الحلقتان 30 و 31
( الحلقة/ 30 ) باقوم المصري قام ببناء الكعبة !!
وتشتري قريش من ربان السفينة المصرية، ما كان على الشاطئ من أخشاب، ويعود الوليد بن المغيرة إلى مكة ومعه باقوم البنَّاء المصري، وقد استقر عزم أهل مكة جميعاً على هدم بناء الكعبة القديم، وإعادته جديداً قوياً صلداً، وتجزَّأت قريش العمل، وحدد لكل رأس من بطونها شق من الكعبة، فكان شق الباب لبني هاشم وزُهرة، وما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جُمح وسهم، وكان شق الحجر لبني عبد الدار ولبني أسد عبد العزي ولبني عدي بن كعب .. وتهيأت قريش للهدم، تحركت نحو الكعبة وهي خائفة تهاب أن يحدث أمراً من الله، وتتثاقل الخطى، ولما دنوا بالمعاول من الكعبة، استوقف الخوف الجميع، ولم يضرب أحد بمعوله ليهدم، فأغلب هؤلاء قد رأوا بأم عينهم ما حدث لجيش أبرهة حين أقدم على هدمها، ولا زالت المشاهد المروعة للطير الأبابيل ماثلة في أذهانهم، وتسمَّر الجميع أمامها ولم يجروء أحد على التقدم، ويقول الرجل لصاحبه : ابدأ أنت وأنا خلفك .. ويتراجع الرجل منهم ويقول أحدهم : لا بأس لو بدأ أحدنا ونكمل بعده، ويطول التردد بهم والناس على خوفهم، ويصيح فيهم الوليد بن المغيرة : عجباً لكم !! . قد جزَّأنا الكعبة وقسمناها بيننا لكل قوم مكان يبدأون منه الهدم، ما بالكم تترددون ؟ . ويجيبه الناس : يا أبا الوليد ليس فينا إلا من يخشى أن يكون هو أول من يضرب معوله في البناء .
قال الوليد : فدعوني أكن أول من يبدأ في الركن اليماني الذي خصصتموه لنا معشر مخزوم . ولا زال البعض على ريبته يقولون : يا أبا الوليد لا تعرض نفسك لغضب . قال الوليد : يا قوم . أتريدون بهدمها الإصلاح أم الإساءة ؟ . قالوا : نريد الإصلاح . قال الوليد : فإن الله لا يهلك المصلحين، أنا أبدؤكم بهدمها، أعطيني المعول يا خالد .
وأخذ الوليد المعول من يد خالد، وتسلق الجدار حتى قام على الكعبة والقلوب واجفة، تنظر إليه كأنما يتوقع الناس أن ينزل غضب الله بالرجل الذي تجاسر على هدم بيته، وقال من مكانه : يا معشر قريش ها أنا ذا أبدأ الهدم، فيكون لنا معشر مخزوم شرف لا ينهدم بين قبائل العرب كلها .
قال أمية بن خلف : لا تغرنكم كلمات الرجل، لن يلبس أن يصعق إذا ضرب معوله . ورفع الوليد معوله عالياً وهو يقول : اللهم لم نزغ، اللهم لا نريد إلا الخير .
وتتهاوى الضربات على جدار الكعبة، والناس على حالهم، ويدعوهم الوليد وهو منهمك في الهدم : هلموا، هلموا افعلوا مثلما أفعل – ويقول أمية بن خلف مثبطاً همم الناس : إنه يهدم الركن اليماني، لا تدعوه يفعل ذلك – قال أحدهم : فلننتظر فإن أصيب لن نهدم منها شيئاً ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء عندها هدمناها فقد رضي الله عما صنعنا .
وتتوالى ضربات الوليد بين الركن اليماني والحجر الأسود، وتتساقط الحجارة، والناس من حوله تنظر والخوف يتملكهم، كلما سقط حجر بعدوا عنه، ونال التعب منه فقال لهم : هلموا عاونوني، كما ترون لم يحدث لي مكروه – قالوا : كفى بك اليوم ما أنجزته، ودعنا نهدم معك غداً لننظر ما سوف يصير لك، فإذا أصابك شر أعدنا الحجارة مكانها، وإذا لم يصبك شيئاً عاوناك في الغد .
