( 53 )
_ أول مرة ! _
إنبعث صوت "نبيل" رخيمًا هادئًا عبر سماعة الهاتف النقية :
-شوفتي لما بوعدك بوفي بوعدي إزاي ؟ لاقيتلك جوزك.. لاقيت فادي يا هالة !
لثانية توقفت أعضائها قاطبةً عن العمل... خاصةً عندما سمعت باسمه
هيبة الغياب.. لم تكن تدري بأنها أقوى بكثير لو كان حاضرًا... هل حقًا وجده ؟!!!
-هو فين يا خالو ؟؟؟
خرج السؤال من بين شفاهها بلهفةٍ تزخر بلوعة الأيام و الليالي الثقال طوال مدة بُعده عنها ...
مكثت باللحظات التالية تتحرق إرتقابًا و تشوقًا.. حتى تكلم "نبيل" مرةً أخرى و قال بصوته الهادئ الواثق :
-مصادري في شركات الطيران جوا و برا إسكندرية أكدوا إنه طلع في رحلة لدبي ذهاب بس بتاريخ 8 / 12 إللي فات و لسا مافيش تسجيل بالعودة
-فادي في دبي !! .. تمتمت "هالة" بشيء من الاضطراب
-بيعمل إيه هناك ؟ و راح لمين ؟!!
أجابها "نبيل" بلهجته الجدية :
-حاليًا ماعرفش عنه تفاصيل. لكن كلمت ناس معرفة هناك و وصيتهم يجبولي أخبار عنه.. قريب هاسمعك كل إللي عايزة تعرفيه ماتقلقيش يا حبيبتي
هربت الكلمات من على طرف لسانها الآن، كل ما شغلها هي الأخبار التي أدلى بها خالها للتو.. لقد تم تحديد مكان "فادي" أخيرًا..وجهته السرية لم تعد كذلك
ماذا تفعل ؟ هل تضرب بكرامتها و عائلتها و كل شيء عرض الحائط مجددًا و هذه المرة لأجله.. لتسافر له ؟... أم تبقى.. تبقى بمكانها و تنتظر عودته أو أن يأتيها أيّ أحد به ؟
و لكن ما الضمان بأنها ستراه أصلًا بيومٍ من الأيام ؟ لقد أوضح تمامًا رغبته في عدم رؤيتها.. آخر لقاء لهما كان صعبًا بقدر ما كان مؤلمًا... تتساءل كيف له أن يصفى لها من جديد ؟ كيف يتحقق أملها هذا ؟ زوجها صعب المِراس.. المزاجي... الحساس.. و الغضوب جدًا عند ثورته
لكنه حنونًا و ليّن القلب أيضًا... لقد لمست ذلك في بعض مواقف.. فهل يرضى عنها ؟.. هل يكون لها نصيبًا من غفرانه على كافة الأخطاء التي اقترفتها بحقه !!!
-روحتي فين يا هالة ؟
أفاقت على صوت خالها، لترد على الفور بصوتٍ متلعثم :
-معاك.. معاك يا خالو !
-أنا قلت أتصل أبلغك بالأخبار إللي مستنياها.. افتكرتك هاتفرحي !
تنهدت "هالة" و هي ترد عليه بهدوء :
-أنا فرحانة فعلًا. كفاية بس إني أطمنت عليه.. على الأقل عرفت فين أراضيه
-تمام يا حبيبتي. أنا هاقفل معاكي دلوقتي عشان قاعد في مكان شغل.. لما أرجع بالليل نتكلم إن شاء الله. عاوزة حاجة دلوقتي ؟
-عاوزة سلامتك يا خالو.. باي !
و أغلقت معه ...
وضعت الهاتف فوق الكومود، ثم قامت من فراشها، مشت ناحية المرايا الضخمة المثبتة بالحائط بجوار الخزانة.. خلعت الروب الخفيف في طريقها و تركته يسقط فوق الأرض ...
