القائمة الرئيسية

الصفحات



 الطريق الي النور

( الحلقة/ 36) ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) 

وتشاء الأقدار في تلك الأثناء أن تأتي إشارة السماء متناغمة مع ما فعله أبو ذر الغفاري، يأتي الوحي إلى الرسول، صلوات ربى وسلامه عليه، حاملاً بين طيات التنزيل أمراً هو إلى التخطيط أقرب منه إلى الذكر، في قوله تعالى(وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) لتخرج الدعوة من طور التبليغ للخاصة والأصفياء، إلى الجهر بها للعشيرة والأقربين ـ آل عبد المطلب ـ تدرجاً يتماشى مع الظرف والضرورة . ولا يجد الرسول أفضل من علي بن أبى طالب كي يعينه على ذلك، يستدعيه ويقول له : يا علي إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فاصنع لنا يا عليّ شاة على صاع من طعام، وأعد لنا عس لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب . 

ويفعل علي ما أمره الرسول، ويجتمع للرسول صلى الله عليه وسلم من كانوا بمكة في تلك الليلة من آل عبد المطلب، ويكرم الرسول ضيوفه، ويمد يده في الطعام ويناولهم، فرداً، فرداً، ويسقيهم الحلو بعد الماء، حتى إذا رصد منهم الصمت والإصغاء، وقد كان لسان حالهم يقول " لعله دعانا لأمر جلل " قال عليه الصلاة والسلام : يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر . واستطرد الرسول يوضح لأهله جوهر التوحيد، فصدّق بعضهم وكذب به آخرون . 

وتمضي الأيام سريعة، ويتوالى النزول من السماء، ويضيق رداء التخفي على الإسلام، حتى تتبدى أطرافه من هنا وهناك، فيأتي أمر السماء صريحاً، جلياً، بإعلان الدعوة إلى الإسلام، مهما كانت النتائج، فالله سبحانه وتعالى أعلم بحال ما يدور على الأرض، وهو أعلم بالعواقب، وما على الرسول إلا البلاغ، فنزل قوله تعالى {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} إشارة واضحة، لعنوان المرحلة المقبلة للدعوة .

وبرز الرسول ذات صباح لقريش على أعلى قمة مرئية - جبل أبى قبيس - والناس في مكة بين الأندية والطواف والذهاب والإياب، وصرخ صرخة مدوية : واصباحا، واصباحا . فسمعت قريش صراخ التحية، وقال بعضهم لبعض : اسمعوا إنه الأمين الصادق محمد ينادي بأعلى صوته، لم يفعلها من قبل . وقال آخرون : ما عهدناه إلا صادقاً، فلعل وراء صياحه أمر هام . واحتشدت قريش صبيحة هذا اليوم، أسفل جبل - أبى قبيس - وتهيأت للسماع، حتى اطمأن الرسول أنهم في حال إصغاء قال : أرأيتم إن أخبرتكم أن جيشاً مصبحكم من خلف هذا الجبل أكنتم مصدقي ؟ . قالوا : نعم . قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب أليم وأنا رسول من الله إليكم، فلا تشركوا معه أحداً في العبادة، واتركوا عبادة الأصنام التي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً . 

فصاح أبو لهب عمه وسط الناس وقال : تباً لك . ألهذا جمعتنا !! ونادى في الناس : أن اغدوا إلى مسعاكم . ويعاود الرسول الكرة بطريقة أخرى، بعد أن فض عمه الناس من حوله . سعى بين الفقراء والمساكين والعبيد، ودعاهم إلى الدين بنفسه وترك أشراف القوم لأبى بكر يدعوهم إلى الإسلام، ليتحقق المعنى العظيم لنبوته، إنما جاء ليحرر هؤلاء، إنما جاء ليواسى هؤلاء، إنما جاء لنصرة الضعفاء، وإحقاق الحق بين الناس والتساوي على أساس الأخوة الإنسانية وعدم التفرقة إلا في الدين، إلا في التقوى . ذلك هو الميزان السماوي، الذي أراد الله أن تستقيم على هديه الأرض، فتتحرر البشرية من قيود الظلم .فأسلم على يد النبي صلوات ربى وسلامه عليه - ياسر وزوجته سمية وابنهما عمار، وخباب بن الأرت، وبلال بن رباح، وعامر بن زهيرة، وعبد الله بن مسعود - وغيرهم ممن رأوا في الإسلام ملاذا لهم . 

