
ابتسمت بسعادة وهو تخبره براحة كبيرة:
_لا أنا انبسطت جدًا جدًا.
حك رأسها بأصابعه وكأنه يداعب طفلًا صغيرًا:
_وهو ده المهم.
اتجهت من خلفه للفراش، كالصغير الذي يتتبع خطى أبيه، فجذب احمد الغطاء حتى تمددت لجواره، ثم فرده عليهما وهو يستمع لباقي حديثه الحماسي:
_بس يا سيدي الدنيا هادية وعدم وجود ماما وطنط آية وطنط يارا مخلينا ناخد حرية في اتخاذ القرارات لو موجودين كانوا هيهدوا الدنيا وكعادتهم هيصبرونا على الابتلاء اللي احنا فيه لكن طنط ملك وطنط دينا عسلات سيبنا براحتنا.
اخفى وجه الصديق المرحب بسماع أقرب صديقاته للنهاية، ثم أستحوذ على جانب الزوج المحب لمعشوقته، فدنا بوجهه منها وهو يتساءل بعتابٍ:
_ بقى أنا ابتلاء! بالذمة ده كلام؟
جحظت عينيها بصدمةٍ لما خانها لسانها على قوله، فقالت بضحكة ظنتها ستنهي الأمر:
_أنت احسن ابتلاء.. ثم إن ربنا سبحانه وتعالى مش بيبتلي العبد الا لما يكون بيحبه فأكيد بيحبني عشان يبتليني بيك ولا أيه!
تجعد جبينه من فرط دهشة وجهه فأشار لها بسخريةٍ:
_بلاش تحللي الأمثال تاني يا أسيل.
باقتناعٍ قالت:
_أنا بقول كده برضه.
هز رأسه بابتسامةٍ ساحرة، وقال بخبث تشكل بنبرته الجادة:
_انتي كنتي بتقوليلي حاجة مهمة أول ما دخلت وأنا مخلتكيش تكملي كلامك.
رمشت بعينيها الساحرة كمحاولة للتذكر:
_أمته ده؟!
رفع الغطاء فوق رؤؤسهما، ثم جذبها اليه وهو يهمس لها بخبثٍ:
_هفكرك.
********
الظلام يملئ الغرفة الا من طاقة نور صغيرة تأتي من المصباح الصغير الموضوع جوار الفراش، انتظام أنفاسها جعله يتيقن بغفلتها الغير مصطنعة، فأبدل "عمر" ملابسه ثم تمدد لجوارها على الفراش وهو يراقبها بابتسامةٍ هادئة، وسرعان ما غفى سريعًا، ولم يطول بنومته فبدأ بفتح عينيه على صوتها المتقطع، فوجد العرق يغمر وجهها بغزارة، حركاتها المنفعلة جعلته يخمن ما تراه بنومها، وخاصة حينما همست بخفوتٍ:
_حلا... لأ.
لا يريد أن تعود لذلك المطاف الشاق الذي بذل كل ما بوسعه ليجعلها تنسى ما خاضته بتلك الفترة، لذا حركها برفقٍ وهو يناديها:
_نـور.. افتحي عيونك ده مجرد حلم.
لم تنصاع ليده لذا لم يكن هناك سبيلًا أخر سوى جذبها عن الوسادة إليه، ففتحت عينيها الباكية وهي تمتم بألمٍ مزق نياط قلبه:
_حلا.. بنتي!
احتضن وجنتها بين أصابعه وهو يجبرها على التطلع له وسماع ما سيقول:
_اهدي.. حلا كويسة وفي أوضتها.
اغرقت عينيها بالدموع وصوتها الباكي يخبره:
_هاتها.
أشار لها بتفهمٍ وسرعان ما نهض عن فراشه ليسرع لغرفة ابنته الرضيعة القابعة لجوار غرفته، فحملها بين ذراعيه بحرصٍ بالا يوقظها ثم عاد ليضعها بين يدها، فضمتها لصدرها وعينيها تتشبع بملامحها، تارة تقبلها وتارة تزيح دموعها وعمر مازال يراقبها بحزنٍ اتبع نبرته التي حملت وجع عالم بأكمله:
_لحد أمته هتفضلي كده يا نور... الزعل وحش على اللي في بطنك.