وقفت أمام المرآة بطولها.. أخذت تتطلع إلى نفسها.. حتى إنحدرت نظراتها شيئًا فشيء لتشمل منطقة البطن
ذلك السكن المحدود الذي يكنف جنينها ...
لاحظت إرتفاعها قليلًا و تقويسة القبة العلوية.. رفعت يدها و بسطت كفها فوق بطنها... لتشعر بنبضٍ مفاجئ استمر للحظة... إبتسمت تلقائيًا و سرعان ما تحوّلت ابتسامتها إلى ضحكة صغيرة
إحتوت بطنها بيديها و هي تغمغم بينما تتدفق الدموع بغزارة غريبة و لا إرادية من عينيها :
-شقي.. من أولها كده ؟ .. شكلك ولد.. وحياتك عندي لو طلعتما هاسميك. هافضل سايباك منغير إيم لحد ما أبوك يرجع.. أبوك إللي هايسميك !
______________
كانت تقف بغرفة الملابس الآن.. تضع حقيبة كبيرة فوق الأريكة الوحيدة بالداخل... كانت تباشر تجميع ملابسها و أغراضها كالمجنونة
بينما زوجها يفسد عليها خطتها بأن يلقي بكل قطعة ترميها بالحقيبة فوق الأرض، فتبعثرت أشياؤها و لم تجمع ثوبًا واحدًا أو حتى قميصًا ...
-كفاية يا سمر ! .. يكرر "عثمان" نفس الكلمة للمرة المئة تقريبًا
و لكن لا حياة لمن تنادي، لينفعل مرةً أخرى و يضرب الحقيبة مجددًا صائحًا بغضبٍ :
-قولتلك كفاية إللي بتعمليه و بطلي جنان.. أنا لحد دلوقتي ماسك نفسي. و إحنا أصلًا ماتحاسبناش.. سيبي إللي في إيدك أحسنلك !!!
ارتجفت "سمر" من قمة الغضب و إستدارت لتواجهه و هي تهتف بعصبيةٍ :
-جنان و حساب و ماسك نفسك.. و بترميلي الهدوم ؟ طب أهــووووو ...
و ركلت الحقيبة بقدمها بمنتهى العنف، كبتت صرخة ألم و عوضًا عليه إلتفتت إليه ثانيةً هادرة :
-أدي الهدوم إللي بترميها.. برميها أنا كمان أهووو. هاطلع من بيتك زي ما دخلته. بالهدمة إللي عليا. مش عاوزة منك حـااااااجـــــة !!
و أعرضت عنه موّلية نحو الخارج، لكنها و قبل أن تخطو خطوة واحدة كان قابضًا على رسغها و مجتذبها صوبه بقوة، ثم دافعًا بها و هو لا يزال يمسكها حتى لصقها بالحائط و حاصرها هناك ضاغطًا بجسمه عليها ...
-الحالة بتاعتك دي أنا حافظها ! .. تمتم "عثمان" من بين أسنانه و عيناه تطقان شرارًا
-يطلي عقدك دي بقى. مش معقول كل ما نتخانق تلمحي للفرق الطبقي إللي بينا.. لو ناسية إنك بقيتي مراتي ف دي مشكلتك. بقيتي مراتي يعني نقلتك من مستواكي لمستوايا. النقص إللي دايمًا بتحسي و بتعبري عنه بالتصرفات دي ياريت تبطليه بقى.. أنا خلاص زهقت من طريقتك. مش عارف أعمل معاكي إيه تاني. لو حجر كان إتعلم و طاوعني يا سمر
قست تعابيره أكثر و هو يواصل النظر إليها مباشرةً، بينما تختلج أنفاسها و تترقرق الدموع بعينيها و هي ترمقه بنظرات خائبة.. لتقول بصوت يتهدج إنفعالًا و بكاءً مكتومًا :
-ده فعلًا إللي كان ناقص.. إنك تعايرني بفقري. بس عارف إيه تاني لسا ماعملتوش ؟ لسا ماعيرتنيش بعلافتي بيك قبل ما تكتب عليا. مستني إيه ؟
و صرخت به فجأة :
-مستني إيــــه ؟ ما تتكلم.. يلا قول ساكت لـيـــــه ؟؟؟
-عايزة إيه يا ســمــــر !!! .. صاح فيها بغضب شديد و هو يغرز أصابعه بلحم كتفيها بقساوة مؤلمة
ردت بنفس اللهجة الصارخة و قد بدأت الدموع تجري فوق خديها :
-طـلقنـــــي !
