الطريق الي النور
( الحلقة/ 39 ) مكة تنقلب عليهم
لم تُجد كل محاولات قريش نفعاً مع أبى طالب، بعد أن أقر اجتماعهم الأخير بدار الندوة خطة من شقين، الضغط على أبى طالب لإثناء محمد عما يدعو إليه، وشقها الثاني المواجهة والتصدي لصرفه عما يدعو له، ومع أن دعاة الحكمة والتروي منهم آثروا الشق الأول وفضَّلوه على الثاني لإنهاء الأزمة، لما في الصدام من عواقب غير محمودة، إلا أنهم في نهاية المطاف وجدوا أنفسهم على أبواب الشق الثاني من الخطة .. المواجهة . فلم يأت شقها الأول بما كانوا يرجون، فعرَّجوا إلى هذا الأمر ـ الشق الثانى المواجهة ـ بحذر ويقظة كي لا تذهب ريحُهم، وتنهار روابطهم القبلية في حومة الصراع، ويصير أهل مكة أحدوثة العرب .
وبدأت المواجهة عن طريق الضغط على محمد وأصحابه، وخطوا مراحلها خطوة بعد خطوة، لكن الأحداث على الأرض خرجت من نطاق السيطرة، وانحرفت الأمور عن مسار الحسابات، وصار التصعيد الذي فرض نفسه هو سيد الموقف .
فكان أن جاء صباح يوم، جلس فيه جمع من شباب قريش، يتأهبون للتحرش بالرسول صلى الله عليه وسلم إذا قدم المسجد ليطوف بالبيت، وجرى الحديث بينهم : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، سفَّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرَّق جماعتنا، وسب آلهتنا .. لقد صبرنا على أمر عظيم . وبينما هم في حديثهم هذا إذ طلع عليهم الرسول صلوات ربى وسلامه عليه، فأقبل يمشي حتى استلم الركن من الكعبة، ثم مر بهم طائفاً بالبيت كعادته، فكلما مر في طوافه بالقرب منهم، سبَّوه وعابوه بأقبح الألفاظ، ولا يلقي لهم بالاً، ويستمر في طوافه، كلما مر بهم يسمع سبابه بأذنه، حتى إذا كانت المرة الأخيرة عزم الرسول على ردعهم ورد إهانتهم له، بعد طول صبر منه علهم يكفوا، فوقف النبي وقال : أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح، فخشي الجميع بقدرة من الله، وألقت هذه الكلمات الرعب في قلوبهم، وإذا بهم يسعون إليه معتذرين، طالبين منه الصفح قائلين : يا محمد أنت حليم وما كنت جهولاً أبداً، لقد أخطأنا .
وانصرف الرسول صلى الله عليه وسلم من أمامهم، وجلسوا يتداولون ما حدث فقال بعضهم : ما هذا الذي حدث منا، كنا عازمين على إيذائه وبدأنا نستفزه كي نستدرجه، ثم تخرج منه كلمة واحدة تخيفنا هكذا، ماذا صار فينا يا رجال أسحركم محمد ؟ .
وكأنه الخوف الذي أدخله الله على قلوبهم ليصرفهم عن نبيه صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم : لنعاود الكرة معه، وليمسنه منا القادمة أذى لا محالة، بأيدينا لا بألسنتنا . أخفتم يا قوم من فرد وأنتم كثير، كلمة يقولها تهرعكم هكذا !! .
فلما كان اليوم الثاني مر من أمامهم الرسول وكانوا على جمعهم الذي كان بالأمس، فما إن رأوه قاموا عليه يدفع بعضهم بعضاً، وأحاطوه من كل جانب، وبدأت الأيدي تمتد إليه قائلين : أتهددنا بالذبح، من أنت حتى تفعل . وانهال الضرب عليه من كل مكان، وهو لا يستطيع دفعاً لكثرتهم وغلبتهم، وما صدرت منه أناة ولا استغاثة ولا أقدم على التوسل ليكفوا عنه . تحمل في ثبات ورباطة جأش أذهلتهم، وفي تلك اللحظات مرت فاطمة بنته فوجدت أباها على هذا حال، فاندفعت وهي تصرخ وتصيح كى تجذبه منهم وتخلصه من أيديهم، لكنها لم تستطع إنقاذه، فهرولت مسرعة إلى أبى بكر بن أبى قحافة تستصرخه لنجدة أبيها، وينطلق أبو بكر مسرعاً لنجدة النبي، وكان القوم قد أعياهم الضرب فيه، وبدا منهم تركه، فدخل أبو بكر بينهم يتلقى الضربات عنه ويحميه بصدره، وكل همه سحبه من بين أيديهم، ومن شدة تأثره وخوفه على النبي، بكى وهو يقول بصوت عال : أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله !! وأنقذه أبو بكر من أذاهم .