وأحست قريش ببوادر الخطر، كلما سمعت بدخول الداخلين في هذا الدين الجديد، وصار حديث مكة عن محمد وما يزعمه من أنه رسول يُوحى إليه، وبدأت العرب تسمع كلاماً جديداً، لم  يألفوه في شعرهم ونثرهم كلما تليت على مسامعهم آيات من الذكر على ألسنة الفرحين بالدين الجديد، كلام الله الذي فاق جمال أسلوبه ملكة القول لديهم، وتخطى قواعد الإبداع عند المبدعين الشعراء .

ورأى عتاة قريش المنتفعين بالطقوس الدينية البالية، الفارق الكبير بين ما جاء به محمد وما هم عليه، وخشي هؤلاء على مكاسبهم أن تضيع، وحسبهم أن يتلاشى في تلك المساوة التي ينادي بها محمد . 

واقترب الفريقان من بعضهما البعض بعد الجهر بالدعوة، الفريق الأقوى في الحجة والأضعف على الأرض الرسول وأصحابه .. أمام الفريق الأضعف حجة والأقوى بطشاً على الأرض، فيخرج أبو بكر الصديق إلى الكعبة، ويقرأ آيات من القرآن بصوت عال ليعلن أمر الدين، وتخرج إليه جماعة من قريش، دفعهم عمرو بن هشام نحوه، يضربونه ضرباً مبّرحاً ليكف عن ذلك، وينذروا غيره ويتوعدون بالويل والثبور من يفعل فعله، ولا يأبه ذلك الفريق من التهديد، فيخرج عبد الله بن مسعود في خرق جديد، ويقرأ في اليوم الثاني ما تيسر له من القرآن، ويلقى مصيراً كمصير أبى بكر، وتقترب الدعوة من الخط الأحمر لقريش، قريش التي أغضبها وتيرة الأحداث . وتبيت مكة ليلة أجهد الناس فيها أنفسهم في الحديث عما حدث لصاحبي الرسول، بعضهم ندم على التطاول عليهما، وآخرون أسعدهم ذلك، ورأوا فيه حسماً للأمر فى بدايته، وغيرهم لاه مُعرض لا يهمه من أمر الدنيا إلا نفسه وداره، وإذا أوغل الليل في ساعاته . حط المترفون أجسادهم في حان - نسطاس  الرومي - ينخرطون في الشراب، ويحملقون في الجواري الروميات وهن يرقصن في إثارة ومجون، وغاب عن جلسة الأنس، فتى هو من أصبى فتيان بني عبد الدار، يحيي المجلس بحلو حديثه، وطريف نكاته، ويلهب الجواري إلهاباً بوسامته وجماله وكثرة ماله - مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار - يسألون عنه فيعلمون أنه إنما اعتزل ليلتهم لإيثاره السهر مع عمرو بن هشام أبو الحكم في داره، هم لم يفتقدوه الليلة فحسب، وإنما أشهر قبلها، لكنهم الليلة أحسوا بفقدانه، لأنهم سمعوا بعودته من الطائف منذ ليال، ولم يعاود إحياء ليالي الصخب في حان نسطاس، لعله اختار صديقه الحميم - أبا الحكم عمرو بن هشام - فشوقه إليه كثير، عساه أن يجد عنده أنساً لم يجده في الطائف، التي بها بستان أبيه عمير بن هاشم  . 

وفي الصباح يفيق مصعب على صوت أمه المحبة له، المدلة به - خناسة بنت مالك  ـ فهو ولدها الوحيد : أي يا مصعب انصرم النهار يا ولدي، وأنت في رقدتك هذه، قم فقد أعددت لك ما تحب من الطعام . قال مصعب : أماه دعيني بحقك لم آخذ بحظي من النوم . قالت  خناسة : ذلك أيها المترف المدلل إنك لم تعد من حان نسطاس إلا على صياح ديكة مكة . 

قال مصعب : إني لم أكن في حان نسطاس . قالت : أين كنت إذاً ؟ . قال مصعب : في دار أبى الحكم  عمرو بن هشام، رقصت لنا الجواري، وغنت القيان، والقيت لهن بكل ما كان في جيبي من دراهم . 