عثمان بغلظةٍ : مش هاطلقك. سامعة ؟ مش هاطلق يا سمر.. و عقابك على أخدانك منع الحمل من ورايا هاتخديه دلوقتي حالًا. مش عايزة تخلفي مني أنا ؟ دي آخرتها ؟ مااااشي أنا هاعرف أتصرف معاكي و أعقلك كويس !!!
و أدارها بحركة خاطفة، لوى ذراعيها خلف ظهرها و أعتقلهما بيدٍ واحدة، بينما بيده الأخرى ينتزع حاجب رأسها و يباشر خلع ملابسها ....
-إنت بتعمل إيـــــه ؟؟؟!!! .. صرخت بذعرٍ محاولة الإفلات منه عبثًا
ضحك ضحكة قاسية و هو يرفع يده عنها لبرهةٍ كي ما يتمكن من حل أزرار قميصه و هو يقول بصوتٍ أجش :
-تفتكري بعمل إيه ؟ مش عارفة أنا هاعمل إيه يعني !!
تأكدت من ظنونها مئة بالمئة الآن.. إستغلت انشغاله عنها خلال تلك المدة القصيرة و تلوّت بعنفٍ حتى أفلتت منه بالفعل... لكنها ما لبثت أن صرخت برعبٍ ما إن أحست بذراعه تلتف حول خصرها باللحظة التالية مانعة إياها من بلوغ عتبة غرفة الملابس
وجدته يرفعها عن الأرض بذراعه و ينقلها للجهة الأخرى، إذ وضعها فوق خزانة الأدراج العاجية بعد أن أزاح بعض الأغراض و الخزف الزجاجي ليسقط محطمًا فوق الأرض ...
-إنت عمرك ما عملتها ! .. تمتمت "سمر" و هي ترمقه بخوفٍ ضمني
آتاها رده صلبًا كالجلمود بقسوته :
-صح.. عمري ما عملتها. بس ده عقابك. و خليكي فاكرة إن الجزاء دايمًا من جنس العمل. ف أنا مش ظالمك يا سمر. بالعكس.. إنتي إللي استغفلتيني و ظلمتينا كلنا. أنا و إنتي و إبنك. و دلوقتي هاتدفعي التمن. بس افتكري كويس الفرق بين دلوقتي و قبل كده. افتكري كويس يا سمر !
و شدها من فخذيها ليقربها منه، لتحبس أنفاسها جاهلة طبيعة نواياه الجديدة و تصرفاته التي لم تعهدها قبل الآن، هكذا هو عقابه لها.. أن يرغمها على تجربة قاسية قاهرة جزاءً لها على جريرتها العظمى من وجهة نظره
لقد بدأ العقاب بوتيرة عالية من الحماسة الهمجية.... فكيف سينتهي يا ترى !!!
______________
في مقابر العائلة ...
تجلس "فريال" متشحة بالسواد تمامًا على حافة الدرج الرخامي، تتحس التراب الذي يغطي مرقد زوجها تارة، و ترص الزهور فوقه تارة
كانت الدموع تنهمر من عينيها و تشوّش رؤيتها في هذه اللحظات، فكانت تزيلهم من حينٍ لآخر بمنديلها ...