وتربصوا بالوليد تلك الليلة، فرأوه في الصباح غادياً إلى عمله والمعاول في يديه وأيدي أولاده – خالد والوليد وهشام وعمارة - فقال أبو طالب : يا معشر قريش هاكم الوليد بن المغيرة سيد قريش على أحسن ما نريد له ونرجو هيا يا معشر قريش فقد رضي ربنا ما نصنع .
وتسارعت بطون مكة كلها إلى معاولها ومساحيها، وامتلأت ساحة المسجد الحرام بالشبان والشيوخ، يهدمون الجدران، وبالصبيان يحملون الحجارة بعيداً عن مكان الهدم، وبالنساء يهيئن الطعام والشراب للعاملين المجتهدين والراضين رغم الإجهاد عما هداهم إليه ربهم، وتهاوت الحجارة . الواحدة تلو الأخرى، وسقط معها الشكل القديم للكعبة، ورأت قريش عند مكان الركن حجر ثلاثي الأوجه، في كل وجه من وجوهه الثلاثة كلمات نُقشت عليه باللغة السريانية فلم يعرفها أحد .
فصاح أمية بن خلف : يا أبا الوليد مرهم أن يقفوا حتى نرى ما به ونتنبه، فأمسك الوليد به، وراح يقلبه وقال : إن به نقوش سريانية لا نعرفها نحن العرب – قال أبو طالب : نسطاس الرومي صاحب الحانة يا أبا الوليد هو من يقرأ هذا الكلام ائتونا به يطلعنا عليه .
ويذهب نفر منهم يستدعي – نسطاس الرومي – ذلك الرجل الذي لزم مكة منذ زمن، لا أهل له فيها ولا حلف، فهو على دين النصارى، وعلم أن نبي آخر الزمان سيخرج من بين فتيانها، فتربص بها حتى رصده وعانيه، فأقام إلى جواره في مكة دون أن تعلم قريش ما وراءه، وكانت له حانة يرتادها شباب ورجالات مكة، إلا واحداً لم يقربها أبداً هو – محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم – الذي ينتظر نسطاس مبعثه .
ويأتي نسطاس إليهم ويقرأ لهم ما في الأوجه الثلاثة للحجر : (( من يزرع خيراً يحصد غبطة، ومن يزرع شراً يحصد ندامة – يعملون السيئات ويجزون الحسنات، أجل كما يجتنى من الشوك العنب )) .
ويستأنف الناس الهدم، حتى أتوا بجدرانها على الأرض، ودخلوا في المرحلة الحرجة الحساسة، الحفر في الأرض للوصول إلى القواعد التي سيقوم عليها البناء . وتتبدى لهم رويداً رويداً أحجاراً خضراء لا مثيل لها – تلك هي قواعد البيت – فانشدوا مشدوهين لغرابة شكلها، ويدفع الفضول أمية بن خلف إلى غرس مقلاعه أسفل واحد منها، ويزحزحه فلا يتحرك، ويكرر الأمر حتى إذا جاهد في ذلك فانفرج الحجر من مكانه وشع وميضاً شديداً من تحته، كاد أن يخطف الأبصار فانطرح أمية فزعاً وعاد الحجر مكانه، فصاحوا فيه : دعه مكانه يا ابن خلف، لا يرضى ربنا عن تحريك القواعد – وقال الوليد : سيقوم البناء عليها وتلك هي القواعد التي بنى عليها إبراهيم وإسماعيل البيت .. وقال أبو طالب : هذه الأحجار الخضراء المتراصة هي بناء الملائكة، وليس في الأرض مثلها، فقد وضعتها الملائكة مع شيث بن آدم في أول بناء للبيت – وقال بن الوليد : يا معشر قريش أزيلوا التراب الذي عليها .
وشرع القرشيون في تطهير ساحة الحرم من الأنقاض، ليخلو المكان لعدة البناء وينظر – نسطاس الرومي – إليهم وهو يغادر ساحة الحرم متوجها إلى حانته التي لا تبعد كثيراً عن البيت، ينظر إليهم ولا يشده إلا محمداً الذي يرصده منذ زمن . يتأمل في حركته بين قومه، ويطيل النظر في قسمات وجهه الباش، ويعجب لأناته وصمته وهو يعمل معهم في تنظيف الحرم من أكوام التراب والحجارة المتناثرة ويعود نسطاس لحانته التي ترك ابنه فيها، وتدور في رأسه تلك المشاهد التي رأى فيها سادة مكة وأشرافها يحفون أصنامهم المتراصة على الأرض بكل العناية والتوقير، يمسحون من عليها التراب بتبجيل وخشوع، وبين أظهرهم هذا النور الذي يسعى بينهم وبدت تلوح فى الأفق بشائره .
