القائمة الرئيسية

الصفحات

الطريق الي النور ( الحلقة/ 38 ) القلق يداهم سادات قريش



 الطريق الي النور

( الحلقة/ 38 ) القلق يداهم سادات قريش 

وقام عتبة إلى أصحابه ساهماً، فلما رآه أصحابه في مجلس قريش . قال عمرو بن هشام : سحرك كما سحر غيرك يا أبا الوليد، ها أنت تعود من مجلس محمد بغير الوجه الذي ذهبت به . 

قال عتبة : كف عن هذا يا أبا الحكم . وقال أبو سفيان : ماذا وراءك يا أبا الوليد، أراك ساهماً ؟ . قال عتبة وهو يجاهد نفسه لملمة الكلمات : ماذا ورائي ؟ . ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة . ثم التفت إلى جمع من المجتمعين وصاح : يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به . وساد المكان هرج ومرج ولم يعجبهم القول، فسخطوا على كبيرهم ـ عتبة ـ وقالوا له : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه . قال عتبة : هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم . 

ولم يصلوا إلى اتفاق يُسفر عن القيام بشيء تجاه محمد، ويخشى فريق العقلاء أن يُترك الزمام للمتهورين فيفسدوا ما يمكن تحقيقه بالأناة والحُلم . ويقوم الوليد بن المغيرة ويقول : يا معشر قريش لن ندع هذا الجمع ينفض دون أن نصل إلى رأي نتفق عليه، فإن كان عتبة قد لان فدعوني أسمع منه، وأُسمعه صوتكم، لأذهبن إليه الساعة . 

وينطلق الوليد بن المغيرة إلى محمد قبل أن يغادر المسجد، ويفاتحه بحديث كالذي قاله عتبة، ولا يُسمعه محمد صلى الله عليه وسلم إلا كلام الله، ويسمع الوليد كلام الله الذي يخلب العقول ويعجزها عن الإتيان بمثله، ويعود إلى المجتمعين وحاله كحال عتبة، طرقت أذنه كلمات بسيطة التراكيب، كمنت بداخلها عظمة البيان وروعة البلاغ . ووقف الوليد أمام الملأ من قريش، وقد سيطرت عليه الدهشة والذهول، فتلك أول مرة له يسمع القرآن بدون تشويش، بدون مغالطات ومقاطعات وكان في حال إنصات وتدبر . وبدا للقوم على حال غير الحال  الذي غادر به مجلسهم . 

فقالوا له : ماذا حدث مع محمد ؟ . قال الوليد : سمعت كلاماً والله ما سمعت مثله قط . إن لقوله لحلاوة . وإن عليه لطلاوة . وإن أعلاه لمثمر . وإن أسفله لمغدق، وأنه ليعلو ولا يعلى عليه . قالوا في استغراب : ويحك يا أبا الوليد أصبأت ؟ . 

قال الوليد ما صبأت، ولكن والله ما سمعت كلاماً كهذا . قالوا هذا شعر ؟ . قال : والله ليس فيكم من هو أدرى بالشعر مني، أعرف بحوره، وأعرف قوافيه، وأعرف نثره وكل تفاصيله، هذا ليس بالشعر . قالوا له : إذاً هذا الرجل كاهن ؟  قال الوليد : أعرف الكهانة، وأعرف تمتمتهم، وأعرف نيرانهم وكل أمورهم، والله ليس فيه من أمر الكهانة شيء . قالوا : مجنون إذاً ؟ . 

قال الوليد : أنا أعرف الجنون وأعرف الصدع، ولي دراية بحركاتها، ليس فيه من أمرهما شيء . قالوا : هو ساحر إذاً ؟ . قال : أعرف السحرة ونبتهم، ليس في قوله من السحر شيء . قالوا : ويحك يا أبا الوليد حارت عقولنا معك ماذا هو إذاً ؟ . 

قال الوليد : يا معشر قريش إن نظرتُ لكم أمراً فهلَّا أطعتموني ؟ . قالوا : قل . قال الوليد : يا قوم أخيركم بين أمرين ؟ . قالوا : ما هما ؟ . قال : الأمر الأول تتبعونه فإن كلامه الحق وأرى أنه سيفشو أمره بين العرب . وقاطعه الجميع وساد المكان صخب وصياح قالوا : سحرك واللات محمد، ما نترك ديننا أبداً . 

قال الوليد : فإن أبيتم عليكم بالأمر الثاني . قالوا : ما هو ؟ . 