-وحشتني أوي يا يحيى ! .. صدرت عنها تلك الهمسات الحارة الباكية
قبضت بيدها على حفنة من التراب و هي تستطرد حديث من طرفٍ واحد :
-تعرف إني لحد دلوقتي مش قادرة أعيش منغيرك يا حبيبي.. لولا وجود يحيى الصغير. و الولاد.. أنا ماكنتش هاعيش بعدك ثانية واحدة.. فينك دلوقتي يا يحيى... لو تعرف أنا محتجالك أد إيه... في مواقف مش عايزاني.. عايزاك إنت.. في حاجات أنا مش عارفة أتصرف فيها لوحدي.. لو إنت كنت معايا كنت حليت كل مشاكلنا يا حبيبي.. كنت وقفت لعثمان على الأقل و عقلته.. أنا مهما كنت بالنسبة له مش قادرة عليه.. أنا مش قادرة على عثمان يا يحيى.. بيسمع كلامي.. بس بطريقة تانية بينفذ إللي في دماغه... أنا خايفة عليه أوي.. و خايفة على سمر و يحيى الصغير.. شوفت أنا تايهة و غرقانة إزاي منغيرك ؟
و نزحت بقايا دموعها بظاهر يدها عندما وجدت المنديل قد شبع دموعًا... أدار رأسها ناحية قبر "رفعت".. إبتسمت تلقائيًا و هي تقول بصوتها الرقيق الأبح :
-إزيك يا رفعت ! إنت كمان وحشتنا أوي يا رفعت.. البيت بقى صعب.. بقى حزين أكتر من يوم ما مشيت إنت كمان... تعرف إنك كنت مهون غياب يحيى.. على الأقل كنت كبير العيلة.. كنت السند لينا كلنا... زيك زي يحيى بالظبط مش قادرة أصدق إنك مشيت.. هالة مش بتبطل بكا عليك.. بس أنا معاها دايمًا مش بسيبها.. و صحيح. عرفت إنها حامل ؟.. هاتبقى جد للمرة التانية يا رفعت !
و صمتت الآن مغمضة عينيها بشدة... لتغمغم بلهجة آملة متضرعة و هي تبسط كفيها فوق القبرين :
-و بلغوا سلامي لكل الحبايب و الغاليين.. إن شاء الله هاجيلكم قريب !
______________
يا للخزي ...
أهكذا ينقلب كل شيء ضدها بلحظة ؟
ما هذه الحياة الظالمة ؟ تضعها موضع الضعف و الاستسلام دائمًا.. لا تتهنى بموقف متمرد واحد... كيف فعلت هذا ؟
كيف سلّمت له و رفعت الراية البيضاء بهذه السرعة ؟ بل و كيف تتجاوب معه و تتلهف عليه بهذه الطريقة المخجلة حتى دفعته لتغيير قراره، فبدل أن يعاقبها أخذ يلاطفها و يتودد إليها بمنتهى الرقة مغدقًا غليها فيضًا من الحنان !!!!
عارّ.. عارّ عليها ...
-سمر !
ارتعد جسمها لحظة سماع صوته ذي النبرات الهادئة فجأة ..
كانت متكوّمة فوق الأرض، ترتدي بقايا ملابسها و قد بسط فوقها شالًا ليقيها لحظات الخجل المعتادة.. رأسها كانت مرتاحة فوق قدمه، بينما كان يستند بظهره إلى الجدار و بفمه سيجارًا رفيعًا مائلًا للجانب
تنهد بثقلٍ عندما لم ترد عليه، و ابتسم بخفةٍ و هو يراها تدفس وجهها في فخذه هاربة من نظراته.. إمتص عبقًا عميقًا من السيجار، ثم انتسله من بين شفاهه، و بيده الأخرى راح يمسح على رأسها بلمساتٍ لطيفة كأنما يداعب قطة بالضبط
و لكن على حين غرة تداهمه ذكريات ما قبل اللحظات الحميمية و يتذكر قضية حبوب منع الحمل التي واظبت على معاقرتها دون الرجوع إليه، تملكه الغضب من جديد، لكنه تمكن من السيطرة عليه و هو يرفع صوته قليلًا مخاطبًا إياها بصرامة :
-سمر إحنا لازم نتكلم.. إللي بيني و بينك لازم نسويه إنهاردة. لأني مش هاقبل بعد كده بمهزلة زي دي تحصل تاني.. المرة دي هسامحك. و إنتي كمان.. أنا متأكد بعد ما تسمعيني هتسامحيني ! ........................................................................................ !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبع ...
