القائمة الرئيسية

الصفحات



الطريق الي النور

 ( الحلقة/ 37 ) قريش تحتشد فى دار الندوة 

هكذا ثاب مصعب في مساء ذاك اليوم إلى الهدى، ولمَّا أسفر الصبح غدا في طريقه يسأل عن محمد، فعلم أنه في دار الأرقم بن أبى الأرقم، وتحسس حوله حذراً أن يراه أحد فيبلغ أمه، فإذا تفرقت مكة تتقي الهاجرة، قصد مصعب بن عمير طريق جبل الصفا حيث دار الأرقم، وتلفت يمنةً ويسرةً، فلما اطمأن دخل الدار، وألقى السلام على من فيه، وجلس يسمع مع السامعين حديث الهدى، ويتسلل النور إلى قلبه كلما سمع القرآن يُتلى بصوت النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد أن فرغ الرسول صلوات ربى وسلامه عليه من الجمع دنا مصعب ناحيته، وألقى بالشهادتين، وخرج من فرط سعادته يريد أن يصيح في شِعاب مكة وشوارعها وحاراتها بأنه مسلم، بأنه من أتباع محمد، بأنه اعتنق دين المحبة والسلام والخير، دين التسامح والوحدانية، بأنه أدرك أخيراً ما كان يتمنى أن يدركه منذ طفولته، أن الله واحد، وأنه لا يمكن لهذا الكون أن يستقيم إذا تعددت تلك الآلهة الصماء، الخرساء، العمياء . 

وينطلق خلفه أبو بكر بن أبى قحافة ويجذبه نحوه في رفق قائلاً : يا مصعب لا تدع الفرحة تغلبك على أمرك، وتدفعك إلى ما لا نحب أن يحدث لك . 

قال مصعب : والله يا أبا بكر لوددت أن أطلب من رسول الله، أن يأذن لي، وأذهب وأصلي بالكعبة، لولا أني ذكرت حبي لأمي، وأن أمراً كهذا سيكسر قلبها، وليس في الدنيا من هو أحب إليها مني . 

قال أبو بكر : عجبت لأمر أمك (خناسة بنت مالك)، هي من بني عبد الدار أخوال رسول الله، ومع هذا تتآمر مع جميلة زوجة عمه أبى لهب . قال مصعب : الآن أدركت سبب تردد جميلة على دارنا، وسبب تردد أمي على دارها .

قال أبو بكر : فاحذر أن تطلع أمك على أمرك يا مصعب الخير . قال مصعب : ما أجمل هذا الاسم يا أبا بكر - مصعب الخير . قال أبو بكر : ذكرك به رسول الله بعد أن غادرت مجلسه . قال مصعب : تنصحني يا أبا بكر بالتأني، ولم والإسلام خير الدنيا والآخرة، واجب على كل مسلم أن يعلن ما أصابه من خير عميم يكيد به الكفار . قال أبو بكر : لازلنا قلة يا ولدي، وإن كان أعلن الرسول دعوته، مصرح بها فذاك أمر آتاه من الله، وإذا كنت أخشى عليك أحداً فهي أمك، لا أحد يبغض الإسلام كما تبغضه أمك، ولو علمت بإسلامك لا نأمن شرها عليك . قال مصعب : أمي تحبني كما تحب أم ولدها يا أبا بكر . 

قال أبو بكر : وستبغضك كما لم تبغض أم ولدها إذا علمت بإسلامك، فهي تفاخر بك قريش كلها وتقول " ووهبت ولدي مصعب لمناة، فجعلته أصبى فتيان العرب " اكتم إسلامك حتى يأمرك رسول الله بإعلانه . 