رفعت عينيها إليه وكأنها تشكو له مرارة ما تواجهه كل ليلة، شعر بأنها تود الحديث معه ولكنها تخشى أن يعنفها مثلما تفعل كل مرة، فمنحها نظرة حنونة واحتواء جعلها تنفجر بالبكاء وهي تردد:
_أنا السبب في موتها.. أنا السبب يا عمر!
ضمها إليه ومازالت تضم الصغيرة، فعاد نفس جملته التي يخبرها بها كلما تصمم على قولها هذا، ولكن تلك المرة قالها بهدوءٍ:
_ قضاء الله نافذ يا نور.. ربنا اختارها واختارلها الطريقة اللي ماتت بيها.. عشان خاطري بلاش تلومي نفسك على حاجة انتي مالكيش ذنب فيها.
رفعت وجهها تجاهه وبانفعالٍ تفاجئ به "عمر" قالت:
_أنت السبب.. أنت اللي صممت تسمي بنتي حلا... كأنك مصمم تفكرني باللي عملته.
جحظت عينيه في صدمة ألجمته عن الحديث، فتثاقلت كلماته وهي تحاول الخروج عن منطقها:
_معقول يا نور شايفاني كده!! انتي معترضتيش على الاسم لما ولدتي جاية دلوقتي وتتهميني الاتهام ده!
صرخت به مجددًا وكأنها تحاول التنفيس عما يجوب بداخلها:
_كنت مجبورة اسكت لاني كنت حاسة انك حابب تعاقبني.. سكوتك نفسه عن اللي حصل كان عشان كده.
صراخها أفزع الصغيرة التي بكت بين يدها، حملها عنها عمر ثم نهض وهو يربت على ظهرها بحنان حتى غفت على كتفيه مجددًا ومازالت نظراته الصامتة تحيط بها، فقال وهو يتجه لغرفة ابنته:
_سكوتي كان رضا بقضاء ربنا وابتلائه..أنا مقدر الحالة اللي أنتي فيها عشان كده مش هحاسبك على اللي قولتيه ده وأنتي أكتر واحدة عارفة حسابي عامل ازاي..
وتركها وغادر في صمت، فأغلق باب غرفة ابنته من خلفه، ثم تمدد جوار الصغيرة بألم، استهدفته كلماتها في مقتلٍ فلم يعاتبها يومًا على ما فعلته لانه لا يرى بأنها مخطئة أبدًا عكس ما ترى هي ذاتها به..
استندت "نور" برأسها على الفراش، وأغلقت عينيها بقوةٍ وهي تحارب ذكرى هذا اليوم التعيس، فعادت لترى من أمامها شبح الماضي المجسد كتسجيل لا يخص سواها، فما مر على معرفتها لحملها سوى أسبوعًا واحدًا حتى بدأت أعراض الحمل تسيطر عليها بشراسةٍ، فمنذ الصباح ويهاجمها دوار وصداع استهدف رأسها، فظلت طريحة الفراش منذ الصباح، استمعت لطرقات باب الغرفة فخرج صوتها شاحب كحال وجهها الأصفر:
_ادخل..
ولجت "آية" للداخل بابتسامتها الرقيقة، ثم اقتربت من الفراش وهي تسألها بلهفة:
_مالك يا حبيبتي.. من الصبح مخرجتيش من أوضتك؟
اتكأت بمعصمها على الفراش، ثم حاولت الاستقامة بجلستها وهي تجيبها بإعياءٍ شديد:
_من امبارح مش عارفة أنام من التعب ومش قادرة ارفع دماغي..
جذبت "آية" كوب العصير عن الطاولة التي تضم طعام الافطار كاملًا:
_عشان مبتكليش كويس.. اشربي العصير ده وأنا كلمت عمر عشان نروح للدكتور ونطمن وزمانه على وصول .
