( الحلقة/ 18) سليل الملك تُبَّع وضياع اليمن
من كتاب الطريق الي النور
للكاتب الكبير ا/ محمد مصطفي
**ويحط موكب النعمان فى المدائن عاصمة الفرس، وينيخ ليستريح، وينتهزها فرصة ليلقن صاحبه سيف الذى لا يعرف عن كسرى، ولا عن بلاده شيئا، يلقنه آداب الحضور والمثول بين يديه، فيقول له النعمان : افعل ما آمرك به، فأنت لا عهد لك بالأكاسرة ولا تتحدث أمامه قبل أن يأذن لك، وافعل ما ترانى أفعله من التبجيل والتقدير فى حضرته ـ قال سيف : ستجدنى حيثما تريد. **
**اندهش سيف لما دنا من قصر ( كسرى ) رأى الوفود الآتية من بلاد العرب والعجم وهى تصطف على جانبى مدخل القصر فى موقف مهيب، لم يراه من قبل، كلهم جاءوا لنفس ما جاء به النعمان، ويبدو أنه الميعاد السنوى لتجديد عهد الولاء والقسم أمام كسرى، ملوك وأمراء،وقادة ملكوا أمر العباد فى مشارق الأرض ومغاربها، وهم الآن فى ساعة عبودية وذل أمام سلطان كسرى ..**
**راح سيف يطوف برأسه حول هذه المشاهد الحية ويقول فى نفسه : أهكذا يحكم كسرى نصف الأرض ؟ بهؤلاء الذين أتوا له بثروات قومهم ، وهو قابع فى ملكه – ويبتسم النعمان لسيف خجلاً، لأنه فى الثلاثة أشهر الماضية رآه فى موقع الملك الذى يأمر، وتنحنى له الجباه ،وهذا مشهد عجيب، مغاير لما كان يراه سيف فى فترة مكوثه بالحيرة، ولولا وقوع حب سيف فى قلب النعمان، ما سمح له النعمان بصحبته فى تلك الرحلة بالذات، التى فيها تنجلى الحقائق –**
**وينظر سيف فى شرود، ويتلفت حوله إلى تلك الصفوف، ويحادثه النعمان، مسميا له الملوك والأمراء، ويتأمل سيف فى ملابسهم المزركشة الثمنية ، المتابينة اشكالها باختلاف المشارب والعادات ويهمس فى نفسه : كل هؤلاء استمدوا شرعية حكمهم من كسرى الذى جعل مصير الشعوب فى يديه، هل سأصبح واحد من هؤلاء، وفجأة يسمع صخباً وضجيجا فى المكان، وحركة قطعت صمت الوفود، حراس كسرى وقواده، جاءوا ليأخذوا الهدايا من الملوك والأمراء وخلفهم كتبة الإيوان يسجلون ما جاء به القادمون للقاء الملك، لتسوى على أساسها درجات القرب والرضا منه، حتى لا يبق مع من أتى للقاء، سوى الأوراق المالية والكتب المرفوعة لكسرى، ويريم على المكان صمت محكم، وبدأت الطبول تدق فى وقع متناسق، ضربات متباعدة، وإذا بباب ضخم يُفتح، يسحبه من الأجناب العبيد والثيران، ويطل الواقفون خشوعاً على منظر مهيب، بهو متسع فى هيئه نصف دائرة، يلتصق بجدرانها الحراس حاملى الرماح، كأنهم الرسوم على الحوائط، وفى نهايتها ستارة كبيرة تنسدل من سقف الباحة، وعلى الأجناب والوسط المشاعل التى تخفى وراءها صولجان الملك وعرش كسرى، ودب فى أرجاء المكان سكون خاشع، وتُعطى إشارة النفخ لحامل البوق، فيصدر دوياً يهز جنبات القاعة بنفخته تلك، وبدأ محركو العجلات الدوارة على جانبى الستارة المنسدلة يلفون عجلاتهم، وبدورانها ترتفع الستارة تدريجا إلى السقف، حتى إذا انجلت أمام هذا المشهد المهيب، خر الجميع على الأرض سجداً، عدا سيف بن ذى يزن الذى هاله المنظر، وشغله عن السجود ـ كرسى موشى بالذهب واللؤلؤ والمرجان، يجلس عليه كسرى، وفوق رأسه تاج ضخم، معلق بسلاسل ذهبية فى السقف، فإذا أراد الجلوس، انحنى تحته، حتى إذا استوى وضع رأسه أسفله، تاج مرصّع بالجواهر والزبرجد والياقوت والماس ـ **
**تسمَّر سيف مكانه واقفاً، وكل من بالقاعة الضخمة على الأرض فى حاله سجود، وأعطى كسرى إشارة قبول التحية، فرفعت الرؤوس من السجود وصاح كسرى : أى أحمق هذا الذى لم يسجد أمامى، من أنت ؟ وما بك ؟ قال سيف : أذهلنى أيها الملك ما أنا فيه عن السجود، وما ألم بى من هم أذهب برشدى وعقال فكرى – قال كسرى فى شدة : مع من جئت ، وما وراءك ؟ – هنا اقترب النعمان فى خشوع إلى مرازبة كسرى وقال فى همس لهم : أنا جئت به – قال المرازبة لكسرى : جاء فى حاجة له مع النعمان بن المنذر عاملنا فى الحيرة ـ**
**أمر كسرى النعمان بالتحدث عن ضيفه، وتحدث النعمان الذى لم يطل حديثه ولم يخض فى التفاصيل، وآثر أن يكمل الحديث صاحب الأمر، تقدم سيف إلى كسرى وقص عليه ما هو واقع فيه، وحاجته فى استرداد ملك آبائه، ويصرفه كسرى بعيدا حتى يستشير وزراءه الذين قالوا له : أيها الملك ليس لنا حاجة باليمن، وليس فى اليمن ما يغرى لإرسال الجنود، فأرض العرب خاوية من الكنوز، فأراد كسرى أن يصرفه ولكن كانت عادتهم إذا جاءهم أبناء الملوك لا يغادرون مجالسهم إلا بالهدايا، فأمر كسرى لسيف – بعشرة آلاف درهم فضة، وكسوة له « حُلْة ثمينة » وقال له : ليس لنا فى اليمن حاجة تجعلنا نغزوها –**
**خرج سيف من هذا اللقاء فى غاية الهم والحزن، ومضى فى طريق البوابات الخارجية للإيوان، حتى إذا كان خارج القصر، راح ينثر الدراهم الفضية على الأرض، فانقض الناس عليها، يتدافعون لأخذها، واحتشد جمع غفير من المارة حوله، يتصارعون فى التقاط الدراهم المتساقطة، وفى لحظات تحول المكان إلى هرج ومرج، فاندفع الحراس ناحية الصخب، يفرقون الناس، ويعيدون الهدوء إلى أصله، وتم لهم بعد عناء وجهد، وانتشر الخبر حتى وصل كسرى فى مجلسه الذى لم ينفض بعد من لقاء الوفود فصاح غاضباً : إن لهذا الرجل لشأن، ائتونى به، وجاءوا به قال كسرى : إن أمرك لعجيب أيها الرجل، دخلت مجلسى ولم تسجد لى أول الأمر، وجزاء ذلك الفعل القتل، ولم أفعل لجهلك بالمراسيم الفارسية، ثم خرجت ورميت بحظوتى للناس، ألا تعلم عاقبة هذا أيها اليمنى العاصى ؟**
**قال سيف : لقد أتيتك من بلاد جبالها الذهب والفضة، أريد عونك فى استرجاعها .. ويسيل لعاب كسرى لهذا الذى أغراه، ويأمره بالانتظار حتى يشاور فى أمره ويطرح كسرى الأمر ثانية على وزرائه، فقد صار فى الأمر كنوز، بعدما ظنوا أن لا شيء وراء الرجل، خدعهم سيف بحنكة وفطنة، فدفعهم إلى إيجاد سبل لمعاونته ،فقال أحد الوزراء لكسرى : ما سمعنا أن باليمن جبال من ذهب ولا فضة – وقال آخر : أبناء الملوك لا تكذب، لعلهم أجدر الناس بما يقولون – وقال آخر : هذا الرجل يعلم ما فى اليمن من كنوز خفيت على الأحباش – قال كسرى : ولكن بعدت الشقة بيننا وبين اليمن، وأخشى أن يصرف الفتى همتنا إلى خداع –**
**وظل الأمر قيد التداول والبحث، حتى خرج رأى منهم لأحد مستشارى كسرى قال : أيها الملك إن فى السجون رجال قد أعددتهم للقتل، فاخرجهم مع سيف ودعه يقاتل بهم الأحباش، فإذا انتصروا كانت اليمن لك، وإذا قُتِلوا فذاك ما تريد – قال كسرى : نعم الرأى ما أشرت – .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .**
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
تكملة ( الحلقة/ 18 ) سليل الملك تُبَّع وضياع اليمن !!