قال الوليد : ما أشار عليكم به عتبة بن ربيعة " خلَّوا بين هذا الرجل، وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فإن تصيبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به " . صاحوا فيه : ما أتيت لنا بجديد يا أبا الوليد، وما لومك لعتبة إذاً حين أتى من عند محمد بما تقول، لا واللات ما نخلي بينه وبين الناس . 

 ورأى الوليد في قومه الإصرار على مجابهة محمد والتصدي له، وصار في موقف حرج بعد هذا الكلام الذي قال، فإن لم يسايرهم فقد تشك قريش في نواياه وقد يترتب على ذلك فقدانه مكانته، وحسبها سريعاً وفق المصالح، ونحَّى العقل جانباً، ولم يُعمله إلا في تصحيح موقفه .. فقال لهم : ما أنتم بقائلين في محمد بشيء إلا عُرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا " ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته .. أوجد الوليد لهم التهمة المناسبة، أوجد لهم المبرر الأخلاقي أمام العرب لحرب محمد، انقلب الوليد بعدما كان قاب قوسين أو أدنى من الحق، انتكس الوليد لما رأى عرض الدنيا في خطر، وتنزل فيه الآيات ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ) المدثر/ 11: 25 .

ويقول الوليد : يا معشر قريش لم نقطع الأمل بعد في أبى طالب، فهو كبير المقام بيننا، ونخشى أن نتعرض لابن أخيه بعمل تنشب فيه الفتنة بيننا، أرى أن نذهب إليه في وفد من سادة قريش . 

ولم يُعجب أبو الحكم هذا الرأي فقال : وقد فعل عتبة ذلك ولم يكف ابن أخيه عنا قال الوليد : فلنفعل ذلك مرة أخرى في جمع من رؤوس قريش، عندها يكون الحديث أجدى . 

وعاد أبو سفيان إلى داره، وكانت هند بنت عتبة تنتظره في لهفة لسماع ما دار هناك، وما توصلوا له .. فقالت لزوجها : ما فعلت ؟ . قال أبو سفيان : كانت كل رجالات مكة هناك، قرروا إرسال وفد من أشراف قريش إلى أبى طالب . قالت هند : وماذا سيقولون له ؟ . قال أبو سفيان : سيقولون إما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه فنكفيكه، وقد أشار الوليد يا هند بأن نصد الناس عنه بقولنا إنه ساحر يفرق بين المرء وزوجه وأخيه وبين المرء وعشيرته، وتفرقنا على هذا . 

ويأتي يوم فيه يتوجه وفد من سادة مكة إلى أبى طالب، على رأسهم الوليد بن المغيرة ومعه عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان، والعاص بن هشام، والعاص بن وائل، وأبو الحكم عمرو بن هشام، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر . 

وفد يضم بطون قريش المتضررة من الدعوة الجديدة، وقصدوا بيت أبى طالب وقالوا له : يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا،وعاب ديننا وسفَّه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه !! .

وهدَّأ أبو طالب من روعهم، وأزال مخاوفهم، وردهم رداً جميلاً، فانصرفوا عنه وقد أخذوا منه وعداً بكفه عما يكرهون . ويستمر الرسول صلوات ربى وسلامه عليه في دعوته لا يأبه بتلك التحركات الخائفة على مصائرها، وكلما رأت قريش الأتباع يزيدون كل يوم، وكلما سمعوا بنزول كلام من الله إليه جديد، يردده مُريدوه . زاد قلقهم واشتعلت قلوبهم حقداً وغضباً . ولم ير سادات قريش أي أثر على الأرض لتعهد أبى طالب بكفه عنهم . فعاودوا الرجوع إليه يذكرونه بما كان منه، فمكانته تستوجب ذلك ومقامه بين قريش يحول دون أن يمس أحد محمداً بسوء في حياته، فقالوا له : ياأبا طالب إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا حتى تسكنه وتكفه عما يدعو إليه، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين . 

وانصرفوا وتركوا أبا طالب في حالة من الهم والحزن عكرت عليه صفاء عيشه، فليس سهلاً عليه معاداة قومه ومفارقتهم فهذا أمر كبير، والأكبر منه خذلان ابن أخيه، ولم يطب أبو طالب نفساً بالإسلام، وليس أمامه إلا محاولة امتناع ابن أخيه بالتخلي عن هذا الدين، ليخرجه مما تورط فيه مع قومه . 