منحتها ابتسامة صغيرة، ثم جذبت منها الكوب وهي تخبرها:
_حاضر هشربه.
خرجت احدى الخادمات من حمام الغرفة، ثم اقتربت لتخبر نور:
_الحمام جاهز يا هانم.
أومأت برأسها فغادرت الاخيرة، بينما تساءلت "آية" وهي تبحث عن الصغيرة بدهشةٍ :
_أمال فين حلا؟
أجابتها نور وهي تفرك رأسها بوجعٍ:
_لسه نايمة.
هزت رأسها وهي تشير لها:
_خلاص قومي خدي حمامك واجهزي وأنا كمان هروح البس عشان أول ما عمر يوصل هنتحرك بإذن الله..
جذبت نور المنشفة ثم اتجهت للحمام بتعبٍ شديد، فوجدت الخادمة قد ملأت البانيو بالمياه الدافئة ومغسولها المفضل، خلعت مئزرها ثم استرخت بالمياه وهي تحاول انعاش جسدها الهزيل، وما ان انتهت من حمامها البطيء حتى اتجهت للخزانة في محاولةٍ للاستعداد، شعرت نور باختلالها وعدم قدرتها على الوقوف، لذا تركت الفستان الذي بيدها واتجهت للفراش، وما أن تمددت على الوسادة حتى غفاها النوم بعد ليلة قاسية، مرت نصف ساعة ومازالت تغفو بعمقٍ إلى أن شعرت بابنتها تحرك يدها وهي تمتم بكلماتٍ غير واضحة، سحبت "نور" يدها وهي تردد بإنزعاجٍ:
_سبيني يا حلا أنا تعبانه ومش قادرة أقوم.. روحي العبي بألعابك.
انكمشت تعابير الصغيرة بحزن، واخذت تعبث بما تتلاقفه يدها، وسرعان ما تحول حزنها الطفولي لفرح وهي تلعب بأغراض نور، مرت الدقائق ومازالت الصغيرة تستكشف كل إنشنٍ بالغرفة، حتى تسللت لحمام الغرفة، استندت على الحائط وهي تخطو خطوات غير منتظمة حتى وصلت للبانيو الذي يملأه المياه، راقبت الطريق من خلفها لعلمها بأن والدتها لن تسمح لها بالتواجد بذلك المكان وحينما لم تجدها خلفها مثلما كانت تفعل، جذبت الورود التي تملأ المزهرية الموضوعة جانبًا ثم وضعتها بالمياه وهي تلهو بمرحٍ ومن ثم وضعت ألعابها لعبة تلو الأخرى وكلما طفت على سطح المياه كانت تضحك بطفوليةٍ، احتلها انزعاج غفير لحظة غوص احدى ألعابها، فحاولت جاهدة الحصول عليها وحينما فشلت بالامساك بها لعمق البانيو، جذبت أحد المقاعد ثم صعدت فوق سطحه واخفضت ذراعها بالكامل حتى غلبتها رأسها وسقطت من خلفه، فاختفى جسدها الصغير بداخل البانيو، تحركت ساقيها وذراعيها بانفعالٍ وهي تحاول التقاط أنفاسها، سلبت منها روحها ومازالت تحاول وتعافر حتى توفت غرقًا واستسلمت لموتٍ محتوم لم تشعر به من ازهقها تعب حملها وغفت كمن ارتشفت مخدر قوي جعلها لا تستوعب ما يحدث من حولها، فايقظها صوت هاتفها بعد ساعة كاملة من النوم، تحسست "نور" الوسادة والكومود باحثًا عن الهاتف، وفتحت عينيها بارهاقٍ وهي تتفحص المتصل، رفعت الهاتف على أذنيها وهي تجيب بنومٍ:
_أيوه يا عمر..
اتاها صوته المتلهف:
_طمنيني عليكي لسه تعبانه؟
قالت بنعاسٍ يغلبها:
_أيوه بس مش هروح غير بليل مصدقت أعرف أنام.