وعند باب حانته يجد ابنته – مارية – في انتظاره، تراه ساهماً واجماً فتقول له : مالي أراك يا أبت جئت من هناك بغير الوجه الذي ذهبت به ؟
قال نسطاس : رأيت اليوم يا ابنتي عجباً أشد من العجب، رأيت أشراف مكة كلهم قد اجتمعوا ليهدموا الكعبة بعد أن تهرأت جدرانها، ليعيدوا بناءها من جديد نقلوا أصنامهم من فوقها ومن حولها إلى مكان بعيد عنها .
قالت مارية : إنهم يجتهدون في هذا يا أبت منذ أيام . قال نسطاس : لم يبق سيد من سادات مكة لم يشترك في نقلها، وهو يعتذر لها أشد اعتذار، يعتذرون يا ابنتي لأحجار وأخشاب لا ترى ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع، ثم حدث أن وقع صنمهم الأكبر – هُبل – وقع على الأرض من بين يدي أبى سفيان والوليد بن المغيرة فانكبا عليه يصرخان ويعولان، ولم أر أغزر من دمعهما وهما يعتذران إلى الصنم باكين، ولم أر مثل رفقهما به وهما يرفعانه بتوقير وتبجيل حيث ينصبانه خارج المسجد إلى أن يتم الهدم والبناء، فيعود الصنم إلى مكانه من كعبتهم، الناس جميعاً يا مارية يشتركون في هذا، إلا فتى وسيم قسيم .
قالت مارية : ومن ذاك ؟ . قال نسطاس : محمد – قالت مارية : يتيم مكة سليل بني هاشم – قال نسطاس : أجل، أرأيت محمداً من قبل يا مارية ؟ - قالت مارية : كلا – قال نسطاس : ذلك لأنه لا يقرب حانتنا هذه، ولا يرتاد أماكن اللهو التي اعتاد أهل مكة أن يرتادوها، جل وقته في بطحاء مكة يتأمل ويفكر – قالت مارية : ألم يشترك معهم في هدم الكعبة ؟، سمعت أن قومه من بني هاشم يشتركون كغيرهم في هذا – قال نسطاس : بل هو يشاركهم في الهدم، وفي رفع الأنقاض، لكنه أبداً لا يمد يده إلى الأصنام يرفعها مع من يرفعونها، أو يعينهم على رفعها، بل هو لا ينظر إليها إذا مر بها خارجاً إلى المسجد بالمكتل مليئاً بالأنقاض، أو داخلاً إليه به خاوياً .
قالت مارية : طالما حدثتني أنه لا ينظر إلى أصنام قريش، ولا يقرب إليها، ولا يذكرها بخير أبداً، فليس فيما حدث منه اليوم أي عجب –
قال نسطاس : تعرفين يا مارية إني أرقب محمداً منذ سمعت من بحيري الراهب عنه ما سمعت !! . قالت مارية : قال لك إن السماء تعده لأمر كبير .
قال نسطاس : من يومها وأنا أرقبه، اليوم رأيت منه ما هالني، رأيته كلما مر من صنم من الأصنام خر الصنم مكانه دون أن تمسه يد أو يدفعه دافع، ويسرع أشراف مكة إلى إقامة ما وقع باكين معتذرين كعادتهم .
قالت مارية : دون أن يعنفوا محمداً ؟ . قال نسطاس : دون أن يدركوا أن بين محمد وبين سقوط الأصنام أي علاقة، أما أنا فأدرك . أدرك يا ابنتي أن محمداً هذا سينهي عبادة الأصنام في مكة وفي غير مكة، وإنه سيكمل الشريعة التي جاء بها موسى وعيسى من بعد الرسل جميعاً .
وجاء دور البناء، وقف ( باقوم ) البنَّاء المصري أمام قواعد البيت والجميع حوله ينتظرون إشارته، ليعاونه في إقامة الجدران الجديدة – قال باقوم : سنجلب من جبال بلادكم هذه أصلب ما فيها من الحجارة النارية . وينظر إلى الوليد بن المغيرة ويوجه إليه الكلام : يا سيد مكة . كم تريدون طولها وعرضها وارتفاعها ؟ .