فبعث أبو طالب إلى محمد وقال له : يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا ما قالوا فابق علىِّ وعلى نفسك ولا تُحملني من الأمر ما لا أطيق . وينتاب الرسول صلى الله عليه وسلم لحظات صمت، أحس خلالها أن عمه قد بدا منه التخلي والخذلان، وأنه قد ضعف على نصرته فقال النبي : يا عمَ والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لن أتركه حتى يظهره الله، أو أهلك دونه . 

وبكى النبي صلى اهتن عليه وسلم بعدما قال ذلك، وهمَّ بالانصراف، لكن قلب عمه الرقيق لان ورق فقام إليه وقال : اقبل يا ابن أخي . فأقبل عليه النبي، فقال له أبو طالب : امض على أمرك وافعل ما أحببت، فوالله لا أُسلمك لشيء أبداً . وأنشد يقول : 

والله لن يصـلوا إليك بجمعهـم  ...   حتى أوسـد في التراب دفينـاً . 

فامض لأمرك ما عليك غضاضة ...      أبشـر وقر بذاك منـك عـيوناً . 

ودعوتني وعملـت أنك ناصحي  ... فلقد صدقـت وكنت قدم أمينـاً . 

وعرضت دينـا قد عـرفت بأنه     ...      من خير أديـان الـبرية دينـاً . 

لـولا المـلامة أو حـذاري سـُبَّة  ...   لوجدتني سمـحـاً بذاك مبيناً .

وعلمت قريش أن أبا طالب قد أبى خذلان ابن أخيه، وإن كان على حساب عداوتهم له، ويأتونه للمرة الثالثة، يعرضون عليه أمراً غير النصح، فقد اصطحبوا معهم شاباً حسيباً من أشرافهم، وأرادوا إبداله بمحمد ليتسنى لهم القضاء عليه، ويكون الشاب ابناً بديلاً لمحمد عند أبى طالب، فدخلوا على أبى طالب ومعهم - عمارة بن الوليد بن المغيرة - وقالوا له : يا أبا طالب عمارة بن الوليد، ابن سيد مكة، وهو أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولداً فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرَّق جماعة قومك، وسفَّه أحلامنا فنقتله فإنما هو رجل برجل ! . 

قال أبو طالب لهم في استخفاف بقولهم : والله لبئس ما تسومونني ؟ . أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني فتقتلونه ؟ . هذا والله ما لا يكون أبداً . 

وانتفض ( المطعم بن عدي ) وقال : والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما نكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً ؟ . قال أبوطالب في غضب : والله يا مطعم بن عدي ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت على خذلاني ومظاهرة القوم عليِّ فاصنع ما بدا لك . 

وغادر وفد قريش دار أبى طالب، وبذا تكون تلك هي المحاولة الثالثة التي لم ينجم عنها شيء، سوى إطلاق العنان لمحمد ينشر دعوته تحت حماية عمه، ويُرى وسط المغادرين أبا سفيان يحمل الخطى حملاً إلى داره، وقد ركبه هم هميم، يفكر وهو في طريقه يقول في نفسه : وإلى أين تتجه المقادير ؟ . فمحمد يحمل دعوة بليغة قوية تنصت الآذان لها، وتتحرك القلوب إليها وتخلب العقول وتسلم لمنطقها بالإذعان، وما عسانا فعله إزاء خطرها على مكانتنا في القوم . أبو طالب رفض النصح الهادئ وأعرض عن المساومة وقبل التحدي، وكره الرجل إغضاب ابن أخيه ما أعسر هذه الأيام التي تمر بها مكة . 

ودخل أبو سفيان داره حزيناً ليأوي إلى قسط من الراحة، راجياً من هند زوجه أن تكف عنه الحديث الذي كره أن يلازمه في راحته تلك، لعله ينسى أو يتناس ما وقع فيه، وما أصاب قومه من الشر . ولكن الأحداث المتلاحقة لا تدعه يمسك بالراحة، فإذا بصوت امرأة  تنادي بأعلى صوتها : أبا سفيان، أبا سفيان . قال : هند من ينادي ؟ . قالت هند : هذا صوت أختك أم جميل . قال أبو سفيان : أدخليها .