اجابها بحبٍ:
_خلاص يا حبيبتي لما تفوقي ابقى رنيلي.
وقبل أن تغلق الهاتف تساءل سريعًا:
_حلا صحيت من النوم؟
=صحيت من شوية.
_خليني أكلمها كانت نايمة الصبح وانا نازل..
نادتها ومازالت عينيها مغلقة:
_حـلا.. حبيبتي تعالي كلمي بابي.
وحينما لم تجبيها رفعت صوتها مجددًا تناديها:
_يا حـــــلا..
قال عمر بدهشة:
_يمكن نزلت تحت..
نهضت نور عن الفراش وهي تجيبه:
_لا الباب مقفول.
واسرعت لغرفة ابنتها وهي تناديها:
_يا حلا انتي فين؟
أي ردًا سيأتيها وقد فارقت ابنتها الحياة تاركت من خلفها ألعابها التي تطفو لجوار جثمانها فوق سطح المياه!
تعلقت عين نور بباب الحمام لثوانٍ وهي تحاول الا تستوعب ما يمليه عليها قلبها وعقلها، وما قيد حركتها نسيانها أن تسرب المياه بعد حمامها، اتجهت بخطوات ثقيلة للمرحاض والهاتف مازال معلق على أذنيها، حتى باتت تقف بالقرب من ابنتها، رمشت بعينيها عدة مرات وهي تحاول استيعاب ما تراه وفجأة انطلق صوتها بصرخة هزت أرجاء القصر بأكمله:
_حــــــــــــــــــلا... بنتي!!!!
أفاقت من ذكرى يومها المؤلم سريعًا، فاختنق تنفسها وكأنها هي من تصارع الموجات، مازالت تتذكر الليالي المؤلمة التي قضتها بعد وفاة ابنتها الاولى، حتى رزقها الله بابنتها الثانية فمنحها عمر نفس الاسم "حلا"، وهي الآن حامل بابن يضم ثمار حبهما للمرة الثالثة، نعم قست عليه بكلماتها وهو الوحيد الذي ساندها واخبرها مرارًا بأنها مشيئة الله عز وجل، ليس بيدها شيئًا، وهي الآن تقسو عليه، نهضت"نور" عن الفراش ثم اتجهت للغرفة الملتصة بغرفتها، ففتحت الباب الجانبي وهي تبحث عنه، وجدته مازال مستيقظًا ويبدو عليه الحزن الشديد، انتبه لوقوفها على باب الغرفة، فاجلت احبالها المنقطعة وهي تهمس ببكاءٍ:
_أنا آسفة يا عمر.
وجد عينيها قد تورمتان من فرط بكائها، فنهض من جوار ابنته ثم وضع الوسادة ليحميها من السقوط أرضًا، وأسرع إليها.. ضمها اليه وهو يربت على ظهرها ويهمس لها بحنان:
_قولتلك اني مزعلتش منك أنا زعلان عليكي يا نور.
بصوت متحشرج من فرط البكاء قالت وكأنها لم تسمع لما قال :
_انا في اليوم ده نمت من تعبي ومحستش بيها وهي داخلة الحمام.
ابعدها عنه وهو يعاتبها:
_عشان خاطري انسي.. بطلي تفكري في اليوم ده.. ربنا عوضنا بحلا وبابننا اللي في بطنك.. انتي ممكن تأذيه باللي بتعمليه في نفسك هتقدري تتحملي ذنبه يا نور؟
رددت بارتباك وهلع:
_لا.. لا.. ابني مش هيجراله حاجة.
واحتضنت بطنها بحالة من التوتر، فلعب عمر على أوتار خوفها الذي سيعاونه بما يريد :
_يبقى تبطلي تفكري في اللي فات.
هزت رأسها ثم قالت بتعبٍ وهي تشير على فراش الصغيرة:
_هنام جنبها.
منحها ابتسامة هادئة، وهو يدنو من الفراش:
_معديش مانع تشاركينا في نومتنا.