ويفعل مصعب ما أمره أبو بكر، وتدور في أروقة المجتمع المكي أحاديث، طغت على مجالس القوم أينما حلوا، ليس هناك حديث أهم من الحديث الذي يدور عن محمد وزعمه النبوة، وذلك الكلام الذي أتى به من السماء، وهؤلاء الذين وضعوا في حرج بالغ فقل ذكرهم في المجالس، وانحرف الكلام ناحية ما يدور في دار الأرقم، ومن أكثر المتضررين بهذا - أبو سفيان، وزوجه هند بنت عتبة - التي كانت تعد نفسها لتكون سيدة قريش الأولى، وكان يطيب لها سماع كلمات الثناء والإطراء لزوجها أبى سفيان، كبير تجار مكة، وسيد من ساداتها، وكلما سمعت هند الناس تحكي عن هذا الحدث الجلل، أصابها غم وانقباض، فهي لا تريد ذكراً في المجالس سوى لأبى سفيان وتجارة أبى سفيان، وزعامة أبى سفيان، وكانت تخشى عليه المنافسة من عمرو بن هشام - أبى الحكم - ولكنه متكبر متعجرف لا يليق للزعامة، وكانت تخشى أن ينافسه حمزة بن عبد المطلب الجاف الطبع، ولكنه لاه بصيد الأسود ولا يتطلع إلى زعامة قريش، فقد تركها لأخيه أبى طالب،أفيكون محمداً هو من يتزعم قريشاً بهذا السحر الذي جاء به . 

هكذا قلَّبت هند الأمور في رأسها، ولكنها طرحت في ساعة كل هذه الهواجس جانباً، فعليها الآن أن تأمر غلمانها بإعداد الراحلة لأبى سفيان الذي يعد نفسه للخروج مع نفر من أشراف قريش، فيهم العباس عم النبي صلوات ربى وسلامه عليه، إلى اليمن بقافلة تحمل بضائع من مكة .

حطت القافلة بأرض اليمن، وابتاع رهط قريش بضاعتهم، وجنوا فيها ربحاً وفيراً، واحتملوا من بضائع اليمن ما يصلح للبيع في مكة، وقبل أن تمسك القافلة بطريق العودة، حدث ما أزعج وأفزع أبا سفيان، إذا بحبر من أحبار يهود يُسرع الخطى نحوهم، وينادي بأعلى صوته : أي قافلة قريش .. أي قافلة قريش .. فهبَّ أبو سفيان قائلاً : ما بك يارجل ؟ . قال الحبر المسن الذي تبدى عليه عناء اللحاق بالقريشيين . ثيابه مُعفَّرة بالغبار وخرجت من هندبتها، العرق يتصبب من جبينه، يلتقط أنفاسه رغماً . قال : بلغني أن فيكم عم هذا الرجل . 

قال أبو سفيان : أي رجل . قال : الذي قال بمكة إنه رسول . 

ويسكت أبو سفيان وقد تلون وجهه غضباً، وكأنما يقول في نفسه " ضربنا أكباد الإبل، وقطعنا الفيافي، وسيرة محمد بن عبد الله تلاحقنا، تركت حديث الناس عنه في مكة، فإذا بي أجده في اليمن " ولما طال صمته، رد العباس عم النبي وكان بجوار أبى سفيان قال : أنا عمه . فأدار الحبر المسن وجهه إلى العباس، وكان الحبر مرتبكاً، مترجل الكلمات قال : ناشدتك الله، ناشدتك الله، هل عهدت على ابن أخيك خداع الناس ؟ . قال العباس : لا والله ولا كذب، ولا خان، وما كان اسمه عند قريش إلا الأمين الصادق .

قال الحبر : ناشدتك الله، هل كتب بيده ؟ . قال العباس : لا، لا يكتب . 

وينتفض الحبر من مكانه وهو يصيح : قُتلت يهود، ذُبحت يهود . ولما أراد أبو سفيان استبيان أمر الحبر، ودنا منه، انطلق يعدو كمن أراد أن يستعلم أمراً وعلمه، انطلق وهو يصيح : قُتلت يهود، ذُبحت يهود . حتى غاب عن أعينهم، وترك الركب القرشي في حالة ذهول، ولا يدرون ماذا يعني الرجل بهذه الكلمات التي أعقبت حديثه مع العباس . 