( 54 )
_ تضحية ! _
ابتسمت عينيها بسعادةٍ طفيفةٍ لأول مرة منذ وقتٍ طويلٍ جدًا... مدت يدها لتتناول فنجان الشاي من يد خالها و هي تقول بصوتها الرقيق :
-ميرسي يا خالو.. بجد ميرسي على كل حاجة !
بادلها "نبيل" بابتسامة هادئة و هو يفك ربطة عنقه الخانقة قليلًا، ثم يرفع فنجانه الساخن لفمه هو الآخر قائلًا :
-على إيه بتشكريني بس يا حبيبتي ؟ أنا لو أطول أجيبلك الدنيا كلها تحت رجليك عشان تبقي مبسوطة بس متأخرش.. أنا ماليش غيرك يا لولا. و بعدين أنا ماتخيلتش إن الأخبار تجيلي بالسرعة دي
هالة بحبور كبير :
-أهم حاجة إني إطمنت عليه.. و إنه كويس و قدر يلاقي نفسه من تاني
أومأ "نبيل" موافقًا إياها و هو يرتشف من الفنجان قليلًا، ليتطلع إليها مجددًا و يقول :
-فعلًا. بعد الحكايات إللي سمعتها منك. لما عرفت إنهاردة أخباره و إللي قدر يوصله ماصدقتش نفسي. الولد ده هايل بجد ! .. و اعترف على مضض لاويًا فمه بامتعاضٍ :
-أول مرة أشوف حسنة لعثمان.. بصراحة سلمك لراجل حقيقي أقدر أعتمد عليه من ناحيتك
تتلاشى ابتسامة "هالة" في هذه اللحظة.. ليحل الوجوم التام محلها ...
تنهدت بثقلٍ و أشاحت بوجهها تجاه شرفة التراث المفتوحة هاربة بنظراتها في مجاهل الليل المعبّق بروائح الشوق و الحنين.. حنين يرجف القلب و يؤلم الروح ...
-هالة ! .. هتف "نبيل" و هو يرمقها عابسًا
لم تحاول النظر إليه بالوقت الحالي، ليكرر بقلقٍ :
-مالك يا هالة.. إنتي تعبانة حاسة بحاجة ؟!
اعتصرت "هالة" جفنيها بشدة و هي تقسر نفسها على معاودة الحديث مع خالها.. إذ أدارت رأسها ثانيةً و نظرت إليه قائلة بهدوءٍ :
-أنا كويسة يا خالو.. كويسة أوي. بس سرحت في كلامك شوية
نبيل باهتمام : كلام إيه ؟
صمت قصير.. ثم قالت "هالة" بعدم ثقة :
-أصل إنت فاكر إن الموضوع.. موضوعي أنا و فادي.. ممكن يتحل بالبساطة دي !!
هز "نبيل" كتفيه مرددًا :
-و إيه إللي يصعّبه مش فاهم !
ردت "هالة" بثقةٍ هذه المرة :
-فادي مجروح مني. متصور إني ماحبتوش و إني أستغليته عشان أقدر أنتقم من عيلتي.. صحيح أنا و هو ماتكلمناش كتير. بس ليلتها عنيه قالت كل حاجة. كسرته. خيبة أمله فيا ...