ضحكت على مزحه رغم ما تعرضوا له معًا، ومن ثم حملها للفراش ليستقر ثلاثتهم فوقه.. وأخيرًا تخطت اوجاعها وضمت صغيرتها اليها علها تبرد أوجاع قلبها..
********
صعد متغندغًا لغرفته، فما أن فتح بابها حتى صرخ ألمًا حينما تلقف وجهه شظايا أحد المزهريات، فحارب التشوش الذي يعتليه وهو يحاول التقاط المشهد كاملًا، فوجد الغرفة تحيطها فوضى عارمة وبقايا زجاج منكسر، وابنه ينطلق كالصاروخ الجوي يدمر أي شيء بطريقه، بحث "حازم" بعينيه عن زوجته فوجدها تنكمش على احد المقاعد وتحتضن بطنها المنتفخ خشية على جنينها من شراسة هذا الولد الذي فشل هو بتهذيبه اولا، رأه حازم يمر من جواره فجذبه من قبعة البيجامة وهي يصيح به بتحد:
_جرى أيه يالا هو محدش عارف يلمك ولا أيه... حد قالك اننا جايبن هولاكو على وش الدنيا ولا قالولك انك حفيد امتياب باتشان.
أبعد خالد يد أبيه عنه وهو يشير له بحزم:
_هتبهدل هدومي.. سبني بدل ما اتصل بجدو يطلعلك.
رفع حاجبيه بسخطٍ قاتل:
_أنت بتهددني يا حشرة... ده انا برشة بيرسول أقعدك تحت السرير يلا... فوق يابا أحنا خربينو على قديمو.
هز الصغير رأسه بتحدٍ:
_كده طيب.
وتركه وغادر من الغرفة بأكملها، فاتجه حازم للركن المنزوي بعيدًا وبالاخص أمام نسرين ثم قال ساخرًا:
_انتي خايفة من الواد من دلوقتي أمال لما يطول وشنبه يخط في وشه هتعملي أيه؟
منحته نظرة ساخطة احاطته من رأسه لاخمص قدميه، واتبعها قولها المستهزأ:
_انا ربنا بيحبني ومصمم يزيد بحبه بعدد من الابتلاءات أخرهم اللي في بطني الله اعلم جيناته هتوصله هو كمان لأيه!!
ورفعت يدها لسقف الغرفة وهي تردد بضيق:
_حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا حازم.. كان يوم اسود يوم ما شوفت خلقتك انت وابنك.
قوس حاجبيه بغضبٍ:
_بتدعي عليا يا ولية.. بعد كل الحب اللي حبتهولك والطفح اللي حولتهولك.. يلا هقولك أيه عمل ربنا فيكي كفايا وآآ..
بترت كلماته حينما شعر بنغزة استهدفت كتفيه فاستدار للخلف، فوجد ابنه يحمل عدد من الشوك القاسية التي تستهدف اللوحة المعلقة من خلف الباب، فقرر استهدافه هو بدلًا عنها، استوعب حازم ما يحدث هنا وفجأة هرول مسرعًا تجاه المقعد الذي يحمل نسرين فسقط بهما معًا للخلف حتى باتت قدميه عرضة لمن يستهدفه بالسهام، وكلما تمسه أحد الأشواك صرخ بجنونٍ الى ان توقف الصغير وهرع للخارج ليبحث عن بقية الاشواك، أسرع حازم بقدمٍ ملوحة وخطوات متعثرة، وحينما سقط أرضًا استخدم ذراعيه وقدميه حتى وصل لباب الغرفة فاوصده من الداخل وجلس من خلفه ليحرص الا ينجح هذا الوحش الصغير بفتحه مجددًا، فرفع قدميه وانتزع عنها الاشواك والاخيرة تراقبه بشماتةٍ، اتجهت للفراش وجلست على حافته والابتسامة تعلو ثغرها، منحها حازم نظرة نارية اتبعها قوله المتعصب:
_رجعي اللي في بطنك ده مش عايزه أنا اتربيـــــــــــت تربية تكفيني سنيني الجاية.. الله يكرمك كفايا عليا أبو فقوس اللي انتي جايبهولي ده.