قالت خناسة : واللات يا مصعب إني لأخشى عليك صحبة أبى الحكم بن هشام . قال مصعب : ولِمَ يا أماه ؟ . قالت خناسة : هو وبقية شباب آل المغيرة، وآل عدي يكالدون بني هاشم . قال مصعب : بنو هاشم ؟ . وكيف لم يحدثني أبو الحكم في شئ كهذا ؟ . 

قالت خناسة : ذلك لأنك من بني عبد الدار، أخوال بني هاشم خشية أن تحمى لهم . قال مصعب : وفي أي شئ يختلفون ؟ . قالت خناسة : لا عليك من خلافهم، اسعد بشبابك يا ولدي ولكن لا تنخرط في ذلك العداء الذي يزري بنا لقرابتنا من بني هاشم . 

وأحس مصعب أن أمه تخفي عنه الكثير قال لها : لا تخفي عني شيئاً يا أماه، ففي استطاعتي أن أسأل أبا الحكم، أو عمر بن الخطاب، أو حتى حمزة بن عبد المطلب . قالت خناسة : وتعدني ألا تدخل في ذلك النزاع . قال مصعب: حتى أعرف أوله من آخره . قالت خناسة : إنك تعرف ابن عبد الله بن عبد المطلب . قال مصعب : محمد الأمين . ما باله ؟ . كلنا نحبه ونكبره، وإن كان هذه الأيام يباعدنا، لا أدري لماذا ؟ .

قالت خناسة : محمد يفرق بين قريش بكلام يزعمه، واللات لولا قرابتي، وقرابة أبيك من بني هاشم، لذهبت إلى محمد وقلت له " يا ابن عبد الله كف عن الناس ما يكرهون، فإنك لن تكسب من ذلك غير عداوتنا " . قال مصعب : تعادين محمداً يا أماه !! . وهو لا يفتأ يسألني عنك كلما قابلني . وارتسمت على وجه خناسة بشة خفيفة، كأنها خجلت من نفسها لما علمت بذكر محمد لها بالخير، وأرادت أن تصرف الحوار إلى غير وجهته، فقالت لولدها لا عليك من هذا كله، قم يا ولدي تناول ما أعددته لك، ثم ارتدي ثيابك الجميلة التي جاء بها أبوك لك من الشام في رحلته الأخيرة، تعطر ياحسن شباب مكة، ثم اذهب إلى ملاهيك في حان نسطاس، أو في بيت عمر بن الخطاب، أو عمرو بن هشام، واسعد بالقيان ودعهم يسعدون بك يا فتنة نساء مكة كلها، هيا . هيا . قم يا ولدي .

ويقوم الفتى المترف الغافل في النعيم، يأكل خير ما أعدت له الأم المحبة، ويرتدي أجمل ما اشترى له الأب المعجب، المدل به على كافة الناس، ثم يذهب إلى دار أبى الحكم بن هشام قبل الموعد الذي اتفقا عليه، ويبادره أبوالحكم الحديث قال : لا شك في أن سهرة الأمس راقتك يا مصعب،وإلا لما بكرت بالحضور، لم تأت بعد القيان والجواري، ولم يتوارد على داري من اعتدت أن تراهم هنا من شباب مكة الأشراف . قال مصعب : لا بأس، نقطع الوقت بشيء من الشراب، ترى هل يوفينا الليلة صديقنا عبد الكعبة بن عوف . 

قال عمرو بن هشام وقد أغضبه ذكر هذا : لا تذكر لي هذا التعس يا مصعب . قال مصعب في دهشة : تعس !! . إنه من أخلص أصفيائك . قال عمرو بن هشام : وهل رأيته في داري منذ ليال ؟ . 

قال مصعب : لا، وهذا ما أثار دهشتي، ولكني قلت لعله خرج في تجارة . 

قال عمرو بن هشام - أبو الحكم - في لهجة ساخرة : بل خرج في خسارة . 

قال مصعب : خسارة !! . ماذا تعني يا أبا الحكم ؟ . ما رأيتك ثائراً كالليلة . قال أبو الحكم وقد تبدى منه الغصب : صبأ عبد الكعبة، صبأ وتابع محمداً، وأعطاه محمد اسماً غير الاسم الذي أعطاه إياه أبوه . سماه - عبد الرحمن - بدلاً من - عبد الكعبة . 