قال الوليد : على صورتها القديمة التي وصفتها لك، على أن تجعل لها سقفاً فلم يكن لها سقف – قال أبو طالب : ولا تجعل يا أبا الوليد بابها كما كان في مستوى الأرض ذلك الباب الذي يؤدي إلى بئر الهدايا بداخلها لطالما تسلل السرَّاق إلى هذا البئر وسرقوا ما به من كنوز .
قال الوليد : نعِم ما أشرت يا أبا طالب، سنجعل بابها مرتفعاً عن الأرض قدر نصف ذراع – قال أبو طالب : بل أكثر من هذا يا أبا الوليد – قال الوليد : ارفعوا بابها حتى لا يدخلها أحد إلا بسلم، فإنه لا يدخلها عندئذ إلا من نريد .
قال باقوم : أتريدون أن نجعل للباب درجاً يؤدي إليه – قال الوليد : لا لا فإن ذلك يعوق الناس عند الطواف .
وارتفع البناء يوماً بعد يوم، ويرى الناس براعة البنَّاء المصرى باقوم، ويعجب الوليد به ويقول : ما أحسن عملك يا باقوم . ويرد عليه : بوركت يا سيد مكة، إنما أرد لكم يا أهل مكة بعض أفضالكم، أكرمتموني حتى كأني واحد منكم – قال الوليد : يا باقوم حين يصل البناء إلى قامة الرجل فتوقف حتى نضع الركن .
قال باقوم : أي ركن ؟ - قال الوليد : الحجر الأسود يا باقوم – قال باقوم : ائتوني به حتى أضعه في المكان الذي تريدون أن تضعوه فيه – قال أمية بن خلف في سخرية : نترك لك وضع الحجر الأسود مكانه يا باقوم !! . اعلم أن هذا شرف دونه أي شرف – قال باقوم وقد أحزنه سماع هذا : إني لا أعرف تقاليدكم يا أبا صفوان – قال أمية : ذلك لأنك لست منا يا باقوم – قال باقوم وعلى وجهه لسع الكلمات المؤلمة : قد حسبت أني عندكم أثيل – ويهديء من روعه الوليد ويسترضيه بقوله : إنك كذلك يا باقوم، فلا يحزنك ما تسمع من أبي صفوان، أحسب أنه يريد أن يضع الحجر الأسود في الركن، ويحوز الشرف الذي تتوق إليه قلوب أشراف مكة ولكن هذا لن يكون يا أبا صفوان، لن يكون أبداً .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
______________________________________________
( الحلقة/ 31 ) مكة والحدث الجلل !!
وتفجر الخلاف منذراً بالشر يوم بلغ البناء قامة الرجل، واختلفت بطون قريش على من يحوز شرف إعادة الحجر الأسود إلى مكانه فقال بنو عدي بن كعب : حرمتمونا يا معشر قريش من السدانة والسقاية والرفادة، سلبتمونا كل شرف ومفخرة فدعونا والحجر الأسود نضعوه مكانه، وقال الوليد بن المغيرة : بل والله ما يضعه مكانه إلا رجل من بني مخزوم، يا معشر قريش اذكروا أنني أول من بدأ بالهدم – وقال قيس بن زيد : يا بني عبد الدار لا تدعوا هذا الشرف يفوتكم نحن سدنه الكعبة أولى الناس بوضع الحجر الأسود مكانه – وقال بنو جمح : لا تدعوهم يسلبونكم كل شرف يا بني جُمح .