جذبت نسرين الوسادة وأحد الاغطية ثم قذفتها بوجهه وهو تخبره بصرامة:
_انت صح عشان كده طول ما انا على ذمتك قضي ليلك ورا الباب أضمنلك.
منحها نظرة حارقة ثم جذب الوسادة وتمدد خلف الباب وهو يراقب بخوف ما سيفعله الصغير بعد.
*******
أغلق "عدي" الملف من أمامه ثم نهض واتجه للداخل، فوجد سيارة "يحيى" تدنو من بوابة القصر الداخلية، اتجه إليه ثم وقف قبالة باب السائق ليسأله بغموض:
_كنت معاه صح؟
ابتسم يحيى وهو يجيبه:
_أيوه طلب انه يشوفني انا وياسين بس نام واحنا في الطريق.
واتجه يحيى للخلف ليحمل الصغير، فحمله عنه عدي وهو يخبره باحترام:
_بلاش تتعب حضرتك أنا هشيله.
قبل يد الصغير التي تتدلى من خلف كتف عدي وهو يهمس له:
_تصبح على خير يا حبيبي
التفت به عدي للخلف وهو يجيبه بدلا عن ابنه النائم:
_وانت من أهله يا عمي.
وتركه ودخل المصعد حتى وصل للطابق الثالث، فقصد غرفة أولاده ومن ثم وضعه على فراشه، ثم جذب الغطاء ليداثره جيدًا، تعلقت نظرات عدي به والابتسامة تزين شفتيه، فعبث بأصابعه بين خصلات شعره البني الذي يحمل نفس لون أبيه، ثم انحنى ليطبع قبلة صغيرة على جبينه وهو يهمس بسخرية:
_حتى وأنت نايم شبهه!
نهض عن فراشه واتجه لسرير ابنته البعيد عن الركن الخاص بابنه، فوجدها تحتضن دميتها وهي نائمة، ابتسم وهو يقبل جبهتها ثم قال بحبٍ:
_تصبحي على خير يا أجمل وأعز شيء بمتلكه في حياتي.
وداثرها بالغطاء جيدًا ثم أطفئ الضوء واتجه لغرفته..
****
كان يعلم بأنها تتدعي النوم، ومع ذلك ابدل ثيابه واتجه للفراش بمكرٍ تام، تمدد "عدي" لجوارها وهو يراقب انفعالات وجهها، وخاصة رمشت عينيها التي تحاول التقاط أي صورة توضيحية لما يفعله الآن، فوضع يده يستند على جبهته وهو يدعي غفلته السريعة هو الآخر، فتحت "رحمة" عينها أخيرًا فالتقطت انفاسها بصورةٍ طبيعية حينما رأت النوم قد غلبه، وفجأة شحب وجهها حينما استقام بجلسته وهو يردد بحنقٍ:
_كنت واثق إنك منمتيش!
جاهدت لرسم ابتسامة زائفة وهي تخبره:
_لا كنت نايمة
هز رأسه وهو يسترسل بحدةٍ:
_لا يا روحي مش نايمة كنتي بتتهربي مني عشان موجهكيش باللي عملتيه.
ادعت عدم معرفتها بما يقال:
_عملت أيه!
نادها بتحذير من اللجوء للف والدوران:
_رحمة!
ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تحاول استجماع ما علمها اياه ياسين، لذا قالت بقوة تحاول ان ترتديها رغم اختلاف المقاسات فيما بينهما:
_لو تقصد مكالمتنا لعمي فأنا مغلطتش يا عدي.. انت مش شايف طريقتك معايا عاملة ازاي!
ابعد الغطاء عنه ثم انحنى بجذعيه تجاهها وهو يصيح باندفاع:
_متجوزة عيل صغير بريالة عشان تروحي تشتكيني!! مشاكلنا متخرجش برة عتبة باب الاوضة دي وده اللي لازم تتعودي عليه سامعاني!