وكلما مر النبي صلى الله عليه وسلم أمام جمع قريش، طالته الألسن بالسباب، وهمَّوا للتحرش به، ولم يعد لهم شغل شاغل، ولا هم قائم، إلا التعرض له، وصاروا لا يطيقون رؤيته أمامهم، وانطلقت الشائعات نحوه فمن قائل : إنه ساحر، ومن يقول : إنه مجنون .. وقائل : مُفرّق قريش ومُهدد كيانها .
وبات في أذهان أهل العناد والكبر، أنه التحدى لوجودهم جميعاً، ونذيراً بضياع هيبتهم إن تركوا أمره يستشرى بين الناس . ويقف وراء الدفع في هذا الاتجاه أبو الحكم عمرو بن هشام، العدو اللدود للنبي صلوت ربى وسلامه عليه، يحرض على ذلك، ويوعز إلى فتيان الأشراف بفعل الأذى به، واهماً إياهم أن ذلك قد يصرفه عما يزعم .
ويمر أبو الحكم عمرو بن هشام ذات يوم، كان فيه النبي جالساً عند الصفا، ويشير أبو الحكم بأصبعه للفتيان الذين جاءوا خلفه يتربصون بمحمد، يشير إليهم بالوثوب عليه، ويثب الفتية عليه، يلكزونه ضرباً، وأبو الحكم يقف بعيداً سعيداً ضاحكاً وحوله أشراف من قريش سرَّهم النظر إلى النبي وهو يُضرب ويُسب دون أن ينجده أحد .
وترى جارية يستعملها – آل جدعان بن عمرو، تُدعى فاختة – ما يحدث لمحمد، وتصرخ فيهم دونما أن يجيبوا لها، وتعدو على غير هدى تستصرخ من تراه يستنكر هذا، دون أن يغيثها أحد، ولم تيأس راحت تبحث عمن يغيثه، حتى قيض الله لها في طريقها من للأمر – حمزة بن عبد المطلب، صائد الأسود– وكان عائداً من صيد له وكانت من عاداته لا يدخل داره قبل أن يطوف بالبيت إذا عاد من الصيد، فبينما هو في طريقه التقته – فاختة – وصاحت في وجهه : أسرع إلى ابن أخيك وخلصه من يد اللعين عمرو بن هشام، فقد أوعز إلى فتيان قريش أن يضربوه، وانهالوا عليه . قال حمزة مندهشاً : ماذا ؟ . أبو الحكم يتعرض له بعد أن قطع معي وعداً أن لا يمسه بأذى وقال لي : " لن أؤذيك في ابن أخيك " .
قالت فاختة : نكث اللعين بوعده، فها هو يتعرض له . قال حمزة : ولم يقم أحد دون ابن أخي . قالت فاختة : قام دونه أبو بكر بن قحافة فلقى من أصحاب أبى الحكم ما لقي .
وينطلق حمزة مشرعاً سيفه، فأبصر أبا الحكم في فناء الكعبة، يتوسط نفراً من سادة قريش، وكانوا قد فرغوا من عدوانهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى أبو الحكم الغضب في عين حمزة، أدرك أن هناك من أخبره، فقال ساخراً : ها أبا عمارة قد عاد من صيده وقنصه أين فرائسك اليوم يا أبا عمارة ؟ قال حمزة والشرر يتطاير من عينيه : أنت اليوم فريستي يا أبا الحكم . قال أبو الحكم : لعلك علمت بما حدث لابن أخيك الساعة . ولا يتمالك حمزة نفسه، ورفع قوسه بيده، وهوى على رأس أبى الحكم وهو يصيح : والله لأشجن رأسك .
ويسيل الدم من رأس المتعجرف، وينتفض من كان بمجلسه على صراخ أبى الحكم وهو ممسك برأسه التي شجت من ضربة حمزة قائلين في غضب : ما هذا يا أبا عمارة ؟ . شججت رأسه !! . شججت رأس صاحبك أبى الحكم ! . تضرب رأسه بقوسك ؟ .
وتخرج الكلمات من أبى الحكم وادعة لينة، كأنما ندم على فعله، أو كأنه أراد أن يتحاشى خصومة حمزة : شججت رأسي، وأسلت دمي ؟ . قال حمزة : سرعان ما نسيت فعلتك بابن أخي، ألم أحذرك من إيذائه، ألم أقل لك لا تؤذيني فيه . قال أبو الحكم : يا أبا عمارة، إنك لتثير فتنة بقيامك دون محمد .
