القائمة الرئيسية

الصفحات

الطريق الي النور ( الحلقة/ 35) البلاغ يهز جنبات مكة !!



الطريق الي النور

 ( الحلقة/ 35)

  البلاغ يهز جنبات مكة !! 

رغم الكتمان، والتحرك الحذر، والهمس في الحديث، والاجتماع سراً، رغم كل هذا إلا أن نادي قريش الكبير، دار الندوة، تسرب إلى سادته خبر ما يدور في - دار الأرقم بن أبى الأرقم - وشذرات من القول تطايرت إلى الوليد بن المغيرة سيد مكة، عن طريق المتربصين بالريب وغرائب الكلام، ودخل على مجلس السادة، حديث جديد عن هذا الدين الوليد، الذي استهوى الخاصة، وبدَّل أحوالهم، وفيه الزعم بالوحدانية ونبذ ما سوى الله من آلهة، أفنت قريش فيها عمراً، لكن عقلاء دار الندوة، أمثال الوليد بن المغيرة، وعتبة بن ربيعة، والعاص بن وائل، وأبو أمية بن المغيرة، لا يأبهون كثيراً بالأقوال، ولا يكترثون بقلق المتهورين والمندفعين، أمثال - عمرو بن هشام، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف - أولئك الذين رابهم تخفي وتستر الخاصة حول محمد، وما طالته الأذن عن ظهور دعوة تنادي بدين جديد، ذلك أن عقلاء مكة لا يعيرون مثل هذا الأمر كثير اهتمام، قبل أن يصرح به معتنقوه ويعلنوا ماهية هذا الدين، وإلا فهو درب من الكلام يدور في خفاء بين ثلة، لا تقدم ولا تؤخر شيئاً .

ويتجنب العباس عم النبي صلوات ربى وسلامه عليه الجلوس في دار الندوة، ويتحاشى الحديث مع ساداتها في تلك الظروف، التي جعلت حديث الدار عن ابن أخيه محمد، فهو لا يريد أن يقحم نفسه في أمر لا يستنكره هو إلا ظاهراً من الناس، وقد حامت حوله الأنظار، بعدما أسلمت زوجه - أم الفضل - وتابعت محمداً، وكان يحبب إليه الطواف حول البيت كلما عنَّ له ذلك، خاصة في المساء حين الرجوع لتجنب مصادفة اللقاء مع أحد، جعل رجوعه متأخراً في ساعة منكرة من الليل، تكون فيها قريش قد ثابت إلى دورها، وأوصدت أبواب دار الندوة حتى لا يمر ومجلسهم منعقد، فقد لا يسلم من كلمة هنا أو هناك، ثم يختلي بالبيت ويطوف طوافه المحبب له حين الرجوع .

فإذا كان ذات مساء، فيه البيت خاوياً، يتوجه العباس بثيابه الأنيقة، متملطقاً بسيفه، قاصداً عادته، يطوف بالبيت، فوجد في ركن من البيت رجلاً غريباً عن أهل مكة، يحمل شنة ماء، يُرى عليه أثر السفر، مخرق الثياب أشعث الشعر، مسه الإجهاد، تبدو عليه الغربة الجامدة .. تقدم نحوه العباس سائلاً : أتنتظر أحداً تذهب معه إلى داره ؟ . 

قال الرجل : لا أنتظر أحداً أعرفه . ففهم العباس أنه غريب، جاء للبيت، وليس له في مكة مضيف، فقال له : فتعال معي - واقتاده إلى داره،واندهش الضيف لسعة الدار، وروعة ما بها من أثاث وفراش، ستائر، وطنافس . فأيقن أنه نزل في دار ثري من أثرياء مكة، أو تاجر من تجارها الموسرين، وراح يتأمل فيما حوله، بينما العباس كان يعد له طعاماً، وأتى العباس بالطعام وقدمه لضيفه وبعد أن أكل سأله : من أنت، وما تريد ؟ . قال الضيف : أنا جندب بن جنادب أُدعى أبو ذر الغفاري - قال العباس : أنت من غفار إذن ؟ . 

قال أبو ذر : نعم . قال العباس وقد كره إطالة الحديث معه، وعدَّه ضيفاً كُتب عليه قال له : ستقيم ليلتك في داري فإذا أسفر الصبح، انطلق إلى غايتك ..  وتركه العباس في الغرفة التي سيبيت فيها، وتغير لون وجه جندب أبو ذر، وعرف سبب صمت المضيف وفتور الترحاب به، ويحدث نفسه ساهماً، لا يعرف للنوم سبيل : تلك هي لعنتنا نحن بنو غفار، أينما حللنا على أرض سبقتنا سيرتنا، فليس في أرض العرب كلها من هم أشر منا على الناس، امتهن أهلنا قطع الطريق والسلب والنهب، وجعلوا السرقة حرفتهم وذاقت قوافل العرب المارة من مضاربنا منا الكثير . وقال في نفسه : ليتني ما كنت أخبرته أنني من غفار، ويثوب جندب إلى رشده في حديثه مع نفسه : لا والله ليس سوى الصدق أنطق به،فما جئت لهذه الأرض إلا لصدقي مع نفسي ورفضى ما يفعله قومي .

وفي الليلة الثانية يعود العباس ويطوف متأخراً بطوافه الذي اعتاد، ويرى ضيف الأمس في نفس مكانه بالأمس، ويشفق عليه، ويقبل نحوه قائلاً : يا أخا العرب، ما أمرك، وما أقدمك هذه البلدة، ولا أحد لك فيها تعرفه، أو تسأل عنه، أو يسأل عنك ؟ . قال أبو ذر : أو رابك مني شيء ؟ . 

قال العباس : جل أمرك يريب، غريب ينزل مكة، ويجلس في المسجد حتى يجن الليل، وليس معك غير شنة الماء هذه، ما أمرك ؟ . 

قال أبو ذر : بلغنا أنه قد خرج ها هنا رجل يزعم أنه نبي، يأتيه خبر السماء – وفزع العباس لاستشراء الأمر خارج مكة، فهذا الغريب القادم من غفار، من أعلمه به في أرضه فقال له العباس : ماذا ؟ . قال أبو ذر : تمنيت أن أعرف خبره كله، أرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفنى من الخبر، فأردت أن ألقاه . قال العباس في اندهاش : أرسلت أخاك ؟ . أو علمتم في غفار بأمر لا زال خافياً في مكة ؟ . قال أبو ذر : لا لا يا سيد قومه، إنما أنا وأخي - أنيس وأمي من يعلمون . وقومي، يجهلون ذلك . والتفت العباس يمينه ويساره، فهو يريد استجلاء الأمر في مكان مناسب فأمسك بيد أبى ذر وقال له : عد معي إلى داري حتى أحادثك في أمان . 

وفي دار العباس يدور الحوار قال العباس : يا جندب بن جنادة هات ما عندك . 

قال أبو ذر : لم يكن قومي من غفار يرضون عن نظراتي إلى أصنامهم، وحديثي عنها، ليس هذا فحسب، وإنما رابهم مني إنكاري لحياتهم، فهم كما تعلم يا سيد قومه، يقطعون الطريق، ويسلبون الأمن في البوادي والقفار - قال العباس : وهل كنت على فعلهم وانتهيت عنه ؟ . قال أبو ذر : لا والله، منذ نعومة أظفاري لا أفعل فعلهم، وكنت أعيب عليهم حنثهم بالوعود وغدرهم، وشببت على غير فعلهم، فلا أغدر ولا أخون وأفي بما عاهدت . قال العباس : وهل ورثت هذا عن أبيك ؟ . أم أن أباك كان من قومه حيث كانوا ؟ . 

قال أبو ذر : لم يكن أبي من غمار الناس، بل كان من أسرة لها باع طويل في الغزو وقطع الطريق، فكان لا يرفع اللثام قط عنه وجهه، حتى لا يكاد أحد يعرف تقاطيع ذلك الوجه سوانا، فلما مات صار أمر الأسرة لأخي الأكبر  (أنيس) . 

قال العباس : وهل أنيس على دربك في الإعراض عن فعل القوم ؟ . 

قال أبو ذر : هو ذلك، ولكنه لا يعبأ بأمر الدين . قال العباس : وأنت أراك ديَّاناً تبحث عن الرشاد ؟ . قال أبو ذر : وهذا ما دفع قومي إلى طردي من غفار وتسببت في خروج أمي وأخي أنيس من ديارنا .

قال العباس : لعلك سببت ما يقدسونه ويعظمونه، أو استهزأت بأحوالهم ؟ . قال أبو ذر : رأيتهم ينحرون عند الصنم - سعد - العتائر، ويقربون له القرابين فأنكرت عليهم ذلك، فما كان منهم إلا أن ضيَّقوا علينا، وعلى أمي وأخي الخناق حتى غادرنا غفار، ونزلنا عند خالنا في الطائف . قال العباس : ومن أخبرك بمحمد الذي يزعم أنه نبي أرسله الله، قال أبو ذر : لما نزلنا عند خالنا في الطائف، مكثنا في داره ريثما تتهيأ لنا أسباب العيش في دار لنا، وكان خالي تاجراً، يأتي مكة وينزل عند شريف عندكم يدعى أبا طالب، فهو رفيق حياته، ولا يخفي أبو طالب عن صديقه شيء، فأخبره بما حدث في دار ابن أخيه محمد، ولم يرع خالي اهتماماً للأمر، وقصه علينا كإحدى أقاصيصه لنا إذا عاد من أسفاره فالتقطها من فمه، وأرسلت أخي أنيس ليتقصى الأمر، فما أشفاني . 

قال العباس : أو جاء أخوك أنيس مكة يتحسس أخبار محمد ؟ . قال أبو ذر : لا تخف يا سيد قومه، عاد إلي ولم يعلم بأمره أحد من مكة . قال العباس : وهل قابل محمداً ؟ . قال أبو ذر : لم يلتقه، وإنما سمع كلاماً يدور في شأنه في ندوة الوليد بن المغيرة . وقلق العباس وانتفض من مكانه وقال : ويحك . ماذا سمع ؟ . 

قال أبو ذر : بعد أن فرغ من طوافه حول البيت كعادة الوافدين إلى مكة، كانت هناك جلسة يدار فيها الحديث، فتطاير إلى أذن أنيس اسم محمد، فدفعه التطلع للسماع من زاوية قصية حتى لا يراه أحد، سمعهم يقولون كلاماً متخطفاً - وفي لهفة للسماع قال العباس : قله لي وسأعرف أوله من آخره . قال أبو ذر : كانوا يقولون " إن أمر محمد بن عبد الله قد بدأ يشيع في أوساط الخاصة والمقربين منه، وأنهم ينكرون أن يكون يتيم قريش نبياً يأتيه خبر السماء، ويزعم أن الله واحد لا شريك له " .

قال العباس : وهل سمع غير هذا الذي قلت ؟ . قال أبو ذر : سمعهم يقولون " كاهن وشاعر وساحر " فلما سألت أخي عن رأيه في ذلك قال لي " لكل من سادة قريش فيه كلمة وصفة " فقلت لأخي " والله ما أشفيتني لأذهبن بنفسي وأقابله، حتى أعلم منه ما أحس أنه الهدى " . قال العباس وقد ارتسم على وجهه القلق من تسرب الخبر، وبداية تداوله في دار الندوة : فأنت إذن تريدني اصطحبك إلى ابن أخي ؟ . وينطلق الذهول من وجه أبى ذر ويقول : أو أنت يا سيد قومه عم محمد هذا ؟ . قال العباس : هو ابن أخي . قال أبو ذر وقد علت بسمة على ثغره : وطيلة حديثي حسبتك من أصفيائه لما رأيت الخوف في عينيك عليه، دلني عليه يا سيد قومه .

قال العباس : أما أنك قد رشدت، وإني ذاهب إليه مع الصباح . قال أبو ذر في لهفة وشوق : فهلَّا أخذتني إليه ؟ . قال العباس : إنه يستخفي في دار قريبة، ويجتمع فيها في غفلة عن عيون القرشيين، مع من يحبون أن يستمعوا إلى ما جاء من ربه . قال أبو ذر : فكيف لي برؤيته والجلوس إليه ؟ . قال العباس : إذا جاء الصباح فاتبعني كأنك لست معي، ثم ادخل حيث أدخل، وإذا رأيتني جلست كأني أُصلح نعلي، فامض بعيداً، فقد رآنا من لا أحب أن يرانا .

في الصباح انطلقا، سار جندب بن جنادة إلى قرب العباس، قصدا الدار المنزوية عن مكة عند جبل الصفا - دار الأرقم بن أبى الأرقم - فدخل العباس وقفل خلفه جندب - أبو ذر - وأشار العباس إلى ابن أخيه محمد وقال لأبى ذر : هاك من جئت لتراه . وأقبل أبو ذر على رسول الله، وكان يتوسط المجلس وإلى جواره ابن عمه علي بن أبى طالب، وحيا الرسول بقوله : نعمت صباحاً يا أخا العرب . 

فتلطف به الرسول صلوات ربى وسلامه عليه وأعذره فيما قال من تحية العرب، فالرجل لا يعرف بعد تحية الإسلام، فرد عليه الرسول في هدوء والبش يملأ وجهه : وعليك السلام يا أخي . 

ثم جلس أمامه يسمع كلاماً عظيماً، ليس بالشعر ولا بالسحر - قرآن كريم - ويتلو الرسول على مسامع الحضور ما تيسر من آيات الذكر الحكيم، وتشيع في نفس أبى ذر السكينة والطمأنينة، ويغمر الإيمان قلبه ويملؤه كأنما صب فيه صباً، ثم شرع عليه الصلاة والسلام يعرض عليه الإسلام، ويوضح لأبى ذر مقاصده، وإن هي إلا لحظات، وينطق لسانه : أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله . 

ويسأله الرسول عن اسمه، ويجيبه . ثم يسأله عن موطنه، فيجيبه أبو ذر : من غفار يا رسول الله . وتتألق على وجه الرسول ابتسامة جميلة، كأنما أعجبه أن يأتيه في بداية النور، رجل من قوم أبعد الناس عن النور - غفار - ويرفع الرسول بصره إلى أبى ذر ويقول إن الله يهدي من يشاء . فقد سره عليه الصلاة والسلام أن يأتي من غفار من يسلم، والإسلام لا يزال ديناً غضاً مستخفياً . 

ويسأله أبو ذر : بما تأمرني يا رسول الله . قال عليه الصلاة السلام : ترجع إلى قومك حتى يبلغك أمري . وجاء العباس وأمسك بيد أبى ذر، ليأخذه إلى داره، كي يغادر مكة قبل أن يتعرض له أحد من قريش .

ولم يحتمل أبو ذر كتمان فرحته بالنور، ولا كبت حماسه للذود عنه، فصاح : يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرجع حتى أصرخ بالإسلام في البيت الحرام . وانطلق ناحية الكعبة، وهب خلفه العباس لإنقاذ الموقف وهو يعدو ويقول بصوت عال : يا أبا ذر إنك لا تعرف على ما أنت مقدم . وبلغ أبو ذر الكعبة، ونوادي قريش مجتمعة صاح في الناس : يا معشر قريش . وتلمز الناس بعضهم لبعض قائلين : من هذا الغريب الذي يجذبه العباس بن عبد المطلب من ردائه ؟ . ويصيح أبو ذر : يا معشر قريش، أنا جندب بن جنادة أبو ذر الغفاري، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وينسل - أبو الحكم . عمرو بن هشام - من مجلسه والغضب يتفصد من عروقه : ويح هذا، يصيح علينا بما نكره، قوموا إلى هذا الصابئ اقتلوه . ويتبعه أمية بن خلف : اضربوا الصابئ حتى يموت . من أي قوم هو ؟ .

وتهوى الأيادي على أبى ذر، ضرباً، وبطشاً، ولا يكف لسانه عن الصياح : أشهد وأنوفكم راغمة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويجاهد العباس قدر سعته في صرفهم عنه وهو يقول : يا أبا الحكم . يا أبا الحكم . تقتلون رجلاً من غفار، انفضوا عن الرجل ودعوه . قال أبو الحكم في هياج : عجباً لك ياأبا الفضل، ألا تسمع ما يقول، سحره ابن أخيك، واللات لنقتلنه .

قال العباس : على رسلك يا أبا الحكم، تقتل رجلا من غفار، وتجارتكم وممركم على أرض غفار، ماذا لو حرَّض قومه عليكم، يقطعون على قوافلكم طريقها ؟ . فقال أبو الحكم : فخذه يا أبا الفضل، وأسلمه الطريق، إن بقى في مكة قتلناه ولا نبالي .

ويذعن أبو ذر لأمر العباس، ويمسك الطريق قافلاً إلى قومه، وقد حمل مشعل النور .

صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .

ملحوظة:

هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة ..  هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.

محمد مصطفى

تعليقات

التنقل السريع
    close