ودخلت أم جميل وهي في حالة شديدة من الغضب، تلتقط أنفاسها بالكاد قالت : يا أبا سفيان . محمد . محمد يهجوني ولا أراك تحرك ساكناً . قال   أبو سفيان : يهجوكِ وأنت الشاعرة ؟ . قالت أم جميل : نعم لقد هجاني وأسماني حمَّالة الحطب . قالت هند : لماذا لم ترد عليه ؟ . قالت أم جميل : لقد فعلت . فعلت وقلت " مذمم عصينا، وأمره أبينا، ودينه خلينا " ولكن لا أحد يردد شعري بينما الكل يردد ما قاله هو، والله لو مسكته لضربت فاهه بحجر، ولكني يا هند سأفعل ما هو أشد ألماً، سأضربه ضربة موجعة . قالت هند: ضربة موجعة ؟ . ماذا تقصدين يا أم جميل ؟ . قالت أم جميل : بنتا محمد رقية وأم كلثوم منذ أن جاء أبوهما بما جاء يلزمان داره، سأجعل أبا لهب يأمر بتطليقهما من ولدينا عتبة وعتيبة . ولم تُكذب أم جميل خبراً، ألحت على زوجها أبى لهب، وانصاع لطلبها وأمر ابنيه بتطليقهما، وكانت ضربة قاسية للرسول، احتواها بصبر وثبات فالطريق شاق وطويل .

صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .

ملحوظة:

هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة ..  هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.

محمد مصطفى

تكملة ( الحلقة/ 38 ) القلق يداهم سادات قريش !!

ويأتي يوم فيه يتوجه وفد من سادة مكة إلى أبى طالب، على رأسهم الوليد بن المغيرة ومعه عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان، والعاص بن هشام، والعاص بن وائل، وأبو الحكم عمرو بن هشام، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر .. وفد يضم بطون قريش المتضررة من الدعوة الجديدة، وقصدوا بيت أبى طالب وقالوا له : يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا،وعاب ديننا وسفَّه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه !! .

وهدَّأ أبو طالب من روعهم، وأزال مخاوفهم، وردهم رداً جميلاً، فانصرفوا عنه وقد أخذوا منه وعداً بكفه عما يكرهون . ويستمر الرسول صلوات ربى وسلامه عليه في دعوته لا يأبه بتلك التحركات الخائفة على مصائرها، وكلما رأت قريش الأتباع يزيدون كل يوم، وكلما سمعوا بنزول كلام من الله إليه جديد، يردده مُريدوه . زاد قلقهم واشتعلت قلوبهم حقداً وغضباً . ولم ير سادات قريش أي أثر على الأرض لتعهد أبى طالب بكفه عنهم . فعاودوا الرجوع إليه يذكرونه بما كان منه، فمكانته تستوجب ذلك ومقامه بين قريش يحول دون أن يمس أحد محمداً بسوء في حياته، فقالوا له : ياأبا طالب إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا حتى تسكنه وتكفه عما يدعو إليه، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين . 

وانصرفوا وتركوا أبا طالب في حالة من الهم والحزن عكرت عليه صفاء عيشه، فليس سهلاً عليه معاداة قومه ومفارقتهم فهذا أمر كبير، والأكبر منه خذلان ابن أخيه، ولم يطب أبو طالب نفساً بالإسلام، وليس أمامه إلا محاولة امتناع ابن أخيه بالتخلي عن هذا الدين، ليخرجه مما تورط فيه مع قومه . 

فبعث أبو طالب إلى محمد وقال له : يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا ما قالوا فابق علىِّ وعلى نفسك ولا تُحملني من الأمر ما لا أطيق . وينتاب الرسول صلى الله عليه وسلم لحظات صمت، أحس خلالها أن عمه قد بدا منه التخلي والخذلان، وأنه قد ضعف على نصرته فقال النبي : يا عمَ والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لن أتركه حتى يظهره الله، أو أهلك دونه . 

وبكى النبي صلوات ربي وسلامه عليه بعدما قال ذلك، وهمَّ بالانصراف، لكن قلب عمه الرقيق لان ورق فقام إليه وقال : اقبل يا ابن أخي . فأقبل عليه النبي، فقال له أبو طالب : امض على أمرك وافعل ما أحببت، فوالله لا أُسلمك لشيء أبداً . وأنشد يقول : 

والله لن يصـلوا إليك بجمعهـم  ...   حتى أوسـد في التراب دفينـاً . 

فامض لأمرك ما عليك غضاضة ... أبشـر وقر بذاك منـك عـيوناً . 

ودعوتني وعملـت أنك ناصحي  ... فلقد صدقـت وكنت قدم أمينـاً . 