وسُمعت قعقعة السلاح في أنحاء مكة، استعدادا للقتال، وجاء أحدهم بجفنة مملوءة دماً، وأدخل بنو عدي وبنو عبد الدار أيديهم فيها، وتعاقدوا على الموت، ومكثت قريش على ذلك أربع ليال متخاصمين متناحرين يستعدون للقتال، ثم ثاب الوليد بن المغيرة إلى رشده، فجمع الناس في المسجد وقال : يا معشر قريش لقد رأيت لكم رأياً، ندعوا أكبرنا سناً ثم ننزل لحكمه في الأمر . وأقروه على رأيه، وانبرى أمام مجلسهم – أبو أمية بن المغيرة – أكبر قريش سناً، ناهز المائة والعشرين عاماً، صاح فيهم : يا قوم علامَ تقتلوا أنفسكم، إذا تقاتلتم من يبقى في قريش، كلكم سادة مكة، فماذا يبقى لمكة بعدكم ؟ . قال أبو طالب : فانظر لنا رأيا يا شيخنا – قال أبو أمية : يا معشر قريش، يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب المسجد يقضي بينكم فيه – قال الوليد: أي باب تعني يا أبا أمية ؟ . قال أبو أمية : اختاروا باباً وارصدوه – قال أغلبهم: نختار باب الصفا، فهو المقابل لما بين الركنين اليماني والأسود . قال أبو أمية : ولا يغادر أحد منا المسجد حتى يقضي الله فيما شجر من خلاف .
وترقبوا من الصبح حتى صار ظل كل شيء مثله، ثم لاح القادم لعيونهم، فتى في الخامسة والثلاثين، وسيم قسيم يُقبل متأنياً كعادته، يدخل من باب الصفا بخطواته الواثقة الهادئة المطمئنة، وصاح الجميع : هذا محمد، هذا الأمين – رضينا رضينا بحكمه، احكم في الأمر يا ابن عبد المطلب .
وفي حكمة رائعة حقن رسول الله دم قومه، طلب ثوباً فجاءوا به فنشره ثم أخذ الحجر فوضعه فيه بيده الشريفة ثم قال : لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعاً . وفعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه الأمين بيده، ثم بنا عليه، ثم أكمل باقوم البناء حتى أصبح ارتفاع الكعبة ثمانية عشر ذراعاً، وكان يوم تمام بنائها أشبه بيوم عيد قومي لقريش، يوم من أيام رجب الخالدة قبل البعثة بخمسة أعوام ..
وينشد - الزبير بن عبد المطلب – عم النبي في تلك المناسبة العظيمة أبياتاً من الشعر أفصحت عن آيات تجلت في بنائها، أعظمها التقام العقاب( النسر الكبير ) لحية الكعبة التي كادت أن تفتن الناس، وكيف أن الله أعزهم وزادهم فخراً بهذا العمل راح الزبير يرتجز قائلاً :
عجبت لمـا تَصَوَّبَتِ العقــاب إلى الثعبان وهي لها اضـطرابُ .
وقد كانت يكـونُ لها كشيسٌ وأحياناً يكــونُ لها وثــــــابُ .
إذا قُمنـا إلى التأسيس شـدَّت تُهـــيّبُنا البنـاء وقد نُهــــابُ .
فلما أن خشينا الزجز جاءت عُقــابُ تَتْلئبُّ لها انصــبــابُ .
فضَّمتهـا إليهــا ثـم خَلَـــت لنـا البنيانَ ليسَ له حجـــابُ .
فقمنــا حاشِــديـنَ إلى بنـــاء لنـا منـه القــواعدُ والـــترابُ .
غـــداة يـرفع التأسيسُ منــه وليس على مســاوينا ثيــــابُ .
أعزَّ بـه الملـيـكُ بـنـي لــــؤي فـليس لأصـله منـهم ذهـــابُ .
وقـد حشدت هناك بنو عدي ومُـــرَّةُ قـــد تَقَدَّمها كــــلابُ .
فبـوّأَنا المليـكُ بـذاك عــــزاً وعِـنْدَ الله يُـلتمــسُ الثــــوابُ .
فإذا تم كل شيء، ونظروا إلى ما فعلوه راضين، بدأ الشيطان يتسلل إلى النفوس من جديد، سمعوا صوتاً ينادي : يا معشر قريش لنعد آلهتنا مكانها من الكعبة .
وأعادوا أصنامهم ـ هُبل، وإساف، ونائلة ـ إلى حيث كانوا قبل الهدم والبناء . وانصرف عنهم محمد وتركهم لأصنامهم التي باعد الله بينه وبينها .