و تمهلت قليلًا.. ثم أكملت بصوتٍ يغصّ بالدموع :
-أنا إتوجعت من عثمان أكتر من مرة.. و مراد إتوجع مني. جايز ماحستش بوجعه لأي سبب. عشان صاحب عثمان ف شبهه. أو بسبب أنانيتي وقتها. مش عارفة.. بس الوجع إللي سببته لفادي خصوصًا بعد ما خيرني بينه و بين حريتي. و معاملته الرقيقة ليا. خوفه عليا و اهتمامه و حبه.. كل ما أفتكر الحاجات دي كلها بحتقر نفسي.. فادي الراجل الوحيد إللي إداني هويتي و كان بيبذل جهده عشان يسعدني و مايخليش حاجة ناقصاني. أي حاجة... هو الوحيد إللي حسيت معاه بنفسي و إكتشفت مشاعري الحقيقية.. و أنا بغبائي ضيعته مني. ضيعت راجل كان بيحبني بجد !
اكتسب وجه "نبيل" تجهمًا شديدًا أثناء استماعه لتصريحات "هالة".. حتى ختمتها كلها بالبكاء الصامت و هي تنكس رأسها الآن لتواري دموعها عن ناظريه ...
منحها القليل من الوقت لتستعيد صوابها، ثم أعاد فنجانه إلى الطاولة دون أن ينهيه.. قدم لها منديله القطني و هو يقول بصلابةٍ :
-طيب خلاص من فضلك.. ماليش مزاج أشوف فيلم بين الأطلال دلوقتي. كفاية عياط يا هالة مش حلو عليكي و عليا أنا كمان.. خلاص يا كئيبة بقى !
ابتسمت "هالة" على سبيل المجاملة و هي تجفف دموعها في المنديل... تطلعت إليه مجددًا و قالت بصوتٍ أبح :
-خلاص يا خالو.. مش هاعيط قدامك تاني Promise
نبيل بصرامة : لا قدامي و لا من ورايا.. إنتي مش هاتعيطي تاني أبدًا يا هالة
ضمت حاجبيها غير قادرة على سبر أغوار نواياه المطلة من عينيه في غموضٍ، بينما ما لبث أن أوضح لها :
-بكرة الصبح هاحجزلك تذكرة و هابعتك لجوزك على أول طيارة. كفاية قعدتك لوحدك منغيره لحد كده.. كمان هو لسا مايعرفش إنك حامل. الخبر ده لوحده يغير كل شيء بينكوا
رفرفت "هالة" بأهدابها و تأتأت :
-آ آ. عايزني. آ أسافر لفادي ؟ إزاي ؟!
-زي الناس يا حبيبتي.. هاتركبي الطيارة و هاتنزلي من المطار هاتلاقي عربية مستنياكي و توصلك عنده علطول
-لأ مش قصدي كده ! .. هتفت "هالة" بارتباكٍ، و فسرت أكثر :
-أقصد.. لأ يا خالو مش هقدر.. أنا خايفة !!
نبيل بدهشة : خايفة من إيه يا بنتي ؟ حد هايكلك !!!
-مش عارفة فادي رد فعله هايكون إزاي.. و بعدين إحنا مطلقين !
نبيل بحزم : أول ما يشوفك قدامه و يعرف بخبر حملك كل مخاوفك دي هاتختفي في ثانية. و بخصوص الطلاق هو ممكن يردك عادي جدًا. العدة لسا ماخلصتش
-بس آا ا ..
-مابسش ! .. قاطعها بلهجة أقرب إلى التقريع، و قال :
-خليني أحل مشكلتك دي بقى. مش معقول هافضل مشغول بالي عليكي علطول. خليني أفوق للمشاكل الأساسية.. مش أبقى إسمي قفلت شباك و سيبت الباب. كإني ماعملتش حاجة بالظبط ..
عضت "هالة" على شفتها بقوة و هي ترنو إليه حائرة، ليختتم الحديث بعبارة آمرة لا تخضع لأيّ مناقشة :
-أنا مش هاستنى لبكرة الصبح.. أنا هاحجزلك الليلة يا هالة. حتى لو الرحلة قامت الفجر. هاوصلك و هاحطك بإيدي في الطيارة !
______________
لا يصدق بأنه أخيرًا قد فعلها !!!!
لقد باح بالسر... أجل.. سر عمه المرحوم... الخطر المحدق الذي كان يتمثل بزواجه من ضرتها الغراء !