وعرضت دينـا قد عـرفت بأنه     ...  من خير أديـان الـبرية دينـاً . 

لـولا المـلامة أو حـذاري سـُبَّة  ...   لوجدتني سمـحـاً بذاك مبيناً .

وعلمت قريش أن أبا طالب قد أبى خذلان ابن أخيه، وإن كان على حساب عداوتهم له، ويأتونه للمرة الثالثة، يعرضون عليه أمراً غير النصح، فقد اصطحبوا معهم شاباً حسيباً من أشرافهم، وأرادوا إبداله بمحمد ليتسنى لهم القضاء عليه، ويكون الشاب ابناً بديلاً لمحمد عند أبى طالب، فدخلوا على أبى طالب ومعهم - عمارة بن الوليد بن المغيرة - وقالوا له : يا أبا طالب عمارة بن الوليد، ابن سيد مكة، وهو أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولداً فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرَّق جماعة قومك، وسفَّه أحلامنا فنقتله فإنما هو رجل برجل ! . 

قال أبو طالب لهم في استخفاف بقولهم : والله لبئس ما تسومونني ؟ . أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني فتقتلونه ؟ . هذا والله ما لا يكون أبداً . 

وانتفض ( المطعم بن عدي ) وقال : والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما نكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً ؟ . قال أبوطالب في غضب : والله يا مطعم بن عدي ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت على خذلاني ومظاهرة القوم عليِّ فاصنع ما بدا لك . 

وغادر وفد قريش دار أبى طالب، وبذا تكون تلك هي المحاولة الثالثة التي لم ينجم عنها شيء، سوى إطلاق العنان لمحمد ينشر دعوته تحت حماية عمه، ويُرى وسط المغادرين أبا سفيان يحمل الخطى حملاً إلى داره، وقد ركبه هم هميم، يفكر وهو في طريقه يقول في نفسه : وإلى أين تتجه المقادير ؟ . فمحمد يحمل دعوة بليغة قوية تنصت الآذان لها، وتتحرك القلوب إليها وتخلب العقول وتسلم لمنطقها بالإذعان، وما عسانا فعله إزاء خطرها على مكانتنا في القوم . أبو طالب رفض النصح الهادئ وأعرض عن المساومة وقبل التحدي، وكره الرجل إغضاب ابن أخيه ما أعسر هذه الأيام التي تمر بها مكة . 

ودخل أبو سفيان داره حزيناً ليأوي إلى قسط من الراحة، راجياً من هند زوجه أن تكف عنه الحديث الذي كره أن يلازمه في راحته تلك، لعله ينسى أو يتناس ما وقع فيه، وما أصاب قومه من الشر . ولكن الأحداث المتلاحقة لا تدعه يمسك بالراحة، فإذا بصوت امرأة  تنادي بأعلى صوتها : أبا سفيان، أبا سفيان . قال : هند من ينادي ؟ . قالت هند : هذا صوت أختك أم جميل . قال أبو سفيان : أدخليها .

ودخلت أم جميل وهي في حالة شديدة من الغضب، تلتقط أنفاسها بالكاد قالت : يا أبا سفيان . محمد . محمد يهجوني ولا أراك تحرك ساكناً . قال   أبو سفيان : يهجوكِ وأنت الشاعرة ؟ . قالت أم جميل : نعم لقد هجاني وأسماني حمَّالة الحطب . قالت هند : لماذا لم ترد عليه ؟ . قالت أم جميل : لقد فعلت . فعلت وقلت " مذمم عصينا، وأمره أبينا، ودينه خلينا " ولكن لا أحد يردد شعري بينما الكل يردد ما قاله هو، والله لو مسكته لضربت فاهه بحجر، ولكني يا هند سأفعل ما هو أشد ألماً، سأضربه ضربة موجعة . قالت هند: ضربة موجعة ؟ . ماذا تقصدين يا أم جميل ؟ . قالت أم جميل : بنتا محمد رقية وأم كلثوم منذ أن جاء أبوهما بما جاء يلزمان داره، سأجعل أبا لهب يأمر بتطليقهما من ولدينا عتبة وعتيبة . ولم تُكذب أم جميل خبراً، ألحت على زوجها أبى لهب، وانصاع لطلبها وأمر ابنيه بتطليقهما، وكانت ضربة قاسية للرسول، احتواها بصبر وثبات فالطريق شاق وطويل .

صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .

ملحوظة:

هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة ..  هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.

محمد مصطفى

تعليقات

التنقل السريع
    close