من كتاب الطريق الي النور للكاتب الكبير ا/ محمد مصطفي
ويُخرج كسرى ثمانمائة رجل من السجون، ما بين قاتل وقاطع طريق ومعارض لكسرى، انتقى من سجون فارس أشدهم عوداً وأقواهم بنية، فكانوا فى الثمانمائة رجل، وعين قائدا عليهم من قواده الأشداء، يُدعى ( وهرز ) وحُمِلت القوة على ثمانية سفن، انطلقت بقيادة – وهرز وسيف بن ذى يزن – صوب اليمن، وأبحرت السفن حتى اقتربت من شواطئ عدن، محطة الرسو، وأخذ وهرز ينسق مع سيف قبل أن ترسو السفن وقال وهرز : أراك تعرف دروب اليمن الداخلية، وأفضل الأماكن التى ننطلق منها للهجوم – قال سيف : نعم أيها القائد، وقد أرسلت قبل ركوبنا البحر لقوات الانتقاضة، نحن فى الطريق إليكم هم الآن فى انتظارنا، ويعلمون ما يفعلونه إذا كان القتال .
قال وهرز : ما عليك بعون الرجال، فهذه السفن تحمل على متنها، عتاة البشر وأغلظ الناس قلوبا، فلا تكلمنى فيما هو عندك داخل اليمن، فلو كان فيهم بأساً لما لزم مجيئك لكسرى، إنما نريد معاونة على معرفة الطريق، أما الأحباش وقائدهم (مسروق) فذاك لرجالى .
أحس سيف أن وهرز يخفى من التعليمات الخاصة بالحملة ما يخفيه، فليس لكلامه معنى سوى عدم المشاركة فى القتال ليستأثر الفرس بالغنيمة وحدهم، ولو حدث ذلك صارت اليمن لهم، أضمر سيف شكوكه، وأرجأ التعامل مع ما يخفيه وهرز، ريثما ينتهى من الأحباش –
بدأت السفن تصطف فى ميناء عدن، وتُنزل بالرجال شديدى البأس، وسرعان ما علمت الأحباش بنزول الفرس، فانطلق مسروق بجيشه ناحية الميناء وشرع وهرز فى توزيع الرجال، ونصب الكمائن، وانتظر قدوم قوات مسروق بن أبرهة التى هى فى طريقها إليه، وتخرج قوات سيف التى كانت على علم بقدوم الفرس لتنضم إلى جيش وهرز الذى رفض فى أول الأمر إشراكهم معه، لكن بعد طول تفاوض مع سيف، قبل وهرز الذى رفض فى أول الأمر إشراكهم معه، لكن بعد طول تفاوض مع سيف، قبل وهرز انضمامهم إليه، شريطة أن يكونوا فى مؤخرة رجاله، حتى لا يسلبونه ثمار نصر لاحت بوادره فى الأفق .
بدأت جحافل الأحباش تتدافع ناحية أرض المعركة، حتى وقع القتال بينهما، وتلتف قوات الفرس على جانبى جيش (مسروق) التفافة بارعة تطبق بها على الأحباش الذين قاوموا مقاومة شرسة، واستطاعوا الصمود أمام هول الضربات المتلاحقة .