ولم يكن أبو بكر بن أبي قحافة بعيداً عما حدث يوم أن استقر الخلاف بين بطون قريش على رفع الحجر الأسود . بل لم يفارقهم لحظة منذ أن بدأ الهدم حتى أعادوا البناء، شأنه كشأن شبان قريش الذين تدافعوا خلف كبارهم لنيل شرف المساهمة في هذا العمل الجليل، وكيف يفوت ابن أبي قحافة الذي ما فتأ يبحث عن دين إبراهيم وسط هذا الركام، من الشرك والضلال مثل هذه الفرصة ؟
فيعود أبو بكر في هذا اليوم إلى داره وقد أمسكه الله بطرف الخيط، الذي سيؤدي به إلى أمر لطالما تمناه كثيراً .يعود إلى داره وقد امتلأت نفسه حبوراً، أشرق به وجهه المعروق الأبيض، وفي تنهد تخرج منه الكلمات لزوجته – أم رومان – التي رأت البش على ثغره، قال : لو تعلمين يا أم رومان . لو تعلمين ما حدث اليوم في صحن الكعبة ؟ . احتدم الخلاف، وبلغ ذروته، وأوشك الناس أن يتنادوا إلى القتال . قالت أم رومان : قد رأيت الوليد بن المغيرة هذا الصباح يتهيأ ويهيئ أولاده للقتال . قال أبو بكر : وكذلك فعل بنو عبد الدار كلهم .
قالت أم رومان : وانصرفت وقد حسبت أنني لن أصل إلى داري قبل أن أسمع قعقعة السلاح . قال أبو بكر : بدأ الأمر بالشر أسوأ الشر، ثم انتهى بالخير أندى الخير . قالت أم رومان : عسى أن يكونوا قد اصطلحوا على أن يقوم بالأمر أكبر قريش سنا، عندها لن يفوت هذا الشرف بنو المغيرة، فأكبر قريش سنا هو أمية ابن المغيرة . قال أبو بكر : لم يصطلحوا على أمية، بل هو أمية الذي جاءهم بالحكم فقبلوه منه لسنه – قالت : وأي حكم هذا ؟ . قال أبو بكر : أشار عليهم أن يحكموا بينهم أول قادم ويرتضوا حكمه، ترقبوا ملياً، واحتواهم صمت رهيب، سمرت أبصارهم شطر قادم جديد، أول مقبل عليهم، الرجل الذي سيحسم الخلاف، ويعصم الدماء ويعيد الصفاء .
قالت أم رومان : من جاء ؟ . قال أبو بكر : فتى بني هاشم . قالت : محمد ؟ . قال : أجل، الأمين، ما إن رأوه حتى صاحوا جميعاً في غبطة (( هذا الأمين، هذا محمد، نعِم الحكم هو )) قالت : وبِمَ حكم ؟ .
فقص عليها أبو بكر ما دار، وتعجبت أم رومان، وقالت : ما أعجب هذا !! استجابوا لمحمد وتركوه يضع الحجر بيده !! . أفلم ينافسه في ذلك أحد أشراف قريش ؟ .
قال أبو بكر : بل امتدحوه، ومال عليه الوليد بن المغيرة فقبل رأسه، يا أم رومان لقد اخترت محمداً هذا صديقاً من دون شباب قريش كلهم، وقد أعلمته بذلك قبل أن يغادر صحن الكعبة، فتبسم وأخذ بيدي، فأحسست أنه لن يقودني إلا إلى الخير الذي اتنسمه، يا أم رومان ألا يدفعك ما حدث إلى التساؤل ؟ رجل يجيئ فيحسم الخلاف، ويبين للناس ما اختلفوا فيه من الحق، رجل يعطيهم السلام واليقين والعقل ؟ . فكيف لا تستكين يدي في يده يا أم رومان ؟ والله إني لأعرف أنني سأجد عند محمد ما افتقده عند سواه من المتطهرين .
قالت أم رومان :تعني أمثال – قس بن ساعدة الأيادي، زيد بن عمرو بن نفيل– قال أبو بكر : لولا أن هلك قيس بن ساعدة في ذات يوم في أول شبابي، رأيته ممتطياً جملاً أورك في سوق عكاظ، وهو يتحدث حديثاً مازلت أذكره، كان صوته يزلزلني . قالت أم رومان : حديث كالذي كان يردده أمام قريش إذا اجتمعت عند صحن المسجد ؟ . قال أبو بكر : لم يخرج كثيراً عن معناه، وقد يكون نفسه، قال وهو لا ينظر إلى أحد من الناس (( أيها الناس، اسمعوا واعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا . إن من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، وإن في السماء لخبر وإن في الأرض لعبر . مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لن تفور، يقسم قس إن لله لدين، هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا )) .