وتعجب مصعب لكلام أبى الحكم، وأحس أن هناك أموراً كثيرة دارت في غيبته فقال : انتظر يا أبا الحكم تقول صبأ عبد الكعبة، تعني بذلك ماذا ؟ . لعله تنصر أو تهود . قال أبو الحكم : إذن فأنت لا تدري ما يفعل محمد آنفاً . قال مصعب: على رسلك يا أبا الحكم، إنك تحدثني حديثاً أشبه بما حدثتني به أمي قبل أن آتيك، قالت لي " إن بينكم معشر بني المغيرة وبين بني هاشم خلافاً في شأن محمد "، أي خلاف ذلك ؟ . 

قال أبو الحكم : جاءنا محمد بما يفرق به بين الابن وأبيه، وبين الزوج وزوجته، في أول أمرنا معه كتمنا ما يدعو إليه، حتى لا يتسرب الخبر إلى شباب مكة الأغرار فيسحرهم . قال مصعب : يسحرهم بماذا، ماذا حدث في غيبتي يا أبا الحكم، لقد كنت في ثقيف أشهراً، ولا أدري ما حدث ؟ . قال أبو الحكم : حدث أمر جلل يا مصعب، وقف محمد ذات يوم بالأبطح وصاح بنا بعد أن جمعنا أمامه " إنني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " قال مصعب وهو ذاهل : عجباً ؟ . وماذا عني محمد بذلك ؟ . محمد ليس بالرجل الذي يلقي بالكلام دون تدبر . قال أبو الحكم وهو يعتصر ألماً كبته في نفسه : دون تدبر . وأي تدبر يا مصعب ؟ . أي تدبر ؟ . زعم أن الله أنزل على قلبه كلاماً من كلامه، وقولاً من قوله، وأنه يبشر من اتبعه بما يسميه الجنة، وينذر من لا يتبعه بشيء اسمه النار، أسمعت بمثل هذا الهراء من قبل يا مصعب ؟ . 

قال مصعب : ليس هذا بالهراء يا أبا الحكم، وإنا واللات لنعلم أن اليهود والنصارى الذين يقيمون بيننا في مكة، وفي الطائف يزعمون شيئاً كهذا، وكثيراً ما يتكلمون عن تلك الجنة، وعن هذه النار، فأي عجب في أن يتكلم بها محمد ؟ . 

وتخرج النظرات من أبى الحكم كالشرر المتطاير إلى مصعب، كأنه ندم على مفاتحته بهذا الحديث، ولكنه مضطر لاستئناف الحوار وتطويقه إلى غاية يريدها أبو الحكم، فقال : أي عجب !! . العجب فيما يزعمه بعد حديث الجنة والنار، يزعم أن الله أرسله بدين غير ديننا، ويزعم أن ربه الله واحدُ لا  شريك له، ويكفر باللات والعزى، ومناة الكبرى، وإساف العظيم، وهبل رب الأرباب، جعل من الآلهة واحداً، أي جهل بعد هذا يا مصعب، ألا ترى مثلما أرى ؟ . 

ويشرد مصعب عنه ساهماً، كأنما وقع في قلبه شيء، ويلحظ أبو الحكم تعابير وجهه التي تشي بأن عقله ذهب بعيداً عما قصد أبو الحكم فقال له : ما لي أراك ساهماً، ألا ترى أن هذا هو الكذب يا مصعب ؟ . ويلملم مصعب شوارد ذهنه ليجاري أبا الحكم، عله يعثر من عثراته على ما يعينه لفهم الحقيقة التي طرقت قلبه . قال مصعب : ومن تبع محمداً هذا ؟ . قال أبو الحكم : لم يتبعه إلا السفهاء والمستضعفون من العبيد والأحلاف . قال مصعب : ولكن عبد الكعبة بن عوف ليس من السفهاء ولا من العبيد !! . إنه من أشراف مكة، وكبار تجارها، وأنت تقول إنه صبأ وتبع محمداً . قال أبو الحكم وقد أحس أن حديثه ذلك أدخله فيما يستعصى الخروج منه : دعنا من هذا يا مصعب . دعنا من هذا، فلنشرب وننسي فتنة محمد هذا .

ولكن مصعب ليس بالذي يترك أمراً طرق رأسه بهذه السهولة، فقال له : وهل تابعه أحد من أشرافنا  غير عبد الكعبة بن عوف . قال أبو الحكم : عجب لك يا مصعب !! . كأنما راقت لك القصة . قال مصعب : أجبني باللات يا أبا الحكم ؟ .