بتحد أخرج ما تخفيه بداخلها قالت:
_لما مقدرش اوصل معاك لحلول لازم اختار الشخص الحكيم اللي يقدر يصلح ما بينا.
بضحكة ساخرة قالت:
_والشخص ده يبقى ياسين الجارحي!!.
ضمت شفتيها معًا وهي تستعد لخوض نقاش حاد معه:
_ايوه هو يا عدي.. وحقيقي انا وغيري مشوفناش منه غير الاحترام.. أنا مش فاهمه ايه سبب الكره اللي جواك لباباك وهو مقدملكش غير كل خير.
رفع حاجبيه بدهشةٍ مما تفوهت به:
_بكرهه!! انتي سامعة انتي بتقولي أيه!
صاحت بانفعال:
_لا شايفة افعالك وطريقتك.
نهض عن الفراش وهو يشير لها بغضب:
_أنا مفيش حد يعدل على تصرفاتي.. ثم انك مين عشان تتدخلي في علاقتي مع اللي يخصوني.. أنا حر مع عيلتي انتي مالكيش تتدخلي ما بينا..
وألقى المصباح الكهربي الذي يزين الكومود وهو يصرخ بعنفٍ:
_مش فاضل غير اني ادخل حد في حياتي عشان يحل مشاكلي مع مراتي!!
وترك الغرفة بأكملها ثم هبط للأسفل وبالأخص لحديقة القصر، جلس على الاريكة المعدنية القريبة من حمام السباحة شارد بما يحدث من حوله، فأبيه يحرص كل فترة على نشب الحروب فيما بينهما وكأنه لم يفكر بانجابه الا لتسلية تحديه!!
قطع الليل اشراقة الصباح ومازال يجلس محله لم يذق طعم النوم، وكأنه كان بحاجة للجلوس منفردًا والتفكير جيدًا بنقاط أراد الانفراد بها، قطع شروده صوت هاتفه فرفعه على اذنيه ليستمع لصوت رجله المخلص:
_اللي طلبته اتنفذ يا باشا.
أغلق عدي الهاتف براحةٍ بعدما نجح أحد رجاله بتتبع أبيه ليلة آمس وتحديد مكانه بالتحديد.. فأصبح الآن لقاء والدته أمرًا ليس مستحيلًا..
********
اقتربت الطائرة من اليخت بمسافةٍ ليست ببعيدةٍ، فتوقفت بالمكان الذي أمر "ياسين الجارحي" بالتوقف، حتى لا تشعر به "آية"، فإن علمت بانها قضت ليلها بدونه ربما ستفقد صوابها وربما ستصر على العودة خشية من أن يكررها مجددًا، ظلت الطائرة تحوم فوق سطح المياه والطيار مازال لا يستوعب ما يحدث، فقال باستغرابٍ:
_لازم أقرب من اليخت يا باشا عشان حضرتك تعرف تنزل.
تجاهل ما يقوله، وفتح باب الطائرة ثم خلع جاكيته ومن ثم نزع عنه قميصه والاخر يتابعه بذهولٍ ازداد حينما قفز" ياسين"بالمياه ببراعةٍ وجسده الممشوق لا يناسب سنه الذي يعلمه الجميع، سبح بمهارةٍ حتى اقترب من اليخت وما حسبه قد وجده حينما وجدها بالمياه تبحث عنه بفزعٍ، فرفعها بعيدًا عن المياه ومن ثم صعدوا معًا لليخت..(نوفيلا لحظات خاصة مقدمة 3..)
**********
ومن خلف منطقة نائية، وضع من خلفها مستقر لمنظمة دولية خطيرة، فتح أحدًا باب احد الغرف المتهالك وهو يردد بفرحة لما يزفه لسيده:
_الدور اتسبك ودخل عليهم والمراد حصل.. الباشا بنفسه اللي استلم الصفقتين!
اللي عاوز باقي الروايه يعمل متابعه لصفحتي من هنا 👇👇
لعيونكم متابعيني ادخلوا بسرعه
👇👇👇👇👇