قالت أم رومان : ما أجمله كلاماً، لقد سمعت بعضهم ينشد ما شابه الذي قلت بعد رحيله، ولكن يا أبا بكر لم تسمح قريش لهذه الأصوات أن تتعالى، ومن سار على دربه زيد بن عمرو بن نفيل، لم يلق من قريش إلا الصد والعنت .
قال أبو بكر : صدقت يا أم رومان، فحين حفظت هذه الكلمات من قس، وطوّفت خلفه تحريا عن الدين الصواب، ساقتني الأقدار إلى ـ زيد بن عمرو بن نفيل ـ بعد رحيل قس بن ساعدة، ولما أسمعته ما حفظته عنه ذات يوم قال لي ((يا ولدي إني أحفظ مثلك قول قس، وما أكثر شعره في هذه المعاني، ثم أنشد لي:
في الذاهبين الأولــــين مـــن القرون لها بصائر .
لما رأيت موارد للموت لـــــيس لها مصــــادر .
ورأيت قومي نــحوها يسعى الأكابر والأصاغـر .
أيقنت أني لا مــحالة حيث صار القوم صــائر . )) .
وتعجب أم رومان لهذا السيل المتدفق من رأس أبى بكر، المنهمكة في البحث عن أقوم السبل للهداية، وتقول لزوجها : لم أعهد عنك هذا الشرود من قبل يا أبا بكر، لقد فجر فتى بني هاشم بوضعه الحجر الأسود، مكنون ما في نفسك .
قال أبو بكر : صدقت يا أم رومان، ذلك أني لا أراه بعيداً عما قاله زيد بن عمرو بن نفيل قبل موته . قالت أم رومان : وماذا قال ؟ . قال أبو بكر : قال ذات يوم أمام ملأ من قريش وقد أسند ظهره إلى الكعبة (( يا معشر قريش، يا معشر قريش، تطوفون حول كعبة ربكم، وقد علوتموها بالأصنام، والذي نفسي بيده، ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري، اللهم إني اتبعت ملة إبراهيم وإسماعيل من بعده، وإني لأنتظر نبياً من ولد إسماعيل )) .
قالت أم رومان : وهل تركته قريش يعيب دينهم ؟ . قال أبو بكر : لولا عامر بن ربيعة يومها لمسه أذى الناس، قام إليه وأخذه من يده وهو يقول : ((كف عن هذا فإنك تؤذي قومك )) . قالت أم رومان : وهل كف زيد ؟ . قال أبو بكر : سار معه ورأيت نفسي خلفهما، وكان يقول لابن ربيعة : (( إن طالت بك الحياة فأقرئه مني السلام )) . قال عامر بن ربيعة له : (( من تعني يا زيد؟)) . قال زيد : (( صاحب النور المنتظر، ولد إسماعيل، كأني أراه يصيح بمثل ما أصيح به الآن بين ظهرانيكم )) . قالت أم رومان : أحقاً يا أبا بكر سيأتي نبياً من ولد إسماعيل ؟ . قال أبو بكر : أليس بهذا يتهامس اليهود والنصارى في هذه الأيام يا أم رومان . قالت : فأنت إذن تؤمل على لقائه يا أبا بكر.
قال أبو بكر : وددت لو استمسكت بدربه قبل مجيئه، فآخذ على يديه الدين الحق . قالت : إن ما تريده لا يبعد كثيراً عن ورقة بن نوفل – الناس كلها في مكة عهدته معتزلاً للأصنام، مستنكر لعادات القوم . قال أبو بكر : ورقة تائه بين الأناجيل عساه تدله على دين إبراهيم، ورقة لا يعرف المنهج، وأنا لا أعرفه، وقلت لنفسي كثيراً كلما قابلته : (( كيف أملت أن أجد عنده ما أريد، وهو عاكف على نفسه، لا يحمل دعوة منظمة، ولا ديناً جديداً، يهدد به الشرك وأساطينه، الشيخ مرتفع العمر، وقد أوشكت حياته على الغروب، وقريش لا تأبه به ولا تخشى بأسه، ورقة يجالس رهبان النصارى، وأحبار اليهود، ويغلق على نفسه داره، واعتزل الناس، وما هكذا يفعل حامل النور الداعي إلى الحق )) .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تعليقات
إرسال تعليق