قال أبو الحكم عمرو بن هشام : أجل تابعه أمثال خديجة وأبى بكر، وابن عمه علي وبعض سفهاء العقول . دعنا من هذا، دعنا من هذا يا مصعب نشرب ونهنأ حتى توافينا القيان والجواري، ويقبل على ندوتنا أحباؤنا وأصدقاء جلستنا . 

ويجلس مصعب بن عمير مجلس أبى جهل ساهماً، مطرقاً، لا يقبل على الشراب إقباله القديم، ولا يلقي بسمعه إلى القيان المغنيات، ولا ببصره إلى الجواري الراقصات، إنه مشغول بما قاله أبو الحكم بن هشام في أول الليل، وتدور العبارات في رأسه " زعم محمد أن الله أنزل على قلبه كلاماً من كلامه، وقولاً من قوله، وأنه يبشر من اتبعه بما يسميه الجنة، وينذر من لا يتبعه بشيء اسمه النار " يدور كل هذا في رأسه، والقيان تغني، والجواري ترقص، وكلما نظر إليه أبو الحكم اللاهي في لهوه اصطنع مصعب الإنهماك في اللهو، ولكنه في أمر آخر صرفه عن الأنس والسمر مع اللاهين فيسهرهم، وينسى كل شيء حوله، ولا يغدو في رأسه غير هذا الذي سمعه، وينزوي مرة أخرى، يحادث نفسه " طالما قلت لنفسي إن الكون لا يستقيم أمره مع الآلهة المتعددة المزعومة، وإذا كان محمد يقول بوحدانية الخالق، فهو قول أحق بأن يتبع، فسواه يزري بالعقل، ولقد طالما وقفت أمام هبل فراعني منه بروده وصمته وقسماته المتكبرة، سألته فلم يعطنى، رجوته فلم يرفع عني أذى نزل بي، فأي إله هذا ؟ . ثم إساف ونائلة اللذان جعلنا أقدامهما مذبحاً للآلهة، ننحر عندها الضحايا الذي يزعم أجدادنا بأنهما كانا عاشقين، ففسقا في الكعبة . أتصير آلهة ؟ . إن هذا أشبه بما أسمعه من الروم إذا زرت الشام، يتكلمون عن آلهة شتى، إله لكل منحى من مناحي الحياة، إن ما يقوله محمد أقرب إلى العقل، وأشفى للروح، ولكني لم أعرف أول هذا الأمر من آخره إلا إذا قابلت محمداً " .

صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .

ملحوظة:

هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة ..  هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.

محمد مصطفى

تكملة ( الحلقة/ 36) : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) 

وأحس مصعب أن أمه تخفي عنه الكثير قال لها : لا تخفي عني شيئاً يا أماه، ففي استطاعتي أن أسأل أبا الحكم، أو عمر بن الخطاب، أو حتى حمزة بن عبد المطلب . قالت خناسة : وتعدني ألا تدخل في ذلك النزاع . قال مصعب: حتى أعرف أوله من آخره . قالت خناسة : إنك تعرف ابن عبد الله بن عبد المطلب . قال مصعب : محمد الأمين . ما باله ؟ . كلنا نحبه ونكبره، وإن كان هذه الأيام يباعدنا، لا أدري لماذا ؟ .

قالت خناسة : محمد يفرق بين قريش بكلام يزعمه، واللات لولا قرابتي، وقرابة أبيك من بني هاشم، لذهبت إلى محمد وقلت له " يا ابن عبد الله كف عن الناس ما يكرهون، فإنك لن تكسب من ذلك غير عداوتنا " . قال مصعب : تعادين محمداً يا أماه !! . وهو لا يفتأ يسألني عنك كلما قابلني . وارتسمت على وجه خناسة بشة خفيفة، كأنها خجلت من نفسها لما علمت بذكر محمد لها بالخير، وأرادت أن تصرف الحوار إلى غير وجهته، فقالت لولدها لا عليك من هذا كله، قم يا ولدي تناول ما أعددته لك، ثم ارتدي ثيابك الجميلة التي جاء بها أبوك لك من الشام في رحلته الأخيرة، تعطر ياحسن شباب مكة، ثم اذهب إلى ملاهيك في حان نسطاس، أو في بيت عمر بن الخطاب، أو عمرو بن هشام، واسعد بالقيان ودعهم يسعدون بك يا فتنة نساء مكة كلها، هيا . هيا . قم يا ولدي .

ويقوم الفتى المترف الغافل في النعيم، يأكل خير ما أعدت له الأم المحبة، ويرتدي أجمل ما اشترى له الأب المعجب، المدل به على كافة الناس، ثم يذهب إلى دار أبى الحكم بن هشام قبل الموعد الذي اتفقا عليه، ويبادره أبوالحكم الحديث قال : لا شك في أن سهرة الأمس راقتك يا مصعب،وإلا لما بكرت بالحضور، لم تأت بعد القيان والجواري، ولم يتوارد على داري من اعتدت أن تراهم هنا من شباب مكة الأشراف . قال مصعب : لا بأس، نقطع الوقت بشيء من الشراب، ترى هل يوفينا الليلة صديقنا عبد الكعبة بن عوف . 

قال عمرو بن هشام وقد أغضبه ذكر هذا : لا تذكر لي هذا التعس يا مصعب . قال مصعب في دهشة : تعس !! . إنه من أخلص أصفيائك . قال عمرو بن هشام : وهل رأيته في داري منذ ليال ؟ . 

قال مصعب : لا، وهذا ما أثار دهشتي، ولكني قلت لعله خرج في تجارة . 

قال عمرو بن هشام - أبو الحكم - في لهجة ساخرة : بل خرج في خسارة . 

قال مصعب : خسارة !! . ماذا تعني يا أبا الحكم ؟ . ما رأيتك ثائراً كالليلة . قال أبو الحكم وقد تبدى منه الغصب : صبأ عبد الكعبة، صبأ وتابع محمداً، وأعطاه محمد اسماً غير الاسم الذي أعطاه إياه أبوه . سماه - عبد الرحمن - بدلاً من - عبد الكعبة . 

وتعجب مصعب لكلام أبى الحكم، وأحس أن هناك أموراً كثيرة دارت في غيبته فقال : انتظر يا أبا الحكم تقول صبأ عبد الكعبة، تعني بذلك ماذا ؟ . لعله تنصر أو تهود . قال أبو الحكم : إذن فأنت لا تدري ما يفعل محمد آنفاً . قال مصعب: على رسلك يا أبا الحكم، إنك تحدثني حديثاً أشبه بما حدثتني به أمي قبل أن آتيك، قالت لي " إن بينكم معشر بني المغيرة وبين بني هاشم خلافاً في شأن محمد "، أي خلاف ذلك ؟ . 

قال أبو الحكم : جاءنا محمد بما يفرق به بين الابن وأبيه، وبين الزوج وزوجته، في أول أمرنا معه كتمنا ما يدعو إليه، حتى لا يتسرب الخبر إلى شباب مكة الأغرار فيسحرهم . قال مصعب : يسحرهم بماذا، ماذا حدث في غيبتي يا أبا الحكم، لقد كنت في ثقيف أشهراً، ولا أدري ما حدث ؟ . قال أبو الحكم : حدث أمر جلل يا مصعب، وقف محمد ذات يوم بالأبطح وصاح بنا بعد أن جمعنا أمامه " إنني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " قال مصعب وهو ذاهل : عجباً ؟ . وماذا عني محمد بذلك ؟ . محمد ليس بالرجل الذي يلقي بالكلام دون تدبر . قال أبو الحكم وهو يعتصر ألماً كبته في نفسه : دون تدبر . وأي تدبر يا مصعب ؟ . أي تدبر ؟ . زعم أن الله أنزل على قلبه كلاماً من كلامه، وقولاً من قوله، وأنه يبشر من اتبعه بما يسميه الجنة، وينذر من لا يتبعه بشيء اسمه النار، أسمعت بمثل هذا الهراء من قبل يا مصعب ؟ . 

قال مصعب : ليس هذا بالهراء يا أبا الحكم، وإنا واللات لنعلم أن اليهود والنصارى الذين يقيمون بيننا في مكة، وفي الطائف يزعمون شيئاً كهذا، وكثيراً ما يتكلمون عن تلك الجنة، وعن هذه النار، فأي عجب في أن يتكلم بها محمد ؟ . 

وتخرج النظرات من أبى الحكم كالشرر المتطاير إلى مصعب، كأنه ندم على مفاتحته بهذا الحديث، ولكنه مضطر لاستئناف الحوار وتطويقه إلى غاية يريدها أبو الحكم، فقال : أي عجب !! . العجب فيما يزعمه بعد حديث الجنة والنار، يزعم أن الله أرسله بدين غير ديننا، ويزعم أن ربه الله واحدُ لا شريك له، ويكفر باللات والعزى، ومناة الكبرى، وإساف العظيم، وهبل رب الأرباب، جعل من الآلهة واحداً، أي جهل بعد هذا يا مصعب، ألا ترى مثلما أرى ؟ . 

ويشرد مصعب عنه ساهماً، كأنما وقع في قلبه شيء، ويلحظ أبو الحكم تعابير وجهه التي تشي بأن عقله ذهب بعيداً عما قصد أبو الحكم فقال له : ما لي أراك ساهماً، ألا ترى أن هذا هو الكذب يا مصعب ؟ . ويلملم مصعب شوارد ذهنه ليجاري أبا الحكم، عله يعثر من عثراته على ما يعينه لفهم الحقيقة التي طرقت قلبه . قال مصعب : ومن تبع محمداً هذا ؟ . قال أبو الحكم : لم يتبعه إلا السفهاء والمستضعفون من العبيد والأحلاف . قال مصعب : ولكن عبد الكعبة بن عوف ليس من السفهاء ولا من العبيد !! . إنه من أشراف مكة، وكبار تجارها، وأنت تقول إنه صبأ وتبع محمداً . قال أبو الحكم وقد أحس أن حديثه ذلك أدخله فيما يستعصى الخروج منه : دعنا من هذا يا مصعب . دعنا من هذا، فلنشرب وننسي فتنة محمد هذا .

ولكن مصعب ليس بالذي يترك أمراً طرق رأسه بهذه السهولة، فقال له : وهل تابعه أحد من أشرافنا غير عبد الكعبة بن عوف . قال أبو الحكم : عجب لك يا مصعب !! . كأنما راقت لك القصة . قال مصعب : أجبني باللات يا أبا الحكم ؟ .

قال أبو الحكم عمرو بن هشام : أجل تابعه أمثال خديجة وأبى بكر، وابن عمه علي وبعض سفهاء العقول . دعنا من هذا، دعنا من هذا يا مصعب نشرب ونهنأ حتى توافينا القيان والجواري، ويقبل على ندوتنا أحباؤنا وأصدقاء جلستنا . 

ويجلس مصعب بن عمير مجلس أبى جهل ساهماً، مطرقاً، لا يقبل على الشراب إقباله القديم، ولا يلقي بسمعه إلى القيان المغنيات، ولا ببصره إلى الجواري الراقصات، إنه مشغول بما قاله أبو الحكم بن هشام في أول الليل، وتدور العبارات في رأسه " زعم محمد أن الله أنزل على قلبه كلاماً من كلامه، وقولاً من قوله، وأنه يبشر من اتبعه بما يسميه الجنة، وينذر من لا يتبعه بشيء اسمه النار " يدور كل هذا في رأسه، والقيان تغني، والجواري ترقص، وكلما نظر إليه أبو الحكم اللاهي في لهوه اصطنع مصعب الإنهماك في اللهو، ولكنه في أمر آخر صرفه عن الأنس والسمر مع اللاهين فيسهرهم، وينسى كل شيء حوله، ولا يغدو في رأسه غير هذا الذي سمعه، وينزوي مرة أخرى، يحادث نفسه " طالما قلت لنفسي إن الكون لا يستقيم أمره مع الآلهة المتعددة المزعومة، وإذا كان محمد يقول بوحدانية الخالق، فهو قول أحق بأن يتبع، فسواه يزري بالعقل، ولقد طالما وقفت أمام هبل فراعني منه بروده وصمته وقسماته المتكبرة، سألته فلم يعطنى، رجوته فلم يرفع عني أذى نزل بي، فأي إله هذا ؟ . ثم إساف ونائلة اللذان جعلنا أقدامهما مذبحاً للآلهة، ننحر عندها الضحايا الذي يزعم أجدادنا بأنهما كانا عاشقين، ففسقا في الكعبة . أتصير آلهة ؟ . إن هذا أشبه بما أسمعه من الروم إذا زرت الشام، يتكلمون عن آلهة شتى، إله لكل منحى من مناحي الحياة، إن ما يقوله محمد أقرب إلى العقل، وأشفى للروح، ولكني لم أعرف أول هذا الأمر من آخره إلا إذا قابلت محمداً " .

صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .

ملحوظة:

هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.

محمد مصطفى

تعليقات

التنقل السريع
    close