قبل قليل كان قد أفرغ جعبته كلها في حجرها.. أجلسها أمامه و راح يدلي بكل شيء... تحدث.. و تحدث.. تركته يتحدث و لم ترد عليه بكلمة.. بقيت تستمع فقط
إلى أن فرغ ...
ربما حدث شد و جذب في خواتيم الحوار.. لكنها في الأخير قامت في هدوء و إتجهت ناحية المرحاض، إغتسلت و خرجت قاصدة غرفة الملابس.. بينما يجلس هو بصالون الجناح كل هذا الوقت و حتى هذه اللحظة على أعصابه
يدخن و ينتظر و يدخن.. يدخن كثيرًا... حتى نفذ صبره، فقام متوجهًا إليها، و كانت الصدمة !
نفس المشهد الذي رآه بالظهيرة.. يتكرر الآن.. زوجته تنحني أمام حقيبة ملابسها الكبيرة... تباشر جمع و ترتيب أغراضها بمنتهى الدم البارد ...
-إنتي بتعملي إيه تاني ؟!! .. صاح "عثمان" بغلظةٍ و هو يقطع المسافة بينهما بخطوتين
قبض على رسغها مانعًا إياها من إنهاء ما تفعله، كتمت "سمر" صيحة ألم، بينما يشدها صوبه لتصبح في مواجهته، مع هذا لم تنظر إليه مطلقًا ...
-ممكن أعرف بتلمي هدومك تاني ليه ؟ .. تساءل "عثمان" بحدة
فلما لم ترد عليه، عاود القول و هو يهزها بعنفٍ :
-أنا بكلمك يا هانم.. ردي عليا يا سمر. بتلمي هدومك ليه ؟؟؟
أخيرًا.. قررت أن تنظر إليه... فأخذت ترمقه بنظراتٍ فاترة، و قالت :
-بلم هدومي عشان أنا لسا متمسكة بقراري يا أبو يحيى.. أنا لسا عايزة أطلق !
-أبو يحيى !! .. علّق باستنكارٍ لطريقتها بالحديث معه، و تابع :
-و بعدين إنتي لسا بردو مصممة على الكلام الاهبل ده حتى بعد كل إللي حكتهولك ؟!!
تسحب "سمر" يدها من قبضته في هذه اللحظة و هي تدفعه باليد الأخرى في صدره هاتفة بعداء أذهله :
-و إنت حكيتلي إيه ؟ إنت فاكر إن الكلام إللي سمعته منك ده هايهبطني مثلًا ؟ لو متخيل إنك بكده سويت كل حاجة و حليت المشكلة تبقى غلطان.. بالعكس. إنت وسخت صورتك في نظري أكتر. إنت مش مستوعب الوضع إللي قبلت بيه حتى لو بالكدب زي ما بتقول !!!
كسا الوجوم وجه "عثمان" و هو يستمع إليها ...
بقى أمامها عاجزًا عن الرد للحظاتٍ طويلة، حتى أمكنه القول من جديد بلهجة أكثر هدوءً :
-أنا سيبت نانسي خلاص يا سمر.. ثم أنا قولتلك إن مافيش أي حاجة حصلت بيني و بينها. إللي شوفتيه الصبح ده أنا شرحتلك حصل إيه بعده أنا آ ا ...
-إنت مش مضطر تبرر أكتر من كده ! .. قاطعته بإشارة حازمة بكفها، و أردفت :
-أنا مش مستنية منك تبرير. لازم تفهم ده كويس. كنت هاسكت و أسمعلك لو كنت لسا باقية عليك
صدمه ردها و أخرسه تمامًا لبرهةٍ ...