وانطلقت القافلة في طريق العودة، تطوي الأرض طياً، وأبو سفيان يحدوه الشوق لمكة، بعد أن ترك كلام الحبر في قلبه مخاوف عليها، من هذا الذي جاء به محمد إليها، وكلما تذكر صرخات الحبر " قُتلت يهود، ذُبحت يهود " حدَّث نفسه قائلاً " ألهذا الحد سيصل بأس هذا الدين الذي يدعو به محمد قريشاً ؟ " . 

ويصل الركب سالماً غانماً إلى أم القرى، وتستقبل قريش القافلة بالبش والترحاب وبعد أن يؤدي أبو سفيان الأموال، ويُسلم البضائع إلى أهلها، يعود إلى داره ليجد هند بنت عتبة زوجه، على حال لم يعدها عليه إذا حل من سفر، ويسألها عما دار في غيبته : خبريني يا هند عما جرى في مكة أثناء غيابي ؟ . قالت وهي غاضبة : لقد طال واللات شر ابن عبد المطلب، تجرأ على سادة مكة، وجهر أمامهم بكلام يزعم أنه يأتيه من السماء، وكذا فعل بعض أصحابه . 

قال أبو سفيان : كلام !! . وأي كلام هذا ؟ . قالت هند : لم أحفظها ممن قاله، ولكنه يشير فيه إلى تسفيه الآلهة وسبّها، ونبذ ما سوى إلهه من آلهة . قال أبو سفيان وكأنه  توقع سماع مثل هذا : لقد علمت بهذا في اليمن . 

قالت هند متعجبة : في اليمن !! . قال أبو سفيان : نعم . جاءنا حبر من أحبار يهود، وسأل عن أشياء تخص محمداً، أجابه عنها العباس، وما أن سمع منه حتى انتفض كمن به مس من الجن متخلياً عن ردائه ووقاره وهو يصرخ " ذُبحت يهود، قُتلت يهود " فانطلق من أمامنا لا يلوى على شيء . 

قالت هند : وماذا فعل العباس ؟ . قال أبو سفيان : لم يقل شيئاً، ولكني قلت له :  " يا عباس اليهود يفزعون من ابن أخيك " . فقال لي : " لعلك تؤمن به يا أبا سفيان " . فقلت له : " لن أفعل ذلك أبداً " . ولكن يا هند لمحت الكراهة في وجه العباس بما قلته له . قالت هند : لقد قال إن ربه أمره أن يجهر بالدعوة، فدعا قومه بني هاشم إلى أمره . قال أبو سفيان : ليس هذا بجديد علىِّ، فقد علمته قبل سفري، وعلمت أيضاً أن عمه أبى لهب تنطّح له، وقال له كلاماً كثيراً . 

قالت هند : فأنت تعرف إذن منذ مدة ولم تخبرنى، ماذا قال له أبو لهب ؟ .

قال أبو سفيان : قال له " اعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة فاقة، وأنا أحق من آخذك . فحسبك بنو أبيك، لئن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش وتمدهم العرب . فما عهدت أحداً جاء على بني أبيه بشرٍ مما جئت به " . قالت هند : ودعاهم محمد ثانية، وعرض عليهم دعوته فقال أبو طالب : " ما أحب إلى معاونتك وإنما أنا واحد منهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أمرت به فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك " . قال أبو سفيان : إذن فقد تعهد أبو طالب بحمايته !! . 

قالت هند : نعم وقال أيضاً " والله لنمنعنه ما بقينا " . قال أبو سفيان : وماذا فعل أبوكِ عتبة ؟ . ألم ير لنا رأياً وهو كبيرنا ؟ . قالت هند : ذهب إلى أبى طالب يرغبه باللين وبالموادعة في أن يكف محمداً عن دعوته قال له : " إنك يا أبا طالب ما علمت فينا، وإن محمداً كواحد منا لا نكرهه على شئ لا يرضاه لنفسه، فما باله يكرهنا على أشياء لا نرضاها لأنفسنا، كفه عنا يا أبا طالب " . 