قال حمزة في غضب : نحن دونكم يا أبا الحكم . وتثور بنو مخزوم قوم أبى الحكم لفعلة حمزة وتطاوله الذي بدا في كلامه أشبه بالتحدي . قالوا : شجوا رأس حمزة يا بني مخزوم كما شج رأس صاحبكم أبى الحكم . وكشر حمزة عن أنيابه وقال : والله لأقاتلنكم وحدي، وأنتم تعرفون من أنا، أنا أقواكم شكيمة، أنا أعز فتى في قريش، قال أبو الحكم : الممسك بجرحه : يا أبا عمارة واللات لو عاد ابن أخيك في استفزازنا لعدت . قال حمزة في حسم : والله لو تعرضت له ثانية لشججت رأسك بأقسى مما فعلت الساعة . قال أبو الحكم : فلتصرف هذا الساحر المجنون عنا .
قال حمزة : أتسبه وأنا على دينه، أقول ما يقول . وساد القوم حالة ذهول وقالوا في صوت واحد : صبأت يا أبا عمارة ؟ . أسلم حمزة وتابع ابن أخيه . وقال آخر : يا معشر بني مخزوم انصروا أبا الحكم . قال أبو الحكم : على رسلكم، على رسلكم لا يمس حمزة أحد . قال حمزة وقد توشح بسيفه في وجوههم : والله لو اقترب مني أحد لشطرته بسيفي شطراً . قال أحدهم : سبك يا أبا الحكم وتدعه يشج رأسك، واللات لا يعود إلى داره دون أن نشجه كما نشجك . قال أبو الحكم : على رسلكم، على رسلكم، دعوا أبا عمارة، فإني والله سببت ابن أخيه سباً قبيحاً .
وعاد حمزة إلى داره وترك عاصفة هوجاء في نفوس المشركين : حمزة ؟ . حمزة ؟ . أسلم أعز فتيان قريش وأقواهم شكيمة، فلولا أن أثاره أبو الحكم ما أسلم . وقال آخرون : إنما قالها في ساعة غضب، ولسوف يعود إلى رشده إذا جاء الصباح .
وفي الدار يستلقي حمزة على فراشه، ويستعرض في ذهنه أحداث ذلك اليوم العجيب، ويحدث نفسه قائلاً : أتراني أعلنت إسلامي في لحظة من لحظات الحمية والغضب والإنفعال ؟ . ويُفضي بما صدره إلى زوجه وتقول له : يا أبا عمارة هل داخلك الشك يوماً في صدق محمد . قال حمزة : لا والله ما شككت يوماً في صدقه ونزاهة قصده . قالت له : فما يدهشك من إسلامك اليوم، ذلك أمر كان لابد أن يحدث . قال حمزة : فما باله لم يحدث لك، ما بالك وأنت لا تشكين في صدق ابن أخي ونزاهة مقصده لا تسلمين .
قالت أم عمارة : ومن أدراك يا أبا عمارة أنني لم أسلم ؟ . قال حمزة في ذهول : أسلمتي وكتمتي عنى إسلامك ؟ . قالت : خشيت أن تردني عن ذلك . قال حمزة : أي فرق بين إسلامي وإسلامك يا أم عمارة ؟ . أنت أسلمتِ عن رؤية وتدبر، أما أنا فقد علمت كيف أعلنت إسلامي في لحظة غضب وحمية .
قالت أم عمارة لزوجها الحائر : لو تدبرت أمرك، ونشدت الحقيقة بعقلك لاستنار الطريق أمامك . قال حمزة : وددت أني سألت محمداً في ذلك ؟ . ولكني أخشى أن ارتد إلى ما كنت عليه فيسوء ظنه بي، وبيني وبينه ما تعرفين من حب وود . قالت له : فلا تذهب إلى رسول الله حتى تستيقن .
ويختلي حمزة بنفسه ساعة من الليل، مناجياً ربه، وقد جرد قلبه مما علق به من شوائب قبعت فيه، وكأن الله يدفعه دفعاً إلى طريقه، فدعاه قائلاً : اللهم إن كان خيراً فاجعل تصديقه في قلبي، وإن كان غير ذلك فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجاً . فلما أسفر الصبح إذا بحمزة وقد ولد ولادة جديدة، وقع تصديق الدين في قلبه .
ويغدو حمزة إلى ابن أخيه ليلقي أمامه بالشهادتين، ويفرح الرسول صلى الله عليه وسلم بإسلامه أشد الفرح، ويُعز الإسلام برجل هو من أقوى وأشجع رجالات قريش حمزة بن عبد المطلب .
ويعلم أبو طالب بإسلام حمزة أخيه، ولما سأل من جاءه بالخبر عما دفعه للإسلام، قص عليه القصة، فاغتم أبو طالب، ليس بإسلام حمزة، وإنما لتعرض قريش وذوي الطيش والنزق لابن أخيه محمد بالأذى , ولكنه كظم غيظه ولم يُرد تصعيد الأمر وقال في نفسه : إنها ساعة تعرض وانتهت . صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تعليقات
إرسال تعليق