-أومال إنتي موقفك إيه من ناحيتي دلوقتي يا سمر ؟ .. سألها بشجاعةٍ هشة
أجابته كما لو أنها تضع حجرًا فوق قلبها :
-إنت مابقتش بالنسبة لي دلوقتي أكتر من أب لإبني.. بس. علاقتنا لازم تنتهي يا عثمان. أنا بتكلم بجد المرة دي.. الخطوة دي يمكن زمان و من قريب كمان كنت أجبن من إني أخدها.. لكن أنا دلوقتي قادرة عليها. لو ما نفذتش طلبي المرة دي خليك واثق إنك بتقتل فيا أي مشاعر بقيالي.. هافضل عايشة جمبك جسم بس. من غير روح.. فاهم ؟
أجفل لأول مرة منذ دخوله عليها.. لكنه تماسك بارادةٍ قوية،و اقترب منها خطوة... أمسك بيديها فلم تمنعه، ثم قال بلطفٍ :
-طيب ممكن تهدي.. أنا عارف إن كلامي ممكن كان صادم شوية بالنسبة لك. بس أنا افتكرتك هاتعذريني و تقفي جمبي. أومال لو كنت قولتلك من الأول كنتي عملتي إيه يا سمر ؟
-ماكنتش هقبل طبعًا ! .. أتى ردها هكذا ببساطة شديدة، و تابعت :
-و كنت هاتوفر علينا كل ده. كل العتاب و وجع القلب ده يا عثمان.. على الأقل ماكنتش هاتمد إيدك عليا. ماكنتش هاتبهدلني كل شوية و تعاملني زي العيال الصغيرة. تزعق فيا و تعاقبني.. و لا أنا حتى كنت قللت احترامك في لحظات غضب و يأس.. شوفت إنت وصلت بينا لفين بقراراتك إللي دايمًا بتاخدها لوحدك ؟
-أنا آسف ! .. نطقها على الفور
لو لم يرى مدى تصميمها و إصرارها على تركه، لم يكن لينطقها بهذه الدقة و المعنى الحرفي المقصود مئة بالمئة ...
-سمر.. أرجوكي. أنا بحبك.. إنتي أكيد عارفة غلاوتك عندي. أنا عملت عشانك كتير. و وقفت جمبك كتير.. و فوق كل ده واقف قدامك و بعتذر دلوقتي !
احرقت الدموع جفنيها، فأطبقتهما بقوةٍ.. لتنهال مدامعها في الحال، لكنها تنظر إليه بعد لحظة و هي تغمغم بصعوبةٍ :
-أنا عارفة كويس إنت عملت إيه عشاني.. أنا عمري ما أنكرت فضلك عليا و إنت كمان أكيد عارف... بس صدقني الموضوع دلوقتي مالوش علاقة بالافتراضات دي. العلاقة دي Toxic ( سامّة ) زي ما بيقولوا. مافيش تكافؤ بينا لا في مستوى و لا حتى مشاعر. زي ما في اختلاف طبقي بيني و بينك كمان مشاعري مختلفة عن مشاعرك. و أقسم لك بالله أنا مابقتش قادرة أستحمل قسوة المشاعر دي. أنا تعبت أوي أووي ..
-أنا مش هاسيبك تمشي ! .. تمتم "عثمان" بجمودٍ و قد إسودت نظراته
-مش هاسيبك أصلًا.. إنسي إنك تخرجي من البيت ده يا سمر. سامعة ؟
سحبت يديها من قبضتيه مرةً أخرى، فلم يمانع.. ثم قالت بثباتٍ و رأسٍ شامخ :
-أنا مش هاخرج من البيت يا عثمان.. أنا هفضل عايشة هنا. حتى بعد طلاقي منك. أنا حاضنة لإبني.. و من حقي أقعد معاه و أراعيه. ماتخافش. أنا طبعًا مش وحشة و لا أنانية عشان أفضل نفسي على راحة و مصلحة إبني.. إستحالة أخده من هنا و أعيشه في حارة و أبوه كان معيشه في قصر بياكل أحسن أكل و يلبس أحسن هدوم... أنا مش أنانية يا عثمان. و زي ما ضحيت زمان عشان إخواتي. أقدر أضحي دلوقتي عشان إبني ! ............................................................ !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبع ...
تعليقات بقي لو سمحتو