ويقطع الحديث الدائر بين أبى سفيان وهند بنت عتبة صوت طرق على باب الدار ويفتح أبو سفيان الباب ليجد غلاماً يحمل بلاغاً له من سادة مكة المجتمعين في دار الندوة، للتشاور في أمر محمد، يريدونه معهم يشاركهم الرأي . 

ويدخل أبو سفيان على قومه في دار الندوة، وقد علت الأصوات بالخلاف، فريق من سادة مكة يرون في الحسم وسيلة فعّالة، وفريق آخر من عقلائها يُقدمون الحوار عليه، ويأخذ أبو سفيان مجلسه، ويصغى للمشادة الكلامية الدائرة بين أبى الحكم عمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة والد زوجه هند  .. يقول أبو الحكم : هذا من فعلك يا عتبة بن ربيعة، لو عنفت بأبي طالب ما استشرى أمر ابن أخيه . قال عتبة في غضب : أنت أفسدت الأمر بتهجمك على الشيخ، أي عنف هذا الذي تطالبني أن آخذ به أبا طالب ومحمداً وهما سيدان من سادات قريش، تريد أن يكف محمد عنا ما يقول ؟ .أو لا يكون ذلك يا أبا الحكم إلا بالعنف العنيف الذي توشك به أن تمزق شمل قريش . قال أبو الحكم والشرر يتطاير من عينيه : وما أراه يكون بهذا اللين الذليل الذي أطمع فينا محمداً وصحبه . 

ولا يقر الوليد بن المغيرة ابن أخيه أبا الحكم على أسلوبه الذي فاتح به أبا طالب آنفا، فقد بادره بكلام لا يليق بالمرء أن يُحدّث به كبيراً كأبي طالب، له ما له من القدر والمكانة والشرف في قريش . فقال الوليد : صدق عتبة يا عمرو بن هشام، لأن أبا طالب أكبر من أن يخضع للتهديد الذي ألقيت به في وجهه، دع عتبة يعالج هذا الأمر بالصبر الأناة . فقال عتبة : هل لكم في أمر يا معشر قريش ؟ . قالوا : فقل يا عتبة . قال عتبة : أقول دعوني أقوم الآن وأدرك محمداً وهو يطوف عند البيت ويصلي كعادته، وأكلمه وأعرض عليه ما لا يأبى الرجل الكريم منا أن يقبله، عسى أن يكون في ذلك إصلاح ذات البين وجمع شمل قريش الذي تشتت، ويوشك إذا لج كل منا في العناد أن لا يجتمع أبداً، وهذا ما نخشاه على قريش .

ويقر الجميع خطوة عتبة، وينطلق فيدرك الرسول وقد استراح في ركن من المسجد، وأشرق وجه الرسول صلى الله عليه وسلم حين رأى عتبة مقبلاً عليه، وأمّل أن يكون حضوره لخير، ويجلس عتبة إلى الرسول ويقول له في صوت حاني رقيق : يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من الشرف في العشيرة، والمكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضي من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها . 

ولأول مرة تقترب قريش في هذه اللحظة من الدين الجديد، بالحوار الهادئ المتزن، لهذا أقبل رسول الله صلوات ربى وسلامه عليه على عتبة إقبال من يريد للحوار أن يتصل فقال لعتبة في توقير : قل يا أبا الوليد . قال عتبة : يا ابن أخي إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً , جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا من أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه . 

ويلجأ الرسول في رده إلى المنطق الرباني، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . قال عليه الصلاة والسلام : أو قد فرعت يا أبا الوليد ؟ . قال عتبة : نعم يا ابن أخي . قال الرسول : فاسمع مني، ثم مضى في تلاوة سورة فصلت  {حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} واسترسل الرسول في التلاوة بصوته الندي وعتبة مشدوها ينصت لهذا الكلام الرفيع العالي المقام، حتى إذا انتهى رسول الله إلى موضع السجدة في السورة سجد ثم قام وقال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك .

صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .

ملحوظة:

هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة ..  هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.

محمد مصطفى

تكملة ( الحلقة/ 37 ) قريش تحتشد فى دار الندوة !! 

وانطلقت القافلة في طريق العودة، تطوي الأرض طياً، وأبو سفيان يحدوه الشوق لمكة، بعد أن ترك كلام الحبر في قلبه مخاوف عليها، من هذا الذي جاء به محمد إليها، وكلما تذكر صرخات الحبر " قُتلت يهود، ذُبحت يهود " حدَّث نفسه قائلاً " ألهذا الحد سيصل بأس هذا الدين الذي يدعو به محمد قريشاً ؟ " . 

ويصل الركب سالماً غانماً إلى أم القرى، وتستقبل قريش القافلة بالبش والترحاب وبعد أن يؤدي أبو سفيان الأموال، ويُسلم البضائع إلى أهلها، يعود إلى داره ليجد هند بنت عتبة زوجه، على حال لم يعدها عليه إذا حل من سفر، ويسألها عما دار في غيبته : خبريني يا هند عما جرى في مكة أثناء غيابي ؟ . قالت وهي غاضبة : لقد طال واللات شر ابن عبد المطلب، تجرأ على سادة مكة، وجهر أمامهم بكلام يزعم أنه يأتيه من السماء، وكذا فعل بعض أصحابه . 

قال أبو سفيان : كلام !! . وأي كلام هذا ؟ . قالت هند : لم أحفظها ممن قاله، ولكنه يشير فيه إلى تسفيه الآلهة وسبّها، ونبذ ما سوى إلهه من آلهة . قال أبو سفيان وكأنه توقع سماع مثل هذا : لقد علمت بهذا في اليمن . 

قالت هند متعجبة : في اليمن !! . قال أبو سفيان : نعم . جاءنا حبر من أحبار يهود، وسأل عن أشياء تخص محمداً، أجابه عنها العباس، وما أن سمع منه حتى انتفض كمن به مس من الجن متخلياً عن ردائه ووقاره وهو يصرخ " ذُبحت يهود، قُتلت يهود " فانطلق من أمامنا لا يلوى على شيء . 

قالت هند : وماذا فعل العباس ؟ . قال أبو سفيان : لم يقل شيئاً، ولكني قلت له : " يا عباس اليهود يفزعون من ابن أخيك " . فقال لي : " لعلك تؤمن به يا أبا سفيان " . فقلت له : " لن أفعل ذلك أبداً " . ولكن يا هند لمحت الكراهة في وجه العباس بما قلته له . قالت هند : لقد قال إن ربه أمره أن يجهر بالدعوة، فدعا قومه بني هاشم إلى أمره . قال أبو سفيان : ليس هذا بجديد علىِّ، فقد علمته قبل سفري، وعلمت أيضاً أن عمه أبى لهب تنطّح له، وقال له كلاماً كثيراً . 

قالت هند : فأنت تعرف إذن منذ مدة ولم تخبرنى، ماذا قال له أبو لهب ؟ .

قال أبو سفيان : قال له " اعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة فاقة، وأنا أحق من آخذك . فحسبك بنو أبيك، لئن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش وتمدهم العرب . فما عهدت أحداً جاء على بني أبيه بشرٍ مما جئت به " . قالت هند : ودعاهم محمد ثانية، وعرض عليهم دعوته فقال أبو طالب : " ما أحب إلى معاونتك وإنما أنا واحد منهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أمرت به فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك " . قال أبو سفيان : إذن فقد تعهد أبو طالب بحمايته !! . 

قالت هند : نعم وقال أيضاً " والله لنمنعنه ما بقينا " . قال أبو سفيان : وماذا فعل أبوكِ عتبة ؟ . ألم ير لنا رأياً وهو كبيرنا ؟ . قالت هند : ذهب إلى أبى طالب يرغبه باللين وبالموادعة في أن يكف محمداً عن دعوته قال له : " إنك يا أبا طالب ما علمت فينا، وإن محمداً كواحد منا لا نكرهه على شئ لا يرضاه لنفسه، فما باله يكرهنا على أشياء لا نرضاها لأنفسنا، كفه عنا يا أبا طالب " . 

ويقطع الحديث الدائر بين أبى سفيان وهند بنت عتبة صوت طرق على باب الدار ويفتح أبو سفيان الباب ليجد غلاماً يحمل بلاغاً له من سادة مكة المجتمعين في دار الندوة، للتشاور في أمر محمد، يريدونه معهم يشاركهم الرأي . 

ويدخل أبو سفيان على قومه في دار الندوة، وقد علت الأصوات بالخلاف، فريق من سادة مكة يرون في الحسم وسيلة فعّالة، وفريق آخر من عقلائها يُقدمون الحوار عليه، ويأخذ أبو سفيان مجلسه، ويصغى للمشادة الكلامية الدائرة بين أبى الحكم عمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة والد زوجه هند .. يقول أبو الحكم : هذا من فعلك يا عتبة بن ربيعة، لو عنفت بأبي طالب ما استشرى أمر ابن أخيه . قال عتبة في غضب : أنت أفسدت الأمر بتهجمك على الشيخ، أي عنف هذا الذي تطالبني أن آخذ به أبا طالب ومحمداً وهما سيدان من سادات قريش، تريد أن يكف محمد عنا ما يقول ؟ .أو لا يكون ذلك يا أبا الحكم إلا بالعنف العنيف الذي توشك به أن تمزق شمل قريش . قال أبو الحكم والشرر يتطاير من عينيه : وما أراه يكون بهذا اللين الذليل الذي أطمع فينا محمداً وصحبه . 

ولا يقر الوليد بن المغيرة ابن أخيه أبا الحكم على أسلوبه الذي فاتح به أبا طالب آنفا، فقد بادره بكلام لا يليق بالمرء أن يُحدّث به كبيراً كأبي طالب، له ما له من القدر والمكانة والشرف في قريش . فقال الوليد : صدق عتبة يا عمرو بن هشام، لأن أبا طالب أكبر من أن يخضع للتهديد الذي ألقيت به في وجهه، دع عتبة يعالج هذا الأمر بالصبر الأناة . فقال عتبة : هل لكم في أمر يا معشر قريش ؟ . قالوا : فقل يا عتبة . قال عتبة : أقول دعوني أقوم الآن وأدرك محمداً وهو يطوف عند البيت ويصلي كعادته، وأكلمه وأعرض عليه ما لا يأبى الرجل الكريم منا أن يقبله، عسى أن يكون في ذلك إصلاح ذات البين وجمع شمل قريش الذي تشتت، ويوشك إذا لج كل منا في العناد أن لا يجتمع أبداً، وهذا ما نخشاه على قريش .

ويقر الجميع خطوة عتبة، وينطلق فيدرك الرسول وقد استراح في ركن من المسجد، وأشرق وجه الرسول صلى الله عليه وسلم حين رأى عتبة مقبلاً عليه، وأمّل أن يكون حضوره لخير، ويجلس عتبة إلى الرسول ويقول له في صوت حاني رقيق : يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من الشرف في العشيرة، والمكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضي من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها . 

ولأول مرة تقترب قريش في هذه اللحظة من الدين الجديد، بالحوار الهادئ المتزن، لهذا أقبل رسول الله صلوات ربى وسلامه عليه على عتبة إقبال من يريد للحوار أن يتصل فقال لعتبة في توقير : قل يا أبا الوليد . قال عتبة : يا ابن أخي إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً , جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا من أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه . 

ويلجأ الرسول في رده إلى المنطق الرباني، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . قال عليه الصلاة والسلام : أو قد فرعت يا أبا الوليد ؟ . قال عتبة : نعم يا ابن أخي . قال الرسول : فاسمع مني، ثم مضى في تلاوة سورة فصلت {حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} واسترسل الرسول في التلاوة بصوته الندي وعتبة مشدوها ينصت لهذا الكلام الرفيع العالي المقام، حتى إذا انتهى رسول الله إلى موضع السجدة في السورة سجد ثم قام وقال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك .

صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .

ملحوظة:

هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة ..  هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.

محمد مصطفي

تعليقات

التنقل السريع
    close