استمر القتال العنيف الذى أخذ مسارا تدريجيا بطيئا لصالح الفرس، وهنا بدأ وهرز يفكر فى وسيلة للقضاء على ملك الأحباش، لينهى المعركة ويجنب جيشه خسائر الأرواح – فقال وهرز لمن حوله من رجال سيف : أرونى الملك مسروق ؟ - قالوا : أترى رجلا على الفيل، عاقداً تاجه على رأسه، بين عينيه يا قوتة حمراء ؟ قال : نعم – قالوا : هذا الذى تحول الآن من الفيل إلى الفرس، إنه مسروق – فعرفه وهرز ، وميزه قال لهم : اتركوه فهو لى –
وينقض مسروق بفرسه هنا وهناك، ويغيب عن ترصد وهرز ويسألهم : وأين هو الآن ؟ يقولون له : لقد نزل من الفرس وركب البغلة، ها هو ذاك – قال وهرز : ها قد رأيته ، يركب بنت الحمار ؟ ! ذُل وذل ملكه – ويضع وهرز سهما فى قوسه، ويشده شدة عنيفة، ينطلق السهم من قوسه فيشق الياقوتة التى بين عينيه وينفذ فى رأسه ويخرج من قفاه، ونكس على دابته صريعا واستدارت الحبشة تبغى الفرار، وحملت عليهم الفرس حملة واحدة، حولت جيشهم بين قتيل وجريح وأسير وفار، ودخل وهرز صنعاء ناصبا رايته وهكذا دارت الدوائر على الأحباش، وكانت تلك آخر فصول اللعنة التى حلت عليهم، جراء تعرضهم لبيت الله الحرام –
ولما استقر الأمر للفرس، وفرغ وهرز من احتفالات النصر، رأى سيف بن ذى يزن أن الوقت صار مناسبا لمفاتحته فى تسليم حكم اليمن له، دخل على وهرز وقال له : الآن وقد فرغت من انتصارنا العظيم، وعادت اليمن لنا، فقد جمعت لك من أشراف اليمن وثراتها هذه العطايا، مكافأة لك ولرجالك ولكسرى، وفتح سيف صندوق ضخم فيه من الذهب والفضة والياقوت والزبرجد الكثير، وقال : خذ يا وهرز هذه عطايانا لكم – وإذا بوهرز لا يتمالك نفسه من فرط الضحك وقال : أنا لم آت من بلادى لأحرر لك بلادك نظير أجر، إنما ابتعثنى كسرى فى أمر محدد، إخضاع اليمن لسلطانه – ويثور سيف ويغضب ويقول : الآن برح الخفاء، لم يكن هذا اتفاقنا – قال وهرز : وما كان اتفاقك معنا إذن ؟
قال سيف : عجيب أمرك يا وهرز، أنسيت أن كسرى أرسلك معى لتستردوا لى ملك اليمن ؟ وتخرج الضحكات الساخرة مرة أخرى من وهرز الذى قال : يا ابن الملوك لا تمنى نفسك بما لا يكون، دع ملك هذه البلاد لمن يقوى على حمايتها، لقد عجزت عن استرداد ما سُلب منك، ولم تصمد حتى يخرج من بين أظهركم جيل قادر على التحرير، وكنت عجولا، جل همك أن تجلس على كرسى الحكم بأى وسيلة، حتى اضطرتك الحاجة إلى الاستعانة بالغرباء أمثالنا، فكيف ستحمى اليمن من العادين عليها إذا نُصبت على البلاد ملكا ؟ هل ستبحث فى كل مرة عمن يعيدك إلى العرش ؟ كن عاقلا يا رجل، ودع ما فى رأسك من أوهام .
وقبل سيف الصفعة، وليس أمامه غير القبول، وكانت درسًا قاسيًا له ولغيره ممن يستعينون بالغرباء لتحرير بلادهم، وصارت عقدة – سيف بن ذى يزن – مثلا يضرب فى اليمن، لمن يستعين بالبعيد لحل مشاكله .. ولم يدم بقاء القائد وهرز طويلا على حكم اليمن، أرسل كسرى ملكا اسمه – المرزبان – يحكم البلاد نيابة عنه، وخلف المرزبان ولده – التوبدان – الذى عزله كسرى وعين بدلا منه – باذان – الذى أدرك النبى صلى الله عليه وسلم ودخل الإسلام، ودخلت معه اليمن فى الإسلام، لتأخذ طريقها إلى النور .. صلوات ربى وسلامه على سيد الخلق والمرسلين .. وإلى الحلقة القادمة من كتابنا الطريق إلى النور .
ملحوظة:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمكون من جزئين، نقدمه للأمة فى عصرنا الحالى، ولأجيال قادمة، والمُسمى ( الطريق إلى النور فى سيرة الرسول .. صلوات ربى وسلامه عليه ) قد تم طبعه فى عام 2007 والناشر له "مؤسسة حورس للنشر والتوزيع"، وقد نفذت نسخه من دور العرض، لذا جاري الآن إعداد طبعة جديدة بإضافات لم تكن موجودة في الطبعة السابقة .. هذا الكتاب هو ما نعرضه لحضراتكم في حلقات هنا علي صفحتنا للمرة الثالثة، وعلي الله قصد السبيل.
محمد مصطفى
تعليقات
